رواية سليم والمراهقة الفصل السادس عشر 16 بقلم خضراء القحطاني
البارت السادس عشر _سليم والمراهقة _
كان سليم لسه بيستعيد وعيه، وابتسامته الضع*يفة مطمّنة الكل حواليه.
سلسبيل قاعدة جنبه، وإيدها في إيده، مش مصدقة إنها بتشوفه صاحي قدامها بعد كل اللي حصل.
رشيد دخل الغرفة مبتسم وهو يقول:الحمد لله، رجعت لنا يا بطل.
لكن الباب اتفتح تاني فجأة،
بس وراه بنت خجولة منتقبة، واقفة بخطوات هادية وراسها لتحت.
الجميع اتلفت ناحيتهم باندهاش.
رشيد قال بحدة خفيفة: هو في إيه يا أيهم؟ مين دي؟
أيهم تنحنح، وبص لسليم بابتسامة:أظن الوقت مناسب أقولكم أنا اتجوزت.
سكت الكل لحظة.
سلسبيل شهقت بخفة، وسليم رفع حاجبه
بض*عف: اتجوزت! من غير ما تقول لحد؟
ضحك أيهم وقال وهو يلمس كتف سليم بحنية: كنت ناوي أقولك يا سليم، بس كنت في غي*بوبة يا غالي.
ثم نظر للبنت وقال بهدوء وفخر:دي مراتي مريم.
مريم رفعت يدها بخجل وسلّمت على رشيد وابتسمت لسلسبيل من تحت النقاب،
صوتها كان ناعم ومرتبك وهي تقول: شرف ليا أتعرف بحضراتكم.
سلسبيل قامت بسرعة، حضنتها بخفة وقالت وهي تضحك: مبروك يا أيهم! والله ما كنت أتخيل اليوم ده أبداً.
أيهم ابتسم وهو ينظر لسليم: وكنت عايز أجيلك أول واحد أباركلك برجوعك، وأقولك إن ربنا بيبدّل الح*زن فرح، لو قلبنا صادق.
سليم نظر له نظرة مزيج بين الدهشة والإعجاب، وقال بصوت واهي:حتى وانت متجوز، لسه بتتكلم حكم يا شيخ أيهم.
ضحكوا كلهم، والجو اتبدّل فجأة من كآب*ة لدفء.
سلسبيل بصّت لسليم بخفة وقالت وهي تمسح دموعها:شايف؟ ربنا بيرزق الناس في وقت ما حدش يتوقع.
سليم ابتسم بخفة وقال بصوت مبحوح:يمكن الدور عليّا المرة الجاية ضحكت سلسبيل واحمر وشّها.
وأيهم قال بابتسامة هادئة: هو ده اللي كنت بدعيلك بيه من زمان يا سليم، ربنا يجمعك باللي تستاهلك.
اللحظة كانت مليانة نور وسكون،
كأن ربنا أرسل الخبر ده عشان يداوي الكل في نفس اللحظة ج*راح سليم، خ*وف سلسبيل، وح*زن البيت اللي عاش على أعصابه أيام طويلة.
كانت الغرفة هادئة، والإضاءة خافتة، وسليم قاعد على الكرسي جنب السرير، بيبص في وش سلسبيل وهي نايمة على الكنبة الصغيرة، تع*ب الأيام ظاهر على ملامحها.
قرب منها بهدوء، همس: كنتي هتسبيني لو ما فقتش، صح؟
فتحت عينيها على صوته، نظرت له بارتباك وقالت بخفوت: كنت بدعيلك كل يوم.
ابتسم سليم بخفة وقال: الدعوة وصلت، بس تأخرت شوية.
جلست سلسبيل وهي بتعدل خصلات شعرها
وقالت: كنت خ*ايفة عليك
وأنا كنت خ*ايف عليكي، أكتر من نفسي.
نبرته كانت صريحة، غريبة عليها، مش نفس الصوت الح*اد اللي متعودة عليه.
نظرت له بتردد وقالت: ليه اخترتني يا سليم؟ ليه أنا؟
سكت لحظة، عينيه فيها تع*ب، وقال: لأنك النور الوحيد اللي دخل حياتي المظ*لمة كنت محتاجك، حتى لو مش عايز أعترف.
سكتت سلسبيل، قلبها بيخبط بشدة.
قرب منها ومد يده ولمس شعرها برفق وقال بصوت خافت: وعد مش هسمح لحد يقرب منك تاني.
اللحظة كانت صافية لدرجة إنها خلتها تنسى كل خ*وفها.
كانت هترد، بس هو قال فجأة بابتسامة باهتة: بس لازم ترتاحي شوية الأيام الجاية مش سهلة.
سكتت وهي حاسة إن في حاجة جوة صوته مش مريحة كأنه ورا الابتسامة دي في ج*رح لسه بيسيل.
في نفس اللحظة بمكان مجهول على أطراف القاهرة.
مستودع قديم، جدرانه متشققة، والهواء مليان برائحة الحديد والب*ارود.
فارس واقف، عضلاته مشدودة وملابسه ملطخة بالغبار والد*م، وصوته هادي لكنه م*رعب: آخر مرة بسألك، مين اللي أمر يض*رب سليم الجندي؟
المتهم مربوط في الكرسي، وجهه مت*ورم، والد*م بينزل من أنفه.
يرفع راسه بصعوبة ويقول:ماعرفش أنا بس كنت موصل الرسالة.
قبل ما يكمل، فراس ض*ربه بلكمة قوية في وشه وقال بحدة:الرسالة دي خلت الراجل بين الحياة والمو*ت، هتتكلم ولا نكمّلك إحنا؟
فارس أشار بإيده لفراس يوقف، قرب بنفسه للراجل وقال بصوت هادي لكنه يق*طّع القلب: اللي يمس سليم الجندي، كأنه مس أخويا.
ثم أخرج س*لاحه ووضعه على الطاولة وقال: قدامك دقيقتين بس قبل ما أسيب فراس يتصرف.
الراجل بدأ ين*هار، صوته يرتعش:اسمه نادر نادر الدهشان هو اللي دفع الفلوس هو اللي أمر!
فارس رفع نظره لفراس، والاتنين تبادلوا نظرة صامتة مليانة غضب.
قال فراس ببطء: اللعبة ابتدت.
ورد فارس ببرود قات*ل: لأ دي نهايت*هم اللي ابتدت دلوقتي.
بعد أيام من الصمت المليان توتر، وبعد ما عرف سليم من فارس وفراس إن نادر الدهشان هو السبب ورا محاولة اغ*تياله، قرر إنه يهدّي أعصابه شوية، أو بالأحرى يخدع نفسه بالهدوء قبل ما يبدأ حرب جديدة.
اقترح أيهم، بابتسامته الهادية المعتادة: يا سليم، خد سلسبيل وسافروا شوية حتى أسبوع واحد النفس محتاجة تروق، والعقل ما يعرفش يفكر في الح*رب وهو تعب*ان.
بصّله سليم وقال ببرود ظاهري يخفي تعب عميق: وأنا هسيب الدنيا تول*ع؟
رد أيهم وهو بيحط إيده على كتفه: الن*ار هتفضل موجودة، بس لو دخلتها وانت مجهد، هت*تحرق. اسمع كلامي يا صاحبي.
كانت مريم قاعدة بجانب سلسبيل، وشجعتها بابتسامة
رقيقة: سافري يا سلسبيل دي أول مرة تخرجي من الدوامة دي كلها، خديها راحة، لنفسك، مش علشانه بس.
وبالفعل، بعدها بيومين، كانت الطيارة بتقلع من مطار القاهرة.
سليم جالس بجانب سلسبيل في المقعد الجانبي، وهي متمسكة بذراع الكرسي وعينيها على النافذة.
قال لها بخفة: أول مرة تركبي طيارة؟
هزت راسها بالإيجاب وقالت بخ*وف واضح: أول مرة أخرج برا القاهرة أصلًا.
ضحك سليم وقال: يبقى هنبدأ من هنا كل حاجة جديدة ليكي، تبقى أنا السبب فيها.
أيهم ومريم كانوا في المقاعد القريبة، يتهامسون بهدوء.
مريم تبص لسليم وتقول:يمكن السفر ده هو اللي هيلم شتاتهم من تاني.
فيرد أيهم وهو بيبص ناحيتهم: يا رب، هو محتاج السلام أكتر من أي حد.
بعد ساعات وصلوا لمكان ساحلي في الجونة، البحر أزرق هادي، والفندق فخم لكن بعيد عن الزحمة.
سلسبيل كانت واقفة على البلكونة، شعرها بيتطاير من الهوا، وهي بتبص للموج.
دخل سليم ووقف وراها، بصوت واطي قال:البحر شبهك هادي من فوق، عميق من جوّه.
استدارت له، ابتسمت بخجل وقالت: وإنت شبه الموج ما يسيبش حاجة فحاله.
ضحك بخفة وقال: يمكن عشان بحب كل اللي بيتحدى سكوني.
قرب منها بهدوء، لمس وشها وقال: سلسبيل وعد، لو الأيام خدتنا في دوامة، تفضلي جنبي.
نظرت له بعينين فيها خ*وف وصدق:لو خ*دتني الأيام منك هتعرف ترجعني؟
سكت لحظة وقال: أنا ما بسيبش حاجة أحبها تضيع.
في نفس الوقت، في جناح أيهم ومريم كانت مريم بتحضر له شاي بالنعناع، وقالت له بابتسامة
بسيطة: شايف؟ يمكن السفر ده يبقى بداية خير ليهم.
رد أيهم وهو يقرأ في مصحف صغير: الخير دايمًا بيبدأ بالنية الطيبة، بس سليم لسه قلبه م*وجوع ربنا يهديه ويثبّت خطاه.
وبينما الجو كله راحة وهدوء، كان فارس بيستلم مكالمة على هاتفه في القاهرة صوت غامض قال له: نادر الدهشان عرف إن سليم عايش وقال كلمته:المرة دي مش هيقوم تاني.
فارس مسك الهاتف بقوة، وقال بنبرة حازمة: لو قرب منه، هتبقى ح*رب ما يشوفش آخرها.
كانت ريم واقفة قدام المِرآة، ترتّب طرحتها بإيدين بترتعش قلبها بيدق بسرعة غريبة، ووشها أحمر كأن الن*ار مسّته.
كانت الليلة خطوبتها ليلة ما صدّقتش إنها هتحصل أصلًا.
رفيقتها كانت معاها، بتضحك وتهزر تحاول تهوّن عليها التوتر: يا بنتي، هو مش هياكلك!
ردت ريم بخجل وهي تحاول تبتسم: مش عارفة أتعامل كل الناس بتبصلي، وحسّاني غريبة عن المكان.
كان الصالون مزين ببساطة، ورد أبيض على الطاولات، وشموع خفيفة مضيّة الأجواء.
شهاب الدسوقي، المدرس الجامعي الهادئ، كان واقف بيتكلم مع والدها بخطوات واثقة، بس عيونه كل شوية تسرق نظرة لريم، بنظرة فيها احترام ودفء واضح.
ولما نادى عليها والدها بصوت مليان فخر: ريم يا بنتي، تعالى سلمي على خطيبك.
حست كأن الأرض بتلف بيها، مشت بخطوات بطيئة، راسها منحني، مش قادرة تبصله.
وقف شهاب قدامها وقال بنبرة هادية مليانة أدب:مبروك يا ريم ربنا يجعلها بداية خير.
رفعت راسها بصعوبة، لمحت عيونه، فحست بحاجة غريبة جواها مش خوف، بس طمأنينة ناعمة كانت بتطغى على توترها.
مدّ إيده علشان يصافحها، فترددت لحظة، وبعدين مدت إيدها وهي بتبص في الأرض.
الله يبارك فيك، قالتها بصوت واطي جدًا.
الناس صفقوا، والموسيقى بدأت، وأبوها كان بيضحك، واضح عليه الرضا.
بس ريم كانت سرحانة، بتحاول تفهم إحساسها ليه قلبها مش بيرفض المرة دي؟ ليه حسّت إن نظرة شهاب مش زَيّ الباقيين؟
جلس شهاب جنبها بعد قليل، قال بهدوء يخفي اهتمامه: عارف إنك متوترة، بس خدي وقتك أنا مش مستعجل على حاجة أهم حاجة تكوني مرتاحة.
اتسعت عيناها بدهشة، لأول مرة حدّ يقولها كلمة مرتاحه ويقصدها بصدق.
ابتسمت بخجل وقالت:شكراً أنا بس مش متعودة على كده.
قال وهو ينظر للسقف كأنه بيهرب من عينيها: ولا أنا متعود على الخوف اللي شايفه في عينيك بس هتعلمي مع الوقت إن مش كل القلوب بت*وجع.
سكتت ريم، ودمعة صغيرة نزلت من غير ما تحس، مسحتها بسرعة وهي بتضحك بخفة علشان محدش يشوف.
بس شهاب لاحظ، وقال في نفسه بهدوء:الوعد الأول عمري ما هخليكي تبكي لوحدك تاني.
بعد ما انتهى الحفل، وراح الضيوف واحد ورا التاني، جلست ريم على سريرها، فستانها لسه عليها، بس طرحتها كانت مرمية على الكرسي.
كانت بتبص في الفراغ، مش عارفة إذا كانت مبسوطة ولا خايفة أكتر من الأول.
دخلت عليها صاحبتها ملك بابتسامة واسعة وهي شايلة صينية عصير: يا عروسة! وشك كان منوّر القاعة كلها.
ضحكت ريم بخجل وهي تقول: من الخ*وف يمكن، مش من النور.
جلست ملك جنبها وقالت: لأ، النهاردة كنتي مختلفة أول مرة أشوف فيكي الهدوء ده حتى لما كلمك شهاب، ملامحك كانت ساكنة كأنك مطمنة.
سكتت ريم شوية، وبصت ليدها اللي كان فيها الدبلة، وقالت بهمس: معرفش يمكن علشان كلامه.
قالك إيه؟
قال أنا مش مستعجل خدي وقتك الكلمة دي خلتني أحس بحاجة غريبة كأنه مش عايز ياخد مني حاجة، بالعكس، كأنه بيحميني.
ملك ابتسمت وقالت: شكله راجل كويس، يا ريم. يمكن ربنا عوّضك.
أخفضت ريم رأسها وقالت: يمكن بس الخ*وف لسه جوايا، مش عايزة أتعلق وأت*وجع تاني.
رنّ جوالها فجأة، نظرت للشاشة فت*جمدت ملامحها شهاب الدسوقي يتصل بكِ.
بصت لملك بارتباك، فقالت الأخيرة بحماس: ردي! مش معقول تسيبيه يتصل أول مرة وما ترديش.
رفعت ريم الهاتف لأذنها بصوت مرتعش: ألو.
جاء صوته هادئًا، دافئًا كنسمة ليلية: وصلتِ البيت؟
أيوه، الحمد لله.
كنت عايز أقولك حاجة قبل ما اليوم يخلص.
اتفضل.
أنا مش عايز أكون مجرد اسم في ورقة خطوبة نفسي أكون راحة ليكي، ومكان أمانك. مش لازم تردي دلوقتي، بس حبيت أقولها.
صمتت ريم لحظات، تحاول تمسك أنفاسها اللي اختلطت بخفقان قلبها، ثم قالت بخفوت: شكراً يمكن دي أول مرة أحس إن في حد بيحاول يفهمني.
ضحك بخفة وقال: وأنا عندي صبر طويل جدًا، يا ريم تصبحين على خير.
وأنت من أهله.
أغلقت الخط وهي تشعر بشيء دافئ بين ضلوعها لأول مرة منذ سنين، حسّت إن الليل مش مخيف كعادته، وإن في صوت رجولي محترم قدر يطفّي جزء من خ*وفها القديم.
نامت ريم وابتسامتها صغيرة، لكنها صادقة.
كانت ريم تمشي بخطوات متوترة في ممرات الجامعة، تشعر بأن كل العيون عليها.
منذ إعلان خطوبتها للدكتور شهاب الدسوقي، صارت الهمسات تلاحقها:معقولة؟ الدكتور شهاب خطب طالبة؟
ده بي*موت فيها من أول ما دخلت الكلية!
كانت تحاول تتجاهلهم، رأسها منخفض ووجهها محمر، حتى سمعت صوتًا مألوفًا يقول بنبرة حازمة لكنها هادئة:ريم!
توقفت في مكانها، التفتت، فوجدته قادمًا بخطوات ثابتة، يحمل في يده ملفًا، وملامحه جادة كالعادة.
ارتبكت وقالت بخجل: دكتور شهاب.
قلتلك بلاش دكتور.
آسفة عادتك معايا في القاعة.
وأنا قلتلك خلاص، إحنا خارج القاعة مش طلبة ودكاترة.
لاحظ نظرات بعض الشبان الواقفين قريبًا، أحدهم كان يضحك وهو يرمق ريم بجرأة، فاشتعلت ملامح شهاب دون أن يتكلم، اقترب منها أكثر بخطوة جعلت الشاب يصرف بصره فورًا.
قال بنبرة خافتة لكن ح*ادة: ما تحبيش تمشي لوحدك كده، خصوصًا وقت الزحمة.
نظرت له بدهشة وقالت:هو في مشكلة؟
لا، بس مش بحب حد يبصلك بالشكل ده.
كلماته خرجت عفوية، أقرب إلى اعتراف خفي، جعلت وجهها يحمرّ أكثر، فخفضت نظرها وهمست: إحنا لسه ما نعرفش بعض كويس يا شهاب.
وده اللي أنا ناوي أغيّره.
سار بجانبها حتى وصلوا إلى الكافيتريا، جلسا على طاولة جانبية، وهي تشعر أن كل نبضة في صدرها مسموعة.
مدّ لها كوب العصير وقال بابتسامة خفيفة: متقلقيش، مش هأكلك.
ضحكت بخجل:شكلك وانت غاضب يخوف أصلًا.
الغيرة بتخليني أفقد أعصابي أحيانًا.
غيرة؟
أيوه، غيرة مش ناوي أخفيها لما أشوف حد بيحاول يقرّب منك، بحس نار بتشتعل جوايا.
بصت له بدهشة، ثم قالت بخفوت: بس أنا مش عملت حاجة تغضبك.
عارف وأنا مش زعلان منك بس خديها وعد مني، طول ما أنا موجود، محدش هيقدر يؤذيك أو يقرب منك بكلمة.
سكتت ريم، وفي قلبها خليط من الخوف والأمان.
كان كلامه فيه قسوة، لكنه في نفس الوقت طمأنها بشكل غريب.
رفع بصره نحوها وقال: على فكرة، بكره عندي محاضرة خفيفة الصبح وبعدها ممكن أستناك برا، نخرج نتكلم شوية، بس من غير خوف ولا توتر.
هشوف.
لا، شوفي بسرعة مش عايز أسباب للهروب المرة دي.
ضحكت بخفة، فابتسم هو أخيرًا، وبدت ملامحه أكثر دفئًا مما رأته من قبل.
كانت كريمة قاعدة في البلكونة القديمة، نفس المكان اللي كانت بتقضي فيه لياليها تبكي على حالها،
لكن المرة دي الوضع اختلف الهوى داخل ومعاه ريحة قهوة، ومحروس جاي من المطبخ شايل الفنجانين بنفسه.
قال بابتسامة خفيفة وهو بيقرب منها: لسه بتحبي القهوة على ريحتها زي زمان؟
رفعت عينيها له بتردد، وقالت بنبرة فيها دفء
خفيف: على ريحتها بس، الطعم بقى مرّ زي الحياة.
ضحك وقال:يمكن لو شربتيها معايا تبقى أحلى.
حط الفنجان قدامها وقعد قصادها، نظرها ليه كان فيه حيرة الراجل اللي قدامها هو نفس اللي ك*سرها زمان، نفس اللي خلى ولادها يبعدوا عنها،
بس في ملامحه دلوقتي في حاجة مختلفة حنية مش معتادة.
قال وهو بيتنهد: كريمة أنا غلطت، كتير.
سكت لحظة، وكمل: بس كنت فاكر إن الرجولة إن الواحد يفرض كلمته، وإن الست لو كانت طيبة لازم تت*قهر.
وافتكرت إمتى إنك غل*طان؟
لما شوفتك بتتعبي لوحدك، وبتواجهي كل حاجة من غير ما تشتكي.
افتكرت لما خس*رّتني ضنايا؟
أيوه حسام نفسه قالي، يا بابا، أمي ما تستاهلش اللي عملناه فيها.
الدموع لمعت في عينيها، لكنها خبّتها بابتسامة بسيطة
وقالت: الدنيا بتدور يا محروس، بس مش دايمًا بتصلّح اللي بوّظت*ه.
يمكن مش تصلّح، بس ممكن نبدأ من جديد.
سكتوا شوية، والهدوء كان جميل صوت العصافير والهوى، وكأن الزمن رجعهم لأول أيام زواجهم لما كانوا بيضحكوا على أتفه سبب.
مد يده وقال بخجل:تسمحيلي نبدأ من الأول يا كريمة؟
الأول؟
أيوه أنا اللي هطبخ النهارده، وإنتي ترتاحي.
ضحكت بصوت عالي لأول مرة من سنين، وقالت:ده لو الأكل ماولعش في المطبخ.
لو ولّ*ع، نطفيه سوا المهم متسيبينيش لوحدي تاني.
بصت له طويلاً، وفي قلبها خليط من الغفران والحذر، لكنها شعرت بحاجة كانت مفتقداها من سنين الأمان.
في اللحظة دي، حسّت إن الحياة ممكن تبتدي تاني، وإن الحب الحقيقي مش دايمًا بيكون في الكلام
أحيانًا بيكون في نظرة، أو فنجان قهوة بسيط بعد تعب سنين.
كانت الشمس داخلة من شباك الصالة، رايحة على الحيطة اللي كانت باهتة من كتر السنين،
لكن النهارده النور فيها مختلف.
كريمة وقفة في المطبخ، ريحة الطبيخ مالية المكان، ووشها هادي وهي بتغرف الأكل.
سمعت صوت ضحك جاي من الصالة، صوت آسر وحسام بيتكلموا في حاجة خفيفة.
اتجمدت لحظة، مش مصدقة أذنها من زمان البيت ده ما سمعش صوت ضحك،
ولا حتى كلمة حلوة من أولادها.
دخلت الصالة وهي شايلة الأطباق وقالت:مالكم بتضحكوا على إيه؟
آسر بصّ لها بابتسامة وقال: بنحكي لحسام على الموقف اللي حصللي امبارح وأنابشتغل مع أبي، لما وقعت على وشّي وأنا شايل الكرتونة.
ضحكت كريمة بخفة: هو إنت لسه زي زمان يا آسر، كل حاجة تتحول لمشكلة عندك!
قال حسام وهو بيضحك: بس المره دي أمي، وقعته كانت مضحكة فعلاً.
الضحكة خرجت منهم كلهم مرة واحدة، كانت بسيطة، لكنها كسرت حاجز كبير بينهم.
جلس محروس معاهم، وشال اللقمة من الطبق
وقال: الأكل النهارده ريحته تفتح النفس.
أنا اللي عملته.
قالتها كريمة بابتسامة فخر خفيفة.
رد عليها بلطف: واضح إنك رجعتي زمانك الجميل زمان كنتِ بتعملي الأكل ده مخصوص ليّا.
غمزها آسر وقال: يا سلام، رجعوا الرومانسية القديمة ولا إيه؟
ضحكوا كلهم، ووجّهت كريمة نظرة عتاب لآسر وقالت له بخجل: اسكت يا ولد، انت مالك!
لكنها كانت مبسوطة جواها شعور جديد،
مش بس بالفرحة، لكن بالطمأنينة، بالدفء اللي كانت بتفتقده من سنين.
بعد العشاء، دخل حسام المطبخ وقال بخجل: ماما ممكن أساعدك في المواعين؟
بصت له بدهشة وسكوت طويل،
هو نفس الولد اللي كان من شهور بس بيدفعها وبيقولها كلام يوجع القلب،
ودلوقتي بيطلب يساعدها؟
دموعها نزلت غصب عنها، حاولت تمسحها بسرعة وقالت بابتسامة: تعال يا حبيبي تعالى ساعدني.
وقفت جنبه، بتغسل وهو بيشطف، والمياه بتجري،
لكن جواها كانت بتغسل سنين وجع طويلة.
في اللحظة دي، فهمت إن ربنا ما بينساش دعوة أم بتوجعها الحياة،
وإن حتى بعد الانك*سار، ممكن تجي لحظة صغيرة تغيّر كل حاجة.
