اخر الروايات

رواية علي ضفة قلبك ظمآن الفصل السابع عشر 17 بقلم سعاد محمد

رواية علي ضفة قلبك ظمآن الفصل السابع عشر 17 بقلم سعاد محمد


الفصل السابع عشر
(حين تاق.. السَّقَّاء!)
عاقدًا كفيه على مسند عصاه واضعًا عبائته الأنيقة على كتفيه.. عابسًا، وقف على بُعد مسافة متوسطة من المكان المُخصص للعروسين يتطلع إلى صهره الجديد وهو يُقبل جبهة حفيدته ثم يهمس لها بشيء ما..
"هل عَلِق أم ماذا؟!"
والسؤال الذي نطق به في غيظ لم يستطع ياسر الواقف إلى جواره تفسيره، فنظر حيث يُحدق منذ ما يقرب من دقيقة كاملة ثم عاد إليه مُستفهمًا:
_ماذا هناك يا جدي؟
نفخ جده والسخط يعربد على ملامح وجهه، ثم أشار بعصاه تجاه هارون الغائب تمامًا بعالمه وقال:
_ألا ترى مدى عاطفيته؟! والمُدللة لا تبدي اعتراضًا ولا تحاول إبعاده!
كتم ياسر ابتسامته ثم عَلَّق في تبرير:
_لقد أصبحت زوجته يا جدي، الرجل يُقبل جبهتها فقط، لم يـ..
لكنه احتفظ بتتمة عبارته لنفسه حينما التفت له جده قائلًا في تحفز:
_لم يـ..؟
_لا شيء.
تمتم ياسر وأشاح برأسه بعيدًا كي لا يرى جده ملامح التسلية التي تحارب للظهور على وجهه، إلا أن ذلك الأخير عاد ينفخ مرة أخرى في حنق قبل أن يقول وهو لا يزيح عينيه عن لين التي تضحك لدعابة ما يبدو أنه همس لها بها:
_ألا يصبر قليلًا؟! ألا ينتظر حتى ينتهي هذا الحفل؟! ذَكِّرني كم عمره؟
أفلت ياسر ضحكة هزمته ثم أجاب في جدية مُصطنعة ما إن تأكد من انزعاج جده:
_في الثالثة والثلاثين يا جدي، لقد أُعجبت به بشدة لاستطاعته الاعتماد على نفسه وتأسيس عمل جيد بهذه السن، أنت بنفسك مدحته كثيرًا، ألا تتذكر؟
تنهد الجد في استسلام ثم غمغم مُضطرًا:
_حسنًا! هذا مُثير للإعجاب بالفعل، لكن..
وبتر عبارته ليرفع كفيه بينما تتأرجح العصا بإحداهما مُتابعًا في حيرة:
_أين الرصانة؟! أين الوقار؟! أين الحياء؟!
سكت لوهلة كي يدقق النظر بهما ثم أضاف في نزق:
_انظر ماذا يفعل! بعمري لم أُقَبِّل جدتك أمام أي شخص.
_وماذا عندما كنت تنفرد بها؟
ندم ياسر فورًا على السؤال التلقائي الذي نطق به مكر حين التفت إليه جده ثانية يرمقه في امتعاض ثم يقول ناهرًا:
_اخرس يا قليل الحياء!
وعاد مُجددًا يرفع عصاه تجاه العروسين قائلًا في صرامة:
_اذهب إليه وخبره أن يحتفظ بمشاعره حتى ينتهي الحفل وإلا ذهبت إليه بنفسي!
وقبل أن يتحرك ياسر أردف جده في تبرم وعيناه لا تبتعد عن هارون:
_حقًّا لا أدري ماذا بهن حفيداتي! يستقطبن أكثر النماذج من الرجال غرابة، إمَّا بُخلاء في البوح أو مُسرفين، أليس هناك من وسط؟ أهؤلاء من سأعتمد عليهم في مستقبل عائلتي؟!
ثم نظر إلى ياسر في امتعاض ليتابع:
_مُتخلف، وهمجي، ثم ذاك العاطفي أكثر من اللازم! تُرى بِمَ سأُبتلى تاليًا على يديّ غفران؟!
استدار ياسر كي يتهرب من اعتراضات جده التي لا تنتهي منذ بدأ الحفل رغم سعادته الواضحة للين، لكن التقاليد التي نشأ مُرتبطًا بها تجبره على عدم استساغة هذا التعبير العلني عن المشاعر الذي يقدمه هارون بكل كرم!
بالإضافة إلى قدر من الغيرة لا يُستهان به!
توقف ياسر بغتة حينما وقعت عيناه على باب القاعة حيث يدلف منها أستاذه، فانطلق إليه في سرور حقيقي..
...
"هذا هو الأستاذ ضياء يا جدي."
قدَّمه إلى الحاج فؤاد الذي تخلى عن مراقبة العروسين ليصافح الضيف في ترحيب بادله إياه الرجل وهو يُمعن به النظر ثم قال:
_أظن أننا التقينا من قبل يا حاج، لا أنسى وجهًا رأيته.
وضع ياسر إحدى ذراعيه حول كتفي مُعلمه ليقول في فخر:
_إنه مُعلم اللغة العربية بمدرستي الثانوية يا جدي، ربما هناك التقيتما.
استغرق من جده بضع ثوانِ يُحدق في الرجل بِحيرة حتى انشرحت ملامحه فجأة وهو يقول في إدراك:
_آآآه، إذن لقد أرسلت لي استدعاء وليّ أمر من قبل بسبب كارثة قام بها هذا الولد!
في بطء أنزل ياسر ذراعه لينظر إلى جده في عتاب يشوبه الغيظ، لكن هذا الأخير تابع بكل حماس:
_ربما تلك المرة حينما رَسَب في اختبار الشهر.
تنحنح ياسر في حرج حينما حدَّق به الأستاذ ضياء بدهشة، لكنه ابتسم وأعطى جده نظرة مُتوسلة قبل أن يقول ضاحكًا في توتر:
_عن أي رسوب تتحدث يا جدي؟! لقد كنت طالبًا مُميزًا، ألا تتذكر؟
أومأ جده في موافقة وردد بِتكرار:
_بالطبع! أتذكر بالطبع!
ثم أضاف في توبيخ:
_أتذكر أنني كنت على وشك إيقافك عن التعليم لتلتحق بإحدى الورش كي تتدرب على أية صَنعة تفيد منها مُستقبلًا طالما لست فالحًا بالدراسة!
أغمض ياسر عينيه يكبت ذلك الحنق الذي سيطغى عليه خلال أية لحظة، فيما تابع جده شاكيًا بلا اكتراث:
_ببداية المرحلة الثانوية انتابتنا الحيرة، أنصحه بأن يجتهد كي يلتحق بالقسم العلمي فيرد بـ:"القسم العلمي شديد الصعوبة ولا أستطيع فهم جميع المواد يا جدي!" إذن يا بني اجتهد كي تلتحق بالقسم الأدبي! فيقول:"لا أقدر على حفظ كل تلك المعلومات يا جدي!"، أقسم أنني احترت في أمره حينذاك، أكان عليهم اختراع قسم جديد لأجله وحسب؟!
انحسرت ضحكة الأستاذ ضياء تدريجيًا ثم ضاقت عيناه ليُدقق النظر به مليًّا، ثم هتف فجأة:
_إذن هو أنت، لقد تذكرتك أخيرًا.
توتر ياسر لوهلة وسأله في توجس:
_ماذا تذكرت بالضبط؟
ابتسم الأستاذ في مكر ثم قال بنبرة تراقصت بها المُعايرة في وضوح:
_كنت مُميزًا كما قلت بالفعل، فقيهًا في النحو سبَّاقًا في الإعراب! خلال سنوات عملي كلها لم ألتقِ بطالب أساء معاملة حروف الجر كما تجاسرت أنت، لهذا إذن انطبع وجهك في ذاكرتي!
تنحنح ياسر في حرج بينما هتف جده مُشيرًا بكفه إليه وهو يوجه حديثه لمُعلمه:
_ألم أقل لك؟!
زم ياسر شفتيه حينما انطلقت ضحكة الأستاذ ضياء ثانيًة في استمتاع قبل أن يُهنئ الجد بزواج حفيدته ويستأذن منه ليتركه يُرحب بضيوفه.
سار إلى جواره حيث الطاولة التي جلس إليها لبعض الوقت برفقة ناهل الذي مر لِتوه من أمامها إلى خارج القاعة فيما بدا أنه قد تشاجر مع زوجته على ما يبدو، فقد تصلَّبت لِدقائق على مقربة منه ثم استدارت لتخرج فلحق بها.
_ما رأيك يا أستاذ ضياء أن نقوم بعمل متهور الليلة؟
بادره ياسر في حماس فحدَّق به مُتعجبًا ليسأله:
_ماذا تعني يا بُني؟
اتسعت ابتسامة ياسر ليقول بصوت خفيض كي يتأكد من عدم سماع أحد حوارهما:
_لدى عائلتي شقة بالـ"عين السُخنة" وبعد الزفاف سأتجه من فوري إلى هناك لأقضي يومين من إجازة منحتها لنفسي، أتُرافقني؟
تعالت ضحكة الأستاذ ضياء لِثوان متصلة، ثم رد في استهجان بعدما استعاد هدوئه:
_أنا في الخمسين من عمري يا ياسر، لقد انتهى عهد الأفعال المُتهورة منذ زمن.
ثم عاد يُتابِع الحفل الذي يضم مزيجًا غريبًا من المدعوين، ليسوا جميعهم من علية القوم كما ظن، هناك عددًا لا بأس به من البسطاء، عمال بالمصنع، أقرباء من درجة بعيدة، أو تربطهم صلة بحكم النشأة في البلدة ذاتها حيث وُلِد الحاج فؤاد.
وأخيرًا وجدها..
تقف مع بعض المدعوات، تبتسم، تتحدث، سعيدة على النقيض من تعبيرات القلق والهم التي اعتاد رؤيتها مرافقة إياها منذ سنوات خارج المدرسة..
يوميًا كانت تنتظر أمام البوابة حتى أنه لا ينسى ذلك اليوم حينما خرج ليجد أن بعض الطلاب يقومون بإزعاجها فاصطحبهم جميعًا إلى الداخل ليوقع أكثر من طلب استدعاء ولي أمر بيوم واحد!
بالبداية ظن أنها شقيقة طالب ما، ثم ما لبث أن تلقى مفاجأة حين أُقيم حفل تكريم الأم المثالية ليكتشف أنها والدة أحدهم، ويكتشف أيضًا أنها أرملة قد كرَّست حياتها لابنها الوحيد.
تنهد وهو يشيح ببصره عنها حينما نال منه الحرج لِمَا يفعل، وحانت منه نظرة إلى ياسر الذي صمت على غير عادته، فوجده شاردًا مهمومًا.. خائب الأمل.
اعتلت نظرة دَهِشَة عينيه رافقت غُصة أحكمت قلبه، ليتفحصه في تأمل مُقرًا أنه يحزن لِحزن هذا الشاب.. وما السبب؟
لطالما أحب طلابه وربطت بينهم صِلة قوية بعيدًا عن الدراسة، لكن علاقته بياسر لم تنشأ إلا منذ وقت قريب.
أطلق زفيرًا طويلًا ثم لكزه في ذراعه وقال مُفتعلًا بعض الحماس:
_لكن أتعلم؟! لِمَ لا؟ امنحني دقائق كي أهاتف سلام حتى تُجهز لي أغراضي الشخصية!
والتحول المُفاجئ بملامح ياسر جعل من الحماس حقيقيًا، لربما أرسل الله له هذا الشاب لِحكمة لم يُدركها بعد.
**********

خارج القاعة وقفت تتطلع بقلق في إثر شقيقتها وزوجها، بعد أن ألقت عليها الأولى تحية وداع بملامح شاحبة فيما ظلل الضيق وجه الآخر.
تنهدت في حيرة تقمع رغبتها القوية في العودة إلى الداخل وسحب شقيقة العريس لاستجوابها حتى تقر بما قالت لناهل وإيلاف قبل أن تصر هذه الأخيرة على الرحيل!
استدارت لتعود إلى لؤي الذي لا يزال يسير بصعوبة وهي تقرر البحث عن صديقه كي تطلب منه تلك المحاضرات التي فاتت شقيقها، لكنها وجدت مهند خارجًا بالفعل بصحبة شقيقه، فاتجهت إليه مُتجاهلة ذلك الأخير تمامًا..
"هل سترحل الآن يا مهند؟"
سألته في دهشة فاكتفى بإيماءة بسيطة وهو يتهرب من النظر إليها، لتتابع في اهتمام:
_لا يزال الحفل لم ينته بعد.
_لدي.. محاضرات بالغد، كما أن نضال أيضًا يذهب إلى عمله باكرًا.
بتوتر أجابها بينما كان نضال يقف صامتًا في تحفز مترقبًا هذا الحوار الذي أثار قلقه..
_متى تنتهي محاضرات الغد؟
وسؤالها رمى بالرعب في قلبه، فنظر لشقيقه بخوف ثم عاد إليها مُتمتمًا في خفوت:
_لماذا تسألين؟
لاحظت اضطرابه فنقلت نظراتها بينهما في حيرة، ثم قالت له في حرج:
_أعتذر لأنني سأثقلك بشيء ما، لقد حاولت التصرف بالأسبوع الماضي لكنني لا أعرف من أصدقاء لؤي سواك، وهو يبدو غير مهتم لما فاته من محاضرات، لذلك أريد أن أنسخها منك.
تنفس مهند الصعداء بعد أن تلاعبت الظنون بعقله خلال هذه الثواني المعدودة، ثم تمتم بصوت متوتر:
_سوف.. سوف أنسخها وأحضرها.
ابتسمت غفران في ارتياح ثم رَدَّت وهي تهز رأسها رفضًا:
_أشكرك يا مهند، لكن لا تهدر وقتك! ما عليك إلا أن تخبرني متى عليّ أن آتي لآخذها من الكلية.
ارتبك مهند أكثر وأخذ ينقل قدميه، فتدخل نضال قائلًا بهدوء:
_لا تحملي هَمًّا يا دكتورة غفران! سأحضرها أنا.
منحته نظرة جانبية تفيض بلا مُبالاة تخفي فضولًا لم يكتنفها تجاه أحد منذ مدة؛
أو.. منذ الأبد!
وتجاهلته تمامًا لتبتسم لمهند وردت في اعتذار:
_لا أريد الإضافة إلى أعبائك، أعلم أن الوقت لا يسمح بأن..
لكنها بترت عبارتها حينما أزاح نضال شقيقه بكفه في بطء ليقف هو قبالتها فتضطر لتوجيه الحديث إليه مُباشرًة..
مُستوليًا على اهتمامها دون استئذان؛
شاحذًا كل انتباهها بلا إنذار؛
وخاطفًا نظراتها كالـ.. إعصار!
_أنا من سأحضرها يا دكتورة لا هو.
في صرامة نطق مؤكدًا، تطلعت إليه بصمت بينما عقلها يبحث سريعًا عن رد يزعجه بلا سبب، وما إن وجدته حتى سألته في تهكم:
_وهل ستستطيع أنت أن تفهم ما بها؟
قابل سخريتها بابتسامة مهذبة، ورغم ذلك فقد بادلها إياها ليقول وهو لا ينظر لعينيها مُباشرًة:
_ليس إلى تلك الدرجة، ربما تظنينني أُميًّا لكنني قد أتمكن من القراءة ببعض الجهد!
تراجع مهند خطوتين إلى الخلف مُفسِحًا المجال لشقيقه ويرمقه في تعجب بينما يُبلي حسنًا أثناء حديثه لهذه الثواني المتصلة مع فتاة للمرة الأولى!
سكتت غفران مُدركًة أن الارتباك الذي تحكم به في بداية الحفل بعدما جنبها الارتطام بالنادل قد اختفى.. بل هناك نقيضًا أيضًا!
وبلا تردد تابع نضال هجومه الساخر فلاحت ابتسامة جانبية على شفتيه وقال:
_على حد علمي أنتِ صيدلانية، لا أظن أن معلوماتكِ بشأن دراستهما قد تفوق خاصتي!
خبأت رغبتها التي تحثها على إسماعه ما يستحق، واكتفت بأن هزت رأسها مُتظاهرة بالحيرة ثم قالت في استخفاف وهي تشير إلى مهند:
_لا زلت لم أفهم بعد كيف تكون شقيقه!
_وأنا لا زلت لم أفهم بعد لماذا هذا العداء تجاهي!
دون تردد قالها ليرتفع حاجباها دهشًة وتنطلق شرارات غضب من عينيها، فاستدرك في حرج وهو ينظر لها مُعترضًا:
_أعني.. ربما أنا أفهم بالضبط، إلا أنني لا أفهم لماذا أنتِ إلى هذا الحد قاسية! أخطئت بحقكِ وسأبقى نادمًا لذلك، لكن أستميحكِ عذرًا.. العفو يا دكتورة!
وسكت ليُردف في ابتسامة حلَّ عليها عبث مُريب لم يتعمده، إلا أنه مُثير للانتباه.. و_مُجددًا_ خاطف!
_الغُفران يا غُفران!
حتمًا كالإعصار!
تردد هذا الخاطر بذهنها فيما حط عليها تخبط يستدعي القلق، فسارعت بالرد في نزق:
_العفو لا أمنحه، والغُفران يطلبه الضعفاء فقط.
كان مهند ينقل نظراته بينهما في دهشة وهو يراقب شقيقه وكأنه يكتشفه للتو، بينما انعقد حاجبا نضال في استنكار قبل أن يرفع سبابته ليقول في بساطة:
_الغفران جميعنا بحاجته، لسنا معصومين، بالتأكيد أخطئتِ من قبل، لِذا ستضطرين يومًا ما لطلبه، وستضطرين لتغيير أفكارِكِ.
انقضت صورة سدن حينما رأتها للمرة الأخيرة على عقلها، فأطرقت برأسها أرضًا في أسف ثم ما لبثت أن استعادت سيطرتها على تعبيراتها فرسمت ابتسامة أكسبتها بعض السخرية:
_ألهذا يحبك لؤي كثيرًا؟ لأنك مثله تظن نفسك فيلسوفًا ما؟!
مال رأسه قليلًا فحرَّك الهواء خصلة بمُقدمة شعره اللامع بالمثل لتميل عيناها معها دون تركيز، ثم قال مُفتعلًا غرور غير حقيقي لكنه بشكل ما بدا لائقًا به كثيرًا:
_بل لأنه ذكي، ربما عبقري، لأني لم ألتق يوما بشخص استشعر تجاهي أيَّة كراهية..
سكت ليراقب اندهاشها، ثم أضاف بنبرة عاتبة وكأنهما متعارفان منذ الأزل:
_حتى الآن.
كادت تضحك في سذاجة لكنها رسمت ابتسامة حملت تهكمًا مُبالغًا به:
_إذن أنت أيضا ذكي وتستطيع فهم شعور الناس تجاهك في سلاسة!
أشاح بوجهه بعيدًا حتى لا يزعجها تعبير الاستمتاع الذي يطغى على ملامحه، فتابعت هي توجيه حديثها إلى مهند قاصدة إثارة ضيق شقيقه:
_شرَّفت الحفل بحضورك يا مهند، العقبى لك!
التفت لها نضال وهو بالكاد يمنع ابتسامته فاستدارت على الفور تعقد حاجبيها في دهشة واعية لاختلاج ينهض من مكان ما، لا تفهمه، لكنها تخافه..
وبعد خطوات عادت تلتفت لتجده واقفًا حيث تركته بينما يوليها شقيقه ظهره..
فيما كان هو يتطلع إليها مُباشرًة!
بمركز الإضاءة يقف.. غامضًا لكنه واضح؛
مُزعجًا إلا أنه شديد التهذيب؛
ورغم أنها عمدت إلى إحراجه أكثر من مرة بأكثر من طريقة فقد كان سَمِحًا، يبث بها إحساسًا مُفعمًا بالثقة!
استدارت ثانية على الفور لتنطلق إلى داخل القاعة، ثم إلى لين التي ظهر على ملامحها انزعاج جليّ وهي تتحدث مع والدتها وعمتها.
...


"أعتذر يا نضال، حدث هذا بسببي."
نطق مهند في أسف وهو يجاور شقيقه بالسيارة، فنظر له متسائلًا، ليتابع:
_أخبرتك من قبل أن طباعها حادة، لماذا تحدثت معها؟!
عاد نضال يراقب الطريق مُستندًا بذراعه اليسرى على النافذة، ثم علَّق بعد قليل من الصمت:
_لم تكن حادة الطباع معك.
_لأنها لا تعلم شيئًا عن نذالتي.
رنَّة السخرية الممتزجة بالندم التي نطق بها مهند أثارت بقلبه الشفقة، فقال عامدًا إلى تغيير مجرى الحوار:
_لم أجدها حادة الطباع كما تقول، بل..
سكت في حيرة لينال منه الشرود بينما يحاول التركيز على القيادة، ثم تابع بابتسامة طفيفة:
_عفوية، قوية، صريحة، أظنها مشاكسة.. وتهتم كثيرًا بشقيقها.
"وفاتنة!"
والوصف الأخير لم يُردده لسانه بينما اندلع في ذهنه بلا قيود وهو يستعيد مظهرها المُحتشم وجمالها الخلاب بلا جهد مبذول، ربما مسحة من ألم كانت تنفلت من تعبيراتها رغم عنفوان نظراتها.
تشبث بعجلة القيادة مُكررًا استغفار في همس انتبه له مهند لينظر له مُتعجبًا، فتنحنح قائلًا:
_شَغِّل المكيف!
تحول تعجب مهند إلى دهشة واضحة ليرد تلقائيًا في استنكار:
_الطقس شديد البرودة!
ازدرد نضال لعابه وحاول التغلب على هذه الحرارة التي ولدتها سرعة ضربات قلبه دون تبرير، ثم عبس مُتمتمًا في ضيق:
_حسنًا! لا تشغله إذن!
ثم تنهد في حيرة وولَّى اهتمامه للطريق ثانية في إصرار، ثم سأله راغبًا في تشتيت عقله عن أية أفكار أخرى:
_عمَّ كان يتحدث معك لؤي؟
تطلع مهند إلى الخارج من النافذة، ثم أجابه باقتضاب:
_عن اقتراحك القديم.
نظر له في حيرة ليسأله:
_أي اقتراح هذا؟
زفير طويل أطلقه مهند قبل أن يُجيبه في شرود:
_أتتذكر في السنة الأولى حينما اقترحت فكرة شراكتنا بمكتب هندسي بسيط ما إن نتخرج؟
_لقد سخرتما مني آنذاك وأحبطتما آمالي.
أجابه نضال في لوم فقال مهند دون أن يغير من وضعه:
_يبدو أن لؤي صار يُشاطرك الأمل ذاته، إنه يرغب بتنفيذ الفكرة بالفعل.
_وماذا كان ردك؟
ولمَّا سأله نضال في اهتمام رد مهند ساخرًا:
_رفضت بالطبع، جيوبي فارغة، من أين سأحصل على المال كي أشاركه؟
بهذا السؤال المُستخف أنهى الحديث ليستسلم إلى غفوة حتى يصلا إلى البيت، فيما تأرجح عقل نضال بين رغبته بدفع شقيقه في الطريق الصائب، وبين.. فاتنة ما برحت تقحم نفسها في عقله منذ دلف إلى ذلك الحفل!
**********

مُستسلمة تمامًا لغياهب أفكارها جلست بمنتصف الفراش تستند برأسها على ركبتيها وتحاول تهدئة انفعالات يموج بها صدرها منذ ساعات لكنها وصلت إلى ذروتها الآن.
وقبل أن توبخ نفسها طفقت عيناها تذرفان الدموع بلا توقف حتى سقطت صريعة الحزن والندم!
"أتبكين؟!"
السؤال الذاهل الذي اقتحم انفرادها بنفسها لم يجعلها تتظاهر بالتماسك، أو بالتوقف عن فعل ليس هذا بوقته المناسب على الإطلاق، فعلى النقيض تعالى صوت شهقات بكاءها حتى صدح نحيبها في الغرفة المُزينة المُعطرة التي استعدت لاستقبال عروسين سعيدين في الليلة الأولى بحياتهما المشتركة!
_ماذا حدث يا لين؟ لِمَ البكاء؟
بِحدة دفعت يده التي تحاول رفع رأسها، ثم فعلتها بنفسها لِتنتفض خارج الفراش تحدق به في عتاب تزامن مع الغضب بصوتها والهياج بتحركاتها العشوائية في أنحاء الغرفة:
_كيف وافقت أنا؟! وكيف وافقتهم أنت أيضًا؟!
بلا فهم نظر لها فاتسعت عيناها في اتهام صريح قبل أن تقذف به إلى لسانها:
_أم أنك من أوعزت إليهم بالأمر في الأصل؟
وقف أمامها يحاول ترويض انفعالاتها التي اكتسبت شراسة فاجأته، وفي هدوء أمسك بذراعيها متسائلًا:
_أي أمر يا لين؟ وعَمَّن تتحدثين؟
ارتدت إلى الخلف تكز على أسنانها في غل، ثم صاحت بتهكم:
_خالتي، وعمتي، وأنت بالطبع اشتركت معهما في التخطيط، أهذا هو تنفيذ شروطي؟!
دس أصابعه في شعره واقترب منها ثانية، مُصممًا على عدم الانجراف لِغضب غير محمود، وقال في تمهل:
_ألكِ أن تهدئي وتخبريني ما سبب غضبك؟ ماذا حدث كي تُقيمي هذه الثورة؟
عاد بكاؤها أشد ألمًا وأكثر وقسوة، همت بالتحدث لكن غصة حلقها كبحت جماح حروفها لثوان قبل أن تقول في أسى:
_أنت من قمت بطرد طفلي، أليس كذلك؟! أنت من أقنعتهم أن يصطحبوه معهم الليلة.
ثم هدأت نبرتها لِتواصل بأنين متوجع:
_أنا أشعر أن هناك ما فُقِد مني، أشعر وكأنني ناقصة!
وشهقة هجمت على قلبها وصوتها معًا فبترت عبارتها ثم تابعت بصوت يشكو بالعذاب:
_إنه عائلتي، يزن هو كل عائلتي، منذ حملته في رحمي لم ينفصل عني يومًا واحدًا، منذ وضعته لم ينم بعيدًا عني، كانت خالتي دومًا تلقي عليّ باللوم لأنه لا ينام إلا بين ذراعيّ ولم لم أدرِ كيف أخبرها أنني من أحتاج له لا العكس، فلم أستطع تركه ليلة واحدة.
وأردفت باكية:
_إلا هذه الليلة.
في ذهول ظل يرمقها حتى خذلتها قدماها وتهاوت أرضًا تستأنف نحيبها بلا وعي:
_ليتني ما تزوجت! ليتني اصطحبته ووليت هربًا من الجميع! كيف قمت بالتفريط به؟! كيف فعلتها؟!
_كيف فعلتها؟!.. كيف فعلتها؟!
ولا تعلم كم مرة ظلت تكرر عبارتها المستنكرة الأخيرة، ولا سبب صمته الذي ساد الغرفة كأعلى الأصوات منها ساخرة مُتألمة، ولا متى احتوتها ذراعان قويتان في جمود ثم وضعتها في الفراش لتتابع بكاءها كما تشاء.
**********

"إلام تهدف من أفعالك؟"
في ملل رفع ياسر عينيه إلى أعلى مانعًا نفسه بأعجوبة من الرد بما لا يليق احترامًا للرجل الذي دخل لتوه إلى غرفته كي يبدل ملابسه للسفر معه، فرسم ابتسامة صفراء ثم سألها باقتضاب:
_أية أفعال؟
لكنها تخصرت وهتفت في حنق:
_تلك العلاقة المُريبة مع عمي، يوميًا تلتقيان على المقهى أو بالنادي، طيلة الوقت لا يتوقف عن التحدث عنك وكأنك الابن الذي لم يُنجبه، والآن ستُسافران سويًا بينما لم يصطحبنا أنا أو شقيقتيّ للسفر من قبل! لا أرتاح لهذه العلاقة ولا أثق بك.
"سلام!"
وصوت عمها الزاجر الذي وصلهما من غرفته جعلها تصيح في سخط:
_ماذا هناك يا عمي؟ هل أخطأت؟ لقد توسلتك بالصيف الماضي أن نُسافر ليوم واحد إلى أية مدينة ساحلية لكنك لم توافق، واليوم ما إن يطلب منك أن تصحبه إلى شقته لا تتردد! أنت تهدِف إلى معاقبتي، أليس كذلك؟!
ثم تابعت في غضب:
_أخبرني بالحقيقة يا عمي! هل أغراك هذا الرجل بشيء؟ ربما يستغل حُسن عشرتك فيدفعك نحو كارثٍة ما.
هنا ارتفع صوت ياسر وهو يقول في جدية:
_عُذرًا يا أستاذ ضياء سأضطر لإخبارها بالحقيقة قبل أن تتوصل إليها بنفسها!
وعاد ينظر إليها في صرامة قبل أن يتنهد طويلًا ثم تابع مُتظاهرًا بالاستسلام:
_نعم يا آنسة سلام، في الواقع أنا أُدير شبكة دولية تهدف إلى استدراج بعض الأشخاص _منهم عمِّك_ إلى مصائر فاضحة، فهناك بالشقة تنتظرنا جميع أنواع المُنكرات..
سكت ثم نظر إلى نظراتها المرتعبة في تسلية ورفع أصابعه يعد عليها:
_ خمور، مخدرات، ونساء!
اتسعت عيناها في ذهول وندت عنها شهقة ذاهلة لتقول من بين شفتيها:
_أنت.. أنت غير مهذب بالمرة!
ليقترب منها هامسًا في انتقام:
_وأنتِ غير مُؤهلة عقليًا بالمرة!
"توقفا!"
هتف عمها وهو يلج إلى الغرفة فعقد ياسر كفيه خلف ظهره وطأطأ رأسه أرضًا في احترام لترمقه بانشداه، وقبل أن تواصل جدالها معه ضم عمها كتفيها إليه ثم وجه حديثه لها في هدوء:
_لست صغيرًا يا سلام فتوقفي عن مُعاملتي وكأنني ولدكِ، وبدلًا من ذلك فكري فيما طلبت منكِ مليًا حتى أعود من السفر!
والضعف يحل عليها مع إدراكها بأنها تتمادى، ربما تجرح؛
لكنها تعلم أنه سيتفهم ما يعتمل بصدرها؛
وتوقن أنه بآخر المطاف سيُقدر ما تحاول تقديمه قدر استطاعتها!
على الفور تبدلت ملامحها المُتشنجة إلى حزن أثار دهشة ياسر قبل أن يبادر بحمل الحقيبة من مُعلمه ويتقدمه، لكنها سارعت بهتاف مُحذر:
_لن أتركك تخدع عمي، سأقف لك بالمرصاد كي لا تجذبه إلى طريق منحرفٍ ما، لقد ظل الرجل طوال عمره مثالًا للوقار والاحترام ولن أسمح لك بأن تؤذيه!
وبينما فغر عمها فمه دهشة تراقص حاجبا ياسر وقال في صوت خفيض مُفتعلًا التوبيخ:
_أرأيتِ؟! أنتِ الآن من تدسين في عقله الأفكار!
ولمَّا كانت على وشك الرد اختفى هو عن ناظريها بابتسامة مُتحدية ليلحق به عمها بعدما رمقها بنظرة طويلة متوسلة نزعت عنها كل تعبير بالتحفز.
وأسفل البناية ناداه مُعلمه قبل أن يتطلع إليه في ارتياب:
_أنت كنت تمزح مزاحًا ثقيل الظل، أليس كذلك؟
نظر له ياسر مُستفهمًا فتابع في تشكك:
_أعني.. ما قلته بالأعلى بشأن النساء وما إلى ذلك، أنت لست من تلك النوعية من الشباب!
أغلق ياسر باب السيارة الجانبي لينطلق إليه قائلًا في خفوت:
_يا إلهي! أخفض صوتك يا أستاذ!
ثم أضاف وهو يحثه على الركوب:
_ما لي أنا والنساء وما إلى ذلك؟! لو علمت أمي أنني ألقيت دعابة كهذه لأقامت الحداد أسبوعًا كاملًا على تربيتها الضائعة!
رسم الأستاذ ضياء تعبيرًا بسخط غير حقيقي أثناء فتحه باب السيارة، وما إن بدأ ياسر بالقيادة حتى عاجله في تمهل فاض بتسلية:
_لقد تذكرت شيئًا آخر.
توقف إصبع ياسر قبل أن يضغط زر المحرك، وحافظ على نظراته ثابتة أمامه دون أن يتنفس، فتابع مُعلمه وهو يربت على فخذه في قوة:
_المجرور أيضًا لم يفلت من إبداعاتك، أليس كذلك؟!
لم ينبس ياسر ببنت شفة، حتى عقد الأستاذ كفيه خلف رأسه وأغمض عينيه ليُضيف في تشديد:
_هيا قُد السيارة! طريقنا طويل وسنبدأ المراجعة في الحال، خبرني كيف تستطيع التفرقة بين المبتدأ والخبر يا ياسر؟!
**********

خلف باب الغرفة الذي أوصدته ظل واقفًا ربما منذ دقائق لم يحصِها، ما إن يقرر الدخول للمواجهة حتى تسطع صورة نظرتها المُشمئزة في ذهنه فيتراجع..
ثابت هو بمكانه؛
منذ دقائق، أو.. منذ سنوات!
يراها حيث لا تراه، يبث فيها الطمأنينة قبل أن تشعر بالخوف؛
لم ينتظر مُقابلًا.. إلا تلك المرة حينما سمح للتحكم الذي فرضه على نفسه بالانفلات.. فانفلتت بعدها زمام أموره كلها!
"توقف يا ناهل! إياك أن تبدأ بتعذيب قلبك مُجددًا!"
همس بها لنفسه راغبًا في تجديد مدة حبس سعى إليها طويلًا، ربما تبدو للرائي ذكريات وردية حالمة تستدعي التعاطف، لكنها بالنسبة إليه تُعريه أمام نفسه، وتُجدد من شعوره بالغضب والسذاجة!
لكنه الآن أضعف من أي وقت مضى، ومهما حاول لن يُفيده التجاهل، أيستسلم؟!
فليفعل!
منذ سبعة أعوام ونصف:
بنصف ذهن كان يستمع إلى حديث أحد العمال بينما عيناه متعلقة بمكتب الحاج فؤاد ينتظر خروجها كعادتها كل يوم لتُلقي عليه تحية الصباح بابتسامة مهذبة ثم تشرع على الفور في الاستفسار عن مهامها.
أربعة أشهر مرت منذ استلم مهمة تدريبها بناءً على رغبة والدها وحماس جدها الشديد.
في بادئ الأمر ظن أنها مجرد فتاة ثرية مُدللة تريد التخلص من رتابة حياتها اليسيرة ثم لن تلبث أن تكتشف حجم المسؤولية التي هي أكبر من أن تتحملها فتتراجع دون تردد، لكنها أثبتت له أنها بالفعل تريد التعلم، وأنها ليست على تلك الصورة التي حاول تشبيهها بها.
واعتادها؛
اعتاد وجودها يوميًا؛
واعتاد مراقبتها أثناء عملها كي يتأكد أنها لن تخرب شيئًا تحت وطأة ذلك الارتباك الذي يلازمها..
لكن تلك المراقبة اتخذت منحنى آخر دون أن يقصد.. ودون أن يشعر!
لقد صار باستطاعته أن يقسم بإدراكه لكل ما يعتمل بها؛
يعلم إن كانت سعيدة، ويتألم إن كانت حزينة؛
لكن.. ما انتبه له وأثار بنفسه القلق هو شعوره بالوحشة بسبب غيابها منذ يومين عن العمل، وها هي حتى الآن لم تظهر بعد.
تردده دام لدقيقة واحدة، هي ما استغرقه من زمن حتى يجد حجة كي يدخل إلى غرفة مكتب الحاج فؤاد في هذا الوقت..
وبعد دقيقتين أخرتين كللت الخيبة ملامحه حينما أخبره جدها أنها ربما لن تأتي إلى المصنع حتى نهاية الأسبوع بسبب مرضها الشديد المعتاد كل شتاء.
ألم تشعر به بالتأكيد الآن، يشعر هو بمثيله..
لكن هذا الاشتياق لوجودها حوله ما سببه؟
وهذا الخوف الذي يتسلل إليه لماذا يفعل؟
ثم بضع ثوان وقف حائرًا، متوترًا، لدقات قلبه المتسارعة مُدركًا.. ومنها خائفًا!
***
بالأسبوع التالي:
"صباح الخير يا ناهل!"
استدار مُتلهفًا بمجرد سماع صوتها، فوجدها تُكتف ذراعيها بشدة وتلف وشاحًا صوفيًا حول عنقها ونصف وجهها..
دَوَى صوت سقوط قلبه في قدميه وهو يرمقها كمُلثَّمة ظهرت من حيث لا يدري لتسلبه شيئًا لا يملك ما هو أغلى منه، لكن يبدو أنه لن ينتظر حتى تبدأ بتهديده وسيُسلمها إياه بلا احتجاج!
اقتربت منه تسعل، ثم نظرت له في أسف لتبادره ظنًّا منها أنه لا يرد غضبًا من إهمالها:
_أعتذر لغيابي بالأيام السابقة، كنت مريضة بشدة ولم أستطع القيام بأي مجهود.
اقترب منها يدري بحاجته المُلحة للتربيت عليها، لاحتوائها، لضمها تخفيفًا لتعبها الواضح أو.. لِثورة مشاعره!
هز رأسه رفضًا وتجاهل سير انفعالاته، ليسألها في اهتمام حقيقي نابع من حيث ذلك الذي يُعاني اضطرابًا بداخله:
_وهل أنتِ بخير الآن؟
عقدت حاجبيها في توجس بعد أن خيب ظنونها في التقريع المُنتظَر، تقريع نالت منه الكثير من والدها طوال الأسبوع مُلقيًا عليها نعوتًا تنوعت ما بين الغباء والتكاسل والفشل مع تنبؤ شديد الثقة بأن لا أمل بها على الإطلاق، فأجابته مُبتسمة:
_نعم، أفضل حمدًا لله، لقد فاتني الكثير بالطبع، آسفة لأنـ..
بترت عبارتها حينما هزَّ رأسه ثانية ليشير لها تجاه غرفة المكتب الصغيرة قائلًا:
_لا تهتمي يا إيلاف! ولا أهتم أيضًا بما فاتكِ، عليكِ الانتباه لصحتكِ أكثر.
في بلاهة حدَّقت به، فتابع برفق:
_هلا نبدأ؟
***
حاول تلاشي النظر إليها والتركيز في عمله لكنه اكتشف أن الأمر شديد الصعوبة، الإرهاق البادي عليها يخز قلبه فيوشك كل بضع دقائق أن يسألها عما تشعر لكنه يتراجع خشية أن يفضحه توتره.
أيسبب اعتياد المرء على أحدهم هذا الشعور الذي يسكن قلبه؟
أي اعتياد؟ ربما هو الحـ..
لا!
هو لم يُخلق للحب، وإن شاء ربه أن يمر بالتجربة لن تكون هي بطلة قصته؛
كفاه حماقة!
لن تهتم ابنة الملك بالعامل، ولن تحب ابنة الحاكم.. سَقَّاء!
ربما هي مهذبة، طيبة، نقية السريرة، وبريئة للغاية، لكنها لن تقبل بالزواج من موظف بمصنعهم لتوه أنهى دراسته ولا يملك إلا قوت يومه وبعض المدخرات من دخل المحل يخبئها بعيدًا عن عيني والده وزوجته الجديدة حتى يضطر لانفاقها.
كفاه!
كفاه تطلُّعًا إليها وكأنها الحلم! لأنه إن لم يفعل ستبيت كابوسًا يفسد سلامه إلى الأبد!
***
كان يتناقش مع والدها وهو يختلس النظر بين الفينة والأخرى إلى حيث تقف، تتسارع أنفاسه، تجتاحه الحرارة، يستشيط غضبًا مع كل ابتسامة ترتسم على شفتيها أثناء تحدثها مع ابن عمتها، والذي هو بالأصل صديقه وسبب حصوله على وظيفته هنا.
أتحبه؟ لا يعلم..
لكن صديقه لا يحبها وهو متيقن.
ولماذا يهتم؟ ألم يتخذ قرارًا بعدم التفكير بها؟
لكن.. لو أنها تحب هاني لماذا لم يرتبطا رسميًا؟
هو يناسبها، هو يعيش معها بالبيت نفسه!
ربما لا يحبها هاني ولا تشعر هي تجاهه بأي اختلاف، لكن ما شأنه هو؟
ما الفارق الذي يشكله هذا الاستنتاج؟
ولماذا يبدو أنه كلما حاول الابتعاد.. هرول إليها أكثر؟!
***
الأول من نوفمبر عام 2012
كتفت ساعديها وأخذت تراقب سائق سيارة النقل التابعة للمصنع يحاول إصلاح العطل الذي يؤخرهم عن وجهتهم حيث تسليم طلبية ضخمة أصرت هي على الحلول مكان والدها _علَّها تحصل على رضاه_ رغم محاولة ناهل إثناءها وتأجيل الموعد..
الآن وهي تستند على السور الحديدي المُطل على النهر تتمنى لو أنها أطاعت ذلك الأخير، فالبرد ينخر عظامها وقد برزت مسام جلدها، ولولا هذا الكوب الساخن الذي تحتضنه كفاها لبدأت بشرتها في التشقق!
"إلى أين سافرت بعقلك؟"
سألته وقد لاحظت صمته الذي طال منذ ابتاع لها "حُمص الشام" بعد أن اطمأن إلى قرب إصلاح السيارة واستئنافهم الطريق، فأشار بإحدى يديه إلى السطح المائي الذي يتحرك في سرعة نوعًا ما بسبب نشاط الرياح:
_إليه.
ظنت أنه سيكتفي بتلك الإجابة التي لا معنى لها، لكنه تابع في شرود:
_كنت صبيًا في التاسعة، غاضبًا، مكبوتًا، قام أحد زملائي بمناداتي بــ "ابن المزواج"، لم أفهم معنى الكلمة حينئذ، لكنني استشعرت الإهانة بكل وضوح.
اتسعت عيناها في دهشة، فهي المرة الأولى حيث يتطرق إلى أمر عائلي يخصه، ورغم أنها قد علمت بوفاة والدته من هاني فقد ظلت بقية أموره لها غامضة!
_تقاتلنا، تبادلنا السباب، مزقنا زي المدرسة، ثم عدت إلى والدتي أنزف من بضعة أماكن بجسدي.
في فضول منحته كامل تركيزها، لتتبع عيناها ابتسامة حنين لاحت على ثغره حين استطرد:
_كانت بالمطبخ تعد بعض اللحم المشوي الذي أحبه بعدما ادخرت من العائد الشهري للمحل، وما إن رأتني حتى صرخت في هلع، احتضنتني، نظفت جروحي وأحضرت لي ملابس مهندمة، ثم أصرت على أن نخرج سويًا.
تنهيدة طويلة فصلت بين عباراته، ثم تابع:
_طفقنا نسير وهي تحيط كتفي بذراعيها، تتظاهر بأنها تستند عليّ، لكني من كنت أحاول الاحتماء بها من تنمر بدأ ينهال على مسامعي قبل أن أفهم معناه.
طأطأ برأسه أرضًا لثوان ثم زارت السخرية صفاء بسمته فمحتها، ليقول في خفوت سمعته:
_"ماذا تعني كلمة المزواج يا أمي؟"
فغرت شفتيها دون أن تشعر وذهنها يعود بها إلى افتتاحية حديثه، لكنه استطرد موضحًا:
_سألتها في براءة لم تمنعني من ملاحظة شحوب وجهها، ثم قصصت عليها ما حدث، ابتعدت عني بضع خطوات ثم جلست على مقعد.. مثل هذا.
العبارة المُقتضبة الأخيرة قارنت استدارته إلى الخلف وجلوسه على المقعد البارد الذي رفضته فور أن تعطلت السيارة، إلا أنها الآن دون إرادة.. تبعته!
_حينها فقط علمت لماذا لا يعيش أبي معنا، ولماذا لا يسأل عني، وسبب وحدتي أنا ووالدتي.
استكمل في بساطة، ثم التفت إليها ليُردف في تهكم:
_وعلمت معنى كلمة مزواج!
وسكت للحظات ظلت هي تحدق به في هيئة طفل يفقه لأول مرة معنى التخلي، حتى تحدث ثانية بصوت مهتز:
_أظن أنها قد صارحتني حينها بحقيقة وضعنا حتى تتوقف أسئلتي التي لا تنتهي عنه، وحتى لا آمل كثيرًا في مستقبل طبيعي برفقته، لكنها طالبتني بألا أخاف، ثم وعدتني بأن تبقى معي.
ضحكة خافتة ساخرة ختم بها قوله ثم أضاف:
_ليتها ما وعدتني!
والتفت إليها راسمًا مرح زائف ليقول:
_ثم ناولتني اللحم المشوي بعد أن أحضرته في حقيبتها كشطائر، وظللنا سويًا نراقب النهر.
_أنا أغبطك!
قالتها فجأة وهي تمعن النظر به، رمقها بتساؤل فوقفت لتتجه إلى السور ببضع خطوات، وكما فعلت.. تبعها!
_لتوي قصصت عليكِ أكثر ذكرياتي إثارة للتعاطف فتشعرين بالغبطة؟!
فاح الاستنكار من صوته وهو يجاورها بعض الشيء، فهزت كتفيها بينما عيناها تغرق في النهر الذي كان يبدو لها للوهلة الأولى هادئًا.. لكنه الآن يعبر عن عمقه، وغموضه!
_بلا شك!
ألقت ردَّها بلا انتظار، لِثوان اكتفت به ثم ما لبثت أن حسمت ترددها لتتابع في شرود:
_لقد فَضَّلَتك والدتك، فَضَّلَت أن تتحمل لأجلك ذلك الألم، فَضَّلَت أن تبيع سعادتها واستقرارها مقابل تنشئتك سويًا لا تفتقد والدك ولا يؤثر بك تخليه عنك..
وبترت عبارتها لتنظر له ثم أتمتها في حروف مهزوزة رغم هذه الابتسامة التي تخترق صدره بلا رحمة:
_لقد.. اختارتك!
ثم تنهدت وأضافت في مرح:
_ها أنا أمامك، لا أمتلك أية ذكريات خاصة مميزة، لم يُعد لي أحد الشطائر التي أحب، لم يرافقني في نزهة على ضِفاف نهر كي يُرفه عني حال حُزني، لم..
سكتت ثانية ليهزمها الأسى لِوهلة قبل أن تكتمه وتردف في استسلام نالت منه الحيرة:
_لم يخترني أحد!
قالتها مُصطنعة بؤس مُركز _أو هكذا أرادته أن يظن_، ثم اختلست النظر إليه بجانبي عينيها لتختتم شكواها ساكبة المزيد منه:
_لِذا.. أغبطك!
ارتفعت وتيرة رجفته وهو يتطلع إلى هذا النقاء الذي لطالما ميزها بينما تجهل تأثيره السحري على إنكار تشبث به طويلًا، لكن مهلًا.. هو لم يكن يرتجف بالفعل!
إلا أن هناك ما يهرب منه ويبدو أنه على وشك اللحاق به؛
أو.. هو من يهرب من قوة غامضة وفي الحال سيقع في المصيدة!
قوة الآن تواجهه، تُقر بما يرفضه، تهمس بذهنه مُعلنًة ما دأب عن صم أذنيه عنه؛
وجفاف اعتاد على مُعايشته وصل في هذه اللحظة إلى حلقه، لكنه رغمًا عنه ابتسم قائلًا في رفق:
_لتكن هذه هي الذكرى التي تريدين!
نظرت له في تساؤل حقيقي، فتابع والحماس يلقي بقطرات عذبة على قفار تعدت طويلًا على فؤاده:
_هيا نصنع واحدة! هنا.. على ضِفَّة هذا النهر، أنا معكِ، أسمعكِ، وبكل شجاعة أصحبكِ إلى شُطآن لم أرافق أحدًا إليها من قبل، لأنني..
بتر عبارته حائرًا.. خائفًا، كاتمًا أنفاسه دون نية، فشجعته في حماس:
_لأنك؟!
أطلق زفيرًا حارًّا ليتمتم مُبتسمًا في امتثال:
_لأنني أثق بكِ أكثر من أي شخص بهذا العالم!
سحبت عبارته البسيطة منها كل الكلمات لثوانِ وهي تستمع لمُجاملة لم يهتم أي أحد بمنحها إياها من قبل، ضحكت في دهشة ثم حارت قليلًا قبل أن تنظر له ثانية..
_حسنًا! لقد أرضيت غروري يا سيد ناهل، وسأتظاهر بجهلي بإشفاقك عليّ..
قالتها في زهو تظاهرت بأنه مُفتعل، لكن في قرارة نفسها كان يحتلها احتلالًا!
فإن كان هناك خاطرًا لم يرد على عقلها يومًا فسيكون أن تغدو هي لأحدهم بئر أسرار، أو مصدر ثقة!
وفي غمار فخرها كادت تتعثر في حفرة صغيرة لكنها تلافتها بآخر لحظة، إلا أن هتافه باسمها كان عاليًا، والقلق مع الخوف المُتناوبان على وجهه جعلاها تنظر له في دهشة قبل أن تسأله:
_ماذا بك يا ناهل؟!
إجابات عدة ألقت بنفسها على لسانه، لكنه ردَّها جميعها في حزم مُدركًا عدم استطاعته نطقها، ليتفوه بآخر واحدة مُتوقعة بعد أن ازدرد لعابه في صعوبة:
_ظمآن!
ضحكت ثانية في تعجب ثم أشارت إلى الكوب الذي يمسك به، واستدارت إلى السيارة التي صارت على استعداد لأن تقلهم إلى حيث يرغبون..
ولم يع هو إلا أن خلال هذه الدقائق.. قد تغيرت أمور كثيرة!
***

استغرق منه الأمر ما يقرب من خمس سنوات حتى بدأت أموره المادية تتحسن قليلًا بعد إحكامه السيطرة على محل والدته رغمًا عن محاولات زوجة والده التدخل بإدارته، ثم حسم موقفه وانفرد بهاني ذات يوم بعد إنهاء العمل، وبينما كان هذا الأخير يستعد للانصراف إلى البيت تنحنح ناهل ثم بادره في تردد:
_هل أستطيع أن ألقي عليك سؤالًا؟
ضاقت عيناه بتركيز ثم مط شفتيه بلا اهتمام:
_بالطبع، ماذا هناك؟
انعقد لسانه باحثًا عن بداية مناسبة، فأخذت عيناه تدور في جميع الأنحاء، ثم تحدث بصوت خفيض:
_أعتذر إن بدوت وقحًا أو تدخلت فيما لا يعنيني، لكن..
نظر هاني في ساعة يده بضجر ثم استحثه مُتسائلًا:
_أخبرني ماذا تريد قبل أن يرانا أحد عمال المصنع نقف سويًا!
تجاهل ناهل مقصده الذي بات يلمح إليه في الآونة الأخيرة، فرغم أنه من قدم إليه هذه الوظيفة بالأصل منذ سنوات فإنه أمسى يُذكره بالفارق الذي يحول دون معرفة الجميع بصداقتهما التي بدأت بزمالة في الكلية.
_هل.. هل من الممكن أن تراودك رغبة في الارتباط بابنة خالك يومًا؟
ألقى سؤاله وشعر بصفير يكاد يثقب أذنيه، تحاشى النظر إليه فيما سأله هاني دَهِشًا بعد هُنيهة:
_أية واحدة؟
هز ناهل كتفيه ورمقه بابتسامة مرتجفة ليُجيبه:
_إيلاف.
على الفور احتلت نظرة مُستهجنة عيني هاني ليهتف دون تفكير:
_تلك البليدة؟! قطعًا لا، لكن لماذا تسأل؟
الغضب؛
هو ذلك الوحش الذي ينمو بطيئًا في الأعماق، لكن ما إن يكتمل نموه حتى يظهر وجهه القبيح؛
وهو أيضًا الذي يصحو دون تنبيه فينقض على من تسبب بإيقاظه؛
والوحش الآن يأكل صدره أكلًا وهو يراقبه يتحدث عنها بامتعاض، واصفًا إياها بالحماقة وانعدام الفهم وما إلى ذلك..
_توقف يا هاني!
من بين شفتيه خاطبه وبعينيه أمرًا بالخرس، ألحقه بسؤاله في هتاف مُستنكِر:
_كيف تتحدث عن ابنة خالك بهذا الأسلوب؟!
أطلق هاني زفيرًا طويلًا ثم قال في غير اكتراث:
_لم أكذب، أقول الحقيقة التي يعرفها الجميع!
أدار وجهه بعيدًا ونفخ طويلًا في محاولة للسيطرة على انفعاله، ثم نظر إليه في حنق ليقول:
_ليست الحقيقة، ربما لو أمعن الجميع النظر بها قليلًا لوجدوا أنفسهم مُخطئون.
استطاع جذبه من فقاعة اللا مُبالاة، فحدَّق هاني النظر به مليًّا ثم سأله في ترقب:
_لِمَ هذا الحنق من أجلها؟
ارتعش كفا ناهل فخبأهما بجيبي بنطاله ليُجيبه في توتر:
_أنا.. أنا أرغب بالزواج منها.
وحينما تطلع إلى الذهول الذي اعترى ملامحه تابع في بسمة مهزوزة:
_لِذا وجب عليّ سؤالك أولًا قبل أن أطلبها من الحاج جلال، لكن ما دمت لا ترى أية احتمالية للتفكير بها فأظن أن بإمكاني القيام بذلك.
وقت لم يحسبه حال بين طلبه وبين الرد، فقد انتظر طويلًا تعليقًا من صديقه الذي كان يتفحصه بنظراته بملامح غير مقروؤة!
_هل تحدثت معها؟
في صوت مكتوم جاء سؤاله أخيرًا، فهز ناهل رأسه نافيًا ثم أجابه:
_لا! لم أكن لأفعل قبل أن أخبر أي من أهلها..
وسكت هُنيهة ليُضيف في لُطف:
_وأنت أقربهم لي، أنت.. أنت بمثابة شقيقي، أليس كذلك؟!
على الفور تخلص هاني من الوجوم الذي تشبث بتعبيرات وجهه، ثم ضحك في صورة مُبالَغ بها ليُربت على ظهره بقوة ويُعلق:
_بالـ.. بالطبع ناهل!
ثم أضاف في حماسة زرعت الأمل بقلبه:
_أتعلم؟! سأمهد لك الطريق مع خالي، لكن لا تتحدث معها أو مع جدي كي لا تتعقد الأمور! حتى مع مدى حبه لك فربما لن يوافق بسهولة بسبب اختلاف الــ...
عامدًا بتر عبارته الجارحة ليفتعل نظرة آسِفة، ثم قال في بسمة واسعة:
_تبسم قليلًا يا رجل! لم أعلم أنك ستنزعج هكذا.
إيماءة ضعيفة كانت هي كل ما حصل عليه من تعليق، ليدفعه للسير معه ويسأله في اهتمام فائق لم يستشعره:
_ألهذه الدرجة تحبها؟
اضطرب ناهل كثيرًا وفي إصرار أبعد نظراته عنه، لكن هاني لكزه في ذراعه ليُكرر في تصميم:
_قل لي يا ناهل هل تحبها؟ أنا صديقك فتناسى أنني ابن عمتها لِوهلة وأخبرني بالحقيقة!
عندئذٍ لم يجد مفرًّا من التهرب أو الإنكار، فأجاب في خفوت:
_نعم أحبها.
ثم ابتعد سنتيمترات قليلة ليواجهه مستطردًا في رجاء:
_أقسم يا هاني أنني حاولت الهرب والإنكار، حاولت الانتصار على مشاعر ربما ليست من حقي، لكنني لم أستطع مُطلقًا.
لم يُجبه من فوره فقد تسلل إليه شعور بالاستمتاع؛
استمتاع لأنه يكاد يتوسله؛
واستمتاع لأنه _للمرة الأولى_ منذ تعارفهما يمتلك اليد العُليا!
فصداقتهما التي بدأت منذ العام الجامعي الأول بشكل طبيعي، تحولت بمرور الوقت إلى علاقة لا يدري كنهها، يُقر أنه لا يستطيع الاستغناء عنه، فهو المُجتهد، المُكافح، الذي بادر بمساعدته فيما كان يفوته من محاضرات بسبب سفراته الكثيرة..
وهو _أي هاني_ لم يجد ما يمنع من الاستفادة، طالما لا يطلب منه مُقابلًا؛
ومُصادفة جمعته مع جده حينما رافقه إلى المصنع، ليعرض عليه وظيفة خلال إجازته بعدما علم بمسؤولية رعايته والدته المريضة، ليترقى ناهل في العمل، وفي قلب جده أيضًا!
فنظرات الانبهار والاحترام التي كان يرميه بها العجوز وابنه كانت كفيلة بأن يوغر صدره هو تجاه دخيل لم يكن ليحصل على تلك الوظيفة لولاه هو!
وعلى النقيض لم ينفك الجد يوبخه ويزجره لإهماله، أو لعلاقاته، أو لأسلوب حياته كلها!
ولكم كره هذا!
لقد علمهما والداهما أنهما الأفضل، هو وشقيقه ينبغي لهما أن يكونا في القمة، فلا أحد سيخلف الكُردي إلاهما.. فابن خالهما لا يزال صغيرًا وهو بالأصل حفيد خادم لم يجد والدها أو شقيقها حرجًا في أن يُصاهراه مرتين، وابن خالتهما ينبغي إقصائه؛
لِذا بعدما تسبب هو بنفسه في استحواذ الدخيل على ما لا يحق له، فقد استعرت نيران السخط في أحشائه!
ولطالما حاول إطفائها، عن طريق محاولة تأليب خاله عليه فلا يجد النتيجة المرجوة، لأن ذلك الأخير حينما يَزِن حسناته مقابل هفواته يجد الأمر لا يستحق؛
لكنه الآن قد تطاول كثيرًا، ربما إيلاف هي الأقل بين شقيقاتها، شكلًا وجاذبية وفِطنة، لكنها تظل ابنة جلال الكُردي!
حدق به ناهل في قلق ليستعيده من فوهة أفكاره التي طفحت بتقززها على وجهه، لكنه محاها سريعًا ليبتسم قائلًا في ثقة:
_لا عليك يا ناهل! سوف أقوم بكل ما بوسعي.
وقد وعد فأوفى!
***
قام بكل ما بوسعه حقًّا، فالانقلاب المُفاجئ من الحاج جلال في تعامله لم يفهم له سببًا في البداية، لكن حينما خبره هاني أنه قد مُنِح الضوء الأخضر ليُكرر طلبه على مسامع والدها.. قابلته عاصفة!
لم يسخر منه مثلما ظن أنه سيفعل كما شاهد مرارًا في الأفلام التي كان يتابعها في صغره بين أحضان والدته مُكتفيين بأنفسهما ملتحفين ببعضهما؛
لم يجعل منه عبرة أمام الجميع، بل اكتفى بإهانته في صرامة أمام شقيقته وأم صديقه، ثم طرده!
وبعد أسبوع كامل استطاع أخيرًا الالتقاء بصديقه المُقرَّب والذي انشغل بزفاف ابنة خاله الكبرى، لكنه قابل عدو ا لدودًا بدلًا منه؛
عدو لم يدرِ متى اكتسبه ولا لماذا فعل؛
عدو كشف عن وجهه القبيح ونفسه الخبيثة..
"ألم تخبرني أنك أعلمته برغبتي بالزواج من ابنته؟"
"ألم تؤكد لي أن موافقته مضمونة؟"
"لماذا هاج ضدي وكيف اتهمني بخيانة الأمانة؟"
وحينما توافدت أسئلته الدَهِشَة عليه في غضب وحيرة تلقى إجابة ظافرة؛
إجابة تم اختصارها في حلقة فضية حول بنصره تحمل اسم إيلاف، مُتبَعة بعبارة ساخرة، مُزدرية:
"أظننت حقًا أن عائلة الكُردي قد تُصاهر.. سقَّا؟!"
وعلم أن الحفل كان مزدوجًا، فالابنة الكبرى قد تزوجت من خاطبها، والوسطى صارت رسميًا خطيبة ابن عمتها!

وحتى هذه اللحظة يود سؤاله لماذا فعل ذلك؟ فلقد تأكد أنه لم يحبها يومًا، إذن لماذا سرقها طالما لا يُقدِّرها؟
لم يعتد الضعف ولم يستسِغ مذاقه يومًا، لكنه كلما انتوى مواجهته أمام الجميع ألجمته معاملة جده الطيبة فيتراجع..
حتى بعد رحيله وانقطاع الصلات بينه وبين أي شيء متعلق بالعائلة لم يستطع فهم المغزى.
لكن بعد ما يقرب من العامين جاءه الجد بنفسه، ليخبره في بساطة أن الفتاة الوحيدة التي قامت بغزو قلبه دون أن تعلم قد عادت حرة، بل.. ومطلوب منه _إن كانت لا تزال به رغبة_ أن يتزوجها قبل أن تستسلم لمحاولات.. طليقها!
لم يخدعه الرجل، بل وضع أمامه الحقيقة عارية مُخجِلة؛
فحفيده قد حاول خيانتها مع إحدى العاملات بالمصنع استغلالًا لحاجتها المادية، وحينما أصرت إيلاف على الطلاق لم يعتذر أو يُظهر ندمًا، بل _وبكل وقاحة_ نصحها بأن تتعقل لأنها لن تعثر على من يقبل بها!
عندئذٍ جاء دور العجوز للتدخل فساومه على استمراره بالمصنع فلم يتردد في تطليقها!
لكنه انتقامًا من الجميع أشاع أن زواجهما قد تم بالفعل!
والخزي الذي سرد به الرجل الأحداث أوقد البراكين في نفسه، ولم يتحكم بانفجارها سوى طلبه الخجِل بأن يعقد قرانه عليها دون علم أحد من العائلة حتى لا يُفسدوه، وبالمقابل اشترط عليه ناهل ألا يخبرها بمشاعره لأنه يريد أن يفعل بنفسه حالما يكون الوقت مناسبًا.. وقلبها سالمًا!
وكيف له أن يرفض؟
لقد أجبر نفسه على أن ينساها لعامين، حتى إن لمح طيفها ذاكرته تعوذ من الرجيم ليطردها خارج ذهنه..
لكنها الآن حرة.. وستكون له!
وكانت.
اختضاض جسده ترقبًا للقاءها كاد يجعل منه أضحوكة، إلا أنه حينما وصلت أخيرًا إلى ذلك المقهى الذي يطل على النهر _كما تعمد اختياره_ بعيدًا عن عيني عمرو بالمصنع حيث حدد جدها الموعد فاجأته بهيئة ذابلة..
"لا زلت حيًّا إذن!"
بادرته في تهكم فنسى كل العبارات التي حفظها عن ظهر قلب كي يُلقيها على مسامعها، حتى أنه باليوم السابق تصرف كالمراهقين رغم أنه لم يفعلها وهو مراهق بالفعل، فقام بتدوين ما يرغب بقوله دون ترتيب على ورقة صغيرة، لأنه كان مُتيقنًا أنه لو فكر بالتعبير عن مشاعره دون ترتيب سيجبُن!
ورقة بجيب سترته ظل يراجعها قبل أن تصل كمن هو على وشك الخضوع لاختبار، مخطوط عليها ما لم يجد الشجاعة يومًا للبوح به فوقع تحت حكم الندم حتى هذه اللحظة!
"أُحبكِ يا إيلاف!"
"ليتني اعترفت لكِ بما تصرخ به خفقاتي منذ سنوات!"
"طلبت الزواج منكِ من قبل يا إيلاف!"
"ليتني ما آمنته على قلبي!"
"وليتني حذرتكِ منه!"
بشكل ما هو يلوم نفسه على ما تعرضت له، يُقر بمشاركته _دون علم_ فيما يراه الآن، فقد هاله مقدار التحول على هشاشتها، لتعود إليه رغبة بقتل من زاد في إيلامها أثناء غيابه.
وقبل أن يرد بالنذر اليسير منحته نظرة ميتة، نظرة فتاة كانت على وشك الزواج من حبيبها لكنه رواها من الخذلان كؤوسًا، ثم كتف أنفاسها بالخديعة.
وكيف يجزم بأنها أحبته؟ أيسأل حقًّا؟
القهر الموشوم على ملامحها يؤكد أنها أحبته، وتمنته، وإلى الآن ربما لم تتخطاه ولا تصدق خيانته.
_هل أخبرك جدي بما يُشاع عني الآن؟
سألته في غير اهتمام وكأن الموضوع برمته لا يخصها، فازدرد لعابه وتراجع عن موضع دفء رسالته، لتعود يده من منتصف المسافة فيُشبكها مع الأخرى، وفي وجوم رد:
_أخبرني، ولا داع لِذِكر هذا الأمر ثانية.
حملقت به في إمعان لتطفو صورتها التي عهدها على درع حمايتها لِثوان سألته فيها في عِتاب:
_أين كنت يا ناهل؟ لقد بحثت عنك كي أسألك النصيحة فلم أجدك.
مال مُستندًا بذراعيه على الطاولة التي تحول بينهما، ليقول في اعتذار:
_إنها المرة الوحيدة يا إيلاف.
ابتسمت والتمعت عيناها بغلالة دامعة، ثم أشارت في وهن إلى نفسها وعلَّقت ساخرة:
_الوحيدة.. لكنها _كما أحسبك ترى_ قاتلة!
لو بإمكانه أن يُربت عليها!
لو يستطيع أن يضمها قسرًا بين أحضانه!
ولو.. يجد قدرة تساعده في أن تنسى كل المدة التي حُرِم خلالها منها!
ربما.. تساعده الورقة..
هَمَّ بالإعلان عن الحقيقة التي يخجل منها، لكنها أطلقت زفيرًا طويلًا لتوقفه وهي تسأله:
_إذن أسنتزوج سرًا؟
هز رأسه نفيًا ثم قال راغبًا بإقناعها:
_ليس سرًا، لقد خبرت والدي، جدكِ أخبر والدتكِ وشقيقكِ وياسر، لكنه مُصمم ألا يُخبر عمتكِ أماني أو لين أو غفران حتى لا يصل الخبر إلى عمتكِ عزة قبل عقد القران.
فما كان منها إلا أن مطت شفتيها ثم قالت:
_لا أهتم.
وتابعت في ابتسامة غير حقيقية:
_والدتي لطالما تركتني أتلقى الأذى من أبي في صمت، فلأتزوج أنا أيضًا في صمت.
ثم أضافت في نبرة مُحملة بالشماتة:
_وأختاي.. طيفان، مجرد غرفتين بالمنزل، لا تحق لإحداهما مُحاسبتي.
لكن تعبير من القلق مع الأسف تلبس محياها، لتحدق في إصبعها الخالي وتردف:
_أنا أخشى غضب عمتي أماني، ولو يترك لي جدي الخيار لخبرتها، لكنني تعلمت من زلتي السابقة، فقد نصحني مرارًا بألا أوافق على الزواج من هاني فتظاهرت بالقوة للمرة الأولى في حياتي وتشبثت برأيي، وها أنا هنا الآن..
ثم نظرت إليه لتنطق في استهزاء:
_أتزوج في الخفاء من أول رجل عثر عليه جدي كي يُصلح أخطاء غيره!
غفلت عن تسارع أنفاسه، وعن يديه التي تقبضت، لكنها لم تغفل عن نظرة صاعقة لطالما رأتها في غضبه، وعلى الرغم من ذلك فإنها استأنفت في تهكم:
_أنت بالفعل تريد رد الإحسان، ترى أن ستر حفيدته هو الطريقة المُثلى لإظهار العرفان بأفضاله عليك يا ناهل، أليس كذلك؟!
منذ شَبَّ عوده وولت طفولته لم يتجرأ الكثير وتطاول عليه، وإن جُذِب إلى شجار فتيان مُعتاد لم يسمح للخسارة بأن تناله مهما كانت قوة خصمه..
لماذا يشعر الآن أنه تلقَّى الإهانة الأكثر عنفًا على الإطلاق؟!
وكيف يعجز لسانه في سابقة هي الأولى من نوعها عن الرد بما يُعيد له جزءً من كرامته؟!
تصاعد انفعال ساخط بداخله واستعد للرد لكن ما إن وقعت عيناه على هذا الضعف الذي يُعشش باختلاجاتها همدت ثورته دفعة واحدة!
إن كانت تظن أن هذا هو السبب لزواجهما فلربما يحين الوقت قريبًا لتصحيحه؛
هذا هو الأمل الذي صَبَّر به نفسه حتى موعد عقد القران، لكن ما إن اقترب في اشتياق حاول كبح ظهوره كي يُلثم جبهتها كما أشارت له الخالة إكرام حتى همست هي في رجاء:
_لا داعِ للإتيان بما لا ترغب به يا ناهل! ما قدمته لي إلى الآن يفي بالغرض وأكثر!
وكما عاثت فسادًا في قلبه، ها هي قد عاثت فسادًا بذكرى أول تقارب بينهما، فرحل غاضبًا عازمًا على خصامها بضعة أيام حتى يستطيع مواجهتها دون حنق، لكنه علم بما يدور بين زوجة والده وزوج صديقتها واندلع غضبه دون حواجز..
إلا ذلك المحل!
أوصته والدته بالحفاظ عليه كثيرًا، وهو لن يتوانى عن التشبث به بكل قوته، لكن بعد تحذير حاد منه، وجدال عنيد منها، تمسكت بذراعه فدفعها، لتشهد ضده صديقتها وزوجها وآخرين، وفي اليوم التالي وجد نفسه مُتهمًّا بما لم يقم به إطلاقًا..
أليس لهذه الدائرة المحبوس بداخلها من مخرج؟!
***

والآن.. هل ستستمع إلى دفاعه؟
أم أن أي اعتراف سيُدلي به لن يجد الفرصة لإثباته؟
واتته الجرأة ليفتح باب الغرفة مُستعدًا لاتهاماتها الغاضبة، لكنه حمد ربه عندما استمع إلى صوت غطيطها.. فابتسم!
اقترب في هدوء أقرب للمتسللين، تطلع إليها من علو، تستلقي على أحد جانبيها وتضم ركبتيها إلى صدرها كجنين يرفض الخروج..
وسادتها كانت مُبللة.. أو هي غارقة!
مد أنامله يجفف بقايا عبرات عالقة على وجنتيها بعد أن حُفرت سابقتها، وابتسم في ألم..
ألم لا يستطيع تلافيه ما إن تهاجمه ذكرى واحدة.. هي الأشد تعذيبًا، والأكثر تأجيجًا لشعوره بالعجز..
"إنها المرة الثانية خلال هذا الأسبوع حيث تأتين متأخرة، تحججي بأنكِ مريضة أيضًا حتى أخصم لكِ يومًا آخر!"
بادرها حانقًا ما إن دلفت من بوابة المصنع بعد ساعتين كاملتين من موعد حضورها، فتنهدت قبل أن تجيبه في بساطة أثارت استفزازه:
_لست مريضة، لقد أطلت النوم قليلًا وحسب!
ارتفع حاجباه دهشة وسارع بِمد معصمه أمامه ليُطلعها على الساعة، فمطت شفتيها ثم تابعت مُستسلمة:
_حسنًا، أطلته كثيرًا!
تخصر يرمقها في صمت قبل أن يهتف وهو يستدير ليعود إلى الداخل:
_حقًّا أستغرب كيف تستطيعين النوم كل هذه الفترة المتصلة! ستُصابين بقرحة فراش يوم ما!
لحقته بلا تردد وحاولت مواكبة سرعة خطواته، ثم قالت في فخر لا معنى له:
_إنها خطتي الأثيرة للهرب، لم تفشل يومًا!
رماها بنظرة جانبية مستهجنة مُتسائلًا:
_هرب ممَ؟
هزت كتفيها لتجيبه في مرح أدرك من حروفه الأولى أنه مُصطنع.. ربما مقهور:
_من إحدى وصلات التوبيخ، لقد أثرت غضب أبي بالأمس كثيرًا لأنني أبديت رأيي بأمر إحدى الطلبيات، لِذا تلقيت تقريعًا جارحًا أمام الجميع ولولا تدخل جدي لكنت تلقيت صفعة أو اثنتين أيضًا، لكنني _حمدًا لله_ بعد عشر ساعات متصلة من النوم استيقظت مُتخلصة تمامًا من الأثر!
توقف فجأة ينظر لها فيما أحكمت قبضة قاسية على قلبه، ليعي أخيرًا محاولتها الطفولية في إخفاء ذلك الوجع الذي ظلل كلماتها برغم تظاهرها بعدم وجوده!
_لا تتطلع إليّ بهذا الإشفاق يا ناهل! الأمر انتهى ببعض البكاء مع نوم عميق أراه هبة حباني الله بها.
قالتها بنبرة مُحذرة وهي تبتسم بينما عيناها تلتمعان، تلعثم واختفت الردود التي ينبغي عليه نطقها كي يخفف عنها، وقبل أن يأتي بأي تصرف ظهرت إحدى العاملات تهتف بها:
_الحاج جلال يريدكِ يا آنسة إيلاف!
شحب وجهها تلقائيًا لكنها حافظت على تلك الابتسامة ونظرت له تقول في تعبير مُغيظ فيما لم تقو على مواراة تلك الاستغاثة به:
_يبدو أنك ستنتظرني أكثر إذن!
...
لِما يقرب من ربع الساعة ظل واقفًا أمام غرفة والدها، يتغذى القلق على قلبه وهو يسمع من آن لآخر زَعيق الرجل، بينما اختفى صوتها تمامًا..
كاد يدخل بأية حجة لولا أن خرجت هي بغتة، بَيْد أنها فوجئت بوجوده فعمَّ الارتباك خلجاتها وهي تغلق الباب وتسارع برفع ياقة معطفها لأعلى كي تداري وجنتها..
وجنتها التي حملت آثار حمراء لأصابع!
"يا إلهي! ماذا حدث؟!"
سألها في هلع وعيناه لا تحيد عن وجهها الذي تمازجت آثار دموعها مع بصمات الأذى الذي تلقته لتوها..
فما كان منها إلا أن ابتسمت أيضًا لترد في صوت مبحوح:
_كما ترى.. جدي ليس هنا الآن كي يهب لإنقاذي، لِذا..
ولم تهتم بإتمام عبارتها بعد أن وصل المعنى واضحًا، وبقى هو مُتخشبًا لا يعلم أية ردة فعل عليه أن يُظهِر..
لماذا لا يستطيع اختصار الأمر وإخفائها بين ذراعيه فلا تمتد أي يد لها بالأذى؟!
_دع عنك ملامح الصدمة هذه يا ناهل! سيستغرق الأمر ساعات مُضاعَفة من النوم، ولو طالت قلبك شفقة لن تخصم لي هذه المرة أيضًا!
قالتها تستنفد آخر قدر لديها من تمثيل اللا مُبالاة..
قالتها وهي تبتعد عنه تاركة صوت شهقات بكائها التي انتصرت عليها أخيرًا تتردد في أذنيه، وتطعن قلبه.
مال بجذعه يشبع من ملامحها عن قُرب، يعلم أنه ربما لو صرخ الآن بجوارها لن تسمعه بينما ارتحلت إلى غيبوبة تُجنبها بعض العذاب بعد أن أخرست نفسها عن عمد منذ سمعت كلمات زوجة والده بمعناها المُقزز المُختلف كُليًّا عن الحقيقة، أسدل أهدابه ثم دنا منها أكثر يطبع قبلات حنونة خفيفة على وجنتها، مُبتسمًا وكأنها المرة الأولى حيث رآها بالمصنع..
ألا يستطيع البدء معها منذ ذلك اليوم؟
أطرق برأسه أرضًا في يأس ثم استقام ليتراجع، أطفأ الضوء وخرج ليتركها تنعم بنومها وقد وفرت عليه المواجهة، مُتحسرًا على تصور مُختلف تمامًا لهذه الليلة!
**********

تمكن منها الإنهاك تمامًا حتى لم تعد تقوى على تحريك أطرافها، أيقنت أنها ربما تمادت بعض الشيء في صب جام غضبها عليه حينما وقفت عاجزة أمام خالتها وهي تأخذ طفلها منها دون سؤالها رأيها، فقد ظنت كما الجميع أن من البديهي ألا يقضي الطفل هذه الليلة مع أمه.
ومن بين البكاء انفلتت ضحكة من شفتيها، اختلطت بدموع اشتياقها لوحيدها، وامتزجت بالنقمة على من أخل بأحد شرطيها..
تُرى هل يهاتف أهلها فردًا فردًا ليشكو لهم سوء تصرف ابنتهم أو انعدام تفكيرها؟
أم.. ربما ترك لها البيت ليسهر بأحد الملاهي الليلية ليحاول إنقاذ ما تبقى من أحلامه لليلة أحلامه؟!
ألم يصبح عماد يفعلها؟ فيم سيختلف هو؟
هزة من رأسها أجابت عن سؤالها دون إذنها، هو لا يفعل، بالتأكيد لا يفعل، ولا تدري لماذا تمنحه الثقة، لكنها لا تتخيله يطلق عنان بصره فيما لا يحل له، أو يتفاخر بما يستطيعه من مجون!
"ماما!"
تباطأت نبضات قلبها لثوان قبل أن تقفز خارج الفراش متخلصة بلا تفسير من تيبسها؛
تهذي، بالطبع تهذي، أو هو اشتياقها إليه يُهيئ لها سماع صوته!
لكن ما إن صارت خارج غرفتها حتى اندفعت الدماء بأوردتها فارتجف جسدها في انفعال وهي تتطلع إلى صغيرها يفتح ذراعيه لها مناديًا بينما يحمله هارون على ذراعه اليسرى فيما علق حقيبة أغراضه الملونة على كتفه اليمنى..
"يزن!"
همست بها بذهول قبل أن تكررها مرات ومرات ثم اختطفته لتنهال قبلاتها عليه حبًا واشتياقًا واعتذارًا، واستغل هو استغراقها في استقبال طفلها ليتأملها على مهل؛
لا يتأمل لين العروس.. بل لين الأم!
وهذا الذي يندلع بصدره لا يستطيع تفسيره سوى أنه شعور بالغبطة والامتنان لِلحكمة الربانية، فلا يتصور أن هناك شخصًا آخر على هذه الأرض بإمكانه الإغداق بكل هذا الحنان على الصغير مثل هذه المرأة..
والتي _ربما من حسن حظه_ قد صارت زوجته.
أطلق تنهيدة طويلة وازت ابتسامة حقيقية وهو يمر جوارها إلى غرفتهما، تاركًا لها المساحة الكافية والوقت الذي ترغب به كي يرتاح قلبها بقرب ابنها، مُستسلمًا وراضيًا بتأجيل أحلامه إلى حين آخر!
...
بعد أن جعله الأرق لعبة بين يديه لنصف ساعة أو أكثر أخيرًا مَلَّه ومنحه الفرصة للفوز بالنوم فاستكان في ظلام الغرفة على الفراش الواسع الناعم مكتفيًا باحتضان الوسادة بدلًا من فارسة الزمن التي بالتأكيد سبقته إلى النوم أسرع إلى جوار يزن.
لكن.. اشتعال الضوء المفاجئ جعله يعتدل في الفراش سريعًا ويلقي بالوسادة بعيدًا في نفي تهمة بالتصرف كالمراهقات، ليرمقها بتعجب تقف صامتة لدى الباب بعد أن أغلقته.
_ماذا هناك يا لين؟
سألها بتوجس فاقتربت من الفراش حتى جلست أمامه لتخاطبه مستفهمة في حيرة:
_لماذا أحضرته؟
عقد حاجبيه في دهشة ثم علَّق باستنكار:
_ألم تنهاري بكاءً لأنه لم يكن معكِ؟!
حبست خصلة من شعرها خلف أذنها وأجابته في ترقب:
_بلى، لكنني لم أعنِ هذا، إنما.. أعني هل أحضرته لهذا السبب فقط؟
أطرق برأسه لوهلة ثم رد ببساطة:
_لا، لقد فكرت أنه ربما يكون أكثر منكِ انهيارًا.
ثم نظر إليها متابعًا وهو يحاول التقليل من حدة عتابه:
_لم أتفق مع أحد على قضائه الليلة بعيدًا عنكِ يا لين، أنا رجل أحترم وعودي وأنفذها حتى إن لم توافق أهوائي.
توترت نظراتها ونظرت له بتوجس، لكنه ابتسم يطمئنها مردفًا في حنو:
_ووجود يزن يتوافق تمامًا مع أهوائي، لقد أحببته قبل أن أعرف أن بإمكاني الزواج بكِ.
أطلقت أنفاسها التي قيدتها بصدرها دون أن تلاحظ، ثم تنحنحت لتقول في حرج:
_أعتذر يا هارون، لم أتحمل انفصاله عني لليلة واحدة، ظننت أن.. ظننت أنك ستبدأ برفضه بدءً من الآن لذا تجاوزت كثيرًا باتهامك.
فامتدت كفه تحط على كفها الدافئة مُتمتمًا في نبرة مازحة ومتأملًا ملامحها في تدقيق:
_ستكونين حماة مزعجة كثيرًا!
تطلعت إليه وإلى الصدق والوضوح المميزين لتعبيراته، ثم علَّقت عن اقتناع تام:
_وأنت ستكون أبًا حنونًا كثيرًا.
قربها بعطرها المثير مع جمالها الذي يؤثر به دون جهد وشعوره بأنها تتخلى عن حذرها معه تدريجيًا منحوه ترقبًا مؤلمًا، فقال بعد ثوانِ من التردد مُتمنيًا ألا تنفذ:
_عودي إليه حتى لا يبكي!
حدَّقت فيه بإمعان لتكتشف أنها لم تهتم بفعل هذا من قبل، لكنه الآن زوجها، ويحل لها أن تُطيل النظر به كما تشاء!
ربما تعبر ملامحه عن بعض من الجمود بالإضافة إلى أرستقراطية تناقضت مع الحنان المُنبثق من عينيه السوداوتين، لكنه في صورة مُجملة بالفعل بَهي الطلة كما وصفه عقلها من قبل، جذاب الشكل.. كما الشخصية!
_لقد نام.
في خفوت جاء ردها وهي لا تزال تتطلع إليه بنظرات دارسة مُتمعنة ازدادت عُمقًا فور إدراكه أنها لن تنفذ بالفعل، لكنه آثر التأكد قبل أن يخيفها بِمدى حاجته إليها، فقال ببطء بينما أنامله تتسلل على شعرها النحاسي فيوشك على فقد التحكم بنفسه:
_ربما يستيقظ ويكتشف عدم وجودكِ معه فيبكى.
هذا الرجل تائق إليها بلا شك؛
هذا الرجل يصرخ ليمنحها اهتمامًا تحتاجه؛ ويستحق اهتمامًا يليق به!
أغمضت عينيها تستشعر دفء أصابعه ثم هزت كتفيها وابتسمت لتنظر إليه ثانية وتُجيبه بلا تردد:
_لا يستيقظ إلا صباحًا.
حوار مسموع يدور بكلماتهما يحمل معنى، وحوار آخر يندفع بنظراتهما يصرخ بمعنى مغاير تمامًا..
هو لا يريدها أن تتركه؛
وهي أيضًا لم تعد تريد أن تتركه؛
وحان دوره هو للقيام بالخطوة الأخيرة!
_يكفيني إذن إلى هذا الحد!
نطق بها في حرارة وهو يدفعها إلى الخلف قاصدًا قطف رِقَّة ابتسامتها لنفسه، فهمست باسمه بخجل أجهز عليه تمامًا وبدأ في متابعة حوارهما الثاني بالمزيد من الشغف والاستفاضة وكل ما يفقه من تعبير.. حتى تسلل نور الصباح بينما تتشبث بذراعيه وتتنعم بإحساس جديد من الأمان.. والحماية.



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close