اخر الروايات

رواية علي ضفة قلبك ظمآن الفصل الخامس والعشرين 25 بقلم سعاد محمد

رواية علي ضفة قلبك ظمآن الفصل الخامس والعشرين 25 بقلم سعاد محمد


الفصل الخامس والعشرون
(على ضِفافكِ.. إلى الأبد)
"عُذرًا يا حاج فؤاد، هل بإمكاننا التحدث سويًا بالخارج؟"
بابتسامة مهزوزة هتفت سلام بعدما وقفت لتُشير إلى الرجل أن يتقدمها، تطلع بها في تعجب تحول إلى دهشة ما إن طافت عيناه الموجودين..
لقد علم أن ابنته وحفيده ربما سيبدون تفاجؤهم، لكنه لم يكن ليتحمل تخوفات أماني الزائدة عن اللزوم، خاصًة وقد أعجبته الفتاة بلا ريب، أين سيجد حفيده الذي لا يفقه التعامل مع النساء فتاة أخرى تسعى حتى بيته بكل هذا التَّوق؟!
لكن ردَّات أفعال عمها وشقيقتيها هي ما أثارت توجسه، فقد خمن أنهم سيسعدون بالأمر، لماذا إذن كل الذهول المُبالغ به؟!
وقف في تؤدة مُستندًا على عصاه، وألقى نظرة أخيرة على ياسر الذي يجلس جاحظ العينين فاغرًا شفتيه في بلاهة..
"ليس من اللائق أن يشمت المرء بحفيده، أليس كذلك؟!"
نفض رأسه وكتم ابتسامته ثم خرج إلى الممر الذي مر به أثناء دخوله فسمع إحدى الفتاتين تبدأ بتبادل الحديث مع ابنته، لتستدير له سلام تهمس في غضب:
_ماذا فعلت بالداخل يا حاج؟! ما الذي قلته للتو؟! لم يكن هذا اتفاقنا.
عقد حاجبيه ينظر لها بلا فهم وقال مُستدعيًا كل ما تفوه به:
_أي اتفاق يا بنيتي؟ لقد وعدتكِ أن أتبع التقاليد، وها قد أتيت بصحبة حفيدي ووالدته كي نخطبكِ حسب الأصول.
استغرق منها الأمر عدة ثوانِ حتى تستوعب مَكمن الخطأ، ثم بدأت بتوجيه سباب متنوع إلى نفسها قبل تضع كفيها على جبهتها وتتمتم:
_يا إلهي! أهذا ما فهمته من حديثي؟! أنا الغبية! أنا لم أوضح لك، لقد ظننت أنك تعرف حينما...
وبترت عبارتها لتواصل في نبرة أشبه بالنحيب:
_يا إلهي! ماذا سأفعل الآن؟
ضاقت عيناه لا يعي ما يدور، ثم سألها مُتعجبًا:
_ماذا تعنين؟
لم تستطع تمالك غيظها لتقول في استنكار:
_هل ظننت حقًّا أنني قد آتي لطلب الزواج من ذلك السخيف المتعجرف حفيدك؟!
ثم اشرأبت بعنقها تستطلع إن كان من بالداخل قد سمعوها، ليمط هو شفتيه قائلًا في بساطة:
_لقد تملكتني الدهشة في بادئ الأمر، لكني رأيت زيجات تتم بطرق أكثر غرابة، وأنا أحب أن أعطي حرية الاختيار لأحفادي.
اتسعت عيناها دهشًة وعلَّقت في استهجان:
_إلى الدرجة التي تجعلني أنا من أبادر بطلب الزواج منه؟!
همَّ بالتحدث لكنها بدأت تطرق بكفيها على رأسها لِتغمغم في أسلوب ولولة مُتقن:
_ماذا سنفعل الآن؟ كيف سنُصحح الخطأ؟! وكيف سنُفسر الأمر لعمي بدون أن نلفت انتباهه إلى زيارتي لك.
رمقها مليَّا مُحاولًا فهم ما يدور ثم سألها في تعجب:
_ماذا كنتِ تعنين حينها إذن بالمصاهرة؟
في حيرة تطلعت إليه ثم ما لبثت أن تخلصت من خوفها دفعة واحدة وقالت:
_عمي.. عمي هو من يريد الزواج من ابنتك، لكنه خاف من أن يتسبب بفشل علاقته بياسر بعد أن وجد به الابن الذي فقد الأمل بالحصول عليه.
انتابها فخر لا معنى له ما إن رأت التأثير الملحوظ لِما قالت على وجه الرجل المُتغضن، إلا أنه سرعان ما نفض ذهوله جانبًا وتمالك زمام تعبيراته ليعقد كفيه على مسند عصاه ويسألها بنبرة امتحانية:
_أتعنين أن عمكِ تقرب من ياسر كي يتزوج أمه فقط؟!
توجس زارها وهي تتطلع إلى تعبير الرجل الذي انتقل سريعًا من الحنو إلى صرامة مُثيرة للقلق، ففغرت شفتيها استنكارًا ثم هتفت سريعًا:
_بالطبع لا يا حاج.. أقصد.. يا "جدو فؤاد!"
واللقب الذي همست به أخيرًا أكد له أنه أمام فتاة ذكية مُثابرة، تعلم متى يجب عليها الدفاع وكيف لن تتوانى عن الهجوم!
"محظوظ ياسر!"
زم شفتيه ونظر إليها في إعجاب لتتابع هي بتملق افتعلته رغمًا عنها:
_عمي أُعجِب بابنتك _حفظها الله لك!_ منذ سنوات عندما التقى بها، لا تستطيع لومه فهي ذات جمال فائق رغم إنجابها لذلك الـ..
وبترت عبارتها مع إدراكها أنها تتجه إلى صوب لا يساعدها في مسعاها، ثم تابعت ترشوه بنظرتها المُتأثرة كذبًا:
_أقصد أنه رآها في المدرسة وتناقل زملاؤه قصتها بعد وفاة زوجها فأُعجب بأخلاقها وكفاحها وإيثارها ابنها على سعادتها، وعندما قابله منذ أشهر توطدت علاقتهما ولم يكن يعلم أنه ابنها حينذاك، لكنه كان يقضي كل وقته معه، مُسلي ولطيف المعشر حفيدك كما تعلم بالطبع!
ببسمة صفراء أنهت عبارتها، وببسمة مُستمتعة سرعان ما عَلَّق:
_أتعنين السخيف المتعجرف؟!
_لكنه..
نطقت في لهفة ثم صمتت فجأة، فسألها في فضول:
_بمَ تفكرين؟ لماذا سكتتِ؟
بين شفتيها وضعت سبابتها وإبهامها وأطرقت برأسها أرضًا في تفكير بدا له عميقًا أكثر من اللازم، لترد في نزق:
_أمهلني دقيقة يا حاج! دقيقة فحسب ربما أستطيع استدعاء ميزة واحدة به!
تمنى لو بإمكانه أن يُقهقه دونما توقف، لكنه أخذ يراقبها وهي تعصر ذهنها عصرًا حتى تتفوه بما تتوسط لديه من أجل عمها..
لا تعلم أنه استبشر بها هي نفسها؛
فالمعلومات التي وصلته حينما سأل عنها على اعتبار أنها ستصبح كنة البيت هي ما جعلته يُسارع بالقدوم من أجل طلبها لياسر..
علم أنها من تدير شؤون هذا البيت، وعمها، وشقيقتيها، كما أن بعض فاعلي الخير أكدوا له أنها ترفض كل عروض الزواج حتى لا تضطر للتخلي عن مسؤوليتهم التي حملتها اختيارًا على عاتقها..
وماذا يريد بالفتاة التي ستتزوج من ياسر خاصًة أكثر من هذا؟!
ربما يُثير حنقه أحيانًا عندما يجنح إلى الاستسلام كثيرًا، ويستجلب غضبه أحيانًا أخرى حينما يتراجع ويتقهقر مانحًا الأولوية لغيره، وفي كل مرة يختار أن يبقى في المؤخرة، يتفادى الصراع، ويَتَخلف عن الدفاع عن حقه!
لكنه سيبقى دائمًا أكثر من يثق به..
نقي، ويجب أن يرتبط بمن تماثله نقاءً؛
يعاني اضطرابًا طال أمده، وينبغي أن يحصل على.. السَّلام!
_ها نحن أولاء! إنه رقيق القلب، لقد تملكه الذعر ذات مرة لأن العم فوزي تعرض لنوبة سكري وأصر على اصطحابه إلى المشفى، وهذا يعني أنه حنون، عطوف، يساعد الغير، ولديه طابع.. أمومي.. نوعًا ما!
تلكأت كلماتها الأخيرة فنزعت لمسة الانتصار من نبرتها، نظرت له بارتياب ثم تأففت لتواصل بنفاد صبر:
_الخلاصة! ربما يكون غريب الطباع كثيرًا بالنسبة لِرجل لكن عمي يحبه لهذه الطباع نفسها، ماذا نفعل؟! لن نتدخل في أذواق الناس!
وحالما انفجر ضاحكًا كأنه كان يتشوق لهذا منذ وقت طال ولا يجد الفرصة حملقت به في تعجب، ثم ابتسمت لا إراديًا وقالت في حرج:
_لماذا تضحك يا حاج؟ أعلم أن أدائي لم يكن مُقنعًا لكنني بوغتت لِذا وجب عليّ الارتجال!
احتفظ بابتسامة سمحة مع تطلعه مليًّا بها في صمت دام لِثوانِ قبل أن يقول في رفق:
_أتدرين أنني أيضًا أُعجبت بكِ؟
تراجعت إلى الخلف قليلًا تحدجه وقالت في استنكار:
_ماذا؟! هناك ما يقارب من الخمسين عامًا تفصل بيننا!
رفع عصاه وكاد يلكزها بها تلقائيًا كما يفعل حينما يُغضبه غباء أحدهم، إلا أنه نفخ في ضجر ليقول حانقًا:
_أُعجبت بكِ كإحدى حفيداتي يا بنت!
عادت حيث كانت تقف ونظرت له في استجداء مُصطنع ليتأكد تمامًا من تخمينه..
هذه الفتاة ليست هينة على الإطلاق!
اعتراه بعض التعجب وهو يتطلع إلى تلاشي اصطناعها ليحل على وجهها تعبير بالحنو وكأنها.. أم!
راحت عيناه تتبع مرمى نظرتها الشاردة لتجدها حيث عمها الذي يبدو عليه بعض التوتر رغم الابتسامة التي يرسمها أثناء تبادله عبارات رسمية مع ابنتي شقيقه وابنته..
_أعلم أنني تسرعت، تصرفت من تلقاء نفسي دون العودة لعمي، لكن.. انظر إليه!
وكان هو بالأصل ينظر له، لكنه عاد يلتفت لها هي ليجدها تبتسم في عاطفة لا يفقد أثرها أحد، قبل أن تتابع في رقة:
_هذا الرجل هو عائلتي، هو من منحني وشقيقتيّ الأبوة والحب والأمان، لولاه لكنا نتنقل من بيت لآخر فيضيق بنا الناس، لولاه لتمنينا اللحاق بوالدينا كل يوم حتى نتخلص من مذلة التشتت.
أراد أن يربت عليها كما يفعل مع حفيداته، لكنه تذكر أنها لم تصبح زوجة حفيده فعليًا بعد، لِذا عوضًا عن ذلك فقد ابتسم في رفق ثم سألها:
_إذن أنادمة أنتِ على تسرعكِ هذا؟
_لا!
والنفي الحاسم رافق مواجهتها له مُجددًا في قوة طغى بريقها على هذا الإعجاب الذي لمع بعينيه أشد، قبل أن تردف بلا أي تردد:
_ولو أُتيحت لي أية فرصة من أجل إسعاده، مهما كان نوعها سأتشبث بها دون الاهتمام بعاقبة تُصيبني.
وحينما وجدته يحدق فيها صامتًا غافلة عن شعوره الحقيقي تابعت في تصميم:
_ربما تراني فتاة مُتبجحة، لكنك لا تستطيع أن تلومني على محاولتي مساعدته قدر استطاعتي.
_لا ألومكِ.
قالها في حزم فعبر طيف دهشة عينيها، ثم رمقها بأبوة أجبرتها على الابتسام وهي تتقبل مرة ثانية ذلك الأمل الذي منحه إياها بالمرة السابقة بالخطأ!
ولا تعلم لماذا راح عقلها بلا سبب يبحث عن أية ذكرى مع جديها لكنها عادت خائبة لِوفاتهما قبيل ميلادها..
ولا يعلم هو لماذا ينظر لها الآن وكأنها تنضم بلا أدنى مجهود إلى حفيداته، يفسح لها مجالًا في بيته، بعد أن اتخذت بلا أي افتعال مكانًا في قلبه!
تنهد في بطء ثم رنا إليه ببصره في تصميم وهو يقول:
_حسنًا! سأفكر في أمر عمكِ هذا، لكن يجب عليه أن يتبع الأصول، ليأتي إلى بيت والدها ويطلب الزواج منها وليفعل الله ما فيه الخير!
أشرق وجهها ببهجة وهي تقفز مرتين بمكانها ولم تتوقف إلا عندما أدركت نظرته الزاجرة، وسألته في لهفة:
_أحقًّا ستفعل؟
عقد حاجبيه مُستنكرًا وكأنها سبته، واكتفى بالرد في صرامة:
_كلمة الحاج فؤاد الكردي سيف بتَّار يا بنت!
أومأت برأسها مرات متتابعة، ثم سألته في حماس:
_إذن كيف سنصحح ما قيل بالداخل؟
ضحكة أخرى لكنها ساخرة افتر عنها ثغره فأثار بها توجسها، توجسها الذي تحول إلى ذعر بَيِّن ما إن رد في بساطة:
_لم أقل شيئًا خاطئًا لأصححه يا سلام! ما جئت لأجله سأتابع الترتيب لإتمامه!
ثم فتح ذراعيه لتتسع دفتي عباءته وقال في زهو:
_مرحبًا بكِ في عائلة الكردي يا بنيتي!
أنهى عبارته واستدار كي يعود إلى غرفة الاستقبال مُستأنفًا حواره مع عمها حول مدى تشرفه بها "هي" ككنة لبيت عائلة الكردي، ليرد عمها بعبارات رسمية حول تشرفه بالمثل و.. هراء، هراء، هراء!
قابلها وجه "خطيبها" فوجدته كما هو منذ دقائق..مُتيبس كجدار آيل للسقوط؛
مُتحنط كمومياء لم يصل لأسرارها أحد بعد؛
وعيناه تصرخ في صدمة، في توعد بينما والدته تربت على فخذه في قلق!
إلا أنه قد بدأ يكافح للنطق فيما بدا أن لسانه لا يرغب بإسعافه.. أم ربما هي نظرة جده المحذرة التي تمنعه؟!
لا تعلم السبب، ولا تعلم أيضًا لماذا تسلل إليها شعور بالإشفاق عليه!
ثم رفعت حاجبيها حينما تناهي إلى سمعها صوت عمها يؤكد أنه سيسأل"العروس" عن رأيها أولًا!
العروس؟!
الآن تفهم تمامًا ما يكتنف خطيبها، والآن لن تصد الباب أمام أول شعور يتشاركانه معًا؛
شعور بالـ.. هراء!
**********

اختلست النظر إلى زوجها الذي يُجاورها على الأريكة الجلدية بغرفة مكتب والدها فوجدته يُنافسها توترًا رغم مُحاولاته طمئنتها بنظراته المرتبكة، ثم حانت منها نظرة تجاه ابنها الذي يجلس على مقعد قريب لا يبدو عليه أنه يشعر بمثقال ذرة مما يعتريهما معًا، ينظر لِجده بابتسامته التي تُلازمه، مُترقبًا استهلاله الحديث بعد صمت طال لدقائق أعقب وصوله من الخارج رفقة خالته وابنها وتفاجؤهم جميعًا بوجودهم.
"لم تخبريني أنكم ستأتون الليلة يا عزة."
وافتتح الحوار أخيرا ليُبدد هذا التوتر الذي نضح بوجه ابنته وزوجها، فسارعت الأولى تقول في لوم:
_أتريد مِنَّا أن نطلب الإذن قبل أن نعود إلى بيتنا يا أبي؟!
رنا إليها ببصره في إمعان قبل أن يرد مُتمهلًا:
_إنه بيت شقيقتكِ يا عزة فلا تنسي! لكنني لم أعنِ هذا، على الأقل كنتم أبلغتموني كي أكون في انتظاركم.
حينئذٍ لم تستطع كبح فضولها أكثر لتسأله:
_وأين كنت بالأصل يا أبي؟
بوجوم تطلع إليها فأشاحت بوجهها في حرج، ليفتعل زوجها ضحكة أتبعها بأن قال في هدوء:
_عزة تقصد أنك لا تبرح البيت إلا لأمر شديد الأهمية، لقد انتابنا القلق حينما علمنا أنك رافقت أماني وياسرإلى الخارج ونرغب بالاطمئنان لا أكثر، عساه خيرًا!
بسمة ساخرة حلت على ثغر عمه قرنت رده الغامض:
_هو خير بإذن الله يا سمير.
إشارة خفية تلقتها من أصابع ابنها فهبَّت على الفور تجاه والدها، مالت على رأسه لتقبلها ثم كفه أيضًا، لتقول في نبرة حملت عتابًا بدلًا من الحنين:
_لقد اشتقت إليك كثيرًا يا أبي.
رفع نظراته لها يتأملها في صمت، في حسرة، في ألم..
لكن حنو الأب أزاح كل تلك المشاعر جانبًا ليرفع يده يُربت على رأسها دون تعقيب، فلم يسمع زفير سمير المرتاح ولا لمعة الانتصار التي اكتسحت عيني عمرو!
_إنها الفرصة الثانية التي طلبتموها، فلا تجعلوني أندم!
_نحن من ندمنا بالفعل يا أبي، أعدك أننا لن نُغضبك ثانية، حفظك الله لنا!
قالتها سريعًا في لهفة فأومأ برأسه على مضض متعمدًا عدم النظر بعينيها حتى لا يتضاعف شعوره بالخذلان..
خذلان تقاطر من كلماته سؤاله التالي قبل أن يردعه:
_وكيف حال هاني؟
إشارة أخرى من عمرو تزامنت مع اعتداله في مقعده ليُجيب بدلًا من والدته:
_إنه بخير يا جدي، الآن يتابع الأرض بانتظام، ويبدو أنه قد وجد شغفه بالفعل في إدارتها.
نظر إليه جده ثم تردد قليلًا قبل أن يسأل وهو يشيح ببصره عنهم جميعًا ويتحسس مسند عصاه:
_ولماذا لم.. يأت برفقتكم؟
رفع عمرو حاجبيه في دهشة طفيفة وأدها سريعًا، ثم أجاب على مهل:
_لأنه يخشى أن تطرده كما المرة السابقة، إلا أنه قد اشتاق للبيت وإليك يا جدي، لكنه شديد التصميم على إثبات أنه قد تعلم من خطئه، وما إن يحرز نجاحًا سيعود طالبًا عفوك ورضاك، بآخر الأمر _مهما فعل_ هو حفيدك مثلي، ومثل ياسر ولؤي، وأنت لن تبقى غاضبًا منه إلى الأبد أو تفرق بين أي مِنَّا.
كلماته مُختارة بعناية؛
مُنتقاة تعلم نقطة الضعف وتتجه صوبها بلا حَيْد؛
كلمات هي أقرب لحركات سيمفونية من القرن الثامن عشر..
تُمولها الطبقة الأرستقراطية ولا يستمع إليها إلا النُخَب الأثرياء، تتسلل في نعومة إلى الأذن فتأسر الحواس جمعاء!
بلا أي انفعال ظل جده يحدق فيه ليجده كما عهده، صلدًا، هادئًا، صفحة وجهه تشي بأنه برئ رغم أنها في الآن ذاته تصرخ بكل إشارات الخطر!
ولكي تنتهي مبارزة النظرات بينهما استدارت عزة لتخرج من الغرفة فوقف كل من زوجها وابنها، لكن ما إن أوشكوا على الخروج حتى ارتفع صوته مُناديًا إياها..
تسمرت بمكانها توجسًا وكأن حاستها السادسة أنبأتها إلى وجود خطأ ما، تطلعت إليه في قلق بينما بدأ سمير ينقل قدميه واقفًا في اضطراب، على النقيض تمامًا من عمرو الذي بدا وكأن نظرات جده المُدققة التي تجول على ثلاثتهم في اختبار مُثير للخوف لا تستطيع اختراق حصن ثقته بنفسه!
_هل تعلمين أن شقيقكِ _رحمه الله وسامحه_ خبر غفران بأنني وافقت على تزويجها من ابنكِ؟
ابيض وجهها تلقائيًا وذلك الارتياح الذي استعادته منذ ثوانِ هرول بعيدًا بعد هجوم هذا الذعر على عقلها..
بجانبيّ عينيها سألت زوجها المشورة فوجدته يُشاطرها شعور المفاجأة ذاته، والحيرة مُضاعفة، فانتقلت إلى صاحب الأمر والمُصيبة لتلقاه جامدًا رغم لمحة الدهشة التي عبرت عينيه لثانية واحدة، فحصلت منه على إشارة أخرى ترجمتها على الفور وهي تحول تعبير الخوف على ملامحها إلى استنكار عارم:
_حقًّا؟! لا.. لا أعلم بالطبع أن جلال قد فعل هذا!
مط والدها شفتيه مُتظاهرًا بأنه لم ير انفعالاتهم السريعة، ثم علق في تلكؤ:
_غريب! كنت أظنكما لا تخفيان شيئًا عن بعضكما! فكيف به ألا يخبركِ عن أمر مثل هذا؟!
حارت عزة في إجابة لا تفضح كذبها وهي تتمنى بالأصل لو استطاعت الاستفهام عمَّا جعله يسألها بالذات..
والأهم.. إلى أي حد وصلت معلوماته؟
لكن النجدة جاءتها من زوجها الذي تدخل قائلًا في تشديد:
_أنت تعلم يا عمي أننا تمنينا طويلًا تزويج إيلاف وغفران من ولديّ، كان هذا هو القرار الصائب حتى..
واضطر لابتلاع بقية عبارته حينما وقف عمه في تمهل ليقول بصرامة:
_لا يا سمير! لم يكن قرارًا صائبًا أبدًا، بل الصواب عينه هو فشله، كما أن إيلاف الآن متزوجة من رجل يحترمها ويُقدرها ولن يؤلمها، وغفران..
وبتر عبارته بنفسه ليشمل عمرو وحده بنظرات ثابتة قبل أن يتابع:
_غفران على وشك الزواج من رجل آية في الأخلاق لا يجد الخبث طريقًا إلى نفسه ولا أظنه قد يتألب على من ينتمون إليه!
والتلميح كان أشد وضوحًا من محاولة إغفاله، لكنه كالعادة ابتسم ليعقب برد مُنَمَّق دون إبداء أي تأثر:
_ونحن يا جدي نوقن أن النصيب قد حدث بالفعل، وليوفق الله غفران وإيلاف بحياتيهما! أما عن الماضي فقد انتهى بلا رجعة.
شعور مُتكرر بالخسارة استقبله الجد فلم يبذل جهدًا لمقاومته، لذا علَّق مُتهكمًا في اقتضاب:
_الماضي!
وتنهد في تعب، في استسلام، في إقرار لا يتسلمه سواه بأن عليه التغاضي عن صلة الدم إذا أراد الوصول إلى الحقيقة..
وأن عليه التراجع إلى زاوية مُظلمة مُلقيًا أمامهم الخيوط مرخية في إهمال، مُعترفًا بمنح الثقة إلى أن يُدرك الخفايا التي هو بها جاهل..
بينما بأقصى الزاوية يقف مُحتفظًا بالإبرة المُسننة في استعداد تام لِخز الجُناة فور أن تُرفع إليه دعوى المَظلمة!
_سوف نرى!
وفي اقتضاب مرة ثانية اختتم الحديث، فما كان من عزة إلا أن سارعت بالهرب من الغرفة قبل أن يفضحها خوفها أكثر، ثم تبعها زوجها وابنها..
ذلك الأخير الذي حيا جده بابتسامته التي تحمل معاني عديدة لم يقرأ بها أي معنى بالود!
**********

باليوم التالي:
ألقت تحية باسمة على زميلتها وانطلقت خطواتها تجاه باب الكلية في سرعة حتى استوقفها نداء باسمها.. نداء تخشاه وتتحاشاه طيلة الفترة السابقة..
عبأت صدرها بنفس عميق ثم استدارت بملامح مُصمتة تستقبل ذلك القادم صوبها..
"لماذا خرجتِ سريعًا من القاعة؟ لقد خبرتكِ قبل المحاضرة أنني أرغب بالتحدث معكِ يا علياء!"
ابتعدت بنظراتها تكبح ذبذبات توترها عن مرمى بصره، وقالت في نبرة لا تقنع أحدًا:
_عذرًا يا لؤي، لقد نسيت، لدي التزام عائلي عاجل، أنت تعلم أن شقيقي لا يسمح لي بالتأخر.
زوى ما بين حاجبيه مُرتابًا، ثم اكتنفه الحرج فتراجع إلى الخلف ليبتسم في أسف قائلًا:
_أنا لا أرغب بتعطيلكِ، لنتحدث لاحقًا!
رمقته في خزي يستولى على كيانها كلما تطلعت إليه، أو سمعت اسمه، أو عبر أي مما يخصه ذهنها، فحاولت اصطناع ابتسامة ضعيفة ثم قالت:
_لدي بضع دقائق.
عاد على الفور حيث كان يقف، وحدق بها مليًا يتخير كلماته، ثم تحدث في نبرة عاتبة:
_خبرني مهند باعتذاركِ عن العمل معنا بالمكتب، هل لي أن أعرف الأسباب؟
الأسباب.. وقسوتها!
الأسباب.. يا لدنائتها!
هل تقوى على سردها كما هي دون تزييف؟
وهل تستطيع القبض على شجاعة لِتنزع تلك الخيوط التي تغلق فمها فتصرخ بالحقيقة.. وبِجريمتها؟!
وهل تستطيع مواجهته الآن وقص كل تفاصيل ما اقترفته مع صديقه بحق شقيقته؟!
لا تحتاج للمزيد من الوقت، أو التفكير، فهي تعلم تمام العلم أنها جبانة، خائنة!
_حسنًا! كما تشائين، لكنني أؤكد لكِ أن ذلك المكتب يرحب بكِ متى شئتِ، ولن يسألكِ أحدنا عن سبب التراجع، فقط تعالي وتابعي اعتراضكِ على تكاسلنا كما تفعلين!
بعينين دامعتين تأملته عندما خاطبها في لهجة مرحة ثم ابتسمت في أسى، وعلقت بحسرة:
_أنت نقي يا لؤي، ليت الجميع مثلك!
تناوبت عليه الدهشة وصفعته الحيرة وهو يتأكد من حزنها الذي لا يفهم دوافعه، لكنه واصل متظاهرًا بعدم ملاحظة وشوكها على البكاء:
_لكنني خائب الأمل قليلًا، ألم أقم بدعوتكِ إلى حفل خطبة شقيقتي؟! لماذا لم تأتِ؟
سيف الذنب طعنها من جديد مع ذكر المغدورة، فتهربت عيناها منه لتجيبه في ارتباك:
_كانت لدي بعض.. الالتزامات.
ورغم تأكده أن هناك المزيد مما يخفى عليه فقد قال في بساطة:
_لقد خبرني مهند بذلك، كان الله في عونكِ!
استرعى انتباهها ما قال، فسألته بحذر:
_وهل.. حضر مهند؟
حدق بها في استنكار ثم ما لبث أن ضحك ليرد:
_وكيف له ألا يفعل؟! إنه حفل خطبة شقيقه!
استطاعت استيعاب الشطر الأول من عبارته، إلا أن الشطر الآخر بقى عصيًا، عسيرًا، وكأنه قيل بلغة من عالم مُغاير!
ازدردت لعابها تجلي حنجرتها التي جفت فجأة، وشعرت أن أشعة الشمس كلها تتسلط على رأسها وحدها حتى تكاد تصهرها، وماذا عن ساقيها اللتين ترحبان بالخدر في حماس؟!
_شقيق من؟
سألته في محاولة أخيرة لنفي ما فهمته، ليدفن محاولتها في أرضها مُجيبًا في تعجب:
_نضال شقيق مهند، لقد رأيتِه قبلًا عندما كان يبحث خلف أسباب تبدل ذلك الأخير.
لا! هذا ليس عدلًا!
يكفي تلك المسكينة الذعر الذي عاشته بسببهما من قبل!
لقد توسمت بشقيقه الخير، فكيف به أن يشاركهما في الخديعة؟!
أم.. ربما هو المُخطط الأول؟!
_هل تقول أن نضال سيتزوج بشقيقتك؟ غفران لا سواها؟!
سألته بنبرة مُتحشرجة فعقد حاجبيه ليومئ برأسه لها مؤكدًا، ومُراقبًا شحوب وجهها..
_هل أنتِ بخير؟
انتبهت إلى حالتها فهزت رأسها سريعًا، وبصعوبة شحذت ابتسامة مُهتزة كحال نبضها الذي زلزله الخوف، ثم قالت أثناء تراجعها بخطى مُتخبطة:
_لم.. أتناول أي طعام منذ الصباح، سأرحل لأن شقيقي سيُوبخني كما تعلم.
بدهشة كان يرمقها وهو يرفع كفه تلقائيًا يُحييها، تحية لم تردها له بالطبع حيث كانت تهرول مبتعدة رغم أذيال الذنب التي تشدها أرضًا في نهم، ثم انتبه إلى هاتفه حيث يتصل نضال منذ دقائق في إلحاح ليُجيبه في نفاد صبر كي يؤكد له أنه لم ينس الموعد المُتفق عليه!
**********

بتعبير غير عابئ على الإطلاق جلس على فراشه يُشاهد غضب حفيده الهائج الذي أخذ يرغي ويزبد أمامه مُعيدًا أسئلته الاستنكارية واحدًا تلو الآخر في تكرار لم يُثِر به الملل..!
"كيف فعلت هذا دون سؤالي؟!"
"لماذا اتخذت عني قرارًا بهذه الأهمية وهو لم يطرأ على بالي بالأصل؟!"
"ألم تجد سواها؟!"
و.. "كيف فعلت هذا دون سؤ..."
_ولماذا تثور بهذا الشكل؟ لقد أردت مُفاجئتك، لم أتسبب بكارثة.
هتف جده يُقاطعه وقد بدا أنه لن يستطيع التفوه بجديد، ولمَّا طالع ياسر اللا مُبالاة بعينيه كاد يطرق رأسه بالجدار غيظًا بعد أن بات ليلة عصيبة قضى نصفها في محاولة التأكد بأنه لم يكن يحلم ثم نصفها الآخر أمام غرفة جده الذي ينام في استقرار!
لكنه _ حينما وجد نفسه أمام الجدار_ عزف عن فكرة طرق رأسه به ليعود صوب جده صائحًا في استنكار:
_وأية كارثة أسوأ من زواجي يا جدي؟!
تأفف جده وقال في بساطة:
_كنت ستفعلها يومًا من الأيام، ها قد أراد ربك أن نُسرع بالأمر، فلتحمده ولتتقبل مصيرك!
_كنت سأفعلها بالطبع، لكن ليس مع تلك الــ...
صاح ياسر ثم ضغط على لسانه ليواصل وهو يركل الأرض في حنق:
_بحق الله يا جدي! إنها جامدة، حادة الطباع، لا تطيقني منذ اللقاء الأول وأنا بالمثل، اسمها وحده سيجعلني أُزعجها ليلًا نهارًا، تحمل المظلة بمساء طقس دافئ، ولديها ندبة غير مرئية بجبهتها! كما أنها تبتاع مناديل الرأس من "الإنترنت" وكأنها تشتري فندقًا بجُزر البهاما! من قد يفعل ذلك؟! أليست تُباع على أرصفة الشوارع بِعشرة جنيهات؟!
نظرة لا مُبالية ألقاها عليه جده، فتابع يسأله صارخًا:
_ثم لماذا هي تحديدًا؟! كيف اهتدى تفكيرك إليها دون سواها؟
هز كتفيه وهو يبحث بيده عن عصاه فوق الفراش أثناء رده في هدوء:
_ولماذا لا؟! الفتاة جميلة، ذكية، شجاعة، مهذبة، تتحمل المسؤولية وعمها رجل تُشرفنا مُصاهرته.
ثم تنهد في ارتياح حينما عثر على رفيقته ليتحسس مقبضها في حنو، وتابع في بساطة مُستغلًا صمت حفيده الذي يكاد ينفجر غيظًا:
_كما أن إيلاف نبهتني إلى أن تظاهركما بالانزعاج من بعضكما يشير في الحقيقة إلى حب سري لا تعترفان به.
ضرب ياسر كفًّا بالأخرى ثم رد ساخرًا:
_ألم تنتبه أيضًا إلى احتمالية أنه ليس "تظاهُرًا" بالانزعاج؟! وربما..
ثم بتر عبارته وعيناه تضيق ليتمتم بهدوء ليست به أية حقيقة للهدوء:
_انتظر لحظة! أقلت إيلاف؟!
أومأ جده برأسه فدب ياسر الأرض بقدمه ليهتف في ذهول:
_إيلاف يا جدي؟! إيلاف!
مُجددًا أومأ جده برأسه لا يدري لماذا الدهشة، فصاح ياسر في اعتراض كاد يجلب كل من بالبيت:
_منذ متى يأخذ المرء برأي إيلاف بالذات في الأمور العاطفية؟!
وبدا أنه يرغب بلطم وجهه في إخلاص كمُعزيات مأجورات قبل أن يتراجع ويطرق رأسه _أخيرًا_ بالجدار مُغمغمًا في قهر:
_اللعنة! لم أعد أعرف بمن عليّ أن أُفرغ غضبي أولًا! وزيرة شؤون الهَوى السيدة إيلاف الخاطِبة، أم فتاة المظلة التي لا أتذكر متى أعربت عن رغبتي بالزواج بها!
بإمعان كان جده يحدق فيه حتى انتهى من وصلة النحيب، ليسأله مُشددًا على كلماته:
_أتعني أنك لا تستطيع تقبلها كزوجة لك؟ هل الفكرة بحد ذاتها مرفوضة؟ مُنفرة؟
فتح فمه كي يُجيب مؤكدًا بلا تردد، لولا أن هناك ترددًا حط عليه بالفعل فأشاح بنظراته في توتر بينما لسانه يرفض رفضًا قاطعًا الخضوع لِما يحاول دفعه إلى الإقرار به كذبًا!
نفخ بغيظ، واهتزت مقلتاه في حيرة لم يفهم لها سببًا، ظل يبحث عن رد حتى هاجمه جده بلا هوادة:
_ألم تشعر تجاهها بأي إعجاب؟ أي انجذاب؟
_لا!
والنفي خرج مهزوزًا لا يُقنع أحدًا ليبتسم جده في مكر قبل أن يُقهقه ضاحكًا، فعقد ياسر حاجبيه ليوضح وهو يرفع سبابته:
_أعني.. كنت _لجزء من الثانية_ "كنت".. على وشك الإعجاب بها ذلك اليوم حينما جائتني لتُحذرني من عمرو، ثم ظهر الأستاذ ضياء فتناسيت الأمر برُمته، لِذا لم يُسعفني الوقت لأفعل يا جدي.
وقف جده على مهل ليحاصره بنظراته الساخرة التي رافقت سؤالًا يعرف الإجابة بالفعل:
_لم يسعفك الوقت أم الكلمات يا حبيب جدك؟!
مسح ياسر على وجهه بكفيه مُتهربًا من مواجهته ثم أجاب في اقتضاب لم يخبئ حرجه:
_كلاهما!
ولم ير جده يبتسم في زهو قائلًا باعتزاز:
_فخر جدكِ يا إيلاف! اعتدتم على بخسها قدرها لكن ها هي تثبت أنها تفهم أسرع من الجميع..
نفض ياسر يديه مع ذِكر اسم ابنة خاله ليرتسم التوعد على محياه، لكن قابله تعبير الامتعاض على وجه جده وهو يتم عبارته:
_تفهم قبل صاحب الشأن نفسه!
ثم استوطنت ملامحه ابتسامة ماكرة وأضاف في نبرة شابها الحنين:
_وماذا إذن إن كنتما تتشاكسان كلما التقيتما؟! أحيانًا يُبشر ذلك بانسجام سريع، لقد أوشكت جدتك _رحمها الله_ أن تُسجل لي محضرًا ذات مرة بعدم التعرض، ثم صار كل منا لا يتحمل فراق الآخر يومًا واحدًا.
وشرد قليلًا ببسمة اشتياق قبل أن يرفع عصاه يُشير بسبابته إلى أعلاها قائلًا في حب:
_انظر! هذه العصا لا تفارقني لأنها هدية منها، تمنحني شعورًا دائمًا بأنها لا تزال معي كلما تحسست أناملي حروف اسمها المحفور على مقبضها.
ثم تبدلت نظرته إلى الامتعاض الخالص وهو يرمقه مُردِفًا في سخط:
_حين كان الحب قويًا، صادقًا، مبنيًا على أسس راسخة قويمة، ليس كرقاعة تفكيركم هذه الأيام!
كلل الاعتذار نظرة ياسر مُتحملًا اللوم عن جيل بأكمله! لكنه نفض رأسه ليقول في نزق لم يستطع تغليب نبرة المُهادنة عليه:
_لندع ذكرياتك الحالمة مع جدتي جانبًا ولنركز الآن على هذه المُصيبة التي وضعتني بها رغمًا عني! كيف سأوضح لهم سوء التفاهم؟
حملق به جده في صمت لثوان، ثم استدعى قدرًا كبيرًا من صرامته ليُعلق مُصطفيًا كلماته عن عمد:
_لن توضح شيئًا لأحد، لأنك إن فعلت ستُسئ لاسم عائلتنا وستصغر من شأني أنا شخصيًا، كما أنك سُتسبب حرجًا لوالدتك في بداية هذه المرحلة من حياتها.
وتحقق هدفه في سرعة عندما تسيد التعجب وجه ياسر قبل أن يسأله مُستوضحًا:
_أية مرحلة هذه؟ وما علاقة والدتي بالأمر؟!
ابتسامة مُريبة زينت فم جده قبل أن يتأمله في تمهل، تمهل أثار التحفز بعقل ياسر الذي طفق يخمن الكارثة الجديدة التي سيدفعه جده إليها..
كارثة لم يقدر عقله رغم كل الاحتمالات الشريرة التي تبادرت عليه أن يخمنها!
_نسيت إبلاغك بأن الأستاذ ضياء "عم خطيبتك" يرغب بالزواج من والدتك.
ولما تخشب ياسر فيما التصق الفزع بوجهه في تعبير مُثير للضحك جراء الصدمة الأولى.. اتسعت ابتسامة جده أكثر وهو يُعاجله بالثانية:
_وأنا قد وافقت!
**********

رأته قادمًا تجاه المحل فعقدت حاجبيها لتعبس في إشارة إلى تمسكها بغضبها الذي لا يزال قائمًا منذ الأمس، فبعد أن انتهى شجارهما بخروجه لساعات مزقها خلالها القلق تمزيقًا عاد بمنتصف الليل ليلقي بجسده على الفراش إلى جوارها دون أن يتبادل معها كلمة واحدة!
اختلست النظر إليه لتراه يتحدث مع عبد الله بحنق فأيقنت أنه يوبخه، لكنه التفت إليها فجأة ليضبطها تحاول تفسير ما يقوله باهتمام فأشاحت بوجهها في سرعة كلص ساذج يظن أنه قد يهرب من بين يدي ضابط الشرطة الذي يعتقله بالفعل!
سمعته ينفخ في ضيق قبل أن يأمر عبد الله بشراء بعض الأغراض فلم توله اهتمامًا وأمسكت بهاتفها تتظاهر بالعبث به قليلًا لتجد رسالة نصية من ياسر على مجموعة أنشأها لؤي مؤخرًا وتضمه مع إخوتها لكنها مُوجهة لها تحديدًا، إلا أن فحواها لم تفهمه إطلاقًا..
"حينما يتطرق الأمر إلى تفسير ما خفي أو ما ظهر من مشاعر الغير فلتضعي _على سبيل المثال_ ثمرة باذنجان في فمكِ بدلًا من أن تنطقي بما يُورط الناس إلى الأبد فيما لا فكاك منه!"
هَمَّت بالكتابة لتسأله عن معنى مزحته السخيفة لكنها شعرت بجلوس زوجها قبالتها فتجاهلت ياسر وتأهبت لأقل بادرة..
"لقد كانت تعتذر لي لمساعدتها زوجة أبي في إحضار شهود زور ضدي، وترغب بأن أتحدث مع تلك الأخيرة حتى تبتعد عن زوجها الذي تشعر أنها ستتزوجه، لأنها _على حد قولها_ تخشاني."
بلا مُقدمات اعترف لها بعدما قام بسحب كرسي مرتفع ليجلس قبالتها، أجابها عن السؤال الذي سألته إياه في اتهام باليوم السابق فبدأت في استيعاب ما قال بعد أن صرفت بصعوبة وحوش الغيرة التي تنهش بصدرها منذ اليوم السابق.
تطلعت به في إشفاق لتجده شاردًا ببصره في الخارج، وضعت الهاتف على الطاولة وسألته في اهتمام:
_ألهذا ظللت تتقلب بفراشك ليلًا؟
لم يحرك رأسه واكتفى بإجابتها في اقتضاب:
_لا.. إنه الناموس!
بسهولة أدركت أنه يكذب، وأن سيرة زوجة والده لا زالت تؤثر به وبأمانه وبراحته، لِذا قالت في حذر:
_ وماذا كان ردك؟ هل ستساعدها؟
لكن صوته اقتحم أذنيها وكأنه ناهض من سقر، مُلتفتًا إليها مبتسمًا في تشفي ومؤكدًا في شماتة لا شك بها:
_فليحترقوا جميعًا لا يهمونني، ولأستمتع بعدل الله يتحقق في خلقه!
_لا تحاول التظاهر بالحقد يا ناهل!
خاطبته في رجاء فجمدت ملامحه قبل أن يرد وبعينيه نظرة تصميم لا تخطئها:
_لا أحاول شيئًا، أنا بشر يا إيلاف، ومن تمام طبيعتي أن أفرح بحسرة من تسببوا في إيلام أمي _رحمها الله_!
وتكسرت النظرة مع نهاية عبارته، ليؤكد لها أن كسرًا آخر لا يزال موجودًا بأنقاض نفسه التي تهدم جزء منها برحيل والدته تعاني الجور..
لطالما كانت طبيعة شخصيته واحدة في جميع المواقف..
لا مكترث، جاف نوعًا ما، إلا حينما تطفو سيرة والدته على سطح سمعه فترى شخصًا آخر، أو.. طفلًا صغيرًا!
يومًا ما خبرها أنه في نزعة متهورة للانتقام قام بإشعال النيران في ملابس زوجة والده عقب انتهاء عزاء والدته، خبرها أنه فعلها ووقف يراقب ألسنة اللهب ترتفع وترتفع مُبتسمًا بانتصار فيما راح والده يهرول بين الحمام والغرفة المشتعلة حاملا دلو الماء في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من أغراض عروسه، ولما لم ينجح سوى بتخليص الغرفة نفسها قبل أن تتفحم تمامًا تنهد في راحة وتجاوزه ليخرج متشبثًا بصورة والدته شابَّة جميلة لم تلتقِ به بعد ولم تُغص بغدره!
ورغم أنه قام بتجديدها، ومنحها إياها في الفترة الأولى من زواجهما إلا أنه بداخل عقله لا يزال لم يبرحها بعد، ولا يزال يوصدها بعد أن ملأها ببعض ذكريات مؤلمة لا يحاول نسيانها مُطلقًا، ولم يستطع إلى الآن محو صورة الجدران المتفحمة من مخيلته..
جدران سجل عليها ذكرى انتقام!
_لماذا لا تضع حلقة زواج؟!
سألته مُصطنعة التحفز كي تجذب انتباهه بعيدًا عن استقطاب الأحقاد إياه، فنظر إليها يهز كتفيه في بساطة ويُجيبها:
_لأنني ليس لدي واحدة!
هبت واقفة تهتف في ذهول:
_يا مصيبتي! لم تشتر واحدة بالأصل؟! ولماذا لا تفعل يا رجل؟! ألست متزوجًا بي؟! ألا أنال رضا سيادتك؟!
نظرة سريعة ألقاها إلى الخارج في توجس ثم قال لها مُتعجبًا:
_اهدئي قليلًا يا إيلاف! ستجعلين منا مشهدًا!
وعندما لم يبد عليها تأثر تابع مُهادنًا:
_الأمر أنني لا أتحمل وضع أي شيء يحيط بأصابعي، لهذا لم أ..
قاطعته في صرامة وهي تعلق حقيبة يدها الصغيرة على إحدى كتفها:
_لا أحفل بهذا! فلتضع مرهمًا أو شيئًا من هذا القبيل ثم ترتدي الحلقة!
وما إن أنهت عبارتها حتى جذبت يده ليقف مُرغمًا يسألها في دهشة:
_انتظري! إلى أين؟!
لم تهتم بالرد عليه لتتأبط ذراعه بالإجبار أثناء طلبها من الحاج بيومي أن يرسل أحد العمال إلى المحل كي يراقبه حتى يعودا!
...
"يا لروعة ذوقي!"
قالتها في انبهار وهي تقلب كفه بين أصابعها لتتطلع إلى الحلقة الجديدة من جميع الجوانب، جابت نظراته وجهها الذي يعشق وشعر برغبته في أن ينهال عليها تقبيلًا في الحال ستنتصر عليه، أجلى حنجرته واعتمد تعبيرًا متهكمًا ثم علق قائلًا:
_بعض من النرجسية لن تضيركِ يا سيدة إيلاف، كفاكِ تواضعًا!
ابتسمت منتشية فنزع عينيه عنها في صعوبة إلى البائع ينقده ماله، إلا أنها صاحت به:
_انتظر!
في اعتذار نظر للرجل ثم استدار يقول في خفوت لم يخل من السخرية:
_ماذا هناك؟ لقد ابتعنا قطعة الحديد الخانقة هذه تحت إصراركِ، هل سيوصدها على إصبعي بمفتاح مثلًا؟!
منحته ابتسامة صفراء وهي تخلعها عنه في قوة تأوه لها مغتاظًا بينما تقول:
_ستكون فكرة رائعة أضمن بها أن تبقى معي إلى الأبد فلا تستطيع تركي إن أردت، لكن يصعب تنفيذها للأسف!
ثم مدتها للبائع مرة أخرى بلا انتباه لمعنى ما قالت تلقائيًا لكنه أثار إشفاقه كما حزنه، وقالت:
_لو سمحت! احفر عليها اسم "إيلاف" وبجواره تاريخ الأول من نوفمبر عام 2011
أخذها منها ليبدأ عمله فيما تكلم ناهل وهو ينظر لها في انشداه:
_لقد تذكرتِ!
تطلعت إليه في شرود ثم قالت ببسمة امرأة عاشقة، لكنها أيضًا مهزوزة خائفة:
_أريد أن تكون هذه الحلقة لك كما عصا جدي، أهدته إياها جدتي فلم تبرح كفه مُطلقًا، لِذا.. سأطلب منك يا ناهل إن أَزِف الهجر بيننا يومًا لا تتخلص منها حتى لو ألقيتها في جارور ما!
تباطأت نبضاته في ذعر لم يشعر به إلا مرتين.. الأولى حينما ماتت والدته بين ذراعيه؛
والثانية عندما جَرُّوه جرًّا إلى سيارة الشرطة ظُلمًا!
تعبير الخوف مع التوسل بعينيها أعاد إليه ذكرى يوم بعيد حين ضربها والدها على بُعد أمتار قليلة منه بينما يتناول العجز كالعلقم!
كاد ينهرها لولا أن تبدلت ملامحها فجأة ليرتسم
زهوها ساطعًا وشدت قامتها لترد في فخر أسر لبه:
_أستطيع أن أكون شديدة الذكاء إن أردت، لقد قلت لي صبيحة زفافنا "ذكرى سنوية سعيدة" وأنا موقنة أنك لم تكن تعني تاريخ عقد قراننا، لذا بعدما اعترفت أنك كنت تذوب بي عشقًا منذ سنوات فبالتأكيد يعود التاريخ إلى ذكرى لقاءنا الأول.
ازدرد لعابه وطرد تلك الوساوس بعيدًا في إصرار، ثم ابتسم لا إراديًا قبل أن يكبح تلك الابتسامة بمعجزة لِينظر لها مُصَدِّرًا لا مبالاة واهية فيما طرق تساؤل حائر عقله دون هوادة..
كيف يتأكد أنه يحبها كلما مرَّت ثانية أكثر وأكثر؟!
ولماذا يغوص هائمًا بها حتى أعماقه؟!
وإلى متى سيبقى مجذوبًا إلى مدارها؟!
وأحكمت الإجابة قيدها على روحه، ليهمس لسانه رغمًا عنه:
_إلى الأبد!
ثم تابع لنفسه دون تفوه:
_أتمنى أن أبقى ناجيًا على ضِفافكِ إلى الأبد!
نفض رأسه لما رآها تحدق به في ترقب وتجهم وجهه ليقول قاصدًا إثارة استفزازها:
_الأمر وما فيه أنني قد حصلت على ترقية بذلك اليوم الذي التقيت بكِ فيه لأول مرة، ولا زلت عند إصراري أنني لم أذكر شيئًا بشأن العشق والذوبان وهذه "المسخرة" التي ترغميني على التظاهر بها!
بامتعاض أنهى عبارته مُوليًا وجهه شطر البائع الذي بدأ بالحفر فعلًا، فلكزته في ساعده قائلة بِعنفوان:
_وأنا لا زلت عند إصراري أنك تحب بطريقتك، طريقة خاصة بناهل وحده، لا يشبهه بها أحد ولا محظوظة بامتلاكها سواي!
خصها بنظرة أثارت قشعريرة بجسدها كاملًا، نادرًا ما يسمح هو لمشاعره بالظهور علانية وهي تدرك ذلك تمام الإدراك..
لا استعلاءً منه ولا نفورًا ولا تشبثًا بعقدة ما؛
بل لأنه لا يملك القدرة على التعبير، ولا يفقه أسلوبًا للمُجاهرة، وهي تعزي السبب دومًا لتأثره بمعاناته ووالدته مع والده!
_ما رأيكِ بهذا؟
سألها مُشيرًا إلى أحد الخواتم المعروضة فجذبته بعيدًا تحدثه في رفض:
_يكفينا الحلقة الآن، فيما بعد نـ..
قاطعها وهو يبتسم:
_ألم أخبركِ أنني منذ تزوجتكِ وأحوالي المادية في تحسن ملحوظ؟ أنتِ "بُشرى خير" كما كنتِ دومًا منذ عرفتكِ.
أشرق وجهها لتعلق في دلال خرج تلقائيًا وهي تعض على شفتها السفلى:
_مزاجك رائق اليوم!
اتسعت عيناه فورًا واختلس نظرة سريعة إلى البائع ثم همس لها في صرامة:
_تحشمي!
وضعت إحدى كفيها على فمها حتى لا تنفلت ابتسامتها فتظاهر هو بمسح وجهه كي يواري ضحكته!
انتهى البائع وقدم الحلقة له فأخذها ليعرضها عليها فورًا، ولما رأى علامات الرضا تزين تعبيرها وضعها بإصبعه دون تفكير، ثم دفعها هي برفق تجاه إحدى الواجهات الزجاجية، تطلعت إليها في غير اهتمام فتوتر قليلًا ثم سألها:
_ألا يعجبكِ أي منها؟
كمن تسير على ممر تحيط به الأشواك لاحظت ذلك الحديث الذي لم يقله في وضوح؛
استشعرت توتره، كما استشعرت بالضبط إحساسه بأنه ربما لن يستطيع إهدائها ما يليق بما اعتادت عليه!
لِذا ترددت لِوهلة تفكر برد يقتل كل تلك الشكوك التي تُساوره دون أن يجرحه، ثم أجابته في حرج:
_الأمر أنني لديّ حلي كثيرة، لكنني.. دومًا ما تمنيت خلخالًا، لم أمتلك واحدًا من قبل!
رغمًا عنه ضحك في ارتياح قبل أن يستطيع التحكم بنفسه، وبلا إضافة طلب من البائع أن يعرض عليهما بعضًا منها!
...
كطفلة عثرت على لعبة تمنتها كثيرًا ولم ينتبه لها أحدهم تقدمته إلى الخارج تضم العلبة المخملية التي تحوي هديته إلي صدرها، وشفتاها لا تتوقف عن الابتسام تتمنى العودة إلى البيت في الحال كي تزين به كاحلها.
وخلفها خرج ثم وقف يتأملها في إمعان بينما إبهامه يتحسس الضيفة الجديدة التي حلت على يده، تضخم صدره حتى كاد ينفجر بينما قلبه يخفق في تسارع دون إبداء أية رحمة به!
"إيلاف!"
ناداها متأثرًا فاستدارت له لتجده يقترب منها يحدق بها وكأن لا سواهما في الكون..
_بالمرة القادمة أعدكِ أن تكون هديتكِ ذهبية تليق بكِ!
قالها بنبرة آسفة فوصلها ما يفكر به واضحًا، وبلا تردد قالت:
_لدي حلي ذهبية كثيرة يا ناهل لكنني لا أحبذ وضعها.
ثم رفعت العلبة لتردف وهي ترمقه بعشق لا نهاية له:
_هذا الخلخال الفضي اللامع من أغلى وأثمن ما حُزت يومًا!
تلفت حوله متوترًا يتلمس بعض التعقل، ثم تنهد قائلًا بمكر:
_بالمناسبة، بصبيحة زفافنا لم أكن أعني ذكرى لقاءنا الأول!
عقدت حاجبيها في تعجب فتابع مُستدركًا:
_حسنًا! ربما هو التاريخ ذاته، لكن الذكرى التي عنيتها كانت بعد عام كامل.
شع الفضول من عينيها فعاجلته في استفهام:
_أية ذكرى؟!
فاض الشوق مع العشق من نظراته ولم يتردد أكثر لِيعترف:
_ذكرى انتباهي للمرة الأولى كيف أشعر بظمأ قاس حينما لا تكونين برفقتي، ظمأ لم يكن يرويه إلا رؤية ابتسامتكِ وسماع صوتكِ ومراقبة أضعف حركة تقومين بها، ظمأ ينقلب فورًا إلى رواء يسري في أوردتي ما إن تلمحكِ عيناي!
في بلاهة حملقت به، ثم عمل عقلها سريعًا فسألته تطالب تأكيدًا:
_أتقصد عندما.. عندما تعطلت السيارة على ضِفَّة النهر؟!
إيماءة بسيطة كانت كل إجابته، فتوردت وجنتاها وقد تزاحمت التعليقات على لسانها واختفت فجأة في آن واحد..
_قولي ما تفكرين به دون ترتيب!
رجاؤه كان قويًا، فزمت شفتيها تتعمد النظر إلى اتجاه مغاير ثم ردت قائلة:
_بالمرة الـ.. قادمة هناك هدية معينة أرغب بها!
لم يكن هذا ما توقع سماعه إلا أنه سألها مُتلهفًا رغم توجسه من عدم استطاعته:
_وما هي؟
ترددت أكثر، وتوردت أكثر وأكثر، ثم أجابته في تلكؤ:
_لقد رأيت صورته على "الإنترنت".
في إلحاح أقوى جاءتها نبرته نافدة الصبر:
_وما هو؟
اختلست نظرة حيية إليه ثم أعقبتها فورًا بأخرى فائقة الجرأة إلى حد شحذ تحفزه، لتقول وهي تتأكد أن لا أحد ينظر لهما:
_إنه.. إنه سلسال يُعقد على الخصر من جانب ويميل أحيانًا من الجانب الآخر ليمنحه مظهرًا مُغويًا، أتوق لتجربته!
مرة ثانية لم يكن هذا ما توقع سماعه، إلا أن حلقه جفَّ فقال بصوت مبحوح نوعًا:
_على الخصر؟!
أومأت برأسها في رد واضح، فأجلى حنجرته وقد بدأ عقله يرتحل معها في سُفرات بعيدة للغاية، ثم كرر راغبًا بالتأكد:
_مظهرًا مُغويًا؟!
هزت كتفيها وهي تقول في غنج:
_بشدة!
بشدة..
ظمآن هو بشدة؛
تائق إليها وحدها بشدة؛
ولا يضمن تصرفه التالي الذي ربما سيكون متهورًا "بشدة"!
_لماذا تسمرت هكذا؟!
سألته في تعجب حينما وجمت ملامحه، فجذب يدها واستدار إلى طريق يبتعد عن المحل مُتمتمًا في قهر:
_حسبي الله ونعم الوكيل فيكِ يا إيلاف!
_ماذا هناك؟ لماذا تسحبني هكذا؟! المحل من الاتجاه الآخر!
كانت تتكلم في دهشة وهي تحاول التملص منه، لِذا بكل مقدرته على إظهار بعض الحزم في لحظة دفعت هي بتخيلاته أثناءها إلى الجنون جاءتها إجابته:
_بالتأكيد عاد عبد الله إلى المحل، أما نحن فسنذهب للبيت حالًا لأنني أريد النقاش معكِ _عمليًّا_ حول أمر هام.. "بشدة"!

ابتسمت لِمرأى يزن جالسًا فوق فخذيه يقوم بِعَضِّه مرارًا تزامنًا مع ضحكاته المستمتعة، بينما هارون يتظاهر بالتوجع بصياحات مُبالَغ بها قبل أن يستسلم له مُجددًا، ليعيد الصغير الكَرَّة في استمتاع أثار فرحتها هي، لكنها اتجهت إليهما فحملت طفلها لتقبله وتدغدغه فيما كان يتملص منها محاولًا العودة إلى هارون مرة أخرى كي يواصل لعبه، إلا أنه سرعان ما قبع بين أحضانها ليمنح ما يعرض على شاشة التلفاز انتباهه.
"ماذا بك يا هارون؟"
سألته وهي تجلس بالقرب منه فابتسم لها مُجيبًا في اقتضاب:
_أنا بخير حبيبتي.
هزت رأسها ولا زالت على تحديقها الذي يحاصره لِترفض في إصرار ظهر بكلماتها:
_لا، لست بخير إطلاقًا، منذ عدت من الخارج بالأمس شاردًا والهَم لا يترك صفحة وجهك، حتى أنك لم تخبرني ماذا فعلت بشأن الفرع الجديد للمكتب الذي تفكر بإنشائه.
تظاهر بمتابعة التلفاز ورد بنبرة عملية لا مُبالية نوعًا ما:
_لم أفعل شيئًا حتى الآن، أبحث عن منطقة ليست راقية كثيرًا وليست شعبية أيضًا كي أستطيع العثور على شقق مناسبة لتسويقها.
ومنحها نظرة سريعة مع بسمة غير حقيقية مُختتمًا إجابته:
_لم أجد بعد ما يناسبني.
_ليس هذا ما يقض مضجعك يا هارون!
عن اقتناع تام أجابته رغم إدراكها بأن أمر ذلك الفرع الذي لم يستقر على مكانه بعد يؤرقه بالفعل، لكن حدسها أكد لها أن تلك المُعضلة ما هي إلا واجهة لامعة تخفي خلفها مشكلة أكثر تعقيدًا..
وما يُثير العجب في نفسها أنها لا تفهم كيف صارت _دون مجهود_ تشعر بانزعاجه مهما كافح لأجل إخفائه..
أتكفي بضعة أشهر كي تنشأ بينهما رابطة بهذه القوة؟!
ونظرة الاستسلام التي رمقها بها مع سقوط بسمته المُتكلفة ليُظهر تعبيرًا بغضب مكتوم أجابت سؤالها في صدق، ثم جاء رده ناقمًا:
_إنها.. علا.
طلَّ التساؤل من عينيها فتابع مُوضحًا:
_ستتزوج.
أمعنت النظر له في تعجب ثم قالت:
_وماذا إذن؟ يحق لها الزواج يا هارون، لا تزال بأوج شبابها وبالطبع ترغب بتكوين أسرة.
التفت إليها بوجه ساخر يُخبئ شعوره الفاضح بالخزي:
_ستتزوج من رجل متزوج من أخرى لكنه سيُطلق زوجته، بالإضافة إلى فارق بالسن لست بِراض عنه! ورغم أنها أكدت لي أن لا صلة لها بذلك الطلاق وبأنه سينفصل عن زوجته في كل الأحوال لكنني لم أعد أصدق شيئًا، أدرك تمامًا أنه ليس حرامًا لكنني ما أنفك أفكر بأنه أراد الزواج فطلبت زوجته الطلاق وخُرِبَ استقرار البيت بسبب أختي أنا.
أطبقت شفتيها على سيل العتاب الذي استعدت لإلقائه على سمعه؛
فرغم أنها لا ترتاح للقاء شقيقته بعدما أثبتت الأخيرة بكل الطرق أنها لا تحبها فإنها لا تستطيع نكران حقها في مُشاركة حياتها مع آخر..
لكنها لن تُشجع تكرار التجربة ذاتها بالطبع!
_ألم تسدِ لها النصيحة؟
سألته في قلة حيلة فقال بحسرة:
_أسديت، لكنها تعتقد أنني لا أهتم بسعادتها ولا أفكر باستقرارها.
ثم عقد حاجبيه وانتفض واقفًا ليُحرر ما حبسه من حنق وهتف:
_أوتعلمين؟ لتتزوجه! لتفعل ما تشاء! لن أشارك بهذه المهزلة، كفاني تتبع آثار ظلمها التي لا زلت أرى بعضًا منها كلما وقعت عيناي على ناهل أو على المحل الذي قامت بالاستيلاء عليه أمام ناظريه بكل تبجح!
خوف اعتراها جراء رؤية غضبه لأول مرة منذ قابلته، كثيرًا ما انتابها الظن بأنه شخص مثالي، لا ينفعل على الإطلاق، مُطلقًا لا يغضب، ونادرًا ما ينجح السخط في التحكم به، لكنها الآن ترى بنفسها دليلًا قاطعًا على سذاجة ظنونها..
ها هو بإمكانه تحرير ثورة لن تحب يومًا التسبب فيها أو مواجهتها!
_تماسك قليلًا يا حبيبي!
قالتها تتخلص من قلقها غير المُبرر و أثناء استقامتها في تعب لم يلحظه، وتابعت مُحاوِلَة تهدئته:
_إن كان يجتاحك الذنب تجاه ناهل فأظن أنه قد بدأ يتجاوز ما حدث، لم أشعر أنه يكن لك أي إحساس بالنقمة وأرى أنه يفصل تمامًا بينك وبينها!
هذا ما يُدرك صحته منذ مدة، وهذا تحديدًا ما يجعله يحاول تجاوز ما فعلت هي بناهل ووالدته..
وأضافت حالما استشعرت استجابته:
_كما أن شقيقتك ناضجة وتستطيع اتخاذ قراراتها بنفسها وتحمل تبعاتها، ربما ظلمت البعض لكن لن تواصل أنت حسابها، ولن ترتكب خطئًا عظيمًا بتبرئك منها، لن يلغي غضبك مما ترغب كونك كل عائلها وولي أمرها.
رمقها في حيرة، أو ربما هو استجداء، فوضعت كفيها على كتفيه وقالت مبتسمة:
_لقد فعلت ما أملاه عليك ضميرك، أليس كذلك؟!
أومأ رأسه سريعًا رغم أن الضيق لم يبرح ملامحه بعد، فواصلت في رفق عامدة إلى مُهادنته:
_إذن لتحافظ على الصورة الطبيعية كشقيقها الوحيد! التقِ به أولًا وافهم منه سبب نيته بطلاق زوجته بالأصل! ولو شعرت أن هناك طرفًا سيتعرض للظلم بسببها أبلغه بأنك لست موافقًا ربما يتراجع هو!
شرد لِثوانِ فتنحنحت وأحاطت عنقه بذراعيها لتهمس في دلال:
_لا أحب رؤيتك غاضبًا!
همد ضيقه فجأة وتبدد عبوسه ليطوف بأنامله على شعرها ثم عينيها وهمس بالمثل:
_لماذا؟! أيتأثر افتتانكِ بي؟
منحته نظرة لا يُقارنها بالكنوز وقالت في ثبات امرأة عاشقة:
_لن يؤثر أي شيء بافتتاني بك يا هارون!
ثم اهتز الثبات قبل أن يميل قاصدًا شفتيها، وتراجعت قليلًا لتُعلق في توجس:
_لكنني... أحيانًا أخاف!
_مني؟! أتخافين مني يا لين؟!
والاستنكار الذي نطق به استحال إلى لَوْم، ثم إلى تشديد مُرفَق بوعد حينما أردف:
_أنتِ وحدكِ لا ينبغي عليكِ الخوف مني إلى الأبد!
طال تحديقها به تسأله طمأنة بعد ما رأت من غضب منذ قليل فمنحها تأكيدًا بلا كلمات، لكن ما لبث أن عقد حاجبيه وهو يمسك بذراعها مُحدقًا في بقعة تلونت بلون أخضر أثار قلقًا واضحًا بصوته وهو يسألها:
_ما هذا؟
أخفضت عينيها حيث تخشبت نظراته ثم ابتسمت لِترمقه في لَوم اصطنعته:
_هذا هو ما أردت اخبارك بشأنه بالأمس، لكن انزعاجك جعل حماسي يفتر.
لم يستجب لاصطناعها، ولم تتحرك مُقلتاه عن البقعة التي بدت وكأنها تبتلعه..
تبتلعه لتلقي به إلى أكثر ذكرياته السيئة عُمقًا.. وإرهابًا!
_أليس هذا أثر مِحقَنَة؟
سألها بصوت مبحوح، فأومأت برأسها وهي تمعن النظر به في توجس وتجيبه:
_بلى، بالأمس تم سحب عينة دماء مني و..
وبترت عبارتها حينما رأت الدماء تنسحب من وجهه وهو ينظر لها وكأنها.. وحش سيفترسه!
تراجع إلى الخلف بضع خطوات كالملسوع وعيناه تطوف على وجهها، جسدها، ثم تعودان إليها وقد انحبست أنفاسه!
لقد صار هناك تنافر غير عادي بينه وبين كل ما يمت للمرض بصلة، سحب عينات، جلسات علاج، وفي النهاية لن يسمع إلا.:
"البقاء لله! عسى الله أن يتغمدها برحمته! لقد عانت وتألمت و.."
لا يتكرر الأمر للمرة الثانية، أليس كذلك؟!
لن يفقد لين كما فقد لينة!
راقبت هي الذعر الذي هجم عليه فيما لم يبد أي نوع من أنواع المقاومة، فواصلت في تعجب وكأن لسانها قد ارتأى إلقاء حجرًا ليُحرك هذا الموقف الساكن من بركته..
_أنا حامل.
لم يتخلص من تخشبه على الفور كما ظنت، بل بدا أنه لم يفهم كلمتيها لِوهلة قبل أن تبدأ ملامح الدهشة في احتلال وجهه، إلى أن لحقت بها نظرة سعيدة لم ترها من قبل..
بالفعل لم ترها من قبل!
وهرع الخطوات ذاتها إليها مُستردًا أنفاسه!
عاد وعيناه تتجول عليها ثانية.. بنظرة مُغايرة؛
نظرة صعدت وهبطت إلى أن استقرت على بطنها!
_أأنتِ حامل؟
سألها في ذهول فاكتنفها الخوف ثانية لتجيبه متأهبة:
_نعم، تأكدت بالأمس وربما قاربت على إنهاء الشهر الأول أيضًـ...
والحرف الأخير خرج من فمها بين أضلاعه، كاد يعتصرها، يخنقها، يمزجها بقلبه فلا يستطيع فصلهما أحد..
_هارون!
همست باسمه بعد ثوان كافحت خلالها للتنفس فأسرع بإبعادها معتذرًا مرارًا ومُقبلًا رأسها ووجنتيها وشفتيها تكرارًا..
والخوف كله رحل بلا رجعة؛
والتأهب لا محل له من قصتهما؛
والأمنية التي لم يُفشِ أحدهما للآخر بسرها صارت على بُعد أشهر فقط من نَيلِها!
**********

بملل نفخ لؤي وهو يجلس إلى إحدى طاولات هذا المقهى برفقة شقيقته وخاطبها في صمت.. في توتر!
لقد أصرَّت عليه أن يخرجوا ثلاثتهم بدلًا من أن يقوم بزيارتها في البيت لأنها تريد استنشاق بعض الهواء المُنعِش، أما الآن بهذا اللقاء المُثير للضجر فقد تمنى لو أنه لم يُطعها وليتحملا مراقبة جدهم لهم بالبيت!
والهاتف الذي ارتفع رنينه بينهم جعل لؤي يهب واقفًا ليُجيب أحد زملائه في امتنان، بينما عيناه لاتزال عليهما أثناء ابتعاده بضع خطوات يمنحهما بها بعض الحرية علهما يتحدثان ليرحلوا فيعود كي يستأنف مذاكرته!
"ماذا قال لكِ؟"
سألها في جفاء دون مواربة فاضطربت قليلًا ثم افتعلت ابتسامة وأجابته:
_لقد طلب أن نبقى بالبيت لكنني استخدمت قدرتي على إقناعه وأكدت له أنك لم تكن لتحاول ملاقاتي دون مرافقة لؤي و..
_لم أكن أتحدث عن جدكِ يا غفران.
في صرامة نطق وهو يحاصرها بعينيه مُتغلبًا عن تهربه الدائم بهما، لكنه كان على حافة الجنون بعد ليلة طويلة مُضنية قضاها في إرسال رسائل كل بضعة دقائق كي يطمئن إلى سلامتها..
_لم يقل شيئًا.
في استسلام قالت، وحينما لم تجد أي تغير ولو طفيف على السخط الذي حلَّ على وجهه تابعت في تعب واضح:
_صدقني يا نضال لم يُضِف كلمة واحدة على الحديث الذي استمعت أنت إليه كاملًا! لقد رحل بالفعل قبل أن تنتهي مكالمتنا.
بدأت أمارات حنقه في الانفلات رغم سؤاله المُقتضب:
_ألم تريه؟
هزت رأسها نفيًا وتهربت من عينيه لتقول:
_لم.. أكن جائعة فلم أشاركهم طعام الإفطار.
ثم رسمت ابتسامة مرتجفة على شفتيها رغم أنها لم تصل لعينيها وأضافت مازحة:
_رجحت أن خطيبي سيدعوني على طعام الغداء بالمرة الأولى _وربما الأخيرة_ التي سنخرج خلالها معًا فلم أُحبذ سد شهيتي.
بالطبع لن تخبره أنها لم تخرج من غرفتها منذ الليلة الماضية إلا حينما تأكدت من عدم وجود سيارته بالحديقة كما دأبت على الفعل لسنوات!
أمعن النظر بها مليًّا ليتبدد حنقه بالتدريج سامحًا للإشفاق باتخاذ دوره، وفي رفق سألها:
_هل حصلتِ على أي قدر من النوم يا غفران؟
عوجت شفتيها مُتظاهرة بالاعتراض قبل أن ترد في حنق:
_وكيف كنت سأستطيع إغماض عينيّ وأنت تتصل بي كل نصف دقيقة قبل أن أجدك أمام البيت وكأنني مُخْتَطَفَة؟!
وفي غيظ تابعت بلا توقف:
_خبرني ماذا إن رآك أحد أفراد العائلة؟ كيف كنت ستفسر لهم مبيتك بسيارتك حتى الصباح أمام بيتنا؟!
فما كان منه إلا أن عقد ساعديه على الطاولة ليرد في نبرة مهتزة من فرط الغضب الذي هو مُضطر للتحكم به:
_لو خبرتِ جدكِ بما فعله ذلك اللعين لم تكن قدماه لتعبر البوابة بالأصل!
ثم أردف بِحدة فيما صدره يصعد ويهبط في انفعال:
_ألم يحضر الحقير حفل خطبتنا؟! أتظنينها ستكون آخر مناسبة تجمع بنا جميعًا؟! ألن تتكرر؟!
أشاحت بنظراتها بعيدًا في يأس فأضاف مُحذرًا وقد وجد الفرصة للتعبير عن تلك الساعات الفائتة التي قضاها في عذاب بَحْت:
_لقد تماسكت بحفل الخطبة من أجلكِ لكنني لا أضمن أن أحتفظ بالتعقل لو التقيت به ثانية!
أخفضت رأسها تتنهد في تعب ليطاله الألم الذي يتجلى على محياها، فحرر زفيرًا محبوسًا ثم قال في خفوت:
_ولم أستطع النوم أنا بالمثل.
رَفَعت رأسها تتطلع إلى حالة الاستنفار التي تصلها ذبذباتها دون جهد، فنطقت في مواساة:
_نضال! لا يجب أن يؤثر بك الأمر لهذه الدرجة.
ابتسم في تهكم ثم اكفهر وجهه دفعة واحدة ليرد في استخفاف:
_أوتتحدثين بجدية؟! ألا ينبغي أن ينتابني القلق وأنتِ مع ذلك القذر ببيت واحد بينما أنا بمكان آخر ولا يحل لي أن آخذكِ معي حتى لا تقع عيناه عليكِ؟
اختلست نظرة إلى لؤي خشية أن يلاحظ ما يحدث، لكنها وجدته مُنشغلًا في المكالمة، عادت إلى نضال ليستأنف حديثه متسائلًا في سخط بدا أنه لا يقدر على كبته طويلًا:
_ألم يفترسكِ الذعر ليلًا؟ ألم ترتجفي من البكاء؟ ألم تقاومي حتى تبقين عينيكِ مفتوحتين خشية أن يعاود هجومه والجميع نيام؟!
في أسى حطت نظراتها عليه فأبعد عينيه عنها تلقائيًا، لكنها سرعان ما قالت في ثقة:
_الأمر ليس على هذه الصورة يا نضال، أنا الآن لم أعد تلك المراهقة الضعيفة التي تم الغدر بها على حين غرة، بِت أستطيع الدفاع عن نفسي.
_من تخدعين يا غفران؟! لقد وصلتني أنفاسكِ اللاهثة أمس عبر الهاتف.
في نزق جاء تعليقه، ليعقبه الندم مُدركًا أنه اندفع أكثر من اللازم حينما لاحظ لمحة خجل عبرت بعينيها، فقال في أسف:
_أعتذر.. لم أقصد أن..
قاطعته بنظرتها الشاردة ثم بصوتها الذي بدا وكأنه يخرج مصحوبًا بصديد ذكريات مريضة لم تُمنح فرصة للشفاء:
_منذ سنوات، عقب تلك الليلة كنت أرتجف ذعرًا، لم أكن أنام، لم أكن أخرج من غرفتي، كنت أضع القطن في أذناي حتى لا أسمع صوته مُصادفًة إن عبر أمام الغرفة!
طرقات.. طرقات؛
يطرق قلبه في صدره أثناء استماعه إليها، ينظر إليها، يراقب كل حركاتها، لكن ليس بسبب الحب.. إنما هو التعذيب البطئ الذي لا يستطيع الشكوى جراء تعرضه له!
انعقد حاجباها، احتدت نظراتها، واستطاع أن يسمع حركات تنفسها السريعة أثناء إضافتها في انفعال رغم انخفاض صوتها:
_لكن.. يومًا ما قالت لي الطبيبة التي اصطحبتني إليها أمي أنني لست المُلامة، لست المُخطئة، ولا ينبغي عليّ الخوف، فما كان مني إلا أن استهجنت أقوالها، هتفت بها في وقاحة أنها تردد عبارات خرقاء حفظتها عن كثب كي تستحق راتبها، لكنها ابتسمت وشجعتني على إعطاء نصائحها فرصة.
وأخيرًا قابلت لمعة عينيها هياج عينيه، وابتسمت رغم الدموع التي بدأت بالتجمع على أعتاب أهدابها لتقول في اعتداد:
_أوتعلم؟! لم أشعر يومًا بالرضا مثلما كنت أشعر حين أحدق في عينيه بجرأة، بتوعد، و.. بتهديد، لأنه هو من يجب عليه أن يفقد دماء وجهه هلعًا كلما رآني!
ازدرد لعابه وتحفز لتعقد ساعديها على الطاولة مثلما فعل، وأردفت في نبرة تسللت إليها قسوة لا شك بها:
_أحب حالة الفزع التي يتخبط بين رحاها رغم اصطناعه كل الاطمئنان، أحب فكرة أنه _حرفيًا_ خاضع لِكلمة واحدة أنطق بها فأفضحه أمام كل من لا يتوقعه بتلك الوضاعة..
ينبغي أن يشعر بالفرحة، بالفخر؛
ينبغي أن يؤازرها، يدعمها؛
وينبغي أن يُصفق لها تشجيعًا وإثناءً؛
لكن لماذا يتسرَّب إليه الخوف بدلًا من هذا؟!
لقد أدرك مُبكرًا أنها قوية، وبعدما أفشت له سرها الدفين تأكد أنه لم يلتقِ قبلًا بمن تماثلها قوة، وربما هذا أحد أهم أسباب انجذابه لها قبل أن يُقر بحبه..
لماذا إذن صارت تُخيفه هذه القوة؟
ألأنه مُذنب؟
ألأنه شارك _بشكل ما_ في خداعها ولا يشفع له قلبه الذي امتلكته؟!
جذبته ضحكتها المُستمتعة قبل أن تُضيف في تشفِ:
_ومؤخرًا حينما علمت أن جدي نفسه لا يدري شيئًا _على عكس ما ظننت طيلة أعوام_ تعاظمت قوتي وتأججت رغبتي في سحقه، الاقتصاص من عمرو سمير الكردي هو هدفي الأسمى والذي لم أتعب يومًا من السعي خلفه..
وسكتت ليستوعب هو كل ما تقبع تحت وطأته، لكنها فاجأته حينما تحولت ضحكتها الحاقدة إلى ابتسامة.. عاشقة، ثم تابعت في رقة:
_حتى.. تظهر أنت فتمحوه تمامًا!
ترقب عقله وتباطأت نبضاته ليمنحها انتباهه كاملًا..
فكافأته!
_ ما إن تظهر أنت يا نضال أهدأ، أسكن، أسعد، ما إن أرسم في مُخيلتي حياتنا، مستقبلنا، بيتنا، أولادنا تنطفئ كل نيران انتقامي وأنجذب تلقائيًا إلى دفء يستشري بِكَون أنت وحدك حاكمه!
أغمض عينيه ليُطلق تنهيدة حُمِّلَت بمشاعر عدة بات لا يقوى على مواراتها، ثم فرق جفونه وقال في خفوت:
_غفران يا غفران! لماذا تعجز حروفي أمامكِ؟ لماذا لست أملك القدرة على البوح بكل ما يختلجني؟ لماذا تبذُرين هالتكِ في عالمي حتى صِرت طيلة صحوتي لا أقدر على التوقف عن الابتهال إلى الله أن يجمعني بكِ عاجلًا غير آجل؟!
ترقرقت عيناها بدموع سعادة هذه المرة، فتراجع إلى الخلف مُستطردًا بحنق:
_ولماذا لم نعقد القران؟! أرغب بـ.. بـ..
بتر عبارته في صعوبة فاستحثته بلهفة تخللتها نظرة مُشاغبة أوقدت حنقه:
_بماذا؟
_أستغفر الله العظيم.
وضعت كفيها على فمها لئلا تضحك كما تشاء، ثم قالت بعد ثوانِ:
_تحمل بعض الأشهر يا نضال حتى ننتهي من ترتيب أمورنا!
هز رأسه رافضًا، ثم قال في استنكار استحال إلى تصميم جليّ:
_أشهر؟! لا أظن ذلك، سنتزوج قريبًا.
ورغم تواثب دقات قلبها وهي ترى الوعد الصادق وتشعر به فإنها سألته في حيرة:
_كيف سنفعل؟ لم نُجهز أي شيء بالشقة بعد!
هز كتفيه وبدا عليه تفكير عميق أعقبه بأن حدق بها في إصرار لِيقول:
_دعي الأمر لي! لقد مررت بالنجار أثناء قدومي إلى هنا، واليوم سأرسل لكِ صورًا لأثاث الغرف كي تتخيرين منها ما تشائين، لِذا ثقي أنكِ قاب قوسين أو أدنى من أن تصبحي زوجتي، وحينها فقط..
أطبق شفتيه ليجبر لسانه على بتر عبارته، لكنها عاودت الابتسام في مكر ووضعت إحدى يديها أسفل ذقنها ورمقته في هيام ثم سألته:
_حينها فقط..؟
حدجها بنظرة موبخة خاطفة لم تحفل بها لِتُصر في دلال كما فعلت بالهاتف بالليلة السابقة:
_نبذة بسيطة فقط يا نضال!
أحاطها بعينيه كي يحرمها فرصة الهرب، هرب لم تكن لتفكر هي به وهي تصم أذنيها عن الأصوات المحيطة في تأهب، حتى أنفاسها كتمتها كي لا يضيع منها حرفًا واحدًا سينطق به!
_قاعدة ثانية يا غفران: لست رجلًا يُفضل النبذات، اعتبرينني قاصَّا يعشق السرد ويمنح روايته كل ما جادت به قريحته من مفردات، سينبغي عليكِ القراءة كثيرًا في علم البلاغة، عساكِ تُجارينني في تفسير الكنايات.. واستيعاب الاستعارات!
أنهى كلماته وتركها ذاهلة، ذهول عارم رافق ضحكتها التي جاءت على استحياء قبل أن تستمر لثوانِ متعاقبة، فيما أشاح هو بوجهه متمتمًا في ندم:
_أستغفر الله العظيم!
هذه المرة همس بها ثلاث مرات متتالية فتعالت ضحكاتها أكثر وهي تدرك كم يسهل التلاعب به وكيف يُحتمل أنه يُبطن أكثر مما يُظهر، فمنحها نظرة مغتاظة ثم التفت إلى شقيقها الذي يمسك بهاتفه في مكالمة لا نهاية لها وصاح:
_لؤي! لِمَ كل هذه الثرثرة؟! تعال وتحدث هنا يا رجل!
ثم التفت إليها مُبتسمًا في حيرة وهمس دون أن يدري أنها تسمعه:
_ذكية يا غفران! ولَكَم يخيفني هذا الذكاء أحيانًا!
وأطلق تنهيدة طويلة أتبعها بأن قال في توعد:
_أتمنى أن تحتفظي بطبعكِ المُشاكس هذا حين يجد الجَد، لأنني لن أسمح لكِ بالفرار كهرة دأبت على التسلي بأعصابي، فأنا أيضًا مؤمن تمامًا بالقصاص!
وما إن أنهى عبارته بنبرته الماكرة وابتسامته العابثة حتى وصل إليهما لؤي مُتابعًا مكالمته بينما يرمقهما معًا في دهشة حينما وجد شقيقته تخفي وجهها بكفيها وجسدها يرتجف أثر الضحك بينما نضال ينظر له في حنق قبل أن يغمغم في امتعاض:
_أي محرم هذا؟!
**********

مساءً
بعدما أصرت على مرافقته إلى المحل رغم محاولاته إقناعها بألا تفعل فقد انعطفا إلى الحي مُتشابكي الأصابع وكل منهما يحمل ابتسامة لا يتمكن من لملمتها!
"أتمنى أن تكوني قد خلعتِ الخلخال قبل النزول، لا نريد إثارة جَلَبة!"
قالها في خفوت مُحذرًا فضحكت في راحة لتدفع بالاضطراب به هو، أوشك على توبيخها بلا سبب لكنها تسمرت في تحفز فجأة لتتسائل بدهشة:
_ما هذا؟!
التفت إلى حيث محلهما فلم يجد ما يريب، لكن رأسه دارت إلى الاتجاه المقابل مع التجمهر.. والصراخ!
وفي توتر أجابها وهو يجذبها تجاه المحل في خطوات سريعة:
_جَلَبة!
...
دلفت إلى المحل بعدما وقف ناهل في الواجهة مُتأهبًا بينما كان عبد الله يخبره بما وصله من أنباء الشجار الدائر بمقابلتهم.. وتحديدًا بمحل والدته!
وقفت علا تبتسم بلا مبالاة مُكتفة ساعديها فيما صديقتها السابقة تكيل لها السباب والاتهامات أمام جميع من بالحي من أصحاب محلات ومارة وعدة نسوة وقفن بالنوافذ والشرفات، ورغم محاولات البعض بإبعادها لكن قدميها كانت مثبتة في الأرض بقوة ربما استمدتها من الغضب الذي كتمته طويلًا حتى تحرر مُعبرًا عن خطورته.
إلا أن علا دفعتها إلى خارج المحل أخيرًا بعدما عاثت سهام به فسادًا لدقائق دون أن يستطيع أحد إيقافها، حطمت عددًا من الأكواب الزجاجية، جذبت أكياس الفاكهة المُعلَقة بأعلى الواجهة ومزقت بعضها، كما أنها سكبت ما طالتها يداه من عصائر مُعبأة في الآنية!
"لقد ساعدتكِ وأطعتكِ بكل خطواتكِ، دخلتِ بيتي ولم أخف عنكِ أي من خصوصياتي، لتكون مكافأتي أن سعيتِ خلف زوجي وخربتِ حياتي؟!"
صاحت سهام في حسرة باتت رفيقتها منذ دب الشك قلبها بعلاقة زوجها بصديقتها وأحست أن اهتمامه الكبير بالمحل يتعداه إليها هي، شك تحول إلى يقين وإحساس بان أنه صائب ما إن وصلت إليها الأنباء بأن زوجها قد ابتاع شقة فاخرة بحي هادئ وقد قارب على إنهاء تجهيزاتها بالوقت ذاته حين بدأت تلك الأخيرة بالاهتمام الفائق بملابسها ومظهرها حتى غدت كفتاة في العشرينات!
بالطبع استفادت صديقتها من تجربتها السابقة، وستتلافى كل الأخطاء التي وقعت بها من قبل، وبمساعدة زوجها الأبله ستعوض ما هرب منها من أحلام!
لكن.. كما يقولون:"لتعبر فوق جثتها أولًا!"
_لا يا علا! لن ألتزم الصمت وسأفضحكِ أمام الجميع!
بتوعد خرج صوتها، ثم استدارت بجسدها تراقب جميع الفضوليين، رفعت ذراعيها إلى جوارها ثم أشارت بإحداهما حيث اقترب ناهل ليقف متفرجًا في صمت كما الكثيرين بعدما هجم الوجوم على محياه فلم يصده.
_هذه المرأة طلبت مني أن أستعين ببعض من معارفي ليشهدوا زورًا ضد ابن زوجها، وأنا كعادتي أطعتها لأنني اعتبرتها صديقة يجب عليّ مناصرتها.
لم تبدر عنه إشارة تشي بأنه يهتم، غير أن ذهنه استعاد قيادته وراح يستعرض صور الظلم التي طالته بإيعاز منها..
_لكن ناهل ابن السيدة سهير دفعها عن طريقه فقط حينما هددته بأنها ستخبر والده بأنه يضمر له السوء، لم يضربها، لم يسبب لها كل تلك الإصابات، وقد حُكِم عليه بالسجن ظلمًا.
تنقلت الأعين في دهشة بين ناهل الذي لا يزال مُحافظًا على لا مُبالاته وبين علا التي بدأ التوتر يعتري ثقتها الشديدة وغضبها لِفشل محاولاتها الدفاع عن نفسها، فما إن تفتح فمها لتصيح بصديقتها حتى تصرخ الأخيرة بصوت أعلى فتخرس كل عباراتها!
ثم أردفت سهام بصوت شديد الارتفاع بلا داع وقد بدا أنها ممثلة مسرحية تقمصت دورها حد الانصهار على الخشبة!
_أوتعلمون من أيضًا ساعدها؟
ضحكة طويلة متواصلة أثارت انتباه من لم يفعل بعد، والارتياب حط بجناحيه على الحي الذي خرس ضجيجه في هذا المساء المزدحم من الصيف على النقيض من الدارج..
_زوجي!
أجابت سهام السؤال الذي رددته بلسانها مع لسان البعض ممن وصل فضولهم إلى أقصاه، فأسهبت تمنحهم المزيد:
_زوجي الذي حاول شراء هذا المحل لكن ابن صاحبته كان شديد الإصرار على الرفض.
إشارة أخرى من كفها إلى ناهل الذي اهتز جموده أخيرًا بمجرد أن استشعر اضطرابًا غير عاديًا بانفعالات المرأة، والتي واصلت بعدما لم يعد بإمكانها التراجع:
_صاحبته التي تُوفيت قهرًا بعدما تزوجت تلك اللصة زوجها وشاركتها بيتها وإرثها!
ارتفع صدر ناهل وهبط في سرعة بينما احتقن وجهه في وضوح، فيما صَمَّت إيلاف أذنيها عن نداءات عبد الله الذي حاول إثنائها تنفيذًا لأمر ناهل وخرجت من المحل..
وثبتت عينا سهام على علا وهي تختتم خطبتها في قوة:
_ناهل همام حجازي هو من يمتلك الحق بهذا المحل الذي استغلت هي سجنه كي تقنع والده بأن يبيعها إياه!
الكفوف تضرب بعضها بعضًا في دهشة؛
التعليقات المُمتعضة تنطلق من الجميع كي تقتحم أسماع الجميع؛
نظرات ساخطة، أخرى متعجبة، والغالبية مُشمئزة؛
ولَكَم تمنى هو لو أن والدته هنا الآن!
توفيت منذ سنوات ورغم ألمه الذي لا ينتهي برحيلها إلا أنه لم يجرؤ على الاعتراض على إرادة ربه مكررًا إذعانه للصبر حين الجزع..
لكنه لم يتمن لو أنها حية سوى الآن لأنها لاقت في حياتها سلسلة متصلة من الإخفاقات والخيانات، إلا أنه يتصور لو أنها إلى جواره بهذه اللحظة، ربما لكان تسلل إليها أقل قدر من الراحة!
"هل أنت بخير يا ناهل؟"
استدار إلى الخلف مع تخلل أصابعها الرقيقة الناعمة أصابعه الخشنة، ربت على كفها وقال في صرامة هزها بعض القلق:
_بخير، عودي إلى الداخل يا إيلاف ودعكِ من هذا الهراء! لا أشعر أنه سينتهي على خير بأية طريقة.
تساؤل نطقته عيناها لم يمنعها من التفوه به سوى جلبة جديدة، ودارت الرؤوس مُجددًا مع صوت صرير سيارة سبق نزول صاحبها في أوج غضبه..
فها هو الزوج قد ظهر أخيرًا بعدما استدعاه أحدهم ليخرس زوجته!
صفعة؛
وجذب شعر؛
ثم صفعة على الخد الآخر تلاحمت مع صياحه بأذنها سمعه الكل:
_أنتِ غبية ومجنونة! بماذا تهذرين أيتها المجنونة؟! أتريدين الفضائح؟! أتظنين أنكِ بفعلتكِ هذه ستوقفيني عما أرغب مهما كان؟! حسنًا! سأتزوج عليكِ بالفعل أيتها الـ..
قاطعته ضحكتها التي أكدت جنونها بالفعل رغم الدموع التي طفرت من عينيها غزيرة تنثر ملحها على جراح قلبها:
_أتظن أنت أنني أملت بأن تتراجع؟! ما دمت قد عقدت العزم على الزواج بعد تلميحك لسنوات فستفعلها حتى وإن سقطت أرضًا أسفل قدميك أتوسلك بألا تفعل!
فتح فمه كي يتكلم لكنها عقبت بضحكة أخرى أشد هذيانًا لتردف في تحدي:
_لكنني لن أفعل يا هاشم!
تواثب قلب ناهل وهو يدير رأسه يمينًا ويسارًا بحثًا عن شيء لم يدركه بعد، لتقع عيناه على زوجته التي تقف خلفه تتابع ما يحدث في انشداه، فقال لها وهو يدفعها بتخبط:
_عودي إلى داخل المحل بسرعة!
لم تهتم به إيلاف وهي تحدق بسهام التي خرج صوتها وكأنه انبعث من قبر متعفن بخبث الحقد.. والانتقام..:
_لكني لن أدعها لك تتمتع بها وبالمحل الذي أردته، فلتحصل عليهما معًا!
ولما كان الجميع تلتصق نظراتهم بسهام وهاشم وعلا فقط، التقطت عينا ناهل تلك الحركة التي صدرت عن الأولى، شبه المخفية كحاوي مقتدر بالاقتران مع إضافتها في شراسة:
_على هيئة حطام!
والـ"الحطام" رافقتها تناولها قطعة قماش مُبللة بسائل ما، قذفت بها إلى المحل رأسًا لتمر بجوار علا التي عقدت حاجبيها بعدم فهم!
_إياكِ أيتها المجنونة!
صرخ بها ناهل وهو يهرع إلى المحل ليسبقه عود ثقاب مشتعل كاد ينطفئ لولا المحفز الذي كان بانتظاره..
_اخرجي يا امرأة!
صاح بها في زوجة والده التي لم تدرك بعد ما سيحدث في التو فصرخت رافضة:
_لن أخرج، إنها مجنونة حمقاء وقد غاب عقلها تمامًا، هذا المحل يخصني ولن أترك..
وصوت الاشتعال مع رائحة الوقود التي وصلت أنفها أخيرًا هو ما قبض على لسانها، ثم رؤيتها النيران التي قفزت أمامها تفصلها عن الحي.. وعن الحياة!
سهام تضحك، هاشم يتدلى فكه في ذهول؛
نساء تولول ورجال تصرخ؛
ووحده ناهل من قفز إلى الداخل ليلحق بها..
ووحدها إيلاف من زحفت الثلوج من أسفل قدميها إلى أخمص رأسها وهي تعي اختفاء زوجها خلف حاجز الحريق، قبل أن تُحرر جسدها من تجمده و.. تتبعه!
*****نهاية الفصل الخامس والعشرين*****



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close