رواية ملاذ قلبي سكن الفصل الثاني والخمسون 52 بقلم عائشة حسين
اللهم إني إستودعتك تعبي ومجهودي وأفكاري وتعب أيامي وسهر ليالي يارب.
****
لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين.
*"""""
♕الثاني والخمسون ♕
أمسك بكفها لتنهض لكنها صرخت بفزع وهي تنظر لقدميها بعجز ودهشة عظيمة لا تصدق تلك الخيانة منها «مش حاسة بيهم يا حمزة ولا هجدر أمشي»
رمش يستوعب كلماتها ويُقحمها لعقله في تلك اللحظة التي توقف فيها الزمن عنده «يعني إيه»
اعتصرت عينيها موضحة بهمس متألم واستجداء مُر «مش عارفة يا حمزة»
انتصبت ورد واقفة محوقلة، متخبطة هي الأخرى في التفسير والتأويل. انحنى حمزة وحملها بين ذراعيه منتشلًا لها وله من هذا الضياع ومحاصرة التوهة لهم ، ادخلها الحجرة ووضعها برفق فوق الفِراش ثم جلس جوارها يستفهم «حصل إيه»
تبعته ورد وجلست فوق الفِراش المقابل تنتظر إمداد سكن لهم بالمعرفة؛ لتتضح الرؤية أمامهما، أخبرتهما سكن ودموعها لا تتوقف «كنت واجفة حسيت بدوخة ونَفَسِي بيروح مني، فجأة وجعت»
طمأنتها ورد وهي تنسحب من الحجرة في حيرة وقلق يُشكلان داخلها دوامة تبتلع كل مشاعرها إلا واحدًا تركته غير قادرة على انتزاع جذورة وهو الحنان الطاغي «اهدي يا ضنايا هجوم أعملك عصير لمون»أومأت سكن
فغادرت ورد وتركتهما على انفراد مُفكرة فيما يحدث، بينما أعطى حمزة وعيه واهتمامه لها كاملًا، لا يتحمل أن يراها هكذا ولا يحب ضعفها وخوفها الذي يهزمه ويُلقي به غريقًا في بحر يأسه وجزعه.
مسح لها دموعها المسترسلة بكفيه غير مستسلم لانقباض قلبه ولا حزنه الذي يقطّع أحشائه ويدمي فرحته «ليه يا بابا كل البكا دِه متخافيش»
دفعت كفه بغلظة وهي تنبهه من بين دموعها الغزيرة وألم روحها «المرة التانية تجول بابا»
ضحك رغم حزنه ووجعه، لكنه مرغم لتهدئتها و طمأنتها، ضم رأسها لصدره بحنو وهو يجاريها في رغبتها «خلاص يا سكني»
أبعدها يشاكسها بمرح ليخفف عنها ثقل الوجع واضطرابات نفسها وخوفها الذي يراه في نظراتها الكسيرة«سكني جولي إن ده مجلب عشان نبيت هنا في الأوضة وإنك ولا مكسوفة من أمي ولا حاجة يا جزمة»
ابتسمت لمحاولاته وهمست وهي ترفع طرف ما يرتديه تمسح فيه أنفها ووجهها «أيوة نفسي، بس أنا تعبت صُح» ضربها على كفها متأففًا من فعلتها«مش هتبطلي جرف؟ المناديل جنبك»
قالت بإنزعاج وهي تهز رأسها رافضةً «لاه مرتاحة كده، عايز تجلعه اجلعه »
قهقهه وهو يضمها لصدره مُعاتبًا في شقاوة «كنتي جولتي من غير جرف وكنت هجلع والله»
رمقته بطرف عينيها قائلة «حمزة كنت أجول عليك متربي سبع مرات أتاريك كنت محوش جلة الرباية»
غمزها بمكر وشقاوة «محوشهالك مين غيرك يستاهلها»
دفعته بقبضتها على صدره ضاحكة في خجل من كلماته، ضمها لصدره بقوة
وقبّل رأسها بحنان وهو يتمدد برفق محافظًا على وجودها بين بأحضانه وهو يهمس «نامي يا حبيبي شوية»
سألته وهي تغمض عينيها بإرهاق وتعب خوفًا من أن تظل مستيقظة وتقف على قدميها فلا تستطيع،فاختارت أن تستسلم لاقتراحه في هروب واختباء من الهواجس اللعينة،لكنها تريد مراضاته وإسعاده وتعويضه عما فات فلا أحب إليها من ذلك،هي مستعدة للتضحية بنفسها إن احتاج الأمر بذل نفسها في سبيل رضاه وراحته، تحمّل الكثيرلأجلها وعانى، ألا يستحق شيئًا من السعادة والراحة؟ ألا يستحق أن تختاره على نفسها؟ هو الذي صنعها على عينه وأوصلها لما هي عليه الآن؟
جعلها تتقبل العالم بمساوئه مفتشة فيه عن حلوه، أن تعفو عن راضية وتحتضن مودة، أن تمنح السعادة كما منحها إياها بطيب نفس.
أن تذوق الرضا وتأخذ سر وصفته ونكهته، منحها الحياة بعد موت وأعطاها أنفسًا من صدره تحيا بها بعدما أقتسمها معها.
كيف كانت سكن بدونه وكيف أصبحت به وبلمسات عشقه السحرية؟
أي شعور يكفيه؟ أي حب هذا الذي يرد له حبه الفريد وحنانه الذي لا ينضب بل يتجدد بطاقة هائلة،عزيز القلب أمام نُبله كل بضاعتها بخس.
همست بقلق أصبح سمة وعثرة لحروفها المحترقة«هتصحيني تاني؟»
أكد وهو يرفع الغطاء بإحكام على جسديهما «أيوة يا سكني هصحيكي)
همست وهي تلثم عنقه كعادتها«بحبك يا حمزة»
ربت فوق خصلاتها بعشق «وحمزة بيعشجك يا سكنه»
الآن فهم معنى السكن الحقيقي، أن يكون صدر أحدهم وقلبه بيتك الآمن وراحة نفسك، سكن كانت قبلة الترضية التي منحتها له الدنيا على جبينه وضمتها الحنون له، عزاءً لأوجاعه ومواساةً لقلبه.. ماذا إن عادت لا تريده وتنفره؟ تلفظه كبصقة؟ أن يُحرم من الوطوء لأرضها؟ ألا يكفيه منها نظرة؟ بل يكفيه منها نفسًا يتردد في صدريهما وهواءً يتشاركان فيه سويًا، يكفيه همسًا منها باسمه يفتح به ذراعيه للحياة، وضحكة تداعب قلبه وتفتح له أبواب السعادة، هو رجل ذاق كل وجع وعايش كل حزن، يرضى بالقليل ثقةً في الله ويصبر ثقةً في عطائه.
غرق في النوم متشبثًا بها بعدما أطمأنت نفسه لقضاء الله وقدره واستعد للقادم بصبره ، استيقظت قبل الفجر مالت ناحيته تهمس بعدما طالعت شاشة الهاتف «حموزتي»
فرق بين جفنيه يسألها بقلق «أنتِ بخير يا حبيبي»
أجابته بإبتسامة أظهرت حُسنِها«بخير إيه هتكمل نوم ولا تجوم؟»
دفن وجهها في تجويف عنقها «هنام نامي أنتِ»
ضربته بخفة على رأسه «جوم أحنا نايمين من المغرب يا كسلان»
أجابها بملل «هنعمل إيه؟»
أعتدلت جالسة تخبره بإبتسامة رائعة وحيوية، مما جلب انتباهه وجعله يجلس منتبهًا نافضًا النعاس«شوفت خالي يا حمزة»
سألها بلهفة وهو جلس جوارها مترقبًا قولها «بجد»
ابتسمت بإنشراح وهي تخبره بنشاط وفرحة أصابته بالعدوى «بيسلّم عليك جوي»
ابتسم حمزة متأثرًا بقولها فتابعت موجّهة حديثها له «جلي جولي لحمزة
إنُمْا يٌوٰفٓيَ الَصْابٌرٓوَن أجُرَهٰمٓ بـّغَيْر حَسُاْبٰ)
تذكر حمزة ما كان يفكر فيه قبل نومه فأدمعت عيناه متأثرًا داعيًا بالرحمة والمغفرة لوالده وصديقه، تأثرت سكن برؤيته هكذا مرتعشًا دامع العينين كطفل وحيد منحه أحد المارة حلوى يشتهيها،أحاطت وجهه بكفيها وهمست ببداية بكاء«حمزاوي زعلان ليه؟»
ابتسم وهو يبعد كفيها ويقبلها في لوم لها «وأنتِ هتبكي ليه؟»
قالت بإرتباك شديد انطلق منه الصدق «محبش أشوفك كِده»
قبّل جبينها بتقدير قبل أن يقترح بشقاوة ومرح «بجولك ما تجومي ترجصي شوية»
نسيت ما كان في زحام ثرثرته ومرحه، ضحكت تشاركه الحماس «موافجة طبعًا بس الأغاني؟ ورد جالت أغاني لاه وأصلًا مش هينفع نشغلها الساعة ١ تجوملنا بالشبشب»
هرش رأسه مُفكرًا قبل أن تلمع عيناه ويقترح بهمة ونشاط «مش جولتلك هطبل يبجا خلاص هطبل»
ضحكت مستنكرة قوله وحماسه الشديد رغم العوائق «بتتكلم جد»
لم يجيبها قفز من فوق الفِراش وغادر للمطبخ،عبث فيه قليلًا قبل أن يأتيها بدلو صغير من البلاستيك،أغلق خلفه جيدًا وأقترب منها قائلًا (مش هنحرم نفسنا من حاجة جومي يلا»
نظرت إليه بتشتت وفم مفتوح في ذهول مما يفعله «حمزة بتتكلم جد»
سحبها من ذراعها وأوقفها مؤكدًا بمرح «طبعًا جد يا سكني»
اتجهت للخزانة سحبت منها أحدى طرحها الموجودة هنا للطواريء وحاوطت خصرها في استعداد ومرح لمعايشته تلك الأفكار المجنونة والحماسية،سألته بهمس خافت «غنّي حافظ حاجة؟»
هرش مؤخرة رأسه مُصرحًا بخيبة وإحباط «لاه أخرى حافظ أغاني كاظم أو أشعار المتنبي»
شهقت مستنكرة بسخرية واستهزاء «هرجص على المتنبي؟»
ضحك حمزة وهو يضرب براحته ق فوق الدلو بعدما وضعه على ساقه في استعداد، ثم ردد في استهزاء «عشان يبجا
أنا الذي نظَر الأعمى إلى سكني
وأسْمعَت ضحكاتها مَن بهِ صَمَمُ.
1
ضحكت بمتعة خاصة وهي ترى انطلاقه ومرحه، مالت عليه بدلال هامسةً «ويطلع المتنبي يسيح دمنا بعدها»
دفعها قائلًا بحماس من بين ضحكاتها الرائقة التي أشعلت حماسها لمجاراته في عبثه «يلا هبدأ واحد اتنين تلاته»
بعد دقايق كان يترك الدلو ويرميه جانبًا مُتجهًا ناحيتها يشاركها الرقص على أنغام الأنفاس ودقات القلوب، يحلقان في رحاب السعادة وفضاء الفرح، لا يشغل بالهما سوى أنهما معًا.
***********"
♡بعد يومين في شقتهما♡
+
فتح حمزة الباب ليجد هيما أمامه يقف مُمسكًا ببعض الحقائب، رحّب به حمزة، واستقبل مجيئه ببشاشة غير مكتفي بلقاء كفين بل عانقه بقوة في مودة حقيقية يعوض بها بعض التقصير تجاهه، سخر هيما رغم اهتزازه لهذا الحضن الأبوي وامتنانه لشعور حمزة «هي البت مقصرة فبتتلقح عليا»
دفعه حمزة للداخل بقوة ثم ضربه على مؤخرة رأسه في ضجر «احترم نفسك»
خطا للداخل قائلًا بمزاح «أنت الي بتتلزق إيه مشبعتش»
وضع حمزة الأغراض وهو يجلس جوار هيما قائلا «منين دِه كله؟»
أجابه هيما وهو يتربع فوق الأريكة ممسكًا بجهاز التحكم الخاص بالتلفاز «أنا قولت عيب أدخل بأيدي فاضية فجبتلك شوية حاجات سارقهم من المطعم»
ابتسم حمزة لمعرفته أنها مُزحة منه يشوش بها على السؤال ويقفز بها لمنطقة أخرى، لو أخبره أنها من ماله الخاص سيرفض حمزة وقد يعطيه المال في نهاية السهرة.. وحمزة تجاهل لألأ يحزنه، تخطى وشكره واهتم بالسؤال عما اشتراه ليشعره بقيمة ما أحضره وتقديرًا وتكبيرًا لفعلته «ماشي شكرًا سرجت إيه بجى»
أجابه وهو ينظر للتلفاز بإهتمام مُقلبًا قنواته «الحاجات الي بتحبوها»
ابتسم حمزة بإمتنان «إيه الجدعنة دي»
ثبّت هيما عويناته وقال بفخر «من يومي»
ثم سأله ونظراته تبحث عن سكن «فين بلوتك مش سامع صوتها»
أجابه حمزة وهو ينهض ليطمئن عليها ويخبرها بحضور إبراهيم «هشوفها يمكن نامت»
القلق عليها أصبح جزءًا من نفسه وأفكاره، كل دقيقة تمر دونها ودون رؤيتها أمامه معافاة سليمة ينتابه شعور بالفقد والخوف.. ألف فكرة تهاجمه وألف صوره لها تتصدر مخيلته فتُخيفه.
وجدها أمام المرآة تلف حجابها بعناية واهتمام كما تحب، انحنى يضمها قائلًا وهو ينظر لحسنها وجمالها المُبهر في المرآة «فكرت كتير ألبسك نقاب يا سكن»
ابتسمت له قبل أن تميل بوجهها؛ ليُلقي ثَغرها الناعم تحيتةً على شفتيه قبل أن تسأله «ليه»
وضع أنامله على ذقنها وأدار وجهها للمرآة قائلا «بصي وشوفي»تابع بتملّك وغيرة شديدة
«محدش يستاهل يشوف الجمال دِه غيري، هو ليا وملكي ومن حجي يبجالي لوحدي»
ضمت شفتيها مبتسمة تهز رأسها بإقتناع تام وتفكير قبل أن تلثم خده مُعلنة موافقتها وعينيها تلمع بمكر يعرفه «موافجة»
ابتسم منتظرً التالي الذي قرأه في نظراتها، فمالت تقول بخبث «بس تتنقب أنت كمان»
حملق فيها بإنكار ورفض قبل أن تمرر سبابتها شفتيه برقة وتلاعُب، ثم ثبتتها قائلة بغيظ وغيرة «وأنا من حجي محدش يشوفك غيري يا شيف»
تنفس بعمق وابتسامته الجميلة لا تفارق محياه، مندهشًا ومعجبًا، متشاقًا ومتحديًا
أنزل كفها ووجهها يخفي مشاعره عنها ويغلق عليها نوافذ عينيه مما جلب لنفسها الحيرة ولنظراتها التشتت فوقفت تائهة بعض الوقت لا تفهم أين وضعت كلماتها في قلبه ومشاعره وفي أي فصل من فصول السنة، أدارها موجّها للباب «يلا هيما بره»
خرجت للترحيب بهيما الذي استقبلها «ازيك يا بلوة دكتور البهايم»
جاورته رافضة الجلوس جوار حمزة في تمنّع ودلال، انشغلت بسؤال هيما عن أحواله ووالدته وإخوته ومشاهدة الصور التي التقطها لها، وعن دروسه ومدرسيه
هتف حمزة «بطلي رغي وجومي هتيلنا حاجة نشربها وبعدين جهزي عشا»
نهضت في رضا وهي تضرب هيما بالوسادة في مشاكسة لم ترُق لزوجها بل جلبت غيظه وغيرته الي تعرفها ، ضحكت فطالعها بتوعد خفي وهو يصرفها بجفاء كاذب نبع من غيرته «يلا يا سكن»
سأل حمزة إبراهيم المُنشغل بهاتفه والصور «هتنجل متى؟»
سأله هيما بلا مبالاة وبرود متعمد في برود«فين»
قطب حمزة وهو يخبره بصبر وهدوء «الشجة بتاعتك الي جصادنا»
أجابه هيما بإنشغال وهمي «أنا ماليش شقق أن شقتي هناك»
سخر منه حمزة في ضيق لا تروقه كلماته ولا مراوغته «وحياة أمك؟ مش جولتلك الشجة جهزت»
صارحه هيما ببعض الضيق «مش عايز شقق ومتقولتلكش اشتريلنا»
أجابه حمزة بثبات وتفهّم رغم غضبه «أنا عايزكم جنبي عشان أبجى مطمن عليكم ومطمن على أمي وسكن بوجودكم»
أجاب هيما في استعداد للجدال «أنا مرتاح فمنطقتنا ومش هسيبها وأصحابي كلهم هناك ودروسي»
زفر حمزة بملل قبل أن يُجيبه بنبرة متهكمة يردعه عن عِناده «ربع ساعة بينا وبينهم متستهبلش»
قال إبراهيم بحدة وبوضوح دون مراوغة «حمزة مش هاجي ولا هاخد شقق»
سأله حمزة بسخط «ليه؟ »
قال هيما وهو يقضم أظافرة في توتر وحزن بعدما ترك جهاز التحكم «أنت مش مُكلّف بينا ولا مُجبر كل حاجة نكون زيك ولا ملزم كمان، كفاية الي بتعمله»
ابتلع حمزة كلماته وزفر مُسيطرًا على غضبه قبل أن يخبره بهدوء «مين جال إني مجبر يا حيوان ومين جال إني مش ملزم »
انتفض هيما بغضب «أيوة مش ملزم»
قال حمزة وهو يضيق نظراته عليه في فهم وسؤال «الأخ مش ملزم بأخواته؟»
قال هيما بعصبية وانفلات غير محسوب «أنت مش أخونا ولا لينا حق عليك عشان تعمل كل دا وتتكلف)
انقبضت ملامح حمزة بحزن وألم من كلماته غير المحسوبة، قبل أن يسأله بهدوء يعرفه هيما ولم يحسب له حساب«أنت شايف كده؟»
توقفت نظرات هيما على ملامح حمزة الحزينة في ندم جلب الدموع لعينيه والضيق من تهور لسانه..«أنا شايف كدا عشان...
قاطعة حمزة بهدوء ونظرة غامضة قاتلة «تمام خلاص...
سحب محفظة نقوده بصمت وأخرج منها بعض الأموال، مدّ كفه بها له قائلًا «خد عشان أنت عارف مبحبش أخد حاجه من حد»
ارتجفت نظرات هيما كما جسده، شعر بمرارة ما فعله في حلقه، ابتلع ريقه وفسّر بإرتباك جلب لنفس حمزة الشفقة عليه لكنه واصل لتأديبه «بس دي هدية»
وضع له حمزة الأموال على الأريكة مؤكدًا «لا معلش ولا هدايا»
ارتبك هيما وأخفض بصره للأموال يكاد يختنق خوفًا ورعبًا من جدية حمزة وطريقته، صمت مُطرقًا في جمود وفعل حمزة المثل في هدوء ومن وقت لأخر كان حمزة ينظر إليه برأفة ولين، منزعجًا من عذابه وحزنه لكنه مضطر للمواصلة .
فجأة هتف حمزة وهو يرفع الهاتف لأُذنه بما جعل هيما يحملق فيه مذهولًا في رهبة حقيقية «أيوة يا أمي حضري نفسك وحاجتك هاجي أخدك، معلش مش هينفع تجعدي»
خرجت سكن مبتسمة قبل أن ينقلب حالها وتسألهما بقلق مما تراه على وجهيهما «في إيه مالكم؟»
تجاهل حمزة سؤالها ونهض يخبرها بملل ونبرة حادة «خلصتي الأكل ولا لاه مترغيش كتير»
سألته بنبرة عاتبة حزينة ودمع تجمع في عينيها من فظاظته «في إيه يا حمزة أنا عملت إيه؟»
تخطاها حمزة للداخل دون إجابه، فنهض هيما منتفضًا بحزن يعتذر منها «متزعليش أنا السبب» رمى كلماته ورحل غير عابىء بكلماتها ولا ندائها، أغلق الباب خلفه وذاب ،غادرت للداخل مندهشة تمط شفتيها بعدم فهم، وجدته في الحجرة أمام الخِزانة، وقفت خلفه تسأله بقلق امتزج بحنانها «مالك يا حمزة حصل إيه مين زعلك يا حبيبي»
استدار بصمت أحاط خصرها بذراعه وجذبها لأحضانه ثم انحنى يقطف الزهر من فوق شفتيها، توترت من هجومه لكن سرعان ما خضعت له مستسلمه في تفهّم وحب، بادلته قبلته الجامحة بشغف لتهدأ ثورة نفسه ودقات قلبه.
ابتعد يلتقط أنفاسه فسألته وهي تلهث انفعالًا وحاجة للهواء «حصل إيه زعلك كِده»
نظر لعينيها واعتذر لها وهو يقبّل جبينها «آسف»
بقبضتها ضربته على كتفه «جولي مالك وسيبك من الي حصل بره»
سألها وهو ينزع عن شعرها الحجاب ببطء وهدوء «الأكل جاهز؟»
أجابته وهي تراقب ما يفعله «أيوة زي ما طلبت»
قال وهو يضمها لصدره بذراع وبالآخر كان يرتب خصلاتها كما يحب ويهوى «أنا مش جعان»
تأففت من تهرّبه «متلفش وتدور حصل إيه»
ابتسامة واسعة رسمها وهو يسحبها للفِراش «الي حصل إنك حلوة بره وجوا، سبحان من خلجك وصورك وخلى جلبك ملك لحمزة وروحك أمان ليه ونور، ليه مجتش بدري جنا وخطفتك؟»
ضحكت قائلة وهي تحيط عنقه بذراعيها«جول بجى ليه؟»
أوضح وهو يلثم وجهها مرة ويضمها مرة أخرى «عشان أعيش الي عيشته وأدوج طعم العوض، وأشوف كرم ربنا عليا وفضله إزاي يكون وإزاي يتجمع فواحدة شبرين»
عاتبته بضحكة ومرح وقلبها يخفق بجنون مما تسمعه وتراه في نظراته «أنا شبرين؟ بعدين مجولتليش هتتنقب متىِ؟»
ضحك نصف ضحكة وهو يسألها قبل أن يغرق فيها «لما تجوليلي أنتِ ليه حلوة جوي النهاردة وميتشبعش منك؟»
***********
بعد مرور مدة نهض؛ ليجيب على الهاتف الذي يلمع باسم والدته «أيوة يا حبيبتي»
«هو عمل كده، طيب تمام اطمني ومتخافيش هيروح فين يعني،هشوفه وأرجعه »
أنهى الاتصال وسحب تيشرته الثقيل وارتداه تحت نظراتها المتسائلة، ابتسم لها بحنو قائلا «هشوف هيما أمي بتجول رجع وجعد يجولها متمشيش وخبّط ورزّع في الشجة وبعدين طلع ولسه مرجعش»
سألته بإبتسامة «عملت فيه إيه يا حموزتي أنا عارفه لما تجفش وتقرر تأدب الي جدامك»
سحب الدثار من عليها مُعاتبًا «وحبيبي أتأدب مني متى؟ من يوم ما عرفته وهو الوحيد المسموحلة بكل جلة الأدب» ختم كلماته بغمزة شقية جعلتها تضحك وتقفز متحركة تجاهه على ركبتيها، حاوطت عنقه وهمست بدلال «أجولك سر كنت بصمم أنا الي أجبلك الأكل عشان أشوفك»
أحاط خصرها وهمس بضحكة «ده حب من زمان بجى؟»
قالت ضاحكة وهي تداعب أنفها بأنفه « طبعًا يا شيف حمزاوي»
شجعها قائلًا «اجهزي بسرعة عشان نروح نشوف هيما الحيوان دِه فين»
سألته قبل أن تترك أحضانه «هو عمل إيه؟»
قال بومضة حزن مرّت في عينيه وصوته فخدشت قلبها « بيجول أننا مش أخوات ومينفعش ياخد مني حاجة»
انتفضت في ضيق وغضب «هو جال كده؟»
هز رأسه بتأكيد فقالت بغيظ «يبجى يستاهل الجزمة الي تعمله فيه، علّجه من شعره المنكوش ده إزاي يجولك كده»
ابتسم حمزة متفهمًا لعصبيتها وغضبها «عيل يا سكن وجلجان وخايف ومحرج غصب عنه»
قرصت خديه قائلة وهي تلثم شفتيه «أنت جميل يا حمزاوي هو في كِده؟ رضعوك جمال وحب»
ابتعد عنها بسرعة قبل أن يثمل من خمر عاطفتها ويغرق في بحور شوقه الدائم لها، تحرك مُشجعًا «يلا يا سكني عشان أجبلك الحاجات الي بتحبيها ونسهر»
قفزت بحماس ناحية الخزانة بينما غادر هو ليفتح الشقة منتظرًا لها.
أمام الشقة وجده جالسًا بتوتر على الدرج، يقضم أظافره ويهز ساقه بإضطراب جعله يندفع في لهفة ويسأله «إبراهيم»
سَكن جسده كما كل خلية فيه، رمش مُنتظرًا، فجاوره حمزة جلوسًا على الدرج يسأله ببرود وعاطفة مخبأة تحت ثرى الجمود «جاعد ليه هنا وسايب أمك وأخواتك»
سأله إبراهيم وهو يبلع ريقه بتوتر «رايح تجيب خالتي»
صمت حمزة فقال إبراهيم بعينين دامعتين وندم حقيقي ما ترك عقله لحظة «أنا آسف مكنتش اقصد أزعلك»
سخر حمزة ببرود «يا راجل؟ »
هتف هيما بعاطفة وهو ينقّل نظراته بين وجه حمزة والدرج أمامه «أنت مش أخويا لا أبويا، معرفش حد غيرك ولا ليا غيرك»
صمت قليلًا بخوف من جمود ملامح حمزة وصمته ثم التقط أنفاسه وتابع «بس مش عايز أشيلك همي وحملي»
التفت حمزة يسأله ما بين الضيق والحذر «اشتكتلك؟ صدر مني حاجة تحسسك بكده»
أشاح هيما ودموعه تسقط «لا بالعكس، بس أنا حاسس طول الوقت إني حمل عليك أنا وأخواتي وأمي، شيلت مسئولية مش بتاعتك»
التفت حمزة يسأله بحنو امتزج بإشفاقه «هو الأب بيشتكي من المسئولية ولا بيجول مش بتاعتي يا جزمة»
رق قلب حمزة وانتفض لدموع هيما المتساقطة، حاوط رقبته بذراعه وجذبه موبخًا «بعدين يا زفت مستكتر عليا تكونلي أخ وابن وتكون سندي، طب دا أنا مش مطمن غير بوجودك؟ مشى حسن وجولت مش مهم ضهري متداري بهيما عايز تكسر ضهري؟»
ضمه هيما باكيًا منتحبًا كالأطفال، ليردف حمزة « بمشي وبتحرك وأسافر وأنا مطمن على أمي ومرتي عشان أنت موجود وبدالي، ولا الفلوس ولا الشغل رزجي لوحدي دا رزجكم معايا الفلوس بتاعة ربنا يا إبراهيم وأحنا أسباب وبعدين بكرة تاخد شهادة وتشتغل وأبجى سدد يا أخويا مش هجول لاه»
همس هيما بإعتذاره وهو يرفع رأسه «آسف حجك عليا »
ابتسم حمزة وأشار له «بوس رأسي وإيدي»
رمقه هيما بنظزة زاجرة قبل أن يتهكم «معايزش أبوسك فبوقك كمان؟»
قهقه حمزة وهو يعاود ضمه ضاربًا فوق رأسه «يا جزمة»
قال هيما متأففًا «ولا بلوتك مقصرة بتعوضه مني؟»
وبخه حمزة وهو يضرب رأسه «يا حيوان»
خرجت سكن قاطعتهما قائلة «أنا جاهزة»
رأته يضم هيما فهتفت مستهجة «بتحضنه كده ليه»
سألها حمزة وهو يفلت رأس هيما «دي غيرة ولا شك؟»
فغرت فمها مستنكرة قوله لها وتفسيره لقولها، نهض واقفًا يأمرها «جهزي عشا لإبراهيم يأكل جبل ما نوصله»
دبدبت معترضة بتأفف وإنزعاج «حضري ياسكن، خلاص يا سكن جرفتني،أنا الخدامة بتاعتكم»
رفع كفه في تهديد واستعداد لضربها «بت»
رمقته هازئة وهي تعود للشقة قائلة «اعملها وأنا أبيتك جنب أمك»
تخلى هيما عن صمته وشاركهما المشاكسة «أوبا أنت اتهزقت يا عمهم»
سأله حمزة بجدية كاذبة «بجد»
أكد هيما بهزة رأس وهو يشحنه تجاهها«آه والله مفيش رباية»
سحبه حمزة للداخل في تحفز وغضب، يناديها بعصبية «بت يا سكن»
خرجت متهادية تسأله بهدوء «نعم»
قال بغضب مزعوم وعصبية يشجعه عليها هيما «جهزي العشا خلصي يلا كلمة تانية وهرجعك مع هيما»
********
بعد دقائق كانت تجلس في المطبخ وتأمرهما بغرور وأنفة «لو سمحت يا شيف عايزه لانشون بالزيتون مبحبش الفلفل الأسود»
مال هيما على حمزة هامسًا باستهزاء «الي عملته حمشنة رجال مطافي، كان لازم تتشملل وتقولها هرجعك مع هيما»
حذره حمزة وهو يواصل إعداد العشاء«اخرس وخلّص عشان نمشي هربيها لما تمشي »
سخر من هيما بضحكة متهكمة «تربيها؟ هتستعبط ما تربيها جدامي؟»
كتم حمزة ابتسامته وقال في مراوغة «لاه يعني تشوف مرتي بتضرب»
حرّك هيما فمه يمينًا ويسارًا وهو يقول «متأكد إن دِه السبب»
كتم حمزة ضحكاته وهو يؤكد بجدية كاذبة «أيوة طبعًا»
زفر هيما بغيظ قبل أن يصمت متابعًا إعداد الطعام بينما تراقبهما سكن بإستمتاع، أرسلت له فسحب هاتفه من جيب بنطاله وفض رسالتها «جمر بالمريول يا حموزتي»
راسلها «هلبسهالك وحياة أمي» اتبع رسالته بأيموشن غمزة..
فكتبت تشاكسة «هتبجى جنان فوج الجميص الأحمر فاكره»
رد كتابةً«وده يتنسى هرجّع هيما البيت بعد الأكل وأجي أشوف»
كتبت بتأفف وصله « ساعة كمان يا حمزة ومش هصبر وهجوم أبوسك جدامه وأنت جمر كده »
راسلها هازئًا«شكلي هرجع ألاجيكي نايمة»
انتفضت من جلستها فجأة تطردهما «زهجتوني دول مكانوش شوية بيض ولانشون»
ضرب هيما الطاسة فوق الطاولة أمامها قائلا «خلاص جومي اعمليهم»
حذرته بضحكة مكتومة «الطاسة تيفال يالا لو اتجشرت ولا اتخدشت هدفعك تمنها»
استاء هيما منها، فخلع المريول ورماه أمامها منسحبًا «والله ما أنا طافح، أبو عشاكم يلا يا عم روحني هاكل فبيتنا»
غادر هيما منسحبًا ينتظر حمزة في سيارته، ليخلع حمزة المريول ويخطو للخارج لكنها أوقفته على باب المطبخ تشير لشفتيها «من تحت الحساب يا حموزتي»
حجزها بين جسده والحائط ثم مال وعانق شفتيها برغبة انقطعت برنين هاتفه واستعجال هيما له، اعتدل حمزة يهمس من بين أنفاسه اللاهثة «اجهزي وجهزي الأكل يلا سلام»
********
♕في قنا ♕
هتفت وهي تراه يخرج كعادته شارد الذهن منطفيء الروح في كآبة لا تستسيغها «سليم أنا كلمت خالتك وخدتلك موعد مع جوز خالتك بكره بعد العشا»
تزلزلت أرض صبره وانهار ثبات عالمه، الكلمات أضحت سهامًا تخترق صدره دون رحمة، ألقى عليها نظرة عتاب طويلة من الطفولة للكهولة وغادر بشعر أشيب وجسد يرتعش، فرك كفيه يبث الدفء في جسده ولا يعرف أهو برد الشتاء أم برودة المفاجأة والألم الذي في أعقابه النكسة والحسرة، مرّت الأعوام في جسده والفصول في روحه، اختارته الكهولة مسكنًا واختار الخريف روحه موطنًا، أي وهن هذا الذي يتلبسه كأنه بلغ من العمر عتيا، ليت العمر ينتهي ويفنى وهو على حاله، ليته يموت بعشقه ولا يموت بحسرته وظلمه لواحدة يتوّق للمستها وأخرى يظلمها بلمساته الباردة.
جلس بين الزروع يفرك ذراعيه... حتى لمح في نهاية الأرض نيران مشتعلة للتدفئة ..
نهض وخطا ناحيتها، جلس قربها يتدفأ فوصلته غمغمات ومناجأة جعلته يتطلع حوله بسكينة..
كان رجلًا لا يعرفه يسجد أرضًا يناجي الله بخشوع، يصلي ويبتهل ويدعو ويبكي بندم حارق، يزرف الدموع بغزارة، بينما سليم يستمع ويشاركه تلك المناجاة وهذا التضرع.. حتى انتهى ونهض ليجلس أمام النار بصمت، قلّبها بصمت دون أن يسأل عن هويته ولا عن سبب اقتحامه خلوته ابتسم الرجل الوقور برزانة قبل أن يسأله بعطف «تشرب شاي يا سليم؟»
تأوه سليم والنارالمشتعلة طالت قلبه فأحرقته فأضحى رمادًا،انتفض يسأله بذهول«عرفت اسمي منين؟»
ابتسم الرجل ببشاشة وقال وهو يُعدّ الشاي له فوق الحطب «شوفته فوشك سليم الصدر مشغول الجلب والبال»
تأوه سليم بحزن عتيق وهو يعتدل في جلسته براحة تسربت لنفسه المعذبة «كيف يروج البال يا عم»
ناوله الرجل الوقور كوب الشاي ليبثه الدفء وقال بابتسامته الهادئة المطمئنة «يروج بالله بالتسليم والرضا» أحاط سليم الكوب الزجاجي بكفيه المرتجفين يتلمس من سخونته الدفء متسائلًا بلوعة «لو الرضا في المنال يا عم»
ضحك الرجل قائلًا وهو يرتشف من كوبه «يبجى مسلمتش يا سليم»
حملق فيه سليم متسائلًا «أنت مين يا عم.؟»
أجابه الرجل ونظراته تدور في ملكوت الله الواسع ويتنفس بعمق«أنا المهزوم والهازم المأسور والأسير الجاني والمجني عليه»
أدمعت عينا سليم متأثرًا بقوله وشجون الرجل وصدقه الذي يلامس القلب، هز رأسه بتفهم ثم رفع رأسه للأعلى وطالع النجوم هامسًا «النجوم بعيدة جوي ياعم على سليم»
ضحك حسان وهو ينظر إليه بقوة موضحًا «كيف بعيدة وأنا شايفها فحجرك»
عادت نظرات سليم لحجّره بإقتضاب وتفكيرعميق تتخلله الحيرة، فبادره الرجل وهو يترك كوبه «جوم نصلي تنور بصيرتك وتشوفها»
نهض سليم مُسيّرًا لا يملك إلا الطاعة والإنصياع، نورغريب يخرج من ملامح الرجل يغشى عينيه فينقاد إليه مسحورًا، كلماته كانت تعاويذ سحرية.
طلب الرجل وهو يقف جواره بخشوع «قيم الليل بسورة يوسف يا سليم»
أومأ سليم بصمت وبدأ الصلاة والتلاوة يكرر بعض الآيات فيذوب الاثنان خشوعًا، تدمع عينا سليم ويبكي الرجل..
أثناء جلوسهما ربت الرجل على كتف سليم قائلًا «أدعي يا ولدي لآخر نفس، اليأس مش ليك ولا يشبهك»
تنهدّ سليم بعمق وهو يُدير رأسه، فنهض الرجل من خلفه ورحل، انتفض سليم واستدار ليلحق به لكن الرجل مشى بصمت دون كلمة أخرى مما جعله يسأله بلهفة «هشوفك تاني؟»
قال الرجل دون أن يستدير «كل ليلة خميس هتلاجيني هنا، هستناك زي ما أستنيتك الليلة»
غمغم سليم بذهول وصل للرجل واضحًا فابتسم «استنيتني؟»
أخبره الرجل بشجن «أبوك الشيخ كان جاعد معاي وجلي سليم هيمر عليك الليلة استناه»
انتفض سليم برهبة وهو يحاوط جسده بذراعيه ويمرر السؤال بتلعثم «أنت مين يا عم؟»
رفع الرجل رأسه وخطواته تتباطىء ثم قال وهو ينظر للقمر «أنا الي ضيعت الجمر وجاي أساعدك تطول النجوم »
**********
استيقظ مفزوعًا من نومه ينادي بإسمها في لهفة امتزجت بلوعته وجزعه، ذراعه ممدودًة في استعطاف واستجداء، سحبها وأسقطها جواره في استسلام بعدما تبينت عين وعيه الواقع وأن ما عاشه كان حُلمًا سيئًا وأضغاث أحلام، أخذ يلهث في تعب يغمغم بالذكر في تضرع تلقائيًا استدار لسيدة الحُلم وبطلته تأملها بحنو ورقة بالغة قبل ينكب عليها مُلثمًا في افتقاد وخوف وهو يهمس «سكن»
فرقت بين جفنيها تستقبل ملامحه بابتسامة رائعة كعادتها، تمنحه فيها تحيتها ووعدًا جديدًا بالعشق، تمدد يدفن وجهه ورأسه في تجويف عنقها مكبوتًا بمشاعر عديدة مختلفة، ضمّت رأسه لصدرها قليلًا تسترد وعيها وتنفض النعاس قبل أن تهمس «حمزة»
رفع رأسه يطالعها بنظرات غائمة تتموج فيها المشاعر «اصحي كفاية نوم»
سألته وهي تتخلل خصلاته المبعثرة بأناملها «الساعة كم؟»
سألها ومازلت ذاكرته مشحونه بكابوسه «يهمك إيه في الساعة؟»
أجابته وهو تواصل اللعب بخصلاته التي طالت كثيرًا «لاه عادي بس عايز أعرف إيه صحاك»
أجابها ونظراته تتنقل في وجهها حتى ركنت عند شفتيه تطرق في اشتياق «وحشتيني»
مطّت شفتيها بعدم اقتناع مستهجنة قوله، ليسألها بملامح جادة «مش مصدجاني؟»
نظرت إليه طويلًا متحيرة في أمره قبل أن تصفف خصلاته بأناملها قائلة «يوم حادثة أسيوط لما حلقوا شعرك زعلت عشانه وبكيت لأني حسيت إنك بتحبه وبتهتم بيه»
ابتسم وهو يسألها بمكر «زعلتي وبكيتي عشاني أنا بس؟» عضت جانب شفتيها مفكرة قليلًا قبل أن تعترف بعاطفة «لاه كان نفسي أعمل الي بعمله دلوك»
ضحك وهو يعض خدها يحثها على المزيد الذي يراه بنظراتها «وبعدين؟»
أحاطت عنقه بذراعيها تهمس بإحباط «شوفتك لما رجعت من غيرهم لجيتك حلو برضو، غريب إنت حلو فكل حالاتك والعين متشبعش منك»
تأوه هامسًا مأخوذًا مسحورًا بإعترافها «لسانك يا سكن»
أبعدته عنها بكفيها في تبرم «يلا بما إننا صحينا خلينا ناكل»
رفض وثبت مكانه بتشبث «لاه»
سرى بينهما صمتًا طويلًا مشحونًا حتى مزقته بسؤالها المرتجف المجاور لهواجسها في عقلها «حمزة هو ممكن أتعب تاني ونبعد عن بعض تاني؟»
أغمض عينيه لا يعرف بماذا يُجيبها هو نفسه لا يجد إجابة ويخشى حتى سؤال نفسه، كيف سيُحرم منها بعدما ذاق لذة القرب؟ كيف ستغدو حياته بعدما اعتدل ميزانها وأصبح لها طعمًا.
حركت شفتيها تجاه جبهته ومررتها عليها مغمضة العينين في انسجام قبل أن تتنفس وتمنحه وعدًا صادقًا حارًا ومجنونًا متهورًا «لو هموت يا حمزة مش هبعدك تاني»ابتلع كلماتها بشفتيه قاطعها بقبلة تصف شعوره اللحظة وتبثها ما يعانيه.
قوية كعشقه لها وعنيفة كأحساسه بالخوف من فقدانها، يؤلمها فتكتم حتى ابتعد يطلق الإعتذارات بنظراته، يمرر إبهامه فوق شفتيها معتذرًا «آسف»
ابتسمت بحنو متفهمة قبل أن ينهض ويتركها مغادرًا للمطبخ، ارتدت مئزرها ولحقت به وجدته يقف أمام الفريزر الأفقى شارد الذهن فجاورته هامسةً«محتار ليه؟»
ابتسم عائدًا لوعيه يخبرها «لاه عادي بشوف ممكن أطلع إيه!»
استندت بكفيها على كتفه مقترحة «عايزة حمام ياحمزة أمي جيبالي ٤٠جوز»
شاكسها وهو ينظر لوجهها «هي جيباهملي أنا»
قالت مشاكسة في دلال «بالنص ياحمزاوي زي كل مرة»
سحب ما قرر طهيه ووضعه قريبًا ثم التفتت إليها قائًلا «تعالي نشرب شاي بلبن وناكل حاجة سريعة وبعدها نشوف ورانا إيه»
هاتفته هند تطلب من القدوم للمطعم لمناقشة أمر هام وضروري، ترك سكن بشقتهم القديمة بعدما انضمت لها ورد التي عادت من منزل منى.
بعد مرور ساعات
دخل مناديًا كعاته التي لا يتخلى عنها ثم جلس جوار والدته بكآبة حلّت عليه وحزن عكّر فرحته،نظر لوالدته نظرة طويلة يستمد منها القوة والحياة ويُداوي بها جرحه وخذلانه ثم سأل عنها زوجته قطعة روحه «فين سكن»
يفتش ليطمئن ويهدأ برؤيتها، ليمنح نفسه الرضا الكامل والحمد والشكر على ما مرّ وكانت مكافآته تلك الأيقونة والشعلة المتوهجة دائمًا، يذكّر نفسه أنه مُنح العوض ووهب لصبره جنة على الأرض عرضها والدته وسكن، رمقته ورد بنظرة ثاقبة قائلة «نامت لما اتأخرت»
أخذ نفسًا عميقًا وعاد لشروده مجددًا فسألته ورد بحنان «فيك إيه ياضنايا؟ مهموم ليه وشايل الدنيا فوج راسك؟»
مال قليلًا يخبرها بخذلان لا يبرح ساحاته وهو يغمض عينيه متأثرًا بجراحه يكتم نزيفها «حسن» قالها ثم كررها وهو يستعيد الشعور ويضغط على جرحه بالملح، يتألم ويتلوى في عذاب كأنه يستوعب مع كل حرف ما يحدث من رفيقه وصديق عمره، يقنع ذاته أن هذا هو حسن
ارتجفت والدته وسألته منتفضة وكلًا منهما يقبض بين جنباته على خوف من نوع خاص «ماله»
تحركت صور الماضي والحاضر أمام عينيه،ليستعيد وعيه ويُجيبها بحشرجة وهو يشبك أنامله «عايز يفض الشراكه ويطلع»
هتفت ورد بإنفعال بعدما التقطت أنفاسها ووزنت الأمور «بس كدِه؟ طلعه يا حمزة عايز يسيبك خليه يمشي»
نظر يُفضي إليها بوجع وانكسار «مش فاهم ماله وجراله إيه؟ حسن مكانش واحد عادي يا أمي»
تألمت ورد لأجله لكنها قالت بصلابة وقوة هزت أركان ضعفه وهدمته «هو اختار المكان الي عايز يبجى فيه سيبه»
أخفض حمزة نظراته الحزينة لكفيه المشتبكين ثم وضّح «ممعيش سيولة كل الي كان معايا اتصرف على الشجج والعفش»
قالت ورد بحدة غلبتها «يستنى»
صفعها بكلماته كما صفعته كلمات حسن وهزمته شر هزيمة «حسن مصمم وبيجول اتصرفوا وحاططني فوجف صعب يا أمي»
قطبت ورد بغضب حقيقي مما تسمع، لكنها تماسكت وقالت وهي تربت على كتفه بابتسامة امتصت كل حزنه«سيبها لله هتتدبر وجوم شوف مرتك »
أمسك بكفها ولثمه بتقدير قبل أن ينهض، استوقفته ورد مُحذرة بلطف «متجولش لسكن حاجة»
سألها حمزة بدهشة «ليه»
قالت ورد بثبات ونظرة غامضة « بتزعل عليك جوي متنكدش عليها وعلى نفسك» أومأ حمزة بتفهم بينما شردت ورد في حزن وضيق، لو أخبر سكن لجلدت ذاتها وحمّلت نفسها الذنب ولن تنجو من ندمها وكأنها مصدر الأذى لا نفس صديقه الخبيثة،الجهل لها أفضل لتكون هي راحته ومصدر سعادته معها ينسى وينشغل ويتجاهل حتى تمر المحنة بسلام دون ندوب في قلب ولدها الذي تنفس الصعداء لتوه
في الحجرة
جلس على ركبتيه أمام الفراش هامسًا برقة وهو يرتب لها خصلاتها ويلملمها «سكني»
استيقظت ترسم على وجهها اللهفة والتوق، أشارت إليه فاقترب مُلبيًا بشهية للقرب، لثمت شفتيه هامسةً «حمزاوي وحشتني»همس بحنو متناسيًا كل شيء «وأنتِ كمان»
عاتبته بإنزعاج وقلبها يستوحش غيابه وفراقه ولو دقائق «حموزتي متطلعش فشهر عسلي»
قبّل أرنبة أنفها معتذرًا «معلش مش هطلع تاني»
أغمضت عينيها واعتصرتهم فملّس فوق جبهتها متسائلًا بقلق «مالك يا سكني»
فتحت عينيها وزفرت بقوة مُفسرة «صداع يا حمزة مسابش دماغي»
سألها وهو يفرد كفه فوق جبهتها «مسكتي الفون كتير»
أجابته بألم يعتصرها ويسلب وعيها وقوتها«لاه خالص بيجي كده مرة واحدة»
انتفض متراجعًا متذكرًا الصداع الذي كان يهاجمها قديمًا فتأتيه تطلب مسكنًا، رمش بخوف وأنفاس تُحتبس داخل صدره خلف قضبان الرعب، هل تعود زهرته للمعاناة؟ هل تذبل بين ذراعيه بعدما رواها بحبه وارتوى من عشقها؟ أي رياح تلك التي تهاجمها وتريد إقتلاعها وحرمانه منها؟ لحظة رعب جعلته يقترب ويفرد ذراعه ليضمها بأنفاس لاهثة جعلتها تسأله «إيه....
صمتت طويلًا لا تفهم حتى تذكرت هي أيضًا فشهقت مرتعبة، تنتفض بزعر بين ذراعيه وهي تهمس باستنجاد «حمزة»
عاد لوعيه ولثباته، رفع رأسه وقال بإبتسامة ممزقة بالوجع «إيه يا روح حمزة؟»
سألته بتلعثم مرير ونظراتها تتسع عليه بهلع «الصداع دِه زي...
قاطعها يصرف ذهنها عن التفكير ويشتتها «النهاردة كم في الشهر يا حلوة»
فكرت قليلًا ثم صمتت، لينهض ويجاورها قائلًا «تعبك الشهري العادي متخفيش وأكيد الصداع ده لأنه قرّب »
جلست تسأله بلهفة تريد قشة تتعلق بها «بجد»
أكد وهو يحيط وجهها براحتيه في حنان «أيوة متخافيش»
نهض ممسكًا بالدثار، يحثها ويشجعها على النهوض «جومي يلا جعان عايز أكل»
نهضت واقفة لفحها دوارًا فمد كفه؛ لتستند عليه هامسًا «زمان في جنا مكنتش أجدر ولو حبيت إني أعملها، لكن دلوك أجدر يا نور عين حمزة»
ابتسمت بذبول وجفون مرتخية، رمت بثقل جسدها لأحضانه فضمها بقوة يهمس مُكررًا «اتسندي عليّ يا سكن زي ما أنا مسنود على جلبك»
ضمته بقوة متأوهة لا تعرف أتصدرها تأثرًا أم تعبًا، كلماته معناها أبعد من مجرد جسد تستند عليه، هو يخبرها أنه هنا بجوارها متكأ عند الحاجة، أن تشاركه كل شعور دون خوف وتقاسمه أوجاعها دون أن تحس بعبء عليه، سيظل هو لأخر نفس معها وجوارها مهما حدث
حركها قليلًا يلثم وجهها، يجوب خريطته بشفتيه، قبل أن ينحني ويحملها بين ذراعيه مُقترحًا بمرح «حبيبي هيجعد وأنا هجهزله الغدا»
عاتبته برقة «بس أنا أحب أجهزهولك»
ضعها فوق الكرسي بالمطبخ ثم خرج وأحضر لها حبة مسكن وماء ووضعها بين شفتيها هامسًا «لاه بس عايزك تجعدي وترغي معايا، كفاية أشوفك جدام عيني»
أحاطت وجهه المُنحني براحتيها ولثمت شفتيه هامسةً «ماشي استحمل ومتجوليش كلتي دماغي»
منحها بعض الخضار المغسول وطبق يأمرها «اعملي السلطة هغير هدوي وأرجعلك»
انشغلت بالعمل فبدّل ملابسه وعاد إليها يعمل بصبر وحماس، يثرثر في الكثير المهم وغير المهم، الجدي والمتزن والتافهة الذي لا معنى له سوى أنه يريدها أن تتحدث ولا تصمت أبدًا، تنشغل به وينشغل بها عن العالم،لا يرتفع سوى صخب ضحكاتهما وحديثهما الرائق ومتعة القرب .
******
في المساء قرر المبيت مع والدته
أثناء حديثه مع والدته تشتت ذهنه وطاردت نظراته مدللته التي تتحرك أمامه بحرية ولا مبالاة لا تهتم بقلبه ولا أنفاسه التي تتحرك معها أينما ذهبت .
ابتسمت ورد حينما لاحظت انشغاله ونظراته الهاربة لزوجته فصمتت تراقب باستمتاع ، نادى حمزة زوجته مكتفيًا من المراقبة «سكن تعالي»
وقفت أمامه مستفسرة «إيه؟»
طلب منها وهو يتأملها «هاتي مشط وتعالي»
هزت رأسها بالموافقة قبل أن تنسحب للحجرة أحضرت فرشاة شعر وعادت إليه، جلست أسفل قدميه متربعة في انتظار وهدوء، لا تناقشه فيما يريده تنفّذ دون جدال أو سؤال،هي ملكه يفعل ما يحلو له وما يحبه إن لم توفره هي.
قسّم خصلاتها لجزئين متساويين ثم صنع جديلتين معلقتين في أعلى الرأس وتركها مُعلنًا انتهائه من عمله بتنهيدة، ابتعدت تنظر إليه وهي تتحسس ما صنعه، فجأة انفجر في الضحك على هيئتها بهما، قطبت في صمت قبل أن تنهض مُتجهة لأقرب مرآة؛ لتعرف سبب ضحكاته
عادت بعد قليل صارخة وهي تمسك بجديلتيها «شايفة ولدك»
كتمت ورد ضحكتها وقالت بهدوء مُغيظ منضمة لحمزة في مشاكسته «عمل إيه؟ ما هو حلو اهو»
واصل هو قهقهته على شكلها المضحك بالجديلتين المُعلقتين كالمشنوقتين،مما أثار غيظها وغضبها فسحبت كل الوسادات الصغيرة التي حولها ورمته بها وهي تهتف بحنق «ماشي يا دكتور البهايم» صدّ الوسادات بذراعه وضحكاته لا تتوقف قائلًا من بينها «حلوين يا سكن شكلك رهيب»
زعقت ودبدبت بضجر قبل أن ترحل للحجرة وتغلق خلفها بالمفتاح عن عمد، وقف أمام الحجرة يطرق «افتحي يا سكن»
قالت بغيظ وهي تفك جديلة منهما أمام المرآة «لاه منتاش داخلها النهاردة»
قال برفق وهو يكتم ضحكته «خلاص بهزر معاكي»
قالت في شماتة «خليلك هزارك ونام في الصالة»
قال يستميلها ويسترضيها «افتحي وموافج على أي ترضية»
لمعت عيناها بشغف وتوقفت أناملها، تركت الجديلة واقتربت من الباب تسأل«أي ترضيه أي ترضيه؟»
قال بحماس وهو يمسك بمقبض الباب في استعداد «أيوة»
ضحكت بنعومة قبل أن تعود لطاولة الزينة قائلة «لاه مش عايزة نام بره برضو»
بعد مرور وقت جلست منشغلة بالهاتف ومراسلة الفتيات ، حتى وصلها همسه «ازيك يا حلوة»
انتفضت قافزة من مكانها في فزع وهي تُلقي بالهاتف جانبًا وتركض «دخلت كِيف؟»
تمدد فوق الفِراش قائلًا ببرود «معايا نسخة احتياطي»
قالت وهي تقفز فوق الفِراش الأخر واقفة تطلب «طيب وديني الملاهي، أو سينما»
هز رأسه مبتسمًا ينهض من استرخائه يقترب مطاردًا من جديد «حاضر»
سألته وهي تثبُت مكانها موجّهة نظراتها إليه «طيب أنت عايز إيه؟ مش اتفجنا»
ابتسم ببراءة كاذبة قبل يخبرها بهدوء «عايز أحكيلك حكاية جات فبالي من شوية»
كتمت ابتسامتها وسألته «فيها لغز وهحله؟»
أجابها بتأكيد «أيوة طبعا»
قفزت من فوق الفراش وركضت تجاه الباب قائلة «لاه مش عايزة»
فتحت باب الحجرة وهربت للخارج، أشار لها قبل أن يغلق الباب بإبتسامة ماكرة «شطورة نامي بجا أنتِ جنب ورد ومش عايز إزعاج تصبحي على خير»
شهقت مستنكرة وهي تقف في الممر محملقة في باب الحجرة الذي أُغلق في وجهها بإستفزاز واستهانة... استجمعت شجاعتها وقالت بلامبالاة وهي تهز كتفها،لا تعرف من فيهما سيتخلى عن عناده أولًا «ماشي هنشوف يا واد عبد الحكيم»
***********
وقف أمام المرآة مُحدثًا نفسه في حزن «بتعملي فيا إيه يا أم سليم» تنهد بوجع حقيقي يغزو قلبه ويوهن همته، جلس مستريحًا على طرف الفراش يستجمع قوته ويلملم شجاعته، يبث نفسه العزيمة
ويهوّن على قلبه المحطم ويصبره بكلمات الرجل.. خرج من الحجرة ليجد والدته بانتظاره، رأته أمامها واقفًا بشموخ وكبرياء كعادته يمرر لها بعض التوسل والرجاء لكنها تحركت أمامه في تنفيذ سريع لا تُلقي بالًا لتوسله وحسرته التي ترأهما وحدها في نظراته ودمع عينيه العزيز، تتنهد مع كل خطوة فالعشق لا يليق به ولا يناسبه، يكفيها تلك الحسرة التي أكلت قلبها وتلك النار التي التهمتها حين علمت بما خلّفوه في قلبه، هذا الذي ربته ليكون أفضل الجميع وأحسنهم مرغوا كرامته في الوحل وجعلوها تتلوى ألمًا أيامًا وليالي، هم ليسوا بأفضل منه أطلاقًا، فليرفع هامته بكبرياء واضعًا قلبه تحت قدميه فأي عشق هذا الذي يذل صاحبه ويحط من كرامته؟
سار جوارها بصمت تجره خلفها منقادًا لا تحتاج لأن تمسك كفه وتقوده خلفها، يكفيه نظرة حازمة منها و سيفعل.
وصل المنزل واستقبلهما زوج خالته بترحاب شديد وتقدير ما كان يحتاج أن يعرف نتيجة المقابلة أو ينتظرها، الجولة محسومة ومنتهية صلاحية التفكير، ما يحدث الآن تقديرًا للفتاة واحترام لعُرفٍ سائد، سيمنحها له زوج خالته بطيب نفس وصفاء سريرة، تأوه بخفوت وهو يتابع مراسم الوأد حيًا لقلبه ومشاعره ، يتخيلها أمامه فيستعيذ ويعود للواقع، يسمع همسها ببعض الآيات فيغمض عينيه مستشعرًا دفء نبرتها ، يتذكر كلماتها ولقائهما فيبتسم كمعتوه، صمته وغيابه لم يكن محل شك لزوج خالته،فهو يعرف تقديره لوالدته وإمساكها بزمام الأمور واحترامه لها، لم يفق إلا على صوت الزغاريد المنطلق يملأ الأرجاء وقد حددوا موعدًا ليس ببعيد لمراسم دفن قلبه حيًا بين الثرى، طلب زوج خالته كفه لقراءة الفاتحة فنظرت إليه والدته برجاء وعاطفة ألا يخذلها ويحطم مسعاها... ففعل مبتسمًا كعادته وضع كفه ليقرأ الفاتحة على قلبه إيذانًا بموته..
دارت نظراته في الوجوه باحثًا ولسان حاله يسأل
هل من أحد يسأله ما هي أمنيتك قبل موتك؟ لأُخبرهم بأمنيتي الوحيدة والدائمة رؤية عيناها.
*******""""
انقبض قلبها وهي تجلس جوار والدتها ممسكةً بهاتفها تنقر فوقه بغير هدى، تجاري والدتها في النقاش والسؤال عن الفرح وأحوال سكن وماحدث، لكنها لا تُفضفض بالكثير المهم، تمنحها القليل الذي يسد جوع فضولها ويُسكته،محتفظة بالباقي لها وحدها، أخبرتها أن كل شيء كان عاديًا حتى لا تُثيرها، سألت عن والدها وسعد وزوجته لتتهرب من أسئلة والدتها
فأخبرتها أنهم لم يعودوا بعد من القاهرة فوالدها يقضي شهر عسله هناك بعد زواجه.
أما نفيسة فملّت السؤال وإخراج الكلمات من فم عاليا فنهضت في عزم مقررة المغادرة
سألتها عاليا وهي تراقب ارتدائها عباءتها وتخفيها بطرحتها «رايحه فين يا أما؟»
أجابتها نفيسة بعدم اهتمام وهي تخرج من المنزل «مشوار»
قلبت عاليا شفتيها بعدم فهم، قبل أن تعود لإنشغالها بالهاتف وتصفحها صفحته من جديد حتى رفعت رأسها على صوت جدتها العالي وندائها «مين هنا؟ حد ينده حكيم يجوله شوف أخوك رفعت بيجولوا اتجوز غزيّة»
عادت عاليا ببصرها للهاتف متنهدة بحزن ونداء جدتها يعلو باسم عمها في استغاثة مرة وبكاء وتوبيخ مرة أخرى حتى عادت لحجرتها مستسلمة أغلقت عليها تبكي الغائب والحاضر بعذاب ليس كمثله شيء.
طرقت نفيسة الباب بوجل وهي تتلفت حولها في رهبة، نهضت سما من مكانها متأففة «أيوة جاية»
فتحت الباب فسألتها نفيسة في اندفاع وسرعة؛ ليتنهي الأمر سريعًا «خالتك جاعدة؟»
تفحصتها سما بعينيها قبل أن تُدخلها مُرحبة «أيوة اتفضلي
1
