اخر الروايات

رواية علي ضفة قلبك ظمآن الفصل الثاني والعشرين 22 بقلم سعاد محمد

رواية علي ضفة قلبك ظمآن الفصل الثاني والعشرين 22 بقلم سعاد محمد


الفصل الثاني والعشرون
(وَقَعَت عاليًا! )
بعد شهرين ونصف:
بأحد ممرات المصنع كانت تسير واضعة كفها على فمها تكبت ضحكة عالية بمثابة أبلغ رد على غزله الهاتفي الصباحي المُعتاد وكأنه لا يكفيه ما يُلقيه على مسامعها بالبيت..!
"هارون! سأنهي المكالمة الآن."
قالتها في حزم مُفتعل فرد بنبرة مُتسلية:
_لكنني لم أخبرك بكل ما لديّ بعد.
غالبت بسمتها وقالت مُصطنعة بعض الاعتراض:
_ما لديك لا ينتهي.
أُخِذَ بردها لثانية ثم بان الحنق في صوته وهو يُعلق:
_ربما يجب أن تختمي عبارتكِ بـ:"الحمد لله" مثلًا؟
صمتت قليلًا ثم تحدثت بعد ثوانِ في صدق:
_الحمد لله يا سيدي الفاضل أن رزقني الله بزوج طيب، حنون، مُفعم المشاعر مثلك.
في غرفته بمكتب التسويق ال****ي الذي يمتلكه وقف أمام النافذة بِمظهر رجل أعادته السعادة أعوامًا إلى الخلف، شاردًا في صورتها، مُتنغمًا بصوتها، ليتكلم بنبرة لا مزاح بها:
_ترين أنكِ تسخرين مني، بينما أنا هاتفتكِ بالأصل كي أقولها بِجِدية، وكي أشكركِ أيضًا.
_علام؟
في تعجب سألته وانتظرت الإجابة، وعبر الأثير استشعرت توتره فلم يُفاجئها تمامًا حين نطق بعد قليل:
_على.. دعوة اليوم، أعني.. غدًا حفل خطبة غفران وأنتِ وافقتِ على استقبال علا اليوم بما يناسبها رغم انشغالكِ.
زفرت في توتر ثم قالت بحرج:
_إنها شقيقتك يا هارون، ولولا حساسية الأمر لدعوتها إلى خطبة غفران أيضًا، لكن أنت تعلم.. سيكون ناهل حاضرًا وربما تقع مُشاداة بينهما فـ...
قاطعها بكلماته الهادئة:
_أعلم، وأعلم أنني محظوظ كثيرًا بعثوري عليكِ، أدامكما الله بحياتي.
ابتسمت في خفر وأنهت حديثهما على عجالة حينما لمحت ياسر قادمًا من الاتجاه المُقابل، سارت إليه وبادرته:
_سأضطر للرحيل الآن، لديّ زائرة بالبيت.
أومأ برأسه دون رد فتابعت في توجس:
_لِماذا هذه الملامح المُتجهمة؟!
قابلها ثم إلى جوارها مشى بطريقه إلى الطابق الأسفل في جولة مُفاجئة على العمال، ليُجيبها في مكر:
_ينبغي عليّ أنا أن أسألِك عن سر هذه السعادة التي تنبثق من كل تعبيراتكِ.
عادت ابتسامتها ثانية تلقائيًا رغم محاولتها التظاهر بالحنق وردت:
_أتستكثر على عروس تزوجت منذ أشهر إظهار بعض السعادة؟!
اختلس نظرة جانبية لها وعلق قائلًا في بساطة:
_لم تكوني كذلك قُبيل الزواج نفسه.
انتبهت إلى صدق عبارته لتنظر له في تعجب لوهلة، ثم ما لبثت أن أطرقت برأسها أرضًا تراقب خطواتها بشرود..
ألهذه الدرجة كانت تَعِسَة بحياتها قبلًا؟!
لا..! لم تكن تَعِسَة، لم تكن سعيدة.. لكنها كانت مُتأهبة؛
اعتادت الأيام أن تمر بحياتها في رتابة.. كحالها هي؛
وهي..معها تصالحت، ومعها عقدت اتفاقًا عادلًا يوجب الطرفين بألا يسأم أحدهما الآخر؛ حتى ضجر منها الصبر نفسه وبات تمردها إلزامًا عليها لا تفضلًا منها!
ثم كشفت لها الحياة عن عالم آخر، بصحبة نوع آخر من الرجال، نوع لم يكن ضمن طموحها ولم تفكر به يومًا!
_إذن يبدو أن السيد العاطفي أكثر من اللازم يُعاملكِ جيدًا.
نظرت إلى ياسر في تساؤل وضاقت عيناها ثم كررت مُستفهمة في تحذير:
_العاطفي أكثر من اللازم؟!
_هكذا يُلقِبه جدكِ!
قالها سريعًا مُدافعًا عن نفسه فضحكت ثم أجابته بنبرة حالمية لم يسمعها تتحدث بها من قبل:
_هارون يُعاملني جيدًا حتى أظن أحيانًا أنني أحلم، وأكثر ما يُثير دهشتي أن يزن قد أحبه واعتاد وجوده في وقت قياسي.
كاد يُلقي تعليقًا مُهنئًا فأسكتته نظرة الارتياب التي طغت على وجهها فجأة، ارتياب انبثق من صوتها أيضًا عندما سألته في خوف:
_ألا تظن أن هناك شيئًا مُريبًا بالأمر؟ ليس من الدارج أن يكون بعالمنا شخصًا مثاليًا إلى هذه الدرجة! أليس كذلك؟!
توقف بمكانه ورفع حاجبيه مُتظاهرًا بالاهتمام ثم سألها في تأمل:
_أتظنين أنه فضائي؟! أم تظنين أنه بشري لكنه يضمر له نيئة سيئة؟ أعني.. ربما يُخطط لاختطافه ثم سيطلب مِنَّا فدية؟
شحب وجهها على الفور فرمقها بسخرية ليتابع مسيره بلا اكتراث، فلحقت به جريًا وهتفت في حنق:
_ياسر! لا مزاح بأي مما يخص يزن!
في امتعاض ممتزج بالغيظ خاطبها دون أن ينظر إليها وهما يعرجان إلى إحدى زوايا الطابق حيث يتم إعداد المشروبات والشطائر البسيطة للعاملين:
_أنتِ نسخة من عمتكِ، دعي طفلكِ يستشعر نعمة الأب دون مُراقبات!
كادت ترد في جدال، لكنها انتبهت إلى الأسى الذي نطق به عبارته الأولى فابتلعت كلماتها وتطلعت إليه في إشفاق.
فحسب ما خبرتها خالتها توترت علاقته بوالدته كثيرًا منذ ما يزيد عن الشهرين بسبب تدخلها الزائد في علاقاته، حتى أنها أنهت واحدة مع مُعلمه في الثانوية دون سبب مُقنع..
"اللعنة! ما هذا؟! ماذا أتى بها إلى هنا؟!"
نظرت له بلا فهم فوجدت الدهشة تتصارع على ملامحه مع الاستنكار، التفتت إلى الخلف لتجد العاملة التي تتولى شؤون طلبات الموظفين تتبادل حوارًا خافتًا يبدو أنه شديد الأهمية مع فتاة ليست من العاملات..
_من هذه؟
سألته في فضول مُتفحصة تلك الأخيرة بنظراتها، فأجابها في توعد وهو يتركها بلا اهتمام ويتجه إليهما مُتحفزًا:
_ إنها ذنوبي حينما تَشَكَّلَت في هيئة إنسان! يُقال لها "سلام" لكنها تستطيع انتزاع الراحة من الجثث المُتحللة دون أن يرف لها جفن واحد!
...
"يا إلهي! وهل سكت زوجكِ عن إهانة زوجة شقيقه دون أن يحاول التدخل بينكما ورد اعتباركِ؟!"
في استنكار هتفت سلام وهي تدق بعصا مَظَلَّتها على الطاولة التي تفصل بينها وبين عاملة المطبخ، بعدما قَصَّت عليها تلك الأخيرة لِتوها شجارها العائلي، فَهزت كتفيها في عجز لترد بنبرة تَحمِل الكثير منه:
_لا يستطيع مُجابهة شقيقه لأن كلمته مسموعة وجميع أفراد البيت يخشونه.
مصمصت سلام شفتيها في سخط ثم علَّقت بتبرم واضح:
_أنتِ باستكانتكِ هذه من تسمحين لهم بالتجبر عليكِ.
وحينما طلَّ الحرج من عيني المرأة استقامت بعيدًا واضعة إحدى كفيها على صدرها باعتداد، وأردفت في حزم:
_لتقفي قبالتهم جميعًا وتخبرينهم أنكِ لن تسمحي لهم بتجاوز حدودهم معكِ! خاصًة زوجة شقيق زوجكِ، أنتما تملكان نفس المرتبة بالمناسبة فلا فضل لها عليكِ حتى تقوم بإهانتكِ بين الحين والآخر.
مع آخر كلماتها أحست أن هناك ظلًّا يُشرف عليها فاتسعت عيناها في حذر لتجد العاملة تضع كفها على فمها في قلق، استدارت على الفور لتجد من جاءت للقاءه.. قد سبقها إليها!
"هل انتهيتِ من إفساد علاقات الجميع بمحيطكِ فجئتِ لِتُتابعي هوايتكِ بمصنعنا؟!"
**********

بعد أن تأكدت من نضج الطعام أولت ظهرها للموقد ثم أخذت تثني قطعة من الورق المقوى بضع مرات في تركيز كامل، لتبدأ بحشرها في الحيز الفارغ للباب الداخلي حتى لا ينفتح من تلقاء نفسه مرة أخرى، لكنها تأففت بضيق حالما وقعت الورقة أرضًا في براءة ليتراجع الباب مفتوحًا على مصراعيه وتندفع الروائح المُختلفة للطعام الذي يقوم الجيران بطهيه مُمتزجة في تنافر واضح..
والأكثر جذبًا للانتباه.. أصواتهم!
شجار بين أطفال في شقة ما.. ربما في الطابق الثاني؛
صوت برنامج صاخب بالثالث؛
ويبدو أن أحدهم قد كسر بعض الآنية في الطابق الثالث حيث شقة أم إيهاب بَصاصة الحي التي لا تطيقها بلا سبب!
"ماذا تفعلين يا إيلاف؟"
انتفضت وهي تستدير في سرعة حيث وقف يرمقها بتعجب، ثم هتفت به في اعتراض:
_أتتسلى كل مرة بإثارة ذعري؟!
رمقها في استنكار ثم اقترب منها معتذرًا بعينيه ليسألها بدهشة:
_ألم تسمعي صوتي حين وصلت؟! لقد كدت أكسر الباب وأنا أوصده تحسبًا لشرودكِ هذا!
_أويسمحون لي بسماع صوت آخر؟!
في تهكم سألته وهي تشير إلى المسقط خلفها الذي ظهر عبر باب المطبخ الداخلي المفتوح، فاتجه هو إليه مُزيحًا بقدمه مصيدة فئران كانت تحتوي على قطعة جبن مُسممة بالليلة الماضية، لكنها أضحت الآن خالية بعد أن نالت إعجاب الضحية التي يبدو أن صحتها أقوى كثيرًا من سم ضعيف المفعول!
أمسك بالورقة مُحاولًا إقحامها في الحيز الضيق وتساءل في غيظ:
_ألم أُثبت قفلًا به بالأسبوع الماضي؟!
أشاحت بوجهها في تهرب لتعلق بلا اكتراث مصطنع:
_ربما.. لم تثبته جيدًا.
بالطبع لن تعترف أنها من أفسدته وهي تدبر المصيدة للفأر مفتول العضلات الذي صار ضيفًا دائمًا ببيتها رغم إرادتها؛
وبالطبع لن يسترعى ذهنها ما ذهب هو إليه بتفكيره باللحظة ذاتها..
لن تنتبه لخجله وخزيه من المشكلات التي تظهر يومًا تلو الآخر؛
مرة بسباكة المطبخ؛
ومرة بالضوضاء الدائمة لأن الشقة بالطابق الأرضي؛
ومرات كثيرة بباب المطبخ الداخلي اللعين الذي يسمح بدخول جميع الكائنات الحية حيث تتخذ من المسقط مأوى لها، بينما هو يقوم بتركيب قفل جديد، أو يضع ستارًا أمامه يضمن لها بعض الخصوصية أثناء الطهي..
ربما تبدو مشكلات يومية طبيعية تقع بغالبية البيوت، لكن يعود وسواسه يسأله متخابثًا..:
"ألا تقارن بين حياتها معه في ظل بساطة الإمكانيات وبين رفاهية بيت عائلتها؟"
وسرعان ما يخرسه في ثقة، وتخرسه هي أيضا دون أن تعلم حينما يطالع نظرات السعادة والرضا الدائمة على وجهها.
لِيعود الوسواس نفسه مؤكدًا له أنها تفتعل تلك السعادة وذلك الرضا..
لكنه يُخرسه مُجددًا بثقة أشد، فإن كان هناك مخلوقًا على هذه البسيطة يقرأ نفس إيلاف لن يكون سواه!
_لنتركه يحمل لنا بعض نسمات الهواء من الخارج.
_لن يحمل لنا أية نسمات يا ناهل، بل..
بترت عبارتها ما إن وصل إلى سمعهما صوت أغنية شعبية صدحت فجأة، ثم تابعت بصوت أعلى:
_يحمل أدخنة وروائح وأغانـ..
ثم بترتها ثانية لِتشهق تلقائيًا مع عبارة وصلتهما صريحة:
"تمايلي من أجلي مرة أخرى!"
فغر ناهل شفتيه في ذهول ثم ما لبث أن ارتسمت ابتسامة ماكرة على وجهه وقال:
_أليس هذا هو صوت العم سالم ذي الوجه المُكفهر والمزاج الحاد طيلة الوقت؟! لقد تغيرت نظرتي له تمامًا، لن أستطيع التطلع بوجهه لِشهر على الأقل!
ناظرته في امتعاض ودفعته دفعًا خارج المطبخ قبل أن يتلصصا لا إراديًا على حوار خاص، فقال مستدركًا أثناء اتجاهه إلى غرفتهما:
_حسنًا! غدًا سأبتاع قفلًا أكبر وستنتهي مشكلتكِ معه تمامًا.
توقفت على الفور لتقول في غيظ تملكها جراء إغفاله حدث الغد المُنتظر:
_غدًا لن نكون متفرغين، أنسيت حفل خطبة غفران؟! سأذهب إلى البيت من الصباح الباكر لأساعد أمي وعمتي، وأنت أيضًا بالتأكيد لن تدعني أذهب بمفردي، كما أن جدي دعانا جميعًا لنقيم معهم هذين اليومين!
زم شفتيه مُفكرًا ثم قال في أسف:
_في الواقع لقد طرأ أمر ما فجأة، ربما سأتمكن من الحضور قبل الموعد، لكنني لن أستطيع مرافقتكِ منذ بداية اليوم.
_أي أمر؟
في اهتمام تطلعت إليه واقتربت منه في توجس، وحالما أشاح بوجهه وأصابعه تمتد تلقائيًا إلى لحيته ارتفعت حدة ارتيابها أكثر فتابعت في إصرار:
_ماذا هناك يا ناهل؟ إلى أين ستذهب؟
رسم ابتسامة سريعة على وجهه وقرص إحدى وجنتيها في خشونة قاصدًا مُداعبتها قائلًا:
_لا داع للقلق! سأزور صديقًا لي وسأتجه إلى بيت عائلتكِ فورًا.
فركت وجنتها التي احمرت بِفِعل ملاطفته الرقيقة، ثم في تهكم عوجت شفتيها وعلقت باستخفاف:
_أي صديق هذا؟! لا أصدقاء لديك يا ناهل، بالكاد نشأت علاقة بينك وبين ياسر ثم علاقة أخرى لا أستطيع تفسيرها تجمعك بهارون! حتى خاطب غفران المسكين لا يسلم من مزاحك الفريد من نوعه رغم أنك لم تلتقِ به سوى مرتين أو ثلاث!
تظاهر بالبؤس مُتمنيًا التملص من تحقيقها القادم لا محالة فردَّ لائمًا:
_أنا أحاول تلطيف الأجواء حتى يعتاد علينا سريعًا لأنه مُهذب بشكل يُثير الغيظ، كما أن شقيقتكِ لا تسمح لأحد بإزعاجه بكلمة واحدة فتُشهر أنيابها في وجهي بتحذير دون سبب، وهل تُعيرينني الآن بأنني لا أمتلك الكثير من الأصدقاء؟! سامحكِ الله!
كتفت ساعديها وكثفت من حصار عينيها فأدرك أن لا مناص من الإقرار بما يخشاه ويؤجله منذ رتب أمر الزيارة، فأجلى حنجرته ونطق في تردد:
_إنه.. صديق تعرفت عليه بالسجن.
وما خاف حدوثه رآه في لمح البصر!
سقط فكها السفلي في بلاهة واتسعت عيناها المصعوقتان، ثم عثرت على صوتها فشهقت عاليًا قبل أن تهتف به:
_يا للمصيبة! أتمزح معي يا ناهل؟! أتتواصل مع ذوي السوابق الجنائية الآن؟!
استدار عنها نافد الصبر وشرع بتبديل ملابسه فتابعت في حنق:
_ينبغي أن تحمد الله على خروجك من ذلك المكان الموبوء دون أن تصيبك عدوى إجرامهم، وما عليك أن تفعل لإظهار امتنانك هو التنصل من كل من التقيت به بتلك الأشهر وأن تتناسى أي مما قد يُذكرك به.
رمقها في حيرة فدَّبت الأرض بإحدى قدميها مُردفة في استنكار:
_أنا لا أفهم كيف لا زلت تتواصل بالأصل مع واحد منهم!
زوى ما بين حاجبيه ثم علَّق في اعتراض وهو يخرج هاتفه وحافظة نقوده من جيب بنطاله:
_لماذا هذا التوتر؟! لن يحبسونني مُجددًا إن كان هذا ما تقلقين بشأنه، كما أن هارون جاء بنفسه لزيارتي بضع مرات ولم يفكر بالطريقة ذاتها!
دفعت خصلة ثائرة من شعرها خلف أذنها وجابهته دون تردد بينما بدأ جذعها بالارتجاف:
_كان يقوم بزيارتك لأن شقيقته هي من ألقت بك هناك يا ناهل، كان يشعر تجاهك بالذنب لا أكثر!
راعته حالة الغضب المُبالغ بها التي توقع لمحة عنها ما إن قرر إخبارها بأمر الزيارة..
زيارة وعد حازم بها منذ أشهر.. لكنه لم يفِ بذلك الوعد حتى الآن!
انشغل بزواجه؛
ثم انشغل بالمحل الجديد؛
لينخرط بعدئذٍ في حالة الشد والجذب بينه وبين إيلاف وهو يبحث في إلحاح عن طريقة يعترف لها بها بمشاعره دون أن يعترف بها حقًّا!
ومع الأسف ربما لم يكن لينتبه لِما خلف به لولا أن استطاع حازم بنفسه تدبير وسيلة للاتصال به باليوم السابق وتجديد الطلب بلقائه..
اغتمت ملامحه بفعل الخجل، فهو أكثر من عانى من وجع التخلي..
حينما تراهن على وفاء أحدهم فلا تجد منه إلا الخديعة؛
وعندما تجاهر أمام الجميع بثقتك في شخص بعينه فتكتشف أنه لطالما كان الغدر قائمًا بذاته!
لكن..
الآن وهو يرى الخوف صارخًا بنظراتها؛
والرجاء يفيض من همسها؛
وحديث آخر يفرض نفسه على ذلك الذي قيل للتو، لا يجد غضاضة في تبديد حزنها!
فهي.. إيلاف!
إيلاف حبيبته الأولى، والأخيرة، والوحيدة؛
إيلاف التي اقترنت روحه بها ولهثت دقاته خلفها وصار عقله طوع أمرها؛
إيلاف التي ظن يومًا أنه يستطيع إجبار قلبه على تجاوزها بعدما صارت دقيقة واحدة من التفكير بها حرامًا.. فعادت هي كلها له أجمل آيات الحلال!
فكيف به ألا يمنحها طمأنينة بسيطة؟
_اهدئي يا إيلاف! إنها مجرد زيارة لن تستغرق وقتًا طويلًا وسأعود إليكِ لنقضي الليلة ببيت عائلتكِ.
أمسك بذراعيها يمسح عليهما فهزت رأسها خوفًا في إصرار، أطلق تنهيدة حارَّة ثم قال في نزق مُصطنعًا بعض المُهادنة:
_حسنًا! سنذهب معًا صباحًا، وإن أردتِ أن أحمل "شبكة" العروسين بيديّ لا أمانع!
والراحة التي توسدت وجهها أكدت له أن فعلته صائبة رغمًا عن ذلك الصوت الذي أخذ يتردد بداخله ساخرًا، تجاهله، ثم كبته، وقرر تشتيت انتباهه عنه عندما ألقى بتعبيره الساخط بعيدًا وابتسم في مكر قائلًا:
_إذن لتوي انتبهت لشيء ما.
كادت تبتسم قبل أن يتابع فقد أنبأها حدسها من نظرته أنه سينطق بتلميح جرئ كعادته منذ صار زواجهما طبيعيًا بعد أن تهدمت كل الجسور بينهما، لكنها افتعلت بعض البراءة وسألته في اهتمام:
_أي شيء؟
بنظرة مُعبرة طافت عليها نظراته، ثم همس لها وهو يقترب منها فتتراجع للخلف في دلال:
_أنتِ لم ترقصي لي قبلًا! انسي أمر الطهي وتعالي لتخبريني عن مهاراتكِ!
أشاحت بوجهها عنه تُهنئ نفسها على ذكائها، ثم هزت كتفيها لتقول في بساطة:
_لكنني لا أُتقن الرقص.
دفع يديه عنها وابتعد بضع خطوات إلى الخلف مُعلقًا في غيظ:
_لا تُتقنين الرقص لزوجكِ، ولا وضع مستحضرات التجميل، ولا ارتداء ما يصف ويشف، ماذا تفقهين في فنون النساء سوى النكد إذن؟!
تبسمت في مُشاكسة وأجابته بفخر وهي توليه ظهرها كي تعود إلى المطبخ:
_الطهي الذي طالبتني بإلغائه لتوك!
تعلقت نظراته المستاءة بها، ولما تأكد أنها قد رحلت بالفعل تمتم في حنق:
_حسبي الله ونعم الوكيل فيكِ يا إيلاف!

دفع باب غرفة مكتبه في عنف لم تأبه هي به أثناء ركضها خلفه قبل أن يغلقه، وبمنتصفها وقف مُتخصرًا يتطلع إليها في تأهب لم يُبدد أمارات الغضب التي اشتعلت بنظراته..
_ماذا تريدين؟
سألها في هدوء يُنذر بالنقيض، فتمسكت بالتهذيب وهي ترد دون تردد:
_لقد جئت كي أتحدث معك بأمر يخص أهلنا.
فتح فمه ليصرخ بها وقد التقط الفرصة شاكرًا لمجيئها إليه بنفسها حتى يُفرغ سخطه فيها، لكنه تطلع إلى ما تمسك بيدها في دهشة ليسألها ساخرًا:
_هل تتساقط الثلوج بالخارج؟!
عقدت حاجبيها بلا فهم ثم ما لبثت أن أدركت ما يقصد، فما كان منها إلا أن تشبثت بالمظلة المُغلقة أكثر وقالت في اعتداد:
_لقد بدأت أشعة الشمس تشتد وبشرتي لا تتحملها، لِذا لا غنى لي عن مَظلتي!
وفي استنكار أمعن النظر بالمظلة السوداء المُرقطة بنجوم حمراء والمُثبت بحافتها خيوط سميكة تُشبه كثيرًا تلك التي تُزين طرفي السجادة الفخمة بصالة الاستقبال بالبيت، أو ذلك الستار المُزعج بمحلات الحلاقين القديمة!
وسرعان ما تجاهل تأملاته وافتر ثغره عن ابتسامة ساخرة أتبعها بقوله المُتهكم:
_لماذا جئتِ إذن؟! لم ألتقِ بعمكِ منذ طلب مني ذلك فاطمئني! بالتأكيد قد عاد خلوقًا مُهذبًا طاهر الذيل كما كان بعد أن ابتعد عنه صديق السوء، هل استرحتِ؟
في قوة تُحسد عليها تغلبت على رغبتها الواضحة برد الصاع صاعين، لكن حالة عمها النادمة المُفتقدة لشخص بعينه أرغمتها على تجاهل سخريته..
شخص يتطلع إليها بهذه اللحظة في استخفاف؛
شخص سيكون من المُلائم لها جدًا أن تُحيط عنقه بوشاحها حتى يتوسلها بعضًا من الهواء!
همست باستغفار ثم استعاذت من شيطانها الذي يُزين لها استخدام العنف في مواجهة المتعجرف هذا، لتقول في ثبات:
_لقد أتيت وكُلي رغبة بأن أتبادل معك حديثًا وديًا كما يحدث بين شخصين ناضجين يبحثان عن صالح المُقربين منهما، لِذا أتمنى أن تسمعني جيدًا!
حدق بها في ترقب فتنحنحت والتقطت كوب ماء من على سطح المكتب دون استئذان، أنهته كاملًا تحت عينيه المُتوجستين ثم أجلت حنجرتها ثانية لتتابع:
_ وددت أن أخبرك بأن عمي لم يضق بك ذرعًا كما ظننت أنت، بل إنه _لسببٍ ما لا أفهمه إلى الآن_ كان يستمتع بصحبتك كما لم يفعل قبلًا، في كل مرة كنتما تتفقان على اللقاء كان يتحضر مبكرًا وينتظرك كأنه ذاهب في رحلة لا مثيل لها، ثم يعود ليقُص عليّ تفاصيل نشاطاتكم بضمير!
تلبسته فجأة بهجة عارمة فابتسم لتطالها الدهشة فورًا وهي تدرك أن سخافته التي اعتادتها منذ لقاءهما الأول قد شدت انتباهها عن احتمالية كونه إنسانًا.. _رغمًا عن ظنها الأَوَّلي_ مُهذبًا!
هي التي تتوتر من الوجوه الجديدة بحياتها وكأنها مع ظهور أي منها سيتهدد الأمان الذي أحاط بعالمها رفقة شقيقتيها مع عمها فتبدأ قرون استشعارها بإبداء التشكك وافتراض أسوأ النيات بالجميع بلا تمييز..
هزت كتفيها بلا تعبير لتُردف تحت إلحاح كرم مُفاجئ:
_بالتأكيد تعلم أنه كان يحبك كـ..
بترت عبارتها مُشتتة بين رغبتها في تزكية هذه السعادة التي تفيض بها عيناه وكأنها تنتمي إلى طفل أُعيدت له حلواه المُفضلة بعدما ضاعت منه طويلًا، وبين رغبة انتقام تغويها بأن تبادله الإزعاج خلف حجج تليق بتلاميذ الروضة!
_كان يحبك كأنك ابنه الذي تمنى إنجابه كثيرًا.
في استسلام أكملت اعترافها، وفي سلام أقرت بأن تصرفها الطيب ليس سيئًا لهذه الدرجة، ثم في زهو رسمت ابتسامة لطيفة انمحت تلقائيًا حينما قفز الغضب إلى ملامحه وهتف بها:
_وهل هذا هو ما جعلكِ تنعقين كغراب البين في أذنيه حتى انقطعت الصلة بيننا تمامًا؟!
_بل السيدة والدتك!
بلا تردد هتفت بالمثل، فاتسعت عيناه ذهولًا ليصيح بها في استنكار:
_ماذا تقولين أيتها المعتوهة؟!
تملك الحرج منها فاستدركت في نبرة جعلتها أكثر رقة وتهذيبًا:
_أعني أن السيدة والدتك أيضًا لم تكن تشجع تلك العلاقة الغريبة كما رأيت بنفسك في اللقاء الأخير.
ضغط على أسنانه كاظمًا ما استطاع من غيظه، ثم ضرب كفًا بالأخرى واستدار ليجلس على أحد المقاعد المواجهة لمكتبه، ثم قال في سخط:
_لا غريب هنا غير أفكاركِ أنتِ، صدقيني!
تململت في وقفتها قليلًا ثم جلست على المقعد المُقابل له وسألته في فضول:
_إذن.. أنت بالفعل كنت تطمح إلى رفقته وحسب؟!
بملامح مُصمتة تطلع إليها وعلَّق في جفاء:
_أنا لم أسمح لكِ بالجلوس.
عوجت شفتيها وأشاحت بوجهها بعيدًا مُذَكِّرة نفسها بمهمتها مُستعينة بالصبر، ثم عادت تنظر إليه حينما وصلتها عبارته الساخرة:
_حسنًا! نعم، لم أطمح إلى استدراجه لطريق انحراف ما، لم يكن هناك داع لخوفكِ مني.
وثب الحماس إلى ملامحها فهتفت في تشجيع:
_فلتعد المياه إلى مجاريها إذن! ما رأيك أن تمر علينا الليلة في البيت لتقضيان وقتًا ظريفًا معًا؟! أو.. بإمكانكما اللقاء خارجًا إن أردتما، أو.. الجو صار أكثر دفئًا هذه الأيام لِمَ لا تسافران إلى العين السخنة كما فعلتما قبلًا؟!
نظرته القَلِقة قابلت نظرتها المُندفعة فعض على شفته السُفلى حتى أخفاها، ثم افتعل تعبيرًا جادًّا قبل أن يتحدث وهو يستند بساعديه على فخذيه لتتقلص المسافة بينهما قليلًا:
_خبريني يا آنسة سلام واعذريني في البداية على تطفلي! هل أُصبتِ في طفولتكِ؟ هل.. وقع لكِ حادث أثر على رأسكِ بشكل ما؟
احمر وجهها ورفعت كفها إلى جبهتها تلقائيًا، وفي ارتباك أخذت تدس خصلة شعرها الأمامية بداخل الحجاب قائلة في توتر تحول تدريجيًا إلى سخط:
_هل الندبة واضحة؟! ظننت أن الحجاب يُداريها، منديل الرأس السفلي هذا ينحسر من تلقاء نفسه مهما قمت بتثبيته رغم أنه ليس رخيص الثمن! للأسف لا أنفك أقع في فخ الشراء عن طريق "الإنترنت" كل مرة!
ارتفع حاجباه دهشًة مع عدم فهمها لدعابته الثقيلة، وفي فضول بحثت عيناه عن تلك الندبة لكنه لم يستطع رؤيتها بالطبع، كاد يشرح لها قصده إلا أنها تابعت في أسى:
_نعم، في عمر السابعة وقع حجر بلاط من إحدى الشرفات على رأسي وأنا ألعب بالشارع فترك علامة دائمة على جبهتي.
احتار في وجوب المُضي قدمًا في إزعاجها أم تجاهل الأمر برُمته، ليجنح إلى الصمت مُواصلًا تطلعه إليها في إمعان ظنته هي اختبارًا لصدق دعوتها، بينما كانت عيناه لا إراديًا ترتحل على ملامحها فَيَتَعَثَّر بِرِقَّة هُنا تُجيد صاحبتها إخفائها في تصميم؛
وحُنو هُناك كان أكبر من قُدرتها على تحجيمه رغم مُحاولاتها المُستميتة!
وبالنهاية ارتكن لا إراديًا إلى مُشاكستها فَعلَّق في ابتسامة أرادها مُثيرة للاستفزاز لتخرج _دون ملاحظته_ صافية:
_الإصابة لم تقتصر على الجبهة فقط فيما يبدو.
_ماذا تقصد؟
في تحذير سألته بعد أن فطنت إلى تهكمه أخيرًا، فأصدر نحنحة خشنة وافتعل حنقًا ليشدها إلى اتجاه آخر مُتسائلًا:
_لا شيء، إذن خبريني عن سبب مجيئكِ اليوم ومحاولتكِ تخريب بيت العاملة المسكينة!
تنهدت تسيطر على نزقها الذي يستدعيه في سهولة، ومنحته بسمة صفراء قالت خلالها:
_لقد خبرتك بسبب مجيئي، كما أنني لم أكن أحاول تخريب بيتها، بل كنت أنصحها ببناء موقف قوي ضد من يؤذونها استغلالًا لعدم امتلاكها من يُدافع عنها!
ورغم تضامنه مع رأيها فقد اجتاحته نزعة قوية في تعكير مزاجها، ليسألها نَزِقًا:
_لماذا ينصب تفكيركِ دومًا تجاه المؤامرات؟ ألا تحسنين الظن في الناس بعض الشيء؟
تأففت في نفاد صبر ثم اختارت الصمت، فقال مُحاولًا إظهار بعض اللباقة كي يتخلص من حديثهما الطبيعي للمرة الأولى والذي يُثير توتره أكثر من تراشقهما الاتهامات كالعادة:
_أهناك شيئًا آخر تودين قوله قبل أن تتركيني أستأنف عملي؟
في بساطة فهمت أنه يطردها، ورغم رغبتها بأن تُسمِعه ما يستحق فقد اكتفت باختلاس نظرة إليه، أرادتها خفية فرآها صريحة ليرمقها بمزيج من حذر واستمتاع لا يفهم مصدره، حتى جاءته بآخر ما لم يتوقعه وهي تُجيبه في خفوت:
_آ.. هناك مباراة قمة أُقيمت بالأمس.
انتظر تتمة عبارتها غير المفهومة له فلم تأتِ بها، حتى انفرجت ملامحه بغتة وهب واقفًا ينظر لها في استنكار هاتفًا في غضب:
_هل جئتِ كي تظهرين الشماتة بي؟! كان من الواضح تمامًا أن الحكم قبض رشوة ما حتى لا يحتسب ضربة جزاء صحيحة و..
كتفت ساعديها وتطلعت له في استهزاء فبتر عبارته مُنتبهًا إلى قصدها، ثم استدرك في فضول مُشوب بالحنين:
_لقد فرح الأستاذ ضياء بالنتيجة كثيرًا، أليس كذلك؟!
في تؤدة وقفت، وقبالته بقت، ثم إليه تطلعت في أسف، لتُعلق بصدق:
_لا، لم يفعل، بل ظل يُتابعها صامتًا حتى انتهت، ثم قال للعم فوزي: "بالتأكيد ياسر منزعج الآن".
_نعم.. منزعج بشدة.
قالها بصوت مكتوم، مُتألم، ساخط..
لكن حين يرسو تفكيره على سبب سخطه يرتد نادمًا مُتقبلًا، لقد تحملت والدته الكثير من أجله قبل وفاة والده وبعدها، فكيف به أن يكون مدعاة لخوفها الدائم؟!
_لماذا لا تهاتفه؟
سألته سلام في ابتسامة مشجعة، وفي استسلام بادلها بسمة لا داع لها ثم قال بنبرة كللتها الخسارة:
_آنسة سلام! علاقة الـ.. صداقة القصيرة بيني وبين عمكِ كانت غريبة في رأي غيركِ أيضًا، لِذا ليرتاح ضميركِ تمامًا.
بتوتر قضمت أحد أظفارها ثم قالت في صوت أقرب إلى الهمس:
_ربما.. ربما لن تكون غريبة لو تم توثيقها بشكل آخر.
اقترب منها وضاقت عيناه ليسألها في تعجب:
_ماذا تقصدين؟
_ألا تفهم حقًّا؟
في توجس سألته وهي تتطلع إليه لتتعلق نظراتها به دون إدراك، فتجهم وجهه وصاح بها حانقًا:
_هل أتيتِ خصيصًا كي تسخري مني؟! أنا لست متفرغًا لهذا الجنون الذي يشع به عقلكِ على الدوام! إن كان هناك ما تودين قوله افعلي أو ارحلي!
اتسعت عيناها في دهشة حقيقية، ثم ما لبثت أن صرخت به وقد عادت عصبيتها سريعًا:
_من منا الآن يُسئ الظن بالآخر؟! لقد أتيت حتى أبادر بإصلاح تلك القطيعة لإحساسي بالذنب تجاه عمي وتجاهك، تحملت أسلوبك الجاف المتعجرف وحاورتك بمنتهى اللطف والتهذيب لكن يبدو أنني قد أخطأت الاختيار!
كان على وشك سؤالها متى بالضبط حاورته بلطف أو بتهذيب حينما استدارت لترحل بكل عزم وأردفت في حزم:
_نعم! أنا قد أخطأت الاختيار بالفعل وعليّ الآن أن ألتقي بمن يُقدر هذه الخطوة!
ظلت علامات البلاهة تتخذ من محياه ملجأ لِعدة ثوان عقب انصرافها، ثم غمغم في نزق وهو يحاول _بلا تركيز_ استئناف عمله:
"يبقى المرء آمنًا مشغولًا حتى تأتيه نكبة مدوية لا يفهم لها مغزى!"
**********

مَحَت ابتسامتها المُتكلفة أثناء ولوجها إلى غرفة صغيرها بعد أن تحججت بضرورة تفحصه للمرة الثانية خلال نصف ساعة مرت وكأنها يومًا كاملًا، وقد تأكدت أن نيتها الصادقة في تحمل شقيقة زوجها رغم تحفظاتها على تصرفاتها لن تجد مجالًا لتحقيقها في سهولة!
فمنذ وصلت علا تعمدت أن تنتحي بهارون جانبًا، تتبادل معه حديثًا خافتًا، تنأى بوجهها عنها، وعندما كان يحاول إشراكها هي في الحديث بمرح كانت شقيقته تسارع برسم علامات الجمود على وجهها وتصمت تمامًا حتى تجد الفرصة للاستحواذ عليه وحدها مجددًا!
لكن ما أثار دهشتها هو تلك الهيئة التي ظهرت بها، لقد رأتها بضع مرات من قبل ولا تستطيع نكران جمالها، لكنها الليلة.. باهرة!
بشرتها استعادت صفائها ونقائها، شعرها أيضًا حصل على خصلات بلون مختلف ظهرت من تحت حجابها، أما ملابسها فبالطبع لن يُصدق أحد أن من ترتديها ليست سيدة أعمال مرموقة لا يتجاوز عمرها الثلاثين بأي حال!
قَبَّلَت وجنتي يزن تستمد منه بعض الطاقة كي تستطيع مواجهة تلك المرأة التي لا تقدر هي على معاملتها بالمثل إكرامًا لهارون وحسب.
"لين!"
جاءها نداء زوجها فسارعت بإحكام الغطاء فوق جسد الصغير وسارعت بالخروج، مُستعيدة بسمة غير حقيقية ومُرددة دعوات بالمزيد من الصبر.
_ألا يزال نائمًا؟
سألها في اهتمام فأومأت برأسها إيجابًا وعادت إلى مقعدها، تجاهلت نظرات علا التي تسبر أغوارها وكأنها تحاول البحث عما يُبدد هذا الهدوء الذي تتمسك هي به بصعوبة بالغة..
_خبرني هارون أنكِ تعملين بمصنع عائلتكم، كيف تستطيعين المُوازنة بين الوظيفة والبيت والاهتمام بشقيقي في آن واحد؟
ألقت علا سؤالها وبقت تتفحصها في إمعان لم يفت لين.. كما لم يفتها أنها أغفلت أحد أهم أركان حياتها، فقد ذكرت الوظيفة، والبيت، والزوج، لكنها _عن قصد_ أغفلت ذِكر طفلها!
لم ينتبه هارون بالطبع، لكنها فعلت!
تلقت لين حديث عينيها المُختلف بعض الشيء عمَّا نطقه لسانها، وأدركت أن شقيقة زوجها ربما ظنت أنها ستواصل التظاهر بالغباء لتتمكن هي من النَيْل منها..
ربما تحمل صفاتها الكثير من اسمها، لكن هناك حدودًا حمراء من يتخطاها سيفقد أثر لين الرقيقة المُهذبة، وسينبغي عليه أن يقابل "ابنة جلال الكردي"!
اتسعت ابتسامتها أكثر، قوية، واثقة، مُتحدية، وامتدت إحدى كفيها لتربت على خاصة زوجها بالمقعد المجاور تمنحه نظرة دافئة سريعة، ثم عادت إليها لترد في تمهل:
_أستطيع العناية بزوجي وطفلي جيدًا، وإن شعرت بضغط المسؤوليات سأتخلى عن أقلها أهمية، وبالطبع يزن وهارون لهما الأولوية بقائمتي.
رغم التوتر الذي اعتكف بالبيت منذ وصلت شقيقته فإن لمحة انتشاء عبرت عينيه أثناء تشبثه بكف زوجته، ليتابع من حيث توقفت:
_اطمئني يا علا ولا داعِ لقلقكِ! أنا أعيش أكثر فترات حياتي سعادة، لين أكثر النساء رعايًة ونشاطًا.
نظرة ساخرة رمقته بها شقيقته قرنتها بقولها الذي افتعلت به التلقائية:
_تتحدث وكأنك تعارفت على العديد من النساء، بينما أنت لم تتعامل إلا معي ومع لين..
تجهم وجه هارون واختلس النظر إلى زوجته التي ظهر تأثرها سريعًا، لكنها كبحته في صمود لتستمع إلى علا تستدرك مُفتعلة بعض الأسف:
_أعتذر، أعني لينة _رحمها الله_!
تكرهها؛
هذه المرأة تكرهها في عنف؛
ربما لأنها على علاقة نسب بناهل عدوها اللدود؛
وربما لأنها زوجة شقيقها فقط!
السبب الحقيقي غير مهم، إنما النتيجة هي ما تقلق بشأنها الآن..
هذه المرأة أفسدت حياة البعض، والآن تحاول فعل المثل معها هي..
حانت منها نظرة إلى هارون الذي تسيد الاعتذار عينيه وتساءلت في صدق..:هل ستسمح لها؟
ربما لو كانت ألمَّت بالأمر من جميع جوانبه قبل الزواج لكانت تركته واصطحبت طفلها ورحلت، لا ينقصها المزيد من التعقيدات بحياتها، لكنها الآن.. تَوَرَّطَت!
تَوَرَّطَت مع هذا الرجل في عاطفة لم تعترف بها، لا مكابرًة أو خوفًا، إنما.. دهشًة!
بضعة أشهر هي عمر تعارفهما ثم زواجهما؛
إلا أنه يُرسخ حضوره كل لحظة وكأنه معها منذ الأزل!
إذن.. الإجابة لا خيارات بها، واحدة، ثابتة، مؤكدة..
لن تنهزم فتخسر والدًا حنونًا ليزن، ولا زوجًا مُحبًّا لها هي!
_هذا أكثر ما يعجبني بهارون، فأنا أشمئز من الرجل مُتعدد العلاقات، وأحترم تمامًا تلك الحدود التي يضعها زوجي في التعامل مع النساء، لِذا ترين أنني أثق كثيرًا به، وبأنه لن يقع أسيرًا في فخ إحداهن، سواء بعلاقة مُحرمة عابرة، أو حتى بزواج ثانِ يفتقد لشرط العدل!
لهذا لا تحب أن تفقد صبرها، لا تحب القسوة ولا الإيذاء، لكنها من دفعتها دفعًا لذلك..
فالتلميح الذي قصدته لم يفسره زوجها لكن شحب له وجه علا على الفور، إلا أنها سرعان ما ازدردت لعابها لتبتسم مجددًا ووقفت تضبط وشاحها مُوجهة حديثها لشقيقها وحده دون أن تلحظ تلك الخيبة التي هجمت على وجهه:
_لقد سررت بهذه الزيارة يا هارون، أنتظرك ببيتي وقتما تستطيع لأحدثك بأمر يخصني.
حدجها بنظرة حانقة وتمتم في نفاد صبر:
_انتظريني دقيقة كي أُقلكِ.
وما إن غاب بداخل الغرفة حتى وقفت هي أمام لين لتستقيم الأخيرة في ترقب، حدقت بها في صمت لثوانِ ثم قالت في تهكم:
_تعجبني ثقتكِ كثيرًا، أتمنى ألا تخذلكِ!
رمقتها لين في تعجب اجتاحه توجس واضح، فالتهديد المُبطن لم يخفَ عليها، والاحتمالات عن كيفية الطرق التي ستحاول بها خلخلة استقرارها مع هارون أخذت تنهال على رأسها..
تُرى هل ستبدأ مسلسل مكائد من نوع ما؟
وإلى أي صف سيقف زوجها؟
ربما تمسك بخصامها كثيرًا كي ترتدع حتى تقبل أسفها، لكنه لم يكن راضيًا ليوم واحد!
"هيا بنا يا علا!"
التفتت الاثنتان إليه واتجهت علا في خطوات متمهلة حتى لحق بها هارون، ولدى الباب استدار يرمق زوجته باعتذار فابتسمت له وكأن شيئًا لم يكن!
...
"متى عدت يا هارون؟"
اعتدلت في فراش صغيرها وسألته ما إن دخل هو إلى غرفته، تطلع إلى يزن الذي ينام في كرسيه الهزاز وابتسم، ثم اتجه إليها مُجيبًا:
_لتوي، هل نمتِ منذ وقت طويل؟
أنزلت قدميها أرضًا وتتطلعت به في اهتمام، ثم ردت:
_لا، تناول يزن طعامه وعاد إلى النوم منذ قليل، لماذا تأخرت؟
التفت إليها فلاحظت أمارات الهَمَّ المختوم وجهه بها، فاستدركت في ندم:
_أعني.. لا أقصد أن أتدخل فيما لا يعنيني، لكن انتابني القلق و..
_أعتذر عما فعلته علا الليلة.
قاطعها في نبرة خفيضة كللها الخجل، ورغم أنها كانت ساخطة حقًّا فإنها هزت رأسها سريعًا لتقول وهي تربت على ساعده:
_لا تهتم يا هارون!
سألها في تدقيق:
_ألستِ غاضبة؟
ابتسمت ثم أجابته في مرح:
_أتريد الصدق؟ ربما غضبت لِوهلة، لكنني أنسى سريعًا.
في إمعان طالت نظراته لها غير عابئ بإخفاء شعار الخسارة الذي رفعته عيناه..
لقد تمسك بآخر خيط من أمل هذه الليلة في أن تلقي علا خلف ظهرها بكراهيتها لابن زوجها وتتعامل مع لين على أنها زوجته هو فقط، وعلى الرغم من أسلوبها المؤذي الذي اتبعته مع زوجته الراحلة فإنه ظن أنها ربما تغيرت بعد قطيعتهما التي استمرت لما يزيد عن الشهرين، وبأنها قد ألحت طويلًا على طلب إعادة الوصل بينهما بعدما أدركت ذنبها بحقه أيضًا ولن تكرر الخطأ ذاته مرتين!
هو ليس بحالم ولا أحمق، لكنه تمنى هذا ما إن بادرت علا بطلبها زيارته في بيته وبحضور لين، لكنها من وعدته أن تسعى في إنشاء علاقة سطحية على الأقل من أجله هو..
إذن حالم هو!
وشديد الحماقة هو!
لماذا اعتقد أنها ستتغير؟! وكيف تطلع إلى أن تفي بوعدها؟!
لِمَ قامر على طيب تعاملها مع لين وهي التي لم ترحم امرأة شاركتها بيتها وإرثها حتى ماتت مُتحسرة، ولم ترحم امرأة أخرى أضعفها المرض فاستكثرت عليها بعض السعادة في جرعة نهائية قبل أن تلقى ربها!
_أنت لم تتحدث معي عن زوجتك _رحمها الله_ سوى مرة واحدة كي تخبرني عمَّا عانته بأيامها الأخيرة، لا أرغب بالتدخل فيما لا يعنيني، لكن يغلبني فضولي أحيانًا عنها هي، كيف كانت؟ هل أحببتها؟ إلى أي مدى أثر فقدانها بك؟
انتزعته بأسئلتها من شروده لترمي به في بركة من الدهشة، رمقها في ارتباك ثم قال مُحذرًا:
_أتفهم جيدًا أن حديث علا قد أثار ضيقكِ، لكننا اتفقنا قبلًا أننا لن نتكلم عن تجربتينا السابقتين مُراعاًة لـ..
رفعت كفها أمامه فبتر عبارته، اضطربت انفعالاتها لِثوانِ ثم سارعت بالاستدراك:
_أعلم يا هارون، ولا أسأل بسبب ما قالته شقيقتك الليلة لأنني لم أُفاجأ، إنما أفكر في الأمر منذ فترة وأريد أن..
لم تستطع تتمة قولها، فالكيفية التي ستُخبره بها عن فضولها تجاه مشاعره السابقة لا زالت مجهولة لها.
_ماذا تريدين يا لين؟
سألها في تركيز فأجابته بأول ما خطر على لسانها وهي تتحرك لتلتصق به:
_أريد أن أقترب منك أنت أكثر، أريد أن أعرف عنك أكثر.
أطرق برأسه أرضًا وأخذ يبحث عن صيغة مناسبة تُكرم ذكرى راحلة ولا تجرح قلب حالية، وأخيرًا قال في اختصار يشرح الكثير:
_كانت جميلة، نقية، حنونة، وكانت تحبني بشدة.
وبقية الحكاية سيظل محتفظًا هو بها لنفسه، بدءً بمحاصرتها له، وإشاعتها أنه مُغرم بها، ثم إشاعتها أنه طلب الزواج منها لكن والدتها رفضت بسبب سوء علاقة شقيقته معها..
وسيظل محتفظًا بذكرى ذلك اليوم البعيد، حين حطت رحال الإشاعات على أذنيه، فانطلق إلى والدتها غاضبًا لائمًا ما قامت به ابنتها المُتهورة بينما هو لم يفكر بها بتلك الطريقة مُطلقًا..
ليجد منها البكاء المرير، ظن أنه أسفًا من فعلتها، لكنه اكتشف أنه أسفًا على مُصيبتها..
لينة الجميلة مريضة؛
لينة المليئة بالحيوية تُصارع مصيرًا لا يقوى على مجابهته أحد؛
لينة المرِحَة البريئة ربما ترحل وفي قلبها أمنية واحدة لم تتحقق.. حب هارون!
وبلا تردد طلب الزواج بها، في صدق نسى نقمته على تصرفها، في إتقان عمل على إسعادها، وفي إخلاص.. أحبها.
لكنه _في إهمال_ نسى أن هناك من تتحين الفرصة للصق الدونية بغيرها، لأشهر ظن أن شقيقته ترعاها لسويعات قليلة بضعة أيام في الأسبوع، لكنه _قدرًا_ رأى بعينيه كيف كانت تعيرها، وسمع _ذاهلًا_ اتهامها لها بأنها مع والدتها أوقعتا بشقيقها في مكيدة حتى يتزوجها ويتحمل مسؤولية الإنفاق على علاجها!
ورحلت الجميلة، ضعيفة، هزيلة، مُمتنة لاهتمامه، شاكرة رعايته، راضية ببضعة أشهر قضتهما في كنفه تصارع خلالها شعور قلبها بالفرح مع آلام جسدها.
_وأنت؟ هل أحببتها؟
سألته فابتسم مُجيبًا:
_أنا اعتدت التعامل معها بِود كابنة جارتنا اللطيفة، ثم نشأت بيننا علاقة مودة ببداية زواجنا، ورغم أنه لم يدم إلا لأشهر قليلة فقط فقد أحببتها بالفعل.
دهشة، حيرة، و.. احترام؛
رغم أن البؤس قد نال منها وهي تتخيل تلك الشابة قد ماتت بعد زواجها بفترة قصيرة فإنها لم تستطع إلا أن تحترمه، ثم هجم تساؤل غريب على عقلها فلم تُقلبه في ذهنها قبل أن تنطق به..:
_لو.. لو كانت لا تزال حية ثم التقينا، هل كنت لتفكر بي وتحاول الزو..
_مُحال!
قاطعها في نبرة جادة ثم أضاف عاتبًا:
_أنا رجل أحب تركيز مشاعري كلها تجاه شخص واحد، كما أنني قنوع، تكفيني زوجة واحدة، حتى وإن كانت تلك الزوجة غالبية الوقت صامتة تراقب زوجها السفاح خوفًا من أن ينقض على طفلها!
عضت على شفتها السفلي تكتم تلك الشهقة التي خرجت منها تلقائيًا وأخفضت رأسها أرضًا في خجل، فوقف يضحك في تسلية، ثم وجدت كفه أمام وجهها، نظرت له في تساؤل، فحافظ على ابتسامة مُطمئنة وقال:
_تعالي معي!
سلمته يدها فأطبق عليها، وسألته مُتعجبة:
_إلى أين؟
وأثناء خروجهما من الغرفة ردَّ في اقتضاب:
_سأخبركِ لماذا تأخرت.
تعثرت قدماها خلفه أثناء محاولتها تصحيح ظنه، فقالت في توتر وهي تدخل معه إلى غرفتهما:
_هارون! لم أقصد أن أكون فضولية، بالطبع لديك كل الحق كي تقضي وقتًا مع شقيقتك، أنت عائلتها الوحيدة ولها... يا إلهي!
شهقة أخرى لم تكتمها هذه المرة عندما جذبت نظرها تلك الإضافة الجديدة بجوار الفراش، ثم سألته دون أن تحيد عيناها عنها:
_ما هذا؟
_حُلم!
أجابها وهو يقحم جسده في مجال رؤيتها بعد أن تأكد أنها لن تعيره اهتمامًا حيث وقفت تتطلع بهديته في انشداه، ثم طغى صوته على حواسها عندما واصل مُرغِمًا إياها على أن تبصره هو..:
_زوجتي حلمت ذات يوم أن تجرب شعور التأرجح بكرسي مماثل حتى النوم، ها هو!
أشار بإبهامه إلى الخلف حيث الكرسي الخشبي الذي يطابق كرسي طفلها شكلًا، لكنه يفوقه حجمًا بالكثير..
تخطته هي، دارت حوله، ثم توقفت أمام الكرسي صامتة في مزيد من الاحترام، وشعلة _غريبة عنها، جديدة كُليًا على مشاعرها_ تتأجج بقلبها!
_أتعني أن كل ما أحلم به ستحققه لي؟
سألته وهي لا تزال ترمق الكرسي الساكن على النقيض من تلك الخفقات التي تتقافز بصدرها..
_ما دام في استطاعتي لن أتردد لِوهلة!
أجابها مُستمعًا إلى كل نفس ثائر تفرج عنه شفتاها، يُطابق ذلك الضجيج الذي يهدر به فؤاده..
استدارت إليه في تمهل، دامعة، سعيدة.. مُستسلمة!
_أحلم بإنقاذ!
_مِمَّ؟
_من الوقوع.
_أي وقوع؟
نطق استفهامه في توجس اختفى لا إراديًا لتحل محله دهشة ما إن أقرَّت دون تأخير:
_وقوعي، أظن أنني قد وقعت في حبك يا هارون.. وَقَعْت عاليًا!
في رفق دفعها لتسقط على الكرسي، ومال مُستندًا بكفيه على مسنديه ليقول هامسًا:
_هذا هو الاستثناء الوحيد يا حبيبتي، لا إنقاذ في هذه الحال، بل سأدعو ربي ليلًا ونهارًا ألا تتخلصي من حبي إطلاقًا، أن يتوغل بكِ أكثر، أن يشدكِ إليه كلما حاولتِ الابتعاد عنه، أن تضيعي به كما ضعت أنا بكِ منذ رأيتكِ!
بلا تردد أمنَّت على دعوته تتمنى الاستجابة لها في صدق، أغمضت عينيها التي فاضت أكثر بدموع سعادة وصول بعد عناء، واستشعرت قبلة طويلة ألصقها بجبهتها في حب لم يعد هناك مفرًّا من الاعتراف به!
**********

باليوم التالي:
فور أن جلست على أحد المقعدين بواجهة صالة الاستقبال الفسيحة التي ازدانت بالأزهار في أركانها دارت عيناها على الحضور في ترقب، بينما تراجعت لين إلى الخلف بضع خطوات بعد أن ساعدتها على الجلوس دون أن تفسد هيئة ثوبها.
لم تتوقف عمتها أماني عن إطلاق الزغاريد، أما هالة فقد همست وهي تمسح وجنتيها بعد أن فقدت الأمل في توقف دمعاتها:
_ما شاء الله! فاتنة أنتِ يا غفران، حفظكِ الله من أعين الحاسدين!
أومأت برأسها بابتسامة سريعة ترمق اعتذارًا متكررًا آخر اعتادت والدتها على أن تلقيه عليها بنظراتها منذ كُشِفَت لها الحقيقة، ورغم أنها بنفسها قد طالبتها بأن تخبر جدها وستعترف هي بذنبها فقد رفضت في إصرار.
هناك شعورًا يجتاحها اشتاقته لسنوات ولن تسمح لأحد بسلبها إياه، هناك حبًّا افتقدته لطالما أغدق عليها جدها به، هناك دلالًا استعادته رغم كل ما اعتمر صدرها من نقمة، وهناك سلامًا ينتظرها كل ليلة مُرافقًا لتلك الآيات التي يُلقيها جدها على مسامعها وكأنه يُطبب كل ما عانت من جراح!
اختلست نظرة جانبية إلى نضال الذي لم يوجه لها كلمة واحدة حتى الآن وهي لا تزال غير مُصدقة بعد أنها قد تراجعت عن أهم قراراتها، فبعد أن أقسمت مرارًا أنها لن تتزوج، لن تشارك حياتها مع رجل، ولن تمنح أحدهم الثقة مهما كان، ظهر هو ليجبرها على الحنث بذلك القسم.. ومن ثم الكفارة المُتمثلة في الاستسلام لِعشقه أكثر وأكثر..!
ورغم إرباكه السريع لها وللثوابت التي قام عليها عالمها فإنها طالبته بالتروي قليلًا قبل إعلان أي ارتباط رسمي حتى أنها عارضت رغبته المُصِرَّة على عقد القران واضطر جدها لأن يوافقها أيضًا بعد تجربة شقيقتها مع ابن عمتهما، فلربما أدرك أحدهما أن الآخر ليس له هو الشريك المناسب.
لكنه أثبت لها العكس، وأكد لها أنه الرجل المنتظر، لم تستشعر منه أي فعل خبيث أو أي تصرف ينم عن سوء أخلاق..
والليلة سترتدي حلقته، ستغدو خطيبته، وسيعلم الجميع أن غفران سيئة الحظ التي لا يستسيغها الكثير أحبها أحدهم حتى طلب الزواج منها ثلاث مرات في الدقيقة ذاتها!
مَرَّت عيناها على إيلاف التي تقفز سعادتها من نظراتها قفزًا وهي تقف إلى جوار ناهل حيث يتبادل حوارًا ما مع ياسر، ثم لين التي تركت طفلها يحمله زوجها فيما أخذت تراقب كل شاردة وواردة بعد أن قلدت نفسها مهمة تنظيم الحفل البسيط، والدتها التي اختلط الفرح بتعبيراتها مع الحزن، عمتها التي تُرحب بوالدة نضال في حماس، لؤي الذي لا يحاول مداراة سعادته بارتباطها بنضال تحديدًا، ومهند الذي يبدو عابسًا كعادته في الآونة الأخيرة لكنها فسرت الأمر بسهولة على أنه حرجًا من الظن السابق لشقيقه، ثم.. جدها..
جدها الذي يجلس في هدوء راسمًا ابتسامة لم ترها على محياه إلا في مناسبات معدودة تتعلق جميعها بها أو بإخوتها، ولا إراديًا ابتسمت له وهي تمعن النظر به في أسف لم تستطع التخلص منه طيلة الفترة الماضية بسبب ظلمها إياه.
الليلة هي سعيدة كما لم تكن قبلًا، كما لم تشعر أبدًا، وكما لم تتمن يومًا.
لو كانت سدن أيضًا هنا لامتلكت الدنيا وما فيها، لكنها لم تأتِ ولن تفعل، فرغم رجاءها المتكرر بأن تكون حاضرة حتى لو لن تتبادل معها كلمة واحدة فإن سدن لم تعبأ بالرد على رسائلها.
الليلة تذوق غفران مرارة طعم القسوة، رغم أنها أكثر من نادى بها!
وعلى ذِكر القسوة رفعت عينيها تنظر إلى لين التي لم تدعها بمفردها منذ الصباح، رافقتها بكل خطوة، شاركتها استعداداتها وجهزتها كي تصبح بأبهى صورة، صورة مُغايرة تمامًا لغفران التي ترتدي من الملابس أقبحها ولا تألو جهدًا في إخفاء جمالها.
...
بملامح مُبتهجة وقفت إيلاف أمام مقعدي العروسين تمسك بالحامل الخشبي الأنيق والمحفور عليه اسما شقيقتها وخاطبها بالإضافة إلى تاريخ اليوم، بينما زينته بعض قطع الحُلي الذهبية البسيطة.
طال انتظارها قليلًا فتطلعت بهما في تساؤل قبل أن تحدجهما بنظرة مُتعجلة ارتبكت لها غفران لثوانِ ثم اضطرت إلى المُبادرة فقالت له:
_ينبغي أن.. ينبغي أن تساعدني على ارتداء "الشبكة"!
ضاع صوت نحنحته المُتوترة وسط الأصوات العالية للبعض، ثم اشرأب بعنقه باحثًا عن والدته التي اعتذرت للسيدة أماني وهبَّت لنجدته.
رمقته إيلاف في تعجب بالوقت ذاته حين بدأ الصمت يعم تدريجيًا بعد أن نال الفضول من الجميع، وفي حرج تدخلت والدته تقول في حبور:
_سأساعدكِ أنا يا حبيبتي.
في حذر اقتربت لين أيضًا تنقل نظراتها بين العريس ووالدته التي بدأت بوضع المحبس بإصبع أختها بينما هو يبتسم في أدب واضح، لكن عندما حطت عيناها على غفران وجدتها تبتسم في رقة ممتزجة بفرحة واضحة بلا اكتراث لهذا الموقف الغريب!
"غريب، أليس كذلك؟!"
همست إيلاف في أذنها بشك، فالتفتت إليها تومئ برأسها في ارتياب وهي تؤكد ما كان للتو يتمتم به عقلها:
_للغاية!
وصمتت الاثنتان تراقبان نضال في تدقيق، وتراقبان والدته في تحفز قبل أن تنفرج ملامح إيلاف بغتة لتهمس لها في انتصار:
_أظن أنه يخاف أن يلمس يدها فيفقد تماسكه ويميل ليقبلها مثلًا، أليس الأمر شاعريًا بعض الشيء؟!
خرج سؤالها الأخير حالميًا بلا شك، قبل أن تنقلب سحنتها تمامًا وهي تستدير لترمق ناهل في حنق بينما تقارن بين التفسير الذي اهتدى إليه عقلها لسلوك نضال وبين سلوك زوجها أثناء سيره إلى جوارها في الحي مُتبخترًا واضعًا كفه على كتفها كأنها صبي يعمل لديه!
...
"حياء المُستجَدين، أليس كذلك؟!"
في تهكم صريح نطق ناهل وهو يُشير إلى نضال الذي تصرخ لغة جسده بالتوتر، فضحك هارون ثم قال محاولًا تجنب السخرية:
_بل أظنه مُهذبًا لدرجة شديدة، مُلتزمًا، حريصًا على ألا يمسها قبل عقد القران.
ورغم موافقته الضمنية فقد رَفَع حاجبيه ليُعلق في إصرار:
_لا يمنع هذا أنه شديد الارتباك، كما أنه مُثير للريبة، انظر كيف يتهرب من لقاء عينيها وكأنه يخشى أن تغازله!
انفلتت ضحكات هارون وأومأ برأسه في اتفاق ليُردف ناهل مُتظاهرًا بالجدية:
_أقول ألا نمنحه الثقة سريعًا حتى يُثبت لنا أنه جدير بها، ربما نضعه في اختبارات حتى نتأكد أنه لن يضر بقلبها، صحيح أن غفران ليست بحاجة لأحد كي يُدافع عنها لكن يبدو أنها لن تستطيع الحكم على أفعاله بحيادية، أنا وأنت الآن بمثابة شقيقيها.
مسح هارون بكفيه على وجهه ثم رد في نزق مُفتعل:
_دع الرجل وشأنه يا ناهل! ألم تلتقِ بشخص مهذب من قبل؟! أم أصابتك عدوى الارتياب التي تنتشر بهذه العائلة؟!
ثم أضاف بنظرة ماكرة:
_لكن حينما ينفض الحفل دعنا نتناقش بأمر تلك الاختبارات!
مط شفتيه بلا رضا ثم أخذ يمسح الحضور دون اكتراث حتى توقفت نظراته على الجد فتفحص تلك البهجة العارمة التي يُظهرها بكرم شديد على عكس عادته..
_هل أظهر الحاج فؤاد ترحيبًا شديدًا بك أثناء حفل زفافك؟!
سأله ناهل في شرود وهو ينقل نظراته بين الرجل وبين العريس حيث مرمى نظراته الفخورة المُبتسمة، فأجابه هارون حانقًا:
_لو كانت السِهام تُباع بمكان قريب من القاعة لابتاع أغلاهم ثمنًا ليُسدده تجاهي حينها!
كاد يسهب في تساؤلاته لكن نظرة غفران المُصوَّبة تجاههما في تحذير عنيف أجبرتهما على التوقف والانشغال بأي موضوع آخر!
...
"لماذا تحدقان أختاكِ بي هكذا؟"
سألها هامسًا بعد أن انتهى من وضع حلقته الفضية في بنصره بنفسه وانفض الجمع من حولهما يتركان لهما بعض الخصوصية، فضحكت ثم أجابته بنبرة شابها بعض الفخر:
_ربما تنتابهما بعض الدهشة من حياءك الواضح.
ثم تلبست الجدية وجهها لتتابع في غيظ:
_سأطلب منك فقط أن تُسيطر على تورد وجنتيك قليلًا لأنني أجزم أنك محور حديث هذين المُتنمرين!
رمقها في دهشة ثم سرعان ما نقل نظراته إلى حيث أشارت خفية، ليجد زوجي أختيها يتحدثان باستمتاع كما بدا على ملامحهما، كما أنهما يتطلعان إليهما تحديدًا بابتسامة مُثيرة للقلق!
_ماذا تعنين؟
سألها بلا فهم فأجابته وهي ترمق ناهل في غيظ:
_لا أعلم بشأن هارون، لكنني أكيدة أن ناهل لا يستطيع التعامل مع إنسان شديد التهذيب من قبل، أعانها الله إيلاف!
"أتنادينني؟"
انتفضت بمقعدها واستدار نضال بجذعه في حدة إلى الخلف حيث وقفت شقيقتها تنقل بصرها بينهما في براءة مُصطنعة بوضوح، فسألتها غفران في دهشة:
_منذ متى تقفين هنا؟!
أخذت إيلاف تعبث بأظافرها المُقلمة حديثًا وقالت في نبرة مُدققة كما نظراتها التي سلطتها على خاطب شقيقتها في تمحيص شديد:
_منذ قليل، قلت لنفسي ربما تحتاجين شيئًا أو يحتاج نضال مساعدة ما فلا تبحثان عني.
وركزت عليه أكثر تسبر أغواره بنظراتها متسائلة:
_هل أنت بخير يا نضال؟ ألا تحتاج إلى مساعدة ما؟
ضاقت عيناه في تعجب للحظة ثم ما لبث أن أومأ برأسه إيجابًا ليبتسم ويرد في بساطة:
_أنا بخير تمامًا، أشكركِ يا إيلاف!
منحته ابتسامة غير حقيقية فيما احتفظت عيناها بنظرة تشكك وهي تخرج من خلف مقعديهما تجاه زوجها الذي يُشير إليها أن تأتيه ضاحكًا في تسلية، تنهدت غفران في حنق ثم عادت تبتسم ونظرت لنضال الذي تفصد جبينه بالعرق وهو يبحث عن أي افتتاحية، فقال بعد تردد:
_مبارك يا غفران، هل أنتِ سعيدة؟
أومأت برأسها سريعًا وقالت وهي تطيل النظر به:
_لم أكن يومًا أكثر سعا...
"هل بإمكاننا التقاط صورة تجمعنا بكما يا نضال؟ أم أنك لن تظهر مع غفران بصورة واحدة؟"
قالتها لين في ابتسامة مُتحفزة وهي تحمل آلة تصوير وتنظر لهما في ترقب، فضغطت غفران على أسنانها كي تكبت ردًّا لاذعًا في صعوبة فيما نظر نضال للين في وجوم!
_قطعًا لا يا لين! لا أُحبذ كشف وجهي في الصور!
جاء تعليقه سريعًا متهكمًا إجابًة على هذه النظرات المرتابة التي رمته بها أثناء انتظارها، فعقد ناهل _الذي وصل إليهما واستمع إلى عبارتها الأخيرة_ بين حاجبيه، وقال لها في اهتمام وهو يضع ذراعه على كتف زوجته:
_أتُلَمحين إلى أنه ربما يكون هاربًا من حكم ما فلا يظهر في الصور؟!
نظرة مُتحفزة رمقه بها نضال هي إلى الآن الرد الوحيد على أسلوبه الساخر الذي بدأ يعتاده، فيما زم ذلك الأخير شفتيه في تأمُّل وتابع:
_كيف لم أفكر بذلك من قبل؟! هذا يُفسر الكثير!
دَفَعه هارون قليلًا وهو يهز رأسه ناهيًا إياه عن الاستمرار _حتى حين_ قائلًا لزوجته مُتظاهرًا بالجدية على النقيض من الإشارة المُتآمرةالخفية التي ألقى بها إليه:
_هيا يا لين! هيا التقطيها قبل أن يُفسدها عدو الفرح هذا!
وقف نضال يعقد أزرار سترته مُوجهًا حديثه إلى لين أيضًا رغم أنه لم يحد بنظراته المُمعنة ولا بابتسامته الصفراء عن كل من ناهل وهارون:
_حسنًا! أنا أريد صورة للذِكرى تجمعني بخطيبتي بمُفردنا أولًا قبل أن تلتقطي لي صورًا عديدة أخرى مع نسيباي العزيزين الذين اقتحما القلب منذ اللقاء الأول دون إنذار!
جابهه ناهل بنظرات مُتحدية أخفى بها رغبته التلقائية بالضحك على عكس هارون الذي أخذ يقهقه وهو يحث زوجته على التقاط الصورة ففعلت، ثم وقف إلى جوار نضال ليتخذ ناهل موضعه على الجانب الآخر مُبتسمًا رغمًا عن إرادته!
بعدئذٍ اصطفوا جميعهم يحيطون بهم بينما أعطت لين آلة التصوير للؤي وعادت تقف إلى جوار زوجها الذي حَمل يزن..
وانضم لهم لؤي وإيلاف بصورة أخرى؛
ثم هالة وأماني وياسر بصورة في زاوية أكثر اتساعًا؛
ثم مهند ووالدته؛
ثم الحاج فؤاد الذي وقف في تمهل يضم طرفي عباءته الفخمة واتجه إليهم في خطوات ثابتة أكثر قوة وبمساعدة عصاه وقد ظهر أن صحته قد تحسنت بدرجة ملحوظة ليتخذ مكانه بين نضال وغفران التي ما إن وقف إلى جوارها حتى ضَمَّت نفسها إليه تلقائيًا وقبلت جبهته في شُكر.
وبالنهاية وقف النُسَباء الثلاثة بمفردهم جنبًا إلى جنب في صورة خفق لها قلب الجد وهو يُطالع ثلاثة أوجه رغم التباين الشديد بين ملامحها وطباع أصحابها فإنها ترسل له اطمئنانًا هائلًا يحُد من قلقه الأبدي على حفيداته.
لم يسلما سريعًا من مشاكسات ناهل وإيلاف ولين، حتى رحلوا كلهم وبقى العروسان بمفردهما، تلفتت غفران حولها رغبًة منها بالتأكد أن لا ورديات مراقبة لا زالت بمكان ما، ثم قالت له في تهكم وهي تشير إلى لين وإيلاف خاصًة:
_أرأيت؟! ربما يكون أول حفل خطبة في التاريخ حيث لا أطفال يقفزون فوق رأسيّ العروسين طوال الوقت، لكن الكبار يقومون بأدوارهم بأفضل إتقان ممكن!
_أظن أنهم يهتمون لأمركِ كثيرًا، سعداء من أجلكِ بصدق.
علَّق في سماحة وهو يضحك براحة أخيرًا بعد أن ساهمت الدقائق السابقة في تشتيت اضطرابه، فأمعنت النظر بهما وقالت في امتنان:
_أنت مُحق، كما تعرف..
بترت عبارتها وازدردت لعابها ثم أردفت في حنين:
_نحن عائلة مثالية!
انتقلت عيناه إلى حيث يجلس مهند، متجهمًا، تنفلت أمارات سخطه على وجهه بين الفينة والأخرى، فمنذ ذلك اليوم عندما طلب الزواج من غفران ثم عرض الأمر على والدته وعليه وهو يكاد لا يتبادل معه بضع كلمات يوميًا..
والدته أبدت تخوفها من زواجه بغفران بالذات لكنها بآخر الأمر لم تقو على اعتراض طريق سعادته وهو يطالب بها لأول مرة وقد أنبأها شعورها بأنها مميزة لديه..
أما شقيقه فقد ثار، استنكر، غضب، ثم توسله ألا يضعه بمواجهة ضحيته لِما تبقى من عمره!
إلا أنه لم يكن هناك مجالًا للتراجع، لو طالبه مهند بأن يقتطع جزءً من جسده ليمنحه إياه لم يكن ليتردد لثانية واحدة..
لكن قلبه.. هذا ما لم يستطع التحكم به، لم يجد وسيلة لتسييره تجاه الصواب؛
وهل ارتباطه بغفران خطأ؟
اختلس النظر إليها ليرى هذا الحب الذي ترميه به تعبيراتها من آن لآخر، حب أثبتته بلا شكوك طيلة الأسابيع الماضية.
أطرق برأسه أرضًا ليؤكد على نفسه مُجددًا أنه اتخذ أكثر القرارات مُلائمة، وينبغى عليه أن يُضحي برضا شقيقه لبعض الوقت، فقد استسلم كليًّا لفكرة مشاركتها مستقبله، وقلبه..
ثم حانت منه نظرة أكثر عُمقًا إليها ليجدها تحمل ابتسامة زادتها جمالًا إلى حد لا يُحتَمل..
لقد آمن منذ وقت طويل بإشغال عقله بما يُفيد حقًّا..
بعيدًا عن صخب شغف الفتيان؛
بمنأى عن صولات هوى المراهقين؛
وبأقصى مسافة عن رغبة رجولية في العشق وسيطرة فطرية لِصبابة أو هيام؛
والآن.. هزة!
يهتز خافقه بين أضلعه؛
يطالع نصفه الآخر وهو لم يبحث عنه يومًا؛
وهي.. تستكين على مقربة منه، به تثق، له تُفضي بما لم تخبر عنه أحدًا، وعلى قلبها تأمنه!
يدري أن وحدته المجيدة تم أسرها؛
يوقن أن ادعاءات لا مبالاته المديدة _للتو_ تم دحضها؛
ويقسم أن عهود صموده العنيدة.. الآن لا مجال لإبرامها!
_لو كنا عقدنا القران!
تمتم بها في أسف فسمعته، لتبتسم في مكر وتقول في دلال لم تتصنعه:
_ماذا كنت ستفعل حينئذٍ؟
في حنق نظر لها قائلًا:
_على الأقل كنت استطعت وضع المحبس في إصبعكِ بنفسي بدلًا من أن أتعرض لنظرات الشك والسخرية من زوجي أختيكِ بهذا الشكل!
ثم أضاف في تحفز:
_بالمناسبة هما أيضًا يستحقان التنمر لكنني لا أفعل!
نظرت له بترقب فتابع مُشيرًا إلى زوج أختها الكبرى قائلًا بنظرة مُحذرة:
_هارون الذي يبدو مُهذبًا، هادئًا هو في الحقيقة شديد الدهاء.
صَدَّقت على قوله بإيماءة سريعة، فأردف بحنق اختلطت به الحيرة وهو يُشير تجاه الآخر:
_أما عن ناهل فلا أظنني سأضيف الكثير، الرجل يجعل المرء مُستعدًا لسماع من الردود أغربها لقاء تحية عابرة!
شاركته النظرة الحانقة ذاتها لثوانِ ثم ضحكت فجأة في استمتاع فانمحى تجهم وجهه تدريجيًا وعيناه تهربان إليها بتعبير تائق أفلت رغمًا عنه، لاحظته فترقبت كلماته التي جاءتها خافتة:
_أتعلمين بِمَ أشعر الآن يا غفران؟
تباطأت أنفاسها وسألته في لهفة:
_بِمَ؟
بعد تردد طال جاب ببصره ملامحها الدقيقة الجميلة كطفلة هادئة تخفي بصعوبة صخبًا هائلًا يناضل للظهور، يصارع للاجتياح، فأجابها في شغف وهو يغض نظراته عنها:
_بأنني.. ربحت، ربحت ما لم أجرؤ على تمنيه، وربحت ما استهجنت مجرد التطلع إليه عن بُعْد، ربحت معركة دخلت بها خالي الوفاض إلا من حسن التوفيق، فَنُصِّبت فارسًا مغوارًا، وقُلِدت أوسمة تتلخص كلها في معنى واحد..
_وما هو؟
_الصفح والغفران!
ضاعت بعمق نظراته، وسطوة جاذبيته، انفرج قلبها باعترافات عدة، وانفعالات متباينة، لكن لسانها لم ينفرج إلا بـ:
_لو كنا عقدنا القران!
وضع إصبعيه على عينيه بينما اهتز جذعه في ضحكات لو ترك لها الحرية لفضحته، وفاته تأملها المُتوله حتى قال مُتنهدًا:
_يبدو أنكِ ستتعبيني!
فعلقت في زهو:
_لقد حذرتك منذ اليوم الأول!
إلا أن ابتسامتها انحسرت في غمضة عين ما إن لمحت مَن يدخلون من باب البيت المفتوح لاستقبال المدعوين الذين اقتصروا على أفراد العائلتين فقط..
_ماذا بكِ؟
سألها في استغراب وهو ينظر إلى حيث تسمرت عيناها وانقلبت ملامحها إلى تلك الصورة الأخرى التي واجهها ذات مرة، حاقدة؛
كارهة..!
_من هؤلاء؟
في إصرار نطق سؤاله التالي، وفي نبرة متحفزة ردَّت بالإجابة:
_إنهم.. عمتي، وزوجها، ..وولديها!
تجاهل المرأة والرجل الذي يبدو زوجها بوضوح، فيما أخذت عيناه تمسحان الشابين في كراهية وزعها عليهما بالتساوي حتى عَرِفَت مُستحقها تلقائيًا فتركزت عليه..
"مبارك يا غفران!"
انتبه إلى المرأة التي وقفت قبالتهما فلم يدرِ متى وصلت إليهما، وانتبه أيضًا إلى تعبير السخط الذي تلبس وجه خطيبته وهي تبحث بنظراتها سريعًا عن جدها ثم تضطر إلى مُصافحتها!
وما لبثت أن انتقلت عمتها إليه فيما بدا أنها تبذل جهدًا واضحًا كي تحد من عدم الرضا المُوجه إليه وتفتعل ابتسامة لا تمت للسعادة بِصلة، لتمد كفها تجاهه وتقول:
_أنا عزة الكُردي، عمة غفران الكبرى، مُبارك!
تطلع إليها في ازدراء لم يتعمده لكنه منذ علم بالماضي ارتبط في ذهنه بها..
هي امرأة ارتأت ظلم ابنة شقيقها طوال سنوات لصالح ابنها؛
هي امرأة ارتضت أن تعاني فتاة منذ عمر المراهقة حتى الشباب كي يرتاح ابنها؛
هي امرأة باعت اطمئنان نفس تربطها بها الدماء لتشتري غطاءً لجرم ابنها!
في جمود نزلت نظراته حتى كفها الممدودة، ثم صعدت مُجددًا لتتطلع إليها قبل أن يرد بلا أدنى مظهر للحرج:
_بارك الله بكِ، أعلم أنكِ ربما بعمر والدتي، لكنني لا أصافح النساء!
ندت عن عزة شهقة لم يسمعها أحد وهي تبعد كفها في حدة وتنقل نظراتها بينه وبين غفران التي ابتسمت في تحدي، ثم رمقت هالة التي تقف بالقرب منهم في مقت قبل أن توليهم جميعًا ظهرها لتتجه إلى والدها.. فقد آن أوان اعتذارها له، ومن ثَمَّ.. طلب العودة!
*****نهاية الفصل الثاني والعشرين*****




تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close