رواية علي ضفة قلبك ظمآن الفصل الحادي والعشرين 21 بقلم سعاد محمد
الفصل الحادي والعشرون
(نِضال حتى الغُفران!)
انتهت من تحضير طعام الغداء بذهن شارد تمامًا وجلست تنتظر في ترقب؛
منذ رحلت تلك المرأة بصحبة ابنها أمس الأول وعمها لم يتبادل معها كلمة واحدة، إلا أن عينيه رمتها بعتاب قاتل لم تجد فرصة للدفاع عن نفسها ضده قبل أن يلج إلى غرفته ولم يخرج منها إلا لينصرف إلى المدرسة دون تناول الإفطار..
ماذا فعلت حتى يُعاقبها؟!
الوضع غريب لأي من يطلع عليه.. أليس كذلك؟!
هَبَّت واقفة ما إن ارتفع رنين جرس الباب قبل أن يفتحه عمها ويدخل بوجه صامت، ألقى عليها تحية فاترة ثم اتجه إلى غرفته..
"ألن تتناول الطعام لِتلحق بالعم فوزي على المقهى يا عمي؟"
سألته في توتر فأجابها دون أن يلتفت لها:
_لا رغبة لي بالنزول، سيأتي هو بعد قليل.
ودون انتظار أية كلمة أخرى منها أوصد باب غرفته، فاغتمت ملامحها والضيق يخترق خلجاتها..
...
"مرحبًا يا عم فوزي، لقد اشتقنا لزيارتك!"
قالتها بصوت عال مُرَحِّب حتى يسمعها عمها فيخرج، ثم أخفضت نبرتها لتتابع هامسة:
_عمي ليس على ما يرام، لا يعقل أن يكون ما حدث أمس الأول مع ياسر ذاك هو سبب حزنه!
ألقى الرجل بجسده المكتنز على أقرب مقعد لِيقول في بساطة:
_ولِمَ لا؟! لقد دأب على معاملته كابن وصديق، حتى أنني كنت أغار منه أحيانًا.
ثم أضاف في مكر:
_لكن هناك سببًا آخر.
جلست قبالته تسأله في فضول:
_وما هو؟
دقق النظر بها مليًّا ثم هز رأسه رفضًا وقال:
_لن أخبركِ، ستفشين السر الذي آمنني عليه!
ازداد فضولها مع إلحاحها وحاصرته بنظراتها لترد في خفوت:
_ومتى أفشيت سرًا يا عم فوزي؟
وفي الحقيقة لم يكن يحتاج للمزيد من الرجاء، فعلى الفور حسم أمره ليقول هامسًا بالمثل:
_عمكِ كان يفكر في اتخاذ خطوة هامة أرجأها طويلًا، لكنها لم تعد ممكنة الآن بفضلكِ.
_أية خطوة؟
سألته في اهتمام نال منها القلق فأجابها مُترددًا:
_كان.. كان يرغب بالزواج.
تسمر تعبيرها قليلًا ثم انفرجت ملامحها لتعلق في حذر:
_أأنت جاد يا عم فوزي؟! أنت لا تتسلى على حسابي، أليس كذلك؟!
هز رأسه نفيًا فانتفضت تقفز وتهتف في سعادة:
_يا إلهي! لكم تمنيت أن..
لكنه أشار لها في صرامة آمرة بصوت خفيض:
_أخفضي صوتكِ حتى لا يدرك أنني تفوهت بشيء!
بصعوبة سيطرت على انفعالها وعادت لتجلس بمكانها مرة أخرى، ثم سألته في حماس:
_إذن هل هناك واحدة بعينها أم..
بترت عبارتها عندما ابتسم العم فوزي في مكر، فضحكت عاليًا والبهجة تتمكن منها تمامًا، ثم تمالكت نفسها واستفهمت في فضول:
_ومن تكون هي؟
رفع العم فوزي كفيه أمام وجهه وأشاح به بعيدًا عنها ثم قال:
_إلى هذا الحد لن أستطيع البوح أكثر، لست نقَّالًا للأخبار!
ازداد التوسل بعينيها قبل صوتها لتُطالبه في إصرار:
_أنا ابنة شقيقه وبمثابة ابنته يا عم، أعمل على صالحه وأسعى إليه، لا أهتم سوى بسعادته، أرجوك خبرني!
ثم أضافت قبل أن يتراجع:
_هيا قل ولن أنطق بكلمة واحدة!
_إنها والدة ذلك الشاب.
أجابها في بساطة وهو يمعن النظر بها كابتًا ضحكة تكافح للجلجلة، فسألته بلا فهم:
_أي شاب؟
اتسعت ابتسامة على شفتيه أحستها شامتة، ثم رد وهو يراقب ملامحها في استمتاع:
_ياسر البحيري!
وأردف مؤكدًا حينما لاحظ تخشبها المُفاجئ:
_عمكِ يريد الزواج بوالدة ياسر البحيري!
أهو شمع ذلك الذي يزحف على أوردتها؟!
أم أن سمعها خدعها _كما تتمنى_ ويعاقبها لتسببها في إثارة حزن عمها؟!
_سلام! ما بالكِ همدتِ فجأة؟! هل ستفقدين وعيكِ؟
وأخيرًا أبدت حركة ضعيفة فتحركت مُقلتاها تجاهه بنظرة مصعوقة، لتهمس:
_يا ليت!
**********
استرعت الطرقات العالية خوف عزة التي انتفضت واقفة تجاه الباب يسبقها زوجها، وما إن فتحه حتى اندفعت الطارقة في غضب إلى الداخل دون تردد..
"غفران! ماذا هناك؟!"
تخلصت من دهشتها بعد عدة ثوانِ أخذت ابنة شقيقها خلالها تنقل نظراتها بينها وبين زوجها بتعبير غريب، مُثير للقلق..
_كيف حالكِ يا عمتي؟ أظن أن الفضول قد هزمني أخيرًا فقررت زيارتكِ بالشقة التي اشتراها لكِ جدي كي يُهدئ من رغبتكِ الأثيرة في الاستحواذ على كل شيء!
تجهم وجه عزة وتطلعت إلى ابنة شقيقها التي يبدو عليها الجنون واضحًا كما لم يكن قبلًا، وعلى عكس التوتر الذي كاد يُخلخل صمودها فقد أظهر زوجها بعض الاستنكار ليهتف بها:
_كيف تتحدثين مع عمتكِ بهذه الطريقة يا..
رَفَعت سبابتها أمامه فقضم عبارته، ثم في برود حدَّقت به لتسكته في صرامة رآها هو أوج الوقاحة:
_لم أطلب رأيك، ولأنها عمتي لا أفضل أن يتدخل الغرباء في حديثنا!
تبادلت عزة النظرات معه في ارتباك فور أن أيقن الاثنان أن هناك ما جدَّ، اضطر للسكوت حينما تقدمت غفران إلى الداخل تشرأب بعنقها في جميع الاتجاهات وتسأل في حقد:
_أين الحقير ابنكِ؟
_من تقصدين؟
والسؤال التلقائي الذي نطقت به عمتها جعلها تُقهقه للحظات دون توقف فيما كبحت دموعها التي تنساب كالأنهار بكيانها كله، ثم استدارت إليها تُعلق في سخرية:
_يا لتصالحكِ مع حقيقة ولديكِ!
وفي بطء تقدمت منها سامحة لكراهيتها كلها أن تنطبع على وجهها حتى تسربت إلى عباراتها التالية:
_أتحدث عن النذل الأصغر، الخناس الخبيث، العقل المُدبر لفرع العائلة الذي وجب اجتثاثه، هل هو هنا؟ أم أنه يمارس هوايته في القذارة بمكان آخر؟
من خلف جسدها أشار سمير لزوجته بألا تجيبها، لكنها _مع هذا الحصار الخانق من أكثر شخص تخافه بعائلتها_ هزت رأسها بلا معنى قبل أن ترد في ارتباك:
_لقد.. سافر بصحبة هاني إلى البلدة.
ضحكة عالية تشع بالخبال سبقت تعليقها الماكر:
_آآآه حيث الإرث المُنتظر..
ثم في سرعة مطت شفتيها وتظاهرت بالانتباه لتواصل:
_أم ربما لم يكن منتظرًا تمامًا؟
وكأنها قد وجدت الفرصة أخيرًا للتعبير عن تشفيها وشماتتها، فتابعت قاصدة إثارة حنقها وتأجيج شعورها بالخسارة:
_أُقر بأنها كانت خطوة استباقية بارعة قام بها جدي حين وزع أملاكه قبل أن تُدركوا حتى أنكم لن تستطيعوا رفع القضية ضده، ولا يسعني إلا أن أقف أمامها احترامًا، لكن ماذا سيكون ردكم؟ ما هو رأي ابنكِ في الأمر؟ أعرف أنه لا يستسلم مُطلقًا، ألهذا سافر إلى البلدة؟
فتحت عزة فمها لتنكر لكن غفران أسكتتها حينما اقتربت منها تتساءل في اهتمام:
_هل هناك ما تكيدون له؟ هل ستنشرون الأمراض في الثمار على سبيل المثال؟ أم هل ستقنعون أصحاب الأراضي المُجاورة بأن جدي سرق حقوقهم قديمًا كي يضعوا أياديهم عليها الآن؟!
_لقد سافرا كي يُتابعا أرضنا لا أكثر.
هتف سمير ما إن لاحظ خرس زوجته التي يبدو أنها قد فوجئت بهجوم غفران بعد أن باتت تتحاشاهم لسنوات وتتظاهر بعدم رؤيتهم..
التفتت إليه على مهل لتتمتم بنفاد صبر:
_أنت مُجددًا؟! ألم أطلب منك ألا تتدخل؟!
ولم تنتظر منه كلمة لتعود إلى عزة التي كانت تتأملها في حيرة، ابتسمت ثم قالت في هدوء:
_حسنًا يا عمتي العزيزة! حينما يعود خبريه أنني قد قمت بزيارته كي أُهنئه، وأنني قد كشفت اللعبة، خبريه أن غفران قد أدركت الكذبة الطويلة التي حيكتموها في إتقان فظنتها حقيقة لا شك بها!
ثم أردفت في صوت خفيض أقرب إلى الفحيح:
_وخبريه أن رقابكم كلكم قد صارت تحت أسناني لأنهشها وقتما أحب، إن طالني الملل ذات يوم ربما أتفوه بما يغرق السفينة بأكملها!
وقرن شحوب وجه عزة تراجعها هي المُتبختر إلى الباب، مع إضافتها الأخيرة في إباء:
_فوالدي رحمه الله قد جانبه الصواب تمامًا حينما اختار اسمي، وأنا _بالفعل_ لَفي شوق عارم لأن أنال منكم جميعًا!
والنظرة التي تشاركتها عمتها مع زوجها صبَّت الثلوج صَبًّا على صدرها المُتقد لسنوات؛
مذعوران، متوسلان؛
ضعيفان؛
لوقت طويل اعتادوا على التنزه أمامها بحرية عن ضمان أن تستقر ببركة الجهل إلى النهاية، وأن يضلها الوهم فلا تبرحها الغفلة دون أمل في النجاة..
الآن حصلت على المعرفة وارتقت لتنقلب الكفة؛
والآن دَلَّتها الحقيقة وعليهم أن يستسلموا للضياع؛
لقد عذبوها ببطء على مدار سنوات بإمضاء راعيها؛
لينالوا العذاب نفسه، بالكيفية ذاتها،
وبِصَكِّها.. هي!
ليرتعدوا!
ليتقطع نومهم!
ليقضوا ما تبقى من أعمارهم يتساءلون هل ستفضحهم أم لن تفعل!
ارتياح مُضاعف استقبلته وهي تلحظ ذعرًا استبد بهما وبالطبع سيكون لنبتة الشر الأثر الأكبر، فمنحتهما ابتسامة فوز أخيرة وتراجعت لترحل.
ما إن انغلق الباب حتى خرجت عزة أخيرًا من حالة جمودها؛
هلع؛
خرس؛
وتكاد تموت بمكانها!
_عزة! لا داعِ لانهياركِ الآن، ألديكِ فكرة عمَّا قصدته بتهديدها؟
بادرها سمير في صرامة وهو يمسك بأعلى ذراعيها، حدَّقت به في تساؤل حقيقي ثم ما لبثت أن ألقت بجسدها المُرتجف على المقعد القريب، وقالت في صوت متحشرج:
_لا معنى لكلامها إلا أن أحدهم قد خبرها الحقيقة..
وقف ينظر حوله في غيظ، ثم جلس قبالتها وهتف بغضب:
_بالتأكيد هي هالة، ترغب بأن تنتهي منا تمامًا وتتأكد بأن لا مجال لعودتنا إلى البيت أو المصنع، تظاهرت بالامتثال لسنوات ثم ما لبثت أن أفشت الأمر، وهكذا لا فرصة في أن يشفق عمي علينا فيتقبل اعتذارنا.
رمقته في خوف فاح به سؤالها المُتوجس:
_أتظن أنها قد خبرت أبي أيضًا؟
دون تردد هز رأسه نفيًا، ثم قال عن ثقة:
_قطعًا لا.. لوجدناه فوق رأسينا قبلها!
ساد الصمت بينهما وكلاهما يحاول تصور ما يمكن أن يحدث إن كشف فؤاد الكردي الاتفاق القديم الذي اعتقدوا جميعًا أن لا مناسبة لِذِكره خاصًة بعد وفاة جلال..
ستكون صدمة، فضيحة، إعصارًا سيقلب حياتهم رأسًا على عقب!
ستكون نهاية علاقتهم بالكُردي.. وما يملكه الكُردي!
سيكون من المُحال أن يتقبل أسفهم، أو يُصدق ندمهم، وبالطبع لن يُعيد تقسيم أملاكه بالعدل فيما بينهم!
هب واقفًا يتناول هاتفه من جيبه، وفي إصرار عبثت أنامله به، ثم الترقب..
_ماذا ستفعل؟
سألته عزة في استجداء، فأجابها عندما يسمع صوت جرس الانتظار على الطرف الآخر:
_أهاتف عمرو، يجب أن يعلم كي يستطيع التصرف!
**********
من خلف ستار يحفظ الممر الذي يحوي غرف النوم خصوصيتها وقفت تتابع حديث عمها مع صديقه دون أن تعبر كلمة واحدة يقولها أحدهما إلى عقلها، تشعر بغيظ، ورفض، وذهول جراء المعلومة التي خبرها بها ذلك الأخير في استمتاع لا تعي له سببًا..
حاولت التمسك بالصبر حتى يرحل لكنها بلا فرصة للتراجع دفعت الستار لتقفز كـ"عفريت العلبة" أمامهما فابتلع كلاهما حديثه في دهشة!
"لا أصدق أنك حينما فكرت في الأمر أخيرًا لم تجد سوى تلك المرأة!"
وأردفت في حنق:
_والدة ذلك السخيف المتعجرف!
في حذر نظر إلى العم فوزي الذي _كعادته_ تظاهر بأنه يتأمل أحد الجدران، ثم سألها مُصطنعًا الجهل:
_أي أمر؟
وقفت أمامه تُحاصره حتى لا يتهرب من الاعتراف، وفي حيرة هتفت:
_كم مرة طالبتك أنا وشقيقتاي بأن تتزوج يا عمي؟ كم مرة عرضنا عليك مرشحات؟ كم مرة كدنا نتوسلك حتى تجد شريكة لحياتك؟
اكتفى بالصمت وتنهد في بطء، حتى استبد بها الغضب ثانية لتُتابع:
_وبكل مرة كنت ترفض، كنت تؤكد أنك زهدت الزواج وترغب بالعيش راضيًا بهذا الوضع.
ثم باستنكار أضافت مُتسائلة:
_ألم تفكر بسواها؟!
وبدلًا من أن يحاول تهدئة انفعالها، أو إجابتها نفيًا أو إيجابًا، التفت إلى صديقه هاتفًا في غيظ:
_لا تستطيع كتم سر أبدًا، أليس كذلك؟!
لكنها سارعت بالتدخل في حزم:
_لا ذنب للعم فوزي، أنا من استدرجته!
في ترقب أخذت تتطلع به بينما عقلها يدور بحثًا عن تفسير مُقنع لرغبته المُفاجِئَة، لقد استسلمت لفكرة أنه قد عزف عن ذلك القرار إلى الأبد، حتى أنها استنتجت أنه ربما لا يزال يحب خطيبته التي انتهى ارتباطهما عندما قرر أن يتولى مسؤوليتهن..
ولكم يورثها هذا الاستنتاج شعورًا لا نهائيًا من الذنب!
_نعم يا سلام، لم أشعر قبلًا أنني بحاجة لامرأة بعينها حتى رأيتها ثانية.
في بساطة نسف استنتاجها، واختطف انتباهها، ضاقت عيناها وهي تُكرر كلمته الأخيرة في تساؤل حائر:
_ثانية؟!
وقبل أن ينطق برقت عيناها وهي تجلس قبالته وتهتف في دهشة:
_أكنت تعرفها من قبل؟!
_لا حول ولا قوة إلا بالله، ألم أخبركِ أن ياسر كان أحد طلابي؟!
علَّق في ضجر فسارعت في استنكار:
_نعم، لكنك لم تتذكره حين رأيته أول مرة أمام المصنع، فكيف بوالدته؟!
أطرق برأسه أرضًا مُتجاهلًا إجابتها، إلا أن ذبذبات فضولها وصلته فزفر طويلًا ثم نظر إليها قائلًا:
_حدث هذا بالحفل!
عقدت حاجبيها ترقبًا لإيضاح، لكنه لم يمنحها إياه، حتى سألته هي بعد عدة ثوانِ:
_أي حفل؟!
انتقل بعينيه في حرج إلى صديقه الذي أومأ له في تشجيع، فتخلص من تردده ثم قال بكلمات متواصلة لا توقف يفصل بينها:
_حفل تكريم الأم المثالية بالمدرسة منذ سنوات، وقد تُوِجت هي حينذاك، سمعت عن قصتها وعلمت أنها أرملة سليلة عائلة طيبة توفي زوجها وهي بعقدها الثالث فوجهت جل اهتمامها تجاه ابنها راضية بإفناء عمرها من أجله دون الالتفات لسعادتها هي، أثارت إعجابي لبضعة أيام ثم نسيتها تمامًا حتى رأيتها حين كنت بصحبة ياسر بالمركز الاجتماعي، هل انتهينا؟
وسؤاله الأخير هتف به نَزِقًا أكثر من الضروري، ظلَّت هي تحملق به في محاولة لاستيعاب ما قال ببطء..
عمَّ الذهول تعبير عينيها الواسعتين، تراجعت في تمهل بمقعدها تُشبك أصابعها، ثم دارت عيناها في أرجاء الصالة قبل أن تقول في نبرة مُحملة بالإدراك:
_شبيهتك ونصفك الآخر، أليس كذلك؟!
في حذر حدَّق بها، فاكتسبت عيناها لمعة، وحلَّ على صوتها رجفة عندما تابعت في ابتسامة مليئة بالخزي:
_لقد فَعَلَت مثلما فعلت أنت، فضَّلَت ابنها على سعادتها الخاصة، لكنك فَضَّلت بنات شقيقك على حياتك كلها وأهدرت عمرك من أجلهن.
منحها نظرة مُتألمة فاقت خاصتها، لكنها تابعت في كلمات مُتقطعة من فرط الأسف:
_إلى.. هذا الحد تمكنت منا الأنانية فتجاهلنا تضحيتك ومثلنا عثرات في طريقك؟!
قبل أن ترد وضع العم فوزي إحدى كفيه على فخذ صديقه ونظر إليها مُوضحًا في رجاء:
_عمكِ لا يقصد ما فهمتِ يا بُنيتي.
_هل استمعتِ يومًا إلى نبرة شكوى مني يا سلام؟
سألها في عتاب فهزت رأسها نفيًا ولم تحتمل دمعا تها الصمود فأكثر فشقت سبيلها عبر وجنتيها سريعًة غزيرًة مُتفانيًة، فتابع في لَوم:
_هل رأيتِ مني تجاهلًا، تأففًا، انزعاجًا بسبب رعايتكن؟
مُجددًا نفت دون تحدث، فأردف في ثبات رغم الخيبة التي تخللت خلجاته:
_لا يضيق الأب بأولاده مهما كان حجم ما تخلَّى عنه لأجلهم، وأنا أعتبر نفسي والدكن لا مُجرد عم اضطر إلى تربية بنات شقيقه اليتيمات.
ثم أضاف في حزم:
_ولهذا لن أسمح لكِ أن تُشككي في مقاصدي مرة أخرى، ولا أن تدسي أفكاركِ الرعناء بعقليّ شقيقتيكِ!
أخفضت رأسها أرضًا تواري حيرتها، وخجلها، وندمها، مع رغبتها الدفينة التي كبتتها طويلًا في تبديد مسؤولية أُلقيت على عاتقه فتحملها في بسالة مُتغاضيًا عن ثمن دفعه بكل كرم.
ثم رفعته إليه في أسف تعددت أسبابه، ما بين شعورها بالألم لأنها أوجعته بحديثها، وبالندم لأنها لم تشعر بحاجته تجاه واحدة بعينها..
وبأسف شديد تجاه آخر أعمى حنقها تجاهه رؤية أية ملامح أخرى على ملامحه..
ملامح بآخر مرة فقط أبصرتها؛
رأته مخذولًا، أحسته غاضبًا؛
ولمسته يدق باب حاجة لم تُحرم هي منها يومًا لكنها كانت من شدة البُخل بحيث ضَنت عليه بقبس منها لساعات!
**********
بمنتصف الدرجات جلست بعد أن ودعتها هيئتها القوية، المُنتقمة، الحاقدة، لتترك هيئة أخيرة..
منحورة؛ مدحورة؛ مقهورة؛
تئن بمرارة الخسران، وتنوح عيناها من فرط الخذلان..
لم تذرف دمعة واحدة بعد المواجهة مع جدها التي بذرت بها الشك، كانت تأمل بأن اعتقادها خاطئ حتى أكدته والدتها..
والآن من بين دموعها الكثيفة ضحكت!
أكان من الأفضل لها أن تبقى عمياء مُكتفية بظلام الخديعة؟ أم أن استردادها البصر على حين غرة يؤلمها أكثر؟
ليتها ما أبصرت! ليتها لم تسأل!
ليتها لم تتنشق أول نفس بعمرها!
لاستراحت ولم يكن عالمها ليختض كله للمرة الثانية بينما أثر الرجفة الأولى لم يبرأ بعد!
ولمَّا كانت الارتدادات لا تزال تتحكم بروحها قبل جسدها مع ذهنها فقد التقطت هاتفها لتطلب أحدًا يقوم بمواساتها..
سدن؟ انتهت علاقتهما بلا رجعة!
إيلاف؟ لن تستطيع أن تقص الأمر عليها من البداية فيُكللها الذنب بلا داعِ!
لين؟ كيف ستتطلع بها لتخبرها أنها قد ألقت باللوم عليها لسنوات لأنها مرضت تلك الليلة فلم يسمعها هي أحد!
"سأنتظركِ"
"سأنتظركِ"
"سأنتظركِ"
بصرامته، وحياءه.. بِقُوته، ودماثة خلقه.. تسللت كلمته الواعدة المؤكدة إلى ذهنها فتوقفت الارتدادات؛
ثلاث مرات قالها بلسانه..
وثلاث مرات طالبها بأن تعده بالمُبادرة..
ألا تزال تملك من رباطة الجأش ما يحملها على البوح لغريب؟
الشكوى أمام آخر من ترغب بأن يشهد هزال اعتدادها بنفسها ووهم جبروتها؟
الانهيار بُكاءً لعابر سبيلها بالخطأ؟
لا.. هو _كما تيقنت_ ليس عابرًا على الإطلاق!
لكن ألا تزال غفران بقادرة على أن تأتي من الأفعال آخرها توقعًا؟
إن كانت ستفعل.. فلا داعِ للتردد؛
وإن كانت لن تفعل.. فلماذا احتفظ ذهنها برقم هاتفه منذ أملاها إياه؟!
**********
الخطأ معاييره دومًا واضحة للعيان لا مراء بها ولا فرصة لاختلاف مكاييلها..
لكن ماذا إن اقترفه ذو مقربة؟
وماذا إن هددت العقوبة من ندرك حقيقته، فضائله ومثالبه؟
أتكون الشفاعة؟
أم أن سيف الحق صارم بتَّار ولا مجال للئم ضحاياه؟
...
أمام أحد أصص النباتات وقف في شرود يرمق الزهرة التي بدأت تنمو على استحياء بعدما واظب على الاعتناء بها طيلة الفترة الماضية..
نال منها الجفاف حينما غفل عنها لأجل الهرولة خلف شقيقه هنا وهناك، أوشكت على الموت وحرمانه من الفرحة التي تمتلكه كلما ظهرت واحدة، لكن ها هي بعد توفيق من ربه ثم تكثيف اهتمامه بها عادت للحياة.
لطالما كان الأكثر صبرًا وتفاؤلًا بهذا البيت.. تُرى أسيحصل على مكافأة ذات يوم؟
اكتسحه التذمر من روح طمع بدأت تتولد لديه مؤخرًا، ألا يحمد الله على إنقاذه شقيقه قبل أن يذهب في رحلة لا عودة منها؟!
ممتن هو.. بل كثير الشكر؛
لكن..؟!
لكن هناك قوة غريبة تجذبه إلى اتجاه آخر؛
اتجاه ظل دومًا مُجرد خطوة حتمية سيقوم بها يومًا ما بعد دراسة عملية لا فرصة للعاطفة اتخاذ أي دور بها؛
واتجاه صار الآن رحلة ضرورية يهفو إليها كيان ما بداخله!
كيان استفزته واحدة بعينها.. ولا سواها يظن أنها كانت ستستطيع أن تفعل لو لم تظهر هي!
ضحك في استهانة لمآل أفكاره، ثم عبس على الفور حالما لمح مهند آتيًا إليه..
حياه شقيقه بإيماءة سريعة ردها إليه مُصطنعًا الانهماك في الري، إلا أن ابتسامة مهند قبل أن يشيح بوجهه بعيدًا جعلته يسأله في حنق وجد هدفًا له:
_علام تضحك؟!
_عذرًا! حينما أراك تسقي هذه النباتات أشعر وكأنني أراقب أم مع أطفالها!
أجابه مهند وهو يستند بساعديه على السور فعبس نضال تلقائيًا في استنكار أراد التعبير عنه بالكلمات لكنه لم يستطع، زفر في غيظ، ثم سحبه إلى فحوى حديث آخر:
_كيف تسير أمور تجهيزات المكتب؟
أشرقت ملامح مهند ورد سريعًا:
_لقد قمنا بتأجيلها حتى ينتهي العام الدراسي، واستطاع زوج أخت لؤي إقناع المالك بتقسيط نصف الإيجار لهذه الشهور حتى نبدأ بالعمل.
تطلع إليه في ترقب وسأله بشرود:
_وهل تشعر بالحماس أم..
لكن مهند قاطعه فاستدار ليواجهه هاتفًا:
_بشدة، أنتظر مرور هذه الأشهر بفارغ الصبر، إنها المرة الأولى حيث أشعر أنني بقادر على الاعتماد على نفسي.
أنهى عبارته وانتظر تعليقًا يُثني عليه، لكنه اصطدم بغياب تركيز شقيقه تمامًا، وفي الأفق كان نضال يتلوى ألمًا تحت وطأة ضميره الذي يُملي عليه نصيحة لا غيرها منذ وقت ليس بالقصير.
_ما خطبك يا نضال؟ أنت ترغب بالتحدث في أمر آخر، أليس كذلك؟!
سأله مهند في قلق، فالتفت إليه يحدق به مراقبًا، ومترقبًا، ثم في تمهل تمتم:
_غفران.
والاسم البسيط الذي نطق به في تعاسة نزع عن مهند كل مظاهر السرور بلا جهد، وبالإرغام طبع عليه آخر بالارتباك، والخوف، والذنب..
_ماذا بها؟
سأله في صوت متحشرج، فجلس نضال على كرسي خشبي قريب ونظر له صامتًا، ثم تحدث متفحصًا اختلاجاته في إتقان كي لا تهرب منه أحدها..
_لآخر مرة سأسألك يا مهند، ألم تشعر تجاهها بأي مما يجذب الرجل للمرأة؟
والذهول الذي تلبس وجه مهند كان يضج به عقل نضال ضجًّا!
لم يكن هذا هو ما يرغب بالتحدث معه بشأنه؛
لم يكن هذا هو السؤال الذي نطق به لسانه مرارًا؛
وبالطبع لم يكن هو ما يطعنه به ضميره حتى الصميم!
مِمَ انبعث؟ ولماذا انبعث؟!
_يا إلهي! ألم تُكرر عليّ السؤال ذاته بالأمس؟! وأمس الأول؟! وطيلة الأسبوع الماضي تقريبًا؟!
توتر تعبير نضال في حرج، بينما تابع مهند دَهِشًا:
_لقد صرت تسألني عن ذلك الأمر يوميًا فأنفي لك! لا أصدق أنك قد تظنني أحمل لها أية مشاعر، أقسم لك يا نضال أن غفران ما هي إلا شقيقة صديقي وحسب!
هتاف مهند الاستنكاري أورثه راحة لا حد لها؛
لم يرثها ضميره.. لكن هناك ما امتصها، تشبع بها، تلذذ بكل قطرة منها؛
ويا لها من صدمة تلك التي سقط الآن مهزومًا أمامها!
كاد يزفر في راحة؛
ويبتسم في راحة؛
إلا أن مهند نزعها عنه مع تتمته..:
_وحاليًا لا أفكر بها إلا كما يفكر المرء بشخص ظلمه وغدر به بينما هو يمنحه ثقته.
وها قد عاد الضمير فارسًا منتصرًا؛
عاد إلى الصورة مُزيحًا نزوة كاد يستمتع بها خافق أحمق بدا أنه جنح إلى أصعب الاختيارات وهو يطالب بمنحه الاحترام اللازم، والانتباه الذي لم ينله من قبل!
مهزوم؛ خاسر؛ متقهقر؛
طأطأ نضال رأسه أرضًا مُقِرًّا بأنه كاد يندفع خلف مجهول أغراه بعالم مُغاير لم تطأه قدماه من قبل..
الكفاح ينبغي إجلاله، والنزال لا يُباح خوضه في عشوائية، فالمُحارب الصامد يقاتل بشرف، والمُناضل الحق بالتأكيد لا تتحد دماؤه بدماء المعتدي!
_إذن.. أنت لا تمانع الاعتراف لها بالحقيقة.
عبارة بسيطة قالها نضال بصوت يقطر استسلامًا؛
عبارة بسيطة استمع إليها مهند فكانت كقرار إزالة لبُنيان أحلامه الذي لتوه ارتفع!
لم تجبني!_
عَقَّب نضال بعدما طال صمت شقيقه واعتمر تعبير غائم ملامحه فانطفأت سعادته ودُفِنَ حماسه على الفور..
_لماذا؟
سأله في توسل، في أسف، وفي حال من ظن أنه على وشك التطهر من الخطايا فاكتشف أنه أغفل شرطًا هامًّا من شروط التوبة وتعجل الغفران قبل موعده!
_لأنني أتعذب، طوال الوقت أتعذب، ليلًا ونهارًا يجثم الذنب على روحي فتكاد تلفظ آخر أنفاسها حتى يتركها ويعاود الكرَّة..
أجابه في أسى، وفي إرهاق، وفي حال من يلتمس عذرًا لخاطئ لا واسطة له سوى أنه شقيق بالاسم والدم، وابن بختم القلب!
زفرة طويلة حارَّة اتخذ منها فاصلًا، قبل أن يستأنف في إشفاق:
_وأظن أن حالك ليس مختلفًا يا مُهند.
أومأ مهند إيجابًا، في موافقة.. أو في شكوى، ثم حاول التمسك بآخر حجة فقال في عدم اقتناع:
_لكن.. لؤي، سوف تنتهي صداقــ..
والحجة نفسها لم تسعفها كلماته، فبتر عبارته، ورضى بعقوبته، ليقول في إذعان وهو يخرج من الشرفة:
_افعل ما تراه مناسبًا يا نضال! ينبغي عليّ أن أدفع ضريبة ما اقترفت وأُكفر عن ذنبي.
كما يُقال" ترك له الكرة في ملعبه!"
حدَّق نضال في إثره مُدركًا أن عليه القيام بخطوة يتمناها.. ولا يخشى مثلها!
خطوة بمثابة نهايات متعددة..
واحدة لصداقة شقيقه مع لؤي؛
وواحدة لِثقة كان يستشعرها بوجود ذلك الأخير بالقرب من شقيقه؛
و.. واحدة كان يهم باستيعابها في تمهل، بالتنعم بها حتى النخاع، إلا أن النصيب كان الأكثر سُرعة.. وواقعية!
اعتدل مُتباطئًا يفكر في كيفية اتخاذها، لكن ضوء شاشة هاتفه في إشعار بقدوم رسالة نصية لم ينتبه لها قاطعه..
وفتحها؛
فتحها ليعود الأحمق مُعلنًا عن وجوده، ورغبته، وحياته!
فتحها لتختلط مشاعره بين دهشة، وترقب، خوف، وتمني.. ووثبات تهرول بها دماؤه في بهجة طاغية!
اختطف ثغره ابتسامة واسعة مُتلهفة دون إذنه، وبلا تردد بدأ بتبديل ملابسه ليُلبي طلبها الأول، والذي _للغرابة_ يُلاقي أمنية أقرَّ باستحالتها منذ بضع دقائق!
**********
ترك هاني بصحبة ذلك المزارع الذي يعمل بالأرض منذ سنوات وتراجع بخطوات مُتبخترة ليُجيب هاتفه الذي ارتفع رنينه للتو، وما إن وضعه على أذنه حتى اندلع عبره صوت والدته في صياح:
_لقد حدث ما خشيته طويلًا يا عمرو، غفران علمت باتفاقنا مع خالك!
تجمد تعبير وجهه تمامًا، حتى الهواء شديد البرودة الذي يعصف بكل ما يحيطه توقف عن التأثير به، إلى أن جاءها سؤاله في اقتضاب مثير للاستفزاز:
_هل أنتِ متأكدة؟
كادت تجذب شعرها من فرط الغضب، وهتفت في هياج رغمًا عن إشارة زوجها لها بأن تهدأ قليلًا!
_لقد رَحَلَت للتو، رَحَلَت بعدما توعدتنا بأنها ربما تخبر جدك.
قابلت صمتًا مُطبقًا على الجهة الأخرى أجج من سخطها أكثر، فصرخت باسمه ليختطف سمير الهاتف ويشغل مكبر الصوت قائلًا:
_الأمر جاد تمامًا يا عمرو، لقد كانت تُهددنا في وقاحة، بإمكانك أن تقول أنها استمتعت بإرعابنا!
_نعم، هي تفعل!
في هدوء عَقَّب، فتطلعت عزة بزوجها بلا فهم، وقبل أن يستفسر سمير تابع عمرو في ثبات:
_اطمئنا! لن تتفوه بكلمة.
اتفقا على نظرات دهشة لم يجد أحدهما حدًّا لها لدى الآخر، فسارعت عزة تسأله في توجس:
_وكيف تكون واثقًا؟! أخبرتك أنها أكدت لنا فهمها ما حدث، بالطبع فضحتنا أمها، وربما عادت كي تخبر جدك نفسه الآن، وأماني، وياسر ولؤي، لين وإيلاف، جميعهم سيعلمون!
ونظرة مذعورة أحكمت سيطرتها على ملامحها وصوتها مع نطق عبارتها الأخيرة بينما تعاقبت دقات قلبها في هلع..
هلع هدأ بلا سبب ما إن سمعته يقول بلا اهتزاز:
_لن تفعلها غفران، هي الآن ستقضي وقتًا طويلًا تُجاهد لاستيعاب أن خالي قد كذب بشأن جدي، وستستغرق وقتًا أطول كي تسامح نفسها لأنها أيضا عاقبته وهو جاهل تمامًا بما حدث!
وحينما انعقد لسانها وحار زوجها أردف عمرو في إقرار:
_هي الآن لن تبحث عن القصاص بقدر ما ستزحف زحفًا خلف العفو.
_وكيف تكون أكيدًا يا عمرو؟
بعد برهة سألته وقد بددت ثقته بعضًا من توترها، واستطاعت الشعور بابتسامته وهو يجيبها في زهو أقرب إلى غرور لطالما شع به ولو كان صامتًا:
_لأنني أعرف تمامًا كيف تفكر، وأظنكِ قد تأكدتِ بنفسكِ، ألم تتبع الخطى التي توقعتها بالضبط منذ سنوات؟!
هزت رأسها إيجابًا، فأضاف وكأنه يراها:
_لن تحيد عنها الآن!
وقبل أن تحاول الاستزادة أعطاها إياها:
_لا داع لخوفكِ! لم تأتِ إلا لإرهابكِ، وقد نجحت.
اجتاحها الخوف ثانية، وعلى الجانب الآخر عمد هو إلى الصمت فيما شرع يفكر في إمعان، وبالنهاية اختتم في هدوء:
_سنضطر للانتظار لوقت أطول بعد حتى نعود!
...
استند على مُقدمة السيارة يتظاهر بمُراقبة شقيقه الذي يعلو وجهه تعبير وافر بالاشمئزاز وهو يتطلع حوله إلى الأرض التي آلت إليهم عِوضًا عن المصنع..
في سخط؛
في احتقار؛
وبعلامات على احتمالية الانفلات بأية لحظة!
انفلات لن يسمح هو له به.. لأنه سينتصر، وسيعود!
سيعود كي ينتقم، كي يثبت أنها ارتكبت الخطأ ذاته مرارًا وتكرارًا!
رفع كفه ليضعها على خده الخشن فلا تلمس إلا شعيرات نامية..
لكن..
إن أغمض عينيه وعن واقعه انفصل سيسمع صوت صفعة، تلتها ثانية، ثم أخيرة؛
سيسمع صوت حزام خاله الجلدي يشق الهواء كي يستقر على صدره أكثر من مرة؛
وسيسمع صوت تدحرج جسده على الدرجات الخشبية الخارجية حتى استقراره على عشب الحديقة!
مع صراخ والدته تتوسل شقيقها بأن يتوقف قبل أن يقتله، وتدخل والده يعيده بجسده إلى الداخل فيما ينساب سباب خاله وتوعده وهو يصم أذنيه عمدًا عن تبريرات شقيقته؛
وما ثبت المشهد فجأة وكأنهم ماكينات فُصلت عنها الكهرباء.. هي!
من الباب خرجت مُهرولة ترتدي إسدالها بينما وجهها غارق بدمعاتها، يتصارع على انفعالاتها الغضب والحقد، تصرخ بعبارة واحدة تكررها بلا كلل..:
"أقسم أنك ستبيت هذه الليلة بقسم الشرطة بين المتحرشين والمغتصبين أمثالك يا قذر!"
كادت تصل إلى البوابة الخارجية بالفعل، لولا أن خاله كان الأسرع ليجذبها عنوة مُعيدًا إياها إلى الداخل صارخًا بها في خشونة، زاجرًا إياها بكل قسوته..
كانت تتملص؛
تكافح؛
تناضل حتى تهرب إلى الخارج!
لكن صفعة مُماثلة تلقتها من والدها أهمدتها، وقبل أن تأتي بردة فعل كان يدفعها صعودًا إلى غرفتها، لتسارع إليه والدته تسحبه سحبًا حتى يترك البيت بهذه الليلة ويذهب إلى الشقة التي أهداها والدها إياها.. وتركه!
ليالي متواصلة قضاها، بلا نوم، بلا استقرار؛ مذعورًا؛
خاضعًا لوحش إرهاب لم يجرؤ على عبور طريقه يومًا..
حتى قامت هي بدوره وهاجمته في ضراوة!
وها قد بات ذليلًا لكلمة واحدة تنطق بها مراهقة مُتبجحة رفضته مرات ومرات وعمدت إلى الاستهزاء به كلما وقعت عيناها عليه!
مُراهقة أراد ذات يوم أن يتزوجها؛
لكن من الآن فصاعدًا لن يكره بقدرها!
وجاءته والدته بعد أسبوع تبشره بأن اللين وجد طريقه إلى قلب شقيقها، وأنه سيعفو عنه، وأنه رغم رغبته بتزويجهما والتخلص نهائيًا من هذا العبث فلم يستطع إقناعها!
ولولا الخطة التي اقترحها هو فوافقه خاله لكانت فضحته بين الجميع وأبلغت عنه الشرطة.
لِذا سيسمح له بالعودة إلى البيت، والزمن كفيل بتغيير موقفها وإصلاح ذلك الرأب بالزواج!
هبطت كفه ليضعها بجيب بنطاله عائدًا إلى الحاضر..
حاضر يتكرر؛
حاضر يُشوهه الخضوع؛
وعمرو الكردي لا أعداء له سوى غفران.. والتهديد الذي تُنذِره به غفران!
لذا ما عليه إلا أن ينأى بنفسه عن الواجهة قليلًا، وفي لهفة يترقب منها.. غفلة!
**********
خارج سيارته جلس أرضًا دون اهتمام باتساخ ملابسه الأنيقة، طفق يتطلع في ثبات إلى الغيوم التي تلف السماء فأجبرت ساعة القصر المُضيئة على استعجال المغيب.
وحيدا، ضَجِرًا، غاضبًا من نفسه ولأجلها!
بالأمس فقط لم يتمكن من احتواء سخطه كما يجب فثار على والدة هي أقرب له من أي امرئ؛
بالأمس فقط انفلت تماسكه من عقاله فكانت هي أول المُتضررين!
تنهد في حنق والذنب يتعرش بنفسه أكثر وأكثر، يرغب بالعودة إليها وإبداء الاعتذار، كما أنه يرغب بالاستفاضة في عتابها مُكررًا عليها ما صرخ به لعلها تستوعب ما غاب عنها لسنوات.
وصوت هاتفه الذي صدح مُنهيًا هذا الهدوء المحيط به رمى بتجهم شديد على وجهه فاستبعد رغبته الأولى لتتقد الثانية أكثر، لكن عينيه لم تصطدم باسمها كما ظن..
"ماذا تريد يا لؤي؟ لا تقل أن عمتك تجلس إلى جوارك الآن حتى تخبرها بمكاني!"
بادر ابن خاله ساخرًا مُتوقعًا أنها تستمع حتمًا إلى مُكالمتهما، وقبل أن يرد لؤي تابع في تهكم:
_انتظر لحظة حتى أقوم بتشغيل مكالمة مرئية كي تتأكد بنفسها!
وصله صوت تأفف لؤي قبل أن يهتف به في نزق:
_إنه أنا فقط يا ياسر، خبرني أين أنت ولماذا لم تأت إلى الآن! لقد جاءت لين مع هارون وقد سألا عنك.
زفر في ضيق وضغط بأنامله على جبهته، ثم تمتم في أسف:
_لقد نسيت تمامًا، سأهاتفه لأعتذر منه.
_أين أنت؟
والإصرار الذي ظلل نبرة لؤي أعاد السخرية سريعًا إلى ياسر، فقال مُفتعلًا ضحكة لا أثر للمرح بها على الإطلاق:
_وأين سأكون برأيك؟ حيث لا مخلوق، حيث لا أخطار، حيث لا رفقة سوى بعض العِظاءات التي أزعج أنا خصوصيتها!
ساد الصمت بينهما لثوان حتى تردد لؤي قبل أن يقول:
_عمتي حزينة للغاية يا ياسر.
غصة كطعنة مُدببة نفذت إلى فؤاده دون تمهل، فتجاهلها ليُتمتم بنبرة خرجت لا مُبالية أكثر من اللازم:
_اطمئن! ستغدو بأفضل حال حينما يعود طفلها الرضيع سالم الجسد لينام بفراشه تحت عينيها!
تنهد لؤي وهو يستشعر مدى الغضب الذي يحتله، فرغم أنه لم يكن حاضرًا بالأمس قَصَّ عليه جده ما حدث من ثورة ياسر أمام والدته بسبب اعتراضها على صداقته بمُعلمه، ظن أن الأمر بسيط وسيمر كالعادة لولا أن جميع أفراد المنزل كانوا بحال مُثيرة للدهشة..
والدته لم تبرح غرفتها قط؛
شقيقته كانت ترمق الكل في شرود؛
عمته اعتمرها وجوم طاغي وعيناها تتعلق ببوابة المنزل انتظارًا لابنها، لا خوفًا كما العادة..
بل في وجع؛
وجده.. كان صامتًا، حائرًا، حتى أنه قبيل الفجر لمحه يقف أمام باب غرفة شقيقته، مُتكئًا على عصاه وكأنه ينتظر!
ماذا ينتظر؟ لم يعلم!
وعندما اتجه إليه يسأله بقلق تطلع إليه مهمومًا ثم رحل في تباطؤ دون أن يُجيب!
عاد هو من الخارج سعيدًا مُتحمسًا بسبب اتفاقه مع مهند على الترتيبات اللازمة من أجل المكتب فلم يجد أحدًا مُستعدًا لمشاركته فرحته!
انتبه إلى الصمت الذي تشاطره مع ياسر، فسأله وهو يتطلع إلى الغرض الذي تسلمه بدلًا منه منذ دقائق:
_هل قمت بطلب شحن صنارة صيد أسماك؟
ارتجفت أهداب ياسر لِوهلة وهجم عليه تأثر يُحاول التخلص منه منذ أمس الأول..
منذ رحل عن صديق جديد، وأب دون علمه!
أجلى حجرته التي جفت جراء صمته، ثم سأله باقتضاب:
_هل.. وصلت؟
لم يغب انفعاله عن سمع لؤي، فقال مُحاولًا إخفاء فضوله:
_لتوه غادر مندوب التوصيل، سأتركها بغرفتك، لم أكن أعلم أنك تحب الصيد.
هو أيضًا لم يكن يعلم...
في الواقع ظل غافلًا عن آمال كثيرة زارته صغيرًا فلم يستطع تحقيقها، إلا أنه امتلك من الحماقة قدرًا وفيرًا بحيث اعتقد نفسه لا يزال ذلك الطفل فيحصل عليها في الوقت الضائع!
_لا! لا تفعل!
نهاه في حدة، نهاه وهو ينهى نفسه بالمثل عن الاستغراق بضعف مُثير للضحك، ثم أردف قبل أن يتردد:
_بإمكانك أخذها أو إهداء أحد أصدقائك بها.
وحينما عقد لؤي حاجبيه في توجس كان ياسر يستقيم لينفض الغبار عن ملابسه، والضعف عن نفسه، ثم اختتم في إباء:
_لم أعد بحاجتها!
"هل أنتِ بخير يا خالتي؟"
سألتها لين ما إن انتحت بها جانبًا بعيدًا عن زوجها وجدها، فمنذ حضرا وحالها ليس على ما يُرام مثل عمتها، أما عن تلك الأخيرة فقد علمت بسبب صمتها وانطفاء مرحها على غير العادة، لكن خالتها..؟
_كيف حالكِ أنتِ؟ هل تأقلمتِ على الحياة مع هارون؟
بادلتها سؤالها بآخر أرادت به تشتيت انتباهها عن تفحصها الذي لاحظته منذ قليل، فابتسمت لين في خفر وأجابتها:
_نعم، فعلت، سريعًا كما أظن!
تأملتها هالة مليًّا في صمت، تطلعت إليها لترى _كما العادة_ ملامح شقيقتها الكبرى، أمها الثانية، مُربيتها ومعنى الحنان الذي تعلمته منذ بدأت تعي..
أمعنت النظر بها فالتقت بعينيّ هاجر، وجمال هاجر البرئ، وعطف هاجر الذي لم ينضب حتى وافتها المنية..
لكنها.. تطلعت إليها فرأت إيلاف، وحيدة، مُهمَلة، تُطالب بالاهتمام فلا يسمعها أحد، تستصغر نفسها يومًا بعد يوم فلا تهرع لبث الثقة بها!
وتطلعت إليها فاصطدمت بغفران، مُكبلة، باكية في اعتداد، تتوسلها المُساندة فتشيح عنها بوجهها وتطرق برأسها أرضًا!
لطالما طأطأت رأسها، أخفضت بصرها، إثمها جسيم شاق؛
كان من شدة القوة بحيث لازمها لسنوات، وكان من خزي الضعف فلم يدفعها إلى التغيير منه بالإصلاح!
كتمت دموعها إلى حين، افتعلت ابتسامة ومسحت على رأسها في حنو، ثم ساد القلق نظراتها لتسألها في انتباه:
_وهل حاولت شقيقته الاحتكاك بكِ؟
هزت رأسها نفيًا، ثم قالت بعد تردد:
_لم أرها منذ حفل الزفاف.
منحتها هالة نظرة مُتعجبة فهزت لين كتفيها بلا معنى، حتى هي تنتابها الدهشة لأنها تتوقع زيارتها كل يوم لتهنئة شقيقها لكنها لا تفعل، إلا أنها أرجعت السبب لرفضه الرد على اتصالاتها بعدما رأته يلغي مكالمتها بالأمس.
_تمنيت أن ألتقي بغفران، لم أكن أعلم أنها ستتأخر حتى الآن.
قالتها لين عقب زفير عميق فلم تملك إلا أن تلحظ شحوب وجه خالتها أكثر، فرغم أنها خرجت بعدها بدقائق كي تُثنيها عن الذهاب إلى عمتها فقد عادت من منتصف الطريق بعد أن أرسلت لها غفران رسالة صوتية مُقتضبة تطالبها فيها أن تتوقف عن الاتصال بها وتخبرها بأنها رحلت من شقة عمتها سالمة!
والتهكم الذي ظلل آخر حديثها استقبلته في رضا، بل.. في مطالبة للمزيد!
_خالتي، لا تبدين بصحة جيدة.
ازدردت لعابها وانتبهت بعينين مُتوترتين إلى لين، ثم عادت تبتسم لتؤكد لها دون قدرة على الإقناع:
_أنا بخير حال يا لين، اشتقت إلى يزن كثيرًا، ما رأيكِ أن تتركيه الليلة معنا؟ لقد نام بالفعل.
ثم أضافت سريعًا قبل أن ترفض:
_ربما يرغب هارون بـالانفراد بكِ قليلًا.
ابتسمت لها لين في ثقة، ثم قالت دون ذلك الشك الذي ظل يتسلل طوال الأيام الماضية إلى نفسها:
_لا ينتابكِ القلق يا خالتي! هارون لا يبدي أي انزعاج منه إن كان هذا ما تخشينه، بل أن علاقتهما قد توطدت حتى تركني يزن لينام على فخذه ليلة الأمس.
تطلعت إليها فرأت لين، هادئة على غير عادتها، مُستقرة بعد طول غياب، ومُطمئنة كما لم تكن من قبل.
ترقرقت عينا هالة بعبرات امتزج بها الفرح مع الأسى، وتمتمت في ارتياح ليس كاملًا طالما تلكما الغُصتين تعترضان طريق سكينتها إلى الأبد:
_يبدو أن جدكِ مُحقًا بشأنه.
بلا تردد أومأت لين برأسها في موافقة، ثم استقامت لتودعها كي ترحل مع زوجها وطفلها.. إلى بيتها، حيث بات أحب الأماكن إلى قلبها، وأكثرها أمنًا ودفئًا.
...
"أود أن أشكرك يا ولدي."
نطق بها الحاج فؤاد وهو يسير إلى جوار هارون بالحديقة بعد أن تعلق يزن بعنق هذا الأخير إلى أن غفا رافضًا كل محاولات خاله أن يأخذه.
نظر له هارون في تساؤل فأجابه مُوضحًا:
_خبرني لؤي أنك تساعده بشأن المقر الذي سيتخذه مع زميليه للمكتب.
ابتسم هارون وهو يُتمتم:
_لم أفعل شيئًا يستحق الشكر يا حاج فؤاد.
توقف فجأة ليعقد حاجبيه في تفكير، فتوقف هارون بالمثل ينظر إليه مُترقبًا، حتى ابتسم الرجل ثم قال فجأة وهو يمعن النظر به:
_أنت تُذَكِّرني به.
_بمن؟
في دهشة سأله هارون، فأجابه ساخطًا:
_نسيبك الهمجي، أتعلم أنني افتقدت حضوره الليلة؟! عبارة لم أتوقع أنني قد أنطق بها!
كاد هارون تلقائيًا أن يُصدق على عبارته الأخيرة، لولا أن استرعى انتباهه ما قاله أولًا ليقول في حنق وكأنه يدافع عن نفسه:
_قطعًا لا! لا وجه تشابه بيننا على الإطلاق.
هز الحاج فؤاد رأسه موافقًا، لكنه عاد يقول في استحسان:
_كلاكما من أصل طيب، كلاكما عزيز النفس جدير بالثقة يُعتَمَد عليه.
وسكت بينما رسم هارون بسمة مُهذبة ، ثم أردف بخيبة لم يأبه لإخفائها:
_وكلاكما تعويض لحفيدتيّ، و.. لي أيضًا.
نظر إليه هارون صامتًا في حيرة، لم يدر بِمَ عليه أن يُعلق، إلا أن الفضول كان جليًّا على ملامحه فتأمله الجد لِوهلة ثم قال:
_قل ما تفكر به يا هارون!
تنحح هارون في حرج ثم ما لبث أن قال بعد تردد:
_هو.. أمر يثير تساؤلاتي كثيرًا، أعني.. ألم تخشى أن أسئ معاملة لين؟ كي أكون صريحًا حينما طلبت الزواج منها توقعت رفضًا حاسمًا نظرًا لــ..
انتصر عليه التردد فلم يستكمل عبارته، عبارة التقط مغزاها الجد على الفور فأتمها عنه في إقرار:
_لهوية شقيقتك.
مال رأس هارون جانبًا بموافقة، وبهذه اللحظة رأى الجد الأسى الذي يسكن نظراته خلف هذه الواجهة الهادئة..
_وتُذكرني أيضًا بياسر!
بلا ترتيب قالها، وحينما ظهر الاستفهام قويًا بعيني هارون رفع الجد كفيه إلى جواره تتمايل عصاه بإحداهما، ثم قال مبتسمًا في حنو:
_ومن أكون أنا يا ولدي حتى أحاسب شخصا بذنب آخر؟ أهناك ملائكة فيما بيننا؟!
تعاظمت حيرة هارون مُحاولًا استيعاب تلك السماحة التي تُثير تعجبه كثيرًا؛
مرة من ناهل وهو يشجعه على الزواج من أخت زوجته دون الاعتبار للأذى الذي قدمته له شقيقته هو؛
ومرة من لين وهي لا تُظهر أية عداوة تجاهها؛
والآن ها هو جدها يؤكد له أنه يفصل تمامًا بينها وبينه!
_انظر!
هتف الجد فجأة وهو يضع إحدى كفيه خلف ظهره يُربت عليه في قوة، فاستدار هارون بالمثل ليتطلع حيث يُشير بلا فهم، وسأله مُستوضحًا:
_إلام أنظر؟
رفع الجد رأسه وكفه الآخر يُشير حيث المنزل الذي اُقيم فوق هذه الأرض بعدما اشتراها عبارة عن مساحة مُسطحة لا يشغلها سوى الرمال فحسب..
أمام عينيه تحول الطوب الأحمر إلى بناء عال فخم يسكنونه، إلى جدران تمنحهم دفئًا وخصوصية، إلى سقف يؤمن لهم الظل، وإلى سور يؤكد لهم الحماية..
_هذا البيت، هذا البيت كان أهم أحلامي، كان مُستحيلًا، تمنيت كثيرًا أن أجمع أولادي جميعهم معًا، تحمينا الجدران نفسها، يعلونا سقف واحد، تصورت أولادًا وأحفادًا يتمسكون بأواصر لا فرصة لفكها، تصورت نفوسًا نقية صافية تؤثِر الآخرين عليها.
نقل هارون نظراته بين البيت الذي يبدو عليه الرُقي وارتفاع التكلفة وبين الجد الذي طغى على عينيه تعبير تحول تدريجيًا من حماس يوقده الأمل إلى إخفاق طعنه اليأس، حتى استطرد بكل معاني العجز:
_لكن أحيانًا تجد ثمرة تالفة، واحدة فقط، وقبل أن تنتبه لها تبدأ ببث الفساد بأقربها.
تهدلت كتفاه فسكت هُنيهة، ثم استطرد يسأله في إمعان:
_ماذا ستفعل حينئذ؟ أستتخلص من محصولك كله؟ أم ستحاول الحفاظ على السليم منه؟
تقاسم معه هارون هذا الشعور بالفشل الذي زاره مرارًا، ربما لم تقص عليه لين الكثير عن طبيعة عائلتها، لكن حينما سألها عن سبب عدم حضور أي من أفراد أسرة عمتها الكبرى حفل زفافهما أوضحت له في اعتذار أنها ليست على وفاق مع جدها بسبب تنازع حول الإرث..
إرث صاحبه لا يزال حيًّا!
ربتة أخرى على ظهره أعادته إليه، فيما قال الجد وهو يرمقه بإعجاب:
_كلٌ يحاسب على أفعاله يا هارون، ومنذ سبقتني أنت إلى توكيل محامي للدفاع عن ناهل ودعمته طوال تلك الفترة علمت أنك ثمرة طيبة، وعسى الله أن يهدي شقيقتك ويطمئنك على أحوالها!
اتسعت ابتسامة هارون مُستقبلًا إغداق الحنان الذي خبرته عنه لين من قبل، ابتسامة شاطره فيها الرجل قبل أن تنقلب فجأة إلى اكفهرار صريح سبق قوله المُحذِّر والمُشّوَّب بالامتعاض وهو يرفع عصاه فجأة في حدة:
_لو فقط تحاول التخفيف من هذا الكرم العاطفي تجاه حفيدتي أمامي سأكون مُمتنًا! وإلا لا تندهش حينما تجد عصاي فوق رأسك بلا إنذار!
كان يقود في شرود بينما يتردد حديث الجد بعقله في إصرار، يتفق معه قلبه بينما يحثه عقله على التمسك بموقفه، تنهد في هم ثم حانت منه نظرة تجاه زوجته التي تلاعب يزن بعدما اقتنع في صعوبة بألا يجلس على فخذيه أثناء القيادة!
"ما رأيكِ أن نُثبت موعدًا أسبوعيا للاجتماع بإخوتكِ؟ ببيت عائلتكِ، أو ببيتنا، أو لدى ناهل؟"
ألقى اقتراحه في اهتمام فنظرت له وهي لا تستطيع منع ابتسامتها المُوافقة على الفكرة، لكنها سألته في فضول:
_لماذا؟
حدق فيها مُتعاطفًا ثم أجابها بتعبير مُتفهم يبدو أنه لا يتعمده، إنما هو إحدى خصاله التي تفرض نفسها فرضًا على تصرفاته:
_اليوم شعرت أنكِ خائبة الأمل حينما لم تقضي الوقت معهما كما تمنيتِ، لِذا لنتفق على لقاء أسبوعي نلتزم به جميعًا.
أشاحت بوجهها أمامها في شرود تحتضن منحة جديدة من رعاية خالصة لا أهداف خلفها ولا يعقبها ندم..
صباحًا حينما التقت بحماتها تأكدت أن اليوم سينتهي بأسوأ نهاية، توقعت أن يسمع ما يدفعه إلى إلقاء أسئلة ستؤول إجاباتها بآخر الأمر إلى حرمانها من استقرار لم يكن بحسبانها، لكنه فاجأها كعادته منذ قابلته، سرعان ما سيطر على غيرة كانت ترتع في غضب نظراته وأسئلته بحرية وصبَّ اهتمامه تجاهها أولًا!
وها هو يزودها باطمئنان آخر، وبثقة جديدة، وبتأكيد على أنه لم يحمل راية العهود إلا كي يحافظ عليها؛
هو لها درع صلد؛
هو رجل الوعد خاصتها!
تطلعت إلى جانب وجهه في امتنان أزاحه إعجاب صريح ليبقى هو، ثم سألته مازحة:
_هل تدرك أننا لو نفذنا اقتراحك ستلتقي بناهل أسبوعيًا؟!
كاد يضحك لا إراديًا إلا أنه سايرها ليعقد حاجبيه مُتأففًا، ثم قال بنبرة مُترفعة:
_أستطيع تحمله يومًا كل أسبوع لأجلكِ!
ثم منحها نظرة سريعة آسفة وأضاف:
_لكنني لست أكيدًا أن جدكِ سيتحملنا معًا!
تعالت ضحكاتها فشاركها، حتى قالت بعد ثوانِ:
_لم أظن أنك ستلاحظ انزعاجه بهذه السرعة!
نظر لها سريعًا وقال في نزق:
_لقد تظاهرت بعدم الفهم حتى حذرني الليلة صراحًة! كيف أؤكد له أنني صرت زوجكِ ولا داعي لهذه الغيرة مني؟!
داعبت شعر يزن وعلقت في بساطة:
_هو ليس مُعتادًا على التعبير العلني عن المشاعر يا هارون، لِذا سيبقى حادًّا مُعترضًا حتى يطالك الاعتياد ذات يوم فتتوقف من تلقاء نفسك!
ألقاها بتعبير مُستهجن تسلل إليه تعبير عابث نضحت به عبارته:
_أهذا هو التعبير العلني بنظركِ؟! لو تركت لنفسي الحرية لربما أرداني جدكِ قتيلًا!
كتمت ضحكاتها في خجل فتابع مُعترضًا:
_وأي اعتياد هذا؟! أنا لا أنوي أي اعتياد، تستطيعين مُفاجئتي كيفما تحبين، ستجدينني مذهولًا كل مرة!
تحولت ضحكاتها المكتومة إلى قهقهات ولولا أن النافذة مُغلقة لكان زجرها، لكنه الآن تطلع إليها بنظرات مُعبرة ثم علق مُحذرًا:
_أنتِ لا تساعدينني بهذا الشكل يا لين!
أومأت برأسها في طاعة وخفت صوتها تدريجيًا قبل أن تسكت تمامًا حينما ارتفع رنين هاتفه المُوصل ببرنامج تشغيل السيارة، تطلعت إلى اسم شقيقته على الشاشة الرقمية فيما قست ملامحه وألغي الاتصال دون تردد.
والتردد تسلى عليها لبضع دقائق وهي تتمايل بين رغبتها في مناقشته حول هذا الأمر وحرصها على عدم التدخل فيما لا يعنيها، خاصًة مع عدم الترحيب الذي أبدته المعنية بالأمر تجاهها.
وأخيرًا سحبت نفسًا عميقًا ثم سألته في هدوء:
_ألن تتحدث مع شقيقتك؟
لم يرد من فوره، وحينما فعل جاءت إجابته مُختصرة جافَّة:
_ليس بعد.
أحاطت ذراعه بكفها وقالت له في رجاء:
_انس الأمر يا هارون! ها نحن معًا بالنهاية، لتغفر لها هذه المرة! أنت عائلتها الوحيدة ولا يُعقَل أن تخاصمها لأيام متصلة!
ضغط على أسنانه ولم يرد، اصطنع التركيز على القيادة بينما ذهنه بالفعل هناك، مع شقيقته، مصدر آلام وعذاب وحرج لا ينتهي!
لكن.. دعوة الحاج فؤاد الليلة بهدايتها أنبتت بصدره أملًا جديدًا، ودفعته مرة أخرى تجاه رغبة قلبه في وصل شقيقته، ومسؤوليته، ربما.. ربما نجح هذه المرة.
**********
"..ولهذا والدتي حائرة، ذَهَبَت إليها من أجل إنهاء الأمور المادية وما شابه فعادت لتخبرني أنها لم تهتم على الإطلاق!"
قالها عماد بلا اكتراث وهو يجلس فاردًا ذراعيه على ظهر الأريكة التي تتصدر شقة أسامة بعد أن دعاه ذلك الأخير لزيارته في إلحاح بلا سبب، وهو أيضًا مَن كان يحدق فيه ذاهلًا بينما يُحارب كي لا يلكمه!
_ألا تُفكر والدتك بأخذ طفلك؟ هل ستتركه حقا ليُربيه رجل آخر؟
سأله بهدوء غير حقيقي على الإطلاق، فما كان من عماد إلا أن مط شفتيه قبل أن يرد بلا اهتمام:
_ولِمَ لا؟! هو آمن مع أمه، كما أن عائلتها سترحب برعايته لو تركته، وأنا لست مُتفرغًا، بالإضافة إلى أن والدتي لا تتحمل إزعاج الأطفال.
ازدرد أسامة لعابه بينما كاد عقله يشتعل اشتعالًا وهو يراقب عن كثب فشل رهانه..
لقد تطوع بأن أرسل النبأ إلى والدة عماد مُتوقعًا أنها ستنتزع حفيدها نزعًا من أمه فتضطر الأخيرة إلى التخلي عن كل شيء في مقابل الاحتفاظ بابنها، لكن يبدو أنه أغفل احتمالًا هامًّا..
الابن ما هو إلا نسخة ذكورية من أمه!
كلاهما لا يحفل بالطفل بالأساس، وربما كلاهما ممتن لأنهما تخلصا من مسؤوليته..
مسؤولية كان على استعداد لتوليها لبعض الوقت حتى يضمن حبها له، ثم سيُعيدها إلى صاحبها..
إلى والده!
ربما قد وعدها ذات يوم أنه سيكون والدًا ليزن، لكنه بقرارة نفسه كان مُدركًا بلا شك أنه لن يتحمل وجود دليل حيً على أنها كانت لرجل غيره ذات يوم!
الآن هي ليست معه، الآن قد استبدلت ذلك الكائن الذي يكرهه حد الرغبة في كتم أنفاسه بآخر لا يعلم إن كان سيضيق ذرعًا بطفلها ذات يوم أم لا!
_دعك من هذا الأمر! ما رأيك أن نسهر هذه الليلة سويًّا؟ أو لنسافر إلى ذلك المنتجع الذي دعوتني إليه منذ أشهر!
جذبه عماد جذبًا من غمار حقده، وهزيمته، فندى عنه تعبير مُشمئز لم يستطع إخفائه، وكاد يرد لولا أن سمع الاثنان صوت إغلاق الباب، أعقبه دخول مراد بملامح مُتحمسة فوقعت عيناه على عماد الذي هتف في ترحيب:
_مراد! ها أنت قد وصلت!
وجمت ملامح مراد وأخذ ينقل نظراته بينهما في ضيق، ثم رمق عماد بلا تعبير ليقول دون مراعاة للتظاهر باللباقة:
_وها أنت لا زلت هنا!
لم ينتبه عماد لحقيقة شعور مراد الذي طفح على وجهه وهو يقف بمكانه دون تحرك، ووجه له الحديث في حماس:
_ساعدني في إقناع ابن عمك بأن نقوم برحلة سويًّا! لا أدري سبب هذه الكآبة التي أصبحت مُلازمة إياه.
أطرق أسامة برأسه أرضًا في تعب، فتولى مراد الحديث عنه ليرد في هدوء:
_ألم يخبرك أسامة أننا بالفعل سنقوم برحلة ما؟
بان التأهب بنظرات عماد على الفور، فتابع مراد مُوضِحًا وهو يشير بسبابته تجاه صدره ثم ابن عمه:
_أعني.. كلانا فقط.
_إلى أين؟
سأله عماد في فضول، فأجاب مراد بصرامة قصد إيصالها إلى أسامة:
_إلى حياتنا، إلى عملنا، ولن نعود إلى هنا مرة ثانية.
رفع أسامة رأسه يتطلع إلى مراد في حيرة، ليجد ملامحه مُصمتة مُصممة، لولا أن تدخل عماد قائلًا في ترقب:
_أتعلم أنني كنت أفكر بأمر ما؟
بلا تعليق رنا إليه مراد ببصره، فابتسم عماد قبل أن يُردِف ببسمة نفذ إليها الطمع بلا تردد:
_لو.. لو استطعتما توفير وظيفة لي بالفرع الرئيسي، سأكون شاكرًا.
عقد أسامة حاجبيه فيما بقى مراد ينظر له صامتًا، فتابع عماد بلهفة:
_أريد أن أجرب الحياة هناك، أريد أن أبتعد عن القيود التي تحبس حريتي هنا، أريد أن..
_عفوًا يا عماد، لا فرص مُتاحة حاليًا!
قاطعه مراد في حزم قبل أن يسترسل أكثر، فتطلع عماد إليه بدهشة ثم قال بعد إمعان تفكيره قليلًا:
_لماذا أشعر يا مراد أن هناك ما أزعجك مني؟
والتهذيب يُحتم عليه سرعة النفي والاعتذار، إلا أن هناك ما أسكته..
يعترف الآن لنفسه أنه يضمر قدرًا لا بأس به من المقت لهذا الرجل، جنبًا إلى جنب مع الازدراء!
لكن.. سيكون ظالمًا لو ألقى بالخطأ كله عليه، فابن عمه له نصيب مُماثل بطوق الذنب الذي يُقيد عُنقه هو!
ذنب لم يتخلص منه منذ أدرك بمشاعر مُحرمة تسببت بآخر الأمر في تشتيت أسرة..
بإقصاء طفل عن أحد والديه؛
ولا يدري أحد بقدره كيف يكون أثر هذا الإقصاء في النفس!
_ربما سيستطيع أسامة مساعدتي.
عن ثقة تحدث عماد وهو يلتفت إلى أسامة الذي دب الأمل بعينيه مرة ثانية، أمل وأده مراد بلا إبطاء ما إن هتف بنبرة أكثر ارتفاعًا وأشد تحذيرًا وتوعدًا:
_أمر التوظيف بالمجموعة هو اختصاصي أنا يا عماد، وأؤكد لك أن لا فرص تناسبك هناك.
نظر له عماد مُستنكرًا فعاجله مراد بلا رحمة:
_ولا هنا!
_ماذا تعني؟
سأله عماد عاقدًا حاجبيه في دهشة فيما فهم أسامة على الفور ما قام به ابن عمه، والذي أجاب بنبرة عملية جادة يستطيع تطويعها جيدًا إن اضطر:
_لقد تحدثت مع مدير الفرع هنا، للأسف اضطررنا إلى تسريح بعض الموظفين لأمور مادية، وأنت واحد منهم.
اتسعت عينا عماد في ذهول فأضاف مراد مُبتسمًا بلا أدنى مظهر للود:
_لكن لا ينتابك القلق! لقد أوصيت لك بوظيفة بشركة أخرى، المنصب ذاته مع مُرتب أعلى!
استوعب عماد معنى ما قاله في بطء، ثم نظر مُستغيثًا بأسامة ليجده في أشد حالاته وهنًا وفقرًا للحيلة وهو يدرك الكذبة التي حيكها مراد حول تسريح الموظفين، فاستغل الأخير الأمر ليختتم حديثه بينما يُشير بكفه تجاه باب الشقة:
_لا أرغب بأن أبدو وقحًا يا عماد، لكننا على عجالة، طائرتنا ستُقلع مساء الغد ولا نملك إلا وقتًا محدودًا للتجهز!
وعادت ابتسامة قاسية ثلجية لا يفهمها عقل عماد قبل أن ينطق صاحبها كاذبًا دون شك:
_سنشتاق إليك!
...
في تثاقل دلف إلى غرفته بعد أن اختفى بها مراد منذ طرد عماد دون أسف، ليجده يجمع ملابسه هو بحقيبة سفر أفرغها منذ عدة أيام لا أكثر على نية بالاستقرار والزواج بمن يحب، الآن يُرتب ابن عمه أغراضه بها في نظام شديد وتركيز عميق مُثير للغيظ!
"لقد جهزت كل شيء بالفعل وكأنك عدت خصيصًا كي تصحبني! ألم تفكر باحتمالية رفضي؟ أم كنت ستسحبني قسرًا؟!"
بادره ساخرًا كي يخفي اليأس الذي استحوذ عليه، إلا أن مراد رد وهو يطوي أحد القمصان في تدقيق وعناية وكأنه يجري عملية جراحية:
_لقد وعدتني.
طأطأ أسامة رأسه أرضًا يستقبل استسلامًا غريبًا لم يعهده على نفسه من قبل، فتابع مراد في جدية أثناء وضعه القميص بالحقيبة:
_كما أنك لن ترفض.
ود لو عانده، لو أظهر تعبيرًا بالتراجع، لكنه لم يستطع، فتطلع مراد إليه مُتابعًا في تشجيع:
_هيا! دعني أساعدك يا أسامة! لكن.. يجب أن تساعدني أنت أولًا، لا تقاوم! لا تتشبث بما يدفعك إليه قلبك! ليس كل ما يُغريك به صائبًا.
قلبه.. هذه هي المُعضلة التي لا يجد لها حلًّا، لو استطاع لانتزعه ودعسه بقدمه ردًّا على كل هذا العذاب الذي أورثه إياه!
في قوة رَبت مراد على ذراعه ثم قال:
_أوشكت على الانتهاء من تجهيز حقيبتك، وصدقني هناك عدة مهام تنتظرنا هناك بحيث لن تجد وقتًا لالتقاط أنفاسك!
تطلع أسامة إليه في إمعان، ثم ابتسم بأسى ليسأله في شرود:
_لماذا لسنا متشابهين يا مراد؟ ألم ننشأ معًا؟! ألم نتلقى التربية ذاتها؟! ألم يرعانا الشخص نفسه؟! كيف بهذا التعارض بيننا؟!
حار مراد وهو يرى هذه الحال الغريبة من الاستكانة والضعف، فقال مُفتعلًا حماس مُبالغ به:
_أي تعارض هذا يا أسامة؟! ربما نحن متشابهين بالفعل!
هز أسامة رأسه نفيًا ليتسلل إليه شعورًا ليس بغريبًا تجاه ابن عمه بالـ.. حسد، ثم قال في صوت مسموع بصعوبة:
_لا! قطعًا لا! ربما أنا أكبرك، لكن دومًا كنت أنت الأكثر نُضجًا بيننا، الأكثر هدوءً، الأقل إثارة للمشكلات، ومدعاة لِفخر أبي.
والتقط مراد ما خفي خلف كلماته، التقطه وألقاه بعيدًا دون اهتمام ليُعلق في صرامة:
_أنت لست بهذا الضعف يا أسامة، وستتأكد بنفسك ما إن تبتعد عن كل ما يجذبك إلى هذا الخنوع، أطعني هذه المرة وستُلاقي النتيجة بنفسك!
في إرهاق أومأ أسامة برأسه، في خضوع ارتأى بأن يستجيب له، وفي انتصار ربت مراد مرة ثانية على ذراعيه في قوة قبل أن يعود ليستكمل التجهز للرحيل.
**********
اختلست نظرة جانبية له لتجده على الحال نفسه منذ ما يقرب من ربع الساعة، يتطلع إلى صفحة المياه التي تحركها الرياح في سرعة بينما يصفع الهواء البارد المُحمَّل ببعض الأتربة بشرتها دون رحمة رغم أن المغرب لم يحل بعد..
تنهدت في قوة كي ينتبه لها.. فلم يفعل؛
دقت الأرض بحذائها في رتابة.. فلم يتحرك؛
تأففت بصوت حاد أجبر تلك القطة الشاردة على القفز بعيدًا وبقى هو على الوضع الساكن ذاته!
"هل نمت؟!"
سألته بنفاد صبر فالتفت إليها مُتعجبًا ليلتقي بتعبير مُغتاظ على وجهها، فعاجلته بلا تمهل:
_لماذا أنت صامت إذن؟! لم تنطق بكلمة واحدة منذ دقائق، هل رفقتي مُملة إلى هذا الحد؟!
عَمَّت الدهشة تعبيره قبل أن يتخلص منها ليقول مُبررًا:
_أنا أترككِ تستمتعين بمشروبكِ وحسب!
أشاحت بوجهها بعيدًا عنه لتمضغ آخر حبات الحمص، ثم غمغمت في تبرم:
_سيغضب جدي لو عَلِم أننا رفضنا الدعوة بحجة أشغالك المؤجَلة بينما ها نحن نجلس هنا منذ ساعة في صمت!
على الفور تغلب عليه طبعه الحاد ليرد في استنكار:
_ألم تطني برأسي كنحلة عمياء حتى أصحبكِ إلى هنا؟! أنا كنت أفضل البقاء بالبيت بكل تأكيد، لا تُظهِري الأمر وكأنني تهربت من لقاء عائلتكِ كي أستدرجكِ إلى النهر بهذا الطقس لنستقبل البرودة من مصدرها بكل حماقة!
وضعت الكوب الفارغ جانبًا ولاذت بالصمت فتنهد نادمًا ثم قال في رفق:
_هل أحضر لكِ كوبًا آخر؟
هزت رأسها نفيًا دون أن تنظر له، فتابع قاصدًا إغرائها:
_سأطلبه حارًّا!
رغمًا عنها ابتسمت، وبلا رد تحركت لتلتصق به على المقعد البارد، ثم شَبَّكت ذراعها بذراعه ومال رأسها على كتفه، توتر قليلًا وعيناه تدور في جميع الأنحاء فلم يجد إلا بائع الحمص يقف خلف عربته مشغولًا، لكنه قال في خفوت لم يخل من دهشة:
_نحن بالشارع يا إيلاف! ماذا هناك؟
لم تجبه على الفور، إنما أخفت جبهتها بكتفه ثم ردت بعد ثوانِ مُتصلة:
_هذا البرد لا أحبه، يثير في نفسي كآبة لا أعرف كيف أتهرب منها، يُعيد إليّ إحساسًا أكرهه كثيرًا، يُشعرني بالـ.. بالاحتياج، لذا دعني أتلهى بسماع دقات قلبك.
كان قد رفع كفه الأخرى ليُجبرها على الابتعاد، لكنه تراجع على الفور حينما لمس هذه الوحشة التي لطالما كان يراها بنظراتها الصامتة..
أيُعقل أن يكون هذا هو سبب حبه لها بالذات؟!
_كيف كنتِ تتلهين من قبل إذن؟
سألها عامدًا إلى المزاح لكن دون قصد احتله الاهتمام، فندت عنها حركة بسيطة من كتفيها قبل أن تجيبه بلا اكتراث:
_سبق أن خبرتك.. بالنوم.
تسارعت دقات قلبه في ضيق، في إشفاق، وفي أسف، حاول طرد صورتها ذلك اليوم من ذهنه في إصرار، إلا أن كفه كانت الأسرع فارتفعت لتحط على وجنتها، وجنة رأى آثار أصابع والدها عليها ذات يوم فتمنى لو كانت تحل له حتى يُربت عليها في حنو!
رَفَعت رأسها إليه في تعجب ثم ابتسمت وربتت على كفه التي تمسح وجنتها، ثم همست دون تمهيد:
_وأنا أيضًا أُحِبَّك يا ناهل.
انحبس صوته وهو يحملق فيها كما أنفاسه التي توقفت فجأة تُطالب بتصريح للاحتفال قبل أن ترقص في طرب..
اللغة مليئة بالمفردات؛
تحتوي على ملايين الكلمات؛
فكيف بواحدة فقط، بسيطة، صغيرة، أن تعبث به وكأنه رضيع يُقدم على أولى الخطوات؟!
كيف ببضعة أحرف أن تنتزعه من ضياعه بِفلاة جرداء لتُلقي به في غمار واحة خصبة غَنَّاء؟!
"أُحِبَّك" قالتها هي في إخلاص ليُجدد هو قسمه بأن يهديها كل ما بقدرته من عطاء!
اكتفى بترك الحرية لمشاعره للظهور على وجهه، فيما بقى لسانه ساكنًا في احترام حتى انفلتت منه ضحكة أتبعها بأن قال في نبرة مُتحشرجة:
_لكنني لم أقل شيئًا!
وكأنه قال كل شيء، كل ما تمنت أو ما ستفعل، ازدادت ابتسامتها اتساعًا وعلَّقت في فخر:
_صرت أستطيع فك ألغازك، هذه النظرة طالما رأيتها بعينيك ففسرتها إشفاقًا أو عطفًا، الآن أرى معناها الحقيقي، امنحني يومين آخرين وسأبدأ بتوقع التالي من أفعالك!
حرر زفيرًا احتشد بانفعالاته المُضطر لأن يكبتها بهذا المكان، ثم عمد إلى المشاكسة فسألها:
_أتعنين أنكِ ستعتمدين على نفسكِ بالتفسير ولن تطالبيني بإلقاء الغزل عليكِ ليلًا ونهارًا؟!
أرجعت رأسها للوراء لترمقه في استخفاف ثم قالت في مُعايرة مُبطنة:
_ سأكون حمقاء بالفعل لو تصورت أنك_أنت يا ناهل_ قد تُغازل!
كاد يرميها بتعليق لاذع، لولا أن ضميره اليَقِظ جعله يهز كتفيه مُوافقًا، ثم تابعت وهي تتطلع إليه بحنين:
_أتتذكر ذلك اليوم حينما انسدت مغسلة المطبخ؟ حينذاك خبرتني أنني إن أردت أن أدرك قيمتي عليّ أن أحتل عقلك.
_وهل استطعتِ؟
سألها في مكر، فأجابته بمكر مماثل اختلط به قدر جليّ من الفخر:
_اكتشفت أنني هناك بالفعل منذ زمن!
تتبع أمارات ثقتها التي تهبه هو نجاحًا سيبقى مُقتفيًا أثره، ثم تجهم وجهه ليقول في غيظ:
_كنت أوزع الإشارات أمامكِ طيلة الوقت لكنكِ كنت مصممة على إغماض عينيكِ، هذا ليس بخطئي!
رَفَعت حاجبيها في استنكار ليضحك فجأة بلا سبب، أمعنت به النظر في دهشة وسألته:
_علام تضحك؟
_ذلك اليوم، عندما ابتلت ملابسكِ وذهبتِ لتبديلها..
أجابها ثم سكت ليكبت ضحكة أكثر علوًا، وتلفت حوله ثانية قبل أن يعود ليهمس لها بنبرة مُعبرة:
_لم تُغلقي باب غرفتكِ يا وقحة!
أفلتت منها شهقة خافتة فيما استرسل هو في الضحك باستمتاع نادر، وبنبرة ذاهلة سألته:
_هل.. هل رأيتني وأنا..
بترت سؤالها الهامس حينما أومأ برأسه في قوة ما إن بدأت بنطقه، ظلت تحدق فيه بحرج امتزج به الحنق فخرجت كلماتها حادَّة تخفي بها فضولًا حقيقيًّا للإجابة بينما ترجع بذاكرتها إلى ذلك اليوم لتستعيد صورتها:
_وأنت.. ماذا فعلت حينها؟
_ماذا تظنين؟ حتى النظرة السريعة ستثتكثرينها عليّ؟!
نطق باعتراض، فأطلقت ضحكة قصيرة تلقائية، ثم أعادت سؤاله في اهتمام رغم خجلها الواضح:
_وهل.. هل كانت نظرة سريعة بالفعل؟
رَفَع أحد حاجبيه ثم رد غامزًا في عبث:
_لو كانوا يسمون التدقيق من خلف التلسكوب نظرة سريعة!
أخفت وجهها بكفيها تضحك ثم عادت إلى وضعها الأول تدس رأسها بكتفه، لكن بلا أي شعور بالوحشة كما كانت منذ قليل، حتى جاءها صوته في تأمل:
_إيلاف؟! أتعلمين أننا على نجلس بقرب نهر النيل؟ بالأحرى لو انعطفنا من ذاك الشارع سنجد نفسينا بأحد أشهر الأحياء الشعبية بالبلد.
اضطرت لأن تنظر له بلا فهم، ثم أومأت برأسها إيجابًا فرسم تعبيرًا ساخرًا فائض الامتعاض:
_لماذا تتصرفين إذن وكأننا نصور مقطعًا سينيمائيًا رقيعًا يُهدد سلامة مرارة المرء مِنَّا؟!
اتسعت عيناها في استنكار وهَمَّت بالرد فتابع نَزِقًا:
_فهمت أن حالة من الهيام تجتاحك الآن تحديدًا، لكن ابتعدي قليلا يا امرأة! لو مر بنا أحد أمناء الشرطة لن يدع لي الفرصة لإثبات أنكِ زوجتي قبل أن يُسمعنا ما لن تتحمله أذناكِ!
وسرعان ما ضغطت على أسنانها بغيظ لتدفع يده عنها بعيدًا وتتحرك إلى طرف المقعد، فابتسم وتبعها ليقول في نبرة خفيضة لينة:
_أعني.. وفري مجهوداتكِ حتى نعود إلى البيت.
_ليتنا ذهبنا إلى بيت عائلتي، على الأقل كنت التقيت بأُختيّ.
علَّقت في تبرم فقال في حماس:
_إذن لتهاتفي لين الآن! لو لم ترحل بعد لنذهب إليهم!
هزت رأسها نفيًا وأجابته في ضيق:
_لقد رحلت منذ دقائق حتى لا يتعرض يزن إلى برودة الجو بالليل.
ثم ارتسم تعبير مرتاب على ملامحها حينما لاحظت هذا الأسف فقالت في حذر:
_هل أنت نادم لأنك لم تذهب؟
ثم انتبهت إلى ما فاتها فأردفت في دهشة:
_بل أنت نادم لأنك أضعت فرصة اللقاء بهارون!
تضاعف تعبير الامتعاض على ملامحه بينما شرعت هي تضحك بلا توقف، حتى قال في سخط:
_نعم، أحتاج وجوده كي أُفرغ حنقي، كي أسترد شخصيتي التي اهتزت بفضلكِ حتى أوشكت على الاندثار، أشعر أنني مراهق في المرحلة الثانوية!
تغلبت على رغبتها باستكمال الضحك أو إبداء السخرية منه، ثم سألته في اهتمام:
_وماذا كنت تفعل حينما كنت مُراهقًا في المرحلة الثانوية؟
التفت إليها ليرمقها في صمت طال قليلًا، ثم قال وهو يطوف بعينيها:
_كنت أدرس، أعمل، وأنتظر دون أن أدرك فتاة صغيرة تلهو في مكان ما بثلاث دُمى قُماشية استعدادًا لأن تلهو بقلبي أنا فيما بعد!
اضطربت دقات قلبها تفاعلًا مع كل ذكرى تخصها يُثبت أنه لا يزال محتفظًا بها، ثم علَّقت في اشتياق وذهنها يُهيئ لها ثلاث دُمى مختلفة أشكالها لكنها كانت لها صديقات صامتات تُخبرهن بما لا يسعها قوله لبشر _حتى التقت به_:
_كنت أطلق عليها أسمائي أنا وأختيّ، لكنني غششت فأسميت أجملهن باسمي أنا، سينبغي علي الاعتراف لهما مع الأسف!
شرع في الاستنكار وتأكيد عكس اقتناعها، لكنه تراجع حتى لا تظن أنه يُجاملها، ونظرت هي إليه لتقول في تعجب:
_أخبرتك بذلك أيضًا؟
أومأ برأسه إيجابًا فابتسمت لتتابع في امتنان:
_ولم تنس ذلك أيضا؟
وبدلًا من تأكيده المُتوقع فقد عبس ليقول في خشونة:
_دربي نفسكِ على أن تبدئي بقول "اللهم بارك" قبل أن تظهرين هذا الحسد! ليس ذنبي أنكِ تفقدين ذاكرتكِ بسهولة.
لكنها لم تنصاع لمحاولته، فسألته في حيرة:
_كيف لك بأن تحبني بذلك الوقت؟
_كان من المستحيل ألا أفعل!
بلا تردد جاءتها إجابته، فأبعدت نظراتها عنه لتقول في حياء:
_أستصدقني إن أخبرتك أنني لا زلت لم أقتنع بعد؟! وأن ما أشعر به جديدًا تمامًا، بِكرًا تمامًا، لم أُعايِشه قبلًا؟!
بلا مزيد من إيضاح فهم ما تعني بالضبط، ربما لو هناك آخر بمحله لامتلكه الزهو حينما يظن أنها تقصد شعورها بالحب..
لكنه لم يفعل؛
فهذا ما لم تعنيه!
الآن تتطلع إليه وتؤكد له أنه أول من أحبها، أول من يُظهر بها تمسكًا ورغبة، والوحيد الذي بادلها إحساسها!
_أصدقكِ دون أن تتكلمي يا إيلاف.
همس بها في جدية، فسألته في قلق:
_وهل.. هل تجد الأمر مُزعجًا؟
_أي أمر؟!
في استفهام نطق، فأشارت بذقنها إلى ذراعها التي عادت تتشابك بخاصته دون أن ينتبه أحدهما متى فعلت، ثم أوضحت حين استمر صمته:
_أعني، ألن تحس بالملل؟ ألن تطالبني بالابتعاد كي أمنحك مساحة ما؟
العطب لا يزال هناك؛
العطب آثاره أكثر قوة وعُمقًا مما ظن؛
ربما أظهرت هي محاولة صادقة للتخلص منه، لكن كيف يتخلص الإنسان من ندبة قبيحة شوهت النفس ولم ينتبه أحدهم لضرورة سُرعة علاجها قبل أن تستفحل؟!
تخلص من أفكاره وافتعل ضيقًا شديدًا ليتشبث بها أكثر ثم قال في حنق:
_لقد بقيت بمفردي بتلك المساحة اللعينة لسنوات، ثم لشهرين كاملين وأنتِ تُضيقينها علي بنعومتكِ المستفزة وغرتكِ التي دأبت على إشعال أعصابي، لا أود أن أتطرق إلى أمر طلاء الشفاه الذهبي لكنني حقًّا لا أريد أية مساحات أخرى، ربما لن أدع لكِ الفرصة للتنفس بعيدا عن..
_بعيدًا عن أمواجك!
قاطعته في لهفة طالبة نجيبة سارعت بنطق الإجابة الصحيحة وتنتظر الثناء من مُعلمها، لكنه علق في دهشة:
_أي أمواج؟
اتسعت ابتسامتها العفوية وأجابته في حماس:
_شبهك جدي ذات مرة بمحيط شاسع فاستهجنت ذلك الوصف، الآن أدرك أنه كان مُصيبًا، كان يدفعني إليك بينما أنا لا أرى ما حولي، كنت أتخبط في نداء للمساعدة، كنت أخاف ألا أجد مركبًا واحدًا ينقذني.
أخذ يطرق على المقعد بأنامله وهو يُمني نفسه بضمها إلى صدره كما يشاء حين يعودان إلى البيت، ثم طالعها في تأمل ليسألها:
_أترغبين بالطفو؟
_بل بالغرق!
في همس أجابته ودون تفكير، وبالمثل نظر إليها بكل ما استطاع إظهاره من عشق ليقول في رجاء:
_افعلي إذن! حتى الأعماق يا إيلاف، ثقي بي! اغرقي بي حتى الأعماق! ستجدينها رحبة تنتظرك وحدكِ، تنادي باسمكِ وحسب، تُطالبكِ بالاستقرار بين أحضانها حتى النهاية.
اغرورقت عيناها في تأثر فمسحت على وجنتيها سريعًا، استقام هو ومد يده إليها فتأبطت ذراعه، وبعدما سارا بضع خطوات سألته في دلال:
_لم تخبرني من قبل أن طلاء الشفاه الذهبي قد نال إعجابك، أتعلم أن أمي أجبرتني على محوه يوم الزفاف؟! سيجب عليّ أن أخبرها بخطأ ظنها بعدما أكدت لي أنه مُريع لا يُفضله الرجل!
_ولا المرأة أقسم لكِ!
تلقائيًا هتف بها في استنكار فحدقت فيه بلا فهم، فما كان منه إلا أن احتفظ بالإسهاب في قذع ذلك المُستحضر اللعين لنفسه حتى لا يُثير سخطها، ورسم ابتسامة صفراء ليُتابع وهو يربت على رأسها في لطف:
_طاعة الأم واجبة يا إيلاف، ليس من الصواب أن تُضحي بها من أجل زوج لم تتمي معه عامًا كاملًا بعد!
في شك رمقته تستشعر أن هناك دافعًا آخر خلف إيثاره الغير على نفسه، لكنه أولاها ظهره ليُتابعا المسير فصاحت:
_انتظر!
عاد يستدير إليها فتقدمت لتنفض شيئًا ما فوق ظهره وقالت:
_هناك غبارًا عالقًا على كتفك.
مد يده لينظف ملابسه مُحاولًا التحرك عبثًا إلى الخلف فعقدت حاجبيها وهي توشك على الانتهاء وتمتمت بنبرة آمرة:
_اثبت يا ناهل!
انتفض إلى الوراء فنظرت له في تساؤل استحال إلى دهشة ما إن رأت تعبيرًا بالحنق مع التوجس على وجهه وكأنها طعنته بمدية ما، وقبل أن تتحدث رفع سبابته ليقول في صرامة مُبالغ بها وتحذيرًا شديد اللهجة:
_إياكِ أن تنطقي بهذه العبارة مرة ثانية! إياكِ يا إيلاف!
وبلا اهتمام لنظرة الدهشة التي التصقت على ملامحها أدار ظهره وانطلق مُبتعدًا وكأنه يهرب من الاعتقال!
**********
في توتر ثقيل صف سيارته إلى جانب الطريق وهو لا يزال لم يستوعب بعد أنها طلبت لقاءه بنفسها، وإن تمالك دهشته وصدق فكيف به أن يفهم سبب اختيارها لهذا المكان بالتحديد بعدما قاد سيارته تبعًا للموقع الذي ذيلت به رسالتها؟!
هنا.. حيث لقاءهما الأول؛
هنا.. حيث اكتشافه مُصيبته بشقيقه، وسقوطه فريسة لأسوأ الظنون بها؛
هنا.. حيث مسرح الجريمة الذي لم تفطن الضحية لهوية الجاني باللحظة نفسها حين كان هو حاضرًا يتأكد من إتمام خطته في السطو عليها!
خرج من سيارته في بطء أجبره عليه التثاقل الذي سيطر على جسده، أخذ يتطلع في البيت الذي لم يغادر ذاكرته قط، ولم يشعر بانقباض صدره في مكان كما به..
لِثوانِ نسى سبب حضوره ليقع تحت تأثير الازدراء والغضب وقد امتزج بهما إحساس آخر بالمرارة، حتى لفتت انتباهه هي رغم سكونها الذي يخفي كل الانهيار، ورغم ثباتها الذي يُهدده اهتزاز يصله حيث يقف على بُعد بضعة أمتار منها، جالسة على بعض الأحجار المرصوصة، ترمق الرمال أسفل قدميها وكأنها تبحث عن آثار خطوات مرت من هنا يومًا وتُمثل دليلًا دامغًا على الجُرم الذي شهده كل ما يحيط بهما!
هل أدركت الحقيقة؟
هل عَلِمَت أنه لمَّا التقى بها قَدَرًا بهذا المكان من قبل كان يراقب شقيقه فتعثر بها.. لا العكس؟
هل سيُجازَى بمعرفتها قبل أن يعترف بنفسه فيفقد فرصة تخفيف العقوبة؟
"غفران!"
خرج اسمها من شفتيه بنبرة مُضطربة، فالتفتت إليه ليشعر بأن عينيها ترميانه بلعنات لا حصر لها، يداها متشابكتان فَخمن هو أنها تمنعهما من خنقه في صعوبة..
تَقَدم؛
وتَراجع؛
ثم تَوَقف!
يمينًا ينظر، يسارًا يهرب، ليعود إليها في إقرار لا يحتاج لأي إمضاء يوثقه..
لو أنها كانت في أوج تركيزها لقرأت الحقيقة كاملة على صفحة وجهه دون جهد يُذكر؛
لكنها.. ضائعة، مُشتتة، وبهذه اللحظة التقتطها آلة زمن قاسية من أطراف المدينة حيث المنطقة المهجورة لتُلقي بها لِما يقرب من عشرة أعوام إلى الخلف ببيت عائلة الكُردي، وتحديدًا.. إلى غرفتها؛
إلى مشاهد مُتعاقبة لظُلم وقع عليها بعدة أوجه في ليلة واحدة !
في حدة أغمضت عينيها، وارتجف جسدهًا، لا خوفًا.. بل اشمئزازًا لتردُد اسمها في ذهنها بصوت خبيث لا تكره بقدره!
"ماذا هناك يا غفران؟"
وصوت هادئ آخر لا يحمل أية علامة لخبث سألها وهو على يقين أن الإجابة ستكون وابلًا من السباب يستحقه هو وشقيقه، لكنه اصطدم بسؤالها تفتعل بعض التماسك:
_ما رأيك بي يا نضال؟
_عفوًا؟
علَّق في دهشة فاستقامت في تمهل، واتجهت إليه في تمهل، ثم تحدثت في تعجل بدا مُغايرًا لتعبيراتها:
_أخبرني كيف تراني! إن مر اسمي أو عبرت صورتي ذهنك أو تطلعت إليّ كيف يكون انطباعك عني؟
حرَّك قدميه في توتر ليتراجع إلى الخلف قليلًا، ثم أشاح بوجهه الذي غزاه تورد يُحرجه أمامها، وقال في تردد:
_أنا لا.. لا أُدقق النظر في الفتيات، أعني لا أ..
_أتظن أنني قوية بما يكفي كي أستجلب حقي ممن ظلمني؟
وسؤالها الذي ألقته في إلحاح جعله ينظر إليها في صمت، مُترقبًا، حتى عاجلته بالتالي:
_أتظن أنني أستطيع فضح من قام بانتهاكي؟
عندئذٍ تأكد أن المُهلة الممنوحة له قد انتهت، والآن عليه أن يبدأ في سرد الأعذار؛
أعذار لا يقتنع هو بها!
_نعم.. أظن ذلك.
قالها بصراحة، برجاء، فخاطبته في توسل غامض الهدف:
_أتظن أن عليّ أن أفعل ذلك؟ أم يجب أن أتناسى؟ وأن أتابع تظاهري بالجهل بينما المعرفة تقتلني قتلًا بلا رحمة؟
_ماذا بكِ يا غفران؟
كمن سافرت في رحلة طويلة لتكتشف أنها قد ضلَّت طريقها بالنهاية رمقته في إحباط وتهدلت كتفاها لتجيبه:
_أشعر بالانتهاك يا نضال، أشعر أنني.. خائرة!
وفجأة استدارت لتواجه البيت الخالي، بينما هو يقف خلفها، طرف وشاحها يتطاير ليغطي وجهه فلا يزيحه، ذبذبات توترها تلتصق به فلا يردها، يتطلع إليها ومشاعره تتماوج باضطراب لم يتعرض له من قبل، ثم نظر حيث رفعت ذراعها أمامهما لتُشير إلى المبنى المُخيف كالمنازل المسكونة بالأشباح:
_انظر! هذا دليل آخر على ضعفي، دليل على أنني لست بالتماسك الذي يظنه الجميع، دليل على أنني سأبقى إلى الأبد ضحية مثالية للاستغلال والابتزاز.
وعادت إليه مرة أخرى تهتف في هجوم:
_أتعلم لماذا كنت هنا من قبل؟ أنت ظننت أنني على علاقة سرية بمهند وراقبتني حتى تبعتني إلى هنا، أتتذكر؟
أيتذكر؟!
أحقًّا تسأله؟!
وهل باستطاعته النفي.. ثم التصحيح؟
تصحيح لاعتقادها سيؤدي _بكل تأكيد_ إلى بث الفوضى بحياته هو!
_لقد حصل أحدهم على صور خاصة بي، وقام بابتزازي لقاء مبلغ مالي، هنا كان اللقاء والتسليم.
لو أنها لطمته، أو لكمته!
لو أنها سبته في امتعاض!
لما استحوذ عليه الخزي كما يفعل الآن!
_لقد دمرني ذلك الحقير، بسببه خرجت عن طوري ففقدت سدن، بسببه بِتُّ أرتعب كلما تلقيت مكالمة من رقم مجهول، وبسببه أيضًا ينتابني وسواس متكرر أنني سأستيقظ ذات يوم لأجد صوري لدى إخوتي قبل أن ينشرها للجميع.
تمنى لو أنها تتوقف؛
لتصمت قليلًا فحسب عله يتحكم في أنفاسه التي تحاول في جدية أن تخذله!
لكنها واصلت في كراهية:
_ورغم أنه قد هاتفني بعدها ليعتذر عن فعلته مع وعد بعدم تكرارها، ثم أعاد لي مالي كاملًا، فإنني لا أقتنع أن توبته صادقة.
كاد يخبرها أن المُبتز لم يفعل، بل كان هو، إلا أن صوته تخلى عنه بلا إنذار حتى أردفت في تهكم:
_لكن أتدري ما المُثير للسخرية في الأمر؟ أنني لا أرى جريمة ذلك المجهول في حقي على تلك الدرجة من البشاعة، أوتعلم السبب؟
تمكنت من شد انتباهه ثانية بعيدًا عن بئر الإثم الذي هبط إليه كي يجذب شقيقه فضاع به هو!
_لأنه غريب، لا أعرفه، لا يعرفني، لا أتوقع منه حسن التصرف وغض البصر حينما يتطلع على ما يخصني..
وإيضاحها لم يُشكل أي فارق لدى الطلاسم التي كان عقله يصرخ لجهله بها، إلى أن أضافت بنبرة ينسكب منها العداء في غزارة:
_ولأن هناك آخر، توقعت منه الحماية، والأمان، فلم أحصل إلا على التدنيس والانتهاك.
فقد وجهه كل دماءه دون إخطار، وارتفع حاجباه إلى الأعلى حين تباطأت أنفاسه هاربة، ثم تحشرج صوته ليسألها في توجس:
_أي آخر؟ من تقصدين؟ وماذا تعنين؟ ماذا حدث؟
تطلعت إليه في صمت لم تدرك أنه كاد يُجهز عليه، وترددت هُنيهة لتتساءل عن صحة إفضاءها إليه هو بأمر قد يفضح عائلتها؟!
لكن.. ألم تقل الكثير بالفعل؟
ليتها تقاربت مع أختيها منذ زمن!
أو.. ليتها ما فقدت سدن!
_ابن عمتي.
أجابته وهي تُلقي بترددها في سلة مهملات اعتادت أن ترمي بها كل ما يورثها استكانة لم تنفعها يومًا، وفي شكوى راقبت استنكاره، ثم ذهوله، ثم.. انتفاضته!
_ماذا فعل بكِ يا غفران؟ تحدثي! انطقي!
في لهفة تخلى عن تحفظه لوهلة فجابتها عيناه المذعورتان بسرعة وتدقيق، باحثًا عن أية علامة لتعرضها للإيذاء حتى أنه دار حولها متفحصًا إياها في توتر، مد يديه تجاهها في حيرة ثم جذبهما بعيدًا على الفور، ولم يتوقف عن حركاته الخرقاء إلا حين ارتفع صوت ضحكتها!
_عَمَّ تبحث يا نضال؟ عن آثار فعلته؟ لقد رحلت كلها منذ أعوام، لكن لم يلحق بها الغضب الذي يستعر في أحشائي كلما سمعت اسمه أو وقعت عيناي عليه.
وأطرقت برأسها حينما توقف أمامها مانحًا إياها انتباهه كله، وقالت في حسرة:
_والآن يُضاف إليّ إحساس آخر بالاستغلال مع الابتزاز أيًّا كان نوعه، تُرى لماذا أتعرض لهذا دومًا؟
ثم رفعت رأسها تتفحصه في تعجب وتسأله في حيرة:
_ولماذا أقص عليك أنت عاري؟
جميلة.. وصغيرة؛
تُثير به شعورًا زرعته بيديها، سقته بنفسها، وستحصده وحدها!
جميلة.. وصغيرة؛
عيناها تسرد مأساة تُدَرَّس في فقه الألم؛
نظراتها تشكو، وتبكي، وحولها العالم في صمم؛
جميلة، وصغيرة، وقوية؛
لو ضاعت منها قوتها، لو زاغت عن عزيمتها، فما دوره هو هنا؟!
لو لم يجذبها خارج فوهة نيران تتلظى بنظراتها، لو لم يحل بيديه قيدًا ملفوفًا حول عنقها،
فلماذا يظن بأنه يتوق لها؟!
لو لم يكافح لانتشالها قبل أن تبتلعها دوامة لا رحمة لديها فكيف يصل إلى المرفأ دونها؟!
لا إراديًّا هز رأسه رفضًا في إصرار، وبإصرار أشد قال:
_ليس عاركِ أنتِ يا غفران.
أومأت برأسها موافقًة، ابتسمت فازدادت فتنة بعينيه رغم أنهار الحزن التي تسبح فيها، وأكدت في نظرة شامخة اعترف لنفسه أنها تُلائمها كثيرًا:
_صدقت، بل عارهم هم، هم من ظلموني، هم من منعوني من استعادة حقي، هم من تغاضوا عما سيكللني من خزي وأنا أعيش مع من حاول التعدي عليّ ببيت واحد، نتناول الطعام على المائدة نفسها، نحتفل بالمناسبات ذاتها، وننام تحت السقف نفسه.
تنفس الصعداء وكلمة بعينها أثارت انتباهه فسألها في تردد:
_حاول..؟ أعني.. لم..
هزت رأسها نفيًا وابتسمت بلا اكتراث لا يتناسب مع الكارثة التي لتوها أخبرته عنها:
_لا، أنقذتني أمي في اللحظة الأخيرة.
تنهد طويلًا ووضع كفيه على وجهه الذي ارتفعت حرارته رغم برودة الطقس، لكن نظرة الكراهية التي تجلت بمقلتيها أعادته قسرًا إلى أجواء القلق، حتى هتفت فنافست أصوات السيارات العابرة:
_لكن أبي لم يفعل، ربما رأيته يضربه بحزامه ويركله خارج البيت بعد أن هرولت أمي لتخبره، لكنه عفا عنه بعد أيام حينما قبلت عمتي يديه أسفًا، ثم كاد يجبرني على الزواج منه عندما أقنعته بأن ابنها لم يكن في وعيه، أكدت بكل كذب أنه _من فرط هيامه بي_ صار مريضًا بداء عشقي فغاب عقله ولم يكن مُنتبهًا إلى ما كاد يفعل!
لطالما كان مُتعقلًا، نشأته في مسجد الحي دربته على التحكم في غضبه مهما كان السبب فصار دومًا يرتكن إلى حل المشكلات عن طريق التفكير الهادئ؛
منذ فترة اجتاحته شرارة غضب حينما علم أن شقيقه يُقامر؛
ثم تأججت النيران بداخله لمَّا ظن أنه على علاقة محرمة بإحداهن؛
ثم اكتسحه إعصار مُدمر حالما أدرك أنه يبتزها بصور سرقها؛
والآن.. هناك شيئًا غير مفهوم يسيطر عليه؛
هناك اضطرابًا، اختلالًا، هيجانًا!
يود الضرب، الإيذاء، أو ربما.. القتل؟!
صور يتخيلها في ذهنه بهذه اللحظة أثناء تعرضها للاعتداء، تكافح، تدافع، تتمنى أن ينتشلها أحدهم..
عجز؛
عجز يستشري بروحه فتبدأ أعراض مرضه المزمن، دَكَّه الصداع، احتله الغثيان بكل ثقله، وها هو الدوار يكشف عن حضوره..
سارع بتناول حبة دواء قبل أن يغشى عليه كما المرة السابقة، لكن مفعولها لم يمتد بالطبع إلى هذا الكمد الذي عشش على روحه..
سكتت تسمح له بالتحكم في انفعالاته التي ظهرت واضحة على وجهه، ولكم أثر بها تعاطفه!
_ألا يزال مُقيمًا بالبيت نفسه؟
سألها في هلع مُتصورًا إيجاب الإجابة فينفر منها عقله لا إراديًا ويهز رأسه رفضًا وربما نهرًا.
_لا! لقد رحل مؤخرًا.
أجابته ولمحته يتنهد في ارتياح، ثم جلست مرة أخرى على الأحجار وأضافت:
_أنا كل ما رغبت به أن أُحرر محضرًا ضده فأشفي غليلي لكن أبي قام بابتزازي عاطفيًا، كان يعلم بحبي الشديد لإيلاف خاصًة، فحذرني أنني إن فعلت سينقطع أملها بشقيق ذلك النذل إلى الأبد وسينكسر قلبها..
ونظرت له ثانية مبتسمة رغم عينيها المغرورقتين:
_وسبحان الله! تغاضيت أنا عن حقي من أجلها ولم يتغير شيء!
وهجم عليها الضعف فجأة لتُضيف في حسرة:
_لو.. لو أنهم سمحوا لي فقط بأن أصفعه!
رفعت يديها المهتزتين أمامه فانتابته رغبة مؤلمة في الإمساك بهما، إمدادهما بالقوة ، ثم.. تقبيلهما مرات ومرات في اعتذار!
_صفعة واحدة كانت لتخلص كفي من هذا الألم الذي يعتريها كلما رأيته فتبدأ بالارتجاف، صفعة واحدة كانت لتورثني راحة ورضا، صفعة واحدة كنت بها سأرد إهانته كل مرة التقيت به خلالها! سلبوني صفعة.. هي كل ما تمنيت، ألم أكن أستحق الاقتصاص بها؟!
استقبل كل إشارات الغضب مع القهر التي فاحت من تعبير وجهها حتى أضافت في حيرة:
_الأكثر إيلامًا أنني لا أفهم كيف استطاعوا خداعي طيلة هذه الأعوام! أبي، عمتي، وزوجها خبروني أن جدي من قرر درأ الفضيحة بالزواج حتى لعنتهم جميعًا، كنت أخصص وقتًا مُحددًا يوميًا كي أدعو عليهم، كرهت كل من يقطن بذلك البيت، لم يسلم أحدًا من نقمتي، لين كانت مريضة بالحمى في تلك الليلة فأصغوا السمع لأناتها الضعيفة بينما لم يفعلوا مع صراخي أنا، وإيلاف أحبت شقيق ذلك القذر فاضطررت أنا إلى التخلي عن حقوقي حتى لا أمنعها من سعادتها، أمي أيضًا أطاعت أبي كعادتها فلم ترفض التنازل الذي أجبرني عليه واكتفت بأن تصطحبني إلى طبيبة نفسية عدة جلسات حتى أتخلص من آثار الجريمة، وجدي.. وصلني أمره بحل الفضيحة بالزواج فهددتهم أنني سأقتله وسأقتل نفسي إن تجرأ أحدهم على تكرار الاقتراح..
قاطعت دمعاتها كلماتها فامتثلت لها ثم تمتمت في أسى:
_وبعد عشر سنوات كاملة اكتشفت الكذبة التي نسجوها استغلالًا لسفره إلى الحج آنذاك..
حدَّقت في الأفق لكنها لم تر أي مما أمامها لتقول في ذهول لا يزال يتحكم بها:
_لم يأمر بشيء، لم يتواطأ معهم بظلمي، بل.. إنه إلى الآن لا يعلم بما بدر منهم تجاهي!
رغم أنه لم يفهم كل ما قالته تحديدًا فإن عقله كان يعمل بسرعة حتى استطاع تخمين جوانب الحكاية..
_مات أبي فكيف لي أن أستعيد حقي؟
رددت سؤالها في هذيان، ثم تعلقت به عيناها لتهتف بأقصى غضب كتمته لسنوات:
_خبرني يا نضال! كيف وممن سأستعيد حقي؟
ومالت رأسها في ضعف لتتابع من بين شهقاتها:
_أما لهذا التخبط من نهاية؟ أما من طريقة لإصلاح أخطائي في حق البعض ونيل قصاصي من البعض الآخر؟
بحث عن إجابة ينطق بها لعل هذا الحزن الذي يخيم على جمال وجهها يرحل، لكنه فقد كل قدرته على التعبير وأبقى نظراته مُسلطة عليها ثم جلس في وضع القرفصاء أمامها، رمقته في حرج عندما انتبهت إلى أنها استرسلت في أكثر أسرارها إثارة للخزي وتوقعت منه ردًّا مُشفقًا يختم به هذا الحديث الغريب بالمكان الأكثر غرابة قبل أن يولي هربًا من مجنونة مثلها..
_من تكون سدن؟
في اهتمام انتظر إجابتها بينما أخذت هي تتطلع إليه بتعجب قبل أن تشرد تمامًا في ملامحه..
ربما أخافها حينما رأته لأول مرة وهي تتذكر جيدًا تعبيره الممتعض؛
لكنها الآن لا تملك إلا أن تعترف بجاذبيته إن تخلى قليلًا عن الجدية التي يعتمدها وكأنه يحمل هم العالم على كتفيه وحده!
جاذبية نالت منها، وهي التي لطالما نفرت من فكرة الاهتمام برجل!
ظن أن تأملها إياه يعود لدهشتها فأوضح قائلًا:
_قلتِ أنكِ فقدتِ سدن، من تكون هي؟
تشتت تركيزها وعاد الضيق إليها مهرولًا، فزفرت في بطء ثم أجابته مُتحسرة:
_صديقتي الوحيدة، أحبتني بصدق، شاركتني كل تفاصيل حياتي، لكنني لم أشأ أن أبقى دومًا مُتلقية للخيبات دون رد، فانتقمت منها هي لأكتشف أنني فعلت بها مثلما فعل بي والدي.. ظلمتها، وربما دمرت حياتها أيضًا، وها أنا عدت وحيدة دونها.
_لديكِ أختان.
علَّق في بساطة، فابتسمت باستهزاء وقالت بلا تردد:
_لا أحد محظوظ بأخت مثلي، أنا الأسوأ ثق بي!
دس يده في شعره وابتعد بنظراته عنها لِثوان ثم رد:
_علاقتكِ بلؤي ليست سيئة.
_لأنه لم يشارك بجريمتهم.
وتعليقها أجبره على أن ينظر إليها مُجددًا، ليسألها في استنكار:
_وهل شاركت إحدى أختيكِ؟
مطت شفتيها وهزت رأسها نفيًا لتجيبه في أسف:
_ليس بشكل مباشر.
_إذن لماذا تستنزفين طاقتكِ في حروب جانبية لا قيمة لها؟ لماذا لا تولين اهتمامكِ شطر المنح التي وهبكِ الله إياها؟ لماذا لا تبادرين بالغفران؟
تأملته بصمت فأردف في نبرة أكثر لُطفًا:
_ألم تتمني الغفران يومًا؟
كادت تبكي وتقص عليه المزيد من حيرتها، لكنها تماسكت واكتفت بأن قالت في ندم:
_بل تمنيته حتى زهدته ولم أعد أؤمن به، تمنيته من إيلاف، من لين، من سدن، اليوم تمنيته من جدي، ودومًا تمنيته من.. من غفران.
ازدرد لعابه بينما صدره يثور عليه دون رحمة فسألها في رفق:
_ومن هي غفران؟ كيف تشعرين نحوها؟
منحته أكثر ابتساماتها صفاءً ورقًة فجف حلقه تمامًا حتى قالت:
_أشفق عليها، وأخاف منها، أحبها كثيرًا، وأبغضها كما لم أبغض أحدًا من قبل!
غاب حكم عقله للحظات فانفلت لسانه خلف قلبه مُتمتمًا:
_غفران لا تستحق البغض، غفران لا يليق بها إلا قوة النزال، وشرف الـ.. نضال!
ولما نظرت له في انتباه عاد عقله على الفور ناهرًا زاجرًا فهمس باستغفار مُتكرر بضع مرات قبل أن ينطق في نزق:
_ولماذا هذا الاستسلام؟! لِمَ لا تكافحين لاستعادة نفسكِ؟! ولِمَ لا تطالبين بمؤازرة من يهتمون لأمركِ؟!
في ضعف.. أو في قوة هزت رأسها رفضًا لترد:
_لا يحق لي، لقد واتتني الفرصة ذات ليلة فأفلتَّها واختبأت خلف خوفي، ثم اكتفيت بصب نقمتي على الجميع مع معرفتي بأن غالبيتهم لا يدرك ما حدث بالأصل، ومع معرفتي الآن بأنهم لو علموا لكانوا دافعوا عني في شراسة.
سكنت تمامًا بعد مواجهة نفسها قبله بمخزون همومها الذي فاض عن المُحتمل، انتظرت منه تعليقًا فتطلعت إليه بخجل لترى نظرة مُتفحصة يشملها بها على غير عادته، فعبثت بهاتفها سريعًا وقبعت مكانها دون أي فعل، وبعد قليل افتعلت ابتسامة ووقفت في ارتباك لتقول:
_نادم.. أليس كذلك؟! وربما تتمنى الآن لو أنك لم ترد على رسالتي!
ثبتت حقيبتها على إحدى كتفيها فهتف في قلق:
_إلى أين؟
أمسكت بطرف وشاحها الطويل الذي يُصر على ضرب وجهه، رفعت هاتفها أمامه وقالت:
_سأرحل، انظر! لقد طلبت سيارة أجرة وستصل في الحال.
وتخطته لتتابع في تهكم مُصطنع:
_أعدك أنني لن أكررها ثانية، لكن.. أرجو ألا تخبر أحدًا بحديثي، اعتبرني غريبة أفضت لك بسرها من وراء حجاب وربما يحالفك الحظ فلا تُصادفني قريبًا..
وقبل أن يتكلم أشارت بإحدى يديها إلى الطريق هاتفة:
_ها هي السيارة! إلى اللقاء يا نضال! لا تهمل موعد دواء الضغط وحاول ألا تتعرض للانفعال كثيرًا!
بعينيه تابع خطواتها السريعة التي كانت أقرب إلى الجري؛
وبداخله صراع، نزاع، حرب بين صوت ضمير يُحذره من مغبة طريق غير مضمون العاقبة وإرادة قلب لم يعد يتقبل فشل تحقيق رغبته..
استقلت المقعد الخلفي وأغلقت الباب في تهديد صريح بالرحيل ومن ثم.. بالنهاية؛
إلا أن قدميه اتحدت مع قلبه فهرول إليها قبل أن ينطلق السائق، عقدت حاجبيها في تساؤل وأنزلت زجاج النافذة ظَنًّا منها أنه سيلقي عليها تحية جوفاء ترفع عنها حرج نهاية اللقاء!
_أتتزوجين بي؟
سألها في لهفة فأجابته بنظرة ذاهلة..
_أتتزوجين بي؟
كررها في رجاء فرمقته مُتوجسة..
_غفران يا غفران! أتتزوجين بي؟
وأعادها في خفوت، مُبتسمًا، راجيًا، راضيًا بالنتيجة التي رضخ لها عقله أخيرًا.. ثم بقى ينتظر!
احتشدت الأنفاس في صدرها، وتاهت الردود عن لسانها، لكنها سألته في دهشة رغم التوتر الذي حاق باختلاجاتها:
_لماذا دومًا تُكرر كلامك ثلاثًا، ولماذا تنطق باسمي مرتين؟
اتسعت ابتسامته فأقسمت سرًّا أن هذه الابتسامة وحدها كفيلة بإفقادها ما تبقى من تعقلها؛
أنه أكثر من رأت _أو سترى_ وسامًة طوال عمرها؛
وسامة جَمَّل بها خالقه محياه، ثم امتدت آثارها إلى أخلاقه!
مال مُستندًا على حافة النافذة رغم أمارات الضجر التي اعتلت وجه السائق، وأجابها في هدوء بينما يتلاعب الهواء بخصلة شعره فتتبعها عيناها طواعية:
_في الأولى أُشتت انتباهكِ، في الثانية أختطف اهتمامكِ، وفي الثالثة أسلبكِ وسيلة الفرار فلا أسمح لكِ إلا بالاستسلام!
ضحكت في استسلام، وأسدلت أهدابها مُذعنة، ثم رمقته بامتثال فتابع مُهاجمًا دون تقهقُر:
_أما عن اسمكِ يا غفران فأنا أحب تذوقه، ظللت أسعى خلفه قبل أن ألتقيكِ، وأعتقد أنني سأبقى تَوَّاقًا إليه حتى آخر أنفاسي!
_سأُكبدك العناء.
نطقت بها تُطالبه بالابتعاد وأيضًا تتوسله ألا يفعل! فقابلتها لمعة عينيه كأنه يتشرَّب سعادة وليدة فيُجاهد لاستيعابها، ثم هز رأسه نفيًا ورفضًا، ليقوده لسانه دون اعتراض منه:
_الجواهر الثمينة لا تسقط من السماء، بل علينا التنقيب عنها دون تذمر، بلا ضجر، وبكل لهفة.
ترقرقت عيناها بعبرات مختلفة أسبابها عن كل ما ذرفته خلال الساعات الماضية، فأضاف بنظرة مُكللة بالالتزام، تسألها الثقة والاحترام:
_وأنا _إن لم تلاحظي بعد_ لا أتقاعس، لا أتراجع، أخوض حروبي حتى تتمتها، وسأحوز النصر.. والغفران!
تشابكت دقات قلبها في طيش لم تعهده عليه إلا برفقته، وعادت رغبتها المُشاغِبة على الفور تدفعها دفعًا لإبداء أقل قدر من المقاومة، فرفعت أحد حاجبيها وسألته في تحدي:
_حتى لو عارضتك أنا؟
منحها إيماءة بسيطة برأسه ومط شفتيه ثم علَّق مزهوًا:
_ثقي بي! ستكونين أول المؤيدين!
وهذه الثقة التي تسلح بها لم تجد بنفسها القدرة ولا الرغبة على هزها، فاختلست نظرة إلى السائق الذي تظاهر بتصفح هاتفه، ثم عادت إليه تسأله هامسة لتترك علو الصوت لضربات قلبها:
_لماذا قد تتزوج بي؟
ارتبك لِوهلة ثم أجاب في نبرة عملية:
_لأنني شاب ميسور الحال وقد حان وقت تأسيس أسرتي الخاصة، والدتي أيضًا ترغب بأن تستمتع مع أحفادها، وشقيقي لا يزال الوقت لديه طويلًا حتى يتزوج، وأنا ابن بار كثيرًا أرغب بإسعادها، ولأنكِ ظهرتِ أمامي فجأة..
بتر عبارته فور أن ابتسمت سعيدة باضطراب حاله، فتجهم وجهه لِينفي كاذبًا في فشل ذريع:
_تأكدي أن لا سبب خاص يـ..
_أنت تكذب ثانية!
ومرة ثانية توقف عندما ضحكت في خفوت جراء تورد وجنتيه واستغفاره نادمًا، ثم زفر في استسلام وقال في خجل:
_سأخبركِ بالسبب الحقيقي حال عقد قراننا، اتفقنا؟
وافقته عيناها، رافقه قلبها دون تردد، لكنه رغبًة في سماعها كرر بنبرة لا تحتاج للتصريح بحب فاض منها في صدق:
_إذن.. غفران يا غفران! أتوافقين بالزواج من رجل على مشارف الثانية والثلاثين لكنه مريض بالضغط المزمن، يسهل إحراجه وأنتِ تعلمين الطريقة، ويحب نباتاته حد الهَوَس؟!
ضحكت وهي تتطلع إليه في جرأة، صامتة لثوان متصلة، يشد من أزرها بعض من سكينة افتقدتها، ثم علَّقت بإعجاب:
_يا إلهي! لقد أحسن والداك تربيتك حقًّا. هنيئًا لهما بك!
واستغلالًا لحالته المُتوترة لم تمنحه ردًّا حاسمًا رغم وضوحه بعينيها، لتكتفي بتوديعه بنظراتها تطلب من السائق بدء الرحلة، فاستقام هو في تمهل متجاهلًا تذمر ضميره، ومُستمتعًا بترنم قلبه!
قُرب منتصف الليل ولجت إلى الغرفة مُتسللة على عكس إقدامها المُصمم بالمرة السابقة، أغلقت الباب في هدوء ووقفت حيث هي تتطلع فيه بلا ملل..
ازدان ثغرها بابتسامة عاندت الدموع التي أغرقت وجنتيها وقد وصل الإنهاك إلى كل جزء بجسدها، ابتسامة عائدة إلى طفولة شهدت مشاغبتها للجميع، ومشاكستها لكل فرد، ودلالها بالأخص على.. جدها.
كم مرة تظاهرت بالانصياع لأمر والدتها بالنوم ثم تسللت في حذر إلى غرفته لتدس نفسها بين أحضانه في نعومة إليه مُحببة؟!
كم مرة وجدته جالسًا يُرتل القرآن بصوت عذب خشوع فظلت تراقبه في انبهار حتى ينتهي؟!
وكم مرة _خلال السنوات العشر الغابرة_ تمنت أن تمحو من ذاكرتها خذلانه إياها وتستأنف عادتها الليلية برفقته؟!
أغمضت عينيها تكتم شهقة كادت تنفلت فتوقظ ذلك الجسد النائم فيرى حالتها الفوضوية قبل أن تُرتب اعتذارًا على اتهام حافظت على رميه به بنظراتها دون أن يندفع من كلماتها..
لا خوفًا.. بل هي الطريقة التي اعتمدتها للعقوبة المثالية!
عقوبة تأكدت اليوم فقط أنه لم يكن يستحقها، كما لم تستحق هي محاولاته الحثيثة المستمرة لمعرفة ما ألَمَّ بها..
كم مرة سألها فبخلت عليه بالإجابة؟!
كم مرة دعاها فقابلته بكل رفض؟!
وكم مرة طرق باب غرفتها، نادى باسمها، فتظاهرت بالنوم كي لا تلقي بنفسها بين ذراعيه واكتفت بأن تسمع خطواته البطيئة المهزومة تبتعد ليطالها شعور بالراحة؟!
راحة زائفة، وتعب حقيقي لم يستحقه أيهما!
اقتربت في بطء من فراشه والشوق إليه يمزقها، يبعثر روحها، وجسدها يهفو لدفء دومًا ما منحته إياها ذراعاه..
وسقطت..
سقطت أرضًا فقد أُرهِقت قدماها من فرط الهرولة هنا وهناك طيلة اليوم؛
تتظاهر بالقوة والجسارة أمام أعدائها؛
ثم تنهار دون تحفظ أمام غريب يبدو أن قلبها سيُقلده مكانة مختلفة عمَّا قريب؛
لكن الوهن الذي أصابها الآن لا يُقارن بأي مما تعرضت له اليوم!
"لماذا تأخرتِ كثيرًا؟ لِتوي انتهيت من قراءة الوِرد اليومي، أم أن صوتي قد شاخ فلم يعد ينال استحسانكِ كما كان من قبل يا بنت؟"
رَفَعَت رأسها في حدة خفت تدريجيًا حالما رأته ينظر إليها في ابتسامته الحنونة التي كان يخصها هي وإخوتها بها تعويضًا عن جفاء والدهن، فابتسمت مُجددًا وأجابته بكل صدق:
_بل أجمل الأصوات يا جدي، بعمري لم أسمع من يقرأ مثلك.
لكنه كان يقرأ الألم الذي احتل محياها، والوَهَن الذي ملك زمام أمورها، إلا أن ما أثار ترقبه اختفاء مقت مع عتاب دأبت عيناها على تبليغه بهما، فسألها في أمنية يبدو أنها ستتحق بعد طول انتظار حالما أدركت بأنه برئ من تهمة ألصقها بها ابنه:
_ماذا تريدين يا غفران؟ هل فعل جلال شيئًا آخر لم تخبريني عنه لكنكِ حاسبتِني عليه طويلًا؟
تطلعت إليه لِثوانِ تبحث عن إجابة مناسبة..
أتقص عليه انتهاكًا تم في بيته، في غيابه، دون وعيه؟
أتقص عليه كذبًة مُتقَنَة اختطفت منها أعوامًا وقدمتها قربانًا لِوحش ظن آثم به؟
أم تقص عليه إجحافًا وقع عليها فبدلًا من أن تصرخ مُطالِبة بحقوقها أجحفت هي في حقه بالمثل؟!
هزت رأسها رفضًا لأسئلتها الثلاثة، ندت عنها شهقة قوية تُعيد كل غضبها إلى داخلها للمرة الأولى منذ أمد لعلَّه يذبل ويموت، واقتحم صوت قوي خجول ذهنها فأرشدها..
لتنطق مُجيبة بما تريده هذه اللحظة حقًّا:
_أريد العفو يا جدي، الـ..غُفران يا جدي!
في إشفاق تعلقت بها نظراته، فتابعت في توسل:
_وأريد سماعك تُرتل القرآن، أريد الراحة التي تنساب إلى روحي من صوتك.
وتجلى سؤال أخير بعينيها حينما طرح الاحتمال الكريه المُخيف نفسه..
هل سيُرد لها الإخفاق كما فعلت هي مرارًا؟!
إلا أنه حينما ابتسم تنهدت في ارتياح، ثم رَبَّت على المساحة الخالية المُجاورة له في الفراش قائلًا في ترحيب:
_تعالي يا بنيتي!
وقفت في تباطؤ إثر تعبها، تعب بدأ يتبدد ما إن لمحته يتناول المُصحف الكريم من فوق المنضدة الجانبية ويرتدي نظارات القراءة..
وتعب تلاشى تمامًا فور أن جلست إلى جواره، مال رأسها على صدره، وارتفع صوته الرخيم ينشر السكينة في الغرفة.. وفي روحها.
*****نهاية الفصل الحادي والعشرين***
