رواية انا وانت يساوي الفصل الحادي والعشرين 21 بقلم سارة محمد
الفصل الحادي والعشرون
منزل يشبه الخاص بآل السويفي، لكن هناك عدة اختلافات أخرى، حيث الشبه الوحيد بينهما هو الموقع الراقي والنائي عن الضوضاء بالإضافة إلى الحجم الهائل لهيكل المنزل البنائي، حديثة تشكو الخراب وتنعى زمنا كانت فيه شديدة البهاء، أهملت الحديقة حتى بدت مزرية، تضر النظر ولا تسره، فقد تم الاستغناء عن البستاني؛ بسبب عدم توفر المال الكافي لدفع أجرته.
اقترب سعد من باريهان والرغبة تتصاعد من عينيه، ظلت تتراجع حتى اصطدمت بالجدار خلفها فهوى عليها سعد بجثته الضخم مقارنة بجسدها الضئيل، تلمس جسدها بيديه الخشنتين القذرتين فيما تحاول دفعه بعيدا عنها، تدفع ذقنه بيد حتى لا تشتم رائحة أنفاسه المليئة بالمخدرات، وبالآخرى تدفع يده التي تلمسها، صرخت به: أبعد عني يا حيـــــــــــــواان
كان مغيبا بما تناوله من مذهبات للعقل، لم يهتم قيد أنملة بما تقول؛ فقد انشغل بملامستها ومحاولة التقرب إليها، كافحت في مقاومته ودرأه بعيدا عن جسدها، لوحت بيدها في الهواء حتى وقعت على سكين صغير، تستخدم في فتح الرسائل .. كانت قد تركتها والدتها بعد فتحها رسائل الدائنين المستمرة وتركتها على الطاولة، قبضت عليها بقوة، رأتها وسيلة نجاتها الوحيدة، انهلت بها على جسده تمزق أنسجته وتقطع جلده السميك.
ظلت تطعنه وقد فقدت السيطرة على عقلها وتصرفاتها؛ مصابة بهستيرية، سقط على الأرض يشرب دما من كل بدنه، كل فتحة خلفتها السكين بجسده نبضت دماؤه خارجها، تأوه بصوت أبح، ليس به طاقة وقد توقفت أحباله الصوتية عن تأدية وظيفتها، رغم ذلك استمرت في طعنه، لا رؤية الدماء ولا سقوطه أسفل قدميها شفعا له عندها، على صوتها بالسب واللعن فيه وفيما حاول فعله بها حتى سقطت على ركبتيها تنظر إلى ما أرتكبته يداها باكية بقهر وحرقة خوفا مما هو قادم وعواقب فعلتها.
***
دق جرس الباب بينما هم منتظرين تعليمات الخاطف لكي ينال المبلغ المتفق عليه في مقابل فريدة، اتجهت ندى تفتح الباب، لم تجد أحدا، همت بإغلاقه حين لمحت شيئا غريبا ملقى أرضا، نزلت بنظرها تدريجيا لترى جسد غارق في الدماء أمام ناظريها، ركعت بجوارها تشهق صارخة: فريدة
انطلق الجميع إلى حيث تجلس ندى تنتحب ما حدث لصديقتها وما تراه عيناها من منظر ترق له أقسى القلوب، دفع مصطفى الجميع يسبقهم وما إن رأى الدماء التي تغرق بها حبيبته حتى حملها وركض بها إلى سيارته، لم ينتظر لحظة قد تضيع في التفكير قبل الاتصال بسيارة الإسعاف أو فترة أخرى لا يعلم مدتها إلا الله في إنتظار وصول السيارة.
لحقوا به بعدما وضعها في المقعد الخلفي، ركب في مقعد السائق، اندفعت مرام تزج جسدها الصغير بجوار أختها، وأكرم صعد بجانب مصطفى في الكرسي الأمامي قبل أن ينطلق الأخير بسرعته القصوى، خلفهم باقِ العائلة.
كلما وقعت عيونه على شكل جسدها الدامي في المرآة، يشعر كأن دقات قلبه توشك على التوقف وتركه كذلك، دعس على دواسة البنزين بأقصى قوته؛ فهو لا يستطيع الاستغناء عنها بعد الآن.
حاول أكرم جعله يقلل من سرعته لكن مرام صرخت به بحدة وكره: سيبه يسوق بسرعة، أنت مش شايف غرقانة ف دمها إزاي ؟ .. دي بقالها يومين بتنزف
وصلوا المستشفى سالمين ومصطفى يحمل فريدة، أتت عدة ممرضات يقودن سرير المشفى المتحرك المخصص لاستقبال الحالات في غرفة الطوارئ، وضع مصطفى جسدها فوقه، وابتعد مكرها، أتى الطبيب راكضا بينما يلقي تعليماته يمينا ويسارا إلى الممرضات، وضع السماعة فوق قلبها ثم صرخ بصوت عالٍ: دخلوها ع الأوضة بسرعة
وقف خارج الغرفة يستمع إلى آخر كلمات الطبيب وتعليماته قبل إنغلاق الباب خلفه مع ما تبقى من حبه وحياتها التي أوشكت على الإنتهاء: قيسيلي الضغط .. وإنتي شوفيلي فصيلة دمها إيه
جرت دموعه تحفر أخاديدا فوق وجنتيه بعد ساعات من الجفاف، شاركه البقية حالة مشابهة في انتظار الأنباء من الطبيب. خرج الطبيب، فتوجهوا إليه مترجين إياه بأعين صامتة أخبار مفرحة تعوض عما مروا به.
كانت إيمان أول من تحدث، سألت الطبيب: فيها إيه بنتي يا دكتور؟
أجابها بهدوء الأطباء وجمودهم: هندخلها العمليات دلوقتي
ضربت بيدها فوق صدرها وأصدرت شهقة مرتاعة: عمليات ؟!
- أيوه .. نزفت كمية دم كبيرة .. والجرح ملتهب
أوضحت هند: أيوه دا بقاله يومين ع الحال دا يا دكتور
قطب الطبيب حاجبيه: يومين؟ .. جرح بالمنظر اللي شوفته ما يخليهاش تعيش أكتر من كام ساعه بس .. يظهر إن ربنا واقف معاها ومديها عمر، أدعولها .. وياريت حد يتبرعلها بدمه ضروري هي دمها
A+
أسرع مصطفى: وأنا بردو
نظر الطبيب إلى الممرضة التي خرجت لتوها من غرفة المريضة، وجه تعليماته إليها قائلا: خديه وانقليلي دم فورا
انصرف الطبيب حتى يستعد للعملية، ومصطفى ذهب برفقة الممرضة يتبرع بجزء من دمائه.
***
ماتزال الممرضة تحول دمه عبر الأنبوب الرفيع إلى أكياس خاصة حتى يتم نقلها إلى المريضة في غرفة العمليات، تعلق نظره بسريان الدم عبر الأنبوب، كان يتوسله داخليا أن يسرع حتى تعود له من عشقها فؤاده في أقرب وقت، غامت عيناه وصار يفتحها بصعوبة شديدة، دلف أكرم إليه حاملا حقيبة بلاستيكية مليئة بعلب العصير المعلبة: عشت وشوفتك عندك دم يا درش
ابتسم مصطفى باعياء رغما عنه: عشان لما أقولك على حاجه بعد كدا .. تصدقني
ابتسمت الممرضة من مزاحهم: لا عنده دم ما تقلقش، دا متبرع لحد دلقتي بـ3 أكياس دم ودا الرابع
أطلق أكرم صفيرا وقد رفع حاجبيه مندهشا: ما شاء الله .. أنا جيت ف وقتي بقى
أخرج إحدى زجاجات العصير، مدها لمصطفى: اتفضل يا وحش
سأله غير قادرا على الرؤية بوضوح لتبين ما لوح به أمام ناظريه: إيه دا؟
- سلامة الشوف .. دا عصير
- لا ماليش نفس.. المهم فريدة عامله إيه؟
- لسه ف العمليات
- ربنا يخرجهالي بالسلامه
قهقه أكرم: ياعم ياعم، الناس بتتصفى دمها ومع ذلك فيها نفس تحب
جاره ضاحكا على قدر طاقته: أهو نقك دا اللي جابنا ورا
- هههههه لا نق ولا قر .. خد اشرب العصير
- قولتلك مش عايز، صحوبية إيه دي
تدخلت الممرضة تنصح مريضها: لو بتحبها فعلا اشرب العصير زي ما صاحبك بيقولك؛ عشان تعوض الدم اللي اتبرعت بيه .. عشان لما تخرج من العمليات بالسلامة، يبقى فيك حيل تروح تشوفها .. ولا ناوي تحصلها ع العمليات ونشوفلك أنت كمان حد ينقلك دم؟
تأفف ولكنه اقتنع، مد ذراعه لصديقه: هات يا عم
أبعد الزجاجة عن متناول يديه، وناوش صديقه قليلا حتى قذفه بوسادة لم تتحرك سوى مليمترات قليلة؛ لضعف قوته وضمور عضلاته لقلة الطاقة المخزنة بها.
قهقه أكرم معقبا على حال صديقه اللعوب: صحيح، الحب ذلال الرجال
***
جلس الجميع بحجرة فريدة بعدما طمأنهم الطبيب على حالتها وسمح لها باستخدام غرفة عادية، تساقطت التهنئات فوق رأسها وتكررت كلمات الحمد وآهات الشكر على مسامعها، تقبلت كل ذلك دون تزمر أو تأفف، ابتسامة هادئة محبة تضيئ وجهها الباهت؛ فما مرت به ليس بالهين، نظراتها تتقافز فوق وجههم، تطبعها في ذهنها، سعيدة بوجودها بينهم.
انتفض مصطفى واقفا فجأة في منتصف الغرفة وقد تركزت عيونه على وجه عبدالرحمن: بص يا عم عبدالرحمن .. أنا بنتك العيانة، اللي مرمية ع السرير دي .. طلعت عيني، آي والله
عقدت ذراعيها ونظرت إليه مشيرة إلى عينيه على التوالي: أومال إيه اللي ف وشك دي؟
تنحنح: دي عين سلف .. مالكيش دعوة، أنا بأكلم عمي مش إنتي يا حِشرية
رفع والدها كفه يمنعها من الرد والدخول في دائرة لن تنتهي، يستمر كل منهما في قذف الآخر دون نهاية، أومأ لمصطفى حتى يتابع حديثه، يستعجل الوصول إلى غرضه: طب كمل يا ابني
أكمل بجدية وقد قطب ما بين حاجبيه حينا وغامت عيونه في شرود أحيانا أخرى: أنا خوفت عليها لما اتخطفت، خوف عمري ما دوقته في حياتي .. ومش عايز أدوقه تاني أبدا .. كان هاين عليا أموت ولا حد يمس شعرة واحدة من راسها .. بس عذري الوحيد إنها كانت بعيدة عني، لكن من دلوقتي هأخليها تحت عيني على طول .. لا وتشاركني حياتي كمان، ف بعد إذنك يا عمي أنا طالب القرب منك ف بنتك فريدة .. قولت إيه؟
أخفى والدها قطرات الماء المختلظة بالملح التي لمعت بين جفنيه، لطالما فكر في عدم تزويج بِكرُه؛ ظنا منه عدم وجود الشخص الصالح لها، من يحبها ويحترمها، يأتمنه عليها ويرتاح في وجوده برفقته، شجاعة مصطفى في التعبير عن مشاعره بهذا الوضوح أمام الجميع وأمام أهلها قبلها أكدت حسن نيته وجمال عريكته، تذكر حاله أثناء إختفاء ابنته، كل موقف وكل ذكرى في صفه، أكتفى بقول: الرأي رأيها .. هي اللي هتتجوز
التفت إلى عروسه: رأيك إيه ؟
بالكاد استطاعت أخذ كفايتها من الهواء لتُبقي رئتيها على عملهما، خليط من الغبطة والحياء تنافسوا بداخلها، عبثت بطرف الغطاء فوق بطنها ونظرها يحدق في الرسمة فوقه دون إدراك لحقيقة شكلها، ازدردت ريقها بصعوبة قبل أن تهمس بخفوت خَجِل: اللي تشوفوه
انطلقت الزغاريط من صابرين وإيمان، وعادت المباركات والتهاني تتساقط فوق رأسها لكن هذه المرة ليست وحدها بل مع شريكها منذ الآن وإلى الأبد، لم تنظر له طوال الدقائق التالية سوى مرة واحدة أرادت أن تستشف عبرها حقيقة شعوره، كأنه شعر بنظرتها تخترج ظهره فاستدار نصف استداره، تلاقت الأعين وتوقف الزمان، غمزها متبسما ثم عاد يوليها عرض أكتافه، لمعت عيونها وزادت بهجتها وتقبلت التهاني بسعادة أكبر.
خاطب عبدالرحمن زوج ابنته المستقبلي محذرا: بس الكلام دا ما ينفعش، لازم رسمي .. وتيجي البيت من بابه
هتف مصطفى: فوريره .. أنت هتروح تلاقيني بأفتحلكوا الباب
ضحكوا جميعا فرحين بعودته إلى طبيعته المرحة، فقد اكتئب كثيرا ونسى الضحك كأنه لم يعرف له طريقا من قبل.
تشبث الأب بيدي ابنتيه فريدة ومرام: وأنا مش هأسيبكوا بعد كدا أبدا، هتسافروا معايا ومع أمكوا
تدخل مصطفى صارخا فيما يحدق بيد فريدة المعلقة في قبضته القوية: جرا إيه يا حاج .. إيش حال لسه بأقولك هأتجوزها، هأتجوزها والله العظيم .. هأتجوزهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــااا .. يا عالم ياهووو هأتجوزهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
عضت على باطن خدها تمنع ضحكتها من الإنفلات: بس يا مجنون فضحتنا
نظر لها بهيام: مجنون بيكي
كاد ينقلب فوق وجهه إثر الضربة التي تلقاها من عبدالرحمن، التفت إليه: ما تلم نفسك يا واد، أنا مش مالي عينك ولا إيه؟
أحمر وجهه عندما أدرك فعلته اللاشعورية: إحم إحم .. آسف يا عمي .. هي اللي استفزتني والله
لم يشعر بالحسد الذي تغلل في قلب أكرم، على الأقل لديه الحق في التعبير عن رأيه والاعتراض على فراق حبيبته، فيما هو يكتفي بالنظر إليها حتى يُشبع نفسه منها، تناسى حُرمانية نظرته، فداحة خطأه، فقط يُركز عليها، حركاتها، بسمتها، خصلة شعرها الهاربة من جانب حجابها، يتأمل أناملها الصغيرة التي تندس بين ثناياه تدفع ما هرب من شعرها إلى الداخل، قبض على يديه؛ حانقا على الخصلة المتمردة التي سمحت لسواه برؤيتها، يشعر بقلة حيلته وقصر يديه عن دفس الخصلة بأصابعه هو.
- مرام خلاص قربت تخلص إمتحانات، وكدا كدا دي آخر سنة ليها وتكون فريدة استقرت واتفقنا وبعدين نسافر .. ولا إيه رأيك يا بنتي؟
همست بابتسامة باهتة: اللي تشوفوه حضرتك
-على خير إن شاء الله
سألت ندى متعجبة: صحيح يا ديده، إنتي إزاي جيتي على باب البيت؟ .. ماحدش أخد الفلوس رجعوكي ليه؟
نكزها آدم بعتاب: إيه الكلام دا يا ندى
اعتدلت في جلستها وأجابت: لا لا سيبها، أنا فاهمة قصدها .. مش عارفه أنا لما حاولت افتكر .. افتكرت إني شوفت هشام
برقت عيون مصطفى بغضب: هشـــــــــــــــــام ؟!، وهو إيه اللي عرفه مكانك ؟
هزت كتفيها جهلا: كل اللي فكراه إنه جه قالي "هأرجعك لأهلك" وبعدين قالي إنه مش هيقدر يعملي أكتر من كدا .. بس
رغبت مرام في معرفة ما حدث بالتفصيل فسألت هي الأخرى: طب بعد ما سيبتك إيه اللي حصل؟ وخدك ليه؟
- بعد ما إنتي مشيتي أنا شلت القناع من على وشه من غير ما ياخد باله، تقريبا خاف على نفسه إني أتعرف عليه بعد كدا، ف خدني معاه وأهو يمكن ياخد من ورايا فلوس ولا حاجه
استفسرت هند: بس إزاي ماحدش سمع حاجه من صريخك إنتي ومرام ؟
أجابها زوجها مبررا: عشان الفرح كان خالص متأخر وكل الشارع كان فيه .. وكل واحد ما صدق ينام ويرتاح شوية
أنهت صابرين الحديث في هذا الموضوع؛ حتى لا تزيد الضغط على أعصاب فريدة وهي ماتزال راقدة الفراش: المهم إنك قومتي بالسلامة وعدت على خير
صرحت ندى بفخر: وسيف لما قال إنك راجعه وشاف حد شالك وجابك طلع بيعرف الغيب ابن الإيه
آدم: إحم إحم .. الإيه واقف جنبك على فكرة
ضحكت مخرجة لسانها: وأنا ما أقصدكش على فكرة
فريدة: سيف دا زي العسل ربنا يخليهولك
ندى: كان نفسي أجيبه بس انشغلنا بيكي .. كان نايم فسيبته مع الداده
أومأت متفهمة: لما اخرج هأشوفه أكيد ما تقلقيش
تمسك مصطفى بكلماتها: أيوه اخرجي بسرعة بقى .. بسرعة هـــــــــــــا؟ .. ما أوصكيش
قهقه ياسين محركا نظراته بين أحمد ومصطفى: أنتوا كلكوا مسروعين ع الجواز كدا ؟
ابتسمت صابرين: ربنا يسعدهم
التفتت إيمان إلى أكرم: عقبالك
دعت فريدة لشقيقتها بلمحة لم يدركها سواهما: عقبالك يا مرام
ضربت ندى كفا بكف مقهقهة: دوقوا الطبول دقوا .. قلبنا المستشفى خاطبة
منزل يشبه الخاص بآل السويفي، لكن هناك عدة اختلافات أخرى، حيث الشبه الوحيد بينهما هو الموقع الراقي والنائي عن الضوضاء بالإضافة إلى الحجم الهائل لهيكل المنزل البنائي، حديثة تشكو الخراب وتنعى زمنا كانت فيه شديدة البهاء، أهملت الحديقة حتى بدت مزرية، تضر النظر ولا تسره، فقد تم الاستغناء عن البستاني؛ بسبب عدم توفر المال الكافي لدفع أجرته.
اقترب سعد من باريهان والرغبة تتصاعد من عينيه، ظلت تتراجع حتى اصطدمت بالجدار خلفها فهوى عليها سعد بجثته الضخم مقارنة بجسدها الضئيل، تلمس جسدها بيديه الخشنتين القذرتين فيما تحاول دفعه بعيدا عنها، تدفع ذقنه بيد حتى لا تشتم رائحة أنفاسه المليئة بالمخدرات، وبالآخرى تدفع يده التي تلمسها، صرخت به: أبعد عني يا حيـــــــــــــواان
كان مغيبا بما تناوله من مذهبات للعقل، لم يهتم قيد أنملة بما تقول؛ فقد انشغل بملامستها ومحاولة التقرب إليها، كافحت في مقاومته ودرأه بعيدا عن جسدها، لوحت بيدها في الهواء حتى وقعت على سكين صغير، تستخدم في فتح الرسائل .. كانت قد تركتها والدتها بعد فتحها رسائل الدائنين المستمرة وتركتها على الطاولة، قبضت عليها بقوة، رأتها وسيلة نجاتها الوحيدة، انهلت بها على جسده تمزق أنسجته وتقطع جلده السميك.
ظلت تطعنه وقد فقدت السيطرة على عقلها وتصرفاتها؛ مصابة بهستيرية، سقط على الأرض يشرب دما من كل بدنه، كل فتحة خلفتها السكين بجسده نبضت دماؤه خارجها، تأوه بصوت أبح، ليس به طاقة وقد توقفت أحباله الصوتية عن تأدية وظيفتها، رغم ذلك استمرت في طعنه، لا رؤية الدماء ولا سقوطه أسفل قدميها شفعا له عندها، على صوتها بالسب واللعن فيه وفيما حاول فعله بها حتى سقطت على ركبتيها تنظر إلى ما أرتكبته يداها باكية بقهر وحرقة خوفا مما هو قادم وعواقب فعلتها.
***
دق جرس الباب بينما هم منتظرين تعليمات الخاطف لكي ينال المبلغ المتفق عليه في مقابل فريدة، اتجهت ندى تفتح الباب، لم تجد أحدا، همت بإغلاقه حين لمحت شيئا غريبا ملقى أرضا، نزلت بنظرها تدريجيا لترى جسد غارق في الدماء أمام ناظريها، ركعت بجوارها تشهق صارخة: فريدة
انطلق الجميع إلى حيث تجلس ندى تنتحب ما حدث لصديقتها وما تراه عيناها من منظر ترق له أقسى القلوب، دفع مصطفى الجميع يسبقهم وما إن رأى الدماء التي تغرق بها حبيبته حتى حملها وركض بها إلى سيارته، لم ينتظر لحظة قد تضيع في التفكير قبل الاتصال بسيارة الإسعاف أو فترة أخرى لا يعلم مدتها إلا الله في إنتظار وصول السيارة.
لحقوا به بعدما وضعها في المقعد الخلفي، ركب في مقعد السائق، اندفعت مرام تزج جسدها الصغير بجوار أختها، وأكرم صعد بجانب مصطفى في الكرسي الأمامي قبل أن ينطلق الأخير بسرعته القصوى، خلفهم باقِ العائلة.
كلما وقعت عيونه على شكل جسدها الدامي في المرآة، يشعر كأن دقات قلبه توشك على التوقف وتركه كذلك، دعس على دواسة البنزين بأقصى قوته؛ فهو لا يستطيع الاستغناء عنها بعد الآن.
حاول أكرم جعله يقلل من سرعته لكن مرام صرخت به بحدة وكره: سيبه يسوق بسرعة، أنت مش شايف غرقانة ف دمها إزاي ؟ .. دي بقالها يومين بتنزف
وصلوا المستشفى سالمين ومصطفى يحمل فريدة، أتت عدة ممرضات يقودن سرير المشفى المتحرك المخصص لاستقبال الحالات في غرفة الطوارئ، وضع مصطفى جسدها فوقه، وابتعد مكرها، أتى الطبيب راكضا بينما يلقي تعليماته يمينا ويسارا إلى الممرضات، وضع السماعة فوق قلبها ثم صرخ بصوت عالٍ: دخلوها ع الأوضة بسرعة
وقف خارج الغرفة يستمع إلى آخر كلمات الطبيب وتعليماته قبل إنغلاق الباب خلفه مع ما تبقى من حبه وحياتها التي أوشكت على الإنتهاء: قيسيلي الضغط .. وإنتي شوفيلي فصيلة دمها إيه
جرت دموعه تحفر أخاديدا فوق وجنتيه بعد ساعات من الجفاف، شاركه البقية حالة مشابهة في انتظار الأنباء من الطبيب. خرج الطبيب، فتوجهوا إليه مترجين إياه بأعين صامتة أخبار مفرحة تعوض عما مروا به.
كانت إيمان أول من تحدث، سألت الطبيب: فيها إيه بنتي يا دكتور؟
أجابها بهدوء الأطباء وجمودهم: هندخلها العمليات دلوقتي
ضربت بيدها فوق صدرها وأصدرت شهقة مرتاعة: عمليات ؟!
- أيوه .. نزفت كمية دم كبيرة .. والجرح ملتهب
أوضحت هند: أيوه دا بقاله يومين ع الحال دا يا دكتور
قطب الطبيب حاجبيه: يومين؟ .. جرح بالمنظر اللي شوفته ما يخليهاش تعيش أكتر من كام ساعه بس .. يظهر إن ربنا واقف معاها ومديها عمر، أدعولها .. وياريت حد يتبرعلها بدمه ضروري هي دمها
A+
أسرع مصطفى: وأنا بردو
نظر الطبيب إلى الممرضة التي خرجت لتوها من غرفة المريضة، وجه تعليماته إليها قائلا: خديه وانقليلي دم فورا
انصرف الطبيب حتى يستعد للعملية، ومصطفى ذهب برفقة الممرضة يتبرع بجزء من دمائه.
***
ماتزال الممرضة تحول دمه عبر الأنبوب الرفيع إلى أكياس خاصة حتى يتم نقلها إلى المريضة في غرفة العمليات، تعلق نظره بسريان الدم عبر الأنبوب، كان يتوسله داخليا أن يسرع حتى تعود له من عشقها فؤاده في أقرب وقت، غامت عيناه وصار يفتحها بصعوبة شديدة، دلف أكرم إليه حاملا حقيبة بلاستيكية مليئة بعلب العصير المعلبة: عشت وشوفتك عندك دم يا درش
ابتسم مصطفى باعياء رغما عنه: عشان لما أقولك على حاجه بعد كدا .. تصدقني
ابتسمت الممرضة من مزاحهم: لا عنده دم ما تقلقش، دا متبرع لحد دلقتي بـ3 أكياس دم ودا الرابع
أطلق أكرم صفيرا وقد رفع حاجبيه مندهشا: ما شاء الله .. أنا جيت ف وقتي بقى
أخرج إحدى زجاجات العصير، مدها لمصطفى: اتفضل يا وحش
سأله غير قادرا على الرؤية بوضوح لتبين ما لوح به أمام ناظريه: إيه دا؟
- سلامة الشوف .. دا عصير
- لا ماليش نفس.. المهم فريدة عامله إيه؟
- لسه ف العمليات
- ربنا يخرجهالي بالسلامه
قهقه أكرم: ياعم ياعم، الناس بتتصفى دمها ومع ذلك فيها نفس تحب
جاره ضاحكا على قدر طاقته: أهو نقك دا اللي جابنا ورا
- هههههه لا نق ولا قر .. خد اشرب العصير
- قولتلك مش عايز، صحوبية إيه دي
تدخلت الممرضة تنصح مريضها: لو بتحبها فعلا اشرب العصير زي ما صاحبك بيقولك؛ عشان تعوض الدم اللي اتبرعت بيه .. عشان لما تخرج من العمليات بالسلامة، يبقى فيك حيل تروح تشوفها .. ولا ناوي تحصلها ع العمليات ونشوفلك أنت كمان حد ينقلك دم؟
تأفف ولكنه اقتنع، مد ذراعه لصديقه: هات يا عم
أبعد الزجاجة عن متناول يديه، وناوش صديقه قليلا حتى قذفه بوسادة لم تتحرك سوى مليمترات قليلة؛ لضعف قوته وضمور عضلاته لقلة الطاقة المخزنة بها.
قهقه أكرم معقبا على حال صديقه اللعوب: صحيح، الحب ذلال الرجال
***
جلس الجميع بحجرة فريدة بعدما طمأنهم الطبيب على حالتها وسمح لها باستخدام غرفة عادية، تساقطت التهنئات فوق رأسها وتكررت كلمات الحمد وآهات الشكر على مسامعها، تقبلت كل ذلك دون تزمر أو تأفف، ابتسامة هادئة محبة تضيئ وجهها الباهت؛ فما مرت به ليس بالهين، نظراتها تتقافز فوق وجههم، تطبعها في ذهنها، سعيدة بوجودها بينهم.
انتفض مصطفى واقفا فجأة في منتصف الغرفة وقد تركزت عيونه على وجه عبدالرحمن: بص يا عم عبدالرحمن .. أنا بنتك العيانة، اللي مرمية ع السرير دي .. طلعت عيني، آي والله
عقدت ذراعيها ونظرت إليه مشيرة إلى عينيه على التوالي: أومال إيه اللي ف وشك دي؟
تنحنح: دي عين سلف .. مالكيش دعوة، أنا بأكلم عمي مش إنتي يا حِشرية
رفع والدها كفه يمنعها من الرد والدخول في دائرة لن تنتهي، يستمر كل منهما في قذف الآخر دون نهاية، أومأ لمصطفى حتى يتابع حديثه، يستعجل الوصول إلى غرضه: طب كمل يا ابني
أكمل بجدية وقد قطب ما بين حاجبيه حينا وغامت عيونه في شرود أحيانا أخرى: أنا خوفت عليها لما اتخطفت، خوف عمري ما دوقته في حياتي .. ومش عايز أدوقه تاني أبدا .. كان هاين عليا أموت ولا حد يمس شعرة واحدة من راسها .. بس عذري الوحيد إنها كانت بعيدة عني، لكن من دلوقتي هأخليها تحت عيني على طول .. لا وتشاركني حياتي كمان، ف بعد إذنك يا عمي أنا طالب القرب منك ف بنتك فريدة .. قولت إيه؟
أخفى والدها قطرات الماء المختلظة بالملح التي لمعت بين جفنيه، لطالما فكر في عدم تزويج بِكرُه؛ ظنا منه عدم وجود الشخص الصالح لها، من يحبها ويحترمها، يأتمنه عليها ويرتاح في وجوده برفقته، شجاعة مصطفى في التعبير عن مشاعره بهذا الوضوح أمام الجميع وأمام أهلها قبلها أكدت حسن نيته وجمال عريكته، تذكر حاله أثناء إختفاء ابنته، كل موقف وكل ذكرى في صفه، أكتفى بقول: الرأي رأيها .. هي اللي هتتجوز
التفت إلى عروسه: رأيك إيه ؟
بالكاد استطاعت أخذ كفايتها من الهواء لتُبقي رئتيها على عملهما، خليط من الغبطة والحياء تنافسوا بداخلها، عبثت بطرف الغطاء فوق بطنها ونظرها يحدق في الرسمة فوقه دون إدراك لحقيقة شكلها، ازدردت ريقها بصعوبة قبل أن تهمس بخفوت خَجِل: اللي تشوفوه
انطلقت الزغاريط من صابرين وإيمان، وعادت المباركات والتهاني تتساقط فوق رأسها لكن هذه المرة ليست وحدها بل مع شريكها منذ الآن وإلى الأبد، لم تنظر له طوال الدقائق التالية سوى مرة واحدة أرادت أن تستشف عبرها حقيقة شعوره، كأنه شعر بنظرتها تخترج ظهره فاستدار نصف استداره، تلاقت الأعين وتوقف الزمان، غمزها متبسما ثم عاد يوليها عرض أكتافه، لمعت عيونها وزادت بهجتها وتقبلت التهاني بسعادة أكبر.
خاطب عبدالرحمن زوج ابنته المستقبلي محذرا: بس الكلام دا ما ينفعش، لازم رسمي .. وتيجي البيت من بابه
هتف مصطفى: فوريره .. أنت هتروح تلاقيني بأفتحلكوا الباب
ضحكوا جميعا فرحين بعودته إلى طبيعته المرحة، فقد اكتئب كثيرا ونسى الضحك كأنه لم يعرف له طريقا من قبل.
تشبث الأب بيدي ابنتيه فريدة ومرام: وأنا مش هأسيبكوا بعد كدا أبدا، هتسافروا معايا ومع أمكوا
تدخل مصطفى صارخا فيما يحدق بيد فريدة المعلقة في قبضته القوية: جرا إيه يا حاج .. إيش حال لسه بأقولك هأتجوزها، هأتجوزها والله العظيم .. هأتجوزهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــااا .. يا عالم ياهووو هأتجوزهــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
عضت على باطن خدها تمنع ضحكتها من الإنفلات: بس يا مجنون فضحتنا
نظر لها بهيام: مجنون بيكي
كاد ينقلب فوق وجهه إثر الضربة التي تلقاها من عبدالرحمن، التفت إليه: ما تلم نفسك يا واد، أنا مش مالي عينك ولا إيه؟
أحمر وجهه عندما أدرك فعلته اللاشعورية: إحم إحم .. آسف يا عمي .. هي اللي استفزتني والله
لم يشعر بالحسد الذي تغلل في قلب أكرم، على الأقل لديه الحق في التعبير عن رأيه والاعتراض على فراق حبيبته، فيما هو يكتفي بالنظر إليها حتى يُشبع نفسه منها، تناسى حُرمانية نظرته، فداحة خطأه، فقط يُركز عليها، حركاتها، بسمتها، خصلة شعرها الهاربة من جانب حجابها، يتأمل أناملها الصغيرة التي تندس بين ثناياه تدفع ما هرب من شعرها إلى الداخل، قبض على يديه؛ حانقا على الخصلة المتمردة التي سمحت لسواه برؤيتها، يشعر بقلة حيلته وقصر يديه عن دفس الخصلة بأصابعه هو.
- مرام خلاص قربت تخلص إمتحانات، وكدا كدا دي آخر سنة ليها وتكون فريدة استقرت واتفقنا وبعدين نسافر .. ولا إيه رأيك يا بنتي؟
همست بابتسامة باهتة: اللي تشوفوه حضرتك
-على خير إن شاء الله
سألت ندى متعجبة: صحيح يا ديده، إنتي إزاي جيتي على باب البيت؟ .. ماحدش أخد الفلوس رجعوكي ليه؟
نكزها آدم بعتاب: إيه الكلام دا يا ندى
اعتدلت في جلستها وأجابت: لا لا سيبها، أنا فاهمة قصدها .. مش عارفه أنا لما حاولت افتكر .. افتكرت إني شوفت هشام
برقت عيون مصطفى بغضب: هشـــــــــــــــــام ؟!، وهو إيه اللي عرفه مكانك ؟
هزت كتفيها جهلا: كل اللي فكراه إنه جه قالي "هأرجعك لأهلك" وبعدين قالي إنه مش هيقدر يعملي أكتر من كدا .. بس
رغبت مرام في معرفة ما حدث بالتفصيل فسألت هي الأخرى: طب بعد ما سيبتك إيه اللي حصل؟ وخدك ليه؟
- بعد ما إنتي مشيتي أنا شلت القناع من على وشه من غير ما ياخد باله، تقريبا خاف على نفسه إني أتعرف عليه بعد كدا، ف خدني معاه وأهو يمكن ياخد من ورايا فلوس ولا حاجه
استفسرت هند: بس إزاي ماحدش سمع حاجه من صريخك إنتي ومرام ؟
أجابها زوجها مبررا: عشان الفرح كان خالص متأخر وكل الشارع كان فيه .. وكل واحد ما صدق ينام ويرتاح شوية
أنهت صابرين الحديث في هذا الموضوع؛ حتى لا تزيد الضغط على أعصاب فريدة وهي ماتزال راقدة الفراش: المهم إنك قومتي بالسلامة وعدت على خير
صرحت ندى بفخر: وسيف لما قال إنك راجعه وشاف حد شالك وجابك طلع بيعرف الغيب ابن الإيه
آدم: إحم إحم .. الإيه واقف جنبك على فكرة
ضحكت مخرجة لسانها: وأنا ما أقصدكش على فكرة
فريدة: سيف دا زي العسل ربنا يخليهولك
ندى: كان نفسي أجيبه بس انشغلنا بيكي .. كان نايم فسيبته مع الداده
أومأت متفهمة: لما اخرج هأشوفه أكيد ما تقلقيش
تمسك مصطفى بكلماتها: أيوه اخرجي بسرعة بقى .. بسرعة هـــــــــــــا؟ .. ما أوصكيش
قهقه ياسين محركا نظراته بين أحمد ومصطفى: أنتوا كلكوا مسروعين ع الجواز كدا ؟
ابتسمت صابرين: ربنا يسعدهم
التفتت إيمان إلى أكرم: عقبالك
دعت فريدة لشقيقتها بلمحة لم يدركها سواهما: عقبالك يا مرام
ضربت ندى كفا بكف مقهقهة: دوقوا الطبول دقوا .. قلبنا المستشفى خاطبة
