اخر الروايات

رواية علي ضفة قلبك ظمآن الفصل الثالث والعشرين 23 بقلم سعاد محمد

رواية علي ضفة قلبك ظمآن الفصل الثالث والعشرين 23 بقلم سعاد محمد


الفصل الثالث والعشرون
(وصية طَوْد)
هَرولت على الدرجات في لهفة لم تتحكم بها حتى كادت تتعثر فحدجها جدها بنظرة مؤنِّبَة وهو يقف مع نضال بالأسفل فيما كبت هذا الأخير ابتسامته بِعناء.
"كيف حالك يا نضال؟"
سألته في رقة فلكزها جدها بعصاه بخفة على قدمها، تنحنحت في حرج بينما رد خاطبها بكلمات مبهمة لم تتبينها وجدها يراقبهما كعميل مخابراتي من الطراز الأول قبل أن يتقدمهما إلى صالة الاستقبال الداخلية فأشارت هي إلى نضال ليلحقا به..
"عسى أن يعجبكِ!"
قالها في خفوت وهو يُقدم لها علبة أنيقة تحمل شعار أحد محلات الحلوى، فسألته في فضول أثناء فتحها إياها:
_ما هذا؟
شهقت في انبهار ما إن تطلعت إلى المكعبات المغطاة بالسكر المطحون باللحظة ذاتها حين قال:
_إنه "ملبن" محشو بالمكسرات، خبرتني لين أنكِ تحبينه.
رفعت عينيها إليه في عدم تصديق، ثم التفتت إلى صالة الاستقبال التي تظهر على عتبتها أختها الكبرى تنخرط في حديث مع والدتها وإيلاف..
اعترتها الدهشة مع الكثير من الندم وهي تراقب ضحكاتها الصافية، واعترفت لنفسها بأنها ما عادت تستطيع الإنكار أكثر، أو دفن رأسها في الرمال أكثر...
لين لم تؤذها عن قصد يومًا؛
لين لم تتعمد الاستحواذ على أمها؛
ولين كانت بحاجة ماسة لها.. كما ظلت هي دومًا.
_ألن تأخذيه؟ لقد وجدته بصعوبة بالمناسبة!
التفتت إليه مجددًا لترى التوتر قد سكن وجهه، فنفضت رأسها وأخذت العلبة منه لتحتضنها بكل قوة قائلة في سعادة:
_بل سأتناول كل قطعة منه، أشكرك يا نضال.
فعلتها جلبت البهجة على قلبه الذي يجاهر يومًا بعد يوم بتعلقه بهذه الفتاة تحديدًا، فأجلى حنجرته ليقول مازحًا كي يُبدد هذا الترقب وهو يُشير إلى أفراد عائلتها المُجتمعون في صالة الاستقبال:
_بإمكانكِ أن تشاركيهم أيضًا.
أومأت برأسها إيجابًا وتقدمته إلى الغرفة، وما إن دلف إليها حتى ارتفع الصوت المُهلل:
_مرحبًا يا نسيب! لقد عدت باليوم التالي إذن، ظننا أنك ستدرك فداحة المأساة التي أنت بصددها وستهرب دون النظر إلى الخلف مرة واحدة!
هتف ناهل مُرَحِّبًا به في تسلية واضحة، وقبل أن يرد نضال رسمت غفران بسمة صفراء وأشارت بكفها إليه لتقول:
_إنه ناهل لا يزال على حاله كما ترى، يظن أن هذه طريقة للمزاح بينما لا يضحك أحد على دعاباته سوى زوجته!
بترت إيلاف ضحكتها على الفور في حرج، ولم يكترث هو بما قالت غفران مُكتفيًا بتعبير متحدي، حتى تدخل هارون في نبرة افتعل بها التوبيخ:
_ترفق بالرجل قليلًا يا ناهل! لم يمر يوم كامل بعد على انتهاء الحفل، امنحه وقته وسوف يتخذ القرار الصائب!
تأملته غفران في غيظ، ثم نظرت إلى نضال مُوضحة:
_وهذا هارون الذي التقيت به مرارًا من قبل بالطبع، كان جيدًا كما لاحظت بالتأكيد حتى بدأ بقضاء غالبية وقته مع ناهل!
نقل نضال نظراته بينهما في سخط ثم همس مُحذرًا بالقرب من أذنها وهو يتجه إلى أحد المقاعد:
_إياكِ أن يذُق أحدهما قطعة واحدة من الملبن!
في تأكيد رفعت إبهامها بحماس، ليُتابع مُغمغمًا في توعد:
_ أو دعيني أنا أحشره حشرًا في فيهما!
وما إن جلس حتى تنقلت عيناه على الوجوه السَمحة البشوشة، تعرف على أصحابها خلال الفترة الماضية حينما تقدم طالبًا الزواج من غفران، ورغم معرفته السطحية بهم في البداية فقد توطدت علاقته معهم جميعًا بفترة قصيرة بعد أن صاهرهم..
ثم انعقد حاجباه في انزعاج مُستعيدًا أفراد الأسرة الغائبين، عمة رآها بالأمس لتُلقي عليه تهنئة لا تعنيها حقًّا، وزوجها الذي لم يختلف عنها كثيرًا في نيته بَيد أنه يستطيع التظاهر بالنقيض في مهارة، وابن أكبر صافحه في جفاء ليرحل على الفور، و..
ابن أصغر لم يقترب منهما بما يكفي، لكن رغم الابتسامة التي انطبعت على محياه فقد اتحد عداؤه مع كراهيته في حريق واضح لتصل إليهما شظاياها بسرعة الضوء!
حاول نضال البحث عن نظرة ندم، أو حتى غيرة عليها، لكنه لم يجد سوى الحقد والشحناء!
هذا شخص لا يحب؛
هذا شخص لا يعرف معنى للحب؛
هذا شخص يضمر خطرًا لا مراء به.. وسقمًا لا شفاء منه!
فما كان منه إلا أن تقدم خطوتين ليحجب عن غفران نظراته المُقيتة رغم البسمة التي لم يتخلَّ عنها، في تحذير صامت بألا يقترب، ووعيد صارم بأنه إن فعل سيحدث ما لا تُحمد عقباه، وكان من الذكاء بحيث فهم على الفور وظل بمكانه!
والمعجزة التي تمسك هو بأعصابه عن طريقها ظل طيلة الليلة يحمد ربه على إنعامه عليه بها، فالغضب الذي تأجج بداخله حالما ربط في ذهنه تلقائيًا بين هذا الخسيس الذي يقف مُستندًا على أحد الأعمدة وبين الفعلة القذرة التي قام بها تجاه غفران كاد ينفلت فيفسد الليلة بأكملها، لكنه بنظرة واحدة إليها تتوسله ألا يخذلها فتر كل سخطه ونزع عينيه عنه.. على وعد _أو رجاء_ بلقاء آخر يتمكن فيه من تفريغ شعوره دون فضائح!
**********

عاد من المسجد بعدما انتهى من صلاة العصر ليقف قبالة المائدة مُحدقًا فيما عليها من صحون تحوي أشهى الوصفات التي يحبها جميعًا، انعقد حاجباه في توجس ثم سألها مُتعجبًا وهو يراها تخرج من الممر الذي يضم الغرف:
_ما كل هذا الدلال يا سلام؟! هل أنفقتِ المصروف الشهري بأكمله؟! أننتظر أحدًا؟
وضعت الصحن وجلست تجيبه:
_لا! أنا وأنت فقط يا عمي، اليوم استيقظت لأجد بي رغبة في إعداد المأكولات التي تحبها.
ثم رمقه في قلق حقيقي وتابعت مُتسائلة:
_وهل أهملتك من قبل يا عمي؟
تنهد في بطء ثم اتخذ مقعده على رأس المائدة، أجابها في إشفاق حينما تنبه إلى التوجس الصارخ بنظراتها وكأنها تتحرق حرفيًا انتظارًا لِرَده:
_لم تفعلي، لكنني أُفضل لو ركزتِ اهتمامكِ على نفسكِ قليلًا.
نال الحرج منها فتسلل إليه الأسف، ليقول برفق:
_ذلك الشاب الذي رفضتِ رؤيته.. حدثني والده بالأمس مرة ثانية ليُجدد طلبه.
تطلعت إليه بضيق لم تنجح في تبديده، ثم قالت في رجاء:
_لقد خبرتك يا عمي أن ذلك الشاب بالذات لن أستطيع الارتباط به، إنه يعيش بالخارج.
_لا يعيبه هذا.
دون إبطاء رد مُتجاهلًا رفضه الداخلي للفكرة، لكنها أعلنتها صراحًة:
_لم أقل أنه مُعاب، لكنني لا أستطيع تركك وأمان ووئام، ستختنق أنفاسي بعيدًا عنكم.
ثم سارعت بالإضافة في نبرة لينة شابها الاعتذار:
_دعك من ذلك الأمر الآن! وأعدك بشرف أنني لن أرفض ثانيًة بلا أسباب، بالمرة القادمة ستجدني مُطيعة، مُتعقلة، وسأوافق على التعرف على أي من سيطلب الزواج بي دون إبداء أية حجج، مادام لن يبعدني عنكم.
سحب نفسًا عميقًا بداخل صدره وهو يعد ذلك الوعد بحد ذاته تقدمًا مُرضيًا، بدأ بتناول الطعام حينما شعر بتوترها يتعاظم، وقبل أن يسألها عن السبب بادرته:
_أفكر أن أذهب بنهاية الأسبوع إلى خالتي لأقضي بضعة أيام معها ومع شقيقتيّ.
_كما تشائين، بلغيهن تحياتي!
عَقَّب وهو يتابع طعامه، لكنه لاحظ أن يدها لم تمتد إلى صحنها، رفع عينيه تجاهها فوجدها تنظر له في ارتباك أفضت به في كلماتها:
_ما رأيك أن.. تهاتف ياسر وتدعوه لتمضية هذا الوقت معك؟
_لا تحملي هَمِّي! سوف أنشغل بتجهيز الاختبار الشهري ولن أجد وقتًا لالتقاط أنفاسي.
أجابها مُفتعلًا مرح لم يصل لنظراته لكنها لم تستطع تجاوزه مُتظاهرة بعدم ملاحظته، فَوَقفت لتحتضنه من الخلف ثم استندت بذقنها على كتفه، ولاذت بالصمت!
_ماذا هناك يا سلام؟
سألها في ارتياب، فتنهدت في تعب ثم أجابته بصوت رقيق كان به الامتنان جليًّا:
_أنت تعلم أنني أحبك أكثر من نفسي، وأنك أفضل والد في العالم بأسره، وأننا منذ ذلك اليوم حين اصطحبتنا من بيت جدتي لم نذق حرمانًا ولم نعاني يُتمًا.
ابتسم ورفع يديه ليربت على ذراعيها التي تحيط بصدره، وقبل أن يتكلم تابعت في حنان:
_أتعلم أنني تمنيت كثيرًا أن تتزوج وتحظى بأطفال حتى يتنعموا بحبك مثلنا؟
حرك رأسه قليلًا ليستطيع النظر إليها، ثم قال مازحًا:
_لقد حظيت بثلاثة دون أن أضطر للزواج، ربكِ أراد أن يرحمني ويُجنبني تلك المشقة.
لكنها لم تبتسم، بل التمعت عيناها لتتمتم في ندم:
_أنا أثرت غضبك كثيرًا، أليس كذلك؟!
مرة ثانية رَبَّت على ذراعيها ثم هز رأسه نفيًا وقال:
_ربما أثرتِ ضيقي وقلقي بتفكيركِ، لكن غضبي.. لم تفعلي لمرة واحدة.
عبأت صدرها بِنفس عميق أتبعته بأن غمغمت في شرود:
_إذن يحق لي بواحدة!
وحينما التقت بعينيه المُتعجبتين ابتسمت وطبعت قبلات متتابعة على شعره ثم عادت إلى مقعدها قبل أن يسألها عن مقصدها، تطلع إليها في إمعان فعاجلته بحماس مُبالَغ به كي تُبعِد انتباهه عنها:
_احكِ لي إذن عن ياسر ذلك!
تلقائيًا ارتسم تعبير بالحنين على وجهه، تحول إلى شوق عارم وهو يرد مُبتسمًا:
_شاب رائع، رجل يُعتَمد عليه، ابن بار بوالدته، لديه قدرة ساحرة على تغيير موقفي الرافض لأي شيء إلى قبوله والاستمتاع به، بل والتلهف إليه أيضًا!
ورغمًا عن وجود ذلك الحاجز بينها وبين المذكور فقد ابتسمت بفضول وهي تستمع له يُتابع في غيظ:
_لكنه يوصد تفكيره أمام البديهيات! تخيلي أنه يرفع حرف الجر وما بعده!
اتسعت عيناها في استنكار وهي تهتف:
_يا إلهي! ومن قد يفعل ذلك؟!
مط شفتيه بلا رضا، فتابعت بحنق:
_أتعلم أنه لديه مشكلة بضبط الحروف أيضًا، تصور أنه قام بندائي بـ.. "السيد سَلَّام" أمام زملائي العنصريين حينما رأيته لأول مرة؟! منذ ذلك الحين وهم يتلمزون به ساخرين مني عندما أعارضهم بأي أمر.
تسارعت ضحكاته فطفق قلبها يقفز في سعادة، وبعدما سكن سألها باهتمام:
_ألهذا تنزعجين منه؟
شبكت أصابعها معًا وأطرقت برأسها، ثم أجابته بأسى:
_بل كنت كلما رأيته أشعر بالندم.
ولمَّا رفعت رأسها إليه ثانية واجهت نظرته الدَهِشَة المُتسائلة، فأجابته في صراحة:
_مرأى حبك الشديد له، وولعك بقضاء الوقت معه، وسيرته التي لا تنفك تذكرها أورثوني ذنبًا عظيمًا لم أجد الفرصة للتخلص منه.
وعندما تأججت دهشته أكثر أضافت في ارتباك:
_كنت.. كنت تقول دومًا أنك حلمت بإنجاب ولد، ربما لكنت استطعت تحقيق ذلك الحلم لو لم تتولى مسؤوليتنا، لِذا..
لم تستطع إتمام عبارتها مع اتساع عينيه في ذهول، فأغلقت فمها وأجبرت تلك الدموع على الانحباس، حتى جاءها صوته لا يزال حاملًا آثار عدم التصديق:
_لقد حلمت بإنجاب ولد من أجلكن، لرعايتكن أنتِ وشقيقتيكِ بعد وفاتي يا سلام.
_حفظك الله لنا يا عمي!
قالتها في سرعة فرد بنزق:
_أنتِ خرقاء!
تحررت عبراتها رغمًا عن تحكمها وابتسمت لتقول في استسلام:
_لقد أدركت ذلك.
ثم مسحت وجنتيها لتتابع في صدق:
_لكن.. ربما ظلمته، لم يبد سيئًا لتلك الدرجة، أعني.. بالرغم من أنه لا يطيقني إطلاقًا فلم يتعدَ حدوده معي حتى وأنا أتعمد مُضايقته.
_وكيف حللتِ كل هذا؟! بآخر لقاء خرج الشاب من هذا الباب وأنتِ تتنفسين في ارتياح وكأنه كان يجثم على قلبكِ!
في دهشة سألها فتسمرت نظراتها على صحنها لوهلة قبل أن تدس ملعقة مليئة بالأرز في فمها ثم تنظر له وهي تلوكه باستمتاع وتبتسم قائلة في مرح:
_إنه.. إنه حدسي فقط!
بارتياب ظل يرمقها فملأت فمها بالمزيد من الطعام وتهربت من النظر إليه، ثم وضعت بعض اللحم في صحنه وقالت في حماس وهي تزدرد طعامها:
_لِذا يبدو أنك محق في حب رفقته، وفي افتقادك الواضح إياه، لكن هذا لا ينفي أنه سخيف ومتعجرف أيضًا.
بحنق تطلع إليها ليستأنف الأكل، حتى تحركت هي بكرسيها إلى أن التصقت به ولكزته بخفة في ذراعه لتسأله ببسمة ماكرة:
_إذن ماذا عن والدته؟
عقد حاجبيه أكثر ولم يهتم بالرد عليها فتابعت في إلحاح:
_هيا يا عمي! خبرني عنها!
_لقد خبرتكِ بالفعل.
بنزق نطق مُشيحًا بوجهه عنها في حرج، فهزت رأسها رفضًا لتطالبه في توسل:
_لا أحب الاختصار! أريدك أن تقص علي شعورك يوم رأيتها بالمركز الاجتماعي بالشرح التفصيلي يا أستاذ، بإتقان كأنك تتعامل مع أشد طلابك انعدامًا للاستيعاب، لقد قال العم فوزي أنك كنت تتطلع إليها في انبهار وكأنك عثرت على كنزك الضائع!
اتسعت طاقتا أنفه في غضب وسحب نفسًا عميقًا، ثم قال في غيظ:
_آآآه يا فوزي، يظل يؤكد أن لا مثيل له في حفظ الأسرار بينما هو يستحق أن يترأس وكالة إخبارية عن جدارة دون الحاجة لموظفين!
تركت الملعقة وكتفت ساعديها لتحدق فيه بإصرار، فأبعد نظراته عنها ليقول في خفوت تخلله قدر من الأسى لم يفتها:
_إنها مجرد قصة من طرف واحد لم يُكتب لها نهاية لا أكثر.
تعلقت عيناها به في إشفاق، ثم مدت يدها تُربت على كفه فمنحها ابتسامة حنونة مُتعاطفة، شردت نظراتها بعيدًا وتمتمت في تصميم بعد أن شجعها حديثها معه في المُضي قدمًا بالفكرة المُتهورة التي تلح عليها منذ يومين:
_يا عمي لسنا من نُوقِّع وثيقة النهاية، أحيانًا نَفْخَة بسيطة تزجي شرارة البداية مرة أخرى ليحصد كل منا جزاء صبره، ويظفر بما حَسُن من أمانيه .
_علام تنوين بالضبط يا سلام؟
بشك سألها عندما لمح تلك النظرة الشاردة بالكثير من التصميم تحتل مُقلتيها..
نظرة تعقب تهورًا.. أو تسبقه!
بابتسامة حملت وداعة مُبالَغ بها التفتت إليه، لتقف فجأة قائلة في صرامة:
_لا تملأ معدتك يا عمي لأنني أعددت بعض الحلوى أيضًا! بالإضافة إلى أنني أُجهز هذه المأكولات منذ ساعات لتكفينا الأسبوع كله، أنت لم تظن حقًّا أنني قد أُهدر كل هذا من أجل يوم واحد، هل فعلت؟!
**********

"ألا ترينه في المنزل؟"
التفتت إيلاف إلى أختها الكبرى التي بادرتها مُتسائلة في تهكم حينما لاحظت تحديقها المُستمر بزوجها حيث يجلس مع ياسر ولؤي وجدها بعدما تناولوا جميعًا أفضل طعام للغداء منذ سنوات، في أُلفة، في وِد، والمحبة بدا أنها على غير العادة قد اتخذت من بيتهم مجلسًا بآخر الأمر!
_ألا تظنين أنه متوتر؟
بادلتها سؤالها بآخر فما كان من لين إلا أن رمقتها في استهجان ثم علَّقت:
_أنا لم أر ناهل متوترًا قط!
ضغطت على أسنانها في نزق ثم قالت:
_لا تفهمينني يا لين، أعني.. إنه كثير الاهتمام بهاتفه منذ يومين.
مطت شفتيها لترد في استغراب:
_وما المُشكلة؟ الجميع يتصفح الـ..
أوقفتها إيلاف عن تتمة عبارتها وهي تُشير بكفها إلى حيث يجلس زوجها لتقول بهمس مُنفعل:
_انظري! ها هو يتطلع بهاتفه في تركيز، يبدو مُنتظرًا لخبر مُعين، أو.. لشخص مُعين!
وآخر كلماتها خرجت بصوت مهزوز، مُتشكك.. مُرتعب، ثم ازدردت لُعابها وأخذت تتابع عُقدة حاجبيه أثناء انشغاله تمامًا بهاتفه حيث عيناه تجري عليه في اهتمام فصله عن الجميع..
_يا إلهي! يبدو أن تأثير عمتكِ أماني علينا عظيمًا بالفعل كما قال ياسر، الفارق أنها تراقب ابنها لا زوجها!
لم تأبه إيلاف بتعليق أختها الساخر، ولا بتوبيخها المُبطن، لتبقى نظراتها أسيرة لما يفعل زوجها، كما قلبها أسيرًا لقلق بدا أنه سيتحول لشيء أكثر قوة.. وتأثيرًا!
...
في سرعة أعاد هاتفه إلى المنضدة القريبة ليتناول كوب الشاي من زوجته التي كانت نظراتها تلتصق بهاتفه في فضول شابه توعد لا تفسير له، فشكرها هامسًا ثم همَّ باستئناف حواره مع ياسر..
_سأتصل بهاتفي، لا أجده.
قالتها وهي تأخذ هاتفه بالفعل فأومأ لها مانحًا جُل اهتمامه لابن عمتها غير واعِ لابتعادها.. ومن ثَم حملة تفتيشها!
"أنتِ مجنونة!"
همست لها لين التي تجلس مع زوجها وابنها على إحدى الأرائك بعد أن لاحظت حيلتها التي لم ينتبه لها زوجها للأسف، وقعت عيناها على والدتها ترمقها في تساؤل فهزت رأسها بلا معنى وهي تواصل طريقها إلى أقصى ركن بالصالة..
كعدستين مُكبرتين بدأت عيناها تجري على الجهات التي تَلقى منها رسائل دون أن تفتحها، عبد الله، هارون، هي، بعض الأرقام غير المُسجلة تطلب خدمة التوصيل التي بدأها مؤخرًا بعدما اقترحتها عليه، ياسر، و.. اللعنة! ما هذا؟!
غطت أصواتهم العالية على شهقتها وهي تقرأ رسائل مُتكررة من رقم بعينه، رسائل ذات مضمون واحد باختلاف بعض التفاصيل!
"يا إلهي! كنت أعلم أن هناك شيئًا مُريبًا حولك! لكنني لم أتوقعه فاضحًا إلى تلك الدرجة!"
عَلا صوتها فانخرس الجميع بلا مُقدمات، فيما نهبت خطواتها الأرضية وهي تنطلق عائدة إليه ترفع هاتفه أمامها، أما هو فقد توترت ملامحه رغم محاولته التظاهر باللا مُبالاة فيما أخذ عقله يعمل بسرعة باحثًا عن أي أثر تركه خلفه في إهمال رغم تأكده من اتخاذه الاحتياطات اللازمة!
_ما هذا يا سيد ناهل؟
صاحت في صدمة فضاقت عيناه ليختطف نظرة سريعة على هاتفه، أعقبها بأن تنفس في راحة، ثم تملكه بعض الحرج فَمد يده ليستعيد الهاتف قائلًا في خشونة:
_رسائل غير هامة، سنتحدث لاحقًا يا إيلاف، بالبيت!
هزت رأسها رفضًا ثم أطبقت يدها على الهاتف أثناء هتافها الحاد:
_لا! سنتحدث هنا والآن أمام أفراد عائلتي، ستخبرني منذ متى تتلقى هذه الرسائل، وستخبرني أيضًا كم مرة ذهبت إلى مكان كهذا!
فغر شفتيه في دهشة حينما انتبه إلى ما يجرى، لكن قبل أن يتفوه بكلمة تابعت في امتعاض:
_وأنا منذ عرفتك ظننتك مُنضبط الأخلاق لأكتشف أنك عابث لعوب تبحث عن مدربة تدليك محترفة..!
وختمت بحسرة:
_وفي سرية تامة أيضًا!
كلل الذنب نظراته تعاطفًا معها رغم رغبته الداخلية بأن يقذفها بالوسادة خلف ظهره، ثم انتفض الاثنان معًا حينما صدح صوت الحاج فؤاد في استياء:
_أي تدليك هذا يا بنت؟!
عادت إليه سريعًا تُشهر الهاتف أمامه حتى كادت تُلصقه بوجهه وهتفت في قهر:
_انظر يا جدي! أربعة رسائل من الرقم نفسه تُقدم له عروض التدليك الـ..
بترت عبارتها وحانت نظرة متوعدة إلى زوجها الذي يرمقها بنظرات قاتلة ثم أضافت في اشمئزاز:
_vip!
أبعد جدها يدها عنه في نزق ثم وضع نظارات القراءة المُعلقة على صدره، وبعد تفحص مُتمهل جاء صوته حائرًا:
_لكنها جميعها رسائل واردة إليه ولم يرد على أي منها يا بنيتي!
قفز ناهل واقفًا يُفرقع إصبعيه صائحًا في انتصار:
_ها هو! ظهر الحق! قل لها يا حاج فؤاد!
لكنها استدارت إليه تتخصر لتجابهه في تحدي:
_أتعني أنك لم تهتم بالعرض؟ ألم تذهب ولا مرة؟ العنوان ليس ببعيد كما تُغريك تلك الـ.. مُدلكة!
بلا تصديق ضرب كفًّا بكف ثم صاح مُدافعًا عن نفسه:
_لم أذهب ولا مرة بالطبع! أتتوقعين مني أن أسمح لأية امرأة أن.. أن..
لم يستطع إكمال عبارته خاصًة تحت هذا التحديق الجماعي به في انتظار التتمة بكل فضول للمعرفة، فقد مال لؤي يتطلع إليه مُستندًا بكوعيه على فخذيه في انتباه، كتف ياسر ساعديه مُترقبًا وفغر نضال شفتيه ذاهلًا، بينما سارع هارون بوضع كفه على فم يزن حتى لا تفته كلمة واحدة!
ضرب جدها يدها بعصاه في غيظ لتتأوه وهي تلتفت إليه بدهشة، فقال بنبرة آمرة :
_انزعي يديكِ عن خصركِ ! وأخفضي صوتكِ يا بنت!
أطاعت جدها في قهر وتلجلج لسانها قليلًا قبل أن تعود إلى زوجها ثانية لتسأله في اتهام واضح:
_إذن لماذا لا تضع حلقة زواج حتى الآن؟! أتحاول التظاهر بالعزوبية أو ما شابه؟
ارتفع حاجباه في دهشة وأجابها دون تردد في استخفاف:
_لأنني لا أتحمل أي شيء حول أصابعي، أوتبحثين عن أي سبب للشجار؟! وهل إذا وضعتها ستسمحين لي ؟vipبحجز جلسة تدليك
اندفعت إليه تهتف في صدمة:
_ها قد زل لسانك! أنت بالفعل تريد التدليك!
حدجتها كل من والدتها وعمتها بنظرة مؤنبة فيما وضع ياسر كفه على وجهه في ضجر، وبينما أخذ الجميع يتابعون الشجار في صمت مُشوب بالاستمتاع فقد كان نضال يتنقل بنظراته عليهم بلا استيعاب..
_ومن منا لا يريده؟!
نطق ناهل تعليقه في تلقائية تطير لها الرقاب _أو رقبته فحسب_، وقد أدرك ذلك حالما جحظت عيناها في اللحظة ذاتها عندما هز هارون _الذي يجلس على بُعد قليل خلفها_ رأسه ناهيًا إياه بوقت مُتأخر، فازدرد لعابه ليستدرك في ارتباك:
_أعني.. جميعنا، كلنا نحتاجه، إنه يُصفي الذهن، يُساعد على الاسترخاء ويزيل ألم العضلات و...
لكنه قضم عبارته لمَّا أشار له هارون هامسًا يحاول منعه من الاستفاضة:
_اسكت!
_تتحدث وكأنك خبير! هل جربته؟
سألته في نبرة خفيضة أقرب للهمس أثناء اقترابها منه على مهل، تحدق فيه بنظرة من يحاصر فريسته بأحد الأركان، فافتعل ابتسامة وقال في براءة:
_وكيف سأفعل؟! كل ما قمت به أنني ضغطت على الرابط المُرفق بالرسالة فقط فنقلني إلى مجموعة خاصة بعروض التدليك و.. اتطلعت على بعض التجارب!
تمنى حقًّا لو لم ينطق آخر كلماته، وتأكد أنه في خطر محدق فور أن فغرت فاها في الوقت نفسه حينما همس هارون في غيظ:
_يا بُني اخرس!
استعادت أنفاسها التي ثقلت سريعًا ووضعت إحدى كفيها على صدرها مُتمتمة في استنكار:
_اتطلعت على بعض التجارب؟! يا مُصيبتي! أنا لن أعود معك إلى البيت..
ثم أشارت إلى جدها في صرامة:
_جدي! تصرف معه!
تأفف ياسر ثم قال لها في مُهادنة:
_صدقيه يا إيلاف! إنها رسالة مُكررة يتم إرسالها عشوائيًا إلى غالبية الشباب، لقد استقبلتها أنا أيضًا أكثر من مرة.
وأضاف في جدية رافعًا كفيه أمام صدره:
_لكن _كي أكون صادقًا_ لم يذكروا أية معلومة بشأن !vipالـ
ثم في بساطة لكز نضال الذي يجلس بالقرب منه صامتًا مكتوم الأنفاس على ذراعه مُردفًا بنبرة خبيثة:
_ألا ترى معي هذا التحيز؟! يبدو أنه عرض حصري للمتزوجين فقط!
احمر وجه نضال لا إراديًا، فتدخل لؤي مؤكدًا ببؤس حاملًا نظرة شاردة:
_وأنا أيضًا.. أُرسلت إليّ في مرحلة الثانوية.. ليلة اختبار التفاضل والتكامل.
رفع ناهل كفيه إلى جواره في إشارة إلى أن الأمر حدث معهم كلهم لكنها ظلَّت على تعبيرها الغاضب، بينما غمغم الحاج فؤاد مُستنكرًا:
_ولماذا لم يرسلوها إليّ أيضًا أولئك الأوغاد؟! أما من احترام لكبار السن؟!
همس ناهل باستغفار ثم نظر إلى هارون طالبًا تأييده وإلهائها، فسأله:
_وهل تلقيتها أنت أيضًا؟
اتسعت ابتسامة هارون فأمعنت زوجته النظر به في اهتمام اقتحمه إعجاب بات يتزايد بكل ما يخصه، ملامحه الجذابة، ثقته بنفسه، ونظرات الحب التي لا يتوقف عن إغداقها عليها، ثم انتبهت إلى إجابته التي جاءت لا مُبالية:
_لا، لم يرسلوا إليّ أية رسائل خاصة بالتدليك.
ارتسم تعبير ملئ بالفخر بعيني لين، بينما آخر بالامتعاض في عيني أختها تجاه ناهل!
_بل تسلمت رسائل أكثر عُمقًا وشفافية!
ندت شهقات متفرقة من النساء، بينما سعل نضال بحرج في الوقت نفسه حينما كانت خطيبته تغطي وجهها بكفيها كي تكبت ضحكة ستُثير استنكار الكثيرين!
وعندما كان ياسر ولؤي وجدهما يقهقهون بلا توقف مال ناهل تجاه هارون يسأله في نبرة ذات مغزى وبنظرة تعبر عن الكثير:
_شفافية؟!
أومأ هارون برأسه ومط شفتيه ليؤكد في مكر:
_شفافية!
ثم استدرك سريعًا وهو يختلس النظر إلى لين:
_لكنني كنت أحذفها على الفور، طيلة عمري وأنا رجل مُستقيم أتقي الله، ولهذا كافئني.
قال عبارته الأخيرة وهو يخص زوجته بنظرة مُعبرة لتبتسم له، فرمقه ناهل في استهزاء ثم جلس دون أن يعير إيلاف اهتمامًا!
"لا تقلق يا نضال! طالما لم تبدأ بالبحث عن رقم هاتف المأذون فهو لا يزال يمسك بزمام الأمور وسينتهي الشجار فجأة كما بدأ دون إنذار!"
قالتها غفران له حينما لاحظت التعبير المصعوق الذي التصق بوجهه، فسألها مُتعجبًا:
_أهما مُعتادان على هذا؟
أومأت برأسها وردَّت في تهكم:
_نعم، حبهما مُختلف بعض الشيء، صادق وعميق لكنه يودي بصاحبيه إلى القبر في سرعة.
تراجع في مقعده يرمي الجميع بلا استثناء بنظرات مُتشككة، لقد ظن منذ قليل أنه سيشهد انفصال هذا الثنائي المُثير للريبة، ولقد أورثه هذا قلقًا من أن يتم اتهامه _والعياذ بالله_ أنه علامة شؤم على هذه العائلة المُترابطة، إلا أنهم قد عادوا الآن لحديث مُشترك بمنتهى السلاسة وكأن شيئًا لم يكن.. عائلة غريبة حقًّا!
**********

"أنت منافق!"
في حنق وجه ناهل حديثه لهارون حينما كان ذلك الأخير يتبادل أطراف الحديث مع كل من نضال وياسر، فزفر في ضيق ثم ردَّ بهدوء مُشيحًا بكفيه في حركات منتظمة:
_لست مُنافقًا، هذا يُدعى ذكاءً اجتماعي، ينبغي عليك أثناء تعاملك مع زوجتك أن تتملقها كثيرًا، تطري عليها بأسباب وبدونها، تغازلها فور أن تستيقظ من النوم وقبل أن تخلد إليه، حينها فقط لن تجد الوقت للنبش خلفك ولن تضبط رسائل فاضحة على هاتفك!
والعبارة الآخيرة رافقتها نظرة ماكرة فهتف ناهل في استنكار:
_وهل تنطلي هذه المُخططات على زوجتك؟! كيف تجد الوقت لتفعل كل هذا بالأصل؟! ألا تعمل؟! أليس هناك ما يشغلك؟! حديثك وحده يبعث على الاختناق يا رجل!
تأفف هارون في يأس فتابع هو مُدافعًا:
_كما أن الرسائل ليست فاضحة!
ضحك ياسر في استمتاع فيما قال هارون مُتظاهرًا بالدهشة:
_تتابع عروض التدليك إذن! سأكون صريحًا وأخبرك أنني أيضًا قد فوجئت مثل إيلاف أو أكثر، أنت لا تترك هذا الانطباع إطلاقًا!
حك ناهل لحيته في ارتباك بينما توتر نضال في مقعده فأخذ يقف ويجلس أكثر من مرة بلا سبب، هامسًا في تكرار:
_أستغفر الله العظيم.. أستغفر الله العظيم!
بينما تمطى ياسر غافلًا عن قدوم جده من خلفه وقال مُبتسمًا في تسلية:
_أُفكر _بما أنني حر كالطير في السماء_ أن أُبِتّ في أمر التدليك هذا، لقد أثار فضولي، وأنا أتعب كثيرًا في المصنع كما تعلمون!
أومأ هارون برأسه موافقًا وعلَّق بلا تردد:
_إنه رائع ومؤثر! أنصحك بأن تجربه بالفعل!
ثم حانت منه نظرة إلى نضال الذي بدأ يدفع بأصابعه في شعره دون داع حتى كاد أن ينزعه قبل أن ينتبه:
_لماذا لا تمنحنا بعضًا من نصائحك يا عريس؟!
تطلع الثلاثة إليه في ابتسامة مُتسلية، فما كان منه إلا أن عقد حاجبيه ليقول في حنق:
_لا أريد، ليست لدي نصائح بهذا المجال بالأساس!
اقترب ناهل من هارون وهمس في أذنه:
_خبرتك أنه مريب، انظر كيف يبتعد بوجهه في حياء!
مط هارون شفتيه ممعنًا النظر بنضال وقال بهمس مماثل:
_أنت محق، هذا أمر يُثير القلق!
"أريدكم جميعًا!"
هتف بها الحاج فؤاد قبل أن يُتابعوا إزعاجه، فوقف ياسر قائلًا في سرعة:
_أنا لم أفعل شيئًا، كما أنني حفيدك لست صهرك، أما عما قلت لتوي فبالطبع كنت أمزح يا جدي!
ألقاه جده بنظرة ممتعضة وتمتم في تهكم:
_ليتك لم تكن تمزح يا حبيب جدك!
ثم استدار تجاه غرفة مكتبه صائحًا في صرامة:
_اتبعوني في الحال!
وحينما لحق به ناهل وهارون انتحى نضال بياسر جانبًا ليسأله في توجس:
_ماذا هناك؟
ربت ياسر على ظهره في تشجيع، ثم قال بلا اكتراث وهو يسير معه ناحية الغرفة:
_سيبدأ بتحذيركم بشأن حفيداته الغاليات المسكينات وما شابه، ويُقحمني معكم لأن اليوم عطلة ولا نشاط آخر لدي للقيام به، أو لأنه _ببساطة_ يتلذذ بتعذيبي!
**********

وقف خلف الأريكة التي يجلس عليها كل من ناهل وهارون ليلقي عليهما نظرة فخر لم ينتبه لها أحدهما وهما يتحاوران في خفوت، فخر ظل عالقًا بعينيه عندما انتقل بها إلى مقربة، حيث ياسر الذي يقف صحبة لؤي ونضال في حفاوة فيما كان حفيده الأصغر يعتذر من خاطب شقيقته لاضطراره تركه لبعض الوقت كي يستكمل مُذاكرته ثم سيعود بينما ذلك الأخير يبدو عليه قد تخلص من الارتباك الذي كان واضحًا عليه بالليلة السابقة.
ارتباك كان مُمتزجًا في وسيلة مثيرة للدهشة بثقة اتحدت مع عاطفة جياشة تنفلت منه تجاه غفران فيكافح هو للحد من إظهارها!
ابتسم مُستشعرًا دفء سرى اليوم ببيته، بين أفراد عائلته، وتسللت إليه راحة يؤسفه أن يعترف بارتباطها بغياب أفراد بعينهم!
أفراد يحملون اسمه مهما فعلوا، يشاركونه دمائه رغم تغلغُل سم الطمع بها، ويؤلمه مسارهم حتى مع إصرارهم على المضي قدمًا فيه دون الاكتراث لتحذيراته!
عاد يتطلع إلى ياسر في فخر طاله الإشفاق، ثم إلى لؤي في تفاؤل، ثم إلى ناهل وهارون الذين لا يزالان يتحدثان خفية بهذا الاستغراق وهما يُبادلان نضال نظرات مُدققة ترتع بها مَوَدَّة ظهرت منذ مدة مع روح مُشاكسة تنبئ بأواصر قوية ستنشأ بينهم جميعًا.
"انظرا إلى صهري الجديد!"
قالها فجأة مُبتسمًا في زهو وهو يضرب بعصاه على ظهر الأريكة كي يمنحانه اهتمامهما، ففعلا..
_الجميع منذ الأمس ينظرون إلى صهرك الجديد بالفعل يا حاج فؤاد، فهو مُلفت للانتباه كما ترى!
نطق بها ناهل في خفوت حتى لا يسمعه نضال الذي يُصافح لؤي، فضحك هارون وهو يضرب كفه بكف ناهل مُؤَمِّنًا ثم التفت إلى الجد وقال مُتظاهرًا بالوداعة:
_ناهل يُلمح إلى هذا الخجل الواضح الذي يعتريه، بالأمس ظننا أن هناك أحدًا ما لكمه على وجهه قبل وصوله!
بتعبير وافر الغيظ دار الجد دار حول الأريكة ثم توقف أمامهما قائلًا أثناء إشارته بعصاه إليهما بالتتابع:
_سأحتاج المزيد من الصبر كي أتحملكما معًا بآن واحد، ربما سينبغي عليّ أن أنُظم جدولًا ما بحيث يكون هناك فارقًا زمنيًا بين لقائي بأحدكما ثم الآخر ليسمح لي بالحفاظ على أعصابي بعد أن تُثيرانها!
ثم دون أن يستدير أشار بعصاه تجاه نضال الذي يتقدم منهم:
_هذه أشياء تُدعى الرصانة مع الوقار والحياء، ربما لم تسمعا عنها قبلًا!
وحينما التمعت نظرة مشاغبة بعينيهما معًا هتف بنبرة آمرة:
_أفسحا المجال لي! أريد أن أجلس.
وقف هارون سريعًا يمد يده إليه وينتحي جانبًا، لولا أن جذبه ليجبره على الجلوس إلى جواره.
عَمَّ صمت مُربِك لقليل من الوقت حتى قطعه الجد فجأة بعدما جلس كل من نضال وياسر على مقعدين قبالتهم، ليوجه حديثه إلى الأول في الآن ذاته حينما كان يُربت على فخذي كل من ناهل وهارون:
_جلال ولدي _رحمه الله وسامحه_ كان حاد الطباع، صارمًّا، لم يستطع التعامل مع بناته بما ينبغي، ولم يُقدر تلك النعمة التي وهبه الله إياها متمثلة في ثلاث عطايا لو أكرمهن لمنحه نعيم جناته.
عبس ناهل على الفور مُستعيدًا ذكريات عديدة تُثبت صحة ما قاله الجد لتوه، بينما تغضن جبين نضال بالمثل كاتمًا تعبير ساخر يوشك على فضح الراحل الذي أخفى كارثة أخرى لا يعلم بها والده حتى الآن!
أطرق الجد برأسه أرضًا، ثم حرر تنهيدة طويلة أعقبها بأن نطق في أسف:
_أنا حاولت الحلول مكانه، عملت على تعويضهن بكل قدرتي، لكنني بالتأكيد قد قصرت وليعف الله عني!
ثم رفع رأسه ينقل نظراته بين أصهاره الثلاثة وحدهم، وقال في جدية:
_هي أدواركم أنتم الآن إذن، أنا آمنكم على أغلى ما لديّ، كل واحدة منهن تمتلك حيزًا بقلبي لا يشغله سواها، لا أتحمل حزن إحداهن ولا أرضى بألم أي منهن.
ثم في حنين داعب إبهامه مسند عصاه، حيث اسم زوجته الراحلة محفورًا، له مُلازمًا، يهون عليه مرارة فراقها كلما تلمسه أو تطلع إليه.
_أدري جيدًا أن مشاعر قوية جمعت بين كل واحد منكم وشريكته، لكنها ليس بكافية، لن يستطيع الحب وحده التصدي لتقلبات حتمًا آتية، إن لم تكن هناك ثقًة، مؤازرًة، وصبرًا، سيكون الفشل هو المَرَدّ بلا ريْب.
توترت ملامح نضال رغمًا عنه بينما شرد ناهل قليلًا، ولما كان هارون يستمع في انتباه وياسر في تأثر تابع الجد بِرفق:
_لِذا اعتبروه رجاء عجوز اقترب أجله! تحملوهن قليلًا! فما تأصل فيهن لسنوات بالخطأ لن ينجلي بِلمح البصر.
ثم رسم ابتسامة مُحِبة وأردف في ثقة:
_وصدقوني! كل واحدة منهن تستحق الصبر، والفخر.
ثم وقف في تمهل فوقفوا جميعًا باحترام، ليختتم حديثه ببسمة سَمِحة تحمل حنانًا لا حد له:
_بالمستقبل، بعد أن يتآلف كل منكم مع زوجته جيدًا سيدرك أنني محق، وأنني لست مجرد جد يدافع عن حفيداته وينحاز لهن، ربما حينها سأكون بين يديّ ربي لكنكم ستدعون لي بالرحمة لأنني أهديتكم ثلاث هبات غالية.
دعوات بالحفظ وإطالة العمر تلقاها منهم في الوقت نفسه، فأومأ برأسه وارتكز بكفيه على عصاه ليترك ثلاثتهم مُتجهًا إلى حفيده، والذي تطلع فيه بِحَذَر وسأله:
_لماذا تنظر لي يا جدي؟
زم جده فمه في غيظ ثم هتف به حانقًا:
_العقبى لك يا سيد ياسر، أنتظرك منذ وقت طويل أن تُبدي رغبة بالأمر أو تمنحني أي أمل بأن هناك خطوًة لم تتخذها ولا تفعل، لم يعد هناك سواك!
_لا يزال هناك لؤي.
في احتجاج هتف ياسر، فصاح به جده بلا إبطاء:
_لؤي لا يزال طالبًا، كما أنه يصغرك بتسعة أعوام.
ثم رسم ابتسامة متوعدة وقال في نبرة آمرة:
_لقد أصبحت مُتفرغًا لك وانتهى الأمر، لنتناقش حول مواصفات الفتاة التي تناسبك ربما يكون نصيبك مع إحدى قريباتنا!
ولما خرج ياسر يغمغم بكلمات غير مفهومة في تبرم تبعه هارون ونضال وناهل، لولا أن سارع الجد بوضع يده على كتف ذلك الأخير ، ليلتفت إليه مُتسائلًا في دهشة، فما كان منه إلا أن عاجله مُوبخًا:
_من مُسَلَّمات الأمور أن يتابع الرجل رسائل هاتفه بانتظام ويحذف غير الهام منها قبل أن يتم ضبطه واتهامه عبثًا، اليوم استطعنا مُساعدتك، غدًا لن نكون معك كي نفعل، ولا ندري بأية مرحلة تحديدًا سنصل إليك، النساء اليوم لا يصعب عليهن شيئًا كما تعرف، ها أنا قد أبرأت ذمتي ونصحتك!
قال عبارته الأخيرة رافعًا كفيه بينهما، ثم تخطاه إلى الخارج تاركًا إياه يحدق في إثره بتوجس!
**********

في عبوس اتجهت إلى أختها التي تُشير إليها منذ قليل بأنها تريد الانفراد بها، ولأن مزاجها تعكر تمامًا منذ طالعت هاتف زوجها فقد حاولت تجاهلها، لكن يبدو أنها مُصممة!
"لِمَ هذه الفضائح؟! لقد استلم الشعب بأكمله تلك الرسائل، بدلًا من أن تُثيري ضجة افعليها أنتِ!"
استقبلتها لين في صوت خافت مُشبع بالغضب، لتتأملها إيلاف في دهشة وهي تحاول استيعاب قصدها، ثم سألتها في استنكار:
_أتهذين؟! أفعل ماذا؟!
هزت لين كتفيها وقالت في تلقائية:
_التدليك، ما الغريب بالأمر؟!
وضعت إيلاف إحدى كفيها على فمها واختلست النظرات المُتوترة لوالدتها وعمتها اللتين تجلسان على مسافة قريبة منهما، ثم عادت تهمس لها بذهول:
_أتتوقعين مني أن أقوم بهذا؟! وهل ترتضينها لنفسك؟!
اضطربت عينا لين وأشاحت برأسها بعيدًا، فمسحت إيلاف وجهها لتقول بلا تصديق:
_يا للفضيحة! أنتِ بالفعل ترتضينها لنفسك!
تنهدت لين بملل لترد في عناد امتزج بالسخرية:
_وماذا فيها؟! إنه زوجي، أليس هذا أفضل من أن ألطم وجهي ذُعرًا كلما تلقى أحد العروض؟!
"إذن.. أهناك تقنية مُعينة أو أسلوب خاص؟"
بهذا السؤال حشرت غفران نفسها بينهما بعد أن استمعت في اهتمام إلى حديثهما، نظرت لها الاثنتان في توبيخ فقالت في نبرة دفاعية وهي تُشير بإبهامها إلى إيلاف:
_لقد خُطبت بالأمس وسأتزوج خلال أشهر، أظنني بحاجة إلى بعض المعلومات الإثرائية حتى لا أكون بلهاء مثلهاَ!
ثم تابعت مُبتسمة في تملق لأختها الكبرى:
_سأتخذكِ مثلًا أعلى يا لين، أشعر أنكِ تخفين الكثير خلف هذه الملامح البريئة وستُفيدينني!
لمعت عينا لين بزهو ولم تتردد لتسحبها تحت ذراعها قائلة في حماس:
_سنبدأ من الزيوت العطرية، لكن تعالي لنبتعد قليلًا عنها كي لا نخدش حياءها!
في سخط نظرت غفران لشقيقتها لتقول كاذبة في براعة أثناء ابتعادها مع لين:
_دومًا ما كنت أدعو أن يُعينه الله عليها!
وحيدة، حانقة، شاعرة ببعض الندم على الموقف الذي وضعت نفسها وزوجها فيه أمام الجميع وقفت بعد أن تركتاها وانصرفتا، صحيح أن أفراد عائلتها قد شهدوا بعض الشجارات المُماثلة من قبل ولم ينصفها أحدهم بأي منها، لكن خاطب شقيقتها لا يزال غريبًا نوعًا ما وليس من المُناسب أن يُكَون انطباعًا مُتمثلًا بجنون الغيرة عنها أو بالعبث عن زوجها!
والتفتت تلقائيًا إلى ذلك الأخير تستأنف مراقبته لتجده يرمقها في إصرار، في غيظ، وفي كبت يوشك على الانفجار..
شمخت بأنفها مُتظاهرة بعدم الاكتراث، فاصطنع أنه يحك لحيته، قبل أن يضم أصابعه أسفل ذقنه.. ويتوعدها بنظرته!
ابتعدت بنظراتها عنه فوقعت على إحدى العاملات بالمنزل، تتبعها فتاة في خطوات حيية..
"السلام عليكم!"
ألقت الزائرة تحيتها في حرج بعد أن لاحظت الجمع الذين توالت ردودهم تباعًا، واكتنفها الندم في وقت متأخر فقد طالتها بعض النظرات المُتسائلة، حتى اتجهت امرأة جميلة إليها وبادرتها في ترحيب:
_وعليكم السلام، لقد رأيتكِ البارحة في المصنع، أهلًا بكِ يا آنسة...
نظرت لها مُبتسمة بتوتر وقالت بصوت خافت:
_سلام.
ثم تنحنحت في ارتباك وثبتت نظراتها على الشيخ الذي يتصدر الصالة، الذي أتت في الأصل من أجله، والذي يتطلع فيها الآن بإمعان، وأضافت:
_اسمي هو سلام!
صافحتها لين وهمَّت بالترحيب بها حينما ارتفع صوت ابن عمتها خلفها:
_إنها.. الآنسة سلام، ابنة شقيق الأستاذ ضياء..
هتف ياسر وهو لا يزال يرمقها في تعجب ثم أشار إلى الجميع مُتابعًا:
_إنهم... أفراد عائلتي!
ومدَّ إحدى كفيه أمامها مُردفًا في ابتسامة زائفة:
_نستأذنكم! تقدميني يا آنسة سلام من فضلكِ!
أوشكت على الرفض لكنها لم تجد ضررًا من سماع ما لديه.. ربما يُساعدها!
...
"من تلك الفتاة؟ ولماذا سحبها ابنكِ وراءه على عجالة؟!"
في حيرة ألقى الجد بسؤاله على ابنته ونظراته مُثبتة على الباب الذي خرج منه حفيده بصُحبة الزائرة التي ظهرت لتوها من العدم لتختفي قبل أن يفهم أحد سبب حضورها، ثم تابع في قلق:
_اللعنة! إن اكتشفت أنه أيضًا لديه أسرار شائنة سأقضي نحبي في الحال!
اعتدلت أماني في مقعدها لتقول في استنكار:
_لا يا أبي! كيف تظن بياسر سوءًا؟! إنها ابنة شقيق مُعلمه السابق، لقد التقيت بها عندما..
توقفت التكملة بحلقها، فأتمها هو حادجًا إياها بنظرة ساخطة:
_عندما كنتِ تتقصين خطواته، فهمت!
ظهر الذنب بعينيها فَوَلَّت وجهها إلى اتجاه آخر لتغتم نفسه هو، ربما لا يعجبه دور الحارس الذي تقوم به مع ابنها، لكنه أيضًا لا يعجبه ما آل إليه حالهما!
سارعت لين بالقول في حماس:
_لا تقلق يا جدي! لقد رأيتها بالأمس في المصنع، وكانت ردة فعله مماثلة، توتَر، غَضِب، ثم انطلق إليها وتحدثا في غرفة مكتبه بمفردهما!
_ياسر!
والاستنكار صدر عن ناهل ولؤي معًا، وبينما كان الأول يستخف بما قالت لين فإن الآخر شعر ببعض الغدر، فلم يذكر له ياسر تلك الفتاة على الإطلاق رغم أنه لا يخفي عنه أي شيء!
_وكيف يُفترض بهذا أن يُطمئنني؟
في استهجان علَّق الجد مُتسائلًا، فاندفعت إيلاف توضح وهي لا زالت لم تستوعب بعد:
_لين تقصد أن التوتر والغضب والانفعال المُبالَغ به يعنون أن هناك بعض المشاعر التي يمتلكها تجاهها لكنه لا يُظهرها فيصطنع النقيض.
وأضافت وهي تنظر إلى زوجها في زهو:
_اسألني أنا يا جدي، فأنا خير دليل!
تناول ناهل كوب الماء الذي وُضع على المنضدة قبالته، وتظاهر بالشرب مُتمتمًا في سخرية:
_أتمنى ألا يكون له مثل حظي فيضطر للانتظار ثمانِ سنوات حتى يُضئ عقلها بالفهم أخيرًا!
**********


"ماذا تريدين؟ لِم أتيتِ إلى عقر داري؟!"
في حنق عاجلها صائحًا ما إن خرجا أمام بوابة البيت، وهو ما أشعرها بغيظ وندم لِحُسن ظنها به، فواجهته في ثبات:
_لم آتِ من أجلك أنت، ولو أعلم أنك ستكون هنا الآن لم أكن لأحضر بالتأكيد، لقد حاولت تخير الوقت حين تكون غائبًا لكنني فشلت مع الأسف!
رمقها في تهكم مُعلقًا بسخرية:
_وأين سأكون بالساعة الثامنة مساءً في رأيكِ؟!
هزت كتفيها لتُجيبه بلا اكتراث:
_وما أدراني أنا؟! الشباب بالخارج يملئون المقاهي والطرقات، ما ذنبي أنك شخص ملتزم يفضل المكوث بالبيت؟!
_أتستمعين إلى نفسكِ؟! أتعيرينني بأنني لا أتسكع بالخارج؟!
ناظرها في استهجان فردَّت دون تمهل:
_لم أعنِ ذلك، كنت أُلمح فقط لشذوذك!
وضع كفه على موضع قلبه وهو يتلفت حوله في هلع خوفًا من استماع أحدهم فيما حمل وجهه تعبيرًا يُدَرَّس عن الصدمة قبل أن يجد صوته ليتمتم في ذهول وهو يستدير إليها ثانية:
_غير مؤهلة عقليًا! أقسم أنكِ غير مؤهلة عقليًا!
انتبهت إلى ما قالت وتأثيره عليه فحاولت تدارك الأمر قبل أن يسقط أرضًا أمامها، فقالت بسأم:
_قصدت شذوذك عن عادات غالبية الشباب، ربما لست سيئًا بآخر الأمر!
جابت عيناه عليها بتعبير ينتمي لرجل مجنون، ثم هتف في انتصار بعد أن عثر على هدفه:
_الساعة الثامنة بالفعل وأنتِ من تحملين مظلة بلا أمطار ولا شمس، وتتحدثين عن شـ.. عن اختلافي؟!
عبارته خرجت متوترة قبل أن يُعدلها، إلا أنها لم يبد عليها أي تأثر وهي تشد قامتها وتقول في إباء:
_إنها تمنحني مظهرًا كلاسيكيًا، ولا قانون يقضي بمنع حمل المظلات في المساء كما أظن!
وضع كفه على فمه حتى لا ينطق بما لا يليق، ثم ما لبث أن قال في حنق مُكلل بالتهكم:
_أتعلمين _يا فتاة المظلة!_ أنني لم أتخلص من تأثير لقاءنا بأمس الأول؟ لم تمر ثلاثة أيام كاملة بعد وها أنتِ ثانية!
ولِدهشته فقد ابتسمت بلا اكتراث ثم جذبت منديل رأسها السفلي إلى الأمام بعد أن انحسر كعادته، وقالت في لُطف بقدر ما أثار انتباهه أوقد غيظه:
_لا ينبغي أن تحاول التخلص منه يا سيد ياسر، بل ربما ستضطر لأن تعتاد لقائي كثيرًا من الآن فصاعدًا.
وعندما ظل مُحدقًا بها فاقدًا الكلمات المناسبة التي تعبر عن مدى استنكاره، ورفضه، تابعت في الابتسامة نفسها والصوت الهادئ الذي أجج سخطه أكثر مما يحتمل:
_الخلاصة! أنا هنا للتحدث مع الحاج فؤاد الكردي لا سواه بشأن هام وخاص للغاية، ولا وقت لديّ للثرثرة معك أنت!
وبكل قدرتها على اللا مُبالاة تجاوزته وهي تُعلق مظلتها على ساعدها لتعود إلى الداخل في ثقة وكأنها نشأت وترعرعت بهذا المكان، اتسعت عيناه وتلبسه الجنون فيما مسحت نظراته الأرض بلهفة، ثم التقط حصاة صغيرة ألقاها صوبها دون تردد، لكنه _مع الأسف_ أخطأ الهدف، فقد دلفت إلى الداخل بالفعل!
**********

على المقعد خلف مكتبه جلس مُتمسكًا بقبضتيه بمسند عصاه التي لا تفارقه، يتطلع إلى سلام في ترقب وينتظر تخلصها من حالة الارتباك التي ازدادت حالما دخلت..
_شرفتِ بيتنا يا بُنيتي، كيف حال الأستاذ ضياء؟
بادرها في مُحاولة لتبديد اضطرابها، فأجابته بصوت مُتحشرج بعض الشي:
_إنه.. بخير.
وجنحت إلى الصمت مُجددًا بعد إجابتها المُقتضبة فأخذ يرمقها في حيرة، بينما كانت تُرتب الكلمات في ذهنها لليوم التالي بعد أن فشلت بالأمس في إلقاءها على حفيده..
لكن.. لهذا الرجل هيبة سمعت عنها كثيرًا من العمال بالمصنع، ومن عمها نفسه حين التقى به في حفل زفاف إحدى حفيداته، ولأنها رسمت صورة مُختلفة له في ذهنها قبل أن تصل فقد دُهشت الآن من الواقع..
ظنته رجلًا بِعقده الثامن يُعاني من أمراض شتى لا يقوى على رَفع رأسه، لتجده موفور الصحة، قوي البدن، يُحدق بها في ثبات لا تملكه هي صاحبة الخمس والعشرين عامًا أمامه!
_لقد خبرني ياسر من قبل عن نصيحتكِ بشأن البلاغ الكيدي الذي قُدم ضدنا.
لم تفطن إلى الخيبة المُتوارية خلف عبارته التي قصد بها جذبها إلى الحوار الذي أتت من أجله ويُثير بها هذا الخوف الواضح، ويبدو أنه نجح نوعًا ما، فقد ابتسمت سريعًا لتقول له في فخر:
_إنها نصيحة عمي بالأصل وأنا نفذتها فحسب، عمي ضياء رجل ذو ضمير يقظ لا يتحمل السكوت عن شهادة حق مهما كانت التحديات.
أومأ برأسه مُوافقًا واسترخت ملامحه وهو يُعلق:
_لقد أصابت وجهة نظري به تمامًا.
دارت عيناها يمينًا ويسارًا فيما أخذت تُدير عصا مظلتها بين أصابعها في ارتباك، أوشكت على العودة إلى الصمت المُضطرب ثانية، لكنه سارع بسؤالها فجأة في اهتمام:
_ما رأيكِ بحفيدي ياسر؟
_إنه مُتعجر..
عضت على شفتها السُفلى وأسدلت جفونها في أسف فلم تلمح ابتسامته الماكرة، توردت وجنتاها حرجًا فظنه هو بِفِعل الحياء، ثم فتحت عينيها لترد في أدب أجبرت نفسها عليه:
_أعني.. إنه شاب مهذب.
وضع عصاه جانبًا ثم مال ليستند بساعديه على المكتب وسألها:
_لماذا لم يأتِ عمكِ معك؟
أجلت حنجرتها وشبكت أصابعها في قوة، ثم قالت تستمد بعض الشجاعة من سيرة عمها:
_في الواقع هو لا يعلم بأنني أتيت بالأصل، ولا يعلم بما أفكر به منذ فترة، ولقد ترددت كثيرًا لكن بآخر الأمر وجدت نفسي هنا.
عقد حاجبيه وراقبها تعدل من وشاحها في ارتباك، ثم تابعت في حرج:
_لا أدرك صواب فِعلتي، لكن.. لكن أتمنى أن يظل الأمر سرًا بيننا مهما كان ردك.
_لقد أثرتِ قلقي يا بنيتي، تحدثي مباشرة ولا تخافي! أعطيكِ الأمان تمامًا.
قالها لها في صدق، تأملته مليًّا فاجتاحتها راحة لا تعلم مصدرها، ورغم ذلك ضحكت في خفوت ثم قالت بتردد:
_أعلم بأنك ستنعتني بقليلة التهذيب أو.. أو جريئة أكثر من اللازم، لكن..
بترت عبارتها حينما وصل توترها إلى مرحلة عالية، إلا أنها تخلصت من تأثيره دفعة واحدة لتقول في جدية:
_لكن يُشرفنا أن نُصاهر عائلتكم يا حاج فؤاد.
قليلًا ما تنتابه الدهشة، بعمره هذا خبر الكثير وتعرض للأكثر مما يورثه الذهول، لكنه اعتاد المفاجآت، والصدمات، وما هو غير مُنتظر من الأفعال..
إلا هذه الفتاة بسيطة الملامح، ذات الذكاء والإصرار الذين يشعان من عينيها، والكثير من الشجاعة مع بعض التردد _الذي يبدو دخيلًا عليها_ أثارت اهتمامه، وربما.. إعجابه!
_أعني أن..
أردفت بغية الإيضاح فأوقفها بكفه، وتراجع في مقعده، ثم استعاد عصاه قائلًا بنبرة لا يستطيع أحد مُجادلته بها:
_كفى يا بنيتي!
نظرت له في رجاء نبع من خوفها أن تفقد أملها الأخير..
أملها في دعم عمها، في مُساعدته على اللحاق بأي قدر من السعادة والاستقرار اللذين يستحقهما؛
أمل بدأ يتلاشى وهي تتطلع إلى الرجل الذي يُواجهها وكأنه قرأ عقلها وحفظ ما فيه ككتاب مفتوح..
وأمل عاد إليها مُندفعًا ما إن تحدث في قوة:
_دعي تتمة الأمر لي! سيكون بالشكل اللائق حسب التقاليد، وسأتواصل أنا مع عمكِ لترتيب أمر الزيارة.
"بهذه البساطة؟!"
قفز السؤال من نظرة عينيها المُندهشة، ومن صمتها المُتعجِّب الذي طال حتى أضاف هو في حنو:
_أحيانًا يضطر المرء للسعي بنفسه خلف الخطوة الصحيحة حتى إن استنكرتها الغالبية، ولقد قمت بأمر مُشابه فخالفت كل العادات المعروفة من قبل لأجل إحدى حفيداتي _والتي هي بمثل عمركِ_ ، ولتعلمي أنني أحترمكِ كثيرًا، فأنا أقدر الفتاة القوية التي تسعى خلف ما تريد طالما لا يتعارض مع الدين.
"أحقًّا بهذه البساطة ؟!"
والارتياب الذي طلَّ من ملامحها نطق به لسانها في تعجب:
_حقًّا؟!
ابتسم في أبوة وأطلق تنهيدة حارَّة بدت لها درامية بعض الشيء، ثم جاءتها كلماته وكأنها صادرة عن أحد أعمدة المسرح القومي حتى أنها أوشكت على سماع صدى لآخر عباراته:
_ربما تظنينني في سني هذه لا أستطيع التواصل مع جيلكم بسهولة ولن أقوى على فهمكم، لكنني أشعر بكم وأستوعب صراعاتكم، ألتمس الأعذار على حماقاتكم المُتكررة ولا أتوقف عن الدعاء بصلاحكم أبدًا!
عقدت حاجبيها وتفحصته في محاولة للفهم، ثم ما لبثت أن علَّقت في توجس:
_لقد التقينا منذ عشر دقائق فقط!
أدرك أنه قد استرسل أكثر من اللازم في خواطره معها، فاستعاد صرامته ليتنحنح ثم استطرد:
_لِذا لقد فعلتِ الصواب حينما جئتِ إليّ، ولتتأكدي أن حديثنا هذا سيرحل معي إلى القبر.
سارعت تهتف في صدق:
_أطال الله في عمرك يا حاج فؤاد!
فاتسعت ابتسامته ليقول في سماحة:
_بإمكانكِ منادتي بـ "جدو فؤاد" كما يفعل الجميع.
حررت زفيرًا عميقًا مُرتاحًا بعدما انحسر خوفها تدريجيًا لتحل محله طمأنينة وفرها لها هذا الرجل الذي جنبها الحرج.. ويبدو أنه _على عكس حفيده_ سيكون داعمًا لها في أمر زواج عمها من ابنته.
**********

"ياسر!"
توقف على بُعد مسافة قليلة من البوابة الخارجية ليستدير إلى والدته التي اتجهت إليه تسأله في اهتمام:
_هل ستخرج الآن؟
بملامح واجمة أجابها في اقتضاب:
_نعم، لماذا تسألين يا أمي؟
همَّت بالرد لكنه فتح هاتفه ليعرض عليها رقمًا ما بجهات الاتصالات قائلًا:
_ها هو رقم أحد أصحاب المعارض الذي يرغب بلقائي الليلة لأنه سيسافر بالفجر، لم أستطع الذهاب للقاءه أبكر قليلًا بسبب وجود نضال فلم يكن من اللائق تركه بأول زيارة بعد الخطبة، وإن لم أذهب الآن سأضطر لانتظار الرجل أسبوعًا آخر كي أُبرم معه العقد، أترغبين بمرافقتي كي تتأكدي مما أقول؟
أُخِذَت بهجومه الذي شَنَّه بلا داع، ورغم هدوء صوته فقد شعرت بالإيلام جراء اللوم المسموع به، فقالت في أسى:
_لا يا بُني، أنا.. ظننتك ستتمشى قليلًا فوددت أن تصحبني معك، لكن اذهب إلى العمل! ليحفظك الله ويُعيدك إليّ سالمًا!
وابتعدت؛
ابتعدت وتركت لطمات الندم تنهال على روحه؛
وبعدما كان يقبع تحت وطأة الغيظ والغضب منذ ظهور سلام الغريب وانفرادها بجده ثم رحيلها في غموض أعطته أمه سببًا آخر للغضب.. من نفسه!
ربما حان الوقت كي يتقبل حقيقة أن والدته ستبقى إلى الأبد تراه كطفل صغير، تخاف عليه كأنه رضيع، وترتاب فيمن حوله كأنهم يتربصون به كأعداء لا قِبَل له بمواجهتهم بمفرده!
كاد أن يعود إليها كي يُبدي أسفه إلا أن صوت هاتفه ذكَّره بموعده فارتأى أن يؤجل اعتذاره حتى يعود.
**********

في خفة ألقت بجسدها الرشيق على المقعد الخشبي العريض بحديقة المنزل، وفي رقة رمت برأسها على صدر جدها ليُحيطه بذراعه، وفي صمت أخذ كلاهما يتأمل صفاء السماء بهذه الليلة مُعتدلة الطقس..
"ماذا بها عمتي يا جدي؟ يبدو عليها الضيق الشديد."
افتتحت حوارهما مُستعيدة هيئة عمتها الحزينة التي رأتها وهي آتية إليه، فسمعته يُعلق في سخط:
_بالتأكيد قال لها ذلك المُتخلف ما أزعجها..
ثم أردف في توعد:
_حسنًا، سيكون لي حديثًا مُطولًا معه ما إن يعود!
خمنت هي أنه يقصد ياسر، ولأول مرة ترى أنه _أي ياسر_ مُخطئًا بحق والدته، ربما هي _كما الجميع_ لم تستسغ وسائل عمتها في حماية ابنها، لكنه بالَغ كثيرًا في جفاءه معها!
_لقد فضحتنا شقيقتكِ أمام خاطبكِ، للأسف لم يسعفني الوقت كي أتدارك الأمر قبل أن ينفلت جنونها أمامه.
ضحكت في مرح وقالت:
_لا تهتم يا جدي! بعد أشهر سيصبح فردًا من العائلة وسيعتاد الأمر.
هز رأسه رفضًا في بطء، وبصوت شارد عقَّب:
_أنا لم أتدخل إلى الآن وأؤنبها بجدية لأن زوجها طلب مني أن أدعها تتصرف كما تشاء، لكن الليلة كدت أنفعل عليها بالفعل.
اعتدلت غفران تنظر له في تعجب وسألته بلا فهم:
_ولماذا طلب منك ذلك؟! ظننته سيشكوها إليك!
أشاح بإحدى كفيه مُمتعضًا، وردَّ في حنق:
_سينقلب عليه تدليله إياها يومًا، وإن طلب مني أن أساعده لن أفعل!
ضحكت مُجددًا ثم علَّقت في تهكم:
_أي تدليل هذا؟! عذرًا يا جدي، أظنك تتحدث عن ناهل آخر غير من نعرفه منذ سنوات.
نظر إليها في إمعان وطال صمته قليلًا، ثم قال في استخفاف:
_وهل يتمثل الدلال بالنسبة لجيلكم في كلمات الحب المُستمرة ونظرات الهيام الدائمة مثلما يفعل ذلك العاطفي زوج لين؟!
ندت عنها ضحكات مكتومة لم تستطع منعها، ليست المرة الأولى التي تلاحظ ذلك الحنق الذي يعتريه بسبب زوج أختها ومشاعره التي لا يخفيها تجاه زوجته، ربما هناك بعض الغيرة أيضًا تنتابه على ثلاثتهن، لكن يبقى هارون هو أكثر من يُثير غيظه!
_أنا أتفهم ناهل، هو يحبها، يذوب بها، ربما إلى الآن لا يصدق أنها زوجته حقًّا، ويدرك أنها بحاجة إلى الأمان والاطمئنان، لكن أخشى أنه يتبع طريقة خاطئة في العلاج..
انتبهت للجدية التي توجت كلماته، فعقدت حاجبيها لتستفهم في قلق:
_علاج من؟
_إيلاف.
اتسعت عيناها في دهشة فابتسم مُستهجنًا، وسألها في استنكار:
_أتظنينها قد شفيت تمامًا من خيانة ابن عمتها؟!
وبنفسه أجاب سؤاله هازًّا رأسه نفيًا، ثم أكد بلا تردد:
_إيلاف تضع تجربتها السابقة نُصب عينيها، تحاول إثبات أنها ليست بالحماقة التي صورها لها هاني، وتعمل على عدم تكرار الخطأ ذاته مرتين..
سكت هنيهة وأطلق تنهيدة مهمومة ليتابع في شرود:
_لكنها تقع في خطأ أكبر، إنها كمن تعرضت لمرض بسبب الإهمال، وبعدما منَّ الله عليها بالشفاء ظلَّت طوال عمرها تتناول الأدوية تحسبًا..
وأضاف مُتسائلًا:
_أوتعلمين ماذا ستكون النتيجة؟
ثم ردَّ في اقتناع تام تعارض مع القلق الذي تلبس محياه:
_ستُصاب أعضاؤها واحدًا تلو الآخر، ستغدو جارية لمرض مزمن، وسيصبح الوسواس سيدًا لها ومُتحكمًا بجميع أمورها!
_لقد أثرت خوفي يا جدي، أعتقد أنك تبالغ قليلًا.
تكلمت في توجس وهي تلحظ جديته وشروده، فقال بأسى:
_ليتني أبالغ يا غفران، لكن نظراتها اليوم نبأتني أنها لا زالت لم تمنح زوجها كامل ثقتها بعد، ووضعتني في حيرة بين إشفاقي عليها وغضبي منها!
ورغم عدم اقتناعها بالصورة التي رسمها لها فقد علَّقت كي تُطمئنه:
_سوف أتحدث معها.
أومأ برأسه موافقًا ثم فكر قليلًا وحدَّق بها ليقول فجأة:
_بالمناسبة! لقد اعتذرت لي عمتكِ عزة بالأمس.
تلقائيًا عاد الغضب إلى وجهها، فرغم الهلع الذي ارتسم على ملامحها بالليلة الماضية ما إن ظهرت عمتها وزوجها وولداها بالحفل فقد تنفست الصعداء فور انصرافهم السريع..
ظهور خاطف، حوار لا تعرف عنه شيئًا، ورحيل غامض!
لم تر نظرات جدها المُدققة وهو يراقب شرودها..
هناك ما لا يزال جاهلًا به بهذا البيت، هناك ما دار في الخفاء ويتكتم حوله الجميع، وهو يهاب اكتشافه لكنه لا يقوى على كبح فضوله جنبًا إلى جنب مع خوفه!
_كما أن سمير أبدى ندمه، بينما قَبَّل عمرو يديّ واعتذر عن المشاركة في تقديم ذلك البلاغ ضد المصنع، وأقسم أن قضية الحجر كانت نتيجة لمزات شيطان لكنهم لم يكونوا ليفعلوها مُطلقًا.
_وهل تصدقهم؟
والاشمئزاز الذي نطق به صوتها لم يندهش له، بل أكد له صدق ظنه، ورغم ذلك رد في صراحة:
_لا أبتاع كلامهم بجنيه واحد!
لكنه أضاف يسألها في اهتمام:
_ما رأيكِ بأن أوافق على عودتهم إلى المنزل؟
تلكأت أنفاسها وقد هزتها احتمالية غياب الأمان الذي تنعمت به منذ رحيلهم..
هل ستتخذ احتياطاتها مُجددًا فتوصد باب غرفتها بالمفتاح كل ليلة، وتحافظ على عصا المكنسة بالقرب منها، أو صاعق كهربائي كامل الشحن أسفل وسادتها؟
هل ستتحمل النوم المُتقطع ثانية وهي التي منذ فترة قصيرة فقط باتت تستغرق في نومها حد الإغماء؟!
وهل ستعود للانعزال بغرفتها حتى لا تلتقي بأي ممن ذبحوا حقها وكمموا صرخاتها؟!
أو.. هل تقص عليه الآن كل قاذورات ماضي حفيده، وابنته، و.. ابنه!
لا جدوى! لقد تحملت لعشر سنوات والآن ما عليها إلا أن تتحمل بضعة أشهر فقط فترحل هي، هذا ما اهتدى إليه قرارها، فنزعت عينيها عنه وقالت في إذعان:
_كما تشاء يا جدي، إنه منزلك بآخر الأمر.
لم يفته الصراع الذي دار بداخلها لكنها خرجت منه مهزومة على غير عادتها، صراع سيضطر للمرة الأولى لتأجيجه لا إنهائه!
_بل هو ملك عمتكِ أماني الآن، وربما عودة عزة وأسرتها ستوفر العداوة والبغضاء بينها وبين شقيقتها حال وفاتي.
قالها في رفق، فسارعت تُقبل يده وتقول:
_أطال الله بعمرك يا جدي!
تعلقت عيناه بها في حيرة، ثم في محاولة أخيرة يستحثها على البوح سألها:
_ألا مانع لديكِ من عودتهم؟
ابتسمت في توتر وردت بكذب واضح:
_وما شأني أنا؟
زم شفتيه وعلَّق في خفوت وهو ينظر أمامه:
_حسنًا! ليفعل الله ما فيه الخير!
وحينما أدرك أن صفاء الجلسة قد تعكر استطرد في مكر:
_لقد أعجبني نضال بالأمس عندما لم ينتهز الفرصة وجعل والدته هي من تساعدكِ على ارتداء "الشبكة"، وأتوسم فيه الخير، الآن أفهم لماذا كان يحاول في إصرار أن يقنعني بعقد القران ريثما تستعدان للزواج.
ظلل الهيام عينيها ما إن استمعت إلى شهادة جدها بحقه وهو الذي قلَّما أبدى رضاه، ليُضيف هو في قوة:
_مُهذب، لَبِق، على خلق، خجول ويحترم شعور الآخرين.
ثم أردف في تبرم:
_ليس مثل زوجيّ أختيكِ المخبولين!
مدَّت شفتيها ترسم البؤس وقالت في عتاب:
_ليتنا وافقنا على عقد القران يا جدي لكان استطاع التعبير لي عن مشاعره ببعض الحرية!
قالتها ثم تأوهت وهو يقرص إحدى ذراعيها وقد اتسعت عيناه استنكارًا ليزجرها في حنق:
_استحي قليلًا يا بنت!
عادت ضحكاتها خالصة السعادة، فالتفت يتمتم في امتعاض:
_عجبًا لفتيات هذه الأيام! يقلن ويأتين بآخر ما نتوقعه! ابتُليت بمجنونة تظن أن المدلكات يقتلن أنفسهن أسفل قدمي زوجها الهمجي، ومائعة تُسبل عينيها طيلة الوقت لزوجها أمام الجميع، والأخيرة قليلة التربية ترغب بعقد القران حتى تحصل على بعض الحرية، ثم أخرى تطلب..
هبَّت واقفة لتقاطعة هاتفة بكلمات متلاحقة:
_أية أخرى؟! أية أخرى يا جدي؟! أهناك أخرى؟!
ثم رفعت سبابتها مُحذرة وهي تتابع:
_إياك أن تفاجئنا مثل الأفلام بأن لك حفيدة أخرى لا نعلم عنها شيئًا!
على مهل وقف يمسك بمسند عصاه مُكتفيًا بتعبير فائض بالغيظ، ثم أولاها ظهره ورحل تلحقه ضحكاتها بلا توقف، وما إن دخل إلى البيت حتى التفت يبتسم لها في رضا.
عادت إلى المقعد تتأمل الفراغ حولها في امتنان رغم ما خبرها به جدها منذ قليل، لكنها اتخذت عهدًا على نفسها بألا تسمح لِما حدث بالماضي بإفساد حياتها أكثر، يكفيها عشر سنوات من الوحدة والقنوط والكراهية وظلم من لا ناقة له ولا جمل في قهرها..
تناولت هاتفها وفتحت تطبيق التواصل، ضغطت المُحادثة المُثبتة منذ ابتاعت هذا الهاتف، مُحادثة كانت من طرفين حتى جنى أحد طرفيها على الآخر فصارت الرسائل كلها مُرسَلة.. دون أي رد!
"لقد زارني نضال اليوم، الجميع كان حاضرًا، جميع من أحبهم، إلاكِ أنتِ، افتقدتكِ بشدة يا سدن وتمنيتِ أن تكوني معي، تسعدين لي، تشهدين على استنئنافي حياتي بصورة طبيعية كما ظللتِ تدعين لي كثيرًا!"
وبلا أمل بالحصول على رد أضافت:
"ألن تغفري لي؟"
**********

بمحرمة ورقية ناعمة جففت الدمعات المُتسابقة على وجنتيها رغم الابتسامة التي زينت ثغرها ونظرة العاطفة الغزيرة المُطِلَّة من جمال عينيها، أنامل يُمناها المرتجفة تُقلب صفحات دفتر الصور البلاستيكي القديم، ومع كل صفحة تتعاقب عليها مشاعر مُتباينة..
هنا كان رضيعًا يجلس على فخذيها عندما حاول خاله حمله عنها فتشبث أكثر بها؛
هنا صار طفلًا يبدو دخيلًا على صورة تجمع ابني خالته، لكنه يضحك في براءة لمن يلتقطها؛
هنا استحال إلى فتى، وحيد، يتيم، لتوه تلقى تعنيفًا من خاله جراء خطأ ما، فأخذت هي تداعبه حتى ترفه عنه فما كان منه إلا أن عبس أكثر مُستهجنًا دغدغتها إياه وقد أصبح أطول منها؛
وهنا.. في حفل زفاف لين وخطبة إيلاف، تتأبط هي ذراعه في فخر، في حب، في حنو، فهذا الشاب الرائع هو كنزها، إرثها.. ابنها!
لم تنجب غيره.. لا تملك سواه؛
لو خُيرت بين أي ألم في العالم وسعادته لما ترددت لحظة واحدة في احتضان أشد الآلام لتفوز بابتسامته؛
هو.. صديقها!
لم تخبره من قبل عن دوره بحياتها حتى وإن كان ساكنًا، غاضبًا، غائبًا؛
لم تخبره أنها من أجله تحملت زوجًا جاف الطباع حاد التعامل، وكانت على استعداد لتحمله طوال عمرها لولا أن الله قد رتب القدر بخطوات أخرى؛
ولم تخبره أنها تراه ماض لم تندم عليه، حاضر تتردد عبارات حمدها ربها لأنه وهبها إياه، ومستقبل دومًا يبتهل لسانها دون استئذانها أن يبقى سعيدًا وأن يضل البؤس والشقاء طريقهما إليه!
لماذا يتهمونها بالمُبالغة في الخوف عليه؟!
ألديها سواه؟!
وصورة أخيرة لا تعلم من التقطها ولا السبب، لكنها تراه يتيمًا مرة ثانية بعد أيام من وفاة شقيقها..
لقد حاولت تعويضه، عملت بكل جهدها كي تسد خانة أب علمت دومًا أنه يفتقده، واتخذت دوره المُتمثل في المُراقبة.. لكنها الآن تدرك أنها تمادت كثيرًا!

باليوم التالي:
بخطوات ثقيلة وملامح مُغتمة خرج من محطة قطار الأنفاق ليتابع طريقه إلى المحل بعد أن عاد أخيرًا من تلك الزيارة السرية التي قام بها بعيدًا عن قلق زوجته..
والقلق هو ما يشعر به الآن.. أو أكثر!
حيرة؛
نقمة؛
حزن؛
لقد صار حازم شخصًا آخر وبدا أنه تأثر أكثر منه بسجنه بين المجرمين..
يترصدون له، يسرقونه، يتشاجرون معه، و.. لم يرتاحوا إلا بعدما تركوا علامة دائمة على وجهه، وأخرى غائرة في روحه!
اختفت ابتسامته البشوشة، وخرست كلماته التي لا تتوقف..
إلا من طلب واحد كرره عليه اليوم في توسل فسبب له ندمًا عظيمًا أُضيف إلى انزعاجه الشديد من ذنب نسيانه وإهماله لأشهر!
لقد تمنى يد المُساعدة طويلًا فعزف عنه الأقربون ليمدَّها إليه آخر من توقع؛
الآن حان دوره كي يفعل المثل، ووجب عليه أن يُسدد الدَيْن لِمُستحق شديد الحاجة!
"ناهل!"
تحولت ملامحه إلى المقت مع الحقد فور سماع اسمه بنبرة أنثوية تتقدم صاحبتها تجاهه في لهفة، والتي يبدو أنها لم تتقبل تهربه من اتصالاتها وطلبها لقائه طيلة الأسبوع الماضي فأتت إليه لِتُحاصره دون تردد!
*****نهاية الفصل الثالث والعشرين*****



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close