رواية انا وانت يساوي الفصل الثاني 2 بقلم سارة محمد
الفصل الثاني
الديكورات في المكتب شديدة التناسق، في ذات الوقت توحي بعملية وجدية صاحبها؛ مكتب من الزان الخالص باللون البني اللامع، أمامه طاولة صغيرة تحتل مكانا يتوسط مقعدين للزوار .. وفي الركن الآخر أريكة جلدية بلون كريمي يتناسق مع باقي الأثاث والستائر المكتبية ذات درجة بنية، بنهاية الغرفة يوجد بابين متجاورين أقصاهما ناحية اليسار يؤدي إلى الحمام فيما الأخر يوصل على حجرة الاجتماعات.
صرح أحمد دون أن يزحزح حدقتيه بعيدا عن الأوراق التي يوقعها بعد دراستها: اتفضل
أكرم بابتسامة مشرقة: صباح الخير يا أحلى أحمد فـ الدنيا
نظر أحمد في ساعته ورد عليه من دون النظر إليه: صباح الخير؟ دا العصر على وشك
أكرم بضحكة غير مهتمة: خلاص تبقى صباح الخير بالليل
أحمد متنهدا: أكرم .. إيه اللي جابك الساعة دي ؟
مثل أكرم الصدمة وكأنه أحد أبطال مسلسل هندي: اااه .. أخي ويحك .. ما هذا السؤال العجيب المريب الغريب المريب ؟
علق بدون اهتمام : قولت مريب مرتين
استغرب: دا بجد؟ .. اه تصدق صح .. وبعدين أنت بتركز كدا ليه؟ يا راجل كبر مخك
خرجت ضحكة رغماً عنه وإن كان بها بعض الجدية: يخرب عقلك أكتر ما هو خربان .. بقى دا منظر ولا كلام دكتور فـ جامعة .. المفروض بيعلم الطلبة ؟
ابتسم: ما هو من كتر التعامل مع الطلبة بقيت واحد منهم.. سيبك أنت المهم يلا بينا؛ عازمك ع الغدا وخلي بالك العزومه دي ما بتتكررش كتير .. انتهز الفرصة
نظر إليه من أسفل نظاراته: أنا اللي فاكره إن أنت لسه عازمني من خمس أيام ع الغدا وقبلها بيومين بردو عزمتني .. دا وأنت مش بتكرر العزومه كتير، أومال لو كررتها هتعمل إيه ؟
اصطنع الخجل وسعل: إحم إحم .. كنت فطرت واتغديت واتعشيت معاك، إيه رأيك .. أهو رخامه كدا
- لا لا أنت هتقولي .. أمشي قدامي يا رخم
-ههههههه واء واء .. أنت وحش يا عمو .. أنت كخه
- مافيش فايدة، الله يعين الطلبة بتوعك .. وأنا بأقول سيف بيجيب الكلام الغريب دا منين .. طلع مش من برا
-مالكش دعوة بسيفو حبيبي .. ويلا بينا بقى .. لأحسن هفتاااان
نهض معه مستسلماً، قرر استغلال الفرصة لأخذ قسط من الراحة؛ فأثناء العمل لا يشعر بمرور الوقت إلا إذا دقت معاونته الباب تذكره بإجتماع جديد، ينسى الطعام والنوم حتى يسقط من شدة التعب فيما يشبه الغيبوبة.
لا يكل من العمل الذي كرس ما تبقى من حياته لأجله، لم يفكر لمرة بالزواج وتأسيس عائلة .. إلا عندما رأى سيف وحمله بين يديه فور ولادته؛ مما جعل عاطفة الأبوة تظهر على السطح لأول مرة، لكنه أجل الموضوع إلى أجل غير مسمى.
***
اجتمعت الثلاث أخوات على طاولة الطعام، يتشاركنه، يرافقهن الحديث والكلام .. فتخبر كل واحدة منهن شقيقتها ما حدث معها خلال اليوم.
كانت العلاقة بينهن أحسن ما يكون، مهما دارت بهن الأيام لم يجدن سوى بعضهن خير أنيس وأفضل صديق .. فالأخت نعمة لا يعرف عظمتها إلا من فقدها.
يوم تجد جميع الأبواب قد سُدت في وجهك، وغضت الدنيا بصرها عن وجودك فتركتك هائما وسط شجونك .. تتركك تسبح وسط مصاعبك وتتلوى من أوجاعك، لا تهتم إذا أصاب الإرهاق عضلات ذراعيك من مقاومة الأمواج المتلاحقة؛ فتأتي أخت بنكهة أم تلقي لك طوق النجاة وتسحبك إلى بر الأمان .. فتجد رأسك وقد استكان فوق صدر قد فاض به الحنان.
الأخت أمٌ ثانية، رحمة بمن فقد أمه وهبة لمن صار يملك أميّن، فإذا غضبت منه الأولى التجئ إلى الأخرى، تشبعه حنانا وتغمره دفئا، تعينه على ما به وتشدُ على كفيه .. تعطيه الدعم؛ فهي أنقى من الماء ووجودها أشد حلاوة من العسل .. فتُحيل الصبار تمراً، والجحيم جنة.
توسلت فريدة لشقيقتها حتى تكمل طعامها: يلا يا هنودة يا حبيبتي .. بالهنا والشفا
زفرت هند مستكثرة ما وضع أمامها من طعام كأنها ملكة توجت على عرش المنزل: مش كتير أوي دا يا فريدة ؟
مرام تخفي ضحكاتها خلف ملعقة أخرى من الطعام: كلي وإنتي ساكته بدل ما تحدفهم ف زورك عدل وما يعدوش ع الطبق حتى ..
زمت فريدة شفتيها غيظاً: هاهاهاها، إيه الخفة دي يا ست مرام ماكنتش أعرف إن دمك خفيف كدا
استمرت مرام في مشاكستها: وهتعرفي منين يعني، كنتي عملتيلي سيادتك تحليل دم ولا حاجه ؟
تركت فريدة ملعقتها مهددة: لا دا أنا اللي هأصفي دمك دلوقتي
سعلت هند ضاحكة: كفايه حرام عليكوا .. هأموت م الضحك
التفتت إليها فريدة بحنان قاصدة إغاظة الأخرى: بعد الشر عنك يا حبيبتي .. أموووه
مرام بغيظ مصطنع: أيوه بقى، ناس ليها بعد الشر وناس ليها تصفية الدم
حدثتها فريدة دون النظر إليها: أيوه بالظبط كدا عشان الناس اللي مش بتسمع الكلام
ثارت مرام: يوووه مش المفروض أقتنع بالحاجه قبل ما أعملها ؟ سيبيني لما أقتنع بقى
استدارت إليها بكامل جسدها، تحدثت بجدية: المشكلة إنك مقتنعة، بس إيه اللي منعك مش عارفه .. وأساساً الحاجات دي مافيهاش اقتناع .. دا أمر ربنا، فاهمة ؟
أومأت هند متفهمة ما يدور حوله الحوار: بتتكلموا عن اللبس صح؟
زفرت فريدة: هو في غيره ؟
قررت هند تغيير الموضوع: إلا صحيح يا فريدة هي ماما ما أتصلتش ولا حتى بابا ؟
-لا ماحدش اتصل .. يمكن يتصلوا بكره
هند بقلق: بس دول بقالهم أسبوع لا حس ولا خبر
مظهرة مرام عدم الاهتمام: وإنتي خايفه عليهم ليه ؟ إذا كانوا هما ماخافوش إنهم يسيبونا لوحدنا وسافروا عادي ولا أكن في وراهم 3 بنات
نهرتها فريدة بهدوء: إحنا اتكلمنا كتير ف الموضوع دا يا مرام .. هما عملوا كدا عشانا، عشان نكمل دراستنا ونتعلم
مرام بسخرية: لا يا راجل ؟ طب ما دي أخر سنه ليا أهو والمصاريف مدفوعة وأنتوا خلصتوا وأتخرجتوا ما رجعوش ليه بقى ؟
أجابتها هند برزانة: العقد اللي عاملينه لسه فاضل عليه عشر سنين .. ماينفعش يرجعوا قبل كدا
رفعت زاوية فمها مستهزئة: موت ياحمار.. يعني هيرجعوا بعد ما كل واحدة فينا تبقى ف بيتها ومش بعيد يكون عندها عيل ولا إتنين
غيرت فريدة محور الحديث الذي كلما ذُكِر يدخلن في صراع بين المهاجمة والدفاع، اختلاق الأعذار لوالديهم أو السخرية منها: هههه دا إنتي اللي موت يا حمار .. هو في عرسان اليومين دول أصلاً يا بنتي
هند وقد فهمت غرض فريدة فتدخلت تعاونها: ويبقى في ليه، ما هما بيصاحبوا يبقى يعملوا إيه بالجواز والنكد ..
استجابت مرام لمحاولاتهما: فعلا اللي يتجوزك يا بنتي يبقى أتجوز النكد بعينه ودخله بيته على طـــــــــــــــووول .. بلا راجعة
هند مصطنعة العصبية: ليه بقى إن شاء الله، شايفاني ماشيه أعيط .. قاعدة أعيط .. نايمة أعيط .. ولا لأكون بأشد ف شعري وأصرخ عمال على بطال ؟
لم تستطع فريدة التوقف عن الضحك: بس بقى غرقتلنا الشقة بدموعك دي
مرام: ههههههه لا بس على طول ضاربه بوز أبو شبرين دا
قامت بعمل "بوز" مضحك في محاولة لتقليد هند، مستشهدة بهذه الحركة على أقوالها. من ثم دخلن ثلاثتهن في نوبة من الضحك لدرجة أن الدموع بدأت تتجمع وتهبط من أعينهم.
هند وهي تحاول التكلم من وسط ضحكاتها: بقى أنا بأبقى كدا ؟
أكدت صدقها بهزة من رأسها ثم عادت تقول: لا وعليكي شكل إيه زي بتوع البطاقة الشخصية للمصريين هههههه أرفع راسك فوق .. بص قدامك .. ما تضحكش .. ما تبربش .. إيــــه عايشين مع الشاويش عطيه يا ربي
أدمعت عيون هند من كثرة الضحك: بقى كدا ؟ طب والله لأوريكي الشاويش عطيه دا هيعمل فيكي إيه
جذبت فريدة أكمامها في حركة استعدادية: لا لا سبيلي الطلعه دي .. علشان أنا مغلولة منها لوحدي .. تعاليلي يا مرمورتي
أسرعت إلى غرفتها وهي تضحك: لا لا حرام كدا كتير .. إتنين على واحد ؟
ركضت خلفها مدعية الجدية: والله لأوريكي النجوم ف عز الضهر
أختفت إبتسامة هند وجلست على أقرب مقعد شاردة، تمسح دمعة كانت تحاول النزول بسرعة قبل أن تعود إحدى الفتاتين، من ثم رسمت ابتسامة مجبرة ونهضت قائلة: فريدة خلصتي عليها ولا لسه ؟ .. استني أنا جــــــــــااااي.
***
أتخذ مكانه على المقعد خلف طاولة بمطعم راقي، يتمتع المطعم بالهدوء الكافي الذي يجعل أحمد في حالة من الاسترخاء والراحة .. شخصيته الرزينة ليست معتادة على الصخب وإنما تكفيه الموسيقى الهادئة الدائرة بالمكان والهواء البارد الصادر من مكيفات الهواء التي تم إخفاءها من خلال الديكورات الكلاسيكية ببراعة حتى لا تفسد الشكل العام للمكان ولا تسبب ضوضاءها إزعاجا لرواد المطعم.
بدأ أكرم الحديث: أخيرا أحمد باشا حنيت علينا وهنتغدى سوا بقالي كام يوم ما شوفتكش لازم أعزمك يعني علشان ننعم بهذه الجلسة الجليلة ؟
وضع الأخ هاتفه ومفاتيحه على الطاولة: أنت عارف الشغل كتير وما بيرحمش وأنت سايب شغل الشركة كله عليا لوحدي
برر أكرم موقفه: ما أنت عارف إني ماليش ف شغل الشركات دا، وبعدين الله يعينك يا سيدي
-إيه دا الباشوات بيتغدوا هنا ؟ يا محاسن الصدف
هتف أكرم ناهضا يستقبل صديقه: مصطفى بهيج بنفسه هنا، لا لا أنا مش مصدق نفسي يا جدعان .. حد يقرصني كدا
مصطفى بأعين تشع شرا طفوليا: هههه من عنيا الجوز .. هو أنت جيت ف جمل ؟
توجع: إيــــــــــــــــــــــه .. حرام عليك يا ظالم، أنت ما صدقت ولا إيه ؟
غمزه صديقه ضاحكا: الله، مش أنت اللي طلبت .. أنا نفذت بس
دلك مكان ألمه: نفذت بضمير أوي كدا ليه يا أخي .. يا بــــاااي منك
صفعه مصطفى على كتفه: تعيش وتاخد غيرها يا صديقي ... إزيك يا أحمد ؟
أومأ مُرحِبا: الحمدلله، أنت أخبارك إيه ؟ .. وأخبار شغلك إيه؟
ابتسم مصطفى بحزن: نحمده ونشكر فضله .. لا الشغل بيخلص ولا مشاكله ومصايبه بتخلص
اقترح عليه أكرم: طب تعالى أتغدى معانا
رفض مصطفى بذوق: لا يا عم أنا مش هأتقل دم، روح أنت أتغدى مع أحمد ونبقى نتقابل بعدين
أكرم بغلظة: أنت لسه هتقل دم ؟، أنت ما تعرفش إنه تقيل ولا إيه ؟ .. وبعدين هتتغدى معانا يعني هتتغدى ولا في جو مستنيك
ابتسم مصطفى لغمزة صديقه: جو إيه بس يا ابني .. بأقولك مشاكل ف الشغل وجاي أشوفلها صرفه
صده أكرم بلهجة أمرة: خلاص يبقى تقعد معانا، إحنا لسه أصلا ما طلبناش الغدا ودا آخر كلام عندي
قرر مصطفى الخضوع؛ فهو بالفعل يحتاج للجلوس مع أناس محل ثقته، يستشيرهم في أمره لعله يجد لديهم ما لم يجده عن غيرهم: طيب
الديكورات في المكتب شديدة التناسق، في ذات الوقت توحي بعملية وجدية صاحبها؛ مكتب من الزان الخالص باللون البني اللامع، أمامه طاولة صغيرة تحتل مكانا يتوسط مقعدين للزوار .. وفي الركن الآخر أريكة جلدية بلون كريمي يتناسق مع باقي الأثاث والستائر المكتبية ذات درجة بنية، بنهاية الغرفة يوجد بابين متجاورين أقصاهما ناحية اليسار يؤدي إلى الحمام فيما الأخر يوصل على حجرة الاجتماعات.
صرح أحمد دون أن يزحزح حدقتيه بعيدا عن الأوراق التي يوقعها بعد دراستها: اتفضل
أكرم بابتسامة مشرقة: صباح الخير يا أحلى أحمد فـ الدنيا
نظر أحمد في ساعته ورد عليه من دون النظر إليه: صباح الخير؟ دا العصر على وشك
أكرم بضحكة غير مهتمة: خلاص تبقى صباح الخير بالليل
أحمد متنهدا: أكرم .. إيه اللي جابك الساعة دي ؟
مثل أكرم الصدمة وكأنه أحد أبطال مسلسل هندي: اااه .. أخي ويحك .. ما هذا السؤال العجيب المريب الغريب المريب ؟
علق بدون اهتمام : قولت مريب مرتين
استغرب: دا بجد؟ .. اه تصدق صح .. وبعدين أنت بتركز كدا ليه؟ يا راجل كبر مخك
خرجت ضحكة رغماً عنه وإن كان بها بعض الجدية: يخرب عقلك أكتر ما هو خربان .. بقى دا منظر ولا كلام دكتور فـ جامعة .. المفروض بيعلم الطلبة ؟
ابتسم: ما هو من كتر التعامل مع الطلبة بقيت واحد منهم.. سيبك أنت المهم يلا بينا؛ عازمك ع الغدا وخلي بالك العزومه دي ما بتتكررش كتير .. انتهز الفرصة
نظر إليه من أسفل نظاراته: أنا اللي فاكره إن أنت لسه عازمني من خمس أيام ع الغدا وقبلها بيومين بردو عزمتني .. دا وأنت مش بتكرر العزومه كتير، أومال لو كررتها هتعمل إيه ؟
اصطنع الخجل وسعل: إحم إحم .. كنت فطرت واتغديت واتعشيت معاك، إيه رأيك .. أهو رخامه كدا
- لا لا أنت هتقولي .. أمشي قدامي يا رخم
-ههههههه واء واء .. أنت وحش يا عمو .. أنت كخه
- مافيش فايدة، الله يعين الطلبة بتوعك .. وأنا بأقول سيف بيجيب الكلام الغريب دا منين .. طلع مش من برا
-مالكش دعوة بسيفو حبيبي .. ويلا بينا بقى .. لأحسن هفتاااان
نهض معه مستسلماً، قرر استغلال الفرصة لأخذ قسط من الراحة؛ فأثناء العمل لا يشعر بمرور الوقت إلا إذا دقت معاونته الباب تذكره بإجتماع جديد، ينسى الطعام والنوم حتى يسقط من شدة التعب فيما يشبه الغيبوبة.
لا يكل من العمل الذي كرس ما تبقى من حياته لأجله، لم يفكر لمرة بالزواج وتأسيس عائلة .. إلا عندما رأى سيف وحمله بين يديه فور ولادته؛ مما جعل عاطفة الأبوة تظهر على السطح لأول مرة، لكنه أجل الموضوع إلى أجل غير مسمى.
***
اجتمعت الثلاث أخوات على طاولة الطعام، يتشاركنه، يرافقهن الحديث والكلام .. فتخبر كل واحدة منهن شقيقتها ما حدث معها خلال اليوم.
كانت العلاقة بينهن أحسن ما يكون، مهما دارت بهن الأيام لم يجدن سوى بعضهن خير أنيس وأفضل صديق .. فالأخت نعمة لا يعرف عظمتها إلا من فقدها.
يوم تجد جميع الأبواب قد سُدت في وجهك، وغضت الدنيا بصرها عن وجودك فتركتك هائما وسط شجونك .. تتركك تسبح وسط مصاعبك وتتلوى من أوجاعك، لا تهتم إذا أصاب الإرهاق عضلات ذراعيك من مقاومة الأمواج المتلاحقة؛ فتأتي أخت بنكهة أم تلقي لك طوق النجاة وتسحبك إلى بر الأمان .. فتجد رأسك وقد استكان فوق صدر قد فاض به الحنان.
الأخت أمٌ ثانية، رحمة بمن فقد أمه وهبة لمن صار يملك أميّن، فإذا غضبت منه الأولى التجئ إلى الأخرى، تشبعه حنانا وتغمره دفئا، تعينه على ما به وتشدُ على كفيه .. تعطيه الدعم؛ فهي أنقى من الماء ووجودها أشد حلاوة من العسل .. فتُحيل الصبار تمراً، والجحيم جنة.
توسلت فريدة لشقيقتها حتى تكمل طعامها: يلا يا هنودة يا حبيبتي .. بالهنا والشفا
زفرت هند مستكثرة ما وضع أمامها من طعام كأنها ملكة توجت على عرش المنزل: مش كتير أوي دا يا فريدة ؟
مرام تخفي ضحكاتها خلف ملعقة أخرى من الطعام: كلي وإنتي ساكته بدل ما تحدفهم ف زورك عدل وما يعدوش ع الطبق حتى ..
زمت فريدة شفتيها غيظاً: هاهاهاها، إيه الخفة دي يا ست مرام ماكنتش أعرف إن دمك خفيف كدا
استمرت مرام في مشاكستها: وهتعرفي منين يعني، كنتي عملتيلي سيادتك تحليل دم ولا حاجه ؟
تركت فريدة ملعقتها مهددة: لا دا أنا اللي هأصفي دمك دلوقتي
سعلت هند ضاحكة: كفايه حرام عليكوا .. هأموت م الضحك
التفتت إليها فريدة بحنان قاصدة إغاظة الأخرى: بعد الشر عنك يا حبيبتي .. أموووه
مرام بغيظ مصطنع: أيوه بقى، ناس ليها بعد الشر وناس ليها تصفية الدم
حدثتها فريدة دون النظر إليها: أيوه بالظبط كدا عشان الناس اللي مش بتسمع الكلام
ثارت مرام: يوووه مش المفروض أقتنع بالحاجه قبل ما أعملها ؟ سيبيني لما أقتنع بقى
استدارت إليها بكامل جسدها، تحدثت بجدية: المشكلة إنك مقتنعة، بس إيه اللي منعك مش عارفه .. وأساساً الحاجات دي مافيهاش اقتناع .. دا أمر ربنا، فاهمة ؟
أومأت هند متفهمة ما يدور حوله الحوار: بتتكلموا عن اللبس صح؟
زفرت فريدة: هو في غيره ؟
قررت هند تغيير الموضوع: إلا صحيح يا فريدة هي ماما ما أتصلتش ولا حتى بابا ؟
-لا ماحدش اتصل .. يمكن يتصلوا بكره
هند بقلق: بس دول بقالهم أسبوع لا حس ولا خبر
مظهرة مرام عدم الاهتمام: وإنتي خايفه عليهم ليه ؟ إذا كانوا هما ماخافوش إنهم يسيبونا لوحدنا وسافروا عادي ولا أكن في وراهم 3 بنات
نهرتها فريدة بهدوء: إحنا اتكلمنا كتير ف الموضوع دا يا مرام .. هما عملوا كدا عشانا، عشان نكمل دراستنا ونتعلم
مرام بسخرية: لا يا راجل ؟ طب ما دي أخر سنه ليا أهو والمصاريف مدفوعة وأنتوا خلصتوا وأتخرجتوا ما رجعوش ليه بقى ؟
أجابتها هند برزانة: العقد اللي عاملينه لسه فاضل عليه عشر سنين .. ماينفعش يرجعوا قبل كدا
رفعت زاوية فمها مستهزئة: موت ياحمار.. يعني هيرجعوا بعد ما كل واحدة فينا تبقى ف بيتها ومش بعيد يكون عندها عيل ولا إتنين
غيرت فريدة محور الحديث الذي كلما ذُكِر يدخلن في صراع بين المهاجمة والدفاع، اختلاق الأعذار لوالديهم أو السخرية منها: هههه دا إنتي اللي موت يا حمار .. هو في عرسان اليومين دول أصلاً يا بنتي
هند وقد فهمت غرض فريدة فتدخلت تعاونها: ويبقى في ليه، ما هما بيصاحبوا يبقى يعملوا إيه بالجواز والنكد ..
استجابت مرام لمحاولاتهما: فعلا اللي يتجوزك يا بنتي يبقى أتجوز النكد بعينه ودخله بيته على طـــــــــــــــووول .. بلا راجعة
هند مصطنعة العصبية: ليه بقى إن شاء الله، شايفاني ماشيه أعيط .. قاعدة أعيط .. نايمة أعيط .. ولا لأكون بأشد ف شعري وأصرخ عمال على بطال ؟
لم تستطع فريدة التوقف عن الضحك: بس بقى غرقتلنا الشقة بدموعك دي
مرام: ههههههه لا بس على طول ضاربه بوز أبو شبرين دا
قامت بعمل "بوز" مضحك في محاولة لتقليد هند، مستشهدة بهذه الحركة على أقوالها. من ثم دخلن ثلاثتهن في نوبة من الضحك لدرجة أن الدموع بدأت تتجمع وتهبط من أعينهم.
هند وهي تحاول التكلم من وسط ضحكاتها: بقى أنا بأبقى كدا ؟
أكدت صدقها بهزة من رأسها ثم عادت تقول: لا وعليكي شكل إيه زي بتوع البطاقة الشخصية للمصريين هههههه أرفع راسك فوق .. بص قدامك .. ما تضحكش .. ما تبربش .. إيــــه عايشين مع الشاويش عطيه يا ربي
أدمعت عيون هند من كثرة الضحك: بقى كدا ؟ طب والله لأوريكي الشاويش عطيه دا هيعمل فيكي إيه
جذبت فريدة أكمامها في حركة استعدادية: لا لا سبيلي الطلعه دي .. علشان أنا مغلولة منها لوحدي .. تعاليلي يا مرمورتي
أسرعت إلى غرفتها وهي تضحك: لا لا حرام كدا كتير .. إتنين على واحد ؟
ركضت خلفها مدعية الجدية: والله لأوريكي النجوم ف عز الضهر
أختفت إبتسامة هند وجلست على أقرب مقعد شاردة، تمسح دمعة كانت تحاول النزول بسرعة قبل أن تعود إحدى الفتاتين، من ثم رسمت ابتسامة مجبرة ونهضت قائلة: فريدة خلصتي عليها ولا لسه ؟ .. استني أنا جــــــــــااااي.
***
أتخذ مكانه على المقعد خلف طاولة بمطعم راقي، يتمتع المطعم بالهدوء الكافي الذي يجعل أحمد في حالة من الاسترخاء والراحة .. شخصيته الرزينة ليست معتادة على الصخب وإنما تكفيه الموسيقى الهادئة الدائرة بالمكان والهواء البارد الصادر من مكيفات الهواء التي تم إخفاءها من خلال الديكورات الكلاسيكية ببراعة حتى لا تفسد الشكل العام للمكان ولا تسبب ضوضاءها إزعاجا لرواد المطعم.
بدأ أكرم الحديث: أخيرا أحمد باشا حنيت علينا وهنتغدى سوا بقالي كام يوم ما شوفتكش لازم أعزمك يعني علشان ننعم بهذه الجلسة الجليلة ؟
وضع الأخ هاتفه ومفاتيحه على الطاولة: أنت عارف الشغل كتير وما بيرحمش وأنت سايب شغل الشركة كله عليا لوحدي
برر أكرم موقفه: ما أنت عارف إني ماليش ف شغل الشركات دا، وبعدين الله يعينك يا سيدي
-إيه دا الباشوات بيتغدوا هنا ؟ يا محاسن الصدف
هتف أكرم ناهضا يستقبل صديقه: مصطفى بهيج بنفسه هنا، لا لا أنا مش مصدق نفسي يا جدعان .. حد يقرصني كدا
مصطفى بأعين تشع شرا طفوليا: هههه من عنيا الجوز .. هو أنت جيت ف جمل ؟
توجع: إيــــــــــــــــــــــه .. حرام عليك يا ظالم، أنت ما صدقت ولا إيه ؟
غمزه صديقه ضاحكا: الله، مش أنت اللي طلبت .. أنا نفذت بس
دلك مكان ألمه: نفذت بضمير أوي كدا ليه يا أخي .. يا بــــاااي منك
صفعه مصطفى على كتفه: تعيش وتاخد غيرها يا صديقي ... إزيك يا أحمد ؟
أومأ مُرحِبا: الحمدلله، أنت أخبارك إيه ؟ .. وأخبار شغلك إيه؟
ابتسم مصطفى بحزن: نحمده ونشكر فضله .. لا الشغل بيخلص ولا مشاكله ومصايبه بتخلص
اقترح عليه أكرم: طب تعالى أتغدى معانا
رفض مصطفى بذوق: لا يا عم أنا مش هأتقل دم، روح أنت أتغدى مع أحمد ونبقى نتقابل بعدين
أكرم بغلظة: أنت لسه هتقل دم ؟، أنت ما تعرفش إنه تقيل ولا إيه ؟ .. وبعدين هتتغدى معانا يعني هتتغدى ولا في جو مستنيك
ابتسم مصطفى لغمزة صديقه: جو إيه بس يا ابني .. بأقولك مشاكل ف الشغل وجاي أشوفلها صرفه
صده أكرم بلهجة أمرة: خلاص يبقى تقعد معانا، إحنا لسه أصلا ما طلبناش الغدا ودا آخر كلام عندي
قرر مصطفى الخضوع؛ فهو بالفعل يحتاج للجلوس مع أناس محل ثقته، يستشيرهم في أمره لعله يجد لديهم ما لم يجده عن غيرهم: طيب
