اخر الروايات

رواية علي ضفة قلبك ظمآن الفصل السابع والعشرين 27 بقلم سعاد محمد

رواية علي ضفة قلبك ظمآن الفصل السابع والعشرين 27 بقلم سعاد محمد


الفصل السابع والعشرون
(لَمَّا هَوَت المِقصَلة!)
بغرفة الاستقبال البسيطة حيث اعتاد الانتظار في حماس، في فرحة ها هو يقف منذ ثوانِ حانقًا، مُتوعدًا ينفث الأدخنة من فمه وأذنيه وهو يُتمتم بألفاظ لا معنى لها!
وما إن تجاوز مُعلمه باب الغرفة حتى بادره هاتفًا باستنكار:
_ماذا كنت تفعل ببيتنا بالأمس يا أستاذ ضياء؟! لقد آمنتك ووثقتك بك، أيكون جزائي أن تُفكر بِوالدتي؟!
توتر الأستاذ لوهلة من هذا الهجوم الذي حَضَّر نفسه له بالفعل، ثم تمالك أعصابه وقال في مُهادَنة:
_اسمعني أولًا يا بني وافهم!
طالع ياسر هذا الهدوء غير المُناسب على الإطلاق فاتسعت عيناه في غضب وصاح:
_ماذا سأفهم؟ ألم تطلب الزواج منها بالأمس؟!
_بل فعلت.
والثبات الذي ردَّ به أستاذه لم يشفع له، حيث انتفخت أوداجه وصرخ:
_لماذ..
_لأن والدتك سيدة فاضلة أحترمها كثيرًا، عائلتها مُشرفة، وابنها.. بمثابة ابن لي أيضًا!
قاطعه في صرامة باللحظة ذاتها حين دلفت سلام تنقل نظراتها بينهما في اضطراب لتجد عمها يتطلع إليه في مزيج من الرجاء والاشتياق بينما ياسر يُكافح كي يُسيطر على هذا الارتباك الذي أشاعته به عبارة مُعلمه الأخيرة!
حتى تابع الأخير في نبرة أكثر هدوءً:
_ولأنني لن أجد أفضل منها لتشاركني ما تبقى من حياتي.
أطبق ياسر شفتيه عمَّا كان سيعبر به عن سخطه، والتقطت عيناه هذا الرجاء المُستميت بعيني الرجل، تملكته الحيرة فمنعته من الارتكان إلى أية جهة..
القبول.. أم الرفض؟
ماذا عليه أن يفعل؟
"لماذا تصرخ بهذه الطريقة؟!"
قفز صوتها إلى سمعه فَعَلِم أن عليه أن تبديد هذا الحنق بمن أقحمت نفسها بأمر لا يخصها!
إلى هذا ارتكن وهو ينظر لها غاضبًا فأدارت ظهرها له لتواجه عمها في توسل:
_هلا تركتنا قليلًا يا عمي؟!
_بالطبع لا!
والرد الصارم الذي هتف به عمها أعاد لياسر ذكرى مُعلمه الذي كان يُثير الذعر بأوصال طلابه من خلال نظرة تأنيب بلا كلمات، وتلقائيًا عقد كفيه خلف ظهره وأطرق برأسه أرضًا في أدب!
لكنه ما لبث أن نفض رأسه وشد قامته ليضع كفيه في خصره مُذكرًا نفسه بأنه لم يعد ذلك الطالب البليد، بل هو شاب يواجه.. خطيب أمه!
نفرت عروقه وهمَّ باستئناف الصياح فتوسلت هي عمها قائلة:
_أرجوك دعني أتحدث معه! أليس بخطيبي أو شيئًا من هذا القبيل؟! يحق لي التحدث معه إذن!
عبس عمها في تردد فواصلت تضغط عليه أكثر:
_أرجوك يا عمي!
ضغط على أسنانه وألقى نظرة قلِقَة عليها أتبعها بأخرى مُحذرة على ياسر ثم خاطبه في حدة:
_إياك أن تزعجها بكلمة واحدة! ثق أنني أستطيع الفصل تمامًا بين العلاقتين!
ثم خرج من الغرفة بعد أن فتح الباب على مصراعيه أثناء تمتمة ياسر المُستخفة مع حرصه على ألا يسمعه بالفعل:
_لا وجود لـ"علاقتين" بعد!
_اهدأ يا سيد ياسر! لا داع للغضب، الأمر لا يستحق منك كل هذا الانفعال!
بادرته سلام قبل أن يفعل هو، فحدق بها مُستنكرًا ثم قال:
_عمكِ طلب الزواج بوالدتي، ألا تظنين أن الأمر يستحق الانفعال؟!
بلا اكتراث عقدت ساعديها لترد بثبات:
_ها أنت قلتها، لقد طلب الزواج بها، "الزواج"، لم يسع خلف ما يشين مثلًا، هو رجل بأوائل خمسينياته وأعزب، والدتك امرأة كريمة تصغره بعامين أيضًا، كلاهما وحيدان فلِمَ لا يتزوجان؟! لماذا تهول الأمر وكأنك ضبطتهما بحديقة الأسماك؟!
لا إراديًا كاد لسانه أن ينطق بما لا يصح، لكنه لجمه ليعلق في غيظ:
_ألم أقل أنكِ غير مؤهلة عقليًا؟!
جابهته في تحذير:
_سيد ياسر !أنا لا أسمح لك بالتحدث معي إلا بتهذيب كما أفعل.
علت عينيه نظرة استهجان صارخة ليعلق دون تردد:
_أنتِ لم تتحدثي معي بتهذيب لمرة واحدة منذ التقيتكِ!
عضت على شفتها السفلى في حرج مع إدراكها بأنه محق فيما قال، ورغم ذلك استحثت ذهنها على منحها ذكرى واحدة لحوار تبادلانه في رُقي.. فلم يجد!
_ها أنا أفعل الآن.
قالتها في شجاعة، ثم تابعت بنبرة أكثر رقة ونظرة أشد لينًا:
_أنصت إليّ جيدًا! بغض النظر عن رغبتي باستقرار عمي فإن والدتك وحيدة وتحتاج لوجود رفيق بحياتها، يُشاركها كل خطواتها، ويؤنسها في كل حين.
ثم رغمًا عنها أردفت بتساؤل نزِق:
_ لماذا تنبثق أنت أمامها كمطب وعر بلا إشارات تحذيرية؟!
ألم اكتنفه ولم يدر كنهه، ألم نتيجة صدقها.. أو ربما نتيجة شعوره هو بالذنب!
ورغم ذلك عاركه في استماتة ليرد في عناد:
_والدتي ليست بحاجة لأية رفقة لأنني هنا، لن أتركها!
قارعته في تحدي وقد بدأت تلمح علامات تزحزحه:
_ستتزوج يومًا ما وستتركها بلا أشقاء يؤنسون وحدتها، أو زوج يرعاها وتهتم به، تُرى هل فكرت فيما سيحل بها بعدما تمارس أنت دورك كرب أسرة تخصك فلا تراها إلا بضع ساعات أسبوعيًا؟ وإن كانت محظوظة ستقيم معها في البيت ذاته لكن كجار تتبادل معه يوميًا حديثًا لدقائق ثم تتركها لتجمع أطفالك بين ذراعيك!
في وضوح تطلعت إلى القلق بنظراته، قلق مصدره صدق رؤيتها المُستقبلية، وقلق أمسى ذُعرًا ما إن ارتسمت صورة والدته بذهنه وهي تلوذ إلى الوحدة كي تعطي له الفرصة لِلم شمله!
لكنه _في محاولة أخيرة_ هتف بصوت مرتعش كذبًا:
_لن أتزوج!
فغرت شفتيها ذاهلة ثم تمتمت بتساؤل:
_ماذا قلت؟! لن تتزوج؟! وماذا بشأني؟!
دارت عينيه في محجريهما بحيرة وتظاهر لسانه بالنوم فيما بدأت هي في المواصلة بصوت ظل يرتفع تدريجيًا حتى تحول إلى هتاف حاد بآخر عبارتها:
_بالليلة الماضية استقريت على لون ثوب حفل الخطبة والآن تخبرني أنت بمنتهى اللا مُبالاة أنك لن تتزوج؟! هذا لن يحدث أبدًا!
سيكون من الأمانة أن يعترف بأن التوجس زاره، لكن ليحتفظ بمعلومة مثلها لنفسه!
_ثم خبرني! ما وجه اعتراضك عليّ يا سيد ياسر البحيري؟! ماذا بي لا يُثير إعجاب سيادتك؟!
في استنكار أضافت مُستفهمة، وقبل أن ينكر رفعت إحدى كفيها وبدأت بالعد على أصابعها وهي تتحدث في تفاخر مُبالَغ به:
_فتاة مُتعلمة، جميلة، حنونة، ذكية، أتحمل المسؤولية، أحب الأطفال كثيرًا، أعمل بجد، وأستطيع إنهاء مهام المنزل في وقت قصير جدًا، لو نقبت الأرض شبرًا شبرًا لن تجد من تُقارَن بي!
"أهناك شخصًا باستطاعته رؤية كل هذه المميزات بنفسه؟!"
وسؤاله المتهكم لم يتجاوز حدود عقله، إلا أن لسانه انفلت ساخرًا:
_رزقني الله بعضًا من تواضعكِ يا سلام!
في زهو رفعت كفيها ثم ترددت قليلًا بعد أن تأكدت أنها جذبته بعيدًا عن رفضه مبدأ زواج والدته من عمها، وجذبته أيضًا إلى حيث تريد تمامًا..
كانت ترزح تحت وطأة موقف لم تتعرض له قبلًا، شعرت أنها تُجبره إجبارًا على القبول بها بينما يُبدي رفضه بكل الطرق، لكنها سرعان ما ذَكَّرت نفسها بما قدمه عمها لها ولشقيقتيها لسنوات.. ألا تتحمل أي شيء من أجله؟!
تنهدت وهي تستقر على اقتراح ربما يُخدر كرامتها الشاكية لبعض الوقت ولا يُهدد أمنية عمها، فقالت بنبرة كادت تكون مُتماسكة لولا أن هزها بعض التوسل:
_اسمعني يا سيد ياسر! ما رأيك أن ننتظر استقرار زيجة عمي وأمك ثم نعلن انتهاء خطبتنا بشكل راقِ مُتحضر حتى لا نؤثر عليهما؟ بآخر الأمر سنكون أقارب بشكل ما، أعني إن رُزقا بطفل سيكون أخاك وابن عمي بالوقت ذاتـ..
وبوادر الجلطة التي ظهرت على تخشب جسده وجحوظ عينيه هي ما أخرستها عن الاسترسال في أحلامها، فأطبقت شفتيها ونظرت له في براءة تسأله:
_إذن ما رأيك باقتراحي؟ أظن أنه حل جيد، ستسعد السيدة والدتك وكذلك عمي، كما أنك لن تضطر للزواج بفتاة لا تتحملها!
ورغم أن عبارتها الأولى كانت بدافع إغرائه للموافقة من أجل والدته، فإن عبارتها الثانية أشعلها فضول لم تتوقف أمامه كثيرًا وهي تتسائل للمرة الأولى عن أية طبقة من الرفض تسكنها لديه تحديدًا!
تطلع إليها في إمعان ورجاؤها يخترق قلبه دون مُعوقات، ورغم ما تُبدي من صلابة فإن عينيها تشعان بطاقة من العطاء تضم قبيلة كاملة، ألا تجذبه هو؟!
رغبة لا إرادية في مُشاكستها تضافرت مع ثانية بمعرفة ردة فعلها، وثالثة.. لا يدري دافعها حَرَّضته على اتخاذ قرار بالمُراهنة في الحال..
لِذا صدرت عنه همهمة طويلة قبل أن يعلق في هدوء أثار ريبتها:
_أنتِ لا تعلمين شيئًا عن عادات عائلتنا، أليس كذلك؟!
_ماذا تقصد؟
في ارتياب سألته، فأجابها بلا مُبالاة:
_أقصد أننا لا نكتفي بالخطبة، بل نعقد القران مُباشرًة.
والرفض الذي همَّت بأن تُلقيه في وجهه لم يردعه عن المُتابعة أثناء افتعاله الانهماك في التفكير:
_وأنا _بعد التأمل بالأمر مليًّا_ لا أجد غضاضة من الزواج بكِ، أعني _ربما كان جدي مُحقًّا_ كنت سأفعلها يومًا ما، لِذا دعينا لا نسمح لأي أغراب بدخول عائلتنا، لأتزوجكِ، وليتزوج عمكِ من أمي، وبإمكان لؤي ابن خالي أن يتزوج إحدى شقيقتيكِ بشرط أن نبحث عن زوج مناسب للأخرى من معارفنا أيضًا، ما رأيكِ؟
_هل أنت..
عبارتها الدَهِشَة لم تجد وقتًا للتتمة، حيث أضاف في نبرة تصاعدت تدريجيًا مع ابتسامة واسعة وببهجة غير عادية:
_بعد المزيد من التفكير أجد أن الأمر أشبه بدرأ الثأر بين عائلتين مُتناحرتين بكل الوسائل المُتاحة، سنُخلَّد في كتب التاريخ!
_لا حول ولا قوة إلا بالله! لقد فقد الرجل عقله!
همست بها وهي تنظر له بجانبي عينيها في قلق، ثم أولته ظهرها في نية للرحيل فهتف:
_انتظري!
استدارت إليه في ترقب فسألها:
_أتعنين أنكِ توافقين على الزواج بي؟
ابتسمت في تحدي كاد ينال منه، أو نال منه بالفعل لكنه لم ينتبه بعد، ثم رفعت أحد حاجبيها تواجهه في هجوم:
_هل انتابك أنت الخوف؟
رغبة غريبة بالتسلية عمَّت بانفعالاته على النقيض مما كان يشعر منذ قليل.. بالضبط قبل ظهورها!
ولماذا الآن لم يعد مُنزعجًا بالفعل من حماقة إيلاف التي تسببت مُباشرًة في وضعه الحالي؟!
ابتسم بلا سبب ثم عقد حاجبيه مُتظاهرًا بالجدية وقال لها:
_أنا مستعد لجلب المأذون في الحال، لقد اقترب شهر رمضان وتروقني فكرة رفقة جديدة هذا العام.
توتر عجيب اختلجت له دواخلها فكتمته لتتظاهر بعدم الاكتراث:
_افعل ما شئت!
_إذن لا مانع لديكِ من الزواج بشخص تكرهينه من أجل سعادة عمكِ فحسْب؟!
في دهشة حقيقية خاطبها، فجعدت جبينها وردت تلقائيًا في استنكار:
_أنا لم أذكر أبدًا أنني أكرهك!
_لقد ذكرتِ ما هو أسوأ!
هتف بها فورًا والعتاب يتسيد كلماته، عتاب لم يفهم سببه ولم يرغب بالسؤال عنه، إلا أنه تجاهله ليتطلع إليها تنظر له في اعتداد ويفيض الصدق من عينيها:
_نعم يا سيد ياسر، أنا على استعداد لأن أتزوج من مجرم حرب كي أرى عمي قد حصل أخيرًا على قدر بسيط مما يستحق من سعادة.
ثم أردفت ورغبتها بإغاظته تعود لتهيمن على نِيتها بمُهادنته:
_سعادة لن تشاركه إياها سوى السيدة والدتك!
وقبل أن يبدأ بالصراخ بها كما أحست استطردت في مكر وهي ترسم ابتسامة واسعة هرب منها التملق دون أن تلاحظ:
_كما أنك لست سيئًا لهذه الدرجة! على حسب كلام جدك فأنت أيضًا لديك بعض المميزات التي سأكون مُجحفة لو تجاهلتها!
تحت سطوة مجهولة وقع؛
إلى شباك رقيقة رغم قوتها انجذب كطائر واصل الطير في تعب لوقت طويل حتى داعب سمعه نداء العُش؛
وكأنه تحت أشعة شمس حارَّة ظل واقفًا حتى سقطت فجأة فوق رأسه.. مَظَلَّة!
فكيف به ألا يَتَلَقَّفها شاكرًا؟!
تنهد مُطولًا وهو يُطيل النظر فيها حائرًا حتى استسلم تمامًا ليشملها ببسمة أثارت ترقُبًا مُستحدثًا بنفسها!
_لماذا تبتسم؟
سألته باهتمام فتجاهل خواطره المُبهمة وأجابها بسؤال آخر:
_ما هو اللون الذي استقريتِ عليه؟
احتل الاستفهام نظراتها فأوضح بارتباك:
_بشأن.. ثوب الحفل.
برقت عيناها على الفور وأجابته بحماس فائق:
_الأصفر، إن شئت الدقة لون صلصة الخردل!
جابت عيناه ملامحها ليلاحظ لمعة عينيها اللتين تلمعان بذكاء لا ينكر أنه يعجبه كثيرًا..
متى أعجبه أي شيء خاص بها؟!
لا يدري!
ولماذا يحس أنه لا يضيق بها ذرعًا كعادته؟!
لا يدري!
والأهم.. لماذا لا يجد رفضًا من فكرة أن هذه الفتاة الماثلة أمامه قد تكون زوجته؟!
مثابرة، جريئة، ذكية، و.. عريضة الجبهة!
_لماذا تبتسم ثانية؟
سألته في دهشة حينما لاذ بالصمت فأجابها ساخرًا:
_فرحًا بخيبتي!
ثم تجاوزها إلى الخارج، ألقى نظرة سريعة مغتاظة على من سيكون قريبًا "صهره من جميع الجهات" ثم تأفف وهمَّ بالرحيل فاستوقفته:
_اسمع!
في ارتياب نظر إلى الأستاذ ضياء أعاده إليه الأخير مُضاعفًا، ثم أصغى لها فقالت في اندفاع:
_هل.. ستبتاع رابطة عنق بلون صلصة الخردل؟
والتعجب الذي اعتلى وجه عمها قابله الاستنكار العارم على وجه ياسر وهو يهتف دون تردد:
_سأبتاع كَفَني وأقدمه إلى جدي قبل أن أفعلها!
**********

وقفت أمام باب الشقة التي لم يستغرق منها الأمر طويلًا حتى وصلت إليها، فما إن سألت عن عنوان بيت الشيخ أحمد الزمر _رحمه الله_ إمام مسجد الحي حتى انقلبت النظرات الفضولية إلى أخرى بشوشة مُرَحِّبَة، لتوقن أن الرجل كان محبوبًا من قِبَل الجميع بالفعل كما خبرها شقيقها مرارًا.
هبطت نظراتها من الباب إلى بنصرها حيث تلمع الحلقة التي اعتادت على تأملها كل ليلة وهي تدعو أن تمر الأيام في سرعة حتى تنقلها إلى يدها الأخرى بعد أن تصبح زوجته.
ليلة عصيبة من العذاب الخالص قضتها بعد انصراف تلك الفتاة التي هدمت كل آمالها ببضع كلمات لا أكثر، ليلة تهربت خلالها من اتصالاته المُتتالية التي اعتادتها ما إن عاد ابن عمتها إلى البيت خلف حجة المرض فاستطاعت بمعجزة منع نفسها من المواجهة كي لا تظلِم ثانية.. أو كي لا تُصدم إلى الأبد!
لم ترغب بتكرار ما فعلته مع سدن، لم ترغب بانتصار آخر لكبريائها في فورة غضب لتكتشف بعده أنه ما هو إلا هزيمة ساحقة، وفقد لا يُعوَّض!
لكن لم يعد بإمكانها الصبر أكثر، من حقها أن تتأكد مما هو بات بَينة واضحة بالفعل..
بسبابتها المرتعشة ضغطت جرس الباب وانتظرت في ترقب؛
في خوف؛
في ذعر؛
وتراجعت إلى الخلف نادمة تبغي الهرب قبل أن تصبح النتيجة لا شك بها ولا معنى لرفع تظلم ضدها!
لقد انتهى تهديدها منذ أشهر فلماذا تنقب الآن خلف ما سيورثها ألمًا آخر بعد أن ذاقت أخيرًا طعم الاستقرار، والحب، والأمن؟
ستغمض عينيها؛
ستُفقِد نفسها ذاكرتها؛
سيبقى نضال هو الرجل الوحيد الذي أحبت وبه وثقت..
وسيبقى مهند شقيقًا آخر يحمل لقبًا مغايرًا فقط!
"غفران!"
لكن ها هي تأخرت كثيرًا بالفعل!
تطلعت إلى المرأة التي دربت هي نفسها على محاولة التقرب منها رغم شعورها أن هناك حاجزًا بينهما أرجعت سببه إلى غيرة أم على ابنها.. خاصة وإن كان ذلك الابن مثل نضال، والآن.. مع المعطيات الجديدة ترى أن هناك سببًا آخر أكثر إقناعًا!
_هل.. نضال بالداخل؟
سألتها بصوت تحشرج دون مواجهة، فأفسحت لها المرأة المجال قائلة في قلق:
_تفضلي بالدخول يا بنيتي!
دخلت في بطء لأن هناك ما خبرها أن خروجها سيكون مختلفًا؛
سيكون حارقًا؛
سيجتث قطعة منها بلا رحمة!
_سأوقظه في الحال.
تمتمت بها والدته وهرعت إلى غرفة ابنها الأكبر فيما راح قلبها يولول بالفعل بعد أن قرأ بعيني الفتاة سبب الزيارة وتنبأ بنتيجتها..
بمفردها وقفت لتتوارى كل أفكارها المحتارة، النافرة، الملتاعة حول الجرم الذي ارتُكِب بحقها من قِبل مجهول يبدو أنه كان أقرب لها مما تصورت، وراحت عيناها الحمقاوتان بإيعاز من خافقها الأبله تدور في الشقة البسيطة حيث نشأ خطيبها، وحبيبها، ومن باتت تضرب به المثل في الأمانة ودماثة الخلق.
اشرأبت بعنقها تتطلع إلى الشرفة حيث خبرها أنه يقضي بها وقتًا ليس بقصير يعتني بنباتاته التي يحبها كثيرًا، وتصورت لو أنها هناك، بجواره، تسقيها معه، وتنتظر نموها بالشغف نفسه.
بسمة ارتسمت على ثغرها وهي تتخيله يجلس على تلك الطاولة يتناول الطعام، يقف على ذلك المقعد يُبدل المصباح، يرتب شعره الفاحم ويعدل ملابسه الأنيقة أمام هذه المرآة قبل خروجه إلى العمل.. أو إلى لقاءها في زيارة منزلية يتبادلان خلالها الصمت الخجول فيما تبوح عيناهما بالكثير على وعد بالنطق به فور أن تسقط الحدود!
طالت نظرتها في المرآة حتى ظهر آخر خلفها على انعكاسها فأعادها من خيال تهرب إليه إلى واقع لم تتشاءم بخبثه مطلقًا!
_كيف حالك يا مهند؟
سألته وهي تحدق بعينيه من خلال السطح اللامع، ربما خشيت أن تلتفت فترى ما يخفيه بريقه، وانتبهت مُجددًا إلى أنه مؤخرًا بات يتهرب من النظر تجاهها!
ليس مؤخرًا بالضبط..
بل.. منذ بدأت تتلقى المكالمات الهاتفية!
لماذا تتبرع الدلائل كلها بإظهار نفسها الآن؟!
لماذا لا يدعون لها قَشَّة واحدة تتعلق بها رغم أنها أمست تعلم بِكونِها مُجرد قَشَّة؟!
لِوَهلة ستمنحها الأمل، ثم بها إلى عمق الجحيم.. ستهوى!
_هل أتيتِ وحدك؟
سألها مهند وهو يشعر بعينيها تخترقان صورته في المرآة، فلم تُجبه وبقت على صمتها المثير للارتباك، لذا لم يجد مفرًّا من أن يسألها في يأس:
_لماذا أتيتِ؟
_أهكذا تستقبل خطيبة شقيقك يا مهند؟!
في سخرية سألته؛
في لَوْم سألته؛
في ألم سألته؛
واستدارت لتحدق بعمق عينيه مباشرة، ثم تابعت:
_أعني.. أهكذا تستقبل شقيقة صديقك، شقيقة لؤي؟!
والمتهم لم يكن يبحث عن مهرب من الاعتراف، وهذا لأنه في المقام الأول يُقر بالإدانة ويمد ذراعيه مُتوسلًا العقاب!
لذا بادلها النظر أخيرًا، بعد أشهر من تحوله من الشاب المهذب إلى آخر مُقامر، ثم مبتز؛
من ابن إمام المسجد الذي لا يدع فريضة إلا وأداها إلى منتهك الحرمات ومتتبع العورات!
لم يكن الذكاء ينقصه حتى يعرف بأنها علمت بفعلته، فمن الواضح أن فترة السماح الممنوحة له قد انتهت، وها قد وجب عليه السداد!
بادلها النظر ليسألها في يأس:
_نضال أم علياء؟
ابتسمت في ألم فأضاف بعذاب:
_من منهما استسلم أولًا وقام بإبلاغكِ؟
اقتربت منه بخطوات بطيئة وأجابته في هدوء مُغلف بالحسرة:
_للأسف لم يفعلها شقيقك، شريكتك هي من لم تتحمل الذنب، أو ربما رغبت في الانتقام منك فقط.
وتوقفت أمامه لتُردِف في وجع:
_وصدقني يا مهند! الرغبة بالانتقام تفعل بالمرء الأفاعيل، تبدله، تحوله، تدفعه دفعًا إلى الإتيان بآخر التوقعات وأكثرها سوءً!
_هل.. هل خبرتِ لؤي؟
والخوف الذي أظلمت به عيناه جعلها تبتسم في تشفِ لتُعلق في استنكار:
_أتنتظر مني ألا أفعل؟!
هز رأسه في نفي، فتابعت بهمس ذاهل من بدأ يُلم أخيرًا بشناعة الغدر الذي تعرض له:
_لماذا يا مهند؟! لقد اعتبرتك شقيقي الأصغر!
_آسف يا غفران.
تمتم بها عاجزًا، عاجزًا عن العثور على ما يناسب بهذا الموقف، فاحتدت ملامحها وتبرع الاستنكار لينزع عنها هذا الضعف لتُغمغِم:
_آسف؟!
تبرير..
عليه إيجاد أي تبرير!
_أنا مُجرم، خائن، كنت بحاجة إلى المال و..
نطق بها بخزي فصرخت تقاطعه:
_لماذا لم تطلبه وحسب؟!لماذا لم تخبرني؟! لماذا سرقتني؟! لماذا أثرت ذعري ومنحتني كوابيسًا لا تنتهي؟!
التمعت عيناه بغلالة دموع تعايش معاها لأشهر وعلَّق في خفوت:
_أنا أيضا أراها!
ضاقت عيناها في انتظار تفسير فمنحها إياه وهو يُضيف بنبرة مرتجفة:
_تلك الكوابيس.. إلى الآن لا زلت أراها!
لتوها لاحظت أنها أحيانًا كانت تخلط في التعامل بينه وبين لؤي، منذ تعارفا وصار هو فردًا من آل بيتهم، والغضب الذي ينبغي أن يتأجج بأعماقها الآن يتحول تدريجيًا إلى حنق وكأن شقيقها الأصغر قد افتعل معها شجارًا بسيطًا سيتناسيانه معًا بعد أيام قليلة!
لكنها دعست على شعورها الحائر بين الحقد واللوم فعلَّقت ساخرة:
_أتتوقع مني إشفاقًا؟! أتظن أنني قد.. أغفر؟!
في قوة هز رأسه نافيًا، لتعاجله هي في ألم أحاط به توسل بعدم الإجابة رغم أنها تُصمم على السؤال:
_نضال.. متى عَلِم؟! بأية مرحلة بالضبط قرر تغيير الخطة وتعويض الضحية بالزواج منها؟
ارتفع حاجباه لِثوان ثم سارع مُدافعًا:
_لا يا غفران! لا شأن لنضال بفعلتي، هو لم يعلم بأي شيء إلا بعدما رآني أخرج من ذلك البيت.
فغرت شفتيها في دهشة وتراجعت قليلًا إلى الخلف مع انتباهها إلى ما يعنيه قوله، فسألته ذاهلة:
_أكنت أنت هناك بنفسك يا مهند؟
أطرق برأسه فتابعت متعمدة الضغط على كلماتها بقسوة:
_أكنت هناك وأنا أهرول في رعب؟! وأتلفت حولي في رعب؟! وأنكب على وجهي أرضًا في رعب؟!
بدأت كتفاه بالاهتزاز فأردفت في استهزاء:
_هل استمتعت كثيرًا بالمشاهدة؟
لم يعد بإمكانه التحكم بنفسه أكثر فطفقت دموعه بالهطول دون رادع، وتلقائيًا دمعت عيناها وقالت في سخرية:
_أتبكي؟! علام تبكي؟! أنت أكثر ذكاءً من الجميع، يُجدر بك الزهو بقدراتك، فأنا كنت على استعداد لأن أرتاب بأي أحد ولم يكن الشك لينتابني تجاهك أنت لحظة واحدة!
ثم أضافت في صراخ:
_بل.. أنا بالفعل قد اتهمت صديقتي الوحيدة ظُلمًا، خسرتها، أضعتها، شككت بها هي بينما أنت تدخل إلى البيت وتخرج منه لتخون أصحابه!
وختام صراخها كان صفعة..
صفعة لم تكن لتسمح لجاني آخر أن يفلت منها مثلما فعل الأول!
صفعة لها ارتفع صوت شهقة والدته، رغم أن مهند لم يرفع رأسه مُنتظرًا التالية ومُتقبلًا ردَّة فعلها أيًا كانت في صمت، أما هي فقد استدارت في شراسة إلى المرأة كي تبدأ حملة تأنيبها، لكن حالما وقعت عيناها على نضال إلى جوارها يمسك بكتفي أمه ويحدق بها هي في وجوم استكانت فجأة!
نظرات خرساء أخذت تدور بينهما..
تتهمه، وينفي؛
تلومه، ويعتذر؛
تحقد عليه، ويُقر بأحقيتها!
وما بين ضميره الذي استغل الفرصة لإعادة عتابه، وقلبه الذي انزوى مهمومًا بقى هو مُتخبطًا كضحية اختطاف نزعوا عنه عِصابة عينيه فجأة بعد أن ألقوا به في منتصف البحر.. فلم يعد يدري بأي اتجاه عليه البدء بالبحث عن مرفأ!
"اتركانا بمفردنا!"
نطق أخيرًا دون أن تحيد عيناه عنها، فسألته متظاهرة برباطة الجأش:
_أهناك أسرارًا أخرى سأكتشفها عن شقيقك؟
_خذ أمك يا مهند وادخلا إلى غرفتها!
والأمر الذي أصدره نفذته والدته حينما لاحظت تخشب ابنها الأصغر فجذبته بعيدًا عن غفران التي لم تولِ أحدهما اهتمامًا إلى أن اختفيا عن ناظريها..
_على الرغم من كل شيء لا أظن أنك كنت تعلم بفعلته مبكرًا.
بادرته في أمل أخير ألا تكون الخدعة التي وقعت ضحيتها مُحكمة إلى ذلك الحد، فأومأ برأسه قائلًا في هدوء:
_لم أعلم إلا قُبيل حادث كسر ساق لؤي.
مطت شفتيها بينما عقلها يعمل بسرعة ليحل كل لغز عصى عليها في بساطة، فعلقت في استنتاج:
_لهذا تغير أسلوب تعاملك الجاف معي!
أسدل أهدابه محاولًا مُداراة توتره، لكنه فرقهما في حدة حينما تابعت في إقرار:
_ولهذا طلبت الزواج بي!
تطلع إليها مُتوجسًا فأوضحت تبتسم بلا معنى:
_حاولت إصلاح ما فعله شقيقك، حاولت ستر ما انتهك..
تقدم منها بسرعة ليقاطعها مدافعًا:
_مهند لم ير الصور، لم تقع عيناه عليها مُطلقًا يا غفران.
اعتلت الدهشة نظراتها وهي تستعيد كلام علياء بذهنها، فعلقت في استسلام:
_زميلته.. صادقة هي، أليس كذلك؟!
ثم ضحكت لتتابع:
_ينبغي علّي أن أشعر بالامتنان تجاهه إذن! هيا قم بمناداته كي أشكره في الحال! لا يُكتب لكل فتاة تتعرض للابتزاز حظ حسن مثلي فتقع بين براثن مبتز يستعين بمساعِدة حتى لا ينظر بنفسه إلى جسدها!
اكفهر وجهه لا إراديًا مع صراحتها، فسألته في صوت متحشرج بسبب تهيؤ دموعها للانهمار:
_متى كنت ستتوقف؟ بالطبع لم تكن تنوي الزواج بفتاة من أجل إصلاح خطأ شقيقك فقط، لم تكن لتربط حياتك بأخرى لسبب مثل هذا، إذن متى كنت ستنفصل عني؟
في ذهول تطلع فيها بينما قلبه يوشك على التوقف، فهتف بها مستنكرًا:
_ماذا تقولين أنتِ؟ أتعتقدين أنني طلبت الزواج بكِ لذلك السبب؟!
هزت كتفيها وشهقت ببكائها الذي خرج سؤالها من بينه متقطعًا:
_لماذا إذن؟ لم نلتقِ إلا بضع مرات أُدرك الآن أنني كنت فتاة سيئة السمعة بنظرك ببدايتها، لماذا إذن طلبت الزواج بي؟ لِتسديد ثمن ما اقترفه شقيقك أم.. أم لأنك أشفقت عليّ بعدما خبرتك بما حدث منذ سنوات؟!
احتبست الكلمات في حلقه وهو يدرك إلى أي حد سبحت بأفكارها..
ومِن هذه المسافة القريبة تبدو ضعيفة كما لم يرها يومًا، جميلة مثلما كانت دومًا، تُعذبه كما ستفعل أبدًا!
لكن.. لا يُسمح لها التشكيك بحبه، الاستهانة بمشاعر لم يكشف عن وجودها إلاَّها..
لِذا في نفاد صبر صرخ بها:
_لأنني أُحبكِ يا غفران! أُحبكِ لأنكِ أنتِ غفران، أُحبكِ وحدكِ وإلى الأبد سأظل!
وما إن أدرك ما تفوه به حتى استدار عنها مُستغفرًا في تكرار، داعيًا بالصبر والثبات في إصرار، مُتحسرًا على اعتراف دأب على ترديده سرًّا وهو يؤكد لنفسه أنه سيجد السلوى فور أن يوقع وثيقة تُجيز له الجهر به دون ندم!
أما هي.. فرغم كل العذاب الذي يفترسها منذ الليلة الماضية ولم يهدأ مِثقال ذَرَّة مع هذه المواجهة فقد أخذ قلبها يُهلل في فرح أوجد لنفسه مكانًا بآخر لحظات مُمكنة!
لقد أقر بما رأته بعينيه مرارًا، لقد سمعت منه ما حاول خوفها التشكيك به للتو، من أحبته يحبها، من أرادته يرغب بها، من حارت كثيرًا في التأكد من شعوره ها هو يعترف لها أنها ستبقى بقلبه إلى النهاية..
النهاية؟!
أليست هذه هي؟!
ألم يأنِ حينها؟!
وكأنه سمع ما يدور بعقلها، تملكه الخوف فعاد إليها ليقول في مُهادنة:
_أعلم أن جُرم مهند لا يغتفر، أعلم أنكِ ترغبين بصب جام غضبكِ عليه، هو أيضًا يُدرك حقكِ بذلك ويتقبله، لكن.. لكن لا ذنب لي أنا في فعلته، لا ذنب لأحلامنا وخططنا وحياتنا، لا تُجهضي كل ما وُلِد بقلبي لأجلكِ وحدكِ!
والدموع التي شَقَّت طريقها عبر وجنتيها رَدَّا على ما قال جعلته يُتابع راجيًا في خفوت:
_غفران يا غفران! خبرتنِي أنني لا أهون، لا تفعليها! لا تدعسي زهرة وعدِتني أن نرعاها معًا! لا تهزميني بخسارتكِ! لا تحرميني يدكِ!
مع كلمته الأخيرة حانت منه نظرة إلى كفها الناعمة التي لم يستشعر لمستها لمرة واحدة، تثبتت نظراته على الحلقة التي تحمل اسمه ليغتم بلا إنذار وهو يحس انطفاء لمعتها!
_يدكِ هذه ينبغي أن تشاركني الطريق، ستسقي معي شجرة البَيْلَسان، ستُربت عليّ حين ينال مني التعب.
ثم نظر إلى عينيها ليُطالع توسلًا صارخًا بأن يمنعها عَمَّا تنتويه فأردف في رجاء:
_عيناكِ.. ستُراقبها تنمو معي، عيناكِ ستتطلع إليّ بلا حواجز وسأجذب كل نظراتها دون تردد أو حياء.
وقبضة قاسية لطمت صدره فتباطأت نبضاته بينما بدا أن خافقه قد فقد القدرة على البكاء، ليقول في أسى:
_وقلبكِ.. ينبغي عليّ أن أسمعه عن قرب، أن أشعر به عن قرب، أن يسكن إلى قلبي بلا أسوار، أن يهفو إلى صدري حال حاجتكِ للراحة.
وبلغ رجاؤه ذروته حين جذب شهيقًا عميقًا رغب بسحب أي أمل معه، لكن كلماته خرجت يائسة، حائرة، تعيسة:
_روحي يا غفران، روحي تنتظركِ، تهتف باسمكِ، هل ستولينها ظهركِ؟ هل ستقبلين بأن تكوني سعادتي وشقائي؟! حُريتي وسجني؟! هدية ما إن كدت أتلمسها بأناملي حتى قررت حرماني منها فَرحلت وتركتني وحيدًا؟!
وإجابة على أسئلته تولدت ابتسامة بين أنهار الدموع؛
ثم حاد الأمل عن الضِفَّة التي كاد إليها يهنأ بالوصول؛
تطلعت إليه في تمهل.. وكذلك فعل هو؛
أمطرهما عقلاهما بذكريات جمعتهما في محاولة أخيرة لجذبهما بعيدًا عن ضيف لا ينتظر إذنًا للحلول..
لكن.. ها هو الوداع قد أتى ولا يملكان الحق بِردِّه!
قشعريرة انقضت على قلبها ككهرباء سارية، وارتجاف اعتصره وهو يقرأ ما ستقول قبل أن يتسلمه لسانها، إلى أن اقتربت منه تعقب في هدوء:
_يبدو أنك عشت طويلًا في المدينة الفاضلة يا نضال حتى نسيت كيف تسير الأمور بالواقع، لكن يجب على ابن إمام المسجد أن يهبط معنا إلى كوكب الأرض، حيث الخطايا والآثام تتفحش وتتوحش بلا رقيب من البشر، حيث الغدر يأتي من أقربهم إليك، وأحبهم إليك، وأعلاهم مكانة بقلبك!
_غفران!
في رجاء لا يمل جاءها نداؤه حينما أولته ظهرها لترحل، توقفت قدماها استجابة لدقاتها المكلومة، لكنها استعادت لجام سيطرتها وقالت في حزم:
_سأخبر جدي أننا لم نتفاهم جيدًا فاخترنا الانفصال بشكل راق حتى لا تتأثر علاقة شقيقينا!
ثم أردفت دون أن تتحرك ودون أن ترى الصدمة الجلية على وجهه:
_فكما تعلم.. لن أستطيع رؤية الانكسار بعيني شقيقي في صاحبه، فالجميع يعتبر مهند فردًا من البيت..
وسكتت لتوهلة ثم أضافت في حسرة:
_حتى أنا!
ثم قادتها خطواتها إلى الخارج دون المزيد من الجلبة، بَيْد أن الحلقة التي استقرت في هدوء على الطاولة القريبة من الباب وقعت في صدره وكأنها فأس.. في قلبه!
فأس أعقبه صوت انهيار ما إن صرخ شقيقه ينادي أمه التي لم تتحمل كل ما يحدث ففقدت وعيها.
**********

في اليوم التالي:
جرع ياسر آخر ما تبقى بكوب العصير ثم وضعه على طاولة صغيرة يجلسان إليها أمام المحل، وبادر ناهل مُتسائلًا في مكر:
_ألن تتوقف عن تلقي الإصابات؟! هل تحاول جذب انتباه إحداهن أم ماذا؟!
التفت ناهل حيث تجلس زوجته على الكرسي الخشبي المرتفع بالداخل وتتحدث بالهاتف مع شقيقها منذ دقائق:
_أخفض صوتك لئلا تسمعنا ابنة خالك فأتلقى إصابة خطيرة حقًّا! هي لا تمزح بمثل هذه الأمور!
هز ياسر رأسه آسفًا وعلَّق في تهكم:
_رحم الله ناهل متجهم الوجه الذي كان يُثقلها بالمهام في المصنع دون اهتمام حتى تواصل الدعاء عليه طيلة الليل!
اعتدل ناهل بكرسيه وسأله في استنكار:
_هل كانت تفعل؟!
في براءة مُصطنعة تظاهر بها ياسر أجابه:
_ربما سمعتها مرة.. أو مرتين!
التفت ناهل ثانية يحدج إيلاف بغيظ لكنها لم تلحظه، فعاد إلى ياسر يقول بلا اكتراث:
_حينما تتزوج ستدرك أن في التراخي أحيانًا السلامة!
ثم أردف في مكر:
_وبمناسبة الزواج، هل ما خبر جدك إيلاف صحيح؟ أستتزوج من تلك الفتاة التي رأيناها عندكم بالبيت؟يبدو أنك لم تكن مُنزعجًا منها كما حاولت الإيحاء أمامنا!
بجانبي عينيه رمقه ياسر ليرد في حنق:
_لا أتحمل سخريتك الآن يا ناهل صدقني! أشعر وكأنني أريد لَكْم أحد، أي أحد!
_توتر العريس؟!
والتعليق الساخر الذي نطق به ناهل جعل ياسر يهب واقفًا لينصرف، إلا أنه أمسك بساعده وأجلسه على الكرسي متسائلًا في تعجب:
_ماذا بك يا ياسر؟! لماذا صرت نزقًا هكذا؟!
_ولماذا صرت أنت رائق البال هكذا؟!
سأله ياسر في غيظ لا سبب له ثم التزم كلاهما الصمت لِقليل من الوقت، حتى عاد يتنحنح في توتر قبل أن يخاطبه في استفهام:
_أنت.. أنت كنت مُقربًا من والدتك بشدة، أليس كذلك؟!
على الفور هرول الحنين إلى ملامح ناهل الذي رد دون تردد:
_كنا أقرب لصديقين، لا أم وابنها الوحيد فحسْب.
أجلى ياسر حنجرته بصوت ملحوظ أكثر، ثم بدأ يتحدث وهو يصوب نظراته إلى اتجاهات مختلفة دون تركيز:
_إذن.. لنفترض لو أنها كانت لا زالت حية، وهناك أمرًا يبدو لصالحها، أنت على يقين بأنه لصالحها، لكنه يثير رفضك وانزعاجك كرجل، ماذا ستفعل؟
_أي أمر كان ليرسم البسمة على شفتيها لثوان معدودة كنت لأفعله لو سأموت في اللحظة ذاتها!
بلا تردد أجابه ناهل، وبكل صدق أقسمت عيناه أنه لا يبالغ، اضطرب ياسر قليلًا وتنهد مُطولًا ثم تمتم في حيرة:
_لكن..
وسكت ليفكر، أو ليسيطر على هذا التخبط الذي يتخذه فريسة كلما حاول منح الأمر حكم حيادي، فواصل في انزعاج:
_أنا لست أنانيًا، لكنني أشعر بالنفور من مجرد التفكير، خطوة ليست دارجة بعد هذه السنوات بينما أنا بالحادية والثلاثين من عمري!
_أتريد والدتك السفر في جولة حول العالم أم ماذا؟
في تهكم سأله ناهل فرمقه باستنكار ثم ما لبث أن هتف به:
_أي سفر هذا؟! أمي لا تخرج من البيت إلا لمراقبتي فقط، فتتوه ثم تهاتفني كي أعيدها، أين ستسافر بالله عليك؟!
ثم حرر زفيرًا حارًّا وقال في حرج وهو يشيح برأسه بعيدًا كي لا يرى أمارات السخرية الحتمية:
_ربما.. ربما ستتزوج.
_وماذا إذن؟! أحرام زواجها؟!
التفت إليه ياسر دهِشًا حينما جاءه سؤاله المستخف، فاحتار لوهلة ثم علَّق بتعجب:
_ليس بحرام، لكنه.. لكنه ليس مُستساغًا!
_ومن يحكم بأنه مُستساغ أو لا؟
_الناس.. المجتمع!
_إلى الجحيم بأحكامهم!
في حسم قارعه ناهل فتعلَّقت نظراته به مُستوضحًا، ليتابع بتعبير مُفعم بالاشتياق:
_أتذكر أنني حين كنت بالخامسة عشر تقريبًا حاولت إقناع والدتي بأن تطلب الطلاق ومن ثَم باستطاعتها الزواج برجل آخر تراه يوميًا وتجده إذا احتاجت إليه، خبرتها في حماس أن القانون سيكون في صفها بعد هذه السنوات الطويلة التي قضتها زوجة مع وقف التنفيذ، لكنها اختارت أن تتنازل عن حق آخر على أمل أن يعود يومًا ليكون نِعم الأب لي..
وتوارى الشوق وجلًا حين ظهر الألم باستطراده:
_لم تكن تعلم أنه سيعود مُصطحبًا مصيبة تسرق منها الراحة الوهمية التي تظاهرت بها، وبآخر أيامها!
ساد بينهما الصمت فأخذ ياسر خلاله يراقب مشاعر ناهل المتباينة والتي شرعت تتعارك على صفحة وجهه..
ندم؛
أسى؛
و..حقد!
وهذا الأخير دومًا كان من حظ "المصيبة" التي يعنيها، والتي _للسخرية_ هي نفسها من ألقى نفسه بالنار منذ يومين لإنقاذها!
لطالما أثار حيرته منذ عرفه صديقًا لابن خالته، فهما على النقيض تمامًا، والآن ها هو يرى أن الشخص نفسه يحمل تناقضات عدة بداخله!
_إذن من يكون العريس؟ أهو أحد أقاربكم بالبلدة؟
بهذا السؤال قاطع ناهل حالة التأمل التي هب ياسر إليها، ليشيح برأسه خجلًا فمال تجاهه يسأله في تحفز:
_لماذا تواري وجهك؟ لا تقل لي أنه شاب بعمرك يطمع بها! حينها انسى كل هذا الهراء الذي قلته لتوي، وسأساعدك وسأفسد حفل الزفاف بنفسي لا تحمل همًّا!
في امتعاض رمقه ياسر، ثم قال في ارتباك:
_إنه.. إنه معلمي السابق!
_أي معلم؟
ضاقت عينا ناهل في تساؤل أجاب عنه بنفسه بتعجب:
_ذلك الذي عرفتني إليه بحفل زفاف لين؟
اكتفى ياسر بإيماءة بسيطة فزاده ناهل بحذر:
_أليس هو نفسه عم تلك الفتاة التي ستتزوجها؟
إيماءة ثانية لحقت بسابقتها فأفلت ناهل ضحكة قصيرة قبل أن يعلق ساخرًا:
_أهي زيجة لتخليص بعض الحقوق أم ماذا؟!
مط ياسر شفتيه موافقًا وأكد في غيظ:
_بل زيجة لتكفير الذنوب!
وحينما لاحظ ناهل نِيته في استسلامه للشرود مرة أخرى ضربه بخفة على كتفه وقال في جدية شاحذًا انتباهه:
_حسنًا! دعنا من زيجتك لا تهمنا! وسأسدي لك نصيحة حاول أن تعمل بها!
في استجداء حملق به ياسر، فخاطبه ناهل برفق:
_ابحث عمَّا به سعادة والدتك يا ياسر! لقد ربطت حياتها كلها لأجلك وحدك وأحبتك كما لن يستطيع أحد أن يفعل، إياك أن تكون سببًا لمنعها من أحد حقوقها!
والصراع في نفسه بدأ يُحسَم بالفعل، فكل الاستخارات والاستشارات توجهه إلى اختيار واحد فقط..
اختيار يميل له قلبه في الأصل، ثم عقله الذي بدأ يظهر بعض الخنوع، وضميره الذي تقدم المسيرة منذ سنوات..
سعادة أمه.. بمقابل الهمزات واللمزات؛
فلتحترق الهمزات واللمزات ومن يعتنقونها جميعًا!
تنهيدة طويلة تخلَّى عنها متغافلًا عن الراحة التي تركتها بصدره، ثم نظر إلى ناهل ليقف ويهتف به حانقًا كي يتخلص من آخر قدر من التوتر :
_يا رجل! ألم يؤثر السجن عليك بأية طريقة؟! أَقَل نزعة إجرامية ستُظهرها كانت لِتُجنبني عذاب ضميري الآن، أين قضيت أشهر عقوبتك بالضبط؟! بسجن "بنك الحظ"؟!
...
أوشك على الانتهاء من آخر قطعة مُعجنات أرغمه الحاج بيومي على تناولها مُذعنًا لرغبته الواضحة في تشتيت ذهنه عن قلق يعتريه منذ أيام وتتصاعد ذروته في وضوح..
"هل وصلتك أية أخبار؟"
بادره متسائلًا في حذر، فحدجه الرجل بجمود ثم هز رأسه نفيًا، ليلجأ ناهل إلى الصمت لثوان معدودة ثم يعاود الكَرَّة في توجس:
_أستطيع تدبير وسيلة للتواصل مع مدير أعماله إن أردت.
_إياك يا ناهل!
في صرامة جاءه التحذير، وفي تشديد أردف ناهيًا:
_إياك أن تفعل! لا تواصل من أي نوع بيننا وبينه، فليُيسر له الله أموره بعيدًا عنا!
أتم عبارته وأشاح بوجهه عنه يتظاهر بالتطلع إلى الفُرن الآلي الذي يحوز معظم مساحة المخبز، فيما اشتعل ذهنه بالغضب الذي طلَّ من عينيه رغم محاولته تهدئته..
_ألم تسمع بشأن تلك الإصابة التي تعرض لها؟
مرة ثانية سأله ناهل في ترقب، فأجابه دون أن يرفرف بأهدابه:
_سمعت.
تردد ناهل لوهلة قبل أن يقول في تصميم:
_لا تقل لي أن قلبك لا يرجوك أن تطمئن عليه! ألا تهفو أذناك لسماع صوته؟! ومتى كانت آخر مرة سمعت بها صوته بالفعل؟
التفت إليه الحاج بيومي أخيرًا بملامح حزينة مضغتها الحسرة ودعسها الخذلان، بقى على سكوته قليلًا ثم رد في مرارة:
_لا أتذكر ولا أهتم يا ناهل، أما عن قلبي فقد لفظه كما لفظنا هو، وأما عن أذناي فكلامه الأخير قبل رحيله لا يزال يحتكرهما فلا يترك لهما الفرصة للحنين لأي حديث آخر منه!
أطرق ناهل برأسه أرضًا في خزي وكأن اللوم مُوجَه له هو..
منذ صغره اعتاد وصديقه أن يتشاركا في تلقي التوبيخ حين يرتكب أحدهما خطئًا..
كانا مذنبين معًا وإن كان أحدهما بريئًا؛
وكانا يقتسمان المكافآت كما الحرمان منها؛
حتى راح صديقه وترك له النصف من كل شيء، بالضبط كما أكسب والديه اشتياقًا لا يتبدد مهما حاولا إنكاره!
زفر في ضيق ثم ما لبث أن قال دون اقتناع:
_ربما يـخشى أن ترفض الرد عليه كعادتــ..
"السلام عليكم!"
توقف تبريره الخائب على لسانه واستدار مع الحاج بيومي إلى هارون الذي ظهر على عتبة المخبز، وبينما رد الرجل تحيته هتف ناهل في دهشة:
_ماذا بكم اليوم؟! كلما تلفتُّ يمينًا أو يسارًا رأيت واحدًا منكم! ألن تدعوني أتابع عملي؟!
زوى هارون ما بين حاجبيه وعيناه تنتقلان من وجه ناهل إلى يده التي تحمل بقايا ما كان يأكله، وعاد ينظر إليه مُعلقًا في تهكم:
_أي عمل هذا؟! تناوُل معجنات العجوة؟!
تملك الحرج من ناهل واختلس النظر إلى الحاج بيومي الذي لاحت ابتسامة استمتاع على شفتيه فرماه بنظرة مغتاظة قبل أن يستقيم في حدة ليدفع بهارون إلى الخارج بحنق وهو يلوك قطعة المعجنات!
...
"جئت أشكرك لِما فعلت مع علا، قضيت اليومين السابقين أبحث عن وسيلة لِرد الجميل ولا زلت لم أعثر على واحدة مناسبة!"
بادره ما إن أصبحا بالمحل فأشار ناهل لعبد الله بالخروج ثم بقى يتطلع إليه في ترقب، وسرعان ما تابع هارون في حيرة:
_أنت مثير للارتياب، أتعلم ذلك؟
مط ناهل شفتيه ثم أجابه في لا مُبالاة مُصطنعة:
_أتقصد بأنني غامض؟! أعلم!
لكن هارون كان في أوج تخبطه فلم يبادله هزله كالعادة، ليهتف به فجأة في سخط:
_لست هنا من أجل المزاح يا ناهل، كانت الفرصة مواتية لك للقصاص أمام الجميع، الترتيبات كانت بغاية الدقة بحيث لم يكن بإمكانك إلا المشاهدة والتمتع بالشماتة، لماذا فعلت ذلك؟! لماذا سارعت بإنقاذها؟!
رفع ناهل حاجبيه ليسأله في استنكار:
_هل أنت غاضب لأنني أنقذت شقيقتك من الاحتراق؟
ودون تردد صاح هارون حاملًا تعبيرًا ينم عن غيظه:
_بالطبع لا، لكنني لا أستوعب أن هناك من يتصرف بهذه المثالية!
_يا للرجال!
همس بها ناهل ممتعضًا ثم تابع زاجرًا:
_ماذا حدث لكم؟! ما هذه العواطف التي باتت تستحكم بكم اليوم؟! ولماذا تأتون إليّ أنا للإفضاء؟! هل صرت فجأة الأكثر حكمة بين الجميع؟!
لكن هارون ظل صامدًا شديد التصميم، فتنهد ناهل في استسلام ثم سأله باستهجان:
_أتظن أن موت شقيقتك بتلك الطريقة البشعة كان ليشعرني بالتشفي؟
حدَّق به هارون في ترقب فأجاب هو والمقت يستولي على نظرته ثم صوته:
_لا، لن أنكر أنني قضيت أشهر بالسجن أحاول تدبير وسيلة انتقام تشفي غليلي منها، ومن والدي أيضًا، أية وسيلة كنت سأسعى خلفها حتى لو تحولت إلى مجرم حقيقي، لكنني أقنعت نفسي بأنني حينها سأكون راضيًا عن رد اعتبار والدتي واعتباري أيضًا، إلا أن الله كان يرتب لي الأفضل، جنبني مساوئ ظلمات الانتقام التي لا شفاء منها فقضت حكمته أن يسترد أمانته قبل ساعات من تحرري لتنفيذ عهود قطعتها على نفسي، فلم أجد إلا أنني أمام قبره أيقنت ما غاب عني طويلًا..
سكت ليلتقط أنفاسه التي تسارعت كما فعلت خاصة هارون، ثم استطرد في ثقة:
_مهما وجدت من سبل لتكدير حياة شقيقتك وعقابها على الوجه الأمثل فحسابها ليس ضمن مسؤولياتي، حتى أمي ما كانت لتعود، عمرها ما كان ليعود، شبابها ما كان ليعود، سعادتها التي لم أر منها إلا لمحات عابرة لم تكن.. لتولد من جديد!
ورغم الضعف الذي نال من نبرته بآخر كلماته فقد استطرد في شرود:
_وأمام قبره هو تخيلت كيف سيكون عقاب ربه وقصاصه.. فأشفقت عليه!
عقد هارون حاجبيه في تساؤل أجاب عنه ناهل دون تلكؤ:
_الله يُحاسب العبد على ظُلمه آخر ما لم يتنازل عن حقه، فكيف لي بألا أرتضي عدله الذي سيتحقق دون جدال؟!
بدأ هارون باستيعاب ما يعنيه ناهل فتمكنت منه الحيرة مُجددًا..
لقد قضى وقتًا طويلًا مُتأهبًا لأي فعل ينتقم به ناهل من علا حتى بعد توطد علاقتهما بزواجهما من أختين، لم يستطع منحه الاطمئنان التام خاصًة مع عدم ثقته بعدم استفزاز شقيقته إياه، والآن فقط أدرك أن ناهل قد أسقطها مع والده من حساباته..
لكنه أوكل من لا يغفل ولا ينام كي يعيد له حقه وحق والدته!
_شقيقتك أيضًا تستحق الشفقة هارون، لقد آلمت والدتي قبيل وفاتها بلا رحمة، وقد فقدت فرصة التوسل لها بأن تسامحها إلى الأبد!
وها هو التأكيد منه على ما توصل إليه بنفسه.. ماذا عليه أن يفعل؟ لا شيء!
صادق هو هذه المرة باستقالته من وظيفة لملمة آثار جورها أو طلب العفو من ضحاياها بدلًا منها!
مُتعب هو من تطبيب آثار اللدغات التي تُصيب بها الجميع بلا استثناء فيكون أول من يأخذ حِصَّته من سُمها!
_مبارك الطفل القادم!
قالها ناهل راغبًا في صرف ذهنه عن البؤرة المظلمة بحياته، فنجح وهو يرى إشراق ملامحه تدريجيًا قبل أن يبتسم وهو يومئ برأسه مُعقبًا:
_العقبى لك يا ناهل!
وكأنه ألقى عليه بتعويذة، فتبسَّم ناهل ليؤمن هامسًا:
_العقبى لي.. عاجلًا يا رب!
ثم انقلبت ملامحه فورًا إلى تمام الجد واقترب منه قائلًا في توجس أثناء جذبه خارج المحل بعيدًا عن سمع زوجته:
_هناك خدمة أريدك أن تسديها لي، هذا إن أردت أن تشكرني حقًّا كما قلت.
كاد يمنحه تعليقًا لاذعًا فمنعه تعبيره الصارم ليرهف سمعه إليه، فتابع ناهل في تحذير:
_هذه المرة الأمر سري أيضًا وهام إلى أبعد الحدود، لا ينبغي أن تذكره لأحد، حتى لين ذاتها، حذار يا هارون!
بإيماءه بسيطة وعده.. وبكل انتباهه أصغى له!
**********

رَفَعَت رأسها تواجهه بتردد بعدما انتهت أخيرًا من آخر ما في جعبتها من حديث عن أخبار إحدى أقربائهم بالبلدة التي طالت مكالمتها الهاتفية لها لِما يزيد عن الساعة..
تتجاهل أنه قد كان معها بالغرفة واستمع لحديثها نفسه، وأدرك في سلاسة أنها هي من تطيل المكالمة لتتهرب من حديث آخر حان وقته ولا ريب.
_هل.. أقوم بتجهيز طعام العشاء لك يا ياسر؟
بادرته والتوتر يكاد يجهز على اصطناعها الفاشل اللا مبالاة، فأجابها مُحدقًا فيها بإمعان:
_لقد تناولناه سويا أمي!
على الفور وقفت تقول على عجالة:
_إذن سأخلد إلى النوم، تصبح على خـيـ..
_أتريدين الزواج به؟
أغلق طريق فرارها بسؤاله الحاسم ولم يملك إلا أن يلاحظ اصطباغ وجنتيها بالأحمر واختلاسها نظرات مرتبكة إليه، فتابع في إصرار:
_أجيبيني! أتريدين الزواج به؟
في اضطراب نظرت له، كلل الأسف مع الخجل محياها ففتحت فمها ثم أغلقته في حيرة..
حيرة شاركها بها مع تأكده أنه ربما كان أنانيًا واهتم بقيود اجتماعية لا تستند إلى شريعة ليتغاضى عن بعض احتياجات عاطفية لهذه المرأة..
المرأة التي لم تضن عليه بأي منها!
_ماذا تريد أنت يا ياسر؟ سأفعل ما تـ..
قاطعها في رفق هذه المرة حالما لمح نيتها الواضحة بالرفض تناقضًا مع أمنية بدأت تظهر على استحياء:
_أنتِ يا أمي.. أتريدين الزواج من أي شخص؟ أم ترغبين بالزواج من الأستاذ ضياء؟ أم أن المبدأ مرفوض بالأصل؟
وكأن الأدوار قد انقلبت حتى ليظن الرائي أنها فتاة يسألها أبوها عن رأيها.. لا يترقب الولد معرفة رغبة أمه!
كادت تذيب جلد أصابعها أو تدمي شفتيها وهي تطرق برأسها أرضًا في خفر ابتسم له ياسر ابتسامة تضاعفت حالما سمع إجابتها الحيية:
_المبدأ نفسه.. لم يعد مرفوضًا تمامًا الآن.
ثم أضافت سريعًا في إيضاح:
_كما أنني بالطبع لا أرغب بالزواج من أي شخص!
كبت ضحكة ماكرة في صعوبة ليعلق متظاهرًا بالحنق:
_هو الأستاذ ضياء إذن!
ازدردت أماني لعابها فيما سرى الخدر بجسدها فرفعت رأسها تقول له في حرج شابته بعض الحسرة المحسوسة:
_تسخر مني، أليس كذلك؟! تقول لقد جنت المرأة بآخر الأمر وبدلًا من أن تحترم سنها تتظاهر بأنها في مقتبل عمرها وتفكر بالزواج كابنة العشرين!
فغر شفتيه ذاهلًا.. ليس بسبب تعليقها، إنما لذلك الخزي الذي تقاطر من كلماتها فلم يستطع إلا أن ينصاع خلف أسواط الندم التي بدأت بجلده، ليقترب منها ويضع كفيه على ذراعيها متسائلًا بدهشة:
_أمي! لماذا تتقمصين دور المرأة السبعينية وأنتِ لم تبلغي الخمسين بعد؟! أنسيتِ تلك المرة حينما داهمتِ اجتماعي مع أصدقائي بالجامعة فظنوكِ خطيبتي التي لا تثق بأخلاقي؟!
دون مجهود التقطت محاولته للتخفيف من حدة حرجها، فتمسكت بالفرصة كي تعبر عما منعت نفسها من البوح به طويلًا.. خاصًة له هو:
_تعلم يا ياسر أنني تزوجت والدك في سن صغيرة ظنَّا مني أن هذا هو عين الصواب، لم أكن أطمح إلا لبيت دافئ تسوده المودة مع أطفال كثيرين كما كان الحال مع قريباتي وغالبية بنات العائلات المحيطة بي آنذاك.
راقب الأسف الذي ظلل بغيومه على نظرتها، حتى واصلت هي في نبرة خافتة لم تكن مقصودة غير أن القهر كان له اليد العليا ففرض سيطرته عليها:
_سرعان ما أدركت خطئي، وسرعان ما استوعبت أن المسؤولية ليست بيسيرة عليّ، ويشهد الله لم يكن لدلالي دورًا بهذا، إنما هو الفارق الشاسع بيني وبين والدك _رحمه الله_.
سكتت بينما كانت دقات قلبه تتسارع في ألم شاطرها إياه دون تردد حتى استطردت بصوت أقرب للأنين:
_لم يكن يكبرني إلا بأربعة سنوات، لكنه لم يظهر أية نية للتفاهم معي حول طريقة إدارة حياتنا، فأنا نشأت ببيت يستشير به أبي أمي بأكثر أموره، وتظهر هي حبها ودعمها له دون شروط، وعلى الرغم من شدة طباع أبي في عمله إلا أنه كان يتحول بالبيت إلى رجل آخر، حنون، مراع، طيب اللسان، لا يلقي كلمات العشق على أمنا لكنه أثبته لها بأفعاله مرات لا تحصى، ومنذ توفيت وقد استحال إلى هذا الرجل الصارم الذي أولى اهتماماته كلها لأولاده ثم لأحفاده.
والبسمة التي زامنت كلماتها عن والدها عزف هو عن مشاركتها بها هذه المرة، فسألها في إقرار ممتزج بالوجع رغم معرفته التامة بالإجابة:
_لم يتوفر أي من ذلك بأبي، أليس كذلك؟!
اضطربت أماني هنيهة وهي تذكر نفسها بوجوب الحفاظ على الصورة التقليدية الحسنة لوالد ياسر في ذهنه، فإن لم تستطع إثراؤه بالمميزات فلا ينبغي أن تذكر العيوب!
لذا تداركت أمرها سريعًا وقالت:
_هو أيضًا لم يكن ناضجًا كفاية حتى يُلم بجميع شؤوننا، لا تستطيع أن تلومه، كما أن المرض هاجمه مبكرًا فلم يجد الفرصة، ثم كانت مشيئة الله فلم يسعفه الوقت.
ما إن أتمت دفاعها الواهي حتى اجتذبها إلى صدره مُربتًا على ظهرها ومُقبلًا رأسها ليهمس لها في اعتذار:
_يبدو أنني تماديت كثيرًا بتفكيري في نفسي للمرة الثانية وتجاهلت شعورك أنتِ، هلا سامحتني يا أمي مع وعد جاد مني بألا أكررها مرة أخرى؟
التصقت بصدره تواري دمعات انفلتت منها دون تنبيه، حتى سمعته يقول في نزق:
_يبدو أن صديق الأمس سيغدو صهر اليوم إذن!
لم تدر ماذا تقول فاكتفت بالصمت حتى تحدث مُجددًا في تركيز:
_أتعلمين يا أمي؟ يومًا ما زعق لي الأستاذ ضياء لأنني ارتكبت خطئًا بسيطًا لا ينتبه له الكثير، لكنه لم يسمح بمروره مرور الكرام دون افتعال فضيحة!
سألته في اهتمام دومًا رافق أي مما يخصه مهما كان بسيطًا أو تافهًا:
_أي خطأ هذا يا بني؟
وبنبرة لا مكترثة أجابها:
_أكدت له أن كلمة "كل" هي إحدى حروف الجر، كما أنها أيضًا مرفوعة بالضمة مثل زميلاتها، فبدأ بجذب شعره بوسط الحجرة الدراسية ثم أخذ ينتحب مُغمغمًا عن إهدار تعبه وعمره وجهده وما إلى ذلك، يُبالغ كثيرًا كما ترين فاحذريه!
وما إن بدأت ضحكاتها تكتسح توترها حتى تابع مُتوعدًا:
_ربما حان لي أن أستعيد حقي، ولير الأستاذ حامي حمى حروف الجر بمجمع اللغة العربية ماذا بإمكان ابن الزوجة أن يفعل به..
ونظر لها مؤكدًا في تشفي:
_وبابنة شقيقه!
تراجعت إلى الخلف ترفع سبابتها أمامه لتقول في نهي:
_حاذر أنت أن تزعجها! يبدو أن جدك قد اصطفاها لتكون من الأشخاص القليلين الذين حازوا على ثقته ولن يسمح لك بمُضايقتها.
رسم تعبيرًا مُفعمًا بالامتعاض الذي لا يشعر به حقًا مُتجاهلًا ذلك الحماس الذي انبثق بداخله مع ذكر سيرتها، فعلق:
_خبرتكِ قبلًا أن والدكِ له رؤية مُريبة في البشر، ألم أفعل؟!
وسريعًا ما نفضت عنها مشاعر الخجل والارتباك لتستعيد شخصية الأم القوية مرة ثانية، فلكزته بصدره وهتفت به في توبيخ:
_بالمناسبة.. لماذا لم تقل لي أنك تحب ابنة شقيق ضياء؟ لكنت وفرت كثيرًا من خوفي عليك يا ياسر!
تجاهل إقرارها بحب لم ينطق به من قبل ولا يشعر أنه واقع تحت تأثيره في الحاضر..
بَيْد أن المستقبل ربما يُخبئ له رأيًا آخر!
لِذا تهرب من الإجابة ورماها بنظرة مغتاظة ليُعقب:
_ والآن صار "ضياء" فقط! يا لسعدي وهنائي!
ثم مط شفتيه متابعًا بفم ملوي:
_بل أعشقها يا أمي! وليكن في معلوماتكِ أنني سَيَكْتَنِفَني عذاب حتى الموت لو لم أتزوجها! لذا سينبغي أن يوافق خطيـ... أعني الأستاذ ضياء!
ندت عنها شهقة أعقبتها بأن رمقته في ذهول، ثم قالت بلا تصديق:
_حفظك الله لي يا ولدي! ألهذه الدرجة تَعلَّقت بها؟
ضحك في تهكم ثم وجمت ملامحه فجأة ليقول ساخرًا:
_بالطبع! الفتاة سترتدي ثوبًا بلون صلصة الخردل في حفل عقد القران لتصيب الحاضرين جميعًا بالعمى، كيف لي ألا أسقط أسيرًا لعشقها؟!
**********

بعد ثلاثة أيام:
تطلعت إيلاف بإشفاق إلى أختها الكبرى التي لتوها تغلبت بصعوبة على نوبة غثيان أشد من سابقتها، فساعدتها على الاضطجاع في راحة وقالت:
_لا أتذكر أن حملكِ بيزن كان متعبًا لهذه الدرجة، كنتِ تقيمين عندنا ولم تكوني شديدة الإعياء هكذا!
أنهت عبارتها وأعطتها كوبًا زجاجيًا يحوي منقوع أعشاب طيب الرائحة، أخذته منها لين شاكرة وردت في خفوت:
_لقد أكدت لي الطبيبة أن الأمر طبيعي ومن الوارد أن يختلف الحمل عن سابقه.
وترددت قليلًا ثم تابعت في حرج:
_كما أنني كنت متعبة أيضًا بشهوري الأولى حينذاك، لكنني كنت أبقى بغرفتي.
بان الأسف في وضوح على محيا إيلاف فيما دار حوار صامت بينهما، ربما تعاتب إحداهما الأخرى لكن كلتاهما تتعاهدان على تعويض ما خسرتاه.
ابتسمت لين وواصلت في مرح:
_أما الآن فيبدو أنكِ ستتسلمين المهام المُرهِقة التي تقع على عاتق الأخت، فلا تظني أنكِ ستصبحين خالة لمرة ثانية بالمجان ريثما تنتهي نوبة اكتئاب غفران وتتعقل وتستأنف تجهزها للزواج!
_أتظنين أنها ستفعل؟
سألتها إيلاف في شك فأومأت لين برأسها ثم أجابتها:
_بل أنا أكيدة من ذلك!
لم يبد على إيلاف اقتناعًا فتابعت لين في حنو:
_لقد تَبدَّلت غفران تمامًا يا إيلاف، لم أرها من قبل على هذه الحال الهادئة المُقبلة على الحياة، لم تختفِ كراهيتها إلا حينما اقتحم قلبها حب نضال، لِذا لن تتحمل الانفصال عنه طويلًا، ربما يحتاجان فترة قصيرة لتقييم الأمور ثم لن يلبثا إلا أن يتجاوزا أي خلافات.
تنهدت إيلاف وهي تشرد تمامًا، ثم عَقَّبت في أسى:
_أتمنى ذلك، فبالإضافة إلى أنها لا تبدو وكأنها سعيدة بهذا الانفصال جدكِ أيضًا بات غاضبًا كما لم يكن من قبل.
وافقتها لين في تعب فأردفت إيلاف:
_علمت من عمتكِ أنه بالليلة الماضية استدعى نضال ليُعيد له "الشبكة"، فما كان من هذا الأخير إلا أن رفض أخذها وأكد له أن سوء التفاهم الذي وقع بينهما مؤقت وأنه يُواصل تجهيز الشقة كما تم الترتيب، ربما كان هذا أحد اختبارات جدكِ ويبدو أنه نجح.
_لو لم نفقد وقتًا طويلًا في الانطواء لكنا استطعنا نصيحتها قبل أن تتخذ قرارًا يُعذبها بهذه القسوة!
بلا مُقدمات نطقت لين بما يدور في خلدها، طوال الوقت لا تنفك تفكر بما ضاع، أيام، شهور، سنوات.. عمر كامل سُرِق منهن، أهناك فرصة للتعويض؟
والسؤال نفسه كان يسيطر على عقل إيلاف، ظلت تبحث عن كلمات تعبر عن مكنوناتها فلم تعثر، وما هي إلا ثوان ومالت على لين تضم رأسها إلى صدرها في حنان وامتنان هطلت له دمعاتهما معًا، إلا أن لين كانت أول من تخلصت من انفعالها فجففت وجهها سريعًا لينقلب تعبيرها النادم إلى بسمة رائعة لم تستطع إيلاف رسم مثيلتها.
_ماذا بكِ؟
سألتها لين في انتباه بعدما أيقنت من شرود أختها، شرود لا علاقة له بوضع أختهن، فانتهزت إيلاف الفرصة على الفور لتمسح على وجنتيها وتجيبها في تردد:
_أشعر أن.. أشعر أن ناهل يخفي عني أمرًا ما!
تأففت لين ثم مطت شفتيها لتقول في غيظ:
_مُجددًا يا إيلاف؟! أينتابكِ الشك فيه مُجددًا؟! تُرى بمَ يهتم هذه المرة؟ "حمامات الشمس"؟!
عبست إيلاف وهي تفطن إلى سخريتها لترد في بعض الحدة:
_أنا جادَّة يا لين، لقد صار يتحدث بهاتفه همسًا ويتوتر حينما يراني، كما أنه يختفي فجأة من المحل لأعلم من عبد الله أنه خرج في عجالة إلى جهة غير معلومة، وعندما أسأله يخبرني أنه يلتقي ببعض التجار.
اضطرت لين إلى التراجع عن إلقاء اللوم عليها حسبما كانت تنتوي، لتقول في هدوء:
_ربما يفعل ذلك حقًّا!
وقفت إيلاف وبدأ جسدها في التوتر وهي تتحرك في غرفة أختها بلا انتباه لتهز رأسها نفيًا وتتحدث في انفعال:
_لا، لقد صرت على دراية تامة بناهل، وأعلم جيدًا متى لا يفضي لي بكل ما يدور بخلده، وبالطبع أعلم متى يفضحه كذبه، ومتى تكون هناك..
بترت عبارتها حينما حجبت التتمة صوتها، لكنها سريعًا ما أردفت في تصميم:
_أخرى!
استقامت لين والدهشة تعتري ملامحها لتقف قبالتها في صمت حائر لم ينهه سوى قولها:
_إيلاف! أنتِ تتحدثين عن ناهل!
_أنا خائفة يا لين، خائفة من التعرض للخيانة مرة ثانية!
في استسلام تكلمت، ثم جنحت إلى الصمت لوهلة مكتفية بنظرة غلفها الضياع الذي نشب أنيابه في كلماتها التالية:
_لم يحبني سوى ناهل، هو الوحيد الذي رغب بإيلاف بغض النظر عن تخبطها ووحدتها، هو الوحيد الذي رآني ووضعني بمكانة عالية رغم إيماني بأنني غير مرئية، غير.. ذي قيمة!
وترقرقت عيناها بغلالة من دموع لم تأبه لها حينما واصلت في ابتسامة مرتجفة:
_لا تلوميني إذن لذعري بأن يلتقي بأخرى فيهرع خلفها كما فعل هاني، احتمال غير مُستبعَد بالمرة!
مرة ثانية صُدِمت لين بأختها، اكتشفت بأنها بمرحلة مُتردية من انعدام الثقة بالنفس وبالغير، وتأكدت أن حالتها تزداد تدهورًا لا محالة؛ ومرة ثانية.. اجتاحها الذنب!
لكنه هذه المرة اختلط بعزيمة على محاولة إصلاح ما في الإمكان دون الاستسلام لهاجس انقضاء الوقت!
أمسكت يديها في حنان وقالت في جدية:
_اسمحي لي يا إيلاف أن أؤكد لكِ أنكِ تؤذين نفسكِ بنفسكِ، توقفي عن المقارنة فكلاهما مختلفين تماما!
ثم استغلت الفرصة ما إن طالعت اهتزاز الخوف بعينيها لتتابع في ابتسامة:
_كما أن ناهل يذوب بعشقكِ منذ سنوات، لو باستطاعته حب غيركِ لفعل فور أن خُطبتِ لهاني، كان ليتزوج سواكِ في فترة قصيرة، ولم يكن ليتزوجكِ بعد انفصالكِ!
أفلتت ضحكة خافتة من إيلاف وتمتمت في حياء:
_ أنتِ أيضًا عرفتِ بحبه لي!
مطت لين شفتيها وهي تنظر لها بمكر وقالت:
_خبرتكِ من قبل أنني شككت به فقط بضع مرات في المصنع، النظرات التي كان يرميكِ بها ودفاعه الدائم عنكِ ضد توبيخ والدي كانت كافية لأن يعرف كل المحيطين بهيامه بكِ، لكن يوم أن أتى بصحبتكِ ليعلن زواجكما أمام العائلة تأكدت أنه مخلص إلى حد لم يقتنع به عقلي كثيرًا آنذاك!
شردت إيلاف والتوتر يتخلى عنها تدريجيًا ليحط ارتياح مُحبب لنفسها لولا أنه دومًا ما كان.. مؤقتًا!
كل ما ملكته يومًا وقع تحت تهديد عدم الاستمرارية، كل ما تمنته سرعان ما تلاشى كَسراب.. إلا هو.. ما إن يختفي فجأة حتى يعود إليها ليؤكد لها أنه من أجلها حاضر؛
لكنه يُثبت لها أن انفصامه عنها سيستأصل ما هو أعمَّ وأعمق من قلبها؛
مِثل شريدة صغيرة ضمها أحدهم تحت كنفه، لاقت كل سُبُل رعايته، تمتعت بشتى وسائل اهتمامه، ولمَّا بدأت تقوى وتشتد حتى بات إزعاجها فوق مستوى الاحتمال، وتعلقها به كالمرض العضال..
فضجر منها، وإلى الخارج.. لَفَظَها!
_ألا يستحق ثقتكِ؟!
ضربها سؤال لين دون إنذار فأجابتها والتمزق ينال منها:
_بالطبع يستحقها، لكن.. لم يعد بحوزتي الكثير منها كما تلاحظين!
حدقت بها لين في ثبات لتخاطبها مُشددة:
_فلتستعيدينها لأجله يا إيلاف!
ثم أردفت في رفق:
_اسمعيني! أنا وأنتِ مررنا بتجربتين لم يكن التوفيق مُقدرًا لهما، لا ينبغي لنا أن نبقى عالقين بالخوف من الماضي فنحرم نفسينا من أمان الحاضر!
أخذت إيلاف تقلب كلماتها بذهنها فأمعنت لين في نصحها وقالت:
_انظري إلىّ! من كان ليصدق أنني قد أنفصل عن والد طفلي ويشاء الله أن يجمعني برجل رائع كهارون لأجد معه ما لم أتوقعه مُطلقًا؟!
وفي إصرار أضافت وهي تلحظ استجابتها القريبة:
_فرصتكِ أنتِ أكبر يا إيلاف، زوجكِ يحبكِ بكل جوارحه فإياكِ أن تفقديه في غيابات انعدام الثقة!
إيماءات بسيطة كانت كل إجابة إيلاف، إلا أنها تسارعت تصاعديًا تزامنًا مع ابتسامة انتشرت على وجهها وهي تعد نفسها بالانصياع.. للعلاج!
وفخر اجتاح نفس لين لشعورها أنها اغتنمت الفرصة لإثبات أنها أخت كبرى لجأت لها أختها فيما يقض مضجعها.. فلم تتقاعس.
ثم استطردت رغبًة منها في نزع هذا القلق من محيا أختها:
_الآن ستتولين أنتِ مُهمة تجهيز ثيابي أنا ويزن بحفل عقد القران.

بعد عشرة أيام:
"عندما نصحته بأن يفعل ما بِصالح والدته بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى لم أكن أظنه قد يتبع نصيحتى إلى هذا الحد!"
قالها ناهل مُتعجبًا ومُتهكمًا وهو يجلس إلى طاولة تجمعه بزوجته ووالدتها وأختها الكبرى، ناقلًا نظراته بين العريس وأمه العروس، والعروس الأخرى وعمها العريس أيضًا!
نفض رأسه ومط شفتيه في دهشة ثم نظر إلى زوجته قائلًا:
_بحق الله! من يعقد قرانه بالليلة نفسها، بالقاعة ذاتها، بالحضور عينهم مع عقد قران والدته؟! هذا تنمر لن يستطيع التخلص منه إلى الأبد، سيُورثه لأولاده ثم أحفاده! هذا تنمر أنا شخصيًا أُشفق عليه منه!
أفلتت إيلاف ضحكة باتت رفيقتها منذ قرر ياسر في خطوة متهورة أن يتم عقده قرانه مع زواج والدته وكأنه يرافقها بكل مكان كما واظبت على أن تفعل هي!
أو كي يُثبت لها أن الجنون الذي نعتها جده به كل مرة كانت تراقبه خلالها ها هو قد أخذ منه نصيبه!
غطت لين وجهها بكفيها بعدما ودعت زوجها في رسالة نصية، فيما كانت خالتها إلى جوارها تحاول التغلب على الضحكات التي تستثيرها تعليقات صهرها!
_كان شديد الحيرة بشأن زواج والدته وكأنه يدرس في مُباحثات الشرق الأوسط لكنه لم يتأنَ للحظة أثناء اختياره رابطة العنق هذه؟!
ثم أشاح بعينيه عن ياسر فقالت إيلاف بلا فهم:
_ماذا بها؟
رمقها بدهشة ثم سألها في استهجان:
_ألا تلاحظين لونها؟! هل آلمتكِ أنتِ أيضًا الأشعة الصادرة منها؟!
أدركت مقصده فمطت شفتيها بلا رضا، ثم علَّقت:
_أنت من لا تفقه شيئًا بتلك اللَّفتات الرومانسية، ينبغي على العريس أن يختار رابطة عنق تتلائم مع ثوب عروسه، أراهما رائعين للغاية!
_عُذرًا، إنه خطئي أنا، ماذا سأتوقع من صاحبة طلاء الشفاه الذهبي البراق؟!
جاء تعليقه سريعًا بلا تردد، فشهقت والدتها وهي تتذكر ما فعلت ابنتها بليلة زفافها، وحدجته هي بنظرة مُؤنبة لكنه لم يلقِ لها بالًا ليهز رأسه ويُتمتم في قلق مُصطنع:
_سيجب أن نزور طبيبًا أثناء عودتنا إذن، أشعر بأنني لن أرى ألوانًا أخرى بعد اليوم!
تجاهلته عن عمد فتابع مُشاكسًا إياها:
_ثم ذكريني ماذا كنت أرتدي يوم عقد قراننا؟
مالت لين لتهتف بها في حماس:
_نعم، احكي لنا يا إيلاف عن ذلك اليوم!
في حنق أجابتها إيلاف وهي تنظر له:
_كان يرتدي بنطالًا من "الجينز" و قميصًا قُطنيًا أسفل سترة صوفية كأنه مدعو إلى افتتاح محل أحذية!
ضحكت والدتها وأختها فيما رمقها هو بتحذير وقال:
_إياكِ أن تسخري من ستراتي الصوفية يا إيلاف!
_ألم تكن واحدة فقط؟!
سألته في دهشة فأجاب بفخر:
_لقد ابتعت منها نصف دستة، كان هناك عرض توفير!
عقدت حاجبيها بتوجس لتسأله ثانية:
_من الشكل نفسه واللون ذاته؟
مط شفتيه وهز كتفيها مُعلقًا بلا اكتراث:
_ما دامت تعجبني لِمَ لا؟!
تبادلا نظرات صامتة لثوانِ.. مُغتاظة من جانبها، ومُغيظة من جانبه، حتى قاطعتهما لين لتسأله في فضول:
_وماذا حدث بعد أن تم عقد القران يا ناهل؟
أمسك هو بِدفة الحديث ليُجيبها بلا مُبالاة:
_لم يحدث شيء، رحلت أختكِ مع جدكِ وخالتكِ ولؤي وياسر وعدت أنا للمحل!
فغرت لين شفتيها في دهشة ولم تستطع هالة كبت ضحكاتها، أما إيلاف فقد لكزته بفخذه قبل أن تبتسم في سخرية وتقول لأختها:
_بالتأكيد تحسدينني الآن على العواطف المتفجرة التي أعاني منها يا لين، أليس كذلك؟! نصيحتي لكِ أن تبعدي زوجكِ عنه كي لا يُفكر بتقليده!
ابتسمت لين وتلفتت حولها تلقائيًا ثم ما لبثت أن تنهدت في استسلام واعية أنه رحل، وأنها.. تشتاقه!
ومال ناهل على أذن زوجته قائلًا في تحدي:
_هيا نعود إلى البيت في الحال لأظل أُعبر لكِ عن العواطف المتفجرة حتى الصباح!
شهقت في خفوت ثم همست في تحذير:
_راقب كلماتك يا ناهل! أمي وأختي تنظران إلينا!
لكنه لم يرتدع ليقول في نبرة عابثة:
_أنتِ من افتتحتِ الأمر وعليكِ إغلاقه بشكل حاسم وعاجل!
هزت رأسها نهيًا مما قد يفعله، لكنه استقام بالفعل ليوجه حديثه إلى أختها ووالدتها:
_إلى اللقاء يا أم لؤي، إلى اللقاء يا لين!
_هل سترحلان الآن؟
سألته هالة في دهشة فأجابها ببساطة:
_نعم، سنلقي التحية علىى العرسان جميعهم وننصرف، لن تتحمل عيني هذا اللون أكثر من هذا!
ابتعد بضع خطوات فأومأت لوالدتها وأختها في اعتذار وهي تغض بصرها عن النظرات المُدركة التي علت أعينهما والضحكات التي ستنتصر عليهما وتنطلق، وارتأت أن أسلم الطرق لحفظ ماء وجهها أن تختفي من أمامهما وتتبعه!
تنهدت هالة في ارتياح وهي تلاحقهما بنظراتها حتى رحلا، ثم حانت منها نظرة إلى غفران التي تقف وحيدة بجوار أحد الأعمدة، صامتة، جامدة، تلتمع عيناها بدموع تواريها من حين لآخر لترسم عقبها ابتسامات زائفة!
شجارات عدة نشبت بينهما منذ عادت شقيقة زوجها إلى البيت، شجارات كانت تبدأ بتوسلها أن تعترف هي للجد بما حدث وتنتهي برفض قاطع منها يرافقه لوم واضح بأن ما دُفِن منذ سنوات لا يحق لها أن تنبش الأرض عنه الآن!
وحتى مع انفصالها المُفاجئ عن خاطبها منذ أسبوعين لم يتغير موقفها، بل باتت ضعيفة، خائرة تبحث عن تخدير ما أُضيف إليها من آلام لا استجلاب المزيد من الوجع!
أشاحت بوجهها بعيدًا لتتطلع في مقت إلى عزة التي حاولت تكدير شقيقتها هذا الصباح للقرار الغريب _من وجهة نظرها_ الذي اتخذته الآن، لكن ياسر كان لها بالمرصاد وطالبها _بأسلوب مهذب_ أن عليها الاهتمام بشؤونها وحسب!
تربيتة حانية من لين حطت على كفها فنظرت لها بإشفاق وهي تلحظ شحوب وجهها، لتسألها باهتمام واعية لاستراقها النظر إلى باب القاعة من آن لآخر:
_ألن يعود هارون مُجددًا يا بنيتي؟
_لا يا خالتي، لا أظن أنه سيفعل، ينبغي أن يبقى مع شقيقته حتى ينتهي الحفل، لقد حاول تغيير موعد عقد قرانها لكنه لم يستطع مع الأسف.
أجابتها لين بنبرة آسفة وافتقادها حضوره يتزايد مع الوقت، ثم داعبت شعر يزن النائم على صدر جدته..
_ولماذا لم تذهبي معه؟ أهناك امرأة لا تحضر عقد قران شقيقة زوجها؟!
في تعجب سألتها خالتها، فما كان منها إلا أن زفرت طويلًا في ضيق ثم أخفضت رأسها أرضًا لتجيبها:
_هكذا أفضل يا خالتي، حتى لا تقوم باستفزازي فأضطر لفعل المثل، وبآخر الأمر سيحزن هارون بينما هو بالأصل لا يزال مُتأثرًا بذلك الحريق!
ثم أضافت في أسى:
_هو.. مُشتت، مُشتت بين حبه لها كشقيق ونقمته على أفعالها، وأنا مهما حاولت نُصحه بأن يتغاضى عمَّا تقوم به تأتي هي بآخر أشد وقعًا في نفسه، لِذا سيجب عليّ التزام الصمت، بآخر الأمر هي شقيقته وستكون عمة طفلي القادم ولا يسعني إلا أن أحافظ على علاقة سطحية بيننا.
رمقتها خالتها في عبوس وقد ضاقت ذرعًا بتلك المرأة التي توزع الأذى في كرم أينما حَلَّت، ثم استمعت إلى لين تضيف بهدوء:
_لقد وقع بيننا اتفاق على ألا أذكر اسمها وأتجنب سيرتها تمامًا منذ ذلك اليوم الذي زرتها فيه عقب احتراق المحل، حتى هارون لم يتحدث عنها إطلاقًا درءًا للمشكلات، وليلة الأمس فقط علمت أن اليوم أيضًا عقد قرانها، لِذا أعتقد أن إقصائها من حياتي سيكون أفضل حل لجميع الأطراف.
ثانيًة أمعنت خالتها النظر بها مليًّا ثم سألتها بتعجب:
_أتعنين أن حالة هارون النفسية ليست على ما يرام؟
أومأت لين برأسها إيجابًا فتابعت هالة بِلَوم:
_وبدلًا من أن تبقي برفقته لِمُساندته ودعمه تركتِه بعقد قران شقيقته بمفرده كأن لا أسرة له؟!
نظرت لها لين بدهشة لترد في ارتباك:
_لم.. لم أفكر بهذه الطريقة يا خالتي.
_وكيف فكرتِ إذن يا لين؟
في انزعاج واضح ألقت خالتها سؤالها، فقالت لين بضعف:
_لا أعتقد أنه سيحب وجودي، ربما يفضل عدم مواجهتي بها منعًا للاحتكاك بيننا.
وضعت هالة إحدى كفيها على وجنتيها لتخاطبها في حنو:
_سيفضل هذا بالطبع، لكن هناك جزءً سيبقى يتمنى لو أنكِ تنازلتِ من أجله.
تعلَّقت نظرات لين بها في حيرة لوهلة في اندهاش لتكرار الموقف..
منذ عدة أيام كانت تسدي النصيحة لأختها حتى لا تفسد سعادتها مع زوجها، لكنها الآن فيما يخصها لا تعلم ماذا عليها أن تفعل!
ولما طال صمتها قالت خالتها:
_تبقت أيام قليلة على شهر رمضان، اغتنمي الفرصة وبادري مرة ثانية لإظهار المودة عسى الله أن يهديها! ستشعرين بالراحة وستزيد مكانتكِ بقلب زوجكِ.
سألتها في استجداء وقد بدأت تميل لتنفيذ نصيحتها التي تتفق مع رغبة قلبها:
_أتقصدين أن عليّ أن أذهب؟
ابتسمت هالة وردَّت بنبرة ذات مغزى:
_سلي نفسك يا لين هل سيؤثر ذهابكِ بنفس زوجكِ؟ هل ستُبددين حزنه لو أنكِ تغاضيتِ عن ردة فعلها وأبديتِ أولوية لردة فعله هو؟
اتسعت ابتسامة لين واستقامت ببطء كي لا يدور رأسها كما هو الحال كلما فعلت فجأة، وحملت حقيبة يدها الصغيرة ثم قالت في حياء:
_سيكون عليكِ أن تستضيفي يزن الليلة إذن يا خالتي، وسيكون عليّ أن أنتزع ابنكِ انتزاعًا كي يقلني إلى هارون!
غمزت لها خالتها وأومأت برأسها موافقة، ورحلت هي في لهفة بينما الرضا عن قرارها يُكللها بالكامل.
**********

صارت سهام وحدها بالشقة التي عاشت بها منذ زواجها بعد أن واظبت على الادخار من المصروف القليل الذي كان يمنحها زوجها إياه حتى تظهر له كيف أنها نِعم الزوجة.
مُدبرة؛
مُوفرة؛
حريصة على المحافظة على ماله حتى ينتقلوا جميعًا إلى حي آخر أكثر رقيًّا.
تحسست وجنتيها في ألم رغم مرور أكثر من أسبوعين على تلقيها ضربًا مُبرحًا بعد فعلتها الشنيعة أمام الجميع ثم إدراكها خطئها المتهور، إلا أن الألم تزايدت شدته حينما قرعت أذنيها الأصوات..
طبول تطرق على صدرها؛
مزامير جنائزية تحتفي بإذلالها؛
تصفيق لا ينتهي فرحًا بمآلها؛
زغاريد ستصم سمعها لكنها لن تفلح في تعطيل بصرها عن رؤية غريمتها!
فالزوج الذي بإمكانه إقامة زفافه بأية قاعة مختصة اختار عن عمد أن يقيمه في الحي ذاته.. حيث تسكن!
لترى؛
لتسمع؛
وربما ينتظر منها أن تشارك برقصة أيضًا!
"أهذه فكرتك يا هاشم؟!"
همست في ذهول والتتمة كانت تدور بعقلها بعد أن نال التعب من لسانها..
أن يقيم حفل زفافه بشارع يقطن به معها منذ سنوات.. هل وصلت به الرغبة في الانتقام منها إلى ذلك الحد؟!
أم أنه.. كيد النساء؟
وآه من النساء وكيدهن!
بالطبع ضرتها العزيزة أرادت إثبات وجودها منذ البداية.. وأثبتته!
فالزوجة الأولى التي عايشت الصفر وتحملته لأجل أرقام أكثر قيمة مُستَقْبَلًا.. لم تجد مردودًا إلا الصفر مُستَقبِلاً!
والزوجة الثانية التي قررت ألا حاجة بها للشقاء مع من يقاربها عمرًا.. ستهنأ بدءً من الليلة مع آخر يسبقها بالكثير!
الزوجة الأولى بعقدها الخامس من حيث العمر.. والخمسون نسبة إلى الهم!
والزوجة الثانية ببداية عقدها الثالث تتوعدها بحرب ضارية لا قِبَل لها بمواجهتها!
"أيبدو لكِ الأمر مألوفًا يا سهام؟"
في ظلام غرفتها الذي بددته أضواء الحفل سألت نفسها في إدراك لأن أحدًا لم يكن معها ليفعل، فحتى أولادها يتناولون الطعام الآن بزفاف أبيهم!
والإجابة نطقت بها رفقة المزيد من الدموع المتحسرة مع إيمائها برأسها إيجابًا:
_رحمكِ الله يا سهير! لقد بدأت مِقصَلَة قصاصكِ في النَيْل ممن شاركوا بظلمكِ، وسيحين دور كل واحد منا.
تأوهت في مرارة:
_فلتهنأي!
وهتفت في حرقة:
_فلتحتفلي!
ثم صرخت في جنون:
_فلتفرح يا ناهل بربح أمكِ وهي رفات بقبرها!
**********

دومًا ما يُندَد بالكسل، يُذَم في التقاعس، يُنهى عن التراخي..
ماذا عن الإلحاح على ارتكاب الإثم؟
التصميم على استيطان بيئة يفوح فيها الوباء؟
العزيمة على السعي في سبيل لا أشد من وعورته؟
أيستحق الدؤوب على الخطيئة تصفيقًا مهما برهن على جرأته؟
أم ينبغي أن يلقى ما يستأهل من استقباح وتَشنيع؟
...
وَدَّعَت أخاها وراقبته حتى رحل بسيارة العائلة بعدما ألقى عليها نصيحة مُكررة بشأن تناول أي شيء يساعدها على التخلص من حالة الغثيان التي لازمتها طيلة الطريق، استدارت على مهل لتدلف إلى القاعة الفخمة حيث عقد قران شقيقة زوجها وانتابها تساؤل عن حالة العريس المادية، فيبدو أنها أكثر من ميسورة على عكس مما توقعت من رجل يمتلك بعض المقاهي.
مطت شفتيها تنهى نفسها عن تدخلها فيما لا يعنيها، هي هنا الآن من أجل هارون وحده، أما أي مما يخص شقيقته فلا يهمها بشيء.
"بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير!"
ما إن تجاوزت البوابة الضخمة للقاعة حتى تكررت العبارة ذاتها تلتها بعض الزغاريد والتهنئات، نال منها التعجب وهي تلمح بعض المدعوين، فعِوضًا عن الهيئات البسيطة التي توقعتها رأت أشخاصًا ذوي نفوذ وهيبة، كما أن هناك بعضهم يحمل هيئات غير مصرية، والبعض الآخر يحمل ملامح غير عربية!
لقد أخطأت القاعة إذن، تعجلت الذهاب إلى زوجها فاقتحمت زفاف أناس آخرين!
تراجعت إلى الخلف في تؤدة ثم استدارت لتصطدم بـ.. هارون!
"لين! حبيبتي لماذا جئتِ؟! وأين يزن؟"
بادرها متسائلًا في دهشة بعد أن لمحها وهو يجري مكالمة هاتفية مع زوج أختها، فأطلقت أنفاس مرتاحة وهي توقن أنها بالمكان الصحيح، نظرت له فوجدته لا يزال يتطلع إليها منتظرًا فابتسمت في مكر واقتربت منه لتجيبه:
_سيبيت الليلة مع خالتي، ربما شعرت ببعض الغيرة من كل هذه الزيجات باليوم نفسه وأرغب باستعادة ذكرى ليلة زفافي.
طافت نظراته على وجهها في تمهل مانعًا نفسه من ضمها إليه في قوة، ثم قال في تهكم:
_كلها؟! أستستعيدينها كلها؟! أم سنتخطى ذلك الجزء الخاص بالنحيب والوَلوَلَة؟
انطلقت ضحكاتها المستمتعة مع استعادتها ذكرى ما فعلته تلك الليلة، فكرر سؤاله بجدية:
_لماذا جئتِ؟
قررت التهرب من إجابة صريحة وعمدت إلى استمرار ملاعبته لتقول في تحذير وهي تشير إلى بطنها الضامر:
_ربما خشيت أن ترى إحدى الجميلات هنا أو هناك فبدأ الشيطان باللعب بعقلك استغلالًا لحالتي المزرية هذه.
_أصابتكِ إيلاف بالعدوى!
علق ساخرًا فضحكت، ثم قال بنبرة معبرة وهو يرمقها بتعبير جرئ مُتغاضيًا عن الإعياء البادي عليها:
_أية حالة مزرية هذه يا لين؟! أنتِ لا تفهمين شيئًا، صدقيني لولا أنني سمعت كلام الطبيبة عن تعب الشهور الأولى لكنت شرحت لكِ بطرق عدة كيف تؤثرين في بنظرة واحدة مهما كانت بريئة!
تعالت ضحكاتها فزجرها بنظرة صامتة، لتقول في خفوت وهي تتظاهر بالتمسيد على ياقة حلته:
_لتؤجل شرحك هذا حتى نعود، وسأثبت لك أنا حينها أنني لست متعبة على الإطلاق.
فضح توتره سرعة تأثره بها فحذرها بعينيه، ثم قال بهدوء:
_سأكرر سؤالي للمرة الأخيرة، لماذا جئتِ؟
تنهدت في استسلام وحدقت بعمق عينيه لترد في بساطة:
_لأنني أحبك يا هارون، ولأنني لأجلك وحدك سأتغاضى عن أي إزعاج من شقيقتك، ولأن شهر رمضان على الأبواب وسيجب دعوة شقيقتك على الإفطار وستدرك بأية زوجة ماهرة رُزقت!
عبارتها الأخيرة خرجت مرحة مُشوبة بزهو مفتعل، فلم يتمالك نفسه ليمس جبهتها بقبلة سريعة ثم علق في صدق:
_لا يحتاج هذا لإثبات يا لين، أنتِ مُكافأة رب العالمين لي، ودليل دامغ على أنه كان راض عني حينما التقيت بكِ.
قَبَّلته بنظراتها حتى حين ثم تعلقت يدها بذراعه وقالت في اندفاع حقيقي أججه هو بامتنانه الظاهر:
_هيا اصطحبني لأقوم بتهنئتها واختلس لي أية شطيرة مالحة لأتخلص من شعوري بالغثيان قبل أن يحدث ما لا تحمد عقباه أمام المدعوين!
ضحك وأومأ برأسه موافقًا، لكن ما إن تحركا حتى ظهرت شقيقته تنظر لها في استنكار، وتقدمت منهما لتبادرها بلا تردد:
_لماذا أتيتِ؟! ألا يقام عقدي قران عمتكِ وابنها اليوم؟
لم تغفل لين عن السخرية التي ترامت من كلماتها، لكنها تبسمت لتقول في هدوء:
_لشقيقة زوجي أيضًا واجب عليّ، أليس كذلك يا علا؟!
في وجوم اكتفت علا بأن تنظر لها، فتابعت لين بتهذيب:
_مبارك لكِ، زيجة العمر إن شاء الله!
"ها هو العريس!"
في حماس افتعله هتف هارون وهو يشير إلى اتجاه آخر كي يشوش على أي رد لاذع قد تتفوه به شقيقته التي لا تزال تحملق في زوجته بجمود لا تفسير له..
"زوجتي."
نزعت لين عينيها عنها مع استماعها لتقديم زوجها إياها للعريس، التفتت حيث يقف.. وتجمدت!
تهذي؛ تهلوس؛
لقد ضاع حتمًا عقلها!
عقلها الذي تلقى صدمة مروعة في الوقت ذاته حين هوى قلبها بين قدميها!
بينما تابع هارون في سرور غافلًا عن لمعة انتصار بنظرة صهره وصدمة من هَوَت على عُنقها مِقصَلة بعيني زوجته:
_العريس، السيد أسامة اليماني!
*****نهاية الفصل السابع والعشرين*****


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close