رواية انا وانت يساوي الفصل الرابع 4 بقلم سارة محمد
الفصل الرابع
_______
توقفت دقات الساعة عن محاولة تنبيه الطلبة إلى ما فاتهم من وقت وما سيأتي، البعض انتبه إلى ما وراءه من مسئوليات والبعض الآخر قرر التقاعس لدقائق أخرى، فالوقت أمامه طويل؛ أليسوا بعز شبابهم وأجمل أيام عمرهم؟، تباطأت الدقات وتخلت الساعة عن إصرارها؛ فمن كان له نصيب فقد انتبه أما البقية فمهما دقت ومهما قرعت لهم نواقيس اليقظة لن يتخلوا عن غفلتهم الحلوة الآن والمُرة مستقبلا.
أمام كافيتريا إحدى الكليات الأدبية، جلست فتاتان على أحد المقاعد المنتشرة في الجامعة يتخذ الحديث بينهما مجراه الطبيعي كما بين أي فتاتين من نفس سنهما، حديث وثرثرة عن ذاك وتلك، أحدث الصيحات وأفضل عروض الأزياء.
سألت مرام صديقتها الجالسة على يمينها: هي الساعة كام دلوقتي يا ريم ؟
زفرت ريم بملل: يـــــووه يا مرام، في إيه يا بنتي دي المرة 101 اللي تسأليني فيها السؤال دا، إنتي مالك مش طبيعية إنهارده كدا ليه ؟؟
زمت شفتيها: مافيش أنا بس بسأل عشان معاد المحاضرة بتاعت دكتور أكرم مش أكتر ..
التفتت إليها بخبث: ااااه .. قولتيلي .. دكتور أكرم .. بقى الحكاية كدا
ارتبكت: حكاية إيه؟ لا حكاية ولا رواية .. عادي يعني
غمزتها بإغاظة: عليا أنا بردو يا مرمر .. دا أنا عجناكي وخبزاكي، وبعدين إنتي من إمتى بتهتمي بالمحاضرات للدرجة دي يعني ؟
أخرجت لسانها: طول عمري ياختي
ضحكت: طول عمرك بردو .. ولا علشان دكتور المادة
إزداد إرتباكها وظهرت عصبيتها على السطح: قصدك إيه ؟
أوضحت أكثر: قصدي الاهتمام بمحاضراته، وعيونك اللي مش بتتشال من عليه طول المحاضرة، والمادة الوحيدة اللي بتذاكريها أول بأول، لا وكله كوم والشياكة اللي بتحل عليكي يوم محاضرته كوم تاني خـــــــالص..
اعتدلت مرام في جلستها وقد جذبتها الجملة الأخيرة: يعني شكلي حلو ؟ اللبس لايق عليا؟
ضحكت ريم بإنتصار: شوفتي!، وقعتي وماحدش سمى عليكي يا حلوة
تأففت لإندفاعها: أوووف بقى .. عايزه مني إيه دلوقتي يعني؟
لكزتها في ذراعها: عايزه أعرف إيه حكايتك بالظبط ؟ إنتي بتحبيه يعني ولا ..؟
تنهدت معترفة: أيوه بأحبه من غير ولا ..
-ياعم يا عم .. طب يلا بقى؛ عشان فاضل عشر دقايق ع المحاضرة؛ خلينا نلحق مكان في البينجات اللي قدام، عشان تعرفي تبصي عليه كويس .. هههه
-يلا بينا .. ربنا يخليكي ليا يا ريمــــــو .. أموووووه
قهقهت ريم: طب يلا يا بكاشه
مرا بجانب أكرم بينما يصف سيارته في المكان المخصص لها أمام المدرج، نظر لهما نظرة سريعة محركا رأسه يمينا ويسارا؛ لا يعجبه حال الفتيات وملابسهم الغير محتشمة بالمرة، وعندما تحدث مشكلة مع أحد الشباب يأتون للشكوى، تذكر أنه ألقى عليهن نظرة فأسرع يستغفر حتى وصل إلى مكانه في المدرج حيث بدأ يستعد لبداية الشرح.
سألت صديقتها بحزن: ريم .. هو عمل كدا ليه ؟
استغربت سؤالها: عمل إيه ؟
قلدته: جاب راسه كدا يمين وشمال بعد ما بصلنا .. ومشي وسابنا
-اااه لا مش عارفه، ما تشغليش بالك .. يلا بينا ندخل
دلفوا إلى الداخل وأتخذوا موضع جلوسهم أقرب ما يكون إليه حتى تستطيع مرام رؤيته عن قرب، لكن مازال عقل مرام يدور ويبحث عن سبب تلك النظرة .. إذا كانت قد أخطأت في شئ أو فعلت ما يضايقه، أفاقت من شرودها على صوته القوي يطالب تلامذته إلتزام الصمت حتى يبدأ المحاضرة.
***
انهت فريدة عملها في المكتبة وبعدما تأكدت من أن كل شئ في محله تركت صاحبها يبدأ مناوبته بها، ذهبت في طريقها إلى المنزل عندما سمعت بعض الناس يتهامسون فيما تجمع البعض الأخر حول جسد طريح الأرض.
- أووبس دي حادثة دي ولا إيه ؟؟ يا رب استر يا رب
تجمع الناس حول المصاب وكان يقود دراجته البخارية بسرعة حتى أنه لم ينتبه للسيارة القادمة من الجهة الأخرى.
-بس دا ما ينفعش كدا هيأذوه أكتر .. لا أنا لازم أدخل .. أنا دكتورة بردو مهما كان .. لو سمحتوا وسعوا ما يصحش كدا .. كدا هيتعب أكتر .. أنا دكتورة ممكن تعديني؟
تحسست النبض حتى استشفت وجوده والتنفس أيضا طبيعي لكن لديه نزيف في الرأس قد يتطور إلى ما هو أخطر إن لم يتم إسعافه فورا إلى المستشفى.
-ممكن حد يتصل بالإسعاف ويجبلي حاجه أحطها ع الجرح أي قماشة
أحد الواقفين أجابها: أنا اتصلت بالإسعاف
كررت طلبها مجددا: طب ممكن قماشة أحطها ع الجرح ؟
تأسف الراجل: مش معايا والله
فكرت في حالة الرجل فقد يتسبب النزيف في أن يلقى مصرعه قبل وصول الإسعاف، انتبهت إلى الشال الملتف حول رقبتها فقامت بخلعه وربطت به رأسه جيدا؛ تتأكد من إحكام ربطته كي يوقف النزيف نسبيا.
بعدها بدقائق بسيطة من الإسعاف المصري كالمعتاد، ما يقرب من الساعة فقط، كانت بجواره حتى تستطيع الاهتمام بإصابته، ذهبت معه إلى المستشفى وانتظرت حتى خرج الطبيب قائلا: الحمدلله إصابته طفيفة مجرد خدوش وجزع في المعصم الأيسر والجرح اللي ف دماغه أخد 8 غرز .. بس الحمدلله جت سليمة
دمدمت فريدة في سرها: أومال لو مش سليمة كان حصل إيه بس ؟؟
ابتسمت بهدوء: شكرا يا دكتور
بادلها البسمة: العفو دا واجبي .. عن إذنك
خرجت الممرضة من غرفة المصاب: المريض عايز يشوفك
حدقت بها مندهشة: يشوف مين ؟ يشوفني أنا؟
ابتسمت لها في حنان: أيوه .. مش إنتي اللي أسعفتيه ؟ .. هو عايز يشكرك
نفخت براحة: ااااه .. طيب ماشي، هأدخله
توجهت إليه بتردد وخجل، تركت الباب مفتوح بعد دخولها ثم بدأت الحديث: حمدالله على سلمتك
فتح عينيه متروياً وفور وقوعها عليها ابتسم: الله يسلمك .. شكراً أوي ع اللي عملتيه معايا دا .. أنا بجد مش عارف أقولك إيه
هزت رأسها: لا ما تقولش حاجه دا أقل واجب وأي حد كان ف مكاني كان عمل كدا
نظر إليها بسعادة فيما يتساءل بينه وبين نفسه: هي حلوة كدا إزاي ؟؟
وجه سؤاله التالي إليها: حضرتك كنتي معديه من هناك صدفة ؟ .. دا من حسن حظي طبعا
أخبرته بما يزيد عن الحاجة: أنا بأشتغل ف مكتبة قريبة من مكان الحادثة
-بس هما قالولي إن حضرتك دكتورة ؟؟
قطبت جبينها وقد شعرت بالحرج: إحم إحم .. أه أه دكتورة
اتسعت ابتسامته: دكتورة إيه بقى ؟
ألقت كلمتها كأنها حمل تريد أن تقذفه بعيدا بأسرع وقت: بهايم
انتفض من الدهشة: نعم ؟
ضحكت بخفوت: دكتورة بهايم حضرتك .. يعني دكتورة بيطرية
عندما رأى ضحكتها نسي الدنيا وما فيها، بل المستشفى والحادثة وما يشعر به من ألم في جميع أنحاء جسده؛ حتى نسي أمر .. البهائم.
-ااااه .. معلش فهمت غلط
- ما أنا قولتها بطريقة غريبة .. أصلي متعودة على ردود الفعل من الناس لما بتسمع بهايم دي
-لا سيبك دول ناس جهله .. مش عارفين قيمة الدكتور البيطري في الزمن دا
أعجبها اعترافه بدورهم كأطباء بيطريين؛ فهي من أشد المناصريين لهم ودائما في الصفوف الأولى من المدافعين عنهم، حتى ينالوا حقهم المهدور في مجتمع ناكر لأهمية دورهم به.
استفسرت: هو حضرتك اتعاملت معاهم قبل كدا؟
-أيوه كنت شغال ف مزرعة وكان شغال معايا دكاترة بيطريين
-اااه، قولتلي
قدم نفسه إليها: بالمناسبة .. أنا اسمي هشام عاصم، مهندس زراعي
- تشرفت .. أنا فريدة عبدالرحمن .. وزي ما عرفت دكتورة بيطرية هههه
- هههههههه أه عرفت
نظرت إلى عقارب ساعتها: أنا لازم أروح، لأحسن اتأخرت .. مرة تانية حمدالله على سلمتك
انتفض في جلسته: إنتي هتمشي بسرعة كدا ؟ .. طب مش هأشوفك تاني ؟
أفاقت لنفسها ثم حدثته بجدية وحزم: وحضرتك تشوفني تاني بتاع إيه ؟ حضرتك دلوقتي بقيت كويس وأنا دوري خلص .. بعد إذنك
خرجت دون إعطاءه فرصة للحديث أو تبرير قوله؛ لم تنظر خلفها فلم تستطع رؤية الدهشة الشديدة التي ظهرت على ملامحه ولا فمه الذي أصبح أشبه ببيضة مسلوقة.
حدث نفسه هامسا بهيام: لا لا فريدة فريدة يعني، اسم على مسمى يا .. فـ ر يـ د ة
ابتسم بسعادة وعاد للنوم تحت تأثير البينج مرة أخرى، حيث بدأت الأحلام تتقاذفه على شواطئها.
***
وجدت شقيقتها تجلس أمام الباب بإنتظار عودتها وقد عيل صبرها، هرولت إليها هند بعدما استبد بها الفزع من تغيبها أكثر من المعتاد: أخيرا جيتي يا فريدة .. كنتي فين قلقتينا عليكي ؟
اقتربت مرام وقد سمحت لدموعها بالهروب منذ أكثر من نصف ساعة فزعا على أختها الكبرى: كل دا ؟؟، كنتي فين ؟ .. الساعة داخله على ستة وإنتي بتبقى هنا على تلاته ونص إيه اللي أخرك كدا ؟؟
حاولت بث الطمأنينة داخل قلوبهن بابتسامتها: معلش والله؛ أصل الموبايل بتاعي فصل شحن وماعرفتش أتصل بيكوا أقولكوا إني هاتأخر
استعادت هند بعضا من هدوءها: خير .. إيه اللي حصل؟
-حصلت حادثة
صرخت مرام: حادثة ؟؟ حادثة إيه دي ؟! .. إنتي كويسه ؟
دنت منها تربت على ذراعها بخفة: اهدي اهدي أنا كويسه هي حادثة كانت ع الطريق وأنا ما أقدرتش أسيبه غير لما تيجي عربية الإسعاف وبعدين المسعف طلب مني إني أروح معاهم المستشفى
استنكرت مرام فعلت شقيقتها: وإنتي كان مالك وماله .. ماكنتي سبتيه ومشيتي والناس كانت هتتصرف .. هو إنتي من بقيت أهله ؟
نظرت لها فريدة غاضبة: مــرام إنتي بقيتي أنانية لدرجة غريبة، إيه اللي عمل فيكي كدا ؟ دا إنتي بالذات كنتي لما تشوفي عيل صغير وقع كنتي بتسبينا وتجري تساعديه وكنتي بتزعقي للي يضحك عليه .. دلوقتي إنتي اللي بتقوليلي هو كان من بقيت أهلك ؟! مش مصدقه
ثارت أعصاب مرام: الأنانية اللي شوفتها من بابا وماما ناحيتنا .. خلتني أبقى زيهم .. عادي يعني .. مش بيقولوا الدم بيمد لسابع جد
تركتهم وأغلقت على نفسها باب حجرتها، تبكي على ما وصلت إليه نفسها، تحولت قدوة الوالدين -أفضل قدوة للمرء- إلى أناس يعلمونك أسوء الصفات عوضا عن أفضلها.
همست هند من خلف أختها: هي شوية وهتفك وتهدى لوحدها .. تعالي إنتي أحكيلي اللي حصل معاكي بالتفصيل الممل ..
وافقتها فريدة بحزن، مدركة صحة كلامها: طيب يلا .. بس أعمل فنجان قهوة الأول لأحسن حاسه أنه راسي تايهه مني
ظهرت أسنان هند من خلال ابتسامتها: بس كدا ؟ أنت تؤمر يا جميل وأنا اللي هأعملها لك بإيديا يا سكر
انطلقت تعد القهوة بينما توجهت فريدة إلى غرفتها تبدل ملابسها قبل أن تلحق بأختها، أخذتها أفكارها إلى يوم سفر والدتهما لتلحق بزوجها دون إبداء عذر مقنع، فقط اكتفت بكلام لا يدخل العقل ويكذبه القلب، يومها كانت مرام أشدهن تأثرا فقد كانت بحاجة والدتها وقتها أشد الإحتياج؛ فمرحلة المراهقة لم تكن قد تركتها ويبدو أنها مستمرة حتى الآن.
***
منزل بحديقة خلابة تدل على شدة الإعتناء بها، عدد من الأشجار الخضراء التي تثمر في مواسمها المحددة بفاكهتها ذات الرائحة العطرة والمظهر المشهي، يُسمح للعاملين بالمنزل بتقسيم تلك الثمار عليهم دون أن ينال أصحاب المنزل منها شيئا؛ يكفيهم المظهر الجمالي والظلال التي تلقيها عليهم الشجيرات، يتوسط باحتها الخلفية حوض سباحة على شكل مستطيل وقد خصص به جزء صغير للأطفال حيث المياه ضحلة ولا خوف عليهم من الغرق فيه.
أما المبنى المخصص للسكن فبه عدد لا بأس من الغرف، تستوعب أفراد العائلة الأساسيين بعائلتهم الثانوية دون الشعور بالزحام بل قد توجد عدة غرف فارغة للضيوف في الأعياد والمناسبات.
يقطن ذلك المنزل الآن فقط الشقيقان أحمد وأكرم دون ذكر الخدم المقيمين بالمنزل سواء كان به سكان أو لم يكن.
كان المساء قد أسدل أستاره وتلألأت النجمات الصغار بين طيات السماء، عبر البوابة الرئيسية بسيارته السوداء الحديثة بعد إلقاءه التحية على حارس البوابة وفردي الأمن الجالسين معه، ركن سيارته في مكانها المعتاد وصعد درجات المنزل الأمامية كل سلمتين في خطوة.
فتحت له خادمة ملامحها أجنبية وابتسامتها الصغيرة ترحب بعودته، دلف إلى حيث جلس أكرم يتابع أحد الأفلام في التلفاز بإنتباه.
ألقى حمل جسده إلى جوار شقيقه: السلام عليكم
رد أكرم بينما يحتسي فنجانا من الشاي: وعليكم السلام ورحمه الله وبركاته
ثم أضاف عندما لمح ملامح الإرهاق فوق وجه شقيقه: تعبان ؟
زفر: ميت م التعب
أومأ، عاود سؤاله: تحب تاكل ؟
رد أحمد بملل: لا، ماليش نفس
هز رأسه دون أن يعلق ثم أخبره متذكرا أمرا ما: ماما وبابا وندى كلموني، بيسلموا عليك .. بس سيف لا؛ علشان أنت اتريقت عليه ومش عاجبك إنه طالعلي
ضحك ضحكة خفيفة لم تصل إلى أذنيه: ماشي .. هما جايين إمتى؟
زم أكرم شفتيه: لسه ما حجزوش .. حسب الظروف والمواعيد
اعتدل أحمد في جلسته المسترخية: طب تمام .. صحيح عملت إيه مع مصطفى ؟
- أبدا .. أقنعته يجي يقعد عندنا هنا لحد ما يخلص اللي وراه ويرجع المزرعة
- يعني هو هنا ؟ أومال مش سامعله حس .. من إمتى؟
- هههههههه ما هو أتهد حيله طول اليوم ف التدوير ع اللي سرقه دا؛ فجه خلصان وزمانه نايم ف سابع نومه .. أحمد أنت سامعني ؟؟
تمدد على الأريكة وقد احتلها بجسده: هــا
اغتاظ أكرم: أنت كمان روحت ف سابع نومه ؟ .. أنتوا تناموا وأنا أقعد أسقف يعني ؟ .. طب والله لأنا نايم .. هِه وأدي قومه
نظر أكرم لأخيه بابتسامة خبيثة تحمل شر طفولي: طب والله ما مصحيك، بقى معطلني عن التلفزيون وبأحكيلك وأرد على سؤالك تقوم تنام وتسبني أكلم نفسي زي المجنون ؟؟ .. خليك نايم ع الكنبة بقى يا بطل
تركه شاعرا بالنصر الصغير الذي حققه على أخيه فيما التعب قد استبد بأحمد فلم يهتم أين استسلم للنوم أو كيف .. يكفيه أن جسده قد تمدد على شئ ناعم يبتلعه دون تيبس.
***
صباحا في الكلية، ركضت ريم إلى صديقتها تحمل في جعبتها أحاديث تثير إهتمام مرام إلى أبعد حد: مرام .. أنا عندي ليكي خبر بمليون جنيه
لم تنل منها سوى البرود واللا مبالاة: خبر إيه ؟
نست ريم ما أرادت إخبارها به وجذبها حالة صديقتها: مالك يا مرام ؟ فين حماسك لما كنت بأقولك "خبر بمليون جنيه" ؟
هزت كتفيها باستهانه: عادي بقى
أصرت عليها ريم وانضمت إليها جالسة: لا مش عادي .. وأدي قاعدة، أحكيلي في إيه بقى ؟
تهربت منها: مضايقه، شويه مش أكتر
أمسكت ريم بذقن مرام: كل دا وشوية يا خبر .. طب إيه اللي مضايقك ؟
تنهدت موجوعة: البصه اللي بصهالنا دكتور أكرم قدام المدرج
استغربتها: إنتي لسه حاطها ف دماغك ؟ .. يا شيخه كبري مخك، بقى دا اللي مضايقك ومخلي الــ 111 دول موجودين ؟
نظرت إليها بإنفعال: بأقولك بأحبه .. يعني أقل تعبير منه بيجنني ويأثر فيا
غمزتها: طب مش عايزه تعرفي الخبر أبو مليون جنيه ؟
لوت مرام شفتيها ونظرت إلى الجهة المعاكسة: لا مش عايزه
تحركت ريم حتى تصبح في مجال رؤيتها: حتى لو قولتلك إنه عن حبيب القلب ؟
التفتت إليها بكامل جسدها وواجهتها: دكتور أكرم ؟
وقفت ريم باستقامة ضاحكة: أيوه ياختي دكتور أكرم .. أول مرة أشوف حد بيقول للي بيحبه اسمه بالـلقب
هزت كتفها بدون اهتمام؛ فلا تعنيها المسميات: عادي التعود وبعدين عشان ما أقعش بلساني قدامه .. المهم إيه الخبر دا ؟
- الدكتور عامل إعلان إنه عايز مساعدة ليه ف شغله .. إيه رأيك؟
عضت على شفتها السفلى وسألتها بغباء: طب وأنا دخلي إيه ؟، دا شغله وهو حر فيه
صفعتها على قمة رأسها: إنتي عبيطه ولا بتستعبطي يا بت ؟؟ .. دا بدل ما تقوليلي أنا هأروح أتقدم للشغلانه دي؟
صاحت بها: أنا ؟ ليه ؟
انهارت إلى جوارها مرة أخرى بعد أن عيل صبرها: لا لا إنتي بجد هبله .. فرصة يا موكوسه تقربي منه وتحسسيه بمشاعرك ناحيته .. وأهو تمنعي أي واحدة إنها تقرب منه .. ولو في تبقي تعرفي هي مين
مرام بتفكير: فكرك كدا ؟ هو هيقبلني أصلا ؟
حركت رأسها دليل عدم معرفتها: جربي .. إنتي خسرانه إيه ؟
جمعت أشياءها ونهضت مسرعة: طيب .. أنا هأروح دلوقتي يلا سلام
ضحكت ريم على حالها الذي انقلب فجأة، ودعتها داعية لها بالنجاح، شعرت مرام أن الدنيا فتحت لها أبوابها على مصرعيها وأن ملائكة الحب قررت معاونتها، دب الحماس في فؤادها وتمنت ألا يخيب الله رجاءها في قرب من أحبت.
***
عاد من مقابلة العمل إلى الشركة منهكا، كان عميلا ذو بال طويل، أعله حتى استطاع الحصول منه على الصفقة، لعق شفتيه اللتين تشققتا من الجفاف، عقد العزم على شرب زجاجة كاملة من الماء تروي عطشه حالما يصل إلى مكتبه.
أوشك على الدلوف إلى مكتبه عندما تذكر الملف الموجود في حقيبته الجلدية المعلقة على كتفه الأيمن، زفر متأففا وقد قرر التخلي لدقيقة عن زجاجة المياه، توجه إلى مكتب سكرتيرته ووقف أمام بابه لكي يُخرج الملف الواجب عملها عليه وإنهاؤه خلال اليوم، سمع همهمتها الخافتة كأنها تحادث شخصا آخر.
طالعها من شق الباب الذي نسيته مواربا، مع استمرار حديثها تبدلت بعض ملامحها، انتفخت أوداجه وصر على أضراسه فيما جعدت قبضتيه الملف.
استدار وأتجه إلى مكتبه، كان يشك في خيانتها حتى أنها منحها معلومات خاطئة عن آخر صفقة ستنفذها الشركة، أراد قتل الشك ودرأ الصدع الذي بدأ يتسع بينه وبين سكرتيرته المخلصة، لكنها تأبى البراءة وقد تمسكت بالدناءة.
***
كان مستغرقا في قراءة أحد المراجع الخاصة بدراسته وتعطيه المعلومات التي يرغبها كما تنمي خبرته بخبرات من خطها، أتاه طرقا خافتا على الباب يدل على استحياء صاحبه، أمر الطارق بالدخول دون أن يرفع عويناته إلى الباب أو الدالف.
تنحنحت مرام ومازالت تقف على أعتاب الباب ويدها معلقة فوق مقبضه: دكتور ممكن أدخل ؟
ترك المرجع ونظر لها منتبها: أكيد
دخلت وتركت الباب مفتوح؛ عادة تعلمتها من شقيقتها عندما كانت تفعلها في زيارة أحد أقاربهم في عدم وجود والديها.
- دكتور أنا كنت عايزه أتقدم للوظيفة اللي حضرتك أعلنت عنها
استقام في جلسته: وإنتي تقدري تستحملي الشغل معايا ؟
استشعرت الحرج: إن شاء الله يا دكتور
حذرها: بس خلي بالك أنا صعب جدا ف الشغل وطلباتي كتير
أومأت: وأنا تحت أمرك
طالبها بتوضيح: طب وإيه اللي خلاكي تتقدمي للوظيفة دي؟
فكرت فيما يمكنها قوله، أتخبره أنها جاءت لتبقى بجانبه أم لتعرف مكانتها لديه أو إذا كانت هناك أخرى في حياته .. أو لتجعله يشعر بها ويحبها، لا، بالطبع لا يجب قول مثل هذا الكلام.
استجمعت شتات أفكارها وقالت بثقة: عشان أخد خبرة من حضرتك ومن الشغل معاك يا دكتور
- دي شهادة وثقة أعتز بيها .. طيب هتبدأي شغل من بكره، ووقت المحاضرات أنا مش هأكلمك عنه .. هأعتبره وقت الراحة بتاعك
- أوكيه يا دكتور .. عن إذنك
أذن لها بالخروج: اتفضلي
خرجت وأغلقت الباب خلفها بهدوء كأنها تخاف على رضيعها من الاستيقاظ، فور سماعه صوت إقفال الباب.
لكن هناك تساؤلات أخرى فُتحت في رأس أكرم عندما دخلت لم تغلق الباب فلماذا ؟، من الجائز أنها لم تنتبه، لما تقدمت للوظيفة وهي تبدو مستهترة ولا تستطيع تحمل مسئولية نفسها فكيف الحال بمسئولية وظيفة وعمل جاد.
حدث نفسه بصوت مرتفع: هو أنت لسه شوفت شغلها ؟؟ لما تشوف أبقى أحكم وأتكلم
ثم عاد يفتح مرجعه ويضع نظاراته فوق أنفه من جديد حتى استغرقه الموضوع ومر الوقت دون شعور.
من شدة فرحتها لما تكن تنظر أمامها مما أدى إلى اصطدمها بشخص مار في ردهة المبنى المخصص للقسم الذي يحتل أكرم منصبا فيه، أوقعت ما بيده من أوراق وملفات، تأوهت بشدة ثم هبطت راكعة إلى جواره تعاونه على جمع ما سقط.
-مش تحاسبي يا آنسة شوية ؟؟
هاجمته متممة مهمة جمع الملفات: مش لما تفتح أنت الأول ؟
استغرب هجومها فهو مدرك تماما مثلها أنها المخطئة: أنا اللي أفتح بردو ؟ .. ما إنتي اللي ماشيه مش باصه قدامك
رفعت إليه نظراتها المشتعلة: تصدق إنك إنسان قليل الذوق، وأنا غلطانه إني وقفت أساعدك من الأساس
نهضت مرام وعاودت إلقاء ما قامت بجمعه حتى يكرر جمعه بنفسه مرة أخرى، نفضت يديها بحركة مغيظة ثم رفعت كتفيها وتركته منصرفة.
ذهبت من دون النظر خلفها أو سماع كلماته التي تلت ذهابها: أه يا بنت المجنونة ههههه
تنهد وأنثنى يجمع الأوراق ويرتبها من جديد غير مدرك لتلك البسمة التي ظهرت على شفتيه ولم تتركها إلى نهاية اليوم.
***
احتل أكرم المقعد المجاور للسائق في سيارة مصطفى الفيراري ذات اللون الأزرق الداكن، وجه إليه السؤال بمرح أثناء قيادته: وهتاخدنا على فين بقى يا عم مصطفى ؟
ضحك مصطفى: سيبلي نفسك أنت بس وأنا هأظبطك
نبهه: بس خلي بالك ماليش أنا ف جو البنات دا .. ها ؟!
كشر مصطفى وبان على وجهه السأم: بنات إيه يا عم .. دا أنا هأوديك تاكل أكلة سمك إنما إيــه
-ههههههههه ماشي يا عم أما نشوف أخرتها
دعس على مكابح السيارة فجأة وبقوة شديدة كادت تقذفهم عبر زجاج السيارة الأمامي، صاح به أكرم مذعورا: إيـــــه يا بني! أنت أتجننت ولا إيه ؟ حد يقف بالطريقة دي ؟
تعلقت حدقات مصطفى بنقطة ما ينظر إليها عبر النافذة المجاورة لأكرم، أومأ برأسه إلى الجهة ذاتها: بص شوف مين هناك ..
نظر إلى المكان الذي أشار إليه فوجد رجل ومعه فتاة يتحدثون سويا أمام إحدى المكتبات، استفسر أكرم مطالبا بمزيد من الإيضاح ونظره لم يتحرك عنهما: مالهم يعني؟ واحد وواحدة بيتكلموا .. عادي، إيه الغريب في الموضوع ؟
رفع أحد حاجبيه مدليا بتصريحه الصاعق: دا هشام .. مدير المزرعة اللي سرقني
فغر أكرم فمه من الدهشة: نعم ؟!
بينما هما يتحدثان صعد هشام إلى سيارة أجرة أنطلقت به فيما أكملت الفتاة طريقها في الإتجاه المعاكس بهدوء وخطوات قوية تعرف وجهتها.
هتف غاضبا: والمصحف ما أنا سيبه
أدار مصطفى سيارته وأنطلق خلفه؛ لكن بعد مرور سيارة الأجرة من الإشارة أصبحت حمراء وأضطر للوقوف حتى أختفت من أمام عينيه دون أن يفعل شئ.
ضرب على عجلة القيادة بعنف: ابن الـ*** حظه نار .. بس هيروح مني فين، هأجيبه هأجيبه .. الأيام بيني وبينه لسه كتير
قلق أكرم على صديقه من تلك اللهجة: خلاص يا ابني هدي نفسك .. ربنا مش هأيسيب حقك يروح، بس يلا أكلني هأموت منك كدا
لمع الغضب في عيون مصطفى: دا أنا اللي مش هأسيبه .. حاضر يا عم الفجعان أدينا رايحين
أكملوا طريقهم إلى المطعم ليتناولوا وجبة السمك الموعودة، حاول خلالها أكرم إثناء صديقه عن وعيده، يحذره من أن الأفعال التي نفعلها بكل رضى أثناء الغضب ورغبة في الإنتقام نندم عليها فيما بعد عندما ينطفئ الغضب وتخمد نار الحقد، لكن هيهات أن يستمع له في هذه الحالة؛ فكذلك أوقات الغضب تسد الأذان عن سماع النصيحة ويمتنع العقل عن التفكير بالنتائج، فقط يفكر في ماهية إطفاء نيران الغضب المستعرة حتى وإن تلتها أغلال الندم القاتلة.
_______
توقفت دقات الساعة عن محاولة تنبيه الطلبة إلى ما فاتهم من وقت وما سيأتي، البعض انتبه إلى ما وراءه من مسئوليات والبعض الآخر قرر التقاعس لدقائق أخرى، فالوقت أمامه طويل؛ أليسوا بعز شبابهم وأجمل أيام عمرهم؟، تباطأت الدقات وتخلت الساعة عن إصرارها؛ فمن كان له نصيب فقد انتبه أما البقية فمهما دقت ومهما قرعت لهم نواقيس اليقظة لن يتخلوا عن غفلتهم الحلوة الآن والمُرة مستقبلا.
أمام كافيتريا إحدى الكليات الأدبية، جلست فتاتان على أحد المقاعد المنتشرة في الجامعة يتخذ الحديث بينهما مجراه الطبيعي كما بين أي فتاتين من نفس سنهما، حديث وثرثرة عن ذاك وتلك، أحدث الصيحات وأفضل عروض الأزياء.
سألت مرام صديقتها الجالسة على يمينها: هي الساعة كام دلوقتي يا ريم ؟
زفرت ريم بملل: يـــــووه يا مرام، في إيه يا بنتي دي المرة 101 اللي تسأليني فيها السؤال دا، إنتي مالك مش طبيعية إنهارده كدا ليه ؟؟
زمت شفتيها: مافيش أنا بس بسأل عشان معاد المحاضرة بتاعت دكتور أكرم مش أكتر ..
التفتت إليها بخبث: ااااه .. قولتيلي .. دكتور أكرم .. بقى الحكاية كدا
ارتبكت: حكاية إيه؟ لا حكاية ولا رواية .. عادي يعني
غمزتها بإغاظة: عليا أنا بردو يا مرمر .. دا أنا عجناكي وخبزاكي، وبعدين إنتي من إمتى بتهتمي بالمحاضرات للدرجة دي يعني ؟
أخرجت لسانها: طول عمري ياختي
ضحكت: طول عمرك بردو .. ولا علشان دكتور المادة
إزداد إرتباكها وظهرت عصبيتها على السطح: قصدك إيه ؟
أوضحت أكثر: قصدي الاهتمام بمحاضراته، وعيونك اللي مش بتتشال من عليه طول المحاضرة، والمادة الوحيدة اللي بتذاكريها أول بأول، لا وكله كوم والشياكة اللي بتحل عليكي يوم محاضرته كوم تاني خـــــــالص..
اعتدلت مرام في جلستها وقد جذبتها الجملة الأخيرة: يعني شكلي حلو ؟ اللبس لايق عليا؟
ضحكت ريم بإنتصار: شوفتي!، وقعتي وماحدش سمى عليكي يا حلوة
تأففت لإندفاعها: أوووف بقى .. عايزه مني إيه دلوقتي يعني؟
لكزتها في ذراعها: عايزه أعرف إيه حكايتك بالظبط ؟ إنتي بتحبيه يعني ولا ..؟
تنهدت معترفة: أيوه بأحبه من غير ولا ..
-ياعم يا عم .. طب يلا بقى؛ عشان فاضل عشر دقايق ع المحاضرة؛ خلينا نلحق مكان في البينجات اللي قدام، عشان تعرفي تبصي عليه كويس .. هههه
-يلا بينا .. ربنا يخليكي ليا يا ريمــــــو .. أموووووه
قهقهت ريم: طب يلا يا بكاشه
مرا بجانب أكرم بينما يصف سيارته في المكان المخصص لها أمام المدرج، نظر لهما نظرة سريعة محركا رأسه يمينا ويسارا؛ لا يعجبه حال الفتيات وملابسهم الغير محتشمة بالمرة، وعندما تحدث مشكلة مع أحد الشباب يأتون للشكوى، تذكر أنه ألقى عليهن نظرة فأسرع يستغفر حتى وصل إلى مكانه في المدرج حيث بدأ يستعد لبداية الشرح.
سألت صديقتها بحزن: ريم .. هو عمل كدا ليه ؟
استغربت سؤالها: عمل إيه ؟
قلدته: جاب راسه كدا يمين وشمال بعد ما بصلنا .. ومشي وسابنا
-اااه لا مش عارفه، ما تشغليش بالك .. يلا بينا ندخل
دلفوا إلى الداخل وأتخذوا موضع جلوسهم أقرب ما يكون إليه حتى تستطيع مرام رؤيته عن قرب، لكن مازال عقل مرام يدور ويبحث عن سبب تلك النظرة .. إذا كانت قد أخطأت في شئ أو فعلت ما يضايقه، أفاقت من شرودها على صوته القوي يطالب تلامذته إلتزام الصمت حتى يبدأ المحاضرة.
***
انهت فريدة عملها في المكتبة وبعدما تأكدت من أن كل شئ في محله تركت صاحبها يبدأ مناوبته بها، ذهبت في طريقها إلى المنزل عندما سمعت بعض الناس يتهامسون فيما تجمع البعض الأخر حول جسد طريح الأرض.
- أووبس دي حادثة دي ولا إيه ؟؟ يا رب استر يا رب
تجمع الناس حول المصاب وكان يقود دراجته البخارية بسرعة حتى أنه لم ينتبه للسيارة القادمة من الجهة الأخرى.
-بس دا ما ينفعش كدا هيأذوه أكتر .. لا أنا لازم أدخل .. أنا دكتورة بردو مهما كان .. لو سمحتوا وسعوا ما يصحش كدا .. كدا هيتعب أكتر .. أنا دكتورة ممكن تعديني؟
تحسست النبض حتى استشفت وجوده والتنفس أيضا طبيعي لكن لديه نزيف في الرأس قد يتطور إلى ما هو أخطر إن لم يتم إسعافه فورا إلى المستشفى.
-ممكن حد يتصل بالإسعاف ويجبلي حاجه أحطها ع الجرح أي قماشة
أحد الواقفين أجابها: أنا اتصلت بالإسعاف
كررت طلبها مجددا: طب ممكن قماشة أحطها ع الجرح ؟
تأسف الراجل: مش معايا والله
فكرت في حالة الرجل فقد يتسبب النزيف في أن يلقى مصرعه قبل وصول الإسعاف، انتبهت إلى الشال الملتف حول رقبتها فقامت بخلعه وربطت به رأسه جيدا؛ تتأكد من إحكام ربطته كي يوقف النزيف نسبيا.
بعدها بدقائق بسيطة من الإسعاف المصري كالمعتاد، ما يقرب من الساعة فقط، كانت بجواره حتى تستطيع الاهتمام بإصابته، ذهبت معه إلى المستشفى وانتظرت حتى خرج الطبيب قائلا: الحمدلله إصابته طفيفة مجرد خدوش وجزع في المعصم الأيسر والجرح اللي ف دماغه أخد 8 غرز .. بس الحمدلله جت سليمة
دمدمت فريدة في سرها: أومال لو مش سليمة كان حصل إيه بس ؟؟
ابتسمت بهدوء: شكرا يا دكتور
بادلها البسمة: العفو دا واجبي .. عن إذنك
خرجت الممرضة من غرفة المصاب: المريض عايز يشوفك
حدقت بها مندهشة: يشوف مين ؟ يشوفني أنا؟
ابتسمت لها في حنان: أيوه .. مش إنتي اللي أسعفتيه ؟ .. هو عايز يشكرك
نفخت براحة: ااااه .. طيب ماشي، هأدخله
توجهت إليه بتردد وخجل، تركت الباب مفتوح بعد دخولها ثم بدأت الحديث: حمدالله على سلمتك
فتح عينيه متروياً وفور وقوعها عليها ابتسم: الله يسلمك .. شكراً أوي ع اللي عملتيه معايا دا .. أنا بجد مش عارف أقولك إيه
هزت رأسها: لا ما تقولش حاجه دا أقل واجب وأي حد كان ف مكاني كان عمل كدا
نظر إليها بسعادة فيما يتساءل بينه وبين نفسه: هي حلوة كدا إزاي ؟؟
وجه سؤاله التالي إليها: حضرتك كنتي معديه من هناك صدفة ؟ .. دا من حسن حظي طبعا
أخبرته بما يزيد عن الحاجة: أنا بأشتغل ف مكتبة قريبة من مكان الحادثة
-بس هما قالولي إن حضرتك دكتورة ؟؟
قطبت جبينها وقد شعرت بالحرج: إحم إحم .. أه أه دكتورة
اتسعت ابتسامته: دكتورة إيه بقى ؟
ألقت كلمتها كأنها حمل تريد أن تقذفه بعيدا بأسرع وقت: بهايم
انتفض من الدهشة: نعم ؟
ضحكت بخفوت: دكتورة بهايم حضرتك .. يعني دكتورة بيطرية
عندما رأى ضحكتها نسي الدنيا وما فيها، بل المستشفى والحادثة وما يشعر به من ألم في جميع أنحاء جسده؛ حتى نسي أمر .. البهائم.
-ااااه .. معلش فهمت غلط
- ما أنا قولتها بطريقة غريبة .. أصلي متعودة على ردود الفعل من الناس لما بتسمع بهايم دي
-لا سيبك دول ناس جهله .. مش عارفين قيمة الدكتور البيطري في الزمن دا
أعجبها اعترافه بدورهم كأطباء بيطريين؛ فهي من أشد المناصريين لهم ودائما في الصفوف الأولى من المدافعين عنهم، حتى ينالوا حقهم المهدور في مجتمع ناكر لأهمية دورهم به.
استفسرت: هو حضرتك اتعاملت معاهم قبل كدا؟
-أيوه كنت شغال ف مزرعة وكان شغال معايا دكاترة بيطريين
-اااه، قولتلي
قدم نفسه إليها: بالمناسبة .. أنا اسمي هشام عاصم، مهندس زراعي
- تشرفت .. أنا فريدة عبدالرحمن .. وزي ما عرفت دكتورة بيطرية هههه
- هههههههه أه عرفت
نظرت إلى عقارب ساعتها: أنا لازم أروح، لأحسن اتأخرت .. مرة تانية حمدالله على سلمتك
انتفض في جلسته: إنتي هتمشي بسرعة كدا ؟ .. طب مش هأشوفك تاني ؟
أفاقت لنفسها ثم حدثته بجدية وحزم: وحضرتك تشوفني تاني بتاع إيه ؟ حضرتك دلوقتي بقيت كويس وأنا دوري خلص .. بعد إذنك
خرجت دون إعطاءه فرصة للحديث أو تبرير قوله؛ لم تنظر خلفها فلم تستطع رؤية الدهشة الشديدة التي ظهرت على ملامحه ولا فمه الذي أصبح أشبه ببيضة مسلوقة.
حدث نفسه هامسا بهيام: لا لا فريدة فريدة يعني، اسم على مسمى يا .. فـ ر يـ د ة
ابتسم بسعادة وعاد للنوم تحت تأثير البينج مرة أخرى، حيث بدأت الأحلام تتقاذفه على شواطئها.
***
وجدت شقيقتها تجلس أمام الباب بإنتظار عودتها وقد عيل صبرها، هرولت إليها هند بعدما استبد بها الفزع من تغيبها أكثر من المعتاد: أخيرا جيتي يا فريدة .. كنتي فين قلقتينا عليكي ؟
اقتربت مرام وقد سمحت لدموعها بالهروب منذ أكثر من نصف ساعة فزعا على أختها الكبرى: كل دا ؟؟، كنتي فين ؟ .. الساعة داخله على ستة وإنتي بتبقى هنا على تلاته ونص إيه اللي أخرك كدا ؟؟
حاولت بث الطمأنينة داخل قلوبهن بابتسامتها: معلش والله؛ أصل الموبايل بتاعي فصل شحن وماعرفتش أتصل بيكوا أقولكوا إني هاتأخر
استعادت هند بعضا من هدوءها: خير .. إيه اللي حصل؟
-حصلت حادثة
صرخت مرام: حادثة ؟؟ حادثة إيه دي ؟! .. إنتي كويسه ؟
دنت منها تربت على ذراعها بخفة: اهدي اهدي أنا كويسه هي حادثة كانت ع الطريق وأنا ما أقدرتش أسيبه غير لما تيجي عربية الإسعاف وبعدين المسعف طلب مني إني أروح معاهم المستشفى
استنكرت مرام فعلت شقيقتها: وإنتي كان مالك وماله .. ماكنتي سبتيه ومشيتي والناس كانت هتتصرف .. هو إنتي من بقيت أهله ؟
نظرت لها فريدة غاضبة: مــرام إنتي بقيتي أنانية لدرجة غريبة، إيه اللي عمل فيكي كدا ؟ دا إنتي بالذات كنتي لما تشوفي عيل صغير وقع كنتي بتسبينا وتجري تساعديه وكنتي بتزعقي للي يضحك عليه .. دلوقتي إنتي اللي بتقوليلي هو كان من بقيت أهلك ؟! مش مصدقه
ثارت أعصاب مرام: الأنانية اللي شوفتها من بابا وماما ناحيتنا .. خلتني أبقى زيهم .. عادي يعني .. مش بيقولوا الدم بيمد لسابع جد
تركتهم وأغلقت على نفسها باب حجرتها، تبكي على ما وصلت إليه نفسها، تحولت قدوة الوالدين -أفضل قدوة للمرء- إلى أناس يعلمونك أسوء الصفات عوضا عن أفضلها.
همست هند من خلف أختها: هي شوية وهتفك وتهدى لوحدها .. تعالي إنتي أحكيلي اللي حصل معاكي بالتفصيل الممل ..
وافقتها فريدة بحزن، مدركة صحة كلامها: طيب يلا .. بس أعمل فنجان قهوة الأول لأحسن حاسه أنه راسي تايهه مني
ظهرت أسنان هند من خلال ابتسامتها: بس كدا ؟ أنت تؤمر يا جميل وأنا اللي هأعملها لك بإيديا يا سكر
انطلقت تعد القهوة بينما توجهت فريدة إلى غرفتها تبدل ملابسها قبل أن تلحق بأختها، أخذتها أفكارها إلى يوم سفر والدتهما لتلحق بزوجها دون إبداء عذر مقنع، فقط اكتفت بكلام لا يدخل العقل ويكذبه القلب، يومها كانت مرام أشدهن تأثرا فقد كانت بحاجة والدتها وقتها أشد الإحتياج؛ فمرحلة المراهقة لم تكن قد تركتها ويبدو أنها مستمرة حتى الآن.
***
منزل بحديقة خلابة تدل على شدة الإعتناء بها، عدد من الأشجار الخضراء التي تثمر في مواسمها المحددة بفاكهتها ذات الرائحة العطرة والمظهر المشهي، يُسمح للعاملين بالمنزل بتقسيم تلك الثمار عليهم دون أن ينال أصحاب المنزل منها شيئا؛ يكفيهم المظهر الجمالي والظلال التي تلقيها عليهم الشجيرات، يتوسط باحتها الخلفية حوض سباحة على شكل مستطيل وقد خصص به جزء صغير للأطفال حيث المياه ضحلة ولا خوف عليهم من الغرق فيه.
أما المبنى المخصص للسكن فبه عدد لا بأس من الغرف، تستوعب أفراد العائلة الأساسيين بعائلتهم الثانوية دون الشعور بالزحام بل قد توجد عدة غرف فارغة للضيوف في الأعياد والمناسبات.
يقطن ذلك المنزل الآن فقط الشقيقان أحمد وأكرم دون ذكر الخدم المقيمين بالمنزل سواء كان به سكان أو لم يكن.
كان المساء قد أسدل أستاره وتلألأت النجمات الصغار بين طيات السماء، عبر البوابة الرئيسية بسيارته السوداء الحديثة بعد إلقاءه التحية على حارس البوابة وفردي الأمن الجالسين معه، ركن سيارته في مكانها المعتاد وصعد درجات المنزل الأمامية كل سلمتين في خطوة.
فتحت له خادمة ملامحها أجنبية وابتسامتها الصغيرة ترحب بعودته، دلف إلى حيث جلس أكرم يتابع أحد الأفلام في التلفاز بإنتباه.
ألقى حمل جسده إلى جوار شقيقه: السلام عليكم
رد أكرم بينما يحتسي فنجانا من الشاي: وعليكم السلام ورحمه الله وبركاته
ثم أضاف عندما لمح ملامح الإرهاق فوق وجه شقيقه: تعبان ؟
زفر: ميت م التعب
أومأ، عاود سؤاله: تحب تاكل ؟
رد أحمد بملل: لا، ماليش نفس
هز رأسه دون أن يعلق ثم أخبره متذكرا أمرا ما: ماما وبابا وندى كلموني، بيسلموا عليك .. بس سيف لا؛ علشان أنت اتريقت عليه ومش عاجبك إنه طالعلي
ضحك ضحكة خفيفة لم تصل إلى أذنيه: ماشي .. هما جايين إمتى؟
زم أكرم شفتيه: لسه ما حجزوش .. حسب الظروف والمواعيد
اعتدل أحمد في جلسته المسترخية: طب تمام .. صحيح عملت إيه مع مصطفى ؟
- أبدا .. أقنعته يجي يقعد عندنا هنا لحد ما يخلص اللي وراه ويرجع المزرعة
- يعني هو هنا ؟ أومال مش سامعله حس .. من إمتى؟
- هههههههه ما هو أتهد حيله طول اليوم ف التدوير ع اللي سرقه دا؛ فجه خلصان وزمانه نايم ف سابع نومه .. أحمد أنت سامعني ؟؟
تمدد على الأريكة وقد احتلها بجسده: هــا
اغتاظ أكرم: أنت كمان روحت ف سابع نومه ؟ .. أنتوا تناموا وأنا أقعد أسقف يعني ؟ .. طب والله لأنا نايم .. هِه وأدي قومه
نظر أكرم لأخيه بابتسامة خبيثة تحمل شر طفولي: طب والله ما مصحيك، بقى معطلني عن التلفزيون وبأحكيلك وأرد على سؤالك تقوم تنام وتسبني أكلم نفسي زي المجنون ؟؟ .. خليك نايم ع الكنبة بقى يا بطل
تركه شاعرا بالنصر الصغير الذي حققه على أخيه فيما التعب قد استبد بأحمد فلم يهتم أين استسلم للنوم أو كيف .. يكفيه أن جسده قد تمدد على شئ ناعم يبتلعه دون تيبس.
***
صباحا في الكلية، ركضت ريم إلى صديقتها تحمل في جعبتها أحاديث تثير إهتمام مرام إلى أبعد حد: مرام .. أنا عندي ليكي خبر بمليون جنيه
لم تنل منها سوى البرود واللا مبالاة: خبر إيه ؟
نست ريم ما أرادت إخبارها به وجذبها حالة صديقتها: مالك يا مرام ؟ فين حماسك لما كنت بأقولك "خبر بمليون جنيه" ؟
هزت كتفيها باستهانه: عادي بقى
أصرت عليها ريم وانضمت إليها جالسة: لا مش عادي .. وأدي قاعدة، أحكيلي في إيه بقى ؟
تهربت منها: مضايقه، شويه مش أكتر
أمسكت ريم بذقن مرام: كل دا وشوية يا خبر .. طب إيه اللي مضايقك ؟
تنهدت موجوعة: البصه اللي بصهالنا دكتور أكرم قدام المدرج
استغربتها: إنتي لسه حاطها ف دماغك ؟ .. يا شيخه كبري مخك، بقى دا اللي مضايقك ومخلي الــ 111 دول موجودين ؟
نظرت إليها بإنفعال: بأقولك بأحبه .. يعني أقل تعبير منه بيجنني ويأثر فيا
غمزتها: طب مش عايزه تعرفي الخبر أبو مليون جنيه ؟
لوت مرام شفتيها ونظرت إلى الجهة المعاكسة: لا مش عايزه
تحركت ريم حتى تصبح في مجال رؤيتها: حتى لو قولتلك إنه عن حبيب القلب ؟
التفتت إليها بكامل جسدها وواجهتها: دكتور أكرم ؟
وقفت ريم باستقامة ضاحكة: أيوه ياختي دكتور أكرم .. أول مرة أشوف حد بيقول للي بيحبه اسمه بالـلقب
هزت كتفها بدون اهتمام؛ فلا تعنيها المسميات: عادي التعود وبعدين عشان ما أقعش بلساني قدامه .. المهم إيه الخبر دا ؟
- الدكتور عامل إعلان إنه عايز مساعدة ليه ف شغله .. إيه رأيك؟
عضت على شفتها السفلى وسألتها بغباء: طب وأنا دخلي إيه ؟، دا شغله وهو حر فيه
صفعتها على قمة رأسها: إنتي عبيطه ولا بتستعبطي يا بت ؟؟ .. دا بدل ما تقوليلي أنا هأروح أتقدم للشغلانه دي؟
صاحت بها: أنا ؟ ليه ؟
انهارت إلى جوارها مرة أخرى بعد أن عيل صبرها: لا لا إنتي بجد هبله .. فرصة يا موكوسه تقربي منه وتحسسيه بمشاعرك ناحيته .. وأهو تمنعي أي واحدة إنها تقرب منه .. ولو في تبقي تعرفي هي مين
مرام بتفكير: فكرك كدا ؟ هو هيقبلني أصلا ؟
حركت رأسها دليل عدم معرفتها: جربي .. إنتي خسرانه إيه ؟
جمعت أشياءها ونهضت مسرعة: طيب .. أنا هأروح دلوقتي يلا سلام
ضحكت ريم على حالها الذي انقلب فجأة، ودعتها داعية لها بالنجاح، شعرت مرام أن الدنيا فتحت لها أبوابها على مصرعيها وأن ملائكة الحب قررت معاونتها، دب الحماس في فؤادها وتمنت ألا يخيب الله رجاءها في قرب من أحبت.
***
عاد من مقابلة العمل إلى الشركة منهكا، كان عميلا ذو بال طويل، أعله حتى استطاع الحصول منه على الصفقة، لعق شفتيه اللتين تشققتا من الجفاف، عقد العزم على شرب زجاجة كاملة من الماء تروي عطشه حالما يصل إلى مكتبه.
أوشك على الدلوف إلى مكتبه عندما تذكر الملف الموجود في حقيبته الجلدية المعلقة على كتفه الأيمن، زفر متأففا وقد قرر التخلي لدقيقة عن زجاجة المياه، توجه إلى مكتب سكرتيرته ووقف أمام بابه لكي يُخرج الملف الواجب عملها عليه وإنهاؤه خلال اليوم، سمع همهمتها الخافتة كأنها تحادث شخصا آخر.
طالعها من شق الباب الذي نسيته مواربا، مع استمرار حديثها تبدلت بعض ملامحها، انتفخت أوداجه وصر على أضراسه فيما جعدت قبضتيه الملف.
استدار وأتجه إلى مكتبه، كان يشك في خيانتها حتى أنها منحها معلومات خاطئة عن آخر صفقة ستنفذها الشركة، أراد قتل الشك ودرأ الصدع الذي بدأ يتسع بينه وبين سكرتيرته المخلصة، لكنها تأبى البراءة وقد تمسكت بالدناءة.
***
كان مستغرقا في قراءة أحد المراجع الخاصة بدراسته وتعطيه المعلومات التي يرغبها كما تنمي خبرته بخبرات من خطها، أتاه طرقا خافتا على الباب يدل على استحياء صاحبه، أمر الطارق بالدخول دون أن يرفع عويناته إلى الباب أو الدالف.
تنحنحت مرام ومازالت تقف على أعتاب الباب ويدها معلقة فوق مقبضه: دكتور ممكن أدخل ؟
ترك المرجع ونظر لها منتبها: أكيد
دخلت وتركت الباب مفتوح؛ عادة تعلمتها من شقيقتها عندما كانت تفعلها في زيارة أحد أقاربهم في عدم وجود والديها.
- دكتور أنا كنت عايزه أتقدم للوظيفة اللي حضرتك أعلنت عنها
استقام في جلسته: وإنتي تقدري تستحملي الشغل معايا ؟
استشعرت الحرج: إن شاء الله يا دكتور
حذرها: بس خلي بالك أنا صعب جدا ف الشغل وطلباتي كتير
أومأت: وأنا تحت أمرك
طالبها بتوضيح: طب وإيه اللي خلاكي تتقدمي للوظيفة دي؟
فكرت فيما يمكنها قوله، أتخبره أنها جاءت لتبقى بجانبه أم لتعرف مكانتها لديه أو إذا كانت هناك أخرى في حياته .. أو لتجعله يشعر بها ويحبها، لا، بالطبع لا يجب قول مثل هذا الكلام.
استجمعت شتات أفكارها وقالت بثقة: عشان أخد خبرة من حضرتك ومن الشغل معاك يا دكتور
- دي شهادة وثقة أعتز بيها .. طيب هتبدأي شغل من بكره، ووقت المحاضرات أنا مش هأكلمك عنه .. هأعتبره وقت الراحة بتاعك
- أوكيه يا دكتور .. عن إذنك
أذن لها بالخروج: اتفضلي
خرجت وأغلقت الباب خلفها بهدوء كأنها تخاف على رضيعها من الاستيقاظ، فور سماعه صوت إقفال الباب.
لكن هناك تساؤلات أخرى فُتحت في رأس أكرم عندما دخلت لم تغلق الباب فلماذا ؟، من الجائز أنها لم تنتبه، لما تقدمت للوظيفة وهي تبدو مستهترة ولا تستطيع تحمل مسئولية نفسها فكيف الحال بمسئولية وظيفة وعمل جاد.
حدث نفسه بصوت مرتفع: هو أنت لسه شوفت شغلها ؟؟ لما تشوف أبقى أحكم وأتكلم
ثم عاد يفتح مرجعه ويضع نظاراته فوق أنفه من جديد حتى استغرقه الموضوع ومر الوقت دون شعور.
من شدة فرحتها لما تكن تنظر أمامها مما أدى إلى اصطدمها بشخص مار في ردهة المبنى المخصص للقسم الذي يحتل أكرم منصبا فيه، أوقعت ما بيده من أوراق وملفات، تأوهت بشدة ثم هبطت راكعة إلى جواره تعاونه على جمع ما سقط.
-مش تحاسبي يا آنسة شوية ؟؟
هاجمته متممة مهمة جمع الملفات: مش لما تفتح أنت الأول ؟
استغرب هجومها فهو مدرك تماما مثلها أنها المخطئة: أنا اللي أفتح بردو ؟ .. ما إنتي اللي ماشيه مش باصه قدامك
رفعت إليه نظراتها المشتعلة: تصدق إنك إنسان قليل الذوق، وأنا غلطانه إني وقفت أساعدك من الأساس
نهضت مرام وعاودت إلقاء ما قامت بجمعه حتى يكرر جمعه بنفسه مرة أخرى، نفضت يديها بحركة مغيظة ثم رفعت كتفيها وتركته منصرفة.
ذهبت من دون النظر خلفها أو سماع كلماته التي تلت ذهابها: أه يا بنت المجنونة ههههه
تنهد وأنثنى يجمع الأوراق ويرتبها من جديد غير مدرك لتلك البسمة التي ظهرت على شفتيه ولم تتركها إلى نهاية اليوم.
***
احتل أكرم المقعد المجاور للسائق في سيارة مصطفى الفيراري ذات اللون الأزرق الداكن، وجه إليه السؤال بمرح أثناء قيادته: وهتاخدنا على فين بقى يا عم مصطفى ؟
ضحك مصطفى: سيبلي نفسك أنت بس وأنا هأظبطك
نبهه: بس خلي بالك ماليش أنا ف جو البنات دا .. ها ؟!
كشر مصطفى وبان على وجهه السأم: بنات إيه يا عم .. دا أنا هأوديك تاكل أكلة سمك إنما إيــه
-ههههههههه ماشي يا عم أما نشوف أخرتها
دعس على مكابح السيارة فجأة وبقوة شديدة كادت تقذفهم عبر زجاج السيارة الأمامي، صاح به أكرم مذعورا: إيـــــه يا بني! أنت أتجننت ولا إيه ؟ حد يقف بالطريقة دي ؟
تعلقت حدقات مصطفى بنقطة ما ينظر إليها عبر النافذة المجاورة لأكرم، أومأ برأسه إلى الجهة ذاتها: بص شوف مين هناك ..
نظر إلى المكان الذي أشار إليه فوجد رجل ومعه فتاة يتحدثون سويا أمام إحدى المكتبات، استفسر أكرم مطالبا بمزيد من الإيضاح ونظره لم يتحرك عنهما: مالهم يعني؟ واحد وواحدة بيتكلموا .. عادي، إيه الغريب في الموضوع ؟
رفع أحد حاجبيه مدليا بتصريحه الصاعق: دا هشام .. مدير المزرعة اللي سرقني
فغر أكرم فمه من الدهشة: نعم ؟!
بينما هما يتحدثان صعد هشام إلى سيارة أجرة أنطلقت به فيما أكملت الفتاة طريقها في الإتجاه المعاكس بهدوء وخطوات قوية تعرف وجهتها.
هتف غاضبا: والمصحف ما أنا سيبه
أدار مصطفى سيارته وأنطلق خلفه؛ لكن بعد مرور سيارة الأجرة من الإشارة أصبحت حمراء وأضطر للوقوف حتى أختفت من أمام عينيه دون أن يفعل شئ.
ضرب على عجلة القيادة بعنف: ابن الـ*** حظه نار .. بس هيروح مني فين، هأجيبه هأجيبه .. الأيام بيني وبينه لسه كتير
قلق أكرم على صديقه من تلك اللهجة: خلاص يا ابني هدي نفسك .. ربنا مش هأيسيب حقك يروح، بس يلا أكلني هأموت منك كدا
لمع الغضب في عيون مصطفى: دا أنا اللي مش هأسيبه .. حاضر يا عم الفجعان أدينا رايحين
أكملوا طريقهم إلى المطعم ليتناولوا وجبة السمك الموعودة، حاول خلالها أكرم إثناء صديقه عن وعيده، يحذره من أن الأفعال التي نفعلها بكل رضى أثناء الغضب ورغبة في الإنتقام نندم عليها فيما بعد عندما ينطفئ الغضب وتخمد نار الحقد، لكن هيهات أن يستمع له في هذه الحالة؛ فكذلك أوقات الغضب تسد الأذان عن سماع النصيحة ويمتنع العقل عن التفكير بالنتائج، فقط يفكر في ماهية إطفاء نيران الغضب المستعرة حتى وإن تلتها أغلال الندم القاتلة.
