اخر الروايات

رواية علي ضفة قلبك ظمآن الفصل العشرين 20 بقلم سعاد محمد

رواية علي ضفة قلبك ظمآن الفصل العشرين 20 بقلم سعاد محمد


الفصل العشرون
(إلى الوريد)
استند مُراد على باب الشقة فور أن أغلقه في سرعة ووقف بهدوء يتطلع إلى أسامة الذي لم يدع غرضًا واحدًا سليمًا بمكانه، الأمر الذي لم يُثِر دهشته بعدما تلقى اتصالًا هاتفيًا منذ يومين من أحد سكان البناية يُهدده أنه إن لم يتمكن من ردع ابن عمه سوف يقوم بإبلاغ الشرطة، فلم يجد مفرًا من أن يحاول لمرة أخيرة كبح جماح تهوره قبل أن يتركه وشأنه خوفًا من أن يتسبب جنونه في كارثة أخرى بعدما هدم بيتًا وشتت أسرة بالفعل، ومن حُسن حظه أنه استطاع الحصول على تذكرة سفر بهذه الفترة الوجيزة!
_أستبقى واقفًا إلى الأبد؟ وهل تظن أنني إن أردت الخروج ستستطيع منعي؟
بادره أسامة في استهزاء بعد أن انتظر تقريعه طويلًا، فأطلق مراد تنهيدة حارَّة ثم تحدث مُستفهمًا في هدوء:
_وإلى أين تريد الذهاب يا أسامة؟
_إليها.
بلا تردد هتف، ثم أضاف في إصرار:
_سأستعيدها رغمًا عن إرادتها فأنا لم أعد أبالي.
وبالمثل صاح مراد حازمًا، مُتعمدًا اتباع أسلوب الصدمة في العلاج لعله يصحو من سكرته:
_لقد تَزَوَّجَت.
إلا أن أسامة هز رأسه نافيًا، وفي حقد عقَّب:
_بل سُرِقَت مني!
ضحكة ساخرة أطلقها مراد فظهر بعض الشبه بينهما لِوهلة، ثم قرنها بعبارته الصريحة دون أقل درجة من التزييف:
_إن كان هناك لصًّا فسيكون أنت يا أسامة، لا تتظاهر بأنك ضحية تحطم قلبها! فهذا ما جنته عليك رعونتك وتجاوزك الحدود.
رنا أسامة إليه ببصره في صمت، ثم قال بصوت خافت رغم ارتفاع نبرة الاستهجان به:
_لقد شبَّ عودك يا مراد، أليس كذلك؟!
واستقام ليتجه إليه في تؤدة، حاملًا أبشع ابتسامة قد يرسمها المرء، وفي حدة وضع إحدى كفيه على كتفه ليُواصل:
_صِرت مُتعقلًا ناضجًا، أصبحت تسدي النصائح، تتبع الصواب وتشمئز ممن يتبعون رغباتهم.
لم ينبس ببنت شفة واكتفى بأن يبادله النظر في وجوم، فأردف أسامة في استخفاف لم يحاول مواراته:
_لو كان والدي على قيد الحياة لافتخر بك كثيرًا، فيبدو أن الوقت الذي أنفقه على تربيتك وتعليمك لم يذهب هباءً في آخر المطاف!
ازدرد مراد لعابه وأشاح بوجهه عنه مُتغاضيًا _للمرة التي لا يستطيع حسابها_ عن تلميحه.
لكن ما إن عاد يلتفت إليه حتى اتسعت عيناه دهشًة وهو يرمق.. دمعة!
_أنا أحبها.. بل أعشقها كما لم أعشق امرأة من قبل.
قالها أسامة في ضعف لم يسيطر عليه يومًا.. إلا حينما كان يتعلق الأمر بها، فنظر إليه مراد في إشفاق وقال:
_أعلم.
_أريدها.
في توسل نطق أسامة فهز رأسه رافضًا، وأخذ يخاطبه في رفق:
_بات هذا مُستحيلًا يا أسامة، لقد صارت زوجة لآخر الآن، لو كنت تحبها حقًّا دعها وشأنها، دعها تُرمم ما أفسده وجودك بحياتها وبحياة طفلها، لو كنت تحبها أسقِطها من عقلك وصدقني بمرور الوقت سيُسقِطها قلبك أيضًا.
ورغم الحذر الذي تكلم به فإن أمل ضعيف بدأ ينمو لديه حينما قابل الصمت كإجابة حائرة لنصيحته، فتابع مُبتسمًا في تشجيع:
_وربما.. ربما تجد أخرى تبادلك حبك، تنتمي إليك وحدك، أخرى لن يجلدك ضميرك ذات يوم بسياط الندم لأنك هدمت أمانها وأثرت الذعر بحياتها.
بان على أسامة الشرود ولم ينطق بكلمة لدقيقة كاملة فكاد مراد يقفز فرحًا، لكن ذلك الأول تمتم في تردد:
_لا.. أستطيع.
ولم يكن مراد ليدع الفرصة تفلت منه بعدما قطع شوطًا لم يتوقعه، فوضع كفيه على ساعديه في قوة وقال بحماس:
_ستستطيع يا أسامة، سأساعدك.
كان أسامة على وشك التراجع فمنعه مراد واستطرد في حسم:
_سأقيم معك، سأرافقك بكل مكان، لن أتركك بمفردك ولن أسمح لك بتجرع مرارة التفكير بها.
تشتت؛
تمزق؛
وانشطار!
استطاع مراد قراءة تلك الانفعالات المُعذبة على صفحة وجهه، فأردف عازمًا على عدم هدر الوقت قبل أن ينفذ فكرته:
_ما رأيك أن ترافقني؟ لِمَ لا تترك البلد كلها لشهر.. أو اثنين؟ أنت كنت تفضل العيش بالخارج أكثر مني!
أطرق أسامة برأسه أرضًا فتابع مراد هجومه خشية أن تفشل مساعيه في آخر لحظة:
_استمع إليّ جيدًا يا أسامة! إن رحلت عن هنا لبعض الوقت ستتمكن من لملمة شتات نفسك ثانية.
في جمود، في برود، وفي.. موت نظر له أسامة بعينين حمراوتين وسأله:
_وإن لم أستطع نسيانها؟! ماذا أفعل؟
تردد مراد قليلًا وأولى ظهره للتشاؤم الذي حلَّ على نفسه جراء استيعابه مدى ولهه بها، وتشبث بكل الأمل ليقول في ابتسامة واسعة:
_دعنا لا نفترض الأسوأ! سنسافر سويًا وستعود لمتابعة العمل فستنسى اسمك نفسه، الأجواء هناك قادرة بمساعدة المدمن على الشفاء، ألا تظن بأنها ستنسيك قصة حب خاطئة؟!
وكم كان مراد صادقًا!
ما يرزح تحت ثقله لهو أشد أنواع الإدمان إيلامًا؛
ربما غياب الوعي كان سيمنحه بعض الفسحة؛
لكن عقله حاضر؛
وذهنه حاضر؛
وقلبه الجلاد هو من يمنحه جرعات عشقها في انتظام، في إصرار، في.. تشفي!
عاد يتطلع إليه مليًّا في صمت فرأى الاحتفالات تعربد بعينيه، احتفالات أخرسها ما إن قال:
_سأفعل، لكن بعد يومين، ربما.. لا يزال هناك أملًا أخيرًا، آخر الحلول التي أمتلكها، آخر محاولاتي، إن فَشَلَت.. سأرافقك، سأُجرب طريقتك.. ربما تنجح.
*********

في اليوم التالي:
بنظرة لا زالت مصدومة كانت تحدق في الجميع على مائدة الإفطار، تكاد الأسئلة تتقافز من عينيها إلا أنها سرعان ما تقمعها، تُخرِسها، فيما يتعالى وجيب الإنذار جنبًا إلى جنب مع نفير الرفض في عقلها..
والدتها تتظاهر بأنها تتناول بعض اللقيمات؛
عمتها أماني تحاول جذب أطراف الحديث مع ابنها الذي يبدو عليه وجوم لم يتمكن منه قبلًا؛
أما جدها فلا يزال حواره الأخير معها يتردد صداه في عقلها منذ ليلة الأمس!
حوار تهربت من إتمامه لنهايته لأنها طُرِحَت في غيابات الجهل بعد ظنها الطويل بامتلاكها كل المعرفة!
لقد اعتقدت أن الليالي المُتتابعة خلال السنوات العشر الماضية أكثرها أرقًا، وقلقًا، ورُعبًا..
إلا أن ليلة الأمس كانت الأسوأ على الإطلاق!
كابوسًا حيًّا عايشته مفتوحة العينين بأوج وعيها..
كابوسًا استعادته هذه المرة ملء إرادتها منذ بدايته!
مُراهِقة جميلة مُشاغبة.. وشاب يفوح الخبث من خلجاته؛
وعَمَّة دأبت على إقحام حقيقة أن ابنتيّ شقيقها ستؤولان بآخر الأمر إلى ولديها تحت موافقة والدهما وحماسه مُنقطع النظير، ولمَّا وجدت من عقلها هي صَدًّا منيعًا وهي ترفض الفكرة مرارًا وتكرارًا لاقت بقلب شقيقتها المتعطش لأية عاطفة تربة خصبة كي تُلقي ببذور رغباتها فيها وتراقب نموها سريعًا يومًا بعد يوم!
"لنتزوج ما إن تُنهي دراستكِ الثانوية يا غفران!"
"لو نضبت الأرض من الرجال جميعًا ولم يتبق إلَّاك يا عمرو لن أتزوجك!"
عرض نطق به كثيرًا واعتادت أن ترده إليه مرفوضًا كل مرة؛
فكيف بها أن تتقبل الزواج منه بينما نظراته إليها باتت غير بريئة؟!
بل باتت.. مُنتهِكة بلا جهد؟!
عرض قدمه ذلك اليوم وقت العصر فدعسته في اشمئزاز دون الاستفاضة أكثر في إهانته كما تتمنى، ولما انتوت أن تخبر والدتها وَجَدَتها لا تسمعها، أما عن عقلها فقد كان غائبًا عنها تمامًا.. لأن لين مُصابة بالحمى!
وكأن الحرب قامت بعالمها، تبكي مذعورة، تهرول هنا وهناك بلا داع..
وتراجعت هي، اختلست النظر من شِق باب غرفة أختها في قلق فوجدتها تهذي أثناء نومها، دب الذنب قلبها وبات شعورها بالحقد تجاه نفسها أكبر مما تحتمله..
لين ليست سعيدة.. بالقطع ليست سعيدة بالحال التي وصلت إليها إيلاف، لماذا لا ينجون ثلاثتهن بأنفسهن بعيدًا عن مرض التفرقة والتفضيل؟!
وفي الليل عادت إلى غرفتها عازمة على أن تفي بوعدها لجدها وتُبادر بالتقارب مع أختها فور شفائها، ثم دون تردد ستُبلغ عمتها أماني بالغد عندما تعود مع ياسر من شقتهما عن أفعال ابن شقيقتها، وبالطبع ستخبر جدها نفسه فور رجوعه بعد أداء فريضة الحج، حتى لو قام بطرده من البيت لأجلها لن تهتم، لقد تجاهلته كثيرًا عَلُّه يرتدع فلم يفعل، لِذا لم يعد لصمتها معنى.
وخلدت إلى النوم، في تعب شديد؛
في أمان للمرة الأخيرة!
فَما أيقظها كان اعتداءً سافرًا لم يجرؤ أن يقتحم عالم أحلامها من قبل، إلا أنه الآن معها بالغرفة ذاتها، يجثم فوق جسدها بكل قسوته بلا أي مراعاة لتخبطاتها الفَزِعَة وصرخاتها المكتومة!
"لقد دعوت لين وهارون لقضاء يوم الغد معنا، وبعدما أكد لي ناهل أنه سيأتي رفقة إيلاف فقد هاتفني منذ قليل ليعتذر بسبب انخراطه ببعض الأشغال المؤَجَّلَة! "
انتفضت بمقعدها حينما صدح صوت جدها يقطع ذلك الصمت المُربِك، ثم تابع مُوَجِهًا حديثه إلى ابن عمتها:
_ياسر! أرغب بأن تبحث عن موظف أمين ليساعدنا في إدارة أمور المصنع أثناء عدم وجودك به، لؤي سينشغل في مشروعه فور التخرج.
وعَلَّق ياسر في اقتضاب دون تردد:
_لا تحمل هَمَّا يا جدي! أنا مُتفرغ تمامًا.
حانت منه نظرة حنونة طالت لبعض الوقت، ثم قال:
_لا أريد أن أثقل على كاهلك يا بني، يحق لك الترفيه عن نفسك قليلًا.
وقبل أن يُعلق ياسر أردف في حماس:
_لِمَ لا تقم بدعوة ذلك الأستاذ وأسرته بالغد أيضًا؟! يبدو لي رجلًا سمحًا ولم تسنح لي الفرصة للتعرف عليه بحفل الزفاف، وربما..
_لا داع لذلك يا جدي، لن ألتقي به مُجددًا.
نطق بعبارته القاطعة ووقف مُتجهمًا، وقبل أن يسأله جده إيضاحًا هتفت أماني باستنكار أوقده عزوفه عن تبادل كلمة واحدة معها منذ الأمس:
_لا يُعقل أن تبقى مُنزعجًا إلى هذه الدرجة من أجل الـ..
_ماذا تريدين مني يا أمي؟! ماذا تريدين؟!
وصرخ ياسر!
للمرة الأولى منذ طفولته يرتفع صوته في حضورها، وفي حضور جده، وأمام أي منهم جميعًا..
ثم دفع المقعد الشاغر القريب بقدمه دون أن ينتبه وصرخ ثانية في هياج:
_لقد رحلت معِكِ من بيته على وعد بعدم الالتقاء به مرة ثانية، رحلت كطفل بالروضة تصطحبه أمه بكل مكان خشية أن يفقد طريقه لأنه لم يُفطَم بعد، رحلت مُمسكًا بيديكِ وكأنني أخرق، معتوه، فاقد الأهلية لا أستطيع عبور الطريق بمفردي، وكأنني لست رجلًا في الثلاثين يرأس عشرات العمال والموظفين!
تَسَمَّر الجميع بمقاعدهم يُحدقون في ياسر الذي _رغم اعتيادهم السخرية منه كلما ذَكر أمر شخصيته المُغايرة التي واظب على تحذيرهم منها يبدو أنه لم يكن يمزح_ وها هو يملك وجهًا آخر بالفعل..
وجه مُتألم؛
وجه صبور؛
وجه محروم؛
وجه يحمل حرجًا من اهتمام أم أمسى هوسًا خَطِرًا، وقيدًا خانقًا!
_توقفي عن إهانتي! توقفي عن إحراجي! توقفي عن تقييدي!
والصرخة الأخيرة اندلعت وقد طغى اللون الأحمر في سخط على وجهه، بينما تجمد لسانها فيما استضافت عيناها ذهولًا عارمًا!
تطلعت إليه هالة في إشفاق وأطرقت غفران برأسها أرضًا كي لا يزداد شعوره بالحرج، عقد جده كفيه على مسند عصاه ليقف مُتجهًا إليه لولا أن سارع ياسر بإعادة المقعد إلى موضعه عاملًا على عدم التقاء نظراته بأي منهم ثم تمتم بصوت خفيض.. مُتوجع:
_أنا آسف يا جدي!
وما لبث أن ألقى تحية خافتة على الجميع ليرحل بخطوات مُتثاقلة..
"ماذا فعلتِ بالضبط؟"
وجه الحاج فؤاد سؤاله إلى ابنته في اتهام صريح، فالتفتت إليه بتثاقل مماثل، تطلعت إليه في حيرة وهي لا تزال لم تستوعب ذلك الانفجار الذي وقع لتوه، ولولا أن الجميع يُشاركونها ردة الفعل ذاتها لظنت أنها تهذي.. وأن هذا ليس بياسر ابنها!
إلا أنها كادت تقفز بمقعدها حينما صاح بها والدها في غضب:
_أماني! أجيبيني! ماذا فعلتِ لياسر؟
_لم.. أفعل شيئًا يا أبي، أنا فقط عبرت عن قلقي من تلك العلاقة المريبة.
أجابته بنبرة مبحوحة فيما قلبها يختض دهشًة وقلقًا، فرفع والدها أحد حاجبيه مُعترضًا لتتابع في تردد:
_وبالمناسبة.. ابنة شقيق ذلك المعلم تشاطرني وجهة النظر ذاتها، أي أنني لست مُرتابة بلا سبب كما تنعتني.
أدار رأسه إلى اتجاه آخر يزفر في ضيق، ثم عاد ينظر إليها هاتفًا في نزق:
_لا حول ولا قوة إلا بالله! أتستكثرين على ابنكِ أن يعوضه أحد غياب والده؟!
ألجمت الصدمة لسانها لترفرف بأهدابها لِثوانِ قبل أن تُعلق في استنكار:
_ماذا تقول يا أبي؟! أي والد هذا الذي..
ابتسم والدها في سخرية رافقت قوله:
_هل ظننتِ حقًّا أنه يبحث بذلك المُعلم عن صديق وحسب؟! ألم تنتبهي إلى حاجته إلى أب فقده قبل أن يعي أهميته؟!
شحب وجهها، تسارعت دقات قلبها وشرعت تهز رأسها رفضًا بينما هناك بداخلها ما يوافق تلك النظرية التي لم تَرِد على ذهنها مُطلقًا!
لقد اعتقدت لوقت طويل أن ولدها مرئيًا تمامًا لها..
لو اجتاحه الغضب.. ستعرف؛
لو انتابه الفرح.. ستراه؛
ولو وقع أسيرًا لحاجة بعينها.. ستكون أول من يشعر، وأسرع من يسدها!
لم يخبرها قبلًا عن حاجته إلى أب، لم يعبر عن اشتياقه أو افتقاده لمن يقوم بهذا الدور، فكيف يتحدث والدها الآن بهذه الثقة عن.. ابنها هي؟!
_لكنك دومًا حاضر من أجله يا أبي، جلال أيضًا كان..
قالتها في تردد، في اهتزاز، والاقتناع ولَّى ظهره لكلماتها ورحل، ليقاطعها والدها في استسلام:
_أنا شيخ يا أماني، شيخ فقد فرصته في منح أحفاده المُراقبة اللازمة أثناء محاولات إصلاح ما فسد بهم، أما عن شقيقك فرحمه الله وسامحه لم يستطع احتواء بناته أنفسهن، وما خفي كان أعظم!
وعند تلك العبارة رَفَعت غفران عينيها تجاهه لتجده يرمقها في حيرة..
فرغم معرفته أخيرًا أن مقاطعتها إياه تعود لادعاء كاذب حاول به ابنه الراحل تحقيق رغبته بتزويجها من عمرو فعمد إلى توريطه هو بينما لا يدري بشأنه شيئًا، لا يزال يشعر أن هناك سرًّا آخر!
ألم يكن باستطاعته إجبارها على الاعتراف؟
ألم يكن في مقدرته أن يستدعي ابنته كي تُقر هي بالتفاصيل؟
بلى.. باستطاعته حبسهم جميعًا بهذا البيت في إقامة جبرية حتى تتدلى الحقيقة من أفواههم رغمًا عنهم..
باستطاعته مواجهتهم ببعض ليكتفي هو بالمشاهدة فتُقَدَّم الخفايا له دون أدنى مجهود؛
لماذا لم يفعل إذن؟!
لأنه يدرك نظرتهم تجاهه، مهما حاول نصحهم والتدخل لحل مشكلاتهم سيُظهرون رغبتهم بالحرية التي ربما لا يفهمها عقل عجوز مثله، وإعتراضهم على قيود يحاول شدهم إليه عن طريقها!
_ابنكِ في الحادية والثلاثين من عمره يا أماني، لم يُغضبكِ يومًا أو يزره العقوق تجاه أي مِنَّا، ما يُجبره على طاعتكِ هو احترامه إياكِ وحسن تربيته، لا أرى أن من الصواب تكدير حياة ولد صالح مثله.
ثم أضاف في همَّ:
_إن كنتِ تخشين أنه قد يسلك طرق ابنيّ شقيقتكِ فاطمئني! لن يفعل، لم يعد طفلًا، بات رجلًا خلوقًا يستطيع التفرقة بين الحلال والحرام، دعيه وشأنه!
شهقة خافتة ندت عنها أثبتت صحة تخمينه، وأكدت لها أنه قد وضع يده على موطن خوفها..
فقد سكنها الحذر منذ صار صبيًا يحاول إنشاء علاقة مُتقاربة مع ابني خالته، وهو أمر طبيعي شجعته طويلًا حتى بدأت تلاحظ طباعهما التي تُنبئ عن مستقبل ليس بمُبشر على الإطلاق فما كان منها إلا أن جذبته بعيدًا عنهما.. ثم عن أي آخرين!
لكنها.. لم تستطع أن تتوقف؛
إلى الآن لم تستطع أن تتوقف؛
لا تزال تراه ذلك الصبي الصغير طيب النفس نقي السريرة والذي يسهل إغواؤه إلى فوهة لو سقط بقرارها لن يعود منها يومًا!
_لا تهاتفيه الآن! وحينما يعود سأتحدث أنا معه.
قالها والدها مُنهيًا حواره مُحدقًا في ابنته الصغرى التي عشش الذنب على محياها، ذنب فاض منه أيضًا وهو يُلقي بنظرة أخيرة على غفران.. ثم رحل داعيًا بطلب العون.
**********

في حنق ألقت هاتفها على الطاولة المرتفعة التي تجلس خلفها بعد أن ألغى شقيقها الاتصال للمرة الثانية.
هو مَن كان في العادة يتجاهل أي عمل يقوم به كي يُلبي نداءها؛
هي مَن كانت دومًا بمُقدمة اهتماماته، وعلى رأس أولوياته؛
الآن صار يتجاهلها!
ربما تمادت قليلا حينما كادت تتسبب في إفشال الزواج، لكنها إلى الآن لا تصدق أنه يأخذ الأمر هذه المرة على محمل الجد..
من أجلها!
ربما سهام على حق، هذا التغيُّر بنفس شقيقها بالطبع من أجل العروس!
أبهذه السرعة ثبتت قواعدها بعالمه وخلخلت خاصتها هي؟!
تأففت ثانية في ضيق مع إدراكها تهديد غير مُعلن وبوقت قياسي من امرأة على صلة بعدوها..
عدوها الذي اقتحم المحل باليوم التالي للزفاف ليُهددها أمام الجميع بأنها لو تبادلت كلمة واحدة مع زوجته سينزع لسانها من حلقها ليُلقيه "كوجبة تسد الشهية" لكلاب الحي الضالَّة!
حسنًا! يبدو أنها قد استطاعت تسجيل نقطة تفوق بشأن أخت العروس رغم أنها لم تتعمد إسماعها كلماتها، فالصدمة التي رأتها مُنطبعة على وجهها حينما استدارت لتجدها تقف خلفها نبأتها بأنها قد اختارت تقديم المعلومات بطريقة لائقة هذه المرة عِوضًا عن الفشل السابق!
"كيف حالكِ يا علا؟"
التفتت إلى زوج صديقتها الذي صار يُلاحقها هذه الآونة بطريقة ملحوظة، حتى إن لم يستطع زيارتها بالمحل لا يعوقه شيء عن اتصاله بها يوميًا!
_بخير يا "معلم هاشم" هل أتيت وحدك؟ أم أن سهام ستلحق بك؟
سألته في تهكم فجلس قبالتها بعد أن طلب كوبًا من العصير، ورفع إحدى كفيه ليقول بنبرة حانقة:
_لا تَذكُريها! لقد باتت شديدة الإزعاج، نَكِدة، البيت كله صار لا يبعث على الراحة، تصوري أنني أعود كل ليلة مُتعبًا فأجد شجارات لا تنتهي في انتظاري!
كتفت ساعديها وتطلعت إليه في صمت بنظرة من تعلم تمام العلم إلى أين يرغب أن يتجه بحديثه.. واتجه:
_لا طعام مُرضي، لا جو منزلي هادئ، ولا زوجة تبادر لإسعاد زوجها!
وضع العامل الكوب على الطاولة فشربه دفعة واحدة، ليتابع تبرمه تحت عينيها المتسليتين:
_كيف عليّ أن أتحمل هذا النوع من الحياة المزعجة؟!
ولما بدا لها أنه ينتظر تعقيبها سألته في تمهل:
_ولماذا تخبرني أنا يا معلم هاشم؟ أتريدني أن أنصحها لأجلك؟
ازداد عبوس حاجبيه وسارع بنهيها:
_لا! لا تفعلي! لن تكون هناك نتيجًة على أي حال!
وعندما لم تحاول إظهار اهتمامها تابع مُعبرًا بنظرات صريحة عن نية لم يعد يبذل جهدًا لإخفائها:
_ربما سأجد حلًّا آخر، بطريقة.. أخرى.
رغبته كانت لها مقروءة، مفضوحة، ساطعة حتى كادت تعميها؛
وللحق كانت ليلاحظها الجميع، لولا أن ظل هناك ضمانًا أخلاقيًا بألا تتشارك الصديقتان الرجل نفسه..
_أوشكت عدتكِ على الانتهاء، أليس كذلك؟!
سألها دون مواراة، سألها تقريريًّا بلا بحث عن إجابة حقيقية، إجابة لديه بالفعل!
_وكيف تعرف؟
وسألته في إمعان، حدقت فيه بتدقيق، فرد مُبتسمًا:
_لقد حضرت جنازة همام بنفسي، أنسيت؟!
بادلته ابتسامته بواحدة تفوقها اتساعًا، وأطلقت ضحكة قصيرة لكنها كانت أكثر من كافية كي يسيل لعابه على امرأة جميلة للغاية وذكية حد الخطورة أصبح أقرب إليها من ذي قبل!
_وهل تحتفظ في ذاكرتك بتواريخ وفاة كل من تحضر جنازتهم؟!
_بالطبع لا!
نفى في حزم، وأردف مُختصرًا في حسم:
_علا! أنتِ تفهمين ما أَوَد قوله، أنا أرغب بالزواج ثانية.
تعجبها هذه الحال؛
تُذَكرها بملاحقة همام إياها بكل خطواتها أثناء تكراره وعوده التي لم يفي منها بالكثير؛
وتُذَكِّرها بيوم بعيد حين كانت بنهاية عِقدها الثاني وحسب فلهث خلفها صاحب محل كانت تعمل به قبل أن يدير ظهره لها ما إن علم أنها تتولى مسؤولية شقيقها الوحيد؛
بكل الأحوال تُعلِّي من قدر أنوثتها وتحط من قيمة ذكائها!
أستُكرر الخطأ ذاته؟
_وما شأني أنا؟
سألته تدفعه إلى صراحة نُطْقَها.. فَنَطَقَها:
_أريد أن أتزوجكِ يا علا!
**********
تحت وجنتها وضعت إحدى كفيها وتربعت على الفراش مُتدثرة بسترته ولا تبذل جهدًا للملمة ابتسامتها..
عجبًا! كيف ينام بهذا العمق دون أن يُصدر صوتًا كما تفعل هي حينما يشتد بها التعب؟!
سؤال غريب دار في عقلها وهي تتطلع إليه بعدما تخلى عن واجهته الجافَّة، وعاد الشاب البسيط الشهم ذاته الذي التقت به منذ ما يزيد عن السنوات الثمانية..
أغمضت عينيها وزفرت في حرارة تستعيد اعترافه الذي لم يقله صراحًة ليلة الأمس، إلا أنها قرأته، بعينيه رأته، وبالقرب من أضلعه على استحياء آنسته؛
اعتراف بحب مُخلص توصلت إليه بأكثر الطرق روعة فضرب عقلها كالصاعقة، واحتل قلبها كموجة عاتية استسلمت لها كُليًّا فرفعتها على سطحها في حنان.. لا يُقَدَّر بثمن!
أخذت ترتب مشاهد ماضية جمعت بينهما على ضوء الاكتشاف الجديد فتحامل عليها الضيق من تأخر فهمها، مع زهو أنثوي لإدراك قيمتها لديه، ومع بعض الندم لأنها وضعت نفسها في مكانة مُتدنية ووضعته هو بأخرى مرتفعة فلم تتمكن من رؤية حقيقة مشاعره..
نصحها جدها كثيرًا بأن تستسلم، بأن تتوقف عن الاقتناع بما دسته بنفسها في عقلها، يبدو أنه كان يرى ما لا ترى، ويفهم ما عصى عليها، ويبدو أنها _دون إرادة_ آلمت.. زوجها!
زوجها؛ ناهل هو زوجها؛
يُحبها كما لم يفعل أحدهم؛
أخلص لها رغم عدم إلزامه!
يخصها؛ هو يخصها؛
يخصها وحدها ولن يستطيع أحد سلبها إياه!
اتسعت ابتسامتها وامتدت أناملها في بطء تتلمس لحيته، وانعقد حاجباها فيما طرأت ذكرى بعيدة على فِكرها..
منذ أربعة سنوات ونصف:
"أهناك خطب ما في القائمة؟!"
انتهى من مُطابقة الطلبية فور أن تم تحميلها على سيارة النقل الضخمة، ثم استدار لها ليسألها حينما لاحظ استراقها النظر له فأشارت إلى وجهه وأجابته:
_هناك دماءً مُتجلطة على ذقنك.
تحسس موضعًا معينًا أسفل فمه ثم قال بلا اكتراث:
_نعم، شردت أثناء حلاقتها صباحًا.
ترددت قليلًا ثم أطبقت شفتيها في قوة، إلا أنها سرعان ما قالت في تهور شابه اهتمام جليّ:
_لماذا تحلقها بالأصل؟ فلتدعها كما هي! ربما تليق بك اللحية الكثيفة أكثر.
اتسعت عيناه في تعجب ثم هتف بها مُستنكرًا:
_وما شأنكِ يا إيلاف؟! إنها ذقني أنا وأنا من سأحدد طول لحيـ..
لكنه سكت فجأة ليسألها في ترقب بنبرة أكثر انخفاضًا:
_هل ترين أن اللحية الكثيفة أفضل؟!
في بساطة أومأت برأسها إيجابًا فظل يُحدق بها ببلاهة، وضع يده على ذقنه التي شعر للتو بعريها وقال في ارتباك نادرًا ما تعرض له:
_أنا.. كنت معتادًا على إطالتها بالفعل، لكنني رغبت بالتغيير.
مطت شفتيها بلا معنى فتابع في حماقة:
_ ألا تظنين أنها ستمنحني مظهرًا جافًّا؟!
_أنت جاف دونها يا ناهل، لكنني أعتقد أنها ستجعلك أكثر وقارًا بحيث تخفي طباعك النزقة!
لاحت ابتسامة شاردة على شفتيه بينما انهمكت هي في مراجعة القائمة التي تتمسك بها..
ومنذ ذلك اليوم ودع الذقن الحليقة إلى الأبد.. حتى دلف إلى السجن!
تغلغلت أصابعها حتى مَسَّت عظام ذقنه في حنين، لكن باللحظة التالية قبضت يده على كفها فأطلقت شهقة مذعورة قبل أن يجذبها إلى أحضانه ضاحكًا..
"حدث ما كنت أخافه وضبطتكِ بالفعل تتحرشين بي أثناء نومي!"
قالها مازحًا، فدفعته في رقة بصدره ثم ردت:
_لم أفعل شيئًا، كنت أربت عليك فقط.
رفع رأسها قليلًا وأخذت عيناه تطوف على ملامحها، في خفوت سألها بمكر وابتسامة صافية تحتل محياه:
_أتعنين أنكِ لم تكوني مسحورة بلحيتي؟
استندت بكفيها على صدره وسألته بنبرة مراوغة:
_أتعني أنك أطلقتها من أجلي؟
أفلتت منه ضحكة ليرد في اهتمام:
_لو أجبتكِ بـ"لا" أستصدقين؟
هزت رأسها نفيًا فقال في استسلام:
_لن أفعل إذن.
تطلعت به في صمت والأسئلة تتلاحم بعقلها، وفي بطء تراجعت حتى جلست باعتدال أمامه، تدريجيًا رحل تعبيره المُستمتع وحلَّ التوجس وهو يرى لمحة من.. اتهام!
_لماذا لم تخبرني قبلًا؟
سألته في لوم، وفي حيرة، تنهد طويلًا وقد فطن إلى أنها لن تقبل بتجاهل ما كان دون علمها قبل أن تُلِم به كاملًا..
اعتدل ليتربع مثلها، وفي رفق إلى الآن لم تستوعب بعد استطاعته الإتيان به أمسك بكفيها ليقربها منه، وبالمثل احتوتها عيناه ليُجيبها في أسف:
_لم أجد وقتًا مناسبًا.
عوجت شفتيها تهكمًا وعلَّقت:
_لقد ظللت معك لخمس سنوات قبل رحيلك عن المصنع، ألم تجد خلالها أي وقت مناسب يا ناهل؟! لكنا وفرنا الكثير من الوقت.. والخيبات!
ثم أردفت في أسى:
_لو كنت انتظرت قرنًا لم أكن لأطمح بأن تحب امرأة مثلي.. امرأة ظل!
_أي ظل هذا الذي يُنير عالمي بأكمله؟!
قالها في خفوت فتراقص قلبها احتفاءً، لكنه أطرق برأسه لِثوانِ مُترددًا، ثم قال:
_أتظنين أنني قد أخون الأمانة؟! ما إن اتخذت قراري حتى اتبعت الطريق الشرعي المعروف، لكن لم يكن الوقت مُوافقًا للقدر..
لقد استنتجت هذه المعلومة منذ ساعات حينما صارحها بأن ابن عمتها لم يكن أول من تقدم للزواج منها، ازدردت لعابها تتأرجح بين رغبتها في الحقيقة كلها وخوفها من غضبه، لكنها بآخر المطاف سألته في حذر:
_هل.. هل خبرت هاني؟
أمعن النظر بها مليًّا بملامح واجمة، ثم في جمود أجابها:
_خبرته قبل والدكِ، كان صديقي، من الطبيعي أن يعرف هو أولًا.
في ذهول حدَّقت به، وتلقائيًا ضمت السترة إلى جذعها أكثر وقد أصابت برودة ما جسدها، تتخيله بصراحته المعهودة يطلبها من صديقه فيطعنه الأخير في ظهره بكل خبث!
لقد ظنت أنها كانت أداة انتقام بين صديقين استحالا إلى أعداء دون سبب؛
والآن يحق لها تهنئة ذكائها، فقد ثبت صدق ظنها وليست هي إلا وسيلة لها استخدام واحد.. قاتل؛
إلا أن تغييرًا طفيفًا قد طرأ على ذلك الظن؛
فالخائن كان هناك منذ البداية، لم يتغير، لم يتحول، إنما نشب أنيابه الحادَّة في الصديق ثم خبأها إلى أن حان دور تمزيقها هي بعدئٍذ!
_ولماذا لم تتحدث معي أيضًا؟
سألته في صوت متحشرج يتمنى البكاء، فرد بنبرة كانت _لدهشتها_ عليها مُشفقة:
_كنت سأخبركِ ما إن أحصل على موافقة والدكِ.
أشاحت بعينيها المغرورقتين بعيدًا، لكنه أضاف بابتسامة حاول من خالها موارة جراحه:
_كما أنني فوجئت بخطبتكما، وكنت أملك قدرًا كافيًا من الذكاء كي أُخمن أنكِ كنتِ تنتظرين طلبه، أي أنكِ كنتِ واقعة في غرامه حينذاك، كيف كنت سأجرؤ على هدم كل آمالكِ؟
_لقد عوقبت على إيلام قلبك يا ناهل.
قالتها وهي تنظر له في ندم، وفي خجل، فهز رأسه رفضًا ليقبض على كفيها في قوة ويقول:
_لا يا إيلاف! أنتِ لستِ مسؤولة عن مشاعري، ولا عن خيانة صديقي، أما عمَّا بدر منه تجاهكِ كان سيحدث عاجلًا أم آجلًا، إنها خطوات القدر التي تحين كل منها في موعدها.
نظرت له في ارتياب، ثم سألته والترقب يبعث بطنين في عقلها:
_أتعني أنك لم تكرهني مُطلقًا؟
انفرجت ملامحه ومال برأسه تجاهها، لم يرد من فوره مُتمسكًا بحقه في الغرق ببراءة عينيها، وبالرجاء الذي يطل من نظرتها إليه، ثم سبح مُجددًا مع تيار اعترافاته:
_أنا أحببتكِ منذ يوم لا أستطيع تحديده إلى الآن، واعترفت بها لنفسي حينما كنا سويًا على ضِفَّة ذلك النهر، لكن فور أن أصبحتِ تحلين لآخر أجبرت عقلي على عدم استعادة أي مما يخصكِ، وألزمت قلبي على تجاهل أية خفقة تحمل اسمكِ.
الألم الذي شاب آخر عبارته شاطرته إياه في إخلاص، إلا أنه تابع في امتنان:
_خفقات اجتمعت وعادت كلها مُكثفة، مُشتاقة، مجنونة ما إن التقى بي جدكِ وطلب مني أن أتزوجكِ.
ثم اكتسب صوته بعض الجدية ليُضيف:
_إياكِ يا إيلاف أن تظني أن هناك أية إهانة تحيق بكِ لكيفية زواجنا! أنا من ينتابني بعض الخزي ما إن أواجه نفسي بأنني لم أفكر مرتين لأتزوجكِ حينما كنت على يقين أنكِ رغم الانفصال ربما لم تتخلصي من آثار غيري بعد.
_ليتــ..
في ندم نطقت لكنها لم تستطع إتمامها حينما التصقت شفتاه بجبهتها، ازدردت كلماتها وسكنت تمامًا حتى قال هو أخيرًا:
_انتهى الأمر يا إيلاف، ولا داعِ للتحدث به ثانية، دعينا ننساه برمته وكأنه لم يكن.
_هل ستستطيع؟
سألته في رجاء، فأعاد خصلة مُشعثة من شعرها خلف أذنها يتشرب قُربها، وقال:
_طالما أنتِ معي، تستسلمين لي عن ثقة في حبي، ولا فرصة لفراقنا مرة أخرى.. سأستطيع.
أخفضت عينيها عنه في شك، لا تقوى على التعبير عمَّا يدور بداخلها؛
لطالما تمنت أن يظل أحدهم إلى جانبها، يمنحها مكانة عالية، وقيمة غالية، يُطالبها _فقط_ بها هي!
تُرى.. أسيواصل تشبثه بها؟
ألن يملها ويرحل؟
ألن يقوم بخيانتها ويشط بعيدًا؟
أسيكتفي بما تقدمه له ولن يبحث عن أخرى تمتلك ما لا تمتلكه هي؟
وهل سيجد احتياجها إليه جاذبًا؟.. أم سيضجر منها ويلهث خلف أخرى لا تعيره انتباهًا؟!
يُكبلها الشك، ويجذبها الارتياب، بينما تومض تجربتها الوحيدة بوهج يؤذي قلبها الذي لتوه وجد سعادته في التجديف مع آخر من توقعت مرافقته!
"إيلاف!"
واسمها الذي نطقه بحميمية دافئة لم تستوعبها كاملًة بعد رغم تقاربهما المختلف كُليًّا منذ الليلة الماضية انتشلها من أعماق ظنونها، فتطلعت إليه في تساؤل ليبتسم على مهل مُناقض للجدية بعينيه ويستطرد:
_ألا يُصادف أن والدتكِ قد وضعت بخزانتكِ بعض الأغراض القصيرة، الخفيفة، وربما.. الشفافة بعض الشيء؟!
توردت وجنتاها وأبعدت وجهها عنه في حياء، فأردف:
_أصدقكِ القول هذه السترة البشعة التي تُصممين على إرتدائها منذ الأمس كلما تخلصنا منها لا تناسب فيض المشاعر التي نغرق فيها الآن، خاصًة وأنا لا أعدكِ بتكرار هذا الكلام المعسول قريبًا.
نظرت له في استنكار فتابع في فخر امتزج بالعبث:
_حسنًا.. ربما أتحملها منذ الأمس لأن كل شيء حدث فجأة، لكنني الآن أرغب بالقيام بدوري كرجل لتوه أتم زواجه على أكمل وجه وقد سمع كثيرًا عن دلال الليالي الأولى!
ثم تظاهر بالأسف وأضاف:
_لا تجعليني أندم للتراجع عن دعوة جدكِ ورفقة زوج أُختكِ المُمتِعة!
كتفت ساعديها ثم ردَّت في استهجان:
_أنت لم تقل أي كلام معسول! بل كتبته واحتفظت به لنفسك لأشهر، أنا من كافحت للاستنتاج بمجهودي ما أخفيته أنت لسنوات لتتركني ضحية لأسوأ الاعتقادات بك رغم استطاعتك أن تنهيها بكلمتين فقط.
ثم أضافت في عناد:
_لِذا أنت مدين لي بقول الكثير!
أومأ برأسه في طاعة نادرة ثم قال:
_اخلعيها وسأتكلم!
هزت كتفيها رفضًا وقالت:
_لا.. أنا أحبها، دعها!
ثم أردفت بلا مبالاة رغم ملاحظتها نظرة عينيه المُعبرة عن حاجته لها:
_لدينا أعوام لتحكي لي عن كل ما أحسست به تجاهي، وكيف كنت تفكر بي، وكيف كنت تشعر تجاه النساء الأخريات، ولماذا كنت تتعامل معي وكأنني أحد العمال الذين ترأسهم بينما أنا امرأة أحلامك الوحيدة.
مع مرأى الزهو بعينيها انتابته رغبة في إغاظتها، فعلَّق في خشونة:
_لقد شردتِ بأفكاركِ بعيدًا يا امرأة! الأمر كله أنني أدركت ما أكنه نحوكِ فارتأيت الزواج بكِ، انتهينا!
كادت تبتسم واعيًة لمحاولته التهرب بعدما كشف لها عن مدى حبه لها، لكنها عقدت حاجبيها في ضيق مُصطنع وتظاهرت بالانزعاج ثم رفعت سحاب السترة بحركة حادَّة حتى ذقنها، فزفر هو مُستسلمًا ثم تحدث:
_قبل زواجنا قررت أن أمنحكِ بعض الوقت حتى تستطيعين التعامل مع حياتكِ الجديدة لهذا لم أشأ أن أفرض وجودي عليكِ بالغرفة ذاتها رغم صعوبة الأمر عليّ، كنت أستسلم للنوم بأعجوبة، أما عن شجاراتنا فأعترف أنني كنت أعمد إلى اختلاقها أحيانًا لِتمنحني راحة مؤقتة وتشتت انتباهي عن حقيقة لم أكن قد استوعبتها بعد..
رمقته في استفهام فأجابها في حنان:
_ألكِ أن تتخيلي أن الفتاة الوحيدة التي خضع لها قلبي قد عادت إليّ بعدما فقدت الأمل بها تمامًا، عادت لتصبح زوجتي أنا، وحقي أنا..
ابتسمت في انتشاء وهو لا يفهم أنه يُدغدغها بكلماته رغم بساطتها وكأنها كلمات حب خَطَّها بنبضاته على صفحة كبريائها المهدورة، وكرامتها المُتألمة، وأنوثتها التي دُعِسَت طويلًا..
لكنه.. لم يكن قد سطر الخاتمة بعد!
_لقد.. اخترت لكِ غرفة والدتي يا إيلاف.
في دهشة حدقت به بينما دفء غريب يسري دون توقف في أوردتها؛
غرفة والدته!
كانت تقيم طيلة هذه المدة في غرفة أكثر شخص يحبه؟
غرفة ذكر لها ذات مرة أنه أغلقها نهائيًا حتى لا تطأها قدما زوجة أبيه!
لماذا فعل ذلك؟
لماذا لم يأخذها لنفسه ويترك لها غرفته؟!
_تلك الغرفة أوصدتها بعد وفاتها ولم يجرؤ أحد على دخولها، منذ بدأت أفهم وأكبر ظلت هي أكثر من أحب حتى رحلت، والآن أنتِ _من بين الأحياء جميعهم_ من لا يسبقكِ إلى قلبي أحد، ولا أستبدلكِ بكنوز العالم، وأضمن لكِ أنني سأبقى على عهدي حتى النهاية..
اختفت كل الردود من لسانها، ظل عقلها حائرًا شاردًا خائبًا في العثور على تعليق بسيط، أما قلبها فقد انفلتت دقاته في فوضى لم تهتم بإعادة تنظيمها..
إلا أن عينيها تطلعت به في ذهول، في شكر، في حب كانت تكبح نفسها حتى لا تستسلم له!
_لا أضع حُمرة على وجنتيّ!
قالتها في تردد وهي تشير في ارتجاف إلى خديها الساخنين، لم يفهم قصدها ببادىء الأمر ثم ما لبث أن ابتسم وقال مُترقبًا:
_إذن يبدو أنني قد قلت ما أخجلكِ!
أومأت برأسها إيجابًا وابتسمت باتساع فرحتها الطاغية، وتدريجيًا تخلت يدها عن السترة لِتقول في خجل تكافح للتخلص منه:
_الـ..جو حار قليلًا، أليس كذلك؟!
احتدمت رغبته بنظرته أكثر وجذبها إليه فجأة دون تردد، هامسًا في انتصار:
_هذا ما لم أتوقف عن قوله ولا تسمعينني!
**********

في اليوم التالي:
في خوف مَن يقف على حافة هاوية كانت تتقدم من غرفة والدتها بعد أن ظلت طيلة الساعات الماضية تحبس نفسها بغرفتها..
تبكي؛ ترفض؛
تُرتب الأحداث وتحاول الاهتداء إلى حل يُبرئ ساحة جدها ولا يُكلل والدها بالخداع.. فلا تجد!
تسعى خلف إيجاد عُذر لتَكَتُّم والدتها عن الخفايا.. ولا تصل!
لِذا ربما عليها الاستسلام، عليها أن تُطالب بالحقيقة فقط مهما كان مدى سوئها؛
وحتى تُنظف قيح الجرح منذ البداية، عليها أن تهبط حتى قعر الجحيم بنفسها!
و.. هبطت!
منذ عشرة أعوام:
بمنتصف الليل، بمنتصف النوم، بذروة الغضب، وفي قمة الثقة!
لمسات مُستكشفة؛
تجاوزات وقحة؛
خرق حدود أُنزلت من فوق سبع سماوات!
"غفران!"
وعبق حروف اسمها يخرج من صوت هادئ خبيث مُختلطًا برائحة سُكر الشهوة!
كف تتسلل إلى جسدها، والأخرى تكتم فمها؛
تدفع بأقصى قوتها؛
تركل بقدر ما سمح لها؛
تلكم، تخمش، وتعض!
وابتعد يسب في بذاءة، ويتوعدها في بذاءة، ثم ركلة تلقاها منها وهي تقفز واقفة رغم فزعها،شرعت تستر جسدها أثناء محاولتها الهرولة، ليليها سباب متواصل مع دفعات قوية من زوجة خاله التي اقتحمت الغرفة بعد سماعها صراخ ابنتها المكتوم!
لا تعلم هي هل ظل يترنح نتيجة الدفعات أم الشراب، لكنه عاد إلى ثباته سريعًا خلال أيام على النقيض منها هي؛
إلى الآن تترنح؛
إلى الآن لا يجد الغضب بداخلها منفذًا؛
وإلى الآن لا تزال تبحث عن القصاص!
...
بعد بضع ساعات:
على مقعد بغرفتها المُظلمة تجلس منذ ساعات، يداها مُقيدتان مع قدميها بحزام قماشي طويل بينما الخرس بات ضيفها بعدما أُرهِقَت صرخاتها المكتومة أسفل اللاصق الذي يضمن عدم سماع أحد صوتها.
ورغم الإنهاك الذي جعل من تنفسها فقط مجهودًا عسيرًا فقد تحركت بعنف في المقعد حينما انفتح باب غرفتها فجأة ليتسلل الضوء الخارجي قبل الداخلي مُعلنًا عن عودة.. والدها.
تطلعت إليه في توسل واستطاعت أن تلمح رأس والدتها يشرأب خلفه بحثًا عنها وهي تبكي وتُقحم نفسها بالداخل رغمًا عن إبعاده إياها في إصرار، إلا أن والدها هتف بها أثناء إيصاده الباب:
_هالة! لا أريد سماع صوتِكِ، لو كنتِ ربيتِها على احترام رجال عائلتها لم يكن ليحدث أي من هذا!
أخفضت والدتها رأسها أرضًا فيما تقدم هو منها بثقة، في ثبات، وبلا خوف..
لكن نظراته طفقت ترتعد!
عادت عبراتها في هجوم بعد أن ظنت بنضوبها، عادت تلوم، تتألم، وتتوسل..
_إذن يا غفران! هل فكرتِ مليًّا وتعقلتِ؟
سألها في صرامة مُلازمة دومًا لحديثه معها أو مع أختيها ووالدتهم، صرامة لا تغيب إلا حينما يسترسل في الحديث مع شقيقها ذي الإحدى عشر عامًا عن التطلعات التي يحلم بها لأجله!
قالها ومد يده لينزع اللاصق دون اهتمام بالألم الذي ستصرخ به حتمًا جراء التصاق بعض خصلات شعرها المشعث به.
لكنها لم تصرخ، بينما تجاسرت والدتها على الاقتراب وفك وثاقها، ورغم ذلك فلم تتحرك لتكتفي بشحذ قوة خذلتها منذ ساعات عندما قبعت تحت وطأة انتهاك قذر انتقامًا على مبارزة كلامية بينها وبين مختل من سوء حظها أنه ابن عمتها الذي لم يعد يتوانى عن التحرش بها بنظراته في الفترة الأخيرة!
_لست مجنونة، وقراري كما هو، سأُبلغ عنه الشرطة!
بصوت باكِ مرتجف أجابت سؤاله، فما كان منه إلا أن صاح مستنكرا:
_أتريدين الزج باسم عائلة الكردي في أقسام الشرطة والمحاكم؟!
هَمَّت بمبادلته الصياح فعاجلها مُحذرًا:
_إياكِ أن تتفوهي بكلمة! الفضائح ستنالكِ وحدكِ إن فعلتِ!
واصلت دمعاتها الانبثاق، وواصل قلبها ضرباته العنيفة رغم مرور ساعات على أشد أوقاتها ذُعرًا منذ وُلدت وربما إلى أن تموت!
وتابع والدها بنبرة أقل حدة:
_كانت حماقة منه لا أكثر، هو يحبكِ ويرغب بالزواج منكِ، لقد عبر لي عن رغبته بالشهر الماضي لكنني أرجأت الأمر حتى تنهي دراستكِ الثانوية على الأقل.
_وأنا أكرهه!
تعليقها كان صارخًا، كان دليلًا على أنها لم تهتم ببقية عبارته، فضغط على أسنانه ليقول بجمود:
_لا طريقة لإصلاح الخطأ سوى واحدة بعينها.
_أنا لم أُخطئ!
والهتاف المستنكر الذي أطلقته أثناء تخبطها لم يؤثر بوالدها على الإطلاق، فتابع وكأنه لم يسمعها.. ولا يراها:
_لديكِ خياران لا ثالث لهما.. لتتزوجي منه! أو لتخرسي عن ذِكر ما حدث للأبد!
_بل هناك ثالثًا.. سأخبر جدي وسيدعمني هو!
نطقت بها في تهديد، في وعيد، في تأكيد على أنها لا تنتظر منه مُساندة ما دام جدها لا يزال على قيد الحياة.
_لقد عَلِم بالفعل يا غفران!
في تمهل جاءها رده فابتسمت بظفر رغم الآلام التي تحيق بجسدها وروحها..
ظفر انتشله منها بعبارته التالية.. الحاسمة:
_جدكِ هو من أصدر الأمر، ستتزوجان!
توقفت أهدابها عن الرفرفة، وصدرها عن التنفس؛
توقف الفهم عن زيارة عقلها، بالضبط كما عالمها عن الدوران؛
جدها..!
حبيبها؛
مُدَلِّلها وحصن أمانها؛
مُربيها، مُعلمها، والدها، ووالدتها؛
هو بقاموسها يرادف الجميع!
فكيف يرمم انتهاكها بانتهاك آخر، أكثر قسوة وأطول عمرًا؟!
_جدكِ يأمركِ بألا تفضحيننا، يأمركِ بأن تقبلي بالزواج من ابن عمتكِ، يأمركِ بألا تُلطخي سُمعتنا!
جدها الذي طالبته بالأمس في الهاتف أن يبتاع لصديقتها هدية بعدما ينتهي من أداء فريضة الحج، فوعدها بأنه سيفعل ثم خبرها بأنه سيدعو ربه أمام الكعبة بأن تتقارب مع أختها الكبرى..
_جدي.. لن يفعل بي هذا!
رددتها بنبرة متقطعة، نبرة تحاول التشبث ببقايا ثقة وتبغي الصمود أمام حقيقة خذلان يقدمونه لها الآن في كأس ملوثة..
وما عليها إلا أن تتجرعه صاغرة!
_أتوقعتِ أن تدليله الزائد سيستمر وأنتِ تتبجحين وتُهددين الجميع بلا رادع؟!
والرشفة الأولى المُرَّة زعزعتها، أخافتها، أوجعتها، لكنها بعناد مُراهقة أخذت تهز رأسها رفضًا، فأردف والدها يُجبرها على ابتلاع المزيد:
_جدكِ رجل فلاح ذو أصل طيب شريف طاهر، ولن يسمح لأيٍ كان أن يحط من هامته، حتى أنتِ!
شهقات بكاء والدتها جذبت انتباهها لتجدها تختلس له نظرات كراهية صارخة للمرة الأولى!
_توقفي عن أنانيتكِ يا غفران! وانظري لشقيقتكِ! ستسلبينها أملها بهاني إن تماديتِ في تمردكِ!
وعبارته بقسوتها أعادتها إليه، أعادتها بعد أن سرقتها بغتة من قبر المجني عليها لتلقي بها في قفص اتهام أفلت منه المجرم تحت رعاية.. حاميها!
تطلعت إليه في دهشة، وفي أسف، ثم تمتمت بخفوت:
_أنا لا أتمرد، أنا أريد حقي وحسب، أي عدل هذا؟! جدي سيُزوج المُعتدي من المجني عليها؟!
_سيفعل لأجل الجميع، إيلاف.. ما ذنبها؟ أمكِ، لين ولؤي، وأنا ما هي ذنوبنا ؟ وجدكِ.. ما ذنبه كي تورثيه عارًا بعد أن حافظ على سمعتنا بين الجميع منذ الصغر؟!
يغلِق عليها القفص، تضيق عليها الأصفاد، دلفت محكمة تطالب بالقصاص فإذا بهم يحتجزونها بعدما طالبوا بتوقيع عقوبة الإعدام عليها وحدها..
وإن شَدوا عصابة حول عينيها تستطيع رؤية الجاني يبتسم لها شامتًا من مكانٍ ما!
وإذا وضعوا كفوفهم فوق أذنيها يتسلل صوته الكريه إلى عقلها هامسًا بصيحات انتصار!
ولو كان بعيدًا عنها بأميال، قصيًّا ووصوله إليها مُحال، لماذا لا يزال جُرم لمساته لها مُلازمًا كالأغلال؟!
_أنا لست.. مخطئة.
همست بها في ضعف، كررتها في خوف، رددتها في شعور بالوحدة بدأ يزحف إليها لا يراه أحدهما لكنه لها ساطع كشعاع ناري اندلع من قلب الدُجى!
_أنتِ من تحديتِه!
قالها ساخطًا يلُقي عليها باللوم بعدما تطوعت شقيقته لتخبره عن شجار يومي نشب بين ابنته وابنها بالأمس، أقنعته أن فعلته لها مبرر وينبغي التماس الأعذار!
_هو من بادر يا أبي!
وكحائط رخامي صلد هو كما كان دومًا؛
حائط قاسي، مؤلم، تسري منه البرودة لا سواها، فلا يوفر أمانًا ولا يُرجى منه ظِلًّا!
انتقلت عيناها في ذهول إلى والدتها التي لم تتوقف عن البكاء، وبلا تصديق همست بسؤالها فخرج بنبرة طغى التقرير فيها على الاستفهام الحقيقي:
_إذن أنتِ أيضًا توافقينه يا أمي؟ وجدي.. جدي أيضًا تخلى عني؟!
رفعت هالة رأسها لترد لولا أن سارع زوجها بإخراسها بإشارة من كفه ونظرة قاتلة من عينيه، ليُجيب بدلًا عنها:
_جدكِ أقسم أنه لو سمع منكِ كلمة واحدة بهذا الشأن سيعقد قرانكِ على عمرو دون تردد!
كيف؟!
كيف؟!
كيف به أن يأتي بأكثر الأفعال جورًا وهو يقصد أطهر بقاع الأرض بهذا الوقت؟!
كيف سيرفع كفيه ليدعو ربه راجيًا وهو يُكممها بها ظالمًا؟!
_ماذا قررتِ؟
ومرة أخرى انتزعها في قسوة مُؤكدًا على أنه لن يسمح لها بالاستغراق في استيعاب مصابها أكثر..
تَطَلَّعت إليه بعينين جَفَّت دموعها، رَفَعَت تجاهه وجهًا تشققت بشرته، ثم تَصَدَّت له بصوت استعاد صرامته..:
_دعني أصفعه!
نطقتها حاسمة، مصممة؛
نطقتها بنبرة متوعدة؛
ونطقتها بنظرة تطالب بأقل قدر من الانتقام!
_ماذا تقولين؟
سألها دَهِشًا فأجابته بلا تردد:
_أحضر ابن شقيقتك الذي قمتم بتهريبه إلى هنا! أحضره أمامي في الحال! ذليلًا هَلِعًا مُتوسلًا، أحضره أسفل قدمي ودعني أصفعه!
ولما توقعت مزيدًا من الاستفهام لاقت الاستهانة!
التفت جلال إلى زوجته ليهتف ضاحكًا في سخرية وهو يشير إليها هي:
_لقد جُنت ابنتكِ تمامًا يا هالة، أرأيتِ نتيجة تدليلكِ وأبي إياها؟ تظن بنفسها مُقاتلة ما لتصفع شابًّا يفوقها قوة!
لا!
ليس إلى هذا الحد!
ليتركوا لها أية ردة فعل تحفظ عن طريقها ماء وجهها وتصون لها كرامتها!
لا!
لن يدعسوها أكثر، لن يدفنوها حية، لن يجبروها على تناول الهوان حتى آخر رشفة!
استقامت تتحامل على أوجاع جسدها فاكتشفت أن ساقيها تؤلمانها، ذراعيها أيضًا متشنجتان لا بسبب إيثاقها بالحزام..
بل بسبب ضربها به!
وإن كانت كل هذه الآلام تُمطر جسدها رغم حماية ملابسها .. فكيف هو حال وجهها الذي تلقى منذ ساعات صفعات لم تحسبها لأنها لم تعيها إلا بعدما نجحت والدتها في إبعاد والدها عنها.. والسبب هو إعرابها عن إصرارها على الذهاب إلى قسم الشرطة؟!
استقامت واتجهت إليه، مُتغاضية للحظات عن قسوته، عن إهانته، عن ظلمه وتجبره..
بحثت بملامحه عن آثار حنو أب فلم تجد، لكنها واصلت مسعاها لتنطق في توسل بينما دمعاتها تندفع ثانية:
_صفعة واحدة فقط.. لا أريد سواها يا أبي، أرجوك ألا تحرمني منها! سأصفعه وحسب وسيرحل عن البيت ولن أطلب شيئًا آخر.
اقترب منها مُحدقًا فيها بلا تأثر لانفعالاتها، ثم انسابت كلماته على سمعها كوخزات تنفذ حتى صميم روحها:
_لن تحتكي به! ولن يرحل عن البيت! فتوقفي عن هذا الخبال وخبريني عن قراركِ الآن! إما تنفيذ أمر جدكِ والزواج.. أو الخرس!
لن يرحل عن البيت..!
عمرو.. لن يرحل عن البيت!
المعتدي سيعيش طيلة الوقت معها وكأنه لم يتجرأ على حرمتها!
القذر ستبقى نظراته الدنسة تلاحقها هنا وهناك!
كيف ستقضي أيامها؟!
كيف سيجد شعور الأمان طريقه إليها؟!
كيف ستنام ليلًا؟!.. كيف ستعيش يومًا؟!
وهذا الوجع الذي يعتصرها اعتصارًا.. كيف سيلقى وسيلة للشفاء؟!
لماذا لا يقتلونها وحسب؟!
لماذا لا يطردونها هي؟!
إجابات لا تعرفها، والآن لا تهتم بأن تعرفها!
تراجعت إلى الخلف تتنقل نظراتها بينهما، ولما كانت والدتها تتهرب منها في إصرار كان هو يحملق بها مُنتظرًا.. وبابتسامة ساخرة متألمة جابهته:
_أوتركتم لي حق اتخاذ القرار؟!
تحفزه كان جليًّا فلم تتردد لتتابع بحقد لم تعرف قبلًا أنها قد تشعر به تجاه أي كان:
_أُفضل الموت على أن أصبح زوجته، بل سأعمد إلى قتله قبل أن أقتل نفسي لو حاول الاقتراب مني!
واتسعت الابتسامة، ورفعت كفها المتألمة تمنعها من الارتجاف في قوة ثم أردفت ببغض سال كفيضان كاسح بعد أن نال الجدب من مآقيها:
_خَبِّر والدك أنني أطيعه! خَبِّره أنني لن أفضح حفيده! خبره أن غفران بدءًا من هذه الليلة صماء، بكماء، عمياء، لن تسمع أحدًا ولا يوجهن أحدكم حديثه إليها ولا ترغب برؤية أي ممن تعاونوا على سلبها حقها!
كاد أن يتنفس الصعداء لكنها استطردت في استهزاء نشأ لتوه على ملامحها الجميلة التي بدأت تعبر عن فتنة ستتضاعف خلال بضع سنوات لا أكثر:
_وانصحه بأن يتمعن أكثر في الآيات التي يُرتلها كل ليلة! وأن يبحث مليًّا في معاني الظلم وعواقبه!
ثم اختتمت في بطء وتوعد، وبنظرة اكتسبت شراسة دفعها بأوردتها كبت سيغدو لها رفيقًا وصاحبًا من الآن فصاعدًا:
_أنا لم أعد أريدكم، لم أعد بحاجة لأحد منكم، فلتتناوبوا على حماية لين! ولتُمهدوا الطريق لتزويج إيلاف بمن تحب! ولتتركوا غفران الملعونة تحترق بالنيران فتغضون أبصاركم عنها! وأقسم لك يا أبي لو وجدت وسيلة لأتخلص إلى الأبد من اسم الكردي الذي تخشون أن أُلطخه أنا فلن أتردد، بالضبط كما سارعت أنت بالتخلي عن حق ابنتك من أجل ابن شقيقتك!
ظل واقفًا بمواجهتها بنظراته المرهبة، إلا أنها للمرة الأولى لم تُرهبها!
ولولا تلك الطرقات السريعة على بابها لبقيا واقفين إلى ما لا نهاية..
_غفران! ماذا هناك؟
اندفعت شقيقتها إلى الغرفة فسارعت والدتها إليها تحجب النظر عنها بجسدها قائلة في توبيخ:
_ألم أقل لكِ ألا تتركي أختكِ بمُفردها يا إيلاف؟! هيا..
_لقد انخفضت حرارة لين بالفعل، ماذا بها غفران؟
بخوف ألقت إيلاف سؤالها وهي تتملص من والدتها فيما حملت ملامحها قلقًا واضحًا، وقبل أن تصل إلى شقيقتها سارع جلال بدفعها في قوة لترتد فتسقط أرضًا خارج الباب وهو يغلقه في عنف ليصرخ مُفرغًا بها توتره وغضبه:
_لا وقت لأسئلتكِ الغبية الآن، ارحلي!
بتلك اللحظة حدقت غفران في إثرها فلم ترها إيلاف شقيقتها الهادئة الضعيفة المُهمَلة من الجميع..
بل كانت إيلاف التي أحبت شقيق المجرم فكان لِزامًا عليها هي أن تُقدم حقها قُربانًا!
...
فَرَّقت أهدابها ونظمت أنفاسها وهي تتغلب على آلام تدفع بالضعف في أوردتها، طرقت باب غرفة والدتها.. وولجت.
**********

أخذ يراقب حماسها أثناء تجهيزها حقيبة يزن الصغيرة بينما يُصفق فرحًا حينما فهم أنه سيقضي اليوم مع جدته..
حماس شاطرته إياه لأنها ستلتقي بأختها أيضًا.
ابتسم وهو يدرك أنه خلال فترة قصيرة ربما استطاع الوصول إلى بنود هامة على قائمة سعادتها..
قائمة تضم يزن وأختيها وبقية أفراد عائلتها؛
وسيكون ناكرًا للحقيقة لو تظاهر بأنه لم يجد لنفسه مكانًا بها!
لو قارن بين لين التي تزوجها بفترة وجيزة، شديدة القلق والحرص وبين لين التي قابلته بلهفة واشتياق بالأمس حينما تأخر بعض الوقت في مكتبه تعويضًا لغيابه الأيام السابقة لأيقن أنه حقق نجاحًا يستحق الفخر.
اتسعت ابتسامته أكثر مع إحدى صيحات يزن الفَرِحَة، فاقترب منهما قائلًا في افتعال الضجر:
_معك كل الحق يا يزن، ستُلاقي تدليلًا من الجميع بينما سأعلق أنا بكل تأكيد مع زوج خالتك شديد اللطف منبع اللباقة!
ضحكت لين وهي تُخيره بين كنزتين صوفيتين لتقوم بكي إحداهما، فأشار إلى واحدة وتابع في سخط:
_تصوري أنني هاتفته بالأمس لأعرض عليه أن نذهب معًا فنهرني لأنني أتصل به في الثامنة مساءً وخبرني أنه يفضل التعلق بمؤخرة حافلة نقل جماعي على أن يبدأ اليوم بصحبتي!
ارتفع حاجباها في تعجب فأضاف مُتبرمًا:
_وكأنني سأُقدِم على الانتحار لو حرمني من صُحبته المُسلية لساعة واحدة خلال الطريق!
وقبل أن تُعلق أشاح بإحدى كفيه ليردف مُستنكرًا:
_ثم متى يكون وقت فراغ فخامته حتى أستطيع الاتصال به دون إزعاجه؟ أليس من المفترض أنه بالمحل بذاك الوقت؟!
تلاحقت قهقهاتها لثوانِ وهي تدرك صواب اعتراضه، لكنها سرعان ما ردت في بساطة:
_خبرتني عمتي أنهما لن يأتيا بالأصل،كما أن إيلاف تقول أنه بات شديد الحرص والجفاء مع الجميع، لذا أظنه لا يتعامل بهذه الطريقة إلا معك أنت لأنه يحبك بالفعل!
مط شفتيه ورمقها في استخفاف، ثم تمتم في تهكم:
_حقًّا؟! أهكذا يعبر عن حبه للآخرين؟! هذا يدفع بي إلى تأمل ما ستُعانيه أختكِ إذا انجرف بشعوره معها قليلًا!
عادت ضحكاتها أكثر ارتفاعًا وأشد صفاءً حتى شاركها بها يزن تلقائيًا، ولم يبترها إلا رنين الجرس..
نظر هارون إلى يزن ليقول ساخرًا وهو ينطلق إلى الباب:
_ربما بَدَّل زوج خالتك رأيه للأسف!
ولما أجاب الطارق وجدها امرأة لم يتعرفها إطلاقًا، وبدا أنها فوجئت به حيث توترت لوهلة قبل أن تسأله:
_هل.. لين موجودة؟
وقبل أن يجيبها كانت لين بنفسها تقف خلفه، شاحبة الوجه فيما تحاول بكل قوتها أن تخبئ يزن خلف ظهرها، إلا أنها اضطرت للتماسك لتنطق بنبرة عبث بها الخوف:
_تفضلي بالدخول!
تقدمت إلى الداخل، ورغم أنها لم توجه له أو لها حديثًا فقد استشعر هارون قلقًا تجاهها:
_من هذه؟
سألها في توجس فأجابته وعيناها تُشيعان المرأة أنيقة الثياب هادئة الملامح.. جامدة القلب باردة الطباع:
_إنها.. إنها جدة يزن!
...
على مرجل مشتعل كانت تجلس، بينما ثلوج قاسية تجري بأوردتها عِوضًا عن الدماء، ورغم أن طفلها يجلس على فخذيها رافضًا دعوة جدته لمصافحتها فقط فقد أحست أنها ستختطفه وتختفي!
تشبثت لين بجذع يزن أكثر أثناء انتظارها مُبادرة حماتها السابقة للحديث الذي جاءتها لأجله، بينما يصل إلى سمعها صوت الخطوات المُتوترة لزوجها خارج غرفة الاستقبال.
_مُبارك زواجك يا لين، لماذا لم تُبلغينا؟
وحينما افتتحت الحوار أخيرًا بنبرة مُتحفزة تطلعت إليها لين في صلابة لتسألها باقتضاب:
_ولماذا عليّ أن أفعل؟!
عقدت المرأة حاجبيها رغم أن العبوس بقى مُلاصقًا لها منذ وصولها، ثم ردت بنبرة مُترفعة اعتادت عليها لين لِثلاثة أعوام:
_ألا تظنين أن من الضروري استشارتنا بأي قرار قد يؤثر بحفيدنا؟!
قديمًا كانت لين تتوتر في سهولة نتيجة هذه الصلافة التي تعبر بها عن شعورها الحقيقي تجاهها ونظرتها الدائمة إليها، ثم تضطر للسكوت حتى لا توقد مشكلات هي في غنى عنها، إلا أنها الآن لن تتقبل، ولا يُهددها أي خوف!
وهكذا هزت رأسها لتسألها في هدوء:
_ومن أنتم؟! عَمَّن تتحدثين بالضبط؟!
أمعنت والدة عماد النظر بها في تدقيق وهي تستشعر قوة جديدة كُليًّا أزاحت ذلك الخوف الذي لطالما رأته ولم تفسر دواعيه، قوة فاضت من كلماتها التالية:
_هل أرسلكِ ابنكِ الآن كي تهدديني؟ هل تظنين أن بإمكان أحدكم أن يأخذ طفلي مني؟
ارتبكت المرأة جراء ذلك الهجوم الذي لم تتوقعه من كنتها السابقة، كادت تنفي اتهامها بشأن عماد الذي لم يُظهر أية ردة فعل حينما وصلتهم معلومة بشأن زواج طليقته..
معلومة لم يستطيعوا الوصول إلى مرسلها، ورغم ذلك فها هي قد جاءت تستطلع الوضع الذي يعيش به حفيدها بعدما خبرها ابنها صراحًة أنه بالفعل يندم على زواجه ولن يُفرط في حياته الطليقة الجديدة مؤكدًا لها أن زوجته السابقة تعتني بابنهما بما فيه الكفاية كي لا يتأثر بغيابه هو!
_لم يُهددكِ أحد يا لين، لكنني أرغب بالاطمئنان على يزن.
رفعت لين حاجبيها لتقول في ذهول:
_أنا بالفعل دَهِشَة! لا أصدق!
رمقتها دون تعبير فتابعت لين تُشدد على كل كلماتها:
_ألم ينتابكِ القلق على حفيدكِ حينما قام ابنكِ بتطليق والدته في الهاتف؟! ألم تطالكِ الشفقة تجاه طفل بدأ يتعرف الوجوه لكنه لا يُبدي تعلقًا بوالده لأنه بالكاد يراه؟! ألم تشعري بضرورة التدخل حينما بادرت أنا بطلب مساعدتكِ قبل أن تتسبب غفلة ابنكِ في كارثة لا حل لها؟!
سحبت والدة عماد شهيقًا عميقًا في هدوء وبدأت بترتيب ردها، ردها الذي جاء بنبرة مُتكبرة لا تستطيع الحد منها:
_أنتِ من وجدتِ صعوبة في التأقلم على طباعه، أنتِ من كنتِ تتصيدين المشاكل، كنتِ تحاولين الاستئثار به وتغييره بغض النظر عن أسلوب حياته المُتفتح غير المتفق مع أصول عائلتكِ الريفية المُتزمتة!
والإهانة التي تعمدتها لم تتلقاها لين، فعلَّقت بلا اكتراث:
_لا أتذكر أنني قد رجوته بأن يتزوجني!
ثم ردَّتها وفيرة وهي تُضيف:
_بل أتذكر أنه توسل والدي كثيرًا حتى وافق رغم مُعارضة جدي وعدم اقتناعه بابنكِ كرجل يؤتمن على حفيدته، ولقد تأكدت بنفسي أن جدي كان على حق!
أشاحت المرأة ببصرها بعيدًا عنها لكن ضيقها كان واضحًا، فتغاضت عن إيحاء لين لتقول بجمود:
_أنا.. لم آتِ من أجل افتعال شجار يا لين.
_لماذا أتيتِ إذن؟
سألتها دون تردد، فأجابتها بكلمات مُختارة في عناية:
_أريد أن أعرف كيف يعيش حفيدي ببيت رجل غريب.
ابتسمت لين رافضة الاستسلام لذلك التحذير الذي تضج به نظراتها، ثم نطقت في هدوء:
_أولًا: هارون ليس بغريب، هارون هو زوجي حاليًا، ثانيًا: يزن يعيش حياة طبيعية لم يكن لينالها ببيت ابنكِ مهما تحملت أنا، ثالثًا: هل تُلمحين إلى عدم رضاكم عن زواجي؟!
لم تُجبها مُكتفية بتأمل الثقة التي تضاعفت على محياها كلما مَرَّت دقيقة واحدة بهذا المكان، فمالت لين تستند بكوعيها على فخذيها لتتابع في مكر مُتغاضية عن الأثر الموجع للكلمات رغم استحالة تنفيذها:
_ثم.. إذا تركته لكم، إذا جمعت أغراضه وأعطيتكِ إياها الآن لتأخذيه معكِ هل سترحبون بتربيته؟ هل سترغبون بتحمل مسؤوليته كاملة؟
ازدردت المرأة لعابها وهي تفر فرارًا من نظراتها، نظرات تؤكد لها أن هدف الزيارة قد فشل..
زيارة قامت بها كي تُساومها على طفلها في مُقابل الحقوق المادية العالقة منذ الطلاق ولم يُبادر أي من أفراد عائلتها بالتفاوض من أجلها حتى الآن!
علَّقَت حقيبتها الجلدية على ساعدها ثم وقفت لتقول بوجوم:
_ينبغي ترتيب أمر رؤية عماد لطفله، وبالطبع لن يتواصل مع أحد أفراد عائلتكِ بعد تهجم ابن عمتكِ عليه بتلك الوحشية!
استقامت لين ترد على الفور في نبرة كللتها السخرية:
_هل سألتِ ابنكِ أولا إن كان يرغب برؤيته؟!
والإجابة كانت مُزعجة دون الحاجة لقولها، فتابعت لين بابتسامة مُهذبة رغم الانتقاص الذي قصدته بحديثها:
_لو أراد أن يراه ويخشى أن يواجه رجال عائلتي حتى لا يتعاملوا معه بوحشية مرة ثانية فليتواصل مع زوجي، لكنني لا أضمن كيف سيتصرف معه أيضًا!
...
في حدة كانت تضع بعض ألعاب يزن بالحقيبة قبل أن تغلقها بقوة لا داع لها، فيما كان الغضب يُشعِل كيانها أكثر وأكثر، ورغم أن حماتها السابقة قد رحلت منذ دقائق قليلة مُحمَّلَة بالخيبة والفشل فقد عاد الخوف إليها مرة ثانية.
"لماذا حضرت تلك المرأة؟ ومن أين حصلت على عنواننا؟ وهل حاول ابنها التواصل معكِ؟"
لم تلتفت إليه رغم وعيها بغضبه المُماثل، غضب لم يُهدئه تأكده أن الزائرة جاءت بمفردها بعدما وقف طيلة الدقائق الفائتة بالشرفة يبحث عن مرافق لها، لكن لين أجابته وهي تنتقي أحد معاطفها كي تُجهزه:
_حضرت للاستطلاع، أو لإزعاجي وتذكيري بأنهم يملكون ما يجعلني ذليلة لهم طيلة عمري.
حدق هارون في ظهرها بينما هربت منه الكلمات الملائمة، فأضافت هي استكمالًا لإجابته:
_كما أن ابنها لم يتواصل معي على الإطلاق، آخر حوار دار بيننا كان هاتفيًا، تضمن إهانات لياسر لأنه قام بضربه، ثم نطق بيمين الطلاق، ومنذ ذلك الحين لم أسمع منه شيئًا.
تسللت إليه راحة عارمة وهو يستعيد ذلك الحوار الذي سمعه بنفسه بين جدها وعمتها ذلك اليوم حين علم بأنها مُطلقة، وزادت هي من تلك الراحة حينما أردفت بنبرة تدعي عدم الاكتراث وهي تُفاضل بين ثلاث أوشحة:
_وكما لاحظت بالتأكيد أن من جاءت اليوم هي والدته، أشك بأنه قد يطاله أي اهتمام ليسألها عن نتيجة زيارتها عندما تعود إليه!
أخذ الأوشحة ليُلقي بها على الفراش ثم أمسك بيديها، لم ينطق لسانه فيما كررت عيناه تلك الوعود التي أدرك للتو أهميتها بالنسبة لها..
_حينما طالبتك أن تكون والدًا ليزن لم أكن أهدف إلى كسب تعاطفك وحسب يا هارون، بل كنت أعنيها تمامًا.
نطقت في خفوت وهي ترمقه في ضعف رآه بعينيها حينما التقى بها لأول مرة، فسألها بلا أي انفعال:
_لماذا انفصلتما؟
تنهدت في حيرة وحاولت انتقاء إجابة صادقة بلا أي استرسال قد يسلبها حياتها المُستقرة الجديدة، فقالت بعد صمت ساد لثوانِ عدة:
_كنا مُختلفين، طباعنا كانت على شِقَّي نقيض.. ولم.. لم أجد في كنفه أية حماية!
_هل.. آذاكِ؟
سألها مُترددًا وقَلِقًا، فبادلته بسؤال ممعن:
_أتعني جسديًا؟
أومأ برأسه إيجابًا فهزت رأسها نفيًا، ثم استطردت في شجن يُجزم أنه أول ما جذبه إليها:
_لا! لم يفعل، لكن خوفي برفقته آلمني طويلًا، وأثار بي هلعًا لا حد له وأنا أتصور نتائج أسلوب حياته على طفلي.
شدها إليه فلم تبدِ أقل قدر من المقاومة، استند بذقنه على رأسها وجنح كلاهما إلى الصمت حتى قطعه هو بعد قليل:
_أحقًّا تريدين أن أضربه أنا أيضًا؟
ابتسمت مع إدراكها بأنه قد استمع إلى بعض حوارها مع والدة طليقها، فتبعته في مزاح أراد أن يُخفف به ذلك الهم الذي أورثته تلك الزيارة:
_هل تستطيع؟
زفر طويلًا قبل أن يُجيبها بجدية:
_لا أحبذ ذلك كثيرًا، لا أحب الشجارات إلا عند نفاد كل الحلول السلمية، لكنني أعرف واحدًا لن يتوانى عن التشبث بالفرصة قبل أن يسأل عن السبب!
رَفَعت رأسها إليه في تساؤل فأجابها مُفتعلًا الحنق:
_زوج أختكِ يستمد قوته من استفزاز الناس في الشوارع، بإمكاننا الاستفادة من طاقة العنف التي يعج بها عقله!
في خفوت ضحكت لكنه لم يُشاركها، بل تابع مُحذرًا:
_سأُكررها ثانية، لو حاول والد يزن التواصل معكِ إياكِ أن تتركي له مجالًا! خبريني وأنا سأتصرف!
اعترى عينيها تعبير متهكم ورغم ذلك فقد ردَّت في أسى:
_ثق بي! لن يحاول، حمدًا لله أنه لم يحاول لأنني لا أريد لأي من أفراد عائلتي أن يتضرر بسببي، لذا كما ترى أنا ويزن في مواجهة العالم بمفردنا تمامًا!
عبس على الفور وتراجع إلى الخلف دافعًا ذراعيها التي كانت تُطوق خصره دون أن تلحظ، ففطنت هي إلى الخطأ الذي ارتكبته لتستدرك سريعًا في أسف كطفلة تستعطف والدها:
_عُذرًا، لم نعد بمفردنا بالطبع، كنت أقصد أننا كنا بمفردنا.. "كنا"، الآن.. قطعًا لا!
رمقها بنظرة ناعسة هرب منها العتاب تدريجيًا، ثم سألها حينما انتبه إلى الهدوء السائد:
_وأين هو يزن حبيبي الذي صار أشد أناقة بعدما ارتدى ذلك البنطال الذي اخترته أنا؟
ابتسمت وعادت إلى أوشحتها تستبعد منها واحدًا، ثم ردَّت:
_إنه يشاهد ذلك الفيلم الذي..
_الذي يمتد لساعة؟!
قاطعها مُتلهفًا فأومأت برأسها إيجابًا وهي تستدير له مُتعجبة، فما كان منه إلا أن اتجه إلى باب الغرفة ليوصده في هدوء ثم عاد إليها بنظرة مُعبرة دفعتها إلى إلقاء أوشحتها بعيدًا بلا تفكير لتستقبله بابتسامة مُشتاقة تشاطره لهفته، وقال هو لائمًا:
_وتهدرين وقتنا في الثرثرة؟! تعالي لتخبريني عن مواجهتكِ العالم بمفردكِ! ألم تشعري أنكِ بالغتِ بالفعل حين اخترتِ تلك العبارة؟! لم أشأ إحراجكِ لكنك تحدثتِ وكأنكِ ستؤجحين شعلة ثورة!
أطلقت ضحكة عالية كتمها بقبلة دافئة، ثم همست في غنج:
_سنتأخر على عائلتي!
ليهمس بالمثل في نبرة من قام بالفعل بترتيب خطواته:
_سنقول لهم أن يزن هو السبب، أي أب قاسي هذا الذي يحرم طفله من مُشاهدة فيلمه المُفضل؟!
**********

"أمي! أريد أن أسألكِ سؤالا واحدًا."
بعدما ظلت تقف قبالتها في صمت دام لِما يقرب من دقيقة كاملة بادرتها، بعد أن تكالب عليها الخوف مع الألم والندم حدثتها..
لم تجد ردًّا، لم تسمع أي تعليق، حافظت والدتها على خفض رأسها أرضًا فاستعادت هيئتها بذلك اليوم الذي لا يبرح أي تفصيل به ذاكرتها!
تنحنحت تستمد قوة، مدت قامتها تتظاهر بالصلابة، ثم جاء صوتها مهزوزًا، مُتقطعًا:
_هل جدي يعلـ..
_لا! لا يعلم!
قاطعتها والدتها وكأنها كانت تنتظر هذا السؤال تحديدًا، وأضافت دون أن تطالبها بتأكيد:
_جدكِ لا يعلم بفعلة عمرو! ولم يأمر بزواجكما.
وأخيرًا رَفَعت رأسها لتلتقي عيناها بعيني ابنتها، مصدومة، مُتخشبة، وكأن المراهقة المُشاغبة التي تحولت إلى فتاة تضج بالغضب قد أُلقيت عليها تعويذة في الحال لتُحيلها إلى صنم!
وبلا رحمة.. أو كرصاصة رحمة استأنفت اعترافها:
_ما خبروكِ به لم يكن إلا اتفاقًا بين والدكِ _رحمه الله_ وعمتكِ وعمرو، هذا الأخير أكد أنه يستطيع التنبؤ بتصرفاتكِ، وبأن رغبتكِ بمعاقبة جدكِ ستهزم محاولتكِ مواجهته بعدما صدقتِ أنه قد علم بما حدث وأمر بتزويجكما.
القلب الذي يصرخ مُولولًا بالتأكيد لا يمكن أن ينتمي لأي صنم، وهذا العقل الذي أوشك على الاشتعال لن تُطفئه أنهار العالم جمعاء..
_كانت مُقامرة، لم يكن عمرو ليخسر خلالها شيئًا، لكنه كان قد يفوز إن صح تنبؤه.
اختتمت والدتها اعترافها، بنبرة آسفة، بنظرة آسفة، وبنفس تتوق للغفران فلا فرصة لها بالحصول عليه!
_وقد صح!
همست بها غفران في ذهول تتخلص من حالة التجمد التي دخلت فيها طواعية، ثم تقدمت من والدتها في بطء لم تتعمده لكنه بالطبع أفضل من رغبة جسدها بالسقوط دون انتظار..
_أكنتِ تعلمين منذ البداية؟!
سألتها هامسة بعد أن بح صوتها دون صراخ، ثم هطلت دموعها لتتابع في توسل:
_أمي! أرجوكِ أجيبيني، أو لا تُجيبيني، أو.. اكذبي! سأتظاهر بأنني أُصدق!
بعنف مسحت إحدى وجنتيها حتى تجد العبرات القادمة مهدًا ترتاح فوقه، وعادت تتمتم في هلع حتمًا لم تطلبه مع رغبتها بمعرفة الحقيقة:
_أكنتِ تعلمين بخطتهم؟
تطلعت إليها هالة تشاطرها دموعها مُضاعَفة، تطلعت إليها مُذنبة، مُخطئة، مُقرة بخرسها كعادتها حينما كان صوتها وحده لينقذ ابنتها..
_نعم يا غفران.. كنت أعلم!
ورغم أنها قد خمنت ذلك الاحتمال بالأمس، ورغم أن كل الطرق تؤدي إلى ضرورة معرفتها، فقد أفرجت عن شهقة خرجت من أعماق صدرها..
تتطلع إليها هناك حيث لا يجب أن تكون؛
هناك حيث أول شخص ينبغي أن تثق به، وآخر امرئ قد تتوقع منه أي تواطؤ!
_والدكِ هددني حينها بأنني إن تفوهت بكلمة سوف يطلقني، وسوف.. يحرمني منكم جميعًا.
لماذا لا تُثير بها هذه المعلومة أي ذهول؟َ!
ألأن قدرتها على الدهشة قد نضبت؟
أم لأنها باتت تتوقع أي تهديد من والدها بعدما دفنها بنفسه رفقة كرامتها وأمانها وتظاهر بأنه لا يراها، لا يسمعها، لا يتأثر بأنينها؟!
_لِذا.. لُذت بالصمت، لكنني تمنيت لو صرختِ أنتِ، لو نفذتِ وعيدكِ!
تعاقبت عليها الانفعالات..
تارَّة يبدو عليها عدم الاستيعاب؛
وتارَّة تصرخ بزمجرة مكتومة عندما تعي الحقيقة؛
وبالنهاية لا تملك إلا أن تتحسر، تتوسل، وتمد كفيها لتلقف الخيبة والانكسار مُجددًا بعد سنوات!
_جدي.. لا يعلم؟!
همست بلا تصديق فالتقت بالأسف بنظراتها، لتتابع بهمس أشد صدمة:
_يا إلهي! جدي لا يـــ..
ودمعات تسللت إلى فمها المفغور منعتها من التتمة، حتى تراجعت بخطوات مُتمايلة تخلت عنها كل آثار ادعائها بالقوة لِتضحك فجأة ثم تمتمت:
_هذا.. هذا أكثر قسوة من الاعتداء ذاته، هذا.. يؤلم، يؤلم من الوريد إلى الوريد!
وتوقفت لتتطلع مُباشرة بعينيها، ثم نطقت بنبرة مبحوحة:
_ذبحتموني من الوريد إلى الوريد وتركتموني أنزف لعشر سنوات، تحت رقابة أبي!
وسكتت لترفع كفيها اللتين بدأتا بالارتجاف ثم أضافت وهي تشير بهما إليها:
_تحت شهادتكِ الصامتة!
وتوقفت دموعها بلا إنذار لتردف بذهول مع إدراكها التالي:
_وتحت.. سُخرية ذلك اللعين مني!
ثم عاد الغضب تدريجيًا إلى صوتها ثانية لتقول من بين أسنانها:
_هو.. حُر بسببكم، هو يعيش سالمًا بسببكم، وأنا.. أنا حُرِمت من حب جدي وحنوه بسببكم!
تقدمت منها والدتها فقفزت إلى الخلف بلا تردد، وتكالبت على الأولى دموعها وهي تهمس:
_غفران! اسمعينـ..
_ماذا هناك؟ لا تقولي يا أمي أنكِ الآن تريدين التحدث بعد سكوتكِ لسنوات! لا تقولي أن هناك شيئًا.. أي شيء بإمكانه أن يخفف من وطأة هذه الصدمة، أو يمنح أحدكما مُبررًا!
قالتها في تهكم مُشوب بعتاب صار أشد قوة من قدرتها على التحمل، وبمزيد منه همست:
_إنه.. جدي!
وعادت لتسكت كي تجبر أنفاسها على الهدوء، ثم تابعت في حسرة:
_إنه جدي من قاطعت، من ظلمت، من رفضت دعوته لدفء كان أكثر من يوفره لي!
وتقدمت منها بنفسها، تندفع عبراتها بلا رادع ثم قالت بصوت متقطع:
_أتعلمين عدد الليالي التي فاتتني دون أسمعه يرتل القرآن؟ دون أن يضمني إلى صدره؟ دون أن يحتويني وهو يخبرني عن سخطه بسبب خصامي للين فيستمع إليّ في صبر أعده بأن أتقرب منها؟!
والإجابة..؟
لا إجابة!
وفد آخر من الدموع طل من عيني والدتها، لكنها تغاضت عنه وتابعت في قهر:
_أنا ظلمته، وأنتم ظلمتموه، ونحرتموني بخديعتكم!
ثم بقسوة عمدت إلى التسلح بها تتابعت كلماتها دون توقف:
_كيف كنتِ تشعرين وأنا أعيش مع عمرو ببيت واحد؟ ألم يؤلِمك لسانكِ الذي لم يعترف بالحقيقة؟! ألم يخزك ضميركِ وأنا أتعذب بحضوره المُهين الدائم يا أمي؟!
ثم استعاد الغضب سيطرته على انفعالاتها ليرتفع صوتها قليلًا:
_لقد ظللت ألقي باللوم عليكِ لسنوات لأنكِ لم تدعميني برغبتي في إبلاغ الشرطة عنه، الآن تخبريني أنكِ أيضًا غضضتِ الطرف عن كذبتهم؟! عن خداعي؟! عن إلقاء اللوم على جدي؟!
وتجعدت جبهتها حينما هجم الضعف عليها لتتابع بهمس بالكاد كان مسموعًا:
_أي ذنب تحملين يا أمي؟ أي ذنب ستكفرين عنه؟ وماذا فعلت أنا؟ فيم أخطأت؟ وفيم أساء لكِ جدي حتى ترضين عن ظلمه؟ أتظنين أن إنقاذكِ إياي قبل ثوانِ معدودة من إتمام مُهمته القذرة إلى نهايتها قد يشفع لكِ؟!
انفجرت والدتها في بكاء عنيف، لكنه لم يمنعها من الاستطراد بلا رحمة:
_أو.. أتظنين أن عمرو يدرسني أنا فقط؟! يحفظ طريقة تفكيري ويتوقع قراراتي أنا فقط؟! لا! إنه يتلاعب بنا جميعًا كدُمى خشبية لا تملك إلا أن تذهب حيث يلقي بها في هوان، وأنتِ يا أمي لا تختلفين عني كثيرًا ولا تـ..
أجبرت نفسها على التوقف وقد زارها ندم لمِا تفوهت به في اندفاع، كادت تربت عليها تلقائيًا لكن عوضًا عن ذلك فقد استكملت في جمود:
_لو أن احتمالًا زاره بأنكِ قد تُعارضي أمر أبي لمرة واحدة تُثبتين بها أنكِ أم تهتمين لسلامة أبنائكِ لم يكن ليجرؤ على اقتراح خطته الخبيثة!
_سامحيني.. يا غفران! سامحيني يا بُنيتي!
من بين شهقات بكائها قالت متوسلة، فتمتمت غفران في حيرة:
_علام أسامحكِ يا أمي؟
ثم أضافت وقد تكاتفت دموعها مع كلماتها في أسى، في شكوى، في عذاب:
_لم.. أكن أستطيع النوم، كنت أحتفظ بعصا مكنسة بجوار فراشي، كنت أحتفظ بسكين صغير بين ملابسي، كنت أكره ارتداء أية أثواب أنيقة قد تجذب انتباه أحدهم، كنت.. كنت أسجد أرضًا وأدعو أن ينتقم ممن ظلموني أشد انتقام..
وبترت عبارتها الأخيرة في تردد، ثم ما لبثت أن حسمت أمرها وأتمتها في حدة:
_لم أكن أعلم أنكِ على رؤوسهم!
نال منها التعب، رغبت حقًّا بالسقوط أرضًا،أو من علو؛
رغبت بالتلاشي، تمنت الاختفاء؛
لكنها قمعت كل أفكار تدفعها إلى انهزام لم تعد بحاجة له لتضيف بابتسامة تنازع عليها الندم مع الانتقام:
_أتعلمين فيم تختلفين عن عمتي؟ هي تجاسرت وقامرت لتنقذ ابنها رغم جرمه ففازت، وأنتِ تراجعتِ وأغمضتِ عينيكِ فخذلتِ ابنتكِ رغم براءتها فخسرت أنا!
أومأت هالة برأسها في موافقة، ولو منحتها الفرصة لأقسمت لها أنها محقة بكل كلمة نطقت بها منذ دخلت الغرفة، لكن غفران اتجهت صوب الباب فهتفت بها في قلق:
_انتظري يا غفران! انتظري يا بنيتي! إلى أين تذهبين؟
واستدارت غفران..
استدارت لها وكأنها خلال ثانية والتي تَلَتها قد تم استبدالها إلى تلك الأخرى التي وضعتها في الواجهة لسنوات!
انمحت الدموع دون أثر، واندثر الضعف؛
ولى الخوف وعاد التحدي يمتطي جواده مُنذرًا ببث الفوضى؛
استدارت بابتسامة، بثقة، بوعيد بات أكثر وضوحًا من أي وقت مضى!
_للتهنئة، أنا منافِسة شريفة، لقد انتصروا عليّ بفضلكِ وبفضل أبي وبفضل غبائي، ألا تستحق عمتي وابنها أن أُظهر إعجابي بذكائهما؟!
على الفور أدركت هالة ما تعنيه ابنتها، فهزت رأسها نهيًا لتتقدم منها وتطالبها في رجاء:
_لا يا غفران! لا تذهبي إليها!
أخذت تعدل من وشاحها دون رد وتطلعت إليها في حيرة بين غضب وإشفاق، وحينما انتهت جذبت نفسًا عميقًا ثم سألتها ساخرة:
_أخائفة أنتِ عليّ الآن يا أمي؟!
ودون أن تدع لها الفرصة للإجابة اختتمت وعيناها تلمع ظُفرًا بالثأر:
_لا تفعلي! الآن حان وقتهم هم للخوف مني!




تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close