رواية انا وانت يساوي الفصل الثامن عشر 18 بقلم سارة محمد
الفصل الثامن عشر
وقفت السيدة العجوز تمسك بقايا قماش تدلى من فوق النافذة كان فيما مضى بمثابة ستارة، حدقت في الطريق ثم أطلقت سراح القماش المهترئ واتجهت تجلس إلى جوار مرام قائلة: دي عربيات بوليس .. أنا بأقول تروحي توريهم نفسك عشان يعرفوا إنك بخير
بجسد لا يقوى على التحرك، حتى الزفير والشهيق يرهقها نظرت إلى الجسد الصغير الممدد على الأريكة المجاورة: مش قادرة اتحرك، وسيف نايم لو صحي ومالاقنيش جنبه هيتخض
قطعت حديثها لتصب بعض الدموع التي ترقرقت من جديد بين جفنيها ثم أضافت بألم: دا غير إني لو سمعت حاجه وحشه عن فريدة .. ممكن أموت فيها
جذبت زنوبه بأطراف أصابعها الملابس بعيدا عن صدرها وبدأت تبخ بعضا من رذاذ ريقها بين القماش وجلدها، نهرت مرام: تفي من بؤك، بعد الشر، الشر برا وبعيد .. إن شاء الله هتكون بألف صحة وخير
-يا ريت
تناولت حجابها الأسود الخفيف من فوق ذراع أحد المقاعد، فتحت الباب بينما تصلح وضعه فوق رأسها، خاطبت مرام بحزم قبل أن تغادر وتقفل الباب خلفها بهدوء: هأروح أقولهم إنك عندي؛ ليجي حد من عيلتك يا بنتي ولا فريدة تكون قلقانه عليكي
سارت في الشارع بأسرع ما تستطيع فعله قدماها، لقد أضافت الجملة الأخيرة فقط كي تبث الطمأنينة في قلب مرام بينما قلبها لا يبشرها بأخبار سارة، نفضت الأفكار المتشائمة عن رأسها ودعت أن تكون فريدة بخير وألا يصيبها مكروه.
صعدت البناية والبسملة لا تترك لسانها، حاولت العبور من أمام العسكري لتدخل الشقة لكنه منعها: ممنوع يا ست
- بس أنا عايزه أشوف الظابط ولا حد م اللي هنا .. أصل مرام والواد الصغير موجودين عندي يا ابني
وقف الضابط عاقدا كفيه خلف ظهره، يتابع تحركات أفراد الامن عبر الشقة، جلس على مقعد قريب منه أكرم في حالة أشبه بانهيار أما مصطفى فقد كان يتبادل بضعة كلمات مع الضابط كلما خطر له خاطر ما محاولا تمالك أعصابه؛ علّه يتوصل إلى شئ يفسر ما جرى .. حينها سمعوا تصريح تلك السيدة فأسرع إليها مصطفى وتبعه الضابط وبالنهاية أتى أكرم: إنتي عارفه مكانهم فعلا ؟
- أيوه يا ابني هما عندي ف البيت دلوقتي
وقف أكرم أمامها بلهفة: يعني مرام عندك ؟؟
أومأت بالإيجاب: أه .. هي والواد الصغير اسمه .. اسمه ...
حث الضابط ذاكرتها المتأكلة: سيف؟
ضربت كفيها مؤكدة: أيـــــــــووه، اسم الله عليك .. سيف
سألها مصطفى بتردد: أومال ما جبتيش سيرة فريدة ليه ؟ هي مش معاهم؟
قرعت زنوبه صدرها بكفيها فيما صرخت مرتاعة: لهو فريدة مش هنا ؟
الضابط: لا إحنا جينا ماكنش في حد ف البيت
أكرم: يعني هي مش عندك؟
- مرام جاتلي وهي شايله الواد، كانت بتتنفض يا حبة عيني وعماله تبص وراها .. لما هديت وحكيتلي اللي حصل، قالتلي إن المزغود إلهي يجحمه مطرح ما راح بعد ما ضرب فريدة بالسكينة ولا المطواة .. أنا عارفه الأشكال دي بتمسك إيه !
صرخ مصطفى: مطواة ؟! .. يعني الدم اللي جوا دا بتاع فريدة ؟
أمسكه الضابط من ساعده يهدئه حتى يسمع بقية الرواية من المرأة: استنى بس يا أستاذ مصطفى خلينا نسمع للآخر .. كملي يا حاجة
أكملت: لما ضربها .. زعقتلها فريدة وقالتلها تاخد الواد وتجري بعيد .. قامت مرام خدته وجاتلي البيت .. لكن أنا ما شوفتش فريدة
أكرم: وإنتي بيتك فين؟
- هنا يا ابني، ف أول الحتة .. مش بعيد
أكرم: طب ممكن تاخدينا عندك لو سمحتى؟
رحبت بهم: البيت بيتك يا ابني .. تنور وتأنس
ابتسم لها أكرم بتعب: تسلمي يا حاجة
تبعها الضابط وبعض العساكر خلفه، أمسك أكرم ذراع مصطفى الذي فقد الاحساس بما يدور حوله؛ فقد كان جلّ تفكيره ينصب على فريدة .. يتذكر بقع الدم الخاصة بها والتي سرت في أوردتها وعبر شرايينها قبل أن تراق أرضا، بدأت الدموع تتقطر من عينيه في صمت، نظرت له زنوبه وقد لاحظت دموعه: بتحبها يا ابني أوي كدا ؟
أجاب دون النظر إليها: أكتر من نفسي
طرقت على كتفه: إن شاء الله تكون بخير وربك يعطرك فيها
- آمين .. أدعيلها يا حاجة
- مش محتاج تقولي يا ابني دي زي بنتي، ربنا يحرسها ويخليها لشبابها ويرجعهالنا بالسلامة
بعد دقيقة كانوا قد وصلوا إلى منزل زنوبه، فتحت الباب تحثهم على اللحاق بها: اتفضلوا اتفضلوا .. دا البيت نور
تقدمهم أكرم فوجد فتاة تلبس عباءة واسعة جدا عليها، تضع حجابا، بدى من الملابس أنها تنتمي للسيدة العجوز، ملامحها شاحبة، أحمرت عينيها من كثرة البكاء لكن رغم أختلاف شكلها عما أعتاده .. عرف هويتها؛ عن طريق قلبه الذي ما إن رأها حتى علت دقاته مرة أخرى معبرة عن فرحته برؤيتها سالمة آمنة.
الضابط: حضرتك الآنسة مرام عبدالرحمن ؟
وقفت تهمس بالرد: أيوه
الضابط: ممكن تحكيلنا كل اللي حصل لو سمحتي؟
عادت للنحيب من جديد بينما تروي ما حدث للمرة الثانية، تستعيد ذكرى الفزع والخوف الذين شعرت بهما، رؤية الدماء تنفر من جسد شقيقتها، سقوط فريدة أرضا تتوسلها الهروب بعيدا قبل أن تطالها يدي ذلك المهاجم، أنهت حديثها: بس مش عارفه حصل إيه لفريدة .. هي كويسه؟
رد عليها أكرم بأسف عندما مرت دقيقة صمت: مش عارفين
ركزت نظرها فوقه وسألته بدهشة: إزاي؟
أوضح: ماكانتش ف البيت لما وصلنا
صرخت به: إزاي .. يعني هيكون الحيوان دا عمل فيها إيه ؟؟
الضابط: إهدي يا آنسة مش كدا
توجه أكرم بسؤاله للضابط: ممكن ناخدها ونمشي؟
هز رأسه صعودا وهبوطا بإذن واضح: أكيد .. إحنا خلصنا كلامنا
أضاف ينظر إليها: بس لو افتكرتي حاجه تاني يا ريت تتصلي وتبلغينا
أشار الضابط للعساكر حتى يلحقوا به، غادر عائدا إلى المنزل يتابع ما تبقى من إجراءات، وقف أكرم يشكر زنوبه حسن ضيافتها لهم ولمرام وسيف، رفع سيف فوق كتفه، أسند الصغير وجنته الوردية فوق كتفه متابعا سباته، هم بالمغادرة عندما لاحظ مصطفى جالسا بلا نية في الذهاب، ناداه: مصطفى .. يلا يا ابني
نهض مصطفى بلا حول ولا قوة، أوقفته زنوبه بابتسامة صغيرة، شجعته مطمئنة: صلي .. صلي يا ابني وأدعيلها كتير ربنا ينجيها؛ هو وحده العالم بحالها دلوقتي .. وهو القادر على كل شئ
غادر من عندها وكلماته تطن في أذنيه، ومشاهد نسجها خياله لما حدث في الشقة وما يحدث معها الآن، أغمض عينيه بقوة، اعتصرهما، زفر بحدة وبكى حتى جفت عيناه.
***
أسدل قطعة كبيرة من الكرتون على الباب وسد فتحات المكان ببعض الخردة؛ فحجب أشعة الشمس عن الدلوف لكنه لم يمنع بعض أشعتها من التسرب إلى الداخل فأنارته إنارة بسيطة، ترك الضوء الضئيل كما هو مُسهلا حركته بالداخل كذلك لا يجذب الأنظار.
-أخبار الجرح إيه؟
سخرت: يهمك أوي؟
- طبعا .. ما هو لو جرالك حاجه أنا اللي هاروح في داهيه
تجاهلته حديثه: أنت عايز مني إيه؟
ضحك ملئ شدقيه: كل خير .. فدية صغيرة مش أكتر.. شوفتي بسيطة إزاي؟
قطبت: ومين اللي قالك عندي فلوس أو عند أهلي؟
ضحك متخابثا: يمكن مش عندك ولا عند أهلك، بس عند حبيب قلب أختك أو جوز أختك التانية .. مش فارقه .. المهم الفلوس توصل
همهمت بشرود: أكرم؟
- اسم الله عليكي ما إنتي طلعتي فايقة أهو
بعد صمت دام دقائق مرت كأعوام صاحت به على قدر طاقتها: عايزة أصلي
ترك إبريق الشاي من يده ونظر لها كأنها فقدت عقلها: نعم ياختي؟
كررت بوهن: عايزه أصلي
سعد ضاحكا: لأكون خاطف الخضرة الشريفة .. وأنا ما أعرفش
- خضرة ولا مش خضرة .. أنا عايزه أصلي
- مافيش مصليه هنا
أصرت: مش مهم .. قولي القبلة فين وهاتلي شويه مايه أتوضا بيهم
تنهد ثم نهض من مكانه متثاقلا، وضع أمامها زجاجة مياه مشيرا إلى اتجاه القِبلة: كدا .. على ما أظن يعني .. شوفتهم لما بيصلوا ع الميت بيقفوا كدا
سألته: هو الضهر أذن؟
حرك يديه في الهواء: هـــــــــوهــــــــــــوووو .. دا العصر خلاص قرب
لم تنتظر سماع المزيد لتتأخر أكثر من ذلك، أعطته ظهرها كي تتم وضوءها، شعر سعد ببعض الحرج فتركها محدثا نفسه: كدا كدا مش هتعرف تهرب بحالتها دي ولو حاولت هأحصلها دي مافيهاش نفس
ضغطت على نفسها حتى تستطيع النهوض لكن ما إن أنهت أول أربع ركعات الخاصة بالسنة السابقة للظهر، لم تستطع الاستمرار في الوقوف وبدأت تترنح .. وأثناء ركوعها ضغطت على الجرح وتحاملت عليه بأكثر مما يستطيع فعاد النزيف يزداد مرة أخرى.
كان يقف على الباب ينظر للخارج ويلتفت إليها بين الحين والآخر، رأها تترنح فأسرع إليها يسندها حتى تجلس بجوار الحائط، ودت في تلك اللحظة أن تدفعه بعيدا وتمنعه من لمسها لكن لم تكن تتمالك نفسها من كثرة الألم فقد ترك الجرح دون خياطة أو حتى تطهير لعدة ساعات طويلة.
-مش خلاص صليتي ؟ .. كفايه بقى، ارتاحي شويه
- لا لسه ما خلصتش
استدارت جهة القبلة بجالسة لا تقدر قدميها على حملها، لحسن حظها اتجاه القبلة ملائما لوضعية جلوسها؛ حتى تستطيع الاتكاء بظهرها على الحائط، استغرقت في صلاتها، تركها يتعجب من أمرها؛ كيف تصلي وهي على هذا الحال ؟، فيما هو كلما شعر فقط ببوادر تعب أو بشكل أصح تكاسل، ترك الصلاة ويجعلها تتراكم عليه حتى يعجز عن تأديتها لكثرتها، هذا عندما كان يصلي منذ أمد؛ فقد هجر صلاته منذ توفيت والدته وأصبح وحيدا حيث شعر أن الرب الذي يحرمه من أهم شخص في حياته لا يستحق العبادة.
لم يتمعن في قول الله تعالي "ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص في الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين".
بعد انتهاءها من صلاة الظهر وما يليها من سنة، أصبحت تصلي دون توقف حتى سلمت من إحدى صلواتها التي لا تعلم ما عددها فيما صلت؛ كانت تشعر أن روحها قد تقبض في أية لحظة، رغبت أن تقبض وهي عابدة مصلية.
سمعت آذان العصر، رددت معه، قالت الدعاء، سنة عن رسول الله حيث قال النبي ﷺ "من قال حين يسمع النداء، اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت سيدنا محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته .. حلت له شفاعتي يوم القيام" كذلك قال "من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا، غفر له ذنبه"
في إنتظار إقامة الصلاة بدأت تدعو الله أن يرحمها وينجيها ويبعد عنها من يريد الضرر بها أو بإخوتها وبالمسلمين جميعا ثم ختمت بسؤال الله حسن الخاتمة وشفاعة النبي لها وأن يرزقها فسيح جناته، استمرت في دعاءها عملا بحديث الرسول القائل فيه "لايرد الدعاء بين الآذن والإقامة"، سمعت الإقامة فقامت بتأدية صلاتها، ما إن انهتها حتى غامت الدنيا أمامها وفقدت إتزانها مما أدى إلى سقوط رأسها على الأرض جانبا.
***
-ما خلاص يا إيمان إهدي شوية .. إن شاء الله البنات بخير
صاحت بصوت عالِ: خير ؟!، وهيجي منين الخير وأنا حاسه بقلبي واكلني عليهم
تنهد: ما إنتي كل مرة بتسافري وتسيبيهم بتقلقي إيه الجديد ؟
إيمان وهي تنظر إلى الــــ لا مكان: الجديد ؟ .. الجديد إنها أول مرة أحس بنار والعه ف قلبي كأن فيه واحدة منهم جرالها حاجه ... يا خوفي
- طب هدي نفسك كدا وأقري المعوذتين .. وإن شاء الله خير
- بردو بتقولي خير .. أنا هاتصل بيهم أطمن لأحسن أكتر من كدا هأتجنن
رفع رايته البيضاء مستسلما: طيب، بس كلميهم بهدوء بلاش تخضيهم ع الفاضي
وافقته وذهبت لتهاتفهم لكن استمر الرنين دون مجيب، رفعت نظرها إليه بقلق أكبر: لا دا كدا مش طبيعي .. يبقى فعلا في حاجه
تسرب إليه بعض من قلقها: إيه ؟ .. في إيه؟
- لا تليفون البيت بيرد ولا موبايلات كمان
- إنتي هتقلقيني ليه ؟ .. يمكن بيصلوا العصر ولا حاجه
- لا أنا مش هأستنى أكتر من كدا .. هاتصل بأم جلال يمكن تكون عارفه عنهم حاجه
دقت أزرار هاتفها تقلب الاسماء بسرعة وتوتر تتلمس أول إشارة إلى اسم أم جلال المقيد بهاتفها: السلام عليكم
- وعليكم السلام يا إيمان .. قلبي معاكي يا حببتي
اعتصر قلبها خوفا: ليه ؟ .. هو حصل إيه يا أم جلال؟
شهقت: لهو إنتي ماتعرفيش اللي جرا ؟
صاحت بها: إيه اللي جرا؟
سردت ما حدث وما تعلمه؛ سماعها صراخ بالشقة المجاورة، نداء أكرم ومصطفى على الأختين، آثار الدماء التي رأتها حتى أنتهت بوصول الشرطة التي حضرت ثم انصرفت تاركة عسكري على باب الشقة وإختفاء الفتاتان ومعهما الصغير.
قلب الأم لم يستطع إكمال معرفة تفاصيل أكثر أو استيعاب كلمات المواساة من جارتها وقريبة زوجها، كأن عقلها تنبأ بسماع خبر إصابة إحدى فلذات كبدها بمكروه أشد وطأة فأتجه إلى الهروب من الواقع المرير عبر إرسالها في رحلة مدفوعة التكاليف إلى عالم اللا وعي.
سقطت من يدها السماعة ليتردد صوت أم جلال على الناحية الأخرى من الخط مجلجلا: آلو
وقفت السيدة العجوز تمسك بقايا قماش تدلى من فوق النافذة كان فيما مضى بمثابة ستارة، حدقت في الطريق ثم أطلقت سراح القماش المهترئ واتجهت تجلس إلى جوار مرام قائلة: دي عربيات بوليس .. أنا بأقول تروحي توريهم نفسك عشان يعرفوا إنك بخير
بجسد لا يقوى على التحرك، حتى الزفير والشهيق يرهقها نظرت إلى الجسد الصغير الممدد على الأريكة المجاورة: مش قادرة اتحرك، وسيف نايم لو صحي ومالاقنيش جنبه هيتخض
قطعت حديثها لتصب بعض الدموع التي ترقرقت من جديد بين جفنيها ثم أضافت بألم: دا غير إني لو سمعت حاجه وحشه عن فريدة .. ممكن أموت فيها
جذبت زنوبه بأطراف أصابعها الملابس بعيدا عن صدرها وبدأت تبخ بعضا من رذاذ ريقها بين القماش وجلدها، نهرت مرام: تفي من بؤك، بعد الشر، الشر برا وبعيد .. إن شاء الله هتكون بألف صحة وخير
-يا ريت
تناولت حجابها الأسود الخفيف من فوق ذراع أحد المقاعد، فتحت الباب بينما تصلح وضعه فوق رأسها، خاطبت مرام بحزم قبل أن تغادر وتقفل الباب خلفها بهدوء: هأروح أقولهم إنك عندي؛ ليجي حد من عيلتك يا بنتي ولا فريدة تكون قلقانه عليكي
سارت في الشارع بأسرع ما تستطيع فعله قدماها، لقد أضافت الجملة الأخيرة فقط كي تبث الطمأنينة في قلب مرام بينما قلبها لا يبشرها بأخبار سارة، نفضت الأفكار المتشائمة عن رأسها ودعت أن تكون فريدة بخير وألا يصيبها مكروه.
صعدت البناية والبسملة لا تترك لسانها، حاولت العبور من أمام العسكري لتدخل الشقة لكنه منعها: ممنوع يا ست
- بس أنا عايزه أشوف الظابط ولا حد م اللي هنا .. أصل مرام والواد الصغير موجودين عندي يا ابني
وقف الضابط عاقدا كفيه خلف ظهره، يتابع تحركات أفراد الامن عبر الشقة، جلس على مقعد قريب منه أكرم في حالة أشبه بانهيار أما مصطفى فقد كان يتبادل بضعة كلمات مع الضابط كلما خطر له خاطر ما محاولا تمالك أعصابه؛ علّه يتوصل إلى شئ يفسر ما جرى .. حينها سمعوا تصريح تلك السيدة فأسرع إليها مصطفى وتبعه الضابط وبالنهاية أتى أكرم: إنتي عارفه مكانهم فعلا ؟
- أيوه يا ابني هما عندي ف البيت دلوقتي
وقف أكرم أمامها بلهفة: يعني مرام عندك ؟؟
أومأت بالإيجاب: أه .. هي والواد الصغير اسمه .. اسمه ...
حث الضابط ذاكرتها المتأكلة: سيف؟
ضربت كفيها مؤكدة: أيـــــــــووه، اسم الله عليك .. سيف
سألها مصطفى بتردد: أومال ما جبتيش سيرة فريدة ليه ؟ هي مش معاهم؟
قرعت زنوبه صدرها بكفيها فيما صرخت مرتاعة: لهو فريدة مش هنا ؟
الضابط: لا إحنا جينا ماكنش في حد ف البيت
أكرم: يعني هي مش عندك؟
- مرام جاتلي وهي شايله الواد، كانت بتتنفض يا حبة عيني وعماله تبص وراها .. لما هديت وحكيتلي اللي حصل، قالتلي إن المزغود إلهي يجحمه مطرح ما راح بعد ما ضرب فريدة بالسكينة ولا المطواة .. أنا عارفه الأشكال دي بتمسك إيه !
صرخ مصطفى: مطواة ؟! .. يعني الدم اللي جوا دا بتاع فريدة ؟
أمسكه الضابط من ساعده يهدئه حتى يسمع بقية الرواية من المرأة: استنى بس يا أستاذ مصطفى خلينا نسمع للآخر .. كملي يا حاجة
أكملت: لما ضربها .. زعقتلها فريدة وقالتلها تاخد الواد وتجري بعيد .. قامت مرام خدته وجاتلي البيت .. لكن أنا ما شوفتش فريدة
أكرم: وإنتي بيتك فين؟
- هنا يا ابني، ف أول الحتة .. مش بعيد
أكرم: طب ممكن تاخدينا عندك لو سمحتى؟
رحبت بهم: البيت بيتك يا ابني .. تنور وتأنس
ابتسم لها أكرم بتعب: تسلمي يا حاجة
تبعها الضابط وبعض العساكر خلفه، أمسك أكرم ذراع مصطفى الذي فقد الاحساس بما يدور حوله؛ فقد كان جلّ تفكيره ينصب على فريدة .. يتذكر بقع الدم الخاصة بها والتي سرت في أوردتها وعبر شرايينها قبل أن تراق أرضا، بدأت الدموع تتقطر من عينيه في صمت، نظرت له زنوبه وقد لاحظت دموعه: بتحبها يا ابني أوي كدا ؟
أجاب دون النظر إليها: أكتر من نفسي
طرقت على كتفه: إن شاء الله تكون بخير وربك يعطرك فيها
- آمين .. أدعيلها يا حاجة
- مش محتاج تقولي يا ابني دي زي بنتي، ربنا يحرسها ويخليها لشبابها ويرجعهالنا بالسلامة
بعد دقيقة كانوا قد وصلوا إلى منزل زنوبه، فتحت الباب تحثهم على اللحاق بها: اتفضلوا اتفضلوا .. دا البيت نور
تقدمهم أكرم فوجد فتاة تلبس عباءة واسعة جدا عليها، تضع حجابا، بدى من الملابس أنها تنتمي للسيدة العجوز، ملامحها شاحبة، أحمرت عينيها من كثرة البكاء لكن رغم أختلاف شكلها عما أعتاده .. عرف هويتها؛ عن طريق قلبه الذي ما إن رأها حتى علت دقاته مرة أخرى معبرة عن فرحته برؤيتها سالمة آمنة.
الضابط: حضرتك الآنسة مرام عبدالرحمن ؟
وقفت تهمس بالرد: أيوه
الضابط: ممكن تحكيلنا كل اللي حصل لو سمحتي؟
عادت للنحيب من جديد بينما تروي ما حدث للمرة الثانية، تستعيد ذكرى الفزع والخوف الذين شعرت بهما، رؤية الدماء تنفر من جسد شقيقتها، سقوط فريدة أرضا تتوسلها الهروب بعيدا قبل أن تطالها يدي ذلك المهاجم، أنهت حديثها: بس مش عارفه حصل إيه لفريدة .. هي كويسه؟
رد عليها أكرم بأسف عندما مرت دقيقة صمت: مش عارفين
ركزت نظرها فوقه وسألته بدهشة: إزاي؟
أوضح: ماكانتش ف البيت لما وصلنا
صرخت به: إزاي .. يعني هيكون الحيوان دا عمل فيها إيه ؟؟
الضابط: إهدي يا آنسة مش كدا
توجه أكرم بسؤاله للضابط: ممكن ناخدها ونمشي؟
هز رأسه صعودا وهبوطا بإذن واضح: أكيد .. إحنا خلصنا كلامنا
أضاف ينظر إليها: بس لو افتكرتي حاجه تاني يا ريت تتصلي وتبلغينا
أشار الضابط للعساكر حتى يلحقوا به، غادر عائدا إلى المنزل يتابع ما تبقى من إجراءات، وقف أكرم يشكر زنوبه حسن ضيافتها لهم ولمرام وسيف، رفع سيف فوق كتفه، أسند الصغير وجنته الوردية فوق كتفه متابعا سباته، هم بالمغادرة عندما لاحظ مصطفى جالسا بلا نية في الذهاب، ناداه: مصطفى .. يلا يا ابني
نهض مصطفى بلا حول ولا قوة، أوقفته زنوبه بابتسامة صغيرة، شجعته مطمئنة: صلي .. صلي يا ابني وأدعيلها كتير ربنا ينجيها؛ هو وحده العالم بحالها دلوقتي .. وهو القادر على كل شئ
غادر من عندها وكلماته تطن في أذنيه، ومشاهد نسجها خياله لما حدث في الشقة وما يحدث معها الآن، أغمض عينيه بقوة، اعتصرهما، زفر بحدة وبكى حتى جفت عيناه.
***
أسدل قطعة كبيرة من الكرتون على الباب وسد فتحات المكان ببعض الخردة؛ فحجب أشعة الشمس عن الدلوف لكنه لم يمنع بعض أشعتها من التسرب إلى الداخل فأنارته إنارة بسيطة، ترك الضوء الضئيل كما هو مُسهلا حركته بالداخل كذلك لا يجذب الأنظار.
-أخبار الجرح إيه؟
سخرت: يهمك أوي؟
- طبعا .. ما هو لو جرالك حاجه أنا اللي هاروح في داهيه
تجاهلته حديثه: أنت عايز مني إيه؟
ضحك ملئ شدقيه: كل خير .. فدية صغيرة مش أكتر.. شوفتي بسيطة إزاي؟
قطبت: ومين اللي قالك عندي فلوس أو عند أهلي؟
ضحك متخابثا: يمكن مش عندك ولا عند أهلك، بس عند حبيب قلب أختك أو جوز أختك التانية .. مش فارقه .. المهم الفلوس توصل
همهمت بشرود: أكرم؟
- اسم الله عليكي ما إنتي طلعتي فايقة أهو
بعد صمت دام دقائق مرت كأعوام صاحت به على قدر طاقتها: عايزة أصلي
ترك إبريق الشاي من يده ونظر لها كأنها فقدت عقلها: نعم ياختي؟
كررت بوهن: عايزه أصلي
سعد ضاحكا: لأكون خاطف الخضرة الشريفة .. وأنا ما أعرفش
- خضرة ولا مش خضرة .. أنا عايزه أصلي
- مافيش مصليه هنا
أصرت: مش مهم .. قولي القبلة فين وهاتلي شويه مايه أتوضا بيهم
تنهد ثم نهض من مكانه متثاقلا، وضع أمامها زجاجة مياه مشيرا إلى اتجاه القِبلة: كدا .. على ما أظن يعني .. شوفتهم لما بيصلوا ع الميت بيقفوا كدا
سألته: هو الضهر أذن؟
حرك يديه في الهواء: هـــــــــوهــــــــــــوووو .. دا العصر خلاص قرب
لم تنتظر سماع المزيد لتتأخر أكثر من ذلك، أعطته ظهرها كي تتم وضوءها، شعر سعد ببعض الحرج فتركها محدثا نفسه: كدا كدا مش هتعرف تهرب بحالتها دي ولو حاولت هأحصلها دي مافيهاش نفس
ضغطت على نفسها حتى تستطيع النهوض لكن ما إن أنهت أول أربع ركعات الخاصة بالسنة السابقة للظهر، لم تستطع الاستمرار في الوقوف وبدأت تترنح .. وأثناء ركوعها ضغطت على الجرح وتحاملت عليه بأكثر مما يستطيع فعاد النزيف يزداد مرة أخرى.
كان يقف على الباب ينظر للخارج ويلتفت إليها بين الحين والآخر، رأها تترنح فأسرع إليها يسندها حتى تجلس بجوار الحائط، ودت في تلك اللحظة أن تدفعه بعيدا وتمنعه من لمسها لكن لم تكن تتمالك نفسها من كثرة الألم فقد ترك الجرح دون خياطة أو حتى تطهير لعدة ساعات طويلة.
-مش خلاص صليتي ؟ .. كفايه بقى، ارتاحي شويه
- لا لسه ما خلصتش
استدارت جهة القبلة بجالسة لا تقدر قدميها على حملها، لحسن حظها اتجاه القبلة ملائما لوضعية جلوسها؛ حتى تستطيع الاتكاء بظهرها على الحائط، استغرقت في صلاتها، تركها يتعجب من أمرها؛ كيف تصلي وهي على هذا الحال ؟، فيما هو كلما شعر فقط ببوادر تعب أو بشكل أصح تكاسل، ترك الصلاة ويجعلها تتراكم عليه حتى يعجز عن تأديتها لكثرتها، هذا عندما كان يصلي منذ أمد؛ فقد هجر صلاته منذ توفيت والدته وأصبح وحيدا حيث شعر أن الرب الذي يحرمه من أهم شخص في حياته لا يستحق العبادة.
لم يتمعن في قول الله تعالي "ولنبلونكم بشئ من الخوف والجوع ونقص في الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين".
بعد انتهاءها من صلاة الظهر وما يليها من سنة، أصبحت تصلي دون توقف حتى سلمت من إحدى صلواتها التي لا تعلم ما عددها فيما صلت؛ كانت تشعر أن روحها قد تقبض في أية لحظة، رغبت أن تقبض وهي عابدة مصلية.
سمعت آذان العصر، رددت معه، قالت الدعاء، سنة عن رسول الله حيث قال النبي ﷺ "من قال حين يسمع النداء، اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت سيدنا محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته .. حلت له شفاعتي يوم القيام" كذلك قال "من قال حين يسمع المؤذن: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله، رضيت بالله ربا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينا، غفر له ذنبه"
في إنتظار إقامة الصلاة بدأت تدعو الله أن يرحمها وينجيها ويبعد عنها من يريد الضرر بها أو بإخوتها وبالمسلمين جميعا ثم ختمت بسؤال الله حسن الخاتمة وشفاعة النبي لها وأن يرزقها فسيح جناته، استمرت في دعاءها عملا بحديث الرسول القائل فيه "لايرد الدعاء بين الآذن والإقامة"، سمعت الإقامة فقامت بتأدية صلاتها، ما إن انهتها حتى غامت الدنيا أمامها وفقدت إتزانها مما أدى إلى سقوط رأسها على الأرض جانبا.
***
-ما خلاص يا إيمان إهدي شوية .. إن شاء الله البنات بخير
صاحت بصوت عالِ: خير ؟!، وهيجي منين الخير وأنا حاسه بقلبي واكلني عليهم
تنهد: ما إنتي كل مرة بتسافري وتسيبيهم بتقلقي إيه الجديد ؟
إيمان وهي تنظر إلى الــــ لا مكان: الجديد ؟ .. الجديد إنها أول مرة أحس بنار والعه ف قلبي كأن فيه واحدة منهم جرالها حاجه ... يا خوفي
- طب هدي نفسك كدا وأقري المعوذتين .. وإن شاء الله خير
- بردو بتقولي خير .. أنا هاتصل بيهم أطمن لأحسن أكتر من كدا هأتجنن
رفع رايته البيضاء مستسلما: طيب، بس كلميهم بهدوء بلاش تخضيهم ع الفاضي
وافقته وذهبت لتهاتفهم لكن استمر الرنين دون مجيب، رفعت نظرها إليه بقلق أكبر: لا دا كدا مش طبيعي .. يبقى فعلا في حاجه
تسرب إليه بعض من قلقها: إيه ؟ .. في إيه؟
- لا تليفون البيت بيرد ولا موبايلات كمان
- إنتي هتقلقيني ليه ؟ .. يمكن بيصلوا العصر ولا حاجه
- لا أنا مش هأستنى أكتر من كدا .. هاتصل بأم جلال يمكن تكون عارفه عنهم حاجه
دقت أزرار هاتفها تقلب الاسماء بسرعة وتوتر تتلمس أول إشارة إلى اسم أم جلال المقيد بهاتفها: السلام عليكم
- وعليكم السلام يا إيمان .. قلبي معاكي يا حببتي
اعتصر قلبها خوفا: ليه ؟ .. هو حصل إيه يا أم جلال؟
شهقت: لهو إنتي ماتعرفيش اللي جرا ؟
صاحت بها: إيه اللي جرا؟
سردت ما حدث وما تعلمه؛ سماعها صراخ بالشقة المجاورة، نداء أكرم ومصطفى على الأختين، آثار الدماء التي رأتها حتى أنتهت بوصول الشرطة التي حضرت ثم انصرفت تاركة عسكري على باب الشقة وإختفاء الفتاتان ومعهما الصغير.
قلب الأم لم يستطع إكمال معرفة تفاصيل أكثر أو استيعاب كلمات المواساة من جارتها وقريبة زوجها، كأن عقلها تنبأ بسماع خبر إصابة إحدى فلذات كبدها بمكروه أشد وطأة فأتجه إلى الهروب من الواقع المرير عبر إرسالها في رحلة مدفوعة التكاليف إلى عالم اللا وعي.
سقطت من يدها السماعة ليتردد صوت أم جلال على الناحية الأخرى من الخط مجلجلا: آلو
