رواية انا وانت يساوي الفصل الثاني والعشرين 22 بقلم سارة محمد
الفصل الثاني والعشرون
أصر مصطفى على البقية لينالوا قسطا من الراحة، فيما سيبقى هو بجانب خطيبته ويتبادل المناوبة في وقت لاحق مع أحد والديها، رغم تعبه وإرهاقه كان يريد حضور التحقيق في واقعة الإختطاف مع فريدة؛ لكي يعلم ما حدث معها تفصيليا وعلاقة هشام بالموضوع.
وقف على يمينها يُصغي لكل حرف تنطقه، وقبضته تشتد إنعقادا، لقد عانت وتألمت بينما تكتفت يديه ولم يستطع الوصول إليها وإنقاذها، لقد فعل هشام اللص ما شُلت يديه عن فعله، إنها طعنة وأدت رجولته، حاول عدم إظهار أيا من مشاعره أمامها.
أمر الضابط مرافقه أن يختم كلامها كما قالته بالنص، نهضا وسلما على مصطفى وكرروا دعواتهم لها بالنهوض سالمة خاتمين الحديث بطمأنتهم في بذل أقصى جهدهم حتى يصلوا إلى الجاني، صمم مصطفى على إيصالهم إلى المصعد على الأقل كذلك فرصة ليفهم التفاصيل في التحقيق وهل هناك أمل في القبض على المجرم أم لا.
لاحظت فريدة تغيرا فيه، نظرته ليست كالمعتاد، قررت أن تستجوبه وتستخلص سر ملامحه الغامضة حالما يعود، طرقا خافتا أتبعه دخول هشام: حمدالله ع السلامة
ابتسمت بخفة: الله يسلمك .. متشكرة أنك أنقذتني
هز رأسه بابتسامة مشابهة: ما إنتي عملتيها قبل كدا معايا وأهي اتردتلك
عاد مصطفى إلى الحجرة بصحبة أكرم الذي تولى الإجراءات الإدارية في المشفى، لم يتفاجئ من وجود هشام بل كان متوقعا زيارته، قبض على ساعده وابتسامة غيظ لم تصل إلى عينيه قد بدلت ملامحه:ـاهلا يا باشا .. جيتلي برجلك
هدأه: ما تقلقش أنا جيت أطمن على فريدة وهأروح أسلم نفسي
صحت به مستهجنة تصرفاته: سيبه يا مصطفى، مش كدا .. ما تنساش إن هو اللي أنقذني
نظر له بحقد واضح: وهينقذك ليه .. إلا لو ف دماغه حاجه
تفهم هشام غيرته فقال: أنا روحت أساعدها من قبل ما أعرف إنها فريدة
صر على نواجذه بغضب: اسمها الآنسة فريدة .. وقريب المدام بتاعتي .. ها؟! واخد بالك أنت ؟
أجبر ابتسامة صغيرة على الظهور عبر شفتيه: مبروك ليك وللآنسة فريدة
ضربت جملة سبق هشام أن قالها نواقيس مستفهمة في رأس أكرم؛ فتساءل مقطبا: مادام مش عارف إنها فريدة .. روحت تساعدها ليه ؟
أخفض رأسه بأسف: اللي خطفها دا يبقى واحد صاحبي
شخر ساخرا: ماهي الطيور على أشكالها تقع
هتفت به تنهره كطفل أساء الكلام: مصطفى .. وبعدين بقى، دي مش طريقة
نفض يده من فوق ذراع هشام متقززا: خلاص خلاص .. إهدي عشان الجرح
حثه أكرم على المتابعة فروى لهم ما يعرفه: بس أنا خوفت عليه بصراحة، كنت توبت عن اللي عملته ورجعلي عقلي، حتى حاجات أستاذ مصطفى وفلوسه كنت هأسلمهاله وبعدين أسلم نفسي للبوليس، لكن كنت مستني لما أطمن على أمي؛ لأنها محجوزة ف المستشفى .. وسعد كان بطل الحاجات دي من زمان .. لحد ما جات الست دي ولعبت ف دماغه وفضلت تزن على ودانه عشان يعملها اللي هي عايزاه
ردد مصطفى بتعجب: ست؟ ست مين دي؟
قذف اسمها دفعة واحدة: باريهان
شهق أكرم بصدمة: باريهــــــــــــــــــاان ؟!
استدار إليه مؤكدا: أيوه، اللي كانت خطيبة حضرتك .. هي أصلا كانت قاصدة تخطف الآنسة مرام مش فــ... الآنسة فريدة
تساءلت غير مصدقة أناس بهذا الشر في محيطها: وليه؟
أخفى هشام ابتسامة أوشكت على الظهور رغما عنه لبراءتها وغفلتها عما حولها من شرور في هذا العالم، لا ترى سوى الخير والنفوس الطيبة في من حولها، رد بكلام من تلقى الصفعات تلو الأخرى، عالما بكل ما هو سيئ في العالم وغير معترف إلا بشر النفوس: عشان تضرب عصفورين بحجر واحد
أضاف ناظرا إلى أكرم الذي تجمد محدقا في الفراغ، لا يصدق أن بسببه مرام كانت سترقد في محل فريدة الآن لولا الظروف: تحرق قلبك ع البنت اللي فضلتها عليها .. وف نفس الوقت تاخد منك فدية تسدد بيها ديونها، لكن ظهور الآنسة فريدة ف آخر لحظة وأدخلت عشان تمنعه .. لا وكمان شافت وشه، دا خلاه ياخدها هي .. وكدا كدا هو أهم حاجه عنده الفدية سواء كانت دي أو دي
ختم القصة زافرا في ضيق: أنا ماكنتش أعرف الحكاية ولا إنه رجع لطريق السوو بتاعه تاني .. ولما عرفت حاولت أمنعه بالكلام ما عرفتش .. ووقع ف الكلام قدامي إن في بنت دلوقتي هتجيبله فلوس، فهمت أنه خاطفها، مشيت وراه وعرفت المكان اللي مخبيها فيه، قررت أرجع البت اللي خاطفها لأهلها وأقنعهم إنهم ما يبلغوش عنه .. كفايه عليه السنين اللي اتسجنها قبل كدا
كركر مصطفى بسخرية: لا ضحكتني .. دي فريدة كانت هتموت ف إيده ولا أهتم .. لازم تقولي مكانه ومش هأتنازل عن القضية وهيتسجن
قابل إصراره على تنفيذ الجملة الأخيرة بنظرة حزينة: ما عادش في داعي .. راح لرب عادل ياخد بحق كل اللي أتظلم على إيده
ترقرق الدمع بين جفونها بينما صدرت عنها شهقة فزع: مـــــــــــــاات ؟! .. ربنا يرحمه
اتسعت حدقتي هشام: بعد كل اللي عمله فيكي بتدعيله بالرحمة ؟ مش بتدعي عليه ؟
رددت فريدة حديثا كإجابة على استغراب هشام: الرسول -عليه الصلاة والسلام- قال: "لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا" يعني في الاخر راح للي خلقه يحاسبه ..كفايه عليه
همهم هشام بإفتتان دون شعور: بجد مافيش منك دلوقتي
قبض مصطفى على كتفه بغيرة وغضب واضحين: كيس جوافة واقف أنا ولا إيه ؟ .. روح يا عم أكرم جيب شجرة وإتنين لمون
طمأنه بابتسامة باهتة: ربنا يخليهالك يا عم .. هو أنا قولت حاجه
زفر أكرم غير معجب بتغيير دفة الحديث: طب وباريهان ؟ لازم تروح تقول للبوليس ع اللي عملته؛ عشان تاخد جزاءها
- ماهي خلاص .. حصلت سعد
فغر أكرم فمه: يعني الاتنين ماتوا؟ إزاي؟
أوضح: بعد ما سبت الآنسة فريدة على باب الفيلا بتاعتكوا .. روحت لبيت الست دي، أنا كنت بأمشي وراه م الصبح، خرج من عندي على بيتها غالبا عشان ياخد فلوس؛ لإني لمحته بيعد رزمة وهو ماشي بعدين راح لآنسة فريدة .. فروحتلها بعد كدا عشان أقولها تبعد عن صاحبي وأقنعها ترجع عن اللي هي عايزاه .. روحت لاقيت الباب مفتوح، فدخلت .. لاقيت سعد غرقان ف دمه بس لسه فيه النفس .. حاولت أساعده أو اتصل بالإسعاف منعني .. وقالي "خلاص ما تتعبش نفسك الأمانة هترجع لصاحبها" .. سألته مين عمل فيك كدا، قالي باريهان .. لما حاول يغتصبها، وقالي إنه ماكانش ف واعيه بسبب الحشيش والبرشام اللي كان مبلبعه .. خرج آخر نفس ف صدره ومات، طلعت أدور على باريهان دي لاقيتها ف أوضة نايمه ع السرير وقاطعة شرايينها .. غرقانة ف دمها هي كمان .. كانت سايبه جنبها جواب قريته لاقيت فيه كل الحكاية اللي قولتهالكوا .. ولاقيت ع التربيزة اللي جنبها أدوية اكتئاب بصراحة خوفت تتفضح أكتر من إنتحارها .. حرام أشيّل سعد ذنبها وهو ذنبه كفايه عليه .. أخدت الرسالة معايا وسحبت جثته حطتها قدام مستشفى بعيدة عشان ماحدش يربط بين الحدثتين، ورِجعت البيت رجعت كل حاجه مكانها كأن حالة الاكتئاب هي السبب ف إنتحارها
دمدم أكرم تائها فيما يُقَص عليه: يـــــــــاااه .. كل دا؟
أكمل: قولت ف المستشفى اللي بيجيلها حالات قد كدا ومش لاقيالهم مكان مش هتهتم تشرح جثة واحد عشان تعرف مات إزاي وأهله وليه وإمتى وأكيد هيدفنوه ف مقابر الصدقة ع الأقل وهيلاقي اللي يصلي عليه .. لكن لو سبته كان هيتشرح ويتبهدل ف التحقيق وف الآخر هيترمي من غير ما حد يسأل فيه .. فكدا أحسنله وباريهان كفايه عليها فضايح من ديون لإنتحار بزيادة .. مش ناقصة اغتصاب وقتل وخطف وشروع ف قتل
عقبت: عين العقل يا أستاذ هشام
طوق مصطفى عنق هشام بقوة: تصدق أنا ماكنتش طايقك يالا، بس بعد حركات الرجولة اللي شوفتها منك .. مساعدة فريدة واللي عملته مع سعد وباريهان أنا استجدعتك
- ربنا يخليك
أكرم: أنت شكلك ابن حلال بس ظروفك هي السبب
سقطت رأسه بين كتفيه بحزن: أمي لازمها عملية قلب مفتوح ودي تتكلف 100 ألف جنيه وإلا ممكن تموت ف أي لحظة عشان كدا سرقت وكنت بالباقي هاسافر برا أشتغل حاجه تساعدني
سأله مصطفى: وعملتلها العملية؟
هز رأسه سلبا: خوفت لما أطلع الفلوس يقبضوا عليا .. بس دلوقتي والله هأروح اسلم الفلوس واسلم نفسي يمكن أكفر بيها عن ذنبي
جذبه مصطفى إلى الخارج: طب تعالى نتكلم برا شوية .. وإنتي ارتاحي عقبال ما أرجعلك
لحق بهم أكرم فيما تابعتهم فريدة بأعين تحمل مزيجا من الدهشة والقلق معا، لكن خروج أكرم معهم أرسل بعض الطمأنينة إلى نفسها، استرخت في نومتها تحاول دفع الصورة البشعة التي رسمتها كلمات هشام في ذهنها عن نهاية كل من باريهان وخاطفها.
***
في زاوية بها بعضا من الخصوصية، وقف مصطفى يتحدث إلى هشام: شوف يا بطل .. بما إنك جدع والظروف هي السبب، أنا هأتنازل عن القضية وكمان هأكلم آدم -جوز أخت أكرم- عشان عملية القلب المفتوح لمامتك بما إنه دكتور قلب
انشرح وجه هشام بسعادة: بجد يا أستاذ مصطفى؟
استقام مصطفى راسما الجدية على ملامحه: أومال هأهزر معاك؟
- بجد شكرا أوي .. ربنا يخليك ويرزقك من وسع
- طب مش عايز تكفر عن اللي عملته ف المزرعة ؟
تسرب الخوف إلى قلب هشام: إزاي؟
- هتيجي تشتغل فيها تاني .. بس المرة دي تحت عيني ولو حسيتك بتلعب بديلك كدا ولا كدا .. هـــــــــــاشـ......
قاطعه هشام مهللا بالصفحة الجديدة التي فتحها معه: من غير ما تكمل .. لا في كدا ولا في كدا
خبط على كتفه: طب يلا قدامي ع القسم بقى عشان نفض القضية .. أكرم خليك هنا جنب فريدة لحد ما أرجع
هز أكرم رأسه موافقا، حث صديقه على الذهاب مطمئنا: ما تقلقش .. مستنيك
بعدما انصرفوا، طرق باب حجرة فريدة، أذنت له بالدخول، أعلمها واقفا في فتحة الباب حتى يشعرها بالأمان: أنا برا، لو احتاجتي حاجه
تعجبت أنه حضر منفردا، قطبت تسأله وقد دب الخوف أوتاده مترسخا في نفسها: أومال فين مصطفى؟
لم يكن يريد إخبارها بما حدث، ترك حرية الحديث في هذا الأمر لمصطفى فهذا شئ لا يعنيه، أكتفى بقول: راح مشوار وراجع
خنقها القلق: هو في إيه يا أكرم؟
تنهد، روى لها ما حدث بين مصطفى وهشام، فخورا بتصرف صديقه الذي يدل على معدنه الأصيل وطيبة قلبه، زاد ذلك من حب مصطفى لديها وترسخه في منحنيات قلبها، ازدادت ثقتها بأنه الشخص المناسب، فالعفو عند المقدرة هو دليل قوة وليس ضعف، دليل على النضج والرجولة، تنهدت سعيدة بقرب إرتباطها به.
***
نهضت من فوق مقعد طاولة الزينة مقتربة من فراشها، على الجانب الآخر وقف أحمد يرفع الغطاء ليندس بين طياته، ناما على ظهريهما يحدقان في السقف.
الأفكار تسحبهما بعيدا كلما جذبهما سلطان النوم، لقد مرت الأيام كأنها سنوات، شردت في شقيقتها وما مرت به، كذلك إرتباطها بمصطفى فيما انشغل عقله تفكيرا في العمل الذي تكدس فوق مكتبه.
مالت رأسها وراقبته بعينيها، سألته دون أن تتحرك: بتفكر ف إيه ؟
- ف الشغل .. مشروع جديد عايز أدرسه كويس بس ...
قاطعته وقد انقلبت على جانبه مستندة إلى مرفقها فيما توسدت قبضة يدها: إجابة رومانسية جدا
استدارت رأسه وتقابلت عيونهما، ابتسم: ماكنتش أعرف إنك بتحبي الرومانسية
عادت تنام على ظهرها متنهدة: في فرق بين المُحن والرومانسية .. أنا مش بأحب المُحن وبردو ماعنديش مانع من شوية رومانسية
عقدت ذراعيها مضيفة وقد قطبت حاجبيها بعند: وبعدين إحنا لسه ف شهر العسل
اقترب منها وأسند رأسه على كتفها بينما تسللت ذراعه تحيط خصرها من أسفل الغطاء، أغمض عينيه وهمهم: حياتي كلها هتبقى معاكي عسل .. مش شهر بس
نظرت إليه بطرف عينها: كلهم بيقولوا كدا ف الأول
سألها ساخرا وقد حافظ على عينيه مغمضتين: والمفروض أنا رقم كام ف لستة الأزواج ف حياتك يا حبيبتي
صفعت كفه المبسوطة فوق بطنها: هاهاهاها، خِفة
صمتوا لفترة قبل أن تناديه، همهم بلغة لم تفهمها لكنها أدركت من خلالها أنه يصغي إليها ويستمع إلى ما تقوله: أنت كنت بتقول بس لكن ما كملتش
استغرقته دقيقة ليتبين مقصدها، تذكر حديثه الأول عن العمل، فتح عينيه محدقا بها مستهزئا: وهي دي الرومانسية من وجهة نظرك يا قلبي ؟
ابتسمت، هزت كتفيها: خلينا نعترف إن أنا وأنت مالناش ف الرومانسية
بادلها الابتسامة وعاد يغمض عينيها وقد دس وجهه بين كتفها وعنقها يشتم عبيرها الفواح: السكرتيرة اللي جات بعدك كانت بطيئة فمشيتها، والجديدة مالحقتش أجربها .. بكره هأروح وأشوف بس شكلها غبية .. الشغل متعطل والمشروع الجديد مهم، مش فاضي للسكرتيرات والدلع بتاعهم
- طب ما تخليني أرجع أشتغل معاك
شد ذراعه حولها: إحنا اتكلمنا ف الموضوع دا قبل كدا واتفقنا
تنهدت: بس أنت محتاجني
- أكيد محتاجك، بس هنا ف بيتنا، حياتنا الخاصة مش ف الشغل، هأتصرف وألاقي سكرتيرة مناسبة
أضاف عندما سمع الصوت المنزعج الذي أصدرته: ماتنسيش إن أختك هتتخطب قريب ولسه خارجة م المستشفى .. أكيد محتاجاكي
زمت شفتيها مقتنعة بوجهة نظره المؤقتة: طب خليني أختارلك السكرتيرة بدل ما تعطل نفسك
تنهد موافقا عندما لاحظ أهمية هذه المهمة البسيطة بالنسبة لها، لم تمر عدة دقائق حتى صاحت به: لاقيته
دمدم بتأفف، فقد انهكت قواه في الأيام الماضية وخسر حيويته: إيه ؟
- مش لازم سكرتيرة بنت، افتكرت واحد اشتغلت معاه لفترة ف الشركة اللي كنت فيها قبل ما أتوظف معاك، هو كان كويس جدا وعايز يسيب الشركة لأن أسلوبها مش عاجبه .. لكن مسئولياته منعته .. هأروح أكلمه بكره إيه رأيك ؟
انتزع نفسه من وضعه المحبب، استند إلى كفه محدقا بها بتعبير لم تفهمه: مين دا ؟
- اسمه خالد
- تعرفيه ؟
- يعني .. كلام عام كدا
- ورشحتيه ليه ؟
نظرت له بغباء: ما أنا قولتلك .. مسئولياته مانعاه يسيب الشركة دي وبيدور على شغل ف شركة تانية .. أكيد هيفيدك
التقط كفها الأيسر مداعبا خاتم زواجهما، حدق به: ماتنسيش إنك مراتي
رفعت إليه نظرها مقطبة: قصدك إيه ؟
ضربت الصاعقة رأسها، عضت شفتيها تمنعهما من الابتسام، شعرت بنظراته الحانقة لا تتزحزح بعيدا عن وجهها مغتاظا منع محاولتها الفاشلة في إخفاء سعادتها، تمتمت من بين ضحكاتها التي انفلتت: أصل الراجل اللي أنت غيران منه قرب م الخمسين سنة
ارتفعت زاوية فمه بشبه ابتسامة، طرق جبهته بجبهتها: بتتسلي بيا يا هند
لم تجب، اكتفت بزيادة معدل ضحكها، عاد لوضعية نومه السابقة قبل أن تقلقه بعرضها، استقرت رأسه بين كتفها وعنقها، همس بنبرة قوية ارتفعت لها دقات قلبها: عارفه لو أصغر من كدا ؟ .. كنت قتلته وشربت من دمه .. قدامك، مع إن سنه دا ما يمنعش إني أعملها معاه بس دي جزاة اللي يبصلك
تعالت قهقهتها، ربتت على خده باسمة وقد تسلل النوم إلى جفونها، أغمضت عينيها راضية: وهي دي قمة الرومانسية يا حبيبي
***
عادت إلى المنزل بعد طول غياب، رغم عدم مرور أسبوع على تركها المنزل شعرت أن قرنا يفصلها عن آخر مرة كانت به فيه.
جاء الجيران لتحيتها والترحيب بعودتها؛ حتى صديقة هند (منار) التي وصلت من سفرها وزارتها لكي تطمئن على حالها؛ فلقد اكتسبت حب الجميع ومودتهم بقلبها الأبيض ونفسها السمحة.
رحبت هند بصديقة دراستها، لقد فرقتهم الحياة ومشاغلها: أهلا أهلا بمنار هانم .. بقى اللي يتجوز يغيب كدا
قبلتها منار وضمتها بشوق ضاحكة: معلش، ما إنتي عارفه إنه اسكندراني وشغله وأهله هناك .. ولما أتجوزنا عيشنا ف اسكندرية .. ومش بأجي أصلا غير م السنة للسنة
أجلستها وجلست إلى جوارها: ماشي ياختي هأعديهالك عشان عارفه إنك مرتاحة ومبسوطة هناك
- ربنا يخليكي ليا يا هنوده .. وحمدالله ع السلامة يا فريدة
ضحكت فريدة: لسه فاكره .. دا إنتي قربتي تمشي يا شيخة
غمزتها باسمة: لا أنا قاعدة على قلبكوا شويه
رحبت بها بطيبة خاطر وكرم عربي: تنوري يا قمر
وصلت ندى برفقة ابنها، ضمت والدة هند قبل أن تنضم لجلسة البنات وتطمئن على فريدة، جذب سيف يده من كف أمه وركض إلى فريدة يتعلق برقبته ويقبلها بشوق: وحشتيني أوي يا ديده
ردت له قبلاته: وأنت أكتر يا روح ديده
وقفت منار لا تصدق عيونها، هتفت مقتربة من ندى فيما تُردد اسمها غير مصدقة، فقد طال الفراق ومرت الأيام دون رؤية إحداهما للأخرى: مش معقول
شهقت ندى بغبطة: منار، وحشتيني يا بنت الإيه
احتضنتها ندى بشوق وسعادة بائنة وكذلك بادلتها منار في البادية قبل أن تتردد وتتراجع في ألم وحزن بدا في صوتها وعيونها: إنتي كويسه؟
قهقهت ندى وعلقت بعفوية، فلم تدرك ما حل بصديقتها القديمة: زي الفل وإنتي أخبارك إيه؟
- الحمدلله، زي ما إنتي شايفه
- أنا بأقول نرغي برا ونسيب فريدة ترتاح
فغرت فريدة فمها بحركة مسرحية: أه يا خونه .. يهون عليكوا الرغي من غيري
غمزتها هند: هو إحنا ورانا غيره .. وبعدين الكلام بيتعاد
نادت ابنها: يلا يا سيفو .. سيب فريدة ترتاح
تشبث بعنقها رافضا تركها: لا، أنا عايز أفضل مع ديده
ضمته أكثر إلى صدها: خلاص سيبيه، دا حبيبي
استسلمت ندى لرغبتهما، خرجت بصحبة صديقتيها إلى غرفة هند السابقة؛ فقد عج الصالون بالضيوف المهنئين بسلامة فريدة وجلس معهم عبدالرحمن، يتقبل دعواتهم القلبية لابنته ويبادرهم بالسؤال بعد طول سفر، فيما غرفة المعيشة جلست بها مرام وأمها مع السيدات في جلسة تشبه المجاورة في الصالون.
***
رفع سيف نظراته البريئة إلى وجه فريدة؛ خائف أن يسبب لها الألم دون قصد: إنتي كويسه دلوقتي يا ديده؟
أجابته باسمة: أه زي الفل
- طب مش هتكمليلي السورة ؟
قطبت محاولة التذكر: سورة إيه؟
هتف: سورة عبس
أومأت متذكرة: ااااااااه .. أنت عايز تكملها يعني؟
هز رأسه صعودا وهبوطا بعنف: أيوه يا ديده
أشارت إلى عينيها على التوالي: من عنيا الجوز .. نكمل بقيتها بقى
"كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ * قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إلى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُم"
يعني ربنا بيقول كل حاجه ف القرآن ويوضح كل حاجه فيه .. وبيقول لعباده كل حاجه عن طريقه، فاللي عايز يعمل بيها يعمل .. واللي مش عايز بردو هو حر، وربنا رفع من قيمة التذكرة، ومطهره .. يعني بعيد عن إيد الشيطان، عشان ما ياخدوش أو يسرقه وحفظه بإيد الملايكه، لإن الملايكه هي السفير اللي بين ربنا واللي بيعبدوه .. اللي خيرهم كتير وأعمالهم حلوة وبالرغم من كل دا في ناس مصرة إنها تكفر، إزاي الإنسان عنيد أوي كدا، عشان ينسى إن ربنا خلقه من ماء مهين وخلقه ف أحسن مظهر وأحسن صورة .. وأداه أسباب كتير عشان يؤمن .. وهداه للصح، وكرمه بإنه لما يموت يتدفن مش زي الحيوانات .. وبعدين يرجع يحييه تاني عشان يحاسبه على أعماله ف الدنيا، فيكون مش عامل حاجه م اللي ربنا أمره بيها .. وأمره ربنا إنه يبص للأكل اللي قدامه ويفكر .. إزاي وصله وإزاي أتعمل
والمطر اللي بينزل دا، وربنا اللي خلى الأرض يبقى فيها حفرة أو فتحة عشان النبات يطلع منها، حتى النبات دا بيطلع أنواع كتير أوي .. منها اللي بياكله الإنسان ومنها الحبوب والعنب والزتون والنخل اللي فوايدهم كتير، وفيه الجناين اللي فيها أشجار كبيرة وتلف حوالين بعض، دا غير الفاكهة اللي أنا وأنت بناكلها؛ التين والرمان والخوخ وكله .. والأكل بتاع الحمار والحصان والحيوانات والطيور، الحيوانات دي بقى اللي ربنا خلقها عشان نركبها ونتمتع بيها وهما يتمتعوا بالاكل دا
"فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ"
ويجي بقى يوم القيامة، يومها هيهرب كل واحد من باباه ومامته وأصحابه وولاده ومراته؛ عشان كل واحد هيبقى مهتم بنفسه بس وعايز يخلص من النار والعذاب بتاعها .. منهم اللي فرحان إنه هيدخل الجنة ويتمتع بنعيمها، فتلاقي ناس وشوشها مبسوطة أوي وبتضحك فرحانه بالجنة .. وناس تانية مضايقه وزعلانه وتحس إن وشها أسود من يأسها لأنها عرفت إنها خلاص هتتعذب ف النار .. دول بقى هما اللي كفروا بربنا وأصروا يعملوا اللي ربنا أمرهم ما يعملهوش
- يعني أنا لو عملت اللي ربنا بيحبه هأدخل الجنة ؟
ابتسمت بحنان: طبعا .. مش لما أنت بتسمع الكلام ماما وبابا بيفرحوا بيك ويجيبولك هدية ؟
أومأ: أيوه
- ربنا بردو لما تسمع كلامه بيفرح بيك أوي وبيجبلك هدية بردو .. بس هدية ربنا كبيرة جدا اللي هي الجنة
باعد بين ذراعيه قائلا: أيوه، هدية ربنا كبيرة؛ عشان هو كبير أووووووي
قرصت وجنته بحب: صح كدا يا سيفو، أنت عارف بأعمل إيه مع الشطار ؟
نظر إليها بترقب: إيه؟
حملته بهدوء: بأشيلهم كدا .. وأنيمهم كدا.. وأزغزغهم كدا وكدا وكدا
ارتفع ضجيج ضحكته: كفايه يا ديده مـــ ... مش ... قادر
- لا، لازم أكلك .. هَم هَم هَم
***
جلست منار إلى جانب ندى في حجرة هند قبل الزواج، أحضرت مقعدا خشبيا من مقاعد طاولة السفرة وجلست معهما دقيقتين قبل أن تنهض متجهة إلى المطبخ: أنا هأدخل أعمل قهوة تشربوا؟
وافقتا على عرضها، خرجت هند وأغلقت الباب خلفها حتى لا يزعجهما ضجيج المنزل وصخب الضيوف، دنت منار من صديقتها أكثر، قالت بهمس: كويس إن هند قامت عشان كنت عايزه أكلمك ف موضوع
استدارت إليها بجسدها كاملا وقد استبد بها القلق، أومأت مقطبة إشارة إلى سماعها وإصغائها: إنتي حياتك مع جوزك عادية ؟ طبيعية يعني؟
اتسعت عيونها مندهشة: قصدك إيه ؟ مش فاهمه
تنهدت ونظرت أرضا: فاكره يا ندى لما كنا بنتمشى سوا بعد ما خلصنا إمتحانات وجاتلك ضربة شمس على توتر ووقعتي ف الشارع وأغمى عليكي
- أيوه .. بس بتسألي ليه؟
تلاعبت أصابعها بيد حقيبتها الموضوعة فوق فخذيها: أصلي عرفت إن الدكتور اللي ودايتك عنده يومها أتقبض عليه
استغربت علاقتها بما حدث للطبيب ولكن فضولها جعلها تتساءل: ليه؟
نظرت إليها ترغب في إمساك أي ردة فعل تطمئنها على صديقتها: حسب ما قريت ف الجرايد .. كان متعود يعمل علاقات مع المرضى بتوعه وغالبا من غير موافقتها .. وفي بنات منهم أهلهم صعايده كانوا أول ما يتعرف إنها ... مش ... بنت بنوت، أجوازتهم يقتلوهم من قبل ما يسألوا عن السبب .. ما عدا واحدة أخوها كان دارس برا وعاقل، فضل ورا الموضوع لحد ما عرف إن الدكتور دا هو اللي عمل فيها كدا .. ما قالوش عرف إزاي، المهم عمله كمين وأتفق مع واحدة صاحبة اخته ووعدها إنه هيحميها راحت للدكتور مغمى عليها وفعلا حاول يعتدي عليها وهي فاقدة الوعي، لولا الولد دا دخل ومعاه البوليس ومسكوا الدكتور متلبس واتحكم عليه .. لكن في ناس صعايده، أهالي بنات من اللي اعتدى عليهم والسبب في قتلهم لبناتهم سلطوا عليه واحد منهم كان ف السجن موته والدافع .. دفاع عن الشرف
أصفر وجه ندى، ترطبت عيونها بدموع حاولت مقاومة تساقطها دون جدوى، أبحرت في أفكارها غير مصدقة، كيف لطبيب أن يخون اليمين الذي قطعه على نفسه يوم تخرجه، كيف يخون الأمانة، لقد استأمنته العديد من الفتيات على أرواحهم.
أفاقت على شهقة منار الباكية: والله يا ندى ما كنت أعرف إنه بالشكل دا
مسحت دموعها المتسابقة في حفر الأخاديد على وجنتيها: إنتي عرفتي الكلام دا منين؟
منار: قريته ف الجرايد .. وحاولت أوصلك عشان أقولك وأطمن عليكي .. قالولي إنك أتجوزتي وسافرتي مع جوزك ف شهر العسل .. وماكنتش هأفتح الموضوع دا انهارده ولا هأجيب سيرته، بس لما شوفتك مبسوطه وابنك ما شاء الله عليه .. قولت يبقى إنتي تمام ف حبيت أعرفك عشان تحمدي ربنا على ستره
شردت أميالا بعيدة بتفكيرها عن حديث منار، ظلت تخبرها بكل ما قرأته وكُتِب في الجرائد عن أحوال من تم التعرف عليهن من مريضات ارتدن عيادته، تحثها على الشكر والحمد.
ترددت أفكار خاصة بها في رأسها، نعم سترها الله، أجل، تعذبت وبكت؛ لكن رد فعل آدم بالنسبة لأزواج الفتيات المقتولات ظلما شيئ لا يذكر، بلى سترها الله بزوج كآدم .. فحمدا لك يا الله.
أقبلت عليهما هند تحمل صينية بها ثلاث فناجين من القهوة، وضعتها على مقعد طاولة الزينة ثم جلست فوق مقعدها ترتشف من فنجانها بتعب، سألتها منار مدركة حالة الشرود التي أصابت الأخرى: أومال مرام فين ؟ ما شوفتهاش
- كانت هنا أول ماجيتي بس ف الأوضة التانية مع ماما والستات، بس نزلت من شوية .. راحت الكلية، عندها إمتحان أول مادة إنهارده
دعت لها منار: ربنا يسهلها الصعب
***
خرجت من الإمتحان لا تصغي إلى تأفف صديقتها من صعوبة الإمتحان وغلاظة الأستاذ الخاص بها، سارت إلى جانبها جسديا ولكن ذهنيا تبعد العديد من الكيلومترات.
راقبها من بعيد، لا يملك سوى ذلك، استدار مبتعدا في الطريق المعاكس لخروجها، تفرقت بهم السبل وتشتت الطرقات، فقدت أمل مبادلته لها نفس مشاعرها والإقدام على الخطوة التي سبقه إليها مصطفى وأحمد.
تنهدت بشدة وقبضت على حقيبتها تجذبها إلى أحضانها علّها تشعرها بالأمان، يجب أن تنساه كما نصحتها أختها، قد يكون زيادة تعلق قلبها به عن الحد هو ما تسبب في الفراق.
***
تقدم رسميا عقب خروجها من المستشفى بيوم واحد، أوضح ظروفه وأوضاعه لأهلها، قبل به عبدالرحمن فما رأه من حب في عيونه ورجولة في تصرفاته شفعت له، بعد أحاديث طويلة في شتى المواضيع، تركوهم يتحدثان بمفردهما على وعد بإكمال الحديث في التفاصيل بعد الجلسة المنفردة.
بادر بسؤالها:تحبي تبدأي إنتي ولا ابدأ أنا ؟
- اتفضل أنت الأول
- عايز أقولك إني اعتبر ع الحديده؛ لإن الفلوس اللي معايا كلها هاضطر أدخلها ف المزرعة عشان تقف على رجلها زي الأول، مش هأقدر اخاطر بالفلوس دي دلوقتي .. أه هأجيبلك الشبكة التي تختاريها بس على قد إمكانياتي .. وإن شاء الله أول ما ربنا يفتحها ف وشي هأجيبلك اللي تشاوري عليه
- وأنا مش هأتجوزك عشان هتجبلي شبكة غالية .. أصلا مش بأحب الدهب بس هأجيب حاجه بسيطة عشان أهلى؛ لإن ماما مش هترضى غير بكدا
- تمام، أدي نقطة .. أما الشقة ف أنا كنت عايش ف المزرعة ولما جيت هنا، كان عشان أرجع فلوسي وأقبض ع اللي سرقها ف قعدت عند أكرم .. هتقدري تعيشي معايا ف المزرعة؟
- هأعيش مع جوزي ف المكان اللي هو فيه .. ولو في النار
- وكمان هأنشغل عنك ف المزرعة ف أول فترة، يعني عقبال ما اتأقلم ع الجو وأظبط الدنيا
- وأنا هأقف جنبك وهأساعدك، ولا نسيت إني وبلا فخر دكتورة بيطرية قد الدنيا
قهقه: بلا فخر وقد الدنيا ف نفس الجملة، أومال لو عم فخر كان حاضر كان حصل إيه
قلصت الضحكة إلى بسمة سعيدة: حاجه تاني ؟
- أيوه .. بصراحه عشان نبقى على نور، أنا عرفت بنات كتير أشكال وألوان .. الشقرا والسمرا، البيضا والقمحية، الطويلة والقصيرة، تقدري تقولي كل الأصناف مرت عليا .. بكل الطرق؛ الصديقة والأخت حتى العشيقة بس عمري ما لاقيت نفسي إلا معاكي ولا حسيت إني عايز واحدة تبقى مراتي وأتجوزها غير لما شوفتك .. توبت من ساعتها ومابقتش شايف غيرك، كنت بأصلي ساعات وساعات بدأت ألتزم بالصلاة وف المسجد وهأقرب من ربنا على قد ما أقدر عشان يغفرلي ويسامحني .. بس لازم اتأكد إن كل دا مش هيفرق معاكي
قبضت يديها بقوة من مستهل حديثه، طعنة غيرة أصابتها ولم تستطع التغلب عليها لكن حديثه الذي تلى أنساها ما سبق، كانت تحلم بحصولها على زوج يعينها على ما تبقى من حياتها ويقربها إلى الله، فكرت الآن أنها أنانية منها أن تقبل من يرفعها ولا تقبل من يطلب منها رفعه معها، حدقت به تقرأ ملامحه وبعضا من لغة جسده، عجينة مصطفى طيبة قابلة للتقويم والتحسين، وقد يكون أفضل مما تمنته ولكن ببعض الجهد ومرور الوقت، تذكرت موقفه من هشام ووالدته، نعم، تستطيع أن تكون زوجة صالحة له ويصير من تمنته.
أجابته باسمة: ماشي .. وأنا هأنسى كل اللي فات من حياتك مادام نويت تبدأ معايا من جديد على بياض .. بس لو فكرت ترجع للقديم مرة تانية من غير نقاش هأسيبك وأمشي
وعدها بحماسة وصدق: عمري ما هأرجع للي كان؛ لإني ما أقدرش أعيش من غيرك .. كفايه اللي عشته لما شكيت بس إنه حصلك حاجه
- خلصت؟
- أه .. بس سؤال أخير
- اتفضل
- هتساعديني أقرب من ربنا وتاخدي بإيدي .. ولا هتسبيني وتقربي لوحدك وترميني وراكي؟، أنا عن نفسي مش هأعمل خير إلا وف نيتي إن ثوابه ليا وليكي .. مش هأدعي دعوة غير لما أدعيلك زيها، إن ما كانش أحسن منها .. قولتي إيه ؟
تنهدت براحة وابتسمت بغبطة صادقة: قولت .. موافقة واستعنى ع الشقا بالله
- شوفي إنتي بقى عايزه تعرفي إيه ؟
- خلاص، أنت قولت كل اللي كنت هاسأله
نهضت تنادي الأهل ليعودوا حتى تتم الأمور وينتهي الإتفاق بالكامل، لقد أنتهى دورها مؤقتا لكنها التفتت إليه: مصطفى
رفع بصره إليها: يا نعم
بوجه خالِ من أي تعبير سألته: مش عايز تشوف شعري؟
لم يتمالك نفسه من موجة الضحك التي غمرته: يعني إنتي لو طلعتي كارته هأرجع ف كلامي؟ ما أنا أدبست خلاص .. أطمني
اغتاظت من كلامه، همت بالمغادرة عندما ناداها ووقف أمامها، حدق في عينيها بعمق قائلا بجدية: بعد كل اللي بأحسه معاكي وبعد كلامنا دلوقتي واللي شوفته منك مافيش حاجه هتبعدني عنك أبدا يا ... ديده
أحمرت وجنتيها، أسرعت بالمغادرة، نادتهم ليعودوا إلى الغرفة وجلست في زاوية بعيدة تتابع الحوار وتتدخل عند اللزوم، ابتسمت داخليا وعيونها تتقافز فوق ملامح عريسها، شعرت بالفخر يملأها، لقد سألته عن رغبته في رؤية شعرها رغم علمها بعدم شروعية ذلك، حتى وإن قبل لم تكن لتوافقه، اختبارا أجتازه بنجاح، همست: إمتياز مع مرتبة الشرف
التفتت إليها مرام الجالسة بجوارها: بتقولي حاجه ؟
هزت رأسها، وعادت تُغرق نفسها في خيالاتها، تذكرت كلماته المازحة والتي دخلت قلبها دون طرق بابه، بساطته وخفة ظله تفرش سجادة حمراء أمامه في الطريق إلى قلبها.
أفاقت على نهاية النقاش، خُتم الإتفاق على أن يكون كتب الكتاب والزفة معا عقب إنتهاء إمتحانات مرام بيوم، أي بعد حوالي شهر ونصف، تكون خلال هذه المدة قد استعادت عافيتها وأتمت التجهيزات التي تحتاجها.
أصر مصطفى على البقية لينالوا قسطا من الراحة، فيما سيبقى هو بجانب خطيبته ويتبادل المناوبة في وقت لاحق مع أحد والديها، رغم تعبه وإرهاقه كان يريد حضور التحقيق في واقعة الإختطاف مع فريدة؛ لكي يعلم ما حدث معها تفصيليا وعلاقة هشام بالموضوع.
وقف على يمينها يُصغي لكل حرف تنطقه، وقبضته تشتد إنعقادا، لقد عانت وتألمت بينما تكتفت يديه ولم يستطع الوصول إليها وإنقاذها، لقد فعل هشام اللص ما شُلت يديه عن فعله، إنها طعنة وأدت رجولته، حاول عدم إظهار أيا من مشاعره أمامها.
أمر الضابط مرافقه أن يختم كلامها كما قالته بالنص، نهضا وسلما على مصطفى وكرروا دعواتهم لها بالنهوض سالمة خاتمين الحديث بطمأنتهم في بذل أقصى جهدهم حتى يصلوا إلى الجاني، صمم مصطفى على إيصالهم إلى المصعد على الأقل كذلك فرصة ليفهم التفاصيل في التحقيق وهل هناك أمل في القبض على المجرم أم لا.
لاحظت فريدة تغيرا فيه، نظرته ليست كالمعتاد، قررت أن تستجوبه وتستخلص سر ملامحه الغامضة حالما يعود، طرقا خافتا أتبعه دخول هشام: حمدالله ع السلامة
ابتسمت بخفة: الله يسلمك .. متشكرة أنك أنقذتني
هز رأسه بابتسامة مشابهة: ما إنتي عملتيها قبل كدا معايا وأهي اتردتلك
عاد مصطفى إلى الحجرة بصحبة أكرم الذي تولى الإجراءات الإدارية في المشفى، لم يتفاجئ من وجود هشام بل كان متوقعا زيارته، قبض على ساعده وابتسامة غيظ لم تصل إلى عينيه قد بدلت ملامحه:ـاهلا يا باشا .. جيتلي برجلك
هدأه: ما تقلقش أنا جيت أطمن على فريدة وهأروح أسلم نفسي
صحت به مستهجنة تصرفاته: سيبه يا مصطفى، مش كدا .. ما تنساش إن هو اللي أنقذني
نظر له بحقد واضح: وهينقذك ليه .. إلا لو ف دماغه حاجه
تفهم هشام غيرته فقال: أنا روحت أساعدها من قبل ما أعرف إنها فريدة
صر على نواجذه بغضب: اسمها الآنسة فريدة .. وقريب المدام بتاعتي .. ها؟! واخد بالك أنت ؟
أجبر ابتسامة صغيرة على الظهور عبر شفتيه: مبروك ليك وللآنسة فريدة
ضربت جملة سبق هشام أن قالها نواقيس مستفهمة في رأس أكرم؛ فتساءل مقطبا: مادام مش عارف إنها فريدة .. روحت تساعدها ليه ؟
أخفض رأسه بأسف: اللي خطفها دا يبقى واحد صاحبي
شخر ساخرا: ماهي الطيور على أشكالها تقع
هتفت به تنهره كطفل أساء الكلام: مصطفى .. وبعدين بقى، دي مش طريقة
نفض يده من فوق ذراع هشام متقززا: خلاص خلاص .. إهدي عشان الجرح
حثه أكرم على المتابعة فروى لهم ما يعرفه: بس أنا خوفت عليه بصراحة، كنت توبت عن اللي عملته ورجعلي عقلي، حتى حاجات أستاذ مصطفى وفلوسه كنت هأسلمهاله وبعدين أسلم نفسي للبوليس، لكن كنت مستني لما أطمن على أمي؛ لأنها محجوزة ف المستشفى .. وسعد كان بطل الحاجات دي من زمان .. لحد ما جات الست دي ولعبت ف دماغه وفضلت تزن على ودانه عشان يعملها اللي هي عايزاه
ردد مصطفى بتعجب: ست؟ ست مين دي؟
قذف اسمها دفعة واحدة: باريهان
شهق أكرم بصدمة: باريهــــــــــــــــــاان ؟!
استدار إليه مؤكدا: أيوه، اللي كانت خطيبة حضرتك .. هي أصلا كانت قاصدة تخطف الآنسة مرام مش فــ... الآنسة فريدة
تساءلت غير مصدقة أناس بهذا الشر في محيطها: وليه؟
أخفى هشام ابتسامة أوشكت على الظهور رغما عنه لبراءتها وغفلتها عما حولها من شرور في هذا العالم، لا ترى سوى الخير والنفوس الطيبة في من حولها، رد بكلام من تلقى الصفعات تلو الأخرى، عالما بكل ما هو سيئ في العالم وغير معترف إلا بشر النفوس: عشان تضرب عصفورين بحجر واحد
أضاف ناظرا إلى أكرم الذي تجمد محدقا في الفراغ، لا يصدق أن بسببه مرام كانت سترقد في محل فريدة الآن لولا الظروف: تحرق قلبك ع البنت اللي فضلتها عليها .. وف نفس الوقت تاخد منك فدية تسدد بيها ديونها، لكن ظهور الآنسة فريدة ف آخر لحظة وأدخلت عشان تمنعه .. لا وكمان شافت وشه، دا خلاه ياخدها هي .. وكدا كدا هو أهم حاجه عنده الفدية سواء كانت دي أو دي
ختم القصة زافرا في ضيق: أنا ماكنتش أعرف الحكاية ولا إنه رجع لطريق السوو بتاعه تاني .. ولما عرفت حاولت أمنعه بالكلام ما عرفتش .. ووقع ف الكلام قدامي إن في بنت دلوقتي هتجيبله فلوس، فهمت أنه خاطفها، مشيت وراه وعرفت المكان اللي مخبيها فيه، قررت أرجع البت اللي خاطفها لأهلها وأقنعهم إنهم ما يبلغوش عنه .. كفايه عليه السنين اللي اتسجنها قبل كدا
كركر مصطفى بسخرية: لا ضحكتني .. دي فريدة كانت هتموت ف إيده ولا أهتم .. لازم تقولي مكانه ومش هأتنازل عن القضية وهيتسجن
قابل إصراره على تنفيذ الجملة الأخيرة بنظرة حزينة: ما عادش في داعي .. راح لرب عادل ياخد بحق كل اللي أتظلم على إيده
ترقرق الدمع بين جفونها بينما صدرت عنها شهقة فزع: مـــــــــــــاات ؟! .. ربنا يرحمه
اتسعت حدقتي هشام: بعد كل اللي عمله فيكي بتدعيله بالرحمة ؟ مش بتدعي عليه ؟
رددت فريدة حديثا كإجابة على استغراب هشام: الرسول -عليه الصلاة والسلام- قال: "لا تسبوا الأموات فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا" يعني في الاخر راح للي خلقه يحاسبه ..كفايه عليه
همهم هشام بإفتتان دون شعور: بجد مافيش منك دلوقتي
قبض مصطفى على كتفه بغيرة وغضب واضحين: كيس جوافة واقف أنا ولا إيه ؟ .. روح يا عم أكرم جيب شجرة وإتنين لمون
طمأنه بابتسامة باهتة: ربنا يخليهالك يا عم .. هو أنا قولت حاجه
زفر أكرم غير معجب بتغيير دفة الحديث: طب وباريهان ؟ لازم تروح تقول للبوليس ع اللي عملته؛ عشان تاخد جزاءها
- ماهي خلاص .. حصلت سعد
فغر أكرم فمه: يعني الاتنين ماتوا؟ إزاي؟
أوضح: بعد ما سبت الآنسة فريدة على باب الفيلا بتاعتكوا .. روحت لبيت الست دي، أنا كنت بأمشي وراه م الصبح، خرج من عندي على بيتها غالبا عشان ياخد فلوس؛ لإني لمحته بيعد رزمة وهو ماشي بعدين راح لآنسة فريدة .. فروحتلها بعد كدا عشان أقولها تبعد عن صاحبي وأقنعها ترجع عن اللي هي عايزاه .. روحت لاقيت الباب مفتوح، فدخلت .. لاقيت سعد غرقان ف دمه بس لسه فيه النفس .. حاولت أساعده أو اتصل بالإسعاف منعني .. وقالي "خلاص ما تتعبش نفسك الأمانة هترجع لصاحبها" .. سألته مين عمل فيك كدا، قالي باريهان .. لما حاول يغتصبها، وقالي إنه ماكانش ف واعيه بسبب الحشيش والبرشام اللي كان مبلبعه .. خرج آخر نفس ف صدره ومات، طلعت أدور على باريهان دي لاقيتها ف أوضة نايمه ع السرير وقاطعة شرايينها .. غرقانة ف دمها هي كمان .. كانت سايبه جنبها جواب قريته لاقيت فيه كل الحكاية اللي قولتهالكوا .. ولاقيت ع التربيزة اللي جنبها أدوية اكتئاب بصراحة خوفت تتفضح أكتر من إنتحارها .. حرام أشيّل سعد ذنبها وهو ذنبه كفايه عليه .. أخدت الرسالة معايا وسحبت جثته حطتها قدام مستشفى بعيدة عشان ماحدش يربط بين الحدثتين، ورِجعت البيت رجعت كل حاجه مكانها كأن حالة الاكتئاب هي السبب ف إنتحارها
دمدم أكرم تائها فيما يُقَص عليه: يـــــــــاااه .. كل دا؟
أكمل: قولت ف المستشفى اللي بيجيلها حالات قد كدا ومش لاقيالهم مكان مش هتهتم تشرح جثة واحد عشان تعرف مات إزاي وأهله وليه وإمتى وأكيد هيدفنوه ف مقابر الصدقة ع الأقل وهيلاقي اللي يصلي عليه .. لكن لو سبته كان هيتشرح ويتبهدل ف التحقيق وف الآخر هيترمي من غير ما حد يسأل فيه .. فكدا أحسنله وباريهان كفايه عليها فضايح من ديون لإنتحار بزيادة .. مش ناقصة اغتصاب وقتل وخطف وشروع ف قتل
عقبت: عين العقل يا أستاذ هشام
طوق مصطفى عنق هشام بقوة: تصدق أنا ماكنتش طايقك يالا، بس بعد حركات الرجولة اللي شوفتها منك .. مساعدة فريدة واللي عملته مع سعد وباريهان أنا استجدعتك
- ربنا يخليك
أكرم: أنت شكلك ابن حلال بس ظروفك هي السبب
سقطت رأسه بين كتفيه بحزن: أمي لازمها عملية قلب مفتوح ودي تتكلف 100 ألف جنيه وإلا ممكن تموت ف أي لحظة عشان كدا سرقت وكنت بالباقي هاسافر برا أشتغل حاجه تساعدني
سأله مصطفى: وعملتلها العملية؟
هز رأسه سلبا: خوفت لما أطلع الفلوس يقبضوا عليا .. بس دلوقتي والله هأروح اسلم الفلوس واسلم نفسي يمكن أكفر بيها عن ذنبي
جذبه مصطفى إلى الخارج: طب تعالى نتكلم برا شوية .. وإنتي ارتاحي عقبال ما أرجعلك
لحق بهم أكرم فيما تابعتهم فريدة بأعين تحمل مزيجا من الدهشة والقلق معا، لكن خروج أكرم معهم أرسل بعض الطمأنينة إلى نفسها، استرخت في نومتها تحاول دفع الصورة البشعة التي رسمتها كلمات هشام في ذهنها عن نهاية كل من باريهان وخاطفها.
***
في زاوية بها بعضا من الخصوصية، وقف مصطفى يتحدث إلى هشام: شوف يا بطل .. بما إنك جدع والظروف هي السبب، أنا هأتنازل عن القضية وكمان هأكلم آدم -جوز أخت أكرم- عشان عملية القلب المفتوح لمامتك بما إنه دكتور قلب
انشرح وجه هشام بسعادة: بجد يا أستاذ مصطفى؟
استقام مصطفى راسما الجدية على ملامحه: أومال هأهزر معاك؟
- بجد شكرا أوي .. ربنا يخليك ويرزقك من وسع
- طب مش عايز تكفر عن اللي عملته ف المزرعة ؟
تسرب الخوف إلى قلب هشام: إزاي؟
- هتيجي تشتغل فيها تاني .. بس المرة دي تحت عيني ولو حسيتك بتلعب بديلك كدا ولا كدا .. هـــــــــــاشـ......
قاطعه هشام مهللا بالصفحة الجديدة التي فتحها معه: من غير ما تكمل .. لا في كدا ولا في كدا
خبط على كتفه: طب يلا قدامي ع القسم بقى عشان نفض القضية .. أكرم خليك هنا جنب فريدة لحد ما أرجع
هز أكرم رأسه موافقا، حث صديقه على الذهاب مطمئنا: ما تقلقش .. مستنيك
بعدما انصرفوا، طرق باب حجرة فريدة، أذنت له بالدخول، أعلمها واقفا في فتحة الباب حتى يشعرها بالأمان: أنا برا، لو احتاجتي حاجه
تعجبت أنه حضر منفردا، قطبت تسأله وقد دب الخوف أوتاده مترسخا في نفسها: أومال فين مصطفى؟
لم يكن يريد إخبارها بما حدث، ترك حرية الحديث في هذا الأمر لمصطفى فهذا شئ لا يعنيه، أكتفى بقول: راح مشوار وراجع
خنقها القلق: هو في إيه يا أكرم؟
تنهد، روى لها ما حدث بين مصطفى وهشام، فخورا بتصرف صديقه الذي يدل على معدنه الأصيل وطيبة قلبه، زاد ذلك من حب مصطفى لديها وترسخه في منحنيات قلبها، ازدادت ثقتها بأنه الشخص المناسب، فالعفو عند المقدرة هو دليل قوة وليس ضعف، دليل على النضج والرجولة، تنهدت سعيدة بقرب إرتباطها به.
***
نهضت من فوق مقعد طاولة الزينة مقتربة من فراشها، على الجانب الآخر وقف أحمد يرفع الغطاء ليندس بين طياته، ناما على ظهريهما يحدقان في السقف.
الأفكار تسحبهما بعيدا كلما جذبهما سلطان النوم، لقد مرت الأيام كأنها سنوات، شردت في شقيقتها وما مرت به، كذلك إرتباطها بمصطفى فيما انشغل عقله تفكيرا في العمل الذي تكدس فوق مكتبه.
مالت رأسها وراقبته بعينيها، سألته دون أن تتحرك: بتفكر ف إيه ؟
- ف الشغل .. مشروع جديد عايز أدرسه كويس بس ...
قاطعته وقد انقلبت على جانبه مستندة إلى مرفقها فيما توسدت قبضة يدها: إجابة رومانسية جدا
استدارت رأسه وتقابلت عيونهما، ابتسم: ماكنتش أعرف إنك بتحبي الرومانسية
عادت تنام على ظهرها متنهدة: في فرق بين المُحن والرومانسية .. أنا مش بأحب المُحن وبردو ماعنديش مانع من شوية رومانسية
عقدت ذراعيها مضيفة وقد قطبت حاجبيها بعند: وبعدين إحنا لسه ف شهر العسل
اقترب منها وأسند رأسه على كتفها بينما تسللت ذراعه تحيط خصرها من أسفل الغطاء، أغمض عينيه وهمهم: حياتي كلها هتبقى معاكي عسل .. مش شهر بس
نظرت إليه بطرف عينها: كلهم بيقولوا كدا ف الأول
سألها ساخرا وقد حافظ على عينيه مغمضتين: والمفروض أنا رقم كام ف لستة الأزواج ف حياتك يا حبيبتي
صفعت كفه المبسوطة فوق بطنها: هاهاهاها، خِفة
صمتوا لفترة قبل أن تناديه، همهم بلغة لم تفهمها لكنها أدركت من خلالها أنه يصغي إليها ويستمع إلى ما تقوله: أنت كنت بتقول بس لكن ما كملتش
استغرقته دقيقة ليتبين مقصدها، تذكر حديثه الأول عن العمل، فتح عينيه محدقا بها مستهزئا: وهي دي الرومانسية من وجهة نظرك يا قلبي ؟
ابتسمت، هزت كتفيها: خلينا نعترف إن أنا وأنت مالناش ف الرومانسية
بادلها الابتسامة وعاد يغمض عينيها وقد دس وجهه بين كتفها وعنقها يشتم عبيرها الفواح: السكرتيرة اللي جات بعدك كانت بطيئة فمشيتها، والجديدة مالحقتش أجربها .. بكره هأروح وأشوف بس شكلها غبية .. الشغل متعطل والمشروع الجديد مهم، مش فاضي للسكرتيرات والدلع بتاعهم
- طب ما تخليني أرجع أشتغل معاك
شد ذراعه حولها: إحنا اتكلمنا ف الموضوع دا قبل كدا واتفقنا
تنهدت: بس أنت محتاجني
- أكيد محتاجك، بس هنا ف بيتنا، حياتنا الخاصة مش ف الشغل، هأتصرف وألاقي سكرتيرة مناسبة
أضاف عندما سمع الصوت المنزعج الذي أصدرته: ماتنسيش إن أختك هتتخطب قريب ولسه خارجة م المستشفى .. أكيد محتاجاكي
زمت شفتيها مقتنعة بوجهة نظره المؤقتة: طب خليني أختارلك السكرتيرة بدل ما تعطل نفسك
تنهد موافقا عندما لاحظ أهمية هذه المهمة البسيطة بالنسبة لها، لم تمر عدة دقائق حتى صاحت به: لاقيته
دمدم بتأفف، فقد انهكت قواه في الأيام الماضية وخسر حيويته: إيه ؟
- مش لازم سكرتيرة بنت، افتكرت واحد اشتغلت معاه لفترة ف الشركة اللي كنت فيها قبل ما أتوظف معاك، هو كان كويس جدا وعايز يسيب الشركة لأن أسلوبها مش عاجبه .. لكن مسئولياته منعته .. هأروح أكلمه بكره إيه رأيك ؟
انتزع نفسه من وضعه المحبب، استند إلى كفه محدقا بها بتعبير لم تفهمه: مين دا ؟
- اسمه خالد
- تعرفيه ؟
- يعني .. كلام عام كدا
- ورشحتيه ليه ؟
نظرت له بغباء: ما أنا قولتلك .. مسئولياته مانعاه يسيب الشركة دي وبيدور على شغل ف شركة تانية .. أكيد هيفيدك
التقط كفها الأيسر مداعبا خاتم زواجهما، حدق به: ماتنسيش إنك مراتي
رفعت إليه نظرها مقطبة: قصدك إيه ؟
ضربت الصاعقة رأسها، عضت شفتيها تمنعهما من الابتسام، شعرت بنظراته الحانقة لا تتزحزح بعيدا عن وجهها مغتاظا منع محاولتها الفاشلة في إخفاء سعادتها، تمتمت من بين ضحكاتها التي انفلتت: أصل الراجل اللي أنت غيران منه قرب م الخمسين سنة
ارتفعت زاوية فمه بشبه ابتسامة، طرق جبهته بجبهتها: بتتسلي بيا يا هند
لم تجب، اكتفت بزيادة معدل ضحكها، عاد لوضعية نومه السابقة قبل أن تقلقه بعرضها، استقرت رأسه بين كتفها وعنقها، همس بنبرة قوية ارتفعت لها دقات قلبها: عارفه لو أصغر من كدا ؟ .. كنت قتلته وشربت من دمه .. قدامك، مع إن سنه دا ما يمنعش إني أعملها معاه بس دي جزاة اللي يبصلك
تعالت قهقهتها، ربتت على خده باسمة وقد تسلل النوم إلى جفونها، أغمضت عينيها راضية: وهي دي قمة الرومانسية يا حبيبي
***
عادت إلى المنزل بعد طول غياب، رغم عدم مرور أسبوع على تركها المنزل شعرت أن قرنا يفصلها عن آخر مرة كانت به فيه.
جاء الجيران لتحيتها والترحيب بعودتها؛ حتى صديقة هند (منار) التي وصلت من سفرها وزارتها لكي تطمئن على حالها؛ فلقد اكتسبت حب الجميع ومودتهم بقلبها الأبيض ونفسها السمحة.
رحبت هند بصديقة دراستها، لقد فرقتهم الحياة ومشاغلها: أهلا أهلا بمنار هانم .. بقى اللي يتجوز يغيب كدا
قبلتها منار وضمتها بشوق ضاحكة: معلش، ما إنتي عارفه إنه اسكندراني وشغله وأهله هناك .. ولما أتجوزنا عيشنا ف اسكندرية .. ومش بأجي أصلا غير م السنة للسنة
أجلستها وجلست إلى جوارها: ماشي ياختي هأعديهالك عشان عارفه إنك مرتاحة ومبسوطة هناك
- ربنا يخليكي ليا يا هنوده .. وحمدالله ع السلامة يا فريدة
ضحكت فريدة: لسه فاكره .. دا إنتي قربتي تمشي يا شيخة
غمزتها باسمة: لا أنا قاعدة على قلبكوا شويه
رحبت بها بطيبة خاطر وكرم عربي: تنوري يا قمر
وصلت ندى برفقة ابنها، ضمت والدة هند قبل أن تنضم لجلسة البنات وتطمئن على فريدة، جذب سيف يده من كف أمه وركض إلى فريدة يتعلق برقبته ويقبلها بشوق: وحشتيني أوي يا ديده
ردت له قبلاته: وأنت أكتر يا روح ديده
وقفت منار لا تصدق عيونها، هتفت مقتربة من ندى فيما تُردد اسمها غير مصدقة، فقد طال الفراق ومرت الأيام دون رؤية إحداهما للأخرى: مش معقول
شهقت ندى بغبطة: منار، وحشتيني يا بنت الإيه
احتضنتها ندى بشوق وسعادة بائنة وكذلك بادلتها منار في البادية قبل أن تتردد وتتراجع في ألم وحزن بدا في صوتها وعيونها: إنتي كويسه؟
قهقهت ندى وعلقت بعفوية، فلم تدرك ما حل بصديقتها القديمة: زي الفل وإنتي أخبارك إيه؟
- الحمدلله، زي ما إنتي شايفه
- أنا بأقول نرغي برا ونسيب فريدة ترتاح
فغرت فريدة فمها بحركة مسرحية: أه يا خونه .. يهون عليكوا الرغي من غيري
غمزتها هند: هو إحنا ورانا غيره .. وبعدين الكلام بيتعاد
نادت ابنها: يلا يا سيفو .. سيب فريدة ترتاح
تشبث بعنقها رافضا تركها: لا، أنا عايز أفضل مع ديده
ضمته أكثر إلى صدها: خلاص سيبيه، دا حبيبي
استسلمت ندى لرغبتهما، خرجت بصحبة صديقتيها إلى غرفة هند السابقة؛ فقد عج الصالون بالضيوف المهنئين بسلامة فريدة وجلس معهم عبدالرحمن، يتقبل دعواتهم القلبية لابنته ويبادرهم بالسؤال بعد طول سفر، فيما غرفة المعيشة جلست بها مرام وأمها مع السيدات في جلسة تشبه المجاورة في الصالون.
***
رفع سيف نظراته البريئة إلى وجه فريدة؛ خائف أن يسبب لها الألم دون قصد: إنتي كويسه دلوقتي يا ديده؟
أجابته باسمة: أه زي الفل
- طب مش هتكمليلي السورة ؟
قطبت محاولة التذكر: سورة إيه؟
هتف: سورة عبس
أومأت متذكرة: ااااااااه .. أنت عايز تكملها يعني؟
هز رأسه صعودا وهبوطا بعنف: أيوه يا ديده
أشارت إلى عينيها على التوالي: من عنيا الجوز .. نكمل بقيتها بقى
"كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ * فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ * قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إلى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُم"
يعني ربنا بيقول كل حاجه ف القرآن ويوضح كل حاجه فيه .. وبيقول لعباده كل حاجه عن طريقه، فاللي عايز يعمل بيها يعمل .. واللي مش عايز بردو هو حر، وربنا رفع من قيمة التذكرة، ومطهره .. يعني بعيد عن إيد الشيطان، عشان ما ياخدوش أو يسرقه وحفظه بإيد الملايكه، لإن الملايكه هي السفير اللي بين ربنا واللي بيعبدوه .. اللي خيرهم كتير وأعمالهم حلوة وبالرغم من كل دا في ناس مصرة إنها تكفر، إزاي الإنسان عنيد أوي كدا، عشان ينسى إن ربنا خلقه من ماء مهين وخلقه ف أحسن مظهر وأحسن صورة .. وأداه أسباب كتير عشان يؤمن .. وهداه للصح، وكرمه بإنه لما يموت يتدفن مش زي الحيوانات .. وبعدين يرجع يحييه تاني عشان يحاسبه على أعماله ف الدنيا، فيكون مش عامل حاجه م اللي ربنا أمره بيها .. وأمره ربنا إنه يبص للأكل اللي قدامه ويفكر .. إزاي وصله وإزاي أتعمل
والمطر اللي بينزل دا، وربنا اللي خلى الأرض يبقى فيها حفرة أو فتحة عشان النبات يطلع منها، حتى النبات دا بيطلع أنواع كتير أوي .. منها اللي بياكله الإنسان ومنها الحبوب والعنب والزتون والنخل اللي فوايدهم كتير، وفيه الجناين اللي فيها أشجار كبيرة وتلف حوالين بعض، دا غير الفاكهة اللي أنا وأنت بناكلها؛ التين والرمان والخوخ وكله .. والأكل بتاع الحمار والحصان والحيوانات والطيور، الحيوانات دي بقى اللي ربنا خلقها عشان نركبها ونتمتع بيها وهما يتمتعوا بالاكل دا
"فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ"
ويجي بقى يوم القيامة، يومها هيهرب كل واحد من باباه ومامته وأصحابه وولاده ومراته؛ عشان كل واحد هيبقى مهتم بنفسه بس وعايز يخلص من النار والعذاب بتاعها .. منهم اللي فرحان إنه هيدخل الجنة ويتمتع بنعيمها، فتلاقي ناس وشوشها مبسوطة أوي وبتضحك فرحانه بالجنة .. وناس تانية مضايقه وزعلانه وتحس إن وشها أسود من يأسها لأنها عرفت إنها خلاص هتتعذب ف النار .. دول بقى هما اللي كفروا بربنا وأصروا يعملوا اللي ربنا أمرهم ما يعملهوش
- يعني أنا لو عملت اللي ربنا بيحبه هأدخل الجنة ؟
ابتسمت بحنان: طبعا .. مش لما أنت بتسمع الكلام ماما وبابا بيفرحوا بيك ويجيبولك هدية ؟
أومأ: أيوه
- ربنا بردو لما تسمع كلامه بيفرح بيك أوي وبيجبلك هدية بردو .. بس هدية ربنا كبيرة جدا اللي هي الجنة
باعد بين ذراعيه قائلا: أيوه، هدية ربنا كبيرة؛ عشان هو كبير أووووووي
قرصت وجنته بحب: صح كدا يا سيفو، أنت عارف بأعمل إيه مع الشطار ؟
نظر إليها بترقب: إيه؟
حملته بهدوء: بأشيلهم كدا .. وأنيمهم كدا.. وأزغزغهم كدا وكدا وكدا
ارتفع ضجيج ضحكته: كفايه يا ديده مـــ ... مش ... قادر
- لا، لازم أكلك .. هَم هَم هَم
***
جلست منار إلى جانب ندى في حجرة هند قبل الزواج، أحضرت مقعدا خشبيا من مقاعد طاولة السفرة وجلست معهما دقيقتين قبل أن تنهض متجهة إلى المطبخ: أنا هأدخل أعمل قهوة تشربوا؟
وافقتا على عرضها، خرجت هند وأغلقت الباب خلفها حتى لا يزعجهما ضجيج المنزل وصخب الضيوف، دنت منار من صديقتها أكثر، قالت بهمس: كويس إن هند قامت عشان كنت عايزه أكلمك ف موضوع
استدارت إليها بجسدها كاملا وقد استبد بها القلق، أومأت مقطبة إشارة إلى سماعها وإصغائها: إنتي حياتك مع جوزك عادية ؟ طبيعية يعني؟
اتسعت عيونها مندهشة: قصدك إيه ؟ مش فاهمه
تنهدت ونظرت أرضا: فاكره يا ندى لما كنا بنتمشى سوا بعد ما خلصنا إمتحانات وجاتلك ضربة شمس على توتر ووقعتي ف الشارع وأغمى عليكي
- أيوه .. بس بتسألي ليه؟
تلاعبت أصابعها بيد حقيبتها الموضوعة فوق فخذيها: أصلي عرفت إن الدكتور اللي ودايتك عنده يومها أتقبض عليه
استغربت علاقتها بما حدث للطبيب ولكن فضولها جعلها تتساءل: ليه؟
نظرت إليها ترغب في إمساك أي ردة فعل تطمئنها على صديقتها: حسب ما قريت ف الجرايد .. كان متعود يعمل علاقات مع المرضى بتوعه وغالبا من غير موافقتها .. وفي بنات منهم أهلهم صعايده كانوا أول ما يتعرف إنها ... مش ... بنت بنوت، أجوازتهم يقتلوهم من قبل ما يسألوا عن السبب .. ما عدا واحدة أخوها كان دارس برا وعاقل، فضل ورا الموضوع لحد ما عرف إن الدكتور دا هو اللي عمل فيها كدا .. ما قالوش عرف إزاي، المهم عمله كمين وأتفق مع واحدة صاحبة اخته ووعدها إنه هيحميها راحت للدكتور مغمى عليها وفعلا حاول يعتدي عليها وهي فاقدة الوعي، لولا الولد دا دخل ومعاه البوليس ومسكوا الدكتور متلبس واتحكم عليه .. لكن في ناس صعايده، أهالي بنات من اللي اعتدى عليهم والسبب في قتلهم لبناتهم سلطوا عليه واحد منهم كان ف السجن موته والدافع .. دفاع عن الشرف
أصفر وجه ندى، ترطبت عيونها بدموع حاولت مقاومة تساقطها دون جدوى، أبحرت في أفكارها غير مصدقة، كيف لطبيب أن يخون اليمين الذي قطعه على نفسه يوم تخرجه، كيف يخون الأمانة، لقد استأمنته العديد من الفتيات على أرواحهم.
أفاقت على شهقة منار الباكية: والله يا ندى ما كنت أعرف إنه بالشكل دا
مسحت دموعها المتسابقة في حفر الأخاديد على وجنتيها: إنتي عرفتي الكلام دا منين؟
منار: قريته ف الجرايد .. وحاولت أوصلك عشان أقولك وأطمن عليكي .. قالولي إنك أتجوزتي وسافرتي مع جوزك ف شهر العسل .. وماكنتش هأفتح الموضوع دا انهارده ولا هأجيب سيرته، بس لما شوفتك مبسوطه وابنك ما شاء الله عليه .. قولت يبقى إنتي تمام ف حبيت أعرفك عشان تحمدي ربنا على ستره
شردت أميالا بعيدة بتفكيرها عن حديث منار، ظلت تخبرها بكل ما قرأته وكُتِب في الجرائد عن أحوال من تم التعرف عليهن من مريضات ارتدن عيادته، تحثها على الشكر والحمد.
ترددت أفكار خاصة بها في رأسها، نعم سترها الله، أجل، تعذبت وبكت؛ لكن رد فعل آدم بالنسبة لأزواج الفتيات المقتولات ظلما شيئ لا يذكر، بلى سترها الله بزوج كآدم .. فحمدا لك يا الله.
أقبلت عليهما هند تحمل صينية بها ثلاث فناجين من القهوة، وضعتها على مقعد طاولة الزينة ثم جلست فوق مقعدها ترتشف من فنجانها بتعب، سألتها منار مدركة حالة الشرود التي أصابت الأخرى: أومال مرام فين ؟ ما شوفتهاش
- كانت هنا أول ماجيتي بس ف الأوضة التانية مع ماما والستات، بس نزلت من شوية .. راحت الكلية، عندها إمتحان أول مادة إنهارده
دعت لها منار: ربنا يسهلها الصعب
***
خرجت من الإمتحان لا تصغي إلى تأفف صديقتها من صعوبة الإمتحان وغلاظة الأستاذ الخاص بها، سارت إلى جانبها جسديا ولكن ذهنيا تبعد العديد من الكيلومترات.
راقبها من بعيد، لا يملك سوى ذلك، استدار مبتعدا في الطريق المعاكس لخروجها، تفرقت بهم السبل وتشتت الطرقات، فقدت أمل مبادلته لها نفس مشاعرها والإقدام على الخطوة التي سبقه إليها مصطفى وأحمد.
تنهدت بشدة وقبضت على حقيبتها تجذبها إلى أحضانها علّها تشعرها بالأمان، يجب أن تنساه كما نصحتها أختها، قد يكون زيادة تعلق قلبها به عن الحد هو ما تسبب في الفراق.
***
تقدم رسميا عقب خروجها من المستشفى بيوم واحد، أوضح ظروفه وأوضاعه لأهلها، قبل به عبدالرحمن فما رأه من حب في عيونه ورجولة في تصرفاته شفعت له، بعد أحاديث طويلة في شتى المواضيع، تركوهم يتحدثان بمفردهما على وعد بإكمال الحديث في التفاصيل بعد الجلسة المنفردة.
بادر بسؤالها:تحبي تبدأي إنتي ولا ابدأ أنا ؟
- اتفضل أنت الأول
- عايز أقولك إني اعتبر ع الحديده؛ لإن الفلوس اللي معايا كلها هاضطر أدخلها ف المزرعة عشان تقف على رجلها زي الأول، مش هأقدر اخاطر بالفلوس دي دلوقتي .. أه هأجيبلك الشبكة التي تختاريها بس على قد إمكانياتي .. وإن شاء الله أول ما ربنا يفتحها ف وشي هأجيبلك اللي تشاوري عليه
- وأنا مش هأتجوزك عشان هتجبلي شبكة غالية .. أصلا مش بأحب الدهب بس هأجيب حاجه بسيطة عشان أهلى؛ لإن ماما مش هترضى غير بكدا
- تمام، أدي نقطة .. أما الشقة ف أنا كنت عايش ف المزرعة ولما جيت هنا، كان عشان أرجع فلوسي وأقبض ع اللي سرقها ف قعدت عند أكرم .. هتقدري تعيشي معايا ف المزرعة؟
- هأعيش مع جوزي ف المكان اللي هو فيه .. ولو في النار
- وكمان هأنشغل عنك ف المزرعة ف أول فترة، يعني عقبال ما اتأقلم ع الجو وأظبط الدنيا
- وأنا هأقف جنبك وهأساعدك، ولا نسيت إني وبلا فخر دكتورة بيطرية قد الدنيا
قهقه: بلا فخر وقد الدنيا ف نفس الجملة، أومال لو عم فخر كان حاضر كان حصل إيه
قلصت الضحكة إلى بسمة سعيدة: حاجه تاني ؟
- أيوه .. بصراحه عشان نبقى على نور، أنا عرفت بنات كتير أشكال وألوان .. الشقرا والسمرا، البيضا والقمحية، الطويلة والقصيرة، تقدري تقولي كل الأصناف مرت عليا .. بكل الطرق؛ الصديقة والأخت حتى العشيقة بس عمري ما لاقيت نفسي إلا معاكي ولا حسيت إني عايز واحدة تبقى مراتي وأتجوزها غير لما شوفتك .. توبت من ساعتها ومابقتش شايف غيرك، كنت بأصلي ساعات وساعات بدأت ألتزم بالصلاة وف المسجد وهأقرب من ربنا على قد ما أقدر عشان يغفرلي ويسامحني .. بس لازم اتأكد إن كل دا مش هيفرق معاكي
قبضت يديها بقوة من مستهل حديثه، طعنة غيرة أصابتها ولم تستطع التغلب عليها لكن حديثه الذي تلى أنساها ما سبق، كانت تحلم بحصولها على زوج يعينها على ما تبقى من حياتها ويقربها إلى الله، فكرت الآن أنها أنانية منها أن تقبل من يرفعها ولا تقبل من يطلب منها رفعه معها، حدقت به تقرأ ملامحه وبعضا من لغة جسده، عجينة مصطفى طيبة قابلة للتقويم والتحسين، وقد يكون أفضل مما تمنته ولكن ببعض الجهد ومرور الوقت، تذكرت موقفه من هشام ووالدته، نعم، تستطيع أن تكون زوجة صالحة له ويصير من تمنته.
أجابته باسمة: ماشي .. وأنا هأنسى كل اللي فات من حياتك مادام نويت تبدأ معايا من جديد على بياض .. بس لو فكرت ترجع للقديم مرة تانية من غير نقاش هأسيبك وأمشي
وعدها بحماسة وصدق: عمري ما هأرجع للي كان؛ لإني ما أقدرش أعيش من غيرك .. كفايه اللي عشته لما شكيت بس إنه حصلك حاجه
- خلصت؟
- أه .. بس سؤال أخير
- اتفضل
- هتساعديني أقرب من ربنا وتاخدي بإيدي .. ولا هتسبيني وتقربي لوحدك وترميني وراكي؟، أنا عن نفسي مش هأعمل خير إلا وف نيتي إن ثوابه ليا وليكي .. مش هأدعي دعوة غير لما أدعيلك زيها، إن ما كانش أحسن منها .. قولتي إيه ؟
تنهدت براحة وابتسمت بغبطة صادقة: قولت .. موافقة واستعنى ع الشقا بالله
- شوفي إنتي بقى عايزه تعرفي إيه ؟
- خلاص، أنت قولت كل اللي كنت هاسأله
نهضت تنادي الأهل ليعودوا حتى تتم الأمور وينتهي الإتفاق بالكامل، لقد أنتهى دورها مؤقتا لكنها التفتت إليه: مصطفى
رفع بصره إليها: يا نعم
بوجه خالِ من أي تعبير سألته: مش عايز تشوف شعري؟
لم يتمالك نفسه من موجة الضحك التي غمرته: يعني إنتي لو طلعتي كارته هأرجع ف كلامي؟ ما أنا أدبست خلاص .. أطمني
اغتاظت من كلامه، همت بالمغادرة عندما ناداها ووقف أمامها، حدق في عينيها بعمق قائلا بجدية: بعد كل اللي بأحسه معاكي وبعد كلامنا دلوقتي واللي شوفته منك مافيش حاجه هتبعدني عنك أبدا يا ... ديده
أحمرت وجنتيها، أسرعت بالمغادرة، نادتهم ليعودوا إلى الغرفة وجلست في زاوية بعيدة تتابع الحوار وتتدخل عند اللزوم، ابتسمت داخليا وعيونها تتقافز فوق ملامح عريسها، شعرت بالفخر يملأها، لقد سألته عن رغبته في رؤية شعرها رغم علمها بعدم شروعية ذلك، حتى وإن قبل لم تكن لتوافقه، اختبارا أجتازه بنجاح، همست: إمتياز مع مرتبة الشرف
التفتت إليها مرام الجالسة بجوارها: بتقولي حاجه ؟
هزت رأسها، وعادت تُغرق نفسها في خيالاتها، تذكرت كلماته المازحة والتي دخلت قلبها دون طرق بابه، بساطته وخفة ظله تفرش سجادة حمراء أمامه في الطريق إلى قلبها.
أفاقت على نهاية النقاش، خُتم الإتفاق على أن يكون كتب الكتاب والزفة معا عقب إنتهاء إمتحانات مرام بيوم، أي بعد حوالي شهر ونصف، تكون خلال هذه المدة قد استعادت عافيتها وأتمت التجهيزات التي تحتاجها.
