اخر الروايات

رواية علي ضفة قلبك ظمآن الفصل الثامن عشر 18 بقلم سعاد محمد

رواية علي ضفة قلبك ظمآن الفصل الثامن عشر 18 بقلم سعاد محمد


الفصل الثامن عشر
(هو.. ليس عابرًا! )
"على رسلكِ يا غفران! لقد سمحتِ لي بالدخول بنفسكِ."
هتف لؤي وهو يرفع كفيه أمام وجهه مُدافِعًا حينما انتفضت شقيقته بفراشها لتمسك بتلابيبه قبل أن ينتبه..
ظلت نظرتها المُتحفزة تبرق بعينيها، وأنفاسها الهادرة تصعد بصدرها وتهبط به، كما أن كفيها أطبقت بشراسة على مُقدمة بدلته الرياضية، إلى أن استعادت تركيزها تدريجيًا فتخلت عنه في بطء..
دفعت يدها في شعرها المشعث وتمتمت في حرج:
_أعتذر، لم أكن واعية.
حدَّق بها في ارتياب حتى منحته بسمة متوترة، فارتمى بجسده على الفراش يزفر مطولًا ثم قال في سأم:
_أكاد أموت مللًا، لقد رحلت إيلاف ورحلت لين مرة ثانية، لِذا لا أجد سواكِ كي أتحدث معه.
ارتسم الامتعاض على ملامحها فورًا ثم لكزته في صدره تهتف بغيظ:
_ولِمَ تقسو على نفسك إلى هذه الدرجة يا سيد لؤي؟!
أخذ يضحك مُثيرًا المزيد من إزعاجها، ثم اعتدل لتتلبسه الجدية وهو يُفكر قليلًا قبل أن يُبادرها:
_أريد نصيحتكِ بشأن المكتب الهندسي الذي حدثتكِ عنه.
عقدت ساعديها على صدرها ثم هزت كتفيها وهي ترد:
_لقد أخبرتك بالأمس أنها فكرة سديدة، لو استطعت تنفيذها ستعتمد على نفسك ولن تحتاج أحدًا.
توترت عيناه قليلًا ثم نفخ في ضيق مُتمتمًا:
_لكنني أخشى ردة فعل جدي، تعلمين أنه يرغب بأن أتولى شؤون المصنع خلفًا لأبي، لا يُعقل أن يحسم هو النزاع مع ابني عمتكِ مُبكرًا فيمنحنا المصنع لأقول له أنني لا أهتم!
ألقت غطاءها جانبًا لتجلس إلى جواره، رفعت يدها على كتفه وقالت في صرامة:
_ياسر يُدير المصنع أفضل من الجميع، ولم يطلب أحد منا أن يُقدم جدك تلك التضحية العظيمة، وأنت إياك أن تترك حلمك من أجل رغبات غيرك يا لؤي!
أطرق برأسه شاردًا لبعض الوقت، ورغم حيرته وقلقه فقد التفت إليها ليُعلق في بادرة حماس:
_أتعلمين أنني حينما ذكرت الأمر أمام هارون بالأسبوع الماضي أبدى إعجابه؟! بل ووعدني بأن يُساعدني في إيجاد مكان مناسب يصلح لنا كبداية.
ابتسمت لترد في تشجيع:
_إذن التيسير موجود، فكيف تلقي بطموحك خلف ظهرك؟!
وحينما لاح التردد أكثر على وجهه أردفت في جمود:
_إذا أردت سأتحدث أنا مع جدك نيابًة عنك.
في شك رمقها ثم سألها بلا تصديق:
_أستفعلين؟!
أومأت برأسها إيجابًا، وقبل أن تتوالى أسئلته عاجلته في حيرة:
_لكن كيف ستُدبر الأمر وحدك؟ أم ستطلب منه أن يساعدك؟
وقف ينظر إليها في ارتباك مُشوب بطاقة مُتقدة، وما لبث أن هز رأسه نفيًا واندفع يُجيبها:
_لن أفعل، ربما سأبيع السيارة التي لم تسنح لي الفرصة لقيادتها بعد، كما أنني سأعرض على مهند مساعدتي حتى نثبت أقدامنا، علياء أيضًا تحتاج إلى العمل وستتحمس كثيرًا، ما رأيكِ؟
نظرة إعجاب بدت في عينيها وهي توافقه، فيما حاولت صرف انتباه ذهنها عن الخطوة التي تطوعت للقيام بها؛
خطوة بقدر كراهيتها إياها.. فإنها _رغمًا عنها_ لا تشتاق بقدرها!
**********

أمام شاطئ البحر جلس الاثنان شاردين في صفائه، وقد أغلقا هاتفيهما بعدما اتخذا قرارًا مُوحدًا بألا يُهدد أحد هذا الهدوء الذي يتسلل إلى خلاياهما، هدوء لا يزعجه سوى صوت أفكارهما.
ثم قطعه ياسر فتنحنح قبل أن يقول في ترقب:
_باستطاعتنا إجراء مكالمة واحدة كي يطمئنوا علينا ثم نغلق الهاتف مرة ثانية، ما رأيك يا أستاذ؟
ورغم أنه لم يلتفت إليه فقد شعر به يهز رأسه في رفض، وقال في جدية:
_لا، إن فتحته سأكون كمن وقف بلا درع أمام هجوم دبابات ليُطالب بالصلح، هل أبدو لك أبله يا بني؟!
مط ياسر شفتيه وعلق في خفوت:
_أظنك على حق.
أدار الأستاذ ضياء رأسه إليه يرمقه في توجس، ثم سأله بنبرة مُحذرة:
_ماذا هناك؟ أتفكر في مُخالفة اتفاقنا؟
اتسعت عينا ياسر على الفور وسارع هاتفًا دون تردد:
_لا! لا! على العهد باقون يا أستاذ!
إلا أنه بعد ثوانِ قال مُتقهقرًا:
_لكن.. والدتي بالتأكيد تشعر بالقلق عليّ رغم أنني قد أخبرتها بالفعل قبل أن نصل، أستطيع أن أتخيل حالتها الآن، لا أستبعد أن تقاطعني تمامًا، أو أن تأتي إليّ هنا!
توتر الأستاذ ضياء قليلًا في جلسته، ثم نطق في خفوت وهو يثبت نظراته بعيدًا بعض الشيء:
_بذلك الشأن.. أعني.. أنت لا أشقاء لك.. أليس كذلك؟!
هز ياسر رأسه نافيًا، ثم رد في هدوء:
_لا، بعد وفاة والدي اختارت والدتي أن تضحي كما الغالبية العُظمى من الأمهات، إلى الآن ترفض كل من يطلبوا الزواج بها رغم تشجيع جدي، حتى أنا لا أُبدي اعتراضًا حينما يطلبها أحد أقربائنا.
عقد مُعلمه حاجبيه دَهِشًا والتفت إليه ليسأله في حذر:
_إلى الآن؟! أتعني أنك لا ترفض فكرة زواج والدتك؟
مط ياسر شفتيه ليرد في بساطة:
_ربما يبدو الأمر غريبًا، لكنني لا أفعل.
واكتفى بالإجابة لدقيقة كاملة، إلا أن رغبة غير مفهومة دفعته لأن يتابع:
_في البدء كنت أغضب للتفكير باحتمالية زواجها، ورغم أنني لا أتذكر الكثير عن والدي فإنني لم أستسغ حلول رجل آخر مكانه.
وسكت هُنيهة ليُردف في نبرة آسفة:
_لكنني.. شعرت أنني أناني، لقد تَزوجت في سن صغيرة، ثم مرض والدي وتوفي لتصبح أرملة شابة تتحمل مسؤوليتي ولا تفكر في نفسها من أجلي.
وانعقد حاجباه وهو يُضيف:
_لِذا عندما أراد أحد أقربائنا الزواج منها وأنا أدرس في الجامعة تحاملت على نفسي وخبرتها أنني موافق، لكنها هي من رفضت، لِذا فلا إثم عليّ!
حدجه الأستاذ ضياء بنظرة مُمعنة، ثم قال مُستنتجًا:
_لكنك تمنيت أن ترفض، ربما سعدت أنها فعلت.
ابتسم ياسر في حرج ليُعلق في مكر:
_نوعًا ما.
ثم تنهد طويلًا قبل أن يستأنف الحديث مُتمتمًا في صدق:
_أنا أرغب بأن تكون هي راضية كيفما شاءت، وما عليّ إلا أن أتكيف.
عم الصمت بينهما حتى شعر ياسر برغبة قوية للمزيد من البوح، فلقد أثبتت له الساعات الماضية أن مُعلمه مُستمع جيد جدًا، لِذا عاد يتكلم في أسى:
_كنت في التاسعة عندما تُوفي والدي ذات ليلة ولم نستطع إنقاذه في الوقت المناسب، وقد حاول كل من جدي وخالي كثيرًا القيام بدوره، لكن.. لا أدري كيف أصوغها..
بتر عبارته في حيرة، أغمض عينيه وهو يصب جام تركيزه على ما يموج بداخله من مشاعر، غافلًا عن نظرة الرجل الذي منحه كامل اهتمامه.. وتعاطفه.
حتى فتح عينيه ثانية ليُواصل في استياء:
_هناك فجوة ما، خالي كان صارمًا بشكل مُبالَغ به حتى أنني كنت أشفق على بناته من تعامله، وجدي.. كان يحاول الحفاظ على ترابط أفراد عائلته والعدل بينهم فانشغل، وأنا.. كل ما كنت أتمناه أبًا يصحبني إلى مشاهدة مباراة فريقي المُفضل ويشاركني في رحلة صيد.
أطرق برأسه أرضًا فور أن انتهى، مُتخليًا بإرادته عن مشهد البحر الرائع دون ازدحام، فأخذ الأستاذ ضياء يحدق به في إشفاق ثم ربت على فخذه في حنو..
وبعدما منحه وقتًا ليستعيد تعبيره اللا مُبالي تحدث في مرح زائف:
_حديثك يجعلني أبدو أمام نفسي كالطفل الذي يتذمر من الاهتمام الخانق فيكتشف أنه في نعمة.
نظر له ياسر في تساؤل، فوقف مُردفًا في قلق وهو يتجه إلى الشقة:
_ويجعلني أرغب بأن أخالف اتفاقنا فأُشغل الهاتف الآن لأُطمئن الابنة بوظيفة عسكري التي حظيت بها، لقد وافقتك على هذه الرحلة في الأساس حتى تنصاع لرغبتي.
استقام ياسر ليلحق به هامسًا في تهكم:
_هيا افعلها قبل أن تُزين صورنا صفحات البحث عن المفقودين، أو المطلوبين للعدالة!
...
كبت ابتسامته وهو يستند بكتفه إلى باب الشقة، بينما راح ذلك الأخير يسرد الاعتذارات على ابنة شقيقه في الهاتف، وفيما يبدو لم تأتِ أحدها بنتيجة على أي حال!
راح الرجل ينصت في إرهاق إلى سلام التي لم تتوقف عن تكييل اللوم عليه بسبب ذعرها لعدم استطاعتها التواصل معه، ولا الاتهامات التي طالت واحدًا بعينه، ثم هتفت في حنق:
_افتح مكبر الصوت يا عمي!
لم يجد بدًا من أن يُطيعها، ففعل، لينطلق صوتها حازمًا، آمرًا، مُحملًا بكل غضبها:
_اسمعني جيدًا يا ياسر البحيري!
اعتدل ياسر في وقفته وأخذ ينقل نظراته بين الأستاذ ضياء وبين الهاتف في توجس، حتى تابعت هي:
_لن أسمح لك بالتقرب من عمي أكثر من ذلك، فلتفصح عن نواياك الغامضة تجاهه قبل أن أفتعل فضيحة!
ابتسم في تسلية ليقترب منه مُفتعلًا جدية مماثلة ليهتف أيضًا:
_ارفعي صوتِك قليلًا يا سلام الـ..
ثم بتر عبارته ليهمس إلى عمها:
_ما لقب عائلتكم؟
فأجابه تلقائيًا:
_خيري.
وباستهجان علَّق:
_خيري فقط؟!
ثم نفض رأسه ليوجه حديثه إليها عبر الهاتف، مُخاطبًا إياها في لهجة قصد بها إغاظتها:
_ارفعي صوتكِ قليلًا يا سلام خيري! فصوت الطبل حولنا يكاد يصم أذني، أو ربما هو المشروب قد لَعِب في رأسي!
هدأت نفسها بثوان من الصمت ثم عاجلته في تشفي:
_أتعلم يا ياسر البحيري؟ يومًا ما ستُفتح أبواب الجحيم من أجلك على مصراعيها عقابًا لك على سخافتك!
كاد عمها يزجرها لولا أن ياسر كان الأسرع فهتف مُفتعلًا الصَلَف:
_بالتأكيد سأجدِكِ في انتظاري حينها! ولو كان حظكِ جيدًا كفاية ستنالين شرف استقبالي بنفسكِ!
ويبدو أنه نجح أكثر مما توقع، فقد كُتِم صوتها لبرهة ليُدرك هو أنه انتصر، وعندما أوشكت أن تستعيد كلماتها سبقها عمها وأنهى المُكالمة وهو يعدها أنه لن يغلق الهاتف مرة ثانية..
_أعانك الله!
تمتم بها ياسر في إشفاق، فضحك أستاذه وجلس على أقرب مقعد تغشى عينيه نظرة حنونة مليئة بالحب، ثم قال في خفوت:
_إنها عكازي.
تقدم ياسر ليجلس إلى جواره، وتناول منه دور المُستمع في ترحيب، بينما استطرد الأستاذ ضياء في نبرة مُزينة بالشجن:
_بقدر ما أرغب بأن تتخلى عن الدور الذي قلدت نفسها إياه رغم إرادتي فإنني أشعر بِوحشة لا حد لها ما إن أرسم صورة البيت في ذهني بلا وجودها.
وسكت ليضحك، ثم تابع:
_سيكون هادئًا أعلم، لكنه سيفقد لمسة الأم التي تضعها هي على روحي ما إن أتطلع إليها.
وأضاف بنظرة حزينة، وكلمات آسفة:
_توفي شقيقي ثم تبعته زوجته ليتركا ثلاثتهن بمواجهة الدنيا دون حام، كنت على وشك الزواج والاستقرار، لكن بعد زيارة لهن ببيت جدتهن انتابني الشك حول صواب خطوتي التالية.
زفرة طويلة حارَّة تخلى عنها قبل أن يسترسل:
_كنت قد قررت أن أتحمل مسؤوليتهن المادية كاملة وخبرت جدتهن بذلك فأخذت تكرر شكرًا لا مُتناهيًا على مسامعي، حتى أنها استغرقت في البكاء ولم تتوقف عن ترديد عبارات الحمد والشكر لأنها لم تكن تدري كيف ستستطيع سد احتياجاتهن، شعرت أنا بالزهو والرضا الكامل عن نفسي، وطلبت منها أن أودعهن لأرحل.
وتوقف عندما التمعت عيناه مع صورة معينة لا تبرح ذاكرته، صورة يستعيدها ما إن يلومه أحد لأنه قد أهدر حياته بلا فائدة، وبأن من اختار الوحدة لأجلهن.. سيرحلن عنه دون تردد!
_لكن حينما دلفت إلى الغرفة المتواضعة رأيت سلام بمنتصف الفراش البسيط، تحتضن شقيقتيها وكل منهما تنام على إحدى ذراعيها، بينما هي تُدندن لهما أغنية وتعدهما بأنهما إن توقفا عن البكاء وناما سيمر الوقت سريعًا وسيلتحقن جميعًا بوالديهن في القريب!
اختلجت ملامح ياسر ونال منه الرفق مع الإشفاق رغمًا عنه تجاه تلك الفتاة التي لا توفر جهدًا كي تعبر عن نفورها منه، وفي قرارة نفسه خضع تجاهها لشعور وفير بالاحترام..
_لأكثر من دقيقة ظللت واقفًا أستمع إلى وعود صغيرة يتيمة لم تبلغ العاشرة بعد، تكبرهما بأربعة أعوام لا أكثر، لكنها لم تتردد في اتخاذ دور الأم التي تُطمئن أولادها، بينما أنا اعتقدت أن إلقاء عدة جنيهات كل شهر لهن سيكون أكثر من كافِ، وتغاضيت عن حاجة لن تسدها أموال العالم أجمع.
ثم نظر إليه ليردف في ابتسامة بينما التمعت عيناه وهو يشير إلى صدره:
_أعني.. أنا من أسميتهن، أنا حملتهن فور مولدهن، وأنا.. أنا الأحق بهن!
ابتلع ياسر غصة تعترض حلقه، تطلع إليه وابتسم قائلًا في صدق رغم تحشرج صوته:
_لقد صدقت، هي حاجة لن تسدها أموال العالم أجمع.
إلا أن معلمه تخلص من انفعالاته جمعاء ليبقي على الحنق لا سواه، واستطرد في غيظ:
_لكن لا يعني ذلك أن تتمسك بالمسؤولية إلى الأبد فلا تفكر في مستقبلها من أجلنا، لِذلك أقسم أنني سأتشبث بغضبي حتى تنصاع إليّ!
ثم أردف في توعد:
_لنرى من بيننا الأكثر إصرارًا، سأوافق على أول مُتخلف مناسب يتقدم طالبًا إياها!
قفز ياسر واقفًا يحملق به مذعورًا، رمقه مُعلمه بتعجب فسارع برسم ابتسامة متوترة وهو ينفض رأسه مرارًا وتكرارًا دون سبب!


بالحديقة جلس يُحدق في شرود بهاتفه بعدما أنهى مكالمته مع حفيده، ومن مكانه لمح ابنته تروح وتجئ في شرفة غرفتها وهي تعبث في هاتفها بتوتر ملحوظ.
مط شفتيه بلا رضا واحتسى آخر قدر من قهوته، ثم لمحت عيناه أرملة ابنه قادمة تجاهه فيما اعتلى الأسى ملامحها.
"ماذا هناك يا هالة؟"
سألها فنظرت له لوهلة وقد بدا أنها على وشك قول شيء ما، ثم ما لبثت أن تراجعت لتقول:
_هل ستأتي برفقتنا الليلة لزيارة لين؟
هز رأسه نفيًا ثم رد وهو يضع يده بجيب جلبابه ليستخرج حافظة نقوده:
_لا! اذهبي أنتِ وأماني! سأقوم بزيارتها بالأسبوع القادم بإذن الله.
أومأت برأسها بلا اهتمام فوضع على الطاولة بضع أوراق مالية قائلًا:
_خذي! ضعيها بمظروف وهنئيها وزوجها نيابًة عني!
بآلية أخذتها فأمعن النظر فيها مليًّا ثم سألها:
_هل هاتفتِها؟
انتبهت إليه بعد ثوانِ فتخلصت من شرودها لتهز رأسها نفيًا وتجيبه ببعض الغيظ:
_لا، سأنتظر حتى المغرب، رغم أنني لا أظن أنها نائمة حتى الآن طالما يزن برفقتها.
لم يستسلم لمحاولتها جذبه إلى حديث يبدو أنه يؤرقها منذ الليلة الماضية، فمنذ جاء صهرهم فجأة ليلًا ليطلب تجهيز أغراض يزن لأنه سيأخذه معه وقد تأجج الغضب بها..
حاول هو فهم السبب، بل إنه اضطر إلى سؤاله عمَّا إذا كان هناك خلافًا قد وقع بينهما خلال هذه الفترة القصيرة منذ نهاية الحفل وحتى إقلالهما إلى شقتهما، لكن الرجل لم يظهر ضيقًا أو شكوى، بل استقبل يزن في ترحيب ثم انصرف مودعًا الجميع تحت نظرات هالة وأماني المُستنكرة.
_ماذا قال لك هارون بالليلة الماضية؟
سألته في فضول، أو قلق، فتطع لها بلا تعبير ثم قال مُتمهلًا:
_خبريني أنتِ لماذا جاء عريس ابنتكِ بمنتصف الليل كي يأخذ طفلها؟
أشاحت بنظراتها بعيدًا ثم قالت في حنق:
_أنت تعلم أنها تتعنت كثيرًا بخصوص يزن، لذا تشبثت باستعادته وكأننا سنختطفه، أهذا تصرف عاقل يا عمي؟! أية عروس تلك التي تصر على بقاء طفل معها بليلة زفافها؟!
تطلع لها في حيرة ثم ضرب كفًّا بالأخرى محوقلًا، وقال في وجوم عندما لمح أماني تقترب منهما:
_إذن فقد منعتها من أخذه، تجاهلتِ رغبتها وفعلتِ ما رأيتِه أنتِ صائبًا.
_هالة محقة يا أبي، إنها..
إلا أنه قاطع ابنته هاتفًا في حزم:
_إنه طفلها، وهي الأكثر دراية بصالحه.
شبكت هالة أصابع يديها معًا لتتمتم بغير رضا:
_لكن.. زوجها..
_الرجل جاء بنفسه ليأخذه، لو كان مُعترضًا لم يكن ليفعل، كان من الممكن أن يتصرف بطريقة مختلفة لينشب بينهما شجار بأول ليلة، بسببكِ أنتِ!
في صرامة قاطعها لتسكت تمامًا بينما أخذت تربت أماني على كتفها بمواساة، تنهد الحاج فؤاد مُطولًا ثم سألها بنبرة أكثر لينًا:
_هل سأل عنه والده منذ طلقها؟ هل تواصل مع أي منا بشأن طفله؟ هل أظهر أية علامة تدل على أنه يتذكر وجوده؟
تشارك ثلاثتهم الحسرة ما إن نطق لكنه تابع بنبرة لائمة لم تجد مُتلقيها:
_لقد ضرب جلال _رحمه الله_ برأيي عرض الحائط وزوجها منه رغم أنني أعربت عن عدم ارتياحي له، أتفهم تمامًا رغبة أي رجل بالاطمئنان على استقرار بناته، لكن أهكذا يكون الاختيار؟!
بآخر عبارته اختلست هالة نظرة مذعورة إليه، لم يتوقف يومًا من إلقاء اللوم على ابنه لتزويجه ابنتيه من عماد وهاني، لم يتوقف عن إبداء سخطه واعتراضه..
ماذا لو علم بالسر الأعظم؟!
ماذا لو علم بأنه مُدان بلا جناية، آثم بلا ذنب، محكوم رغم غيابه عن مسرح الجريمة؟
وماذا لو واجهته المجني عليها بسؤال مقهور، أو باتهام مُجحف لتطفو الحقيقة الأليمة على سطح هذه السكينة التي حلَّت عليها مؤخرًا؟!
احتبست أنفاسها بصدرها الذي عربد فيه الخوف، لكنها أجبرت نفسها على الاستماع لمتابعته:
_في النهاية هو نصيبها، وسبب ليرزقها الله بطفلها، فما من ضَرَّاء لا تخفي بين ثناياها السَّرَّاء.
رفع رأسه ليتطلع فيهما، فوجد الأولى شاردة بينما الأخرى غاضبة، فتابع في هدوء:
_أنتم تظنون لأنكم آبائهم فكل أفعالكم صائبة، مُباحة، تعلمون ما بصالحهم، أنتم ترونهم أطفالًا يتعثرون بخطاهم، لكنهم لم يعودوا كذلك.
ثم ثبت نظراته على ابنته ليردف في نصح غلب عليه التحذير.. أو الغيظ:
_ارفعوا أيديكم عنهم! دعوهم يتنفسون! اسمحوا لهم بالحرية كي لا تختنقوا قبلهم!
اتسعت عينا أماني في استنكار ثم قالت حانقة:
_إذن علمت ماذا فعل ياسر، لقد سافر رفقة ذلك المعلم وأغلق الهاتف حتى لا أستطيع مكالمته.
رسم ابتسامة واسعة ظللتها رغبة واضحة في استفزازها، وقال وهو ينقل نظراته بينهما:
_لقد هاتفني لتوه، ومُعلمه أيضًا، وبعدما تركني الجميع هنا رفقة نكدكما وحسب فأنا أفكر في الانضمام إليهما علني أرفه عن نفسي قليلًا، يُقال أن الطقس هناك رائع والمناظر خلابة!
نظرت له الاثنتان بدهشة، لكنه لم يلقِ لهما بالًا وهو يوجه حديثه الصارم لأرملة ابنه:
_هالة! إياكِ والتدخل بأمر يزن! الولد مع أمه حيث مكانه الطبيعي، هارون يبدو رجلًا عاقلًا متزنًا ومتفهمًا ولقد توسمت فيه خيرًا.
أطرقت هالة برأسها أرضًا لينظر هو إلى ابنته التي احتشدت أمارات السخط على ملامحها، ثم قال:
_وأنتِ..
بتر عبارته ليعبئ صدره بنفس عميق قبل أن يُتمتم في استياء:
_محظوظ ياسر أن استطاع الفرار، ليته اصطحبني معه!
تحركت شفتا أماني في تبرم لم يسمعه أحدهما، وما إن أوشك على متابعة تقريعهما حتى لفت انتباهه شاب يقف بالبوابة الخارجية ويتحدث مع الحارس..
_من هذا؟
نطق سؤاله في ترقب فتطلعت الاثنتان مليًّا بالزائر، ثم ما لبثت أن أجابت هالة:
_إنه شقيق صديق لؤي.
...
في خيبة أومأ نضال برأسه للحارس وودعه كي يستدير إلى حيث صف سيارته، لكن عينيه وقعت على الرجل المُسن الذي رآه بالليلة الماضية، فتوقف ليلقي عليه تحية ردها وهو يصل إليه.
"أعتذر لمجيئي دون موعد، لكن الحارس خبرني أن لؤي ليس موجودًا ولا يجيب اتصالي."
زامن عبارته بأن رفع يده بحافظة أوراق بلاستيكية لم ينتبه لها الحاج فؤاد، لكنه نظر إليه يسأله في اهتمام:
_ما اسمك يا بني؟
_نضال الزمر.
انشرحت ملامح الحاج على الفور ثم قال في ترحيب:
_أنت شقيق مهند إذن، مرحبًا! ادخل لنتناول طعام الغداء سويا!
ابتسم نضال وتملكه الحرج ليقول في نبرة آسفة:
_أعتذر بشدة، مهند بالكلية ووالدتي لا تتناول الطعام بمفردها.
راح يرمقه بتدقيق وكأنه يضعه تحت اختبار ما حتى شعر نضال ببعض التوجس، إلى أن ابتسم الحاج وربت على ذراعه مرات مُتتالية قائلًا:
_ما شاء الله! خبرني ماذا تعمل يا بني!
_مدير مبيعات بإحدى شركات الاتصالات.
أجابه ثم أظهر نية بالانصراف، لولا أن جذبه الرجل إلى حديث ودي بادله إياه في تهذيب، ولم يقاطعه إلا.. وصولها.
رغم أنه يوليها ظهره فقد عرفت هويته على الفور، هوية أكدتها تلك الخصلة الفاحمة التي راحت تتطاير بمفردها، توقفت لوهلة ثم رسمت تعبيرًا جامدًا واتجهت إليهما، ودون إلقاء أية تحية من باب الذوق فقد نقلت نظراتها بين ما يمسك بيده وبينه لتسأله بلا مُقدمات:
_هل أحضرتها؟
نظر لها جدها في دهشة طالته هو أيضًا، فَمد يده بالحافظة إليها وأجاب سؤاله غير المنطوق:
_إنها المحاضرات التي غاب عنها لؤي بسبب إصابة ساقه.
أخذتها منه لتتصفحها مُصطنعة تركيز شديد وهي لا تفقه بها أي شيء، ثم سألته ثانيًة في جفاء:
_هل أنت متأكد أنها كاملة؟ ألم تنس شيئًا؟ أم عليّ أن أسأل مهند؟
ألقاها بنظرة فاحت باعتراض بَثَّ هرجًا بِدقات قلبها فأشاحت بوجهها بعيدًا واعية لسطوة غريبة تحفر عميقًا بداخلها..
وهي لا تبدي استياءًا، بل _بالأحرى_ يبدو أن الأمر ينال استحسانها!
ولمَّا لاحظ جدها وجوم ملامح نضال نظر لها في ضيق ليقول مُوبخًا:
_على الإنسان أن يقول لمن يؤدي له خدمة: "شكرا"، ثم يدعوه في إصرار إلى تناول طعام الغداء.
ولا إراديًّا صور لها عقلها تحقيق عرض جدها..
هو.. معها على مائدة واحدة، يتناول طعامًا ببيتهم، يتحدث مع جدها وشقيقها، يبتسم في دماثة كما يفعل الآن، يحافظ على مرمى نظراته خلال حدود لا يتعداها كما يفعل الآن، ويحاول قمع تلك الخصلة المتمردة ليُعيدها إلى النظام كما يفعل الآن!
_لم أفعل شيئًا يستحق الشكر يا حاج فؤاد، أرجو أن تبلغ تحياتي إلى لؤي حالما يعود!
قالها مبتسمًا فتطلع له الحاج في إمعان مُنتبهًا إلى علامات حياء بدأت تطغى على وجهه، فتمتم بإعجاب صريح وهو يربت ثانية على ذراعه:
_ما شاء الله! ما شاء الله!
ثم أردف سريعًا في اهتمام أكبر:
_كم عمرك يا بني؟
_في الثانية والثلاثين.
_وكيف لم ألتقِ بك قبلًا؟!
والسؤال التالي كان به من الاستنكار ما وازى الأسف، فتطلع إليه نضال في دهشة لثانية قبل أن يضحك قائلًا:
_لقد هنأتك لِزواج حفيدتك بالأمس فقط يا حاج.
أغلقت فمها الذي فُغر وهي تقتفي آثار ضحكته كَردَّة فعل تلقائية بلا وعي لابتسامة رسمتها هي!
فيما ضحك جدها بالمثل وعلق:
_حقَّا؟! اعذرني! كانت ليلة حافلة ولا أتذكر بمن التقيت ومن صافحت.
أومأ نضال برأسه فأردف الرجل مُفتعلًا التحذير وهو يرفع عصاه:
_لكن أعدك أنني لن أنساك على شرط أن تتناول معنا طعام الغداء.
كانت شاردة تمامًا، متخبطة للغاية، مشدودة خلف نداء لا تعلم من هو صاحبه ولا إلام ستصل إن تبعته..
كانت خائفة، رافضة، متوترة كما لم تكن يومًا!
ولم تستفق إلا عندما انتبهت إلى تحية مهذبة ألقاها عليهما، ثم بخطوات واثقة اتجه إلى سيارته فراحت خلفه نظراتها..
وما إن هَمَّ بالقيادة حتى رفع جدها له كفه بتحية ردها إليه على الفور، ثم إيماءة بسيطة اقترنت بابتسامة بلا نظرات مباشرة كانتا من نصيبها هي!
وأخيرًا تخلصت من أفكارها الغريبة لتلتفت فتتلقى نظرة جدها الممعنة التي امتزج بها اشتياق واضح إليها لتكتشف أنها تقف بصحبته، تبادلت معه كلمتين أو أكثر وكأنهما استعادا طبيعة علاقتهما..
وكأنه الجد الحنون وحفيدته المُدللة!
_هل تعرفينه؟
كرر سؤاله للمرة الثانية فانتبهت لتُجيبه وهي تكبت تلك الانفعالات المُتباينة التي تتزاحم بقلبها مُتعمدة إغفال لقائهما الأول:
_رأيته ذات مرة حينما قام بزيارة لؤي، ورأيته بالأمس في الحفل.
طالت نظراته لها ليقول في استحسان:
_يبدو رصينًا، وقورًا، لقد تورد وجهه أمامي في حياء، كما أنه لم يُطِل النظر إليكِ حتى أثناء حديثكِ معه!
ثم أضاف في تعجب رافعًا كفيه تتأرجح عصاه بإحداهما:
_لم أرَ شيئًا مُماثلًا من قبل!
كادت تُصدق على كلامه، لكنها تداركت أمرها لتعلق في تبرم وهي تدلف إلى الداخل:
_يبدو ثقيل الظل ومغرورًا أيضًا!
**********

انتهت من ارتداء عباءة منزلية ناعمة وتركت شعرها الذي لم تهتم بتجفيفه مُنسدلًا أسفل كتفيها، بهدوء فتحت غرفة صغيرها متوقعة رؤيته نائمًا طالما لم تستمع لصيحاته المُعتادة صباحًا، لكن حينما قابلها الفراش الخالي عقدت حاجبيها في تعجب ثم اتجهت إلى غرفة الطعام تبحث عنه في وجل..
"وها هي الأم الكسولة قد استيقظت أخيرًا!"
مع انطلاق عبارته المرحة استدارت حيث المطبخ الصغير بتصميمه الحديث المفتوح على الصالة، لتجد يزن جالسًا على الطاولة الصغيرة يمضغ شيئًا ما..
_ماذا تفعل يا هارون؟
في توجس سألته بينما عيناها تحاولان النفاذ إلى فم طفلها، لتكرر متسائلة بقلق:
_ماذا تُطعمه؟
أشار إلى صحن صغير وهو يُجيبها:
_لا تخافي! إنه أرز، لقد رأيت خالتكِ تطعمه إياه ذات مرة.
تقدمت منهما وأخذت تربت في حنو على ظهر يزن وعيناها مُتسعتان في قلق وهي تُحدق في الطعام كأنها مُفتش من وزارة الصحة، ودون أن ترفع نظرها إليها همست في ارتياب:
_و..كيف أعددته؟
رمقها في استنكار ثم أدار لها ظهره ليغسل الوعاء الصغير أثناء تعليقه:
_أيحتاج لإعداد؟! لا تخافي! لقد عشت لفترة بمفردي وأتقن بعض الوصفات البسيطة.
مطت شفتيها في استسلام ثم ما لبثت أن اقتربت منه، وقفت خلفه لتتحدث لكن قبل أن تفعل اقتحم أنفها عطره.. فأسكرها!
لقد تنشقته مرارًا بالليلة الماضية، لا إراديًّا، ثم بكامل رغبتها!
ولكم أثار هذا دهشتها فظلت مُتيقظة لوقت طويل حتى بعد خلوده هو للنوم!
فبقدر ما تعجلت الزواج حتى لا تتراجع فتفقد فرصة الحماية التي تريدها دون التسبب بإيذاء طفلها أو أحد أفراد عائلتها كانت على يقين أنها ستستغرق فترة لا بأس بها كي تعتاد التقارب مع رجل آخر.. رجل لم تلتقِ به سوى مرات معدودة لكنه لم يبذل جهدًا مُضنيًا في بلبلة جمودها!
رجل منحها في سويعات من الحنان ما يفوق استيعابها، ومن الخوف ما يتعدى تقبلها!
حنان لم يُغدق أحد عليها بمثيله من قبل دون أن تأخذه مُغَلَّفًا بالذنب؛
وخوف من أن تكون قد انطلقت في رحلة جاءتها تذكرتها على حين غرة، وربما سيحين الوقت للعودة!
_أعتذر.
همست بها في صدق، فاستدار لها سريعًا يرمقها بتساؤل، لتبتسم وتنطق بأول تفسير غير حقيقي طرأ على عقلها:
_لا أعلم كيف نمت حتى الآن، ولم.. أسمع صوتيكما، لقد استيقظ يزن مُبكرًا وأزعج نومك، أليس كذلك؟!
تدريجيًا داعب تعبير مُبهم ملامحه، بنظرة حائرة مُتأملة أخذ يرمقها حتى سألته في اهتمام:
_لماذا تنظر إلىّ هكذا؟
وفي انبهار لم تنتبه له راقبت ابتسامة تتولد في تمهل على ثغره، راقبت زوايا فمه التي تجعدت لتُزيد من جاذبية لا تفهم أين مصدرها، وراقبت لمعة بسواد مقلتيه تركت في نفسها أثرًا كأنه.. ضربة برق!
"هذا ليس عدلًا!"
ترددت العبارة في ذهنها وهي تعي الهزة التي سقطت تحت سلطتها، هزة صارت ارتجاجًا ما إن نطق هو في همس:
_مُعجب ولهان، ألديكِ ما يمنع؟
التصقت نظراتها بابتسامته فيما راح قلبها يرقص طربًا وهو يتلقى عهودًا غير منطوقة، عهود بكل ما تمنت.. وكل ما ظنت أنها لن تجده مُطلقًا!
_بابا!
ونداء يزن ما أعادهما إليه ونبههما إلى وجوده، لكن مع إدراكها نقلت نظراتها بينهما في تعجب فسارع هو في نبرة دفاعية يُجيب سؤالها قبل أن تنطقه:
_لم.. لم أطلب منه أن يناديني هكذا.
هزت كتفيها بلا معنى ثم اتجهت إلى طفلها وقالت في ضحكة تخفي ألمًا موجعًا:
_لا عليك، ما إن استطاع نطقها حتى بدأ بجدي وياسر ولؤي، ثم كل رجل يراه، وأنا دومًا أُصحح له.
ومالت على طفلها تُشدد على حروفها وهي تشير إليه حيث وقف يستند إلى إحدى الخزائن:
_هذا هارون.. ه.. ا.. ر...
_دعيه يا لين! دعيه يُناديني كيفما يشاء!
قالها حازمًا فتطلعت إليه بلا فهم، ليؤكد لها ما يدور برأسها:
_ربما أصبح بمثابة والده إن سمحتِ أنتِ لنا.
ومُجددًا تلك البسمة التي ختم بها عبارته طالبتها بالاستسلام، وأكدت على وعده بالحماية..
ورغم تقافز دقات قلبها في حماس وفرح ورجاء، فإنها كبحت مشاعرها لتضحك في مرح وأشارت إلى رأس يزن متسائلة في استنكار:
_ما هذا؟! هل وضعت له ربطة شعر نسائية؟!
أومأ برأسه بينما تنزعها هي عن يزن الذي حاول منعها، فاقترب منهما لتدخل مُدافعًا عن فعلته:
_شعره ينسدل على عينيه فيحجب رؤيته ويزعجه، لم أجد حلًا سوى هذا.
زمت لين شفتيها ثم أطلقت تنهيدة طويلة قبل أن تقول في حنق:
_مهمة حلاقة رأسه تقع على عاتق لؤي، هو من كان يصطحبه إلى الحلاق كلما استطال، لكن إصابة ساقه منعته.
ثم رفعت كفيها لتتابع في استسلام:
_ربما سأطلب من ياسر أن يتولى هو..
_ولماذا يذهب للحلاق بالأصل؟!
قاطعها في استغراب فنظرت له بالمثل، ليردف:
_اسمعي! أنا أؤمن تمامًا أن مشط الشعر مثل فرشاة الأسنان، ليس من الصحيح أن يستخدم خاصة غيره.
ضاقت عيناها تنتظر منه إيضاحًا، فواصل في تمهل:
_لذا، لدي ماكينة، لدينا مُعقم ومقص، ولديه مشط، باستطاعتي حلاقة رأسه هنا.
اتسعت عيناها على أقصاهما وسارعت بوضع يديها على رأس يزن لتحميه، وهتفت في رفض صريح:
_لا! لا! لقد عذبتك معي بما يكفي يا هارون، سوف أهاتف ياسر و..
تهدلت كتفاه ليُحدق فيها بغيظ، ثم سألها يائسًا:
_أنتِ خائفة عليه، أليس كذلك؟!
سكتت في حرج ثم ما لبثت أن ردت في توتر:
_إنه لا يثبت بمكان، ربما يتحرك فيُجرح و...
لكنها بترت عبارتها ما إن اتجه إلى يزن ليحمله سريعًا، قائلًا في قوة:
_لا تقلقي! سوف أتعامل أنا معه.
ولمَّا تخطاها لاحقته في إصرار وقالت بنظرة راجية بابتسامة غير حقيقية:
_كما.. كما أنني أحب شكل شعره بقَصَّة معينة، لذا "أعطِ الخبز لخبازه!" لننتظر حتى يذهب إلى الحلاق.
استدار إليها يسألها مُتسليًا:
_وربطة الشعر النسائية؟
اتسعت ابتسامتها المُصطنعة وضَمَّت كفيها أسفل ذقنها ثم هتفت في حماس كاذب:
_الآن أجدها رائعة!
تمتم مُغيظًا:
_جبانة!
فهمست راجية:
_لأجل خاطري يا هارون!
لكنه استدار عنها مرة أخرى ليُلقي أمرًا دون نقاش:
_اخلعي ملابسه ريثما أحضر الماكينة!
ومُجددًا نادته مُتوسلة فما كان منه إلا أن حدجها بنظرة صارمة وهو يضع يزن المُتحمس بلا فهم بين ذراعيها، وقال:
_أحضريه إلى الحمام وتوقفي عن كونكِ أمًا مذعورة بلا سبب!
وحالما اتجهت به إلى الحمام بعد أن بقى بحفاضته فقط أخذه منها دون كلام، وقبل أن تخطو أولى خطواتها إلى الداخل صفق الباب أمامها بقوة، لتسمع صوت إغلاق القفل الداخلي فتشهق في خوف، ثم سمعت صوت تشغيل الماكينة لتهمس في هلع:
_يا ربي احفظ لي ابني!
...
لِما يقرب من نصف الساعة جلست أرضًا عاقدة ساقيها مُستندة برأسها على إحدى كفيها في موضع امرأة تتلقى العزاء دون وفيات!
تعبير بائس بلا سبب، وأفكار مُتشائمة دون تبرير، ووجه مليح مستعد لسماع خبر مُؤسف لا سواه!
لكن الحياة دَبَّت بها لتنتفض واقفة ما إن سمعت صوت مقبض الباب يدور، لتندفع إلى الداخل دون دعوة مُتوقعة أسوأ المشاهد، إلا أن ندت عنها شهقة انبهار ما إن تطلعت إلى يزن الذي يقف فوق سطح الغسالة الكهربائية مبتسمًا يُصفق في فرحة، بينما احتل جلد جسده الناعم خصلات كثيرة مقصوصة، فيما صارت قَصّة شعره كما لو خرجت من خيال ذهنها إلى الواقع.
_من هذا الوسيم يا تُرى؟
بسعادة غامرة ألقت سؤالها فجاءها رده هو من حيث يقف جوار الباب في مكر:
_عَمَّن تسألين تحديدًا؟
استدارت إليه لتنطلق في ضحكة عالية، فاقترب هو منها وهمس في أذنها:
_هارون عطية يؤكد لكِ يا سيدتي أنه على استعداد تام ليحلق له رأسه كل يوم ما دام سيُكافئ بهذه الضحكة!
ترقرقت عيناها بلا سبب واضح، فتمتمت تُطالبه نظرتها قبل لسانها:
_عدني!
في عتاب سألها دون تردد:
_مرة أخرى؟
أومأت برأسها في إصرار فابتسم يسألها باقتضاب:
_بِمَ؟
دققت النظر به في استجداء، واستعطاف، ثم قالت:
_بأنك ستبقى هكذا، بأن ما تحاول تقديمه لي لن يكون نتاج فرحة الزواج وما إن يتسرب إليك الاعتياد حتى تكتشف أنك قد تسرعت، أو بالغت.
أومأ برأسه ورد:
_أعدكِ.
فاقتربت منه بعدما حملت يزن، وتابعت في تحذير:
_عدني بأنك إن استثقلت وجود طفلي في بيتك يومًا ستخبرني على الفور قبل أن يتسلل إليك النفور منه.
ورغم تجمع الكثير من التعليقات المُستنكرة على لسانه فإنه اكتفى بــ:
_أعدكِ.
حتى اختتمت حديثها في توسل:
_عدني بأنك لن تتمنن عليّ بتربيتك إياه وبسماحك له بالنظر إليك كوالد لم يحصل عليه من قبل.
عقد حاجبيه بانزعاج هزمه سريعًا، ليُكرر في اقتضاب:
_أعدكِ.
وقبل أن يتفتق ذنها عن المزيد سارع هو قائلًا في جدية:
_ألا تعديني أنتِ أيضا؟
بترقب سألته:
_بِمَ؟
ليحيط خصرها بإحدى ذراعيه حتى يسمح للصغير بحرية الحركة، ودون أن يرفرف بأهدابه قال:
_عديني بألا تقاومي، لا ترتابي، لا ترفضي، ربما ما تخشينه هو الأمان.
ودون أن تفكر، أو تمنح نفسها فرصة لترتيب الإجابة، ردَّت في خفوت:
_ربما لم أعد أخشاه يا هارون.
لمحة انتصار عبرت عينيه مقترنة بسرور جليّ، لكنها سرعان ما اختفت حينما سقطت صفعتان في وقت واحد على وجنة كل منهما من يزن الذي تعالت ضحكاته في استمتاع مع مرأى الصدمة على ملامحهما.
**********

بعد أسبوع:
ولج إلى الشقة بعدما نال منه الضجر بالمحل، فهو إما شارد أو حانق، لِذا اختار العودة قبل موعد الإغلاق مُمنيًا نفسه بأن تُنهي عزلتها التي طالت لأسبوع بغرفتها وتقرر الاستماع إليه..
لكنه تذكر أنها قد أرسلت له رسالة نصية بالصباح تخبره باقتضاب أنها ستذهب لتهنئة أختها، وحينما طالبها أن تنتظر حتى يرافقها رفضت، فلم يرغب بالإلحاح..
ارتمى على الأريكة التي تتوسط صالة الاستقبال الدافئة رغم صغر مساحتها نسبيًا، وداعبت ابتسامة شفتيه مُستعيدًا مشاهد ماضية من طفولته، حينما كان يقضي غالبية وقته يلعب على الأرض جوار والدته التي لم تنفك تُطالبه بأن يتركها ليلعب مع أترابه في الشارع، لكنه كان يتمسك بها لتكون مكافأته ضَمَّة حنونة إلى صدرها، ودعوة صادقة تجري على لسانها.
انفتح باب الشقة لتظهر هي، وما لبث وجهها أن اكفهر وهي تدرك أن نيتها بالعودة قبل أن يفعل قد باءت بالفشل، واللقاء الذي كانت حريصة على أن تتحاشاه ها هي الآن مُحاصَرَة به..
لكنها تسمرت لِوهلة ورفعت أنفها ثم همست في تحفز:
_ما هذه الرائحة؟
لم يبد عليه أنه سمعها فنظرت إليه في ارتياب، وطال تحديقها إليه دون أن تحيد بعينيها عنه، لكنها سارعت بإغلاق الباب وسارت في حزم تجاه غرفتها، حتى أوقفتها عبارته بنبرته _كعادتها_ ساخرة:
_إذن فقد ارتأيتِ أن تواصلي تجنبي وكأنني لست موجودًا، مر أسبوع كامل ولم تُفرغي ما بجُعبتِكِ بعد!
وعلى عكس عادتها هي استدارت تقذف بحقيبتها أرضًا وقد بدا أنه بعبارته قد فَجَّر فقاعة كبت الأسبوع الماضي، لتُصيح:
_ماذا ظننت إذن؟! هل تخيلت أن ما سمعت لن يؤثر بي؟! هل اعتقدت أن حقيقة زواجنا ستمر مرور الكرام؟!
تأملها مليًا في صمت، ثم سألها في اهتمام:
_وما هي حقيقة زواجنا يا إيلاف؟ أخبريني كيف ترينه؟
دون أدنى درجة من التردد هتفت:
_خطأ.
وكما قالت عبَّرت عيناها أيضًا، فتابعت وهي تتقدم منه في غضب:
_وضعنا بأكمله خطأ، دائرة ثُلاثية مُعقدة تستجلب الاشمئزاز!
رمقها في وجوم، ثم تمتم بنبرة تقريرية:
_ثلاثية بالفعل، لكنكِ ترينها بالمقلوب.
تمكن منها الضعف على حين غرة، ليتخلى عنها غضبها تاركًا الساحة لتوسلها فنطقت:
_كفاك ألغازًا يا ناهل وخبرني بالحقيقة!
في ترقب تطلع بها، فأوضحت:
_خبرني عن صحة ما قالت زوجة أبيك!
وأضافت في انفعال:
_هل.. هل نشب بينك وهاني خلاف ففكرت بي كوسيلة انتقام وأنا لا زلت زو...
لكنها مع انحطاط الفكرة كتمت فمها بكفها قبل أن تتمتم وهي تتراجع إلى الخلف:
_يا إلهي! حتى لساني يمتعض من نطقها!
وأضافت بنظرة زائغة:
_خائن، وحمقاء، و..
ثم فغرت شفتيها وتهدلت كتفاها لتشير إليه وتهمس:
_و..خائن أيضًا!
وجهه الصلب، وتعبيره المُصمت أثارا حفيظتها أكثر، لكنها قد سأمت الضعف الذي يجعل الجميع يستغلها فلم تأبه أو تتراجع، بل إنها رفعت سبابتها تجاهه وصرخت في هياج:
_أنت أيضًا خائن يا ناهل! خنت صديقك الذي عَرَّفك إلى عائلتنا، خنت جدي وأبي اللذين منحاك الثقة، خنت الجميع بينما أنا يُثقلني الامتنان لأجل تضحيتك الكبرى بالزواج من فتاة أُلقيت عليك مسؤوليتها في العمل ثم أُلقيت عليك مسؤوليتها مرة ثانية بعدما عاثت الفضائح فسادًا بأخلاقها.
لماذا لا ينفي؟
لماذا لا يخبرها أنه يرفض ما تقوله.. وبالوقت نفسه يوافقه!
قلبه هو من خانه مرارًا وتكرارًا فعاد مُهرولًا إلى من لم تره يومًا؛
قلبه هو من خان كرامته التي تتلقى صفعات من الوحيدة التي ضحى بها.. من أجلها!
إلى متى؟
إلى أي حد سيضمن أن يتقبل تفكيرها الضيق فلا ينفجر؟
وكم مرة سيتبع قلبه في طريق الاعتراف فتُصيبه صاعقة مكانته لديها؟
_الآن فقط فهمت سبب شذوذ هذا الوضع، سبب عزوفك عن حقوقك بي كزوج، لقد آلمك ضميرك فلم تستطع إتمامه، لكن تُرى تجاه من شعرت بالندم؟ صديقك، أم طليقته؟
أمام وجهه أخذت تتراقص الشياطين حول فوهة نيران في احتفال صاخب بإهانته، واللهب تتصاعد جذوته تدريجيًا بداخله حتى يوشك على الانفجار.. بها!
_ألا ترى أنها زيجة فاشلة تمامًا لم يكن لها داعِ في الأصل؟!
رفع رأسه إليها حينما تكلمت ثانية في صرامة، وقبل أن يسألها إيضاحًا منحته إياه طواعية:
_طلقني!
أنطقت بها حقًّا؟
تردد السؤال بين صراخات قلبها، فلم يستطع هو إجابته..
أنطقت بها حقًّا؟
صدح سؤال ثاني في ذهنها الغاضب؛
ونبضاتها الباكية؛
وجسدها الذي أوشك على السقوط!
أتريده أن ينفذ حقًّا؟
وسؤال ثالث جعلها تهز رأسها نفيًا، ورفضًا، وذهولًا..
لا تريد؛
بل لن تسمح له!
ألا يزال الأمر بيدها؟
انبثق الرابع من عينيها المذعورتين حالما وقف في بطء؛
أسيفعلها الآن؟
وقفز الخامس والأخير وهي تراه يتقدم منها يرمقها بعينين مُتقدتين، فيما طاقة العنف التي ولدها صدره فبدأ يصعد ويهبط في تسارع توشك أن تُدمرها؛
وبينما كانت على حافة البحث، والاستنتاج، ثم الاهتداء، وقف هو قائلًا في هدوء يُثير حذرها إلى أقصى درجة:
_الخائن لا ضمير لديه يا عزيزتي، ولن يعثر الندم على خارطته مهما نَقَّب، طالما لم يحصل على غنيمته كاملًة لن يتوقف قبل النهاية!
في ارتياب نظرت إليه بينما هو يتخلى عن سترته ويلقيها، ثم أخذ يفك أزرار قميصه في بطء شحب له وجهها، وتقدم منها مُتابعًا في ابتسامة لم تر مثيلًا لها على وجهه من قبل:
_تريدين الطلاق إذن، حسنًا! فلأنتفع من هذه الزيجة أولًا!
تراجعت إلى الخلف بساقين مرتجفتين، ورفعت سبابتها المُهتزة في تحذير لا يخيف جروًا صغيرًا، ورددت في خفوت:
_إياك أن تقترب مني يا ناهل! سأصرخ، سأبلغ جدي!
توقف بغتة فتنفست الصعداء، ضحك في سخرية ثم قال بنبرة مُحاطة بالاستهزاء:
_أوتظنين أن جدكِ سيصفق فرحًا حينما يعلم أن حفيدته لاتزال عذراء إلى الآن؟! على العكس، ربما سيُلقي عليّ باللوم لأنني سمحت لكِ بالدلال أكثر من اللازم!
وقبل أن ترد وجدته أمامها، أمسك بذقنها في قوة ودفعها إلى الجدار، وبيده الأخرى قيد كفيها معًا..
ومن عينيه شعَّت طاقة عنيفة تفيض بالغضب أنبأتها بأن هذا ليس ناهل الذي لطالما عرفته!
الآن هو ناهل الغاضب الذي يهدر صوته بها في توحش:
_أنتِ زوجتي أم نسيتِ؟! يحق لي الكثير معكِ، يحق لي أكثر مما تتخيلين، إن أردت استسلامكِ الآن سآخذه، إن قررت الحصول على تلك الحقوق التي تظنينني عزفت عنها لأنني نادم سأفعل دون تردد.
تخبطت بمكانها تكافح للتخلص من قبضته، لكنها أيقنت أن هذا لن يزيدها إلا توجعًا ولن يزيده إلا إصرارًا، فاستسلمت وأغمضت عينيها في انتظار انتهاك لم تتوقعه منه، انتهاك سيعقبه طلاق وكأنها خرقة بالية لا استخدام مفيد لها، إلى أن جاء صوته أكثر سخطًا، وألمًا:
_لكنني لا أريدها يا إيلاف، لست مُغتصبًا أو حيوانًا، حتى زوجتي لن أستمتع وأنا أمتلك حبها بلا رضا..
سكت ليدفع ذقنها عنه كأنها مريضة، فتحت عينيها في حذر لتراقبه يتراجع إلى الخلف بضع خطوات تجلت خلالها سخريته، مع امتعاضه، مع عتابه، وعذاب لا تدري سببه، ثم قال في إباء:
_امرأتي ستأتيني مُحبة راغبة، ستطالب بنفسها في قلب مختوم باسمها وحدها، ستسعد باهتمامي بها وبرغبتي فيها، ستفخر بكونها لي زوجة وحبيبة، ولن تساورها الشكوك في شعوري أو تستبق الظنون التي حيكتها حول نواياي تجاهها.
ثم اتسعت ابتسامة مريرة على ملامحه قرنت قوله المُتحسر:
_أتدرين يا إيلاف؟ لطالما نال مني التردد تجاهكِ، أخطو خطوة وأتراجع أضعافها، أتجاهل طول ظمئي وأنا أُحفز نفسي بالنهل يومًا ما، أغمض عيني عن سيئة واحدة يكاد يفنى عمري وأنا أحاول التغلب عليها وأُدقق النظر بحسناتكِ الكثيرة، فيُحسم صراعي بيني وبين كبريائي كل مرة.. لِصالحكِ!
في قلق حافظت على نظرتها المُتشبثة به وهي تكاد تسأله عن قراره، فرسم أكثر ابتساماته سخرية واستطرد مُتمهلًا:
_في اللحظة التي تناسبني أنا سأطلقكِ، في اللحظة التي أستسلم بها تمامًا سأطلقكِ، في اللحظة التي سأضطر للاعتراف لنفسي أنني أهدرت من أجلكِ ما يكفي دون رجاء _حينها فقط_ سأطلقكِ.
ازدردت لعابها واعية للراحة التي تسللت إليها، ثم أنصتت إليه يتابع في برود وهو يُشير إلى ما حوله:
_لكن حتى الآن لم تحن تلك اللحظة بعد، لِذا الشقة مُتسعة، جدرانها صلدة، فلتتخيري ما تشائين منها ولتطرقي برأسكِ فيها حتى تتفجر منه الدماء.
تجهم وجهها تلقائيًا فأضاف في تحدي:
_وإن كنتِ في حاجة للمساعدة أعدكِ أنني سألبي بكل ترحيب!
ثم أولاها ظهره يختتم حديثه في جفاء:
_وإدراكًا مني للتخبط الذي تتعرضين له فإن هذه هي المرة الأخيرة التي سأسمح فيها لكِ بإلصاق تهمة الخيانة بي، فلا تحاولي تشبيهي بسواي!
وما إن أغلق باب غرفته في قوة حتى استعادت أنفاسها، شرعت تتطلع حولها إلى الجدران لتتيقن أنها دومًا ما كانت صديقتها المُخلصة على اختلافها!
الجدران لن تخذلها؛
الجدران لن تسأمها؛
الجدران هي الشيء الوحيد الذي لن يريد بها سوء، ستتقبلها كما هي ولن.. تلفظها!

"لقد استطعتِ الحضور! ظننت أنكِ لن تفعلينها."
هتف لؤي بغفران عندما ألقت السلام وهي تلج إلى الشقة التي لازالت تحت طور التجهيز، بينما توتر مهند في وقفته وأشاح بنظره بعيدًا، وابتسمت هي حينما اتجه إليها لؤي مُشيرًا إلى الأركان الفارغة وسألها في ترقب:
_ما رأيِك؟
راحت تُمشط بعينيها الممر الطويل وألقت نظرات مُمعنة على الغرفتين المُستقلتين، ثم استدارت إليه لترد في استحسان:
_إنها رائعة يا لؤي، بارك الله لكما فيها!
عادت معه مرة أخرى إلى صالة الاستقبال الفسيحة فيما انزوى مهند إلى أبعد ركن مُتظاهرًا بتأمل هاتفه، فهتف به لؤي في قلق:
_ماذا هناك يا مهند؟ لا تقل لي أنها لم تنل إعجابك!
التفت مهند إليه وتنقل ببصره إلى كل مكان فيما عداهما، ثم قال في ارتباك:
_أعجبتني كثيرًا، لكنني لا أظن سأستطيع مشاركتك بها، لست أملك كل الـ..
"سأشترك في "جمعية" وسأقبض المبلغ في البداية، وما إن تحصل على وظيفة ستُسدد ما دفعت من أجلك."
والصوت القوي الذي نُطِقَت به العبارة جعلها تتحفز دون سبب مفهوم، وفي تمهل استدارت تنظر إليه بلا تعبير، ففاجأتها ابتسامته الواسعة التي اقترنت بتحيته رغم أنه يغض بصره عنها:
_كيف حالكِ يا دكتورة؟
لم تدرِ لماذا أرادت أن تبتسم بالمثل، إلا أنها كتمت انفعالها الحقيقي لتسأله:
_لماذا أتيت؟
دس نضال هاتفه في جيب بنطاله بعد أن أنهى مكالمته، ثم أجابها بتعبير مهذب هزم آخر ماكرًا يحاول فرض نفسه على وجهه:
_للسبب نفسه الذي أتيتِ أنتِ من أجله، مع شقيقي، بالإضافة إلى أنني من جئت أولًا.
تدخل لؤي يجذب ذراعها برفق لينتحي بها جانبًا ويهمس في أذنها:
_غفران! لا داعِ لِعدائيتكِ، نضال هو صاحب الفكرة بالأصل كما أنه شريكنا ماديًا أيضًا.
زفرت طويلًا وقد ظهر عدم الرضا على محياها، قررت تغيير مجرى الحوار حتى لا ينزعج شقيقها، فعادت تتأمل المكان مرة أخرى ثم وجهت سؤالها إليه في اهتمام:
_إذن هل فكرتم كيف ستديران شؤونه بمفردكما؟
_بالطبع لا! علياء زميلتنا ستساعدنا، لا أعلم لماذا لم تأتِ إلى الآن، لقد خبرتها أنكِ سترافقينا حتى لا تشعر بالحرج من وجودها بمفردها.
أجابها لؤي على الفور، بينما تبادل مهند نظرة مع شقيقه وكلاهما يعي في الوقت نفسه سبب عدم حضورها؛
فالذنب يكبلها، ذنب لا يعلم أي من ثلاثتهم وسيلة للتخلص من قسوته، ذنب تجاه تلك الفتاة التي تقف أمامهما بلا إدراك أنها في حضرة الجاني الذي يُكافح حتى يهرب من أي مكان حيث توجد ضحيته.
وطرقات على الباب المفتوح بالفعل جعلتهم يستطلعون صاحبها، فإذا به صاحب البناية جاء يسألهم عن رأيهم بالشقة، ليُشير لؤي إلى مهند خفية فيلحقه كي يُساعده في المساومة.
كاد نضال أن يلحق بهما لكنه رمق مهند في تشجيع وتوقف مكانه تاركًا إياه يتصرف كشاب يحاول إدارة أموره بنفسه دون سلطة من ولي أمره!
...
"لؤي.. يُثني عليك ويحبك كثيرًا."
هكذا افتتحت حوارها معه دون أن تفكر بدافع رغبتها في الأساس، تُدرك أنه أثار انتباهها في الحفل حينما طالعت تعبير الخجل الذي رُسِم على وجهه، لكن ما إن عادت إلى غرفتها الكئيبة حتى نسيته ونسيت كل شيء بشأنه، إلا أنه ظهر باليوم التالي ليؤكد لها أن تلك الهالة التي تومض حوله لن تستطيع أن تمر هي بها مرور الكرام، وأنه.. ليس عابرًا!
وها هو الآن يقف بجسده على مقربة منها ويبتعد بعينيه عنها، تبادل معها بضع كلمات حول مشروع شقيقيهما دون أن يُطيل النظر لها لِثوانِ مُتصلة، الأمر غريب.. غريب!
_وأنا أيضًا أحبه.
جاء رده مُقتضبًا لا يخلو من أدب ملحوظ، فنزعت عينيها عنه لتُديرها في الأرجاء بتأمل، ثم عادت تنظر إليه وسألته:
_إذن كان هذا اقتراحك أنت، أليس كذلك؟!
رمقها في توجس ثم سألها:
_ألا يعجبِكِ؟
هزت رأسها نفيًا لتجيبه دون تردد:
_على العكس، يعجبني كثيرًا، أراه أفضل من تقييد نفسه في المصنع.
ودون أن يفكر في التخلص من هذا الحديث الذي يُثير فيه شعورًا بالاضطراب جنبًا إلى جنب مع الحماس ضاقت عيناه في اهتمام ثم علَّق:
_ألا ينتابكِ الانزعاج؟ أعني في حال انشغاله بالمكتب الهندسي سيتأثر عمل العائلة الأساسي.
وأتاه ردها قاطعًا:
_أنا شخصيًا لا أهتم بعمل العائلة، وكل من أختيّ قد انشغلتا بحياتيهما ولا أظن أنهما ستُعارضان رغبته..
ثم سكتت لتُضيف في تمهل:
_بَيد أن والدي لو كان على قيد الحياة وأدرك أن لا أحد مِنَّا يحفل بالمصنع...
وتركت بقية العبارة مُعلقة، لكن الابتسامة الماكرة التي احتلت ثغرها في اتساع تدريجي مُتلذذ أنبأته أن الاحتمال رغم استحالته يمنحها قدرًا لا بأس به من.. التشفي!
تأملها في تردد ثم سألها مُدققًا:
_مُتمردة؟!
فأجابته بزهو حلَّ عليه بعض من ألم غير ملحوظ.. لكنه لاحظه:
_بالإكراه.
لِوهلة شعر أن الرد الغامض المُكَون من كلمة واحدة يحمل إجابات عدة، وإيضاحات لا حصر لها؛
لكن.. بالوقت ذاته تغشى عينيه غمامة من جهل لا سبيل للهرب منها؛
رفض؛
ندم؛
كراهية؛
و..خوف!
دوامة انبثقت من إجابتها لتحيط به فاختلطت عليه التفاسير، ولم يسحبه منها إلا سؤالها المُتحفز:
_خبرني لماذا يتحاشى مُهند إلقاء التحية عليّ! إنه لم يعد يزور لؤي بالمنزل، و..
وبترت حديثها لتتسع عيناها ثم تستأنف في انتباه:
_أنت لم..
وحينما أشاح برأسه بعيدًا تمتمت في خفوت ارتفع به صوت الاستنكار:
_يا إلهي! هل تحدثت معه بشأن ذلك الجنون؟!
افتعل عدم الفهم حتى اللحظة الأخيرة وسألها:
_أي جنون؟
على الفور تملك منها حرج نادر، لكنها سرعان ما نبذته لتوضح بكلمات مُبهمة، إلا أنها واضحة له:
_عن.. عن ظنك الأخرق.
ومُجددًا نال منه الخجل، لكنها هذه المرة تأففت وتخصرت ثم رمقته بنظرة شديدة اللوم وأضافت:
_يا الله! لِذلك يشعر الولد بالحرج ويتخفى مني كلما رآني.
نظر لها في دهشة ثم هتف في اعتراض:
_أي ولد هذا؟! إنه كالـ...
لكنه ابتلع الوصف الذي قفز إلى لسانه، ليصب جام غضبه وتركيزه معها ويقول في استهجان:
_أعني.. إنه بسنته الأخيرة في الجامعة، هل تتعاملين مع كل من يصغركِ وكأنه طفل؟
حينما واجهها مُباشرًة دون تردده المعتاد ارتبكت قليلًا لترد في دفاع ضعيف:
_ليس هكذا، لكنني دومًا ما وضعته بنفس المرتبة مع لؤي، وأنا لا زلت أرى ذلك الأخير ولدًا، لِذا فـ..
ليقاطعها هو في صرامة بها ما بها من السخرية:
_عُذرًا يا دكتورة، يبدو أنكِ اعتمدتِ كثيرًا على ذكاء ليس حقيقيًا، وتثقين بالجميع دون تمييز، ربما يجب عليكِ أن تتخلي عن هذا القناع لأنه لم يعد لائقًا بكِ!
فغرت شفتيها في ذهول وقد شعرت أنها قد ضُبِطَت؛
ضُبِط ضعفها؛
وكُشِف اصطناعها!
لِذا سألته في صوت متقطع:
_عن أي.. قناع تتحدث أنت؟
زوى ما بين حاجبيه والتزم بالصمت مُحاولًا فهم فيم أخطأ، ليسألها مُتوجسًا:
_لماذا شحب وجهكِ؟ لقد عنيت أن..
ثم باستسلام تنهد طويلًا لييخفض رأسه أرضًا ثم يقول:
_عذرًا، لم أتعمد إزعاجكِ.
ثم رفعه ليُمعن النظر بها وقال حائرًا في خفوت:
_أنتِ شديدة التعقيد يا دكتورة غفران.
_وأنت مُثير للرعب يا سيد نضال!
وتعليقها التلقائي جعل الدهشة تعود إلى ملامحه، ثم قال في استنكار:
_عفوًا؟! أأنا مُثير للرعب؟! ربما هذا هو رأيكِ وحدكِ، فأطفال الحي يُحبونني ويُحيطون بي في الشارع ما إن أعود من عملي!
أفلتت منها ضحكة ساخرة، تبعها قولها الحانق المُندفع وهي تشيح بإحدى كفيها بينما تتخصر بالأخرى:
_ذلك اليوم حينما جئت للصيدلية، لقد أثرت هلعي لأيام بعدها كلما تذكرت تعبير الشر على وجهك الخليق بأغلفة قصص الرعب رغم وسامته!
ولمَّا كان يستعد لمنحها رد ستندم بسببه فإن آخر ما قالت جعله ينطق فورًا وهو يرفع حاجبيه إلى أعلى في ذهول:
_رغم ماذا؟!
وبالمثل رفعت حاجبيها لتنخرس كلماتها لفترة وجيزة، ثم خرج ردها مُتسارعًا بثقة هي أقرب إلى التبجح:
_أنا لم أقل شيئًا.
تراجع وتنحنح، ثم ابتسم في عملية ووجهه يتورد بالتدريج، وقال مُصطنعًا الاقتناع:
_بالطبع.. يبدو أن الهلاوس قد بدأت تنتابني.
فهمت هي أنه يتظاهر كي يُجنبها الحرج، ودت لو تشكره لكنها تنحنحت أيضًا لتتحدث في نبرة عملية بالمثل وهي تجد صعوبة شديدة في إبعاد نظراتها الدَهِشَة عن وجهه الحيي:
_من المحتمل بالفعل، ربما تُرهق نفسك بالعمل كثيرًا ولا تنام كفايًة، فلتحصل على بعض الراحة! أستأذنك.
ثم بخطوات مهرولة انطلقت إلى الخارج، وبلا تفكير لحق بها هاتفًا:
_انتظري! ألن ترحلي مع لؤي؟
استدارت تنظر إليه في ارتباك أثار خوفها وقلقه، انبعث فيها الاضطراب وحلَّت الفوضى على صدره، بحثت عن ردود مختلفة وهَمَّت بقول بعضها لكن عينيها ظَلَّت تجوب ملامحه في بحث غامضة أسبابه لها.. وله!
امتنعت، ابتسمت، تجهمت، ثم أطلقت تنهيدة حادة سريعة لتهبط على الدرجات دون رد!
وأمام الشقة وقف هو واعيًا للمرة الأولى إلى ذبذبات تقتحمه.. أو تنبع من داخله؛
مُتلقي؛
مصدر؛
سيدافع؛
لا.. عليه أن يهاجم؛
أو.. ربما ينبغي ألا يتعجل!
_ماذا أفعل؟
غمغم في حيرة..
_وماذا يحدث؟
تمتم في توتر..

كخوار الثور صدحت صيحته بالشقة الفاخرة التي يملكها في ذلك الحي الهادئ الراقي؛
ثم صدرت عنه زمجرة، بطيئة، طويلة، كأنها لَفحة نار من عمق الجحيم تصاعدت ولن يردعها كل ما بالعالم من أمطار!
"تَزَوَّجَت؟!"
في همس بشري تمتم دون تصديق..
"تَزَوَّجَت!"
في نبرة متوحشة أعادها ذاهلًا..
"تَزَوَّجَت!"
بلهجة شرسة كررها، مرة ثانية، وثالثة!
بآخر تَزَوَّجَت، من حق رجل سواه صارت، إلى غيره لاذت بالفرار بعد أن ظن أنه قد أحكم أصابعه على خيوطها!
كيف؟! كيف فعلتها تحت مرأى عينيه؟!
كيف وجدت آخر خلال أشهر بينما هو معها منذ ما يزيد عن العامين؟!
هو معها؟
لا! هي من معه!
هي دومًا معه، في يقظته، في نومه، في عمله وفي عطلته، هي.. من حقه وحده!
لقد قبع تحت وطأة الانتظار طويلًا حتى تهرول إليه بآخر المطاف لكنها لم تفعل، شرب من الصبر علقمه حتى يستحقها كتحلية شهية لا يتمنى تذوق سواها فقضمها آخر لم يسمع عنه قبلًا، جَرَّب اللين والشدة، الترغيب والترهيب، الوعد والوعيد، لكنها ألقت بكل ما يُقدمه لها أسفل قدميها ودعسته لترتمي بين ذراعي آخر..
هي الآن بحضن آخر!
_لا!
وعادت الزمجرة..
_لماذا؟!
وتكرر الخوار؛
ثم تكسير بعض الكؤوس، والصحون، مرآة من حظها السيء أنها مُعلقة على الجدار المقابل، ومقعد، ثم زجاج النافذة، و.. رنين الجرس!
بهيئة فوضوية، مُخيفة، فتح الباب عازمًا على قتل الطارق أيًا من يكون، حدَّق فيه رجل متوجس أدرك بعد ثوانِ أنه جاره..
_ماذا تريد؟
تراجع الرجل إلى الخلف في قلق ينقل نظراته بين وجهه الغائم ومقلتيه اللتين تقدح منهما الشرر، ثم فمه الذي سال بعض اللعاب من جانبيه، حتى قميصه فُقدت منه غالبية أزراره!
_لقد سمعت صوت صرخة فظننت أن...
قاطعه صائحًا بغضب:
_لا تظن شيئًا! فلتهتم بشؤونك!
ثم دون إضافة صفق الباب بلا اهتمام للارتجاج الناتج..
ارتجاج لا يُقارن بما يعتمل بأحشائه؛
وارتجاج سيحل بعالمها كزلزال مُدمر إن لم يستعيدها!
لقد استطاع من قبل تطليقها من زوجها الذي يُقيدها إليه طفل يُدرك كيفية استعدادها أن تتحمل من أجله أي شيء؛
ألن يستطيع تطليقها من آخر ليست من صلة قوية بينهما بعد؟!
ربما الخطط المُرتَّبة طويلة المدى لا تنجح معه مهما منحها من عناية وتدقيق..
إذن طالما قد طالته الهزيمة بالفعل..
فَلْيَرتجل!



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close