اخر الروايات

رواية علي ضفة قلبك ظمآن الفصل السادس عشر 16 بقلم سعاد محمد

رواية علي ضفة قلبك ظمآن الفصل السادس عشر 16 بقلم سعاد محمد


الفصل السادس عشر
(بلا قواعد)
تظاهرت لين بتأمل المنظر الخلاب الذي يطل عليه المقهى حيث أصر هارون على اصطحابها هي وغفران فور أن انتهوا من شراء هدية الخطبة، لكنها لم تستطع تجاهل نظراته المُدققة بها من حين لآخر أثناء حديثه الوِدِّي مع غفران والتي لولا حضورها اليوم لكانت وَلَّت هربًا منه وتراجعت عن الزيجة بأكملها!
لقد حذرها ناهل بنفسه حينما رافقت جدها في زيارته منذ بضعة أيام ونصحها بأن تبقى دائمًا متيقظة لأقل بادرة غدر من شقيقة هارون، ولقد رجحت أن حقده تجاهها بسبب والدته هو ما يجعله مُتطرفًا برأيه فيها، لكنها اليوم أدركت أنه على حق.
فعُلا التي لم تتبادل معها حديثًا عاديًّا لدقيقة مُتصلة منذ بداية اللقاء كانت سببًا وجيهًا كي تتردد في الزواج بشقيقها، فقد حرصت على أن تتطلع لها بجفاء، واعتراضها على هذا الاقتران لا يمكن التعبير عنه أكثر!
"كيف تعارفتما؟"
نطقت علا أخيرًا بعد نظرة شقيقها المحذرة بجانبي عينيه، فافتعل هو ضحكة عالية أثناء إلغاءه مكالمة أحد العملاء ليجيب بدلًا من خطيبته التي استشعر انزعاجها:
_كنت أقوم بعملي المفضل كفاعل خير وأُطمئن عائلة لين على إيلاف بعدما اختفت بنفس وقت إطلاق سراح ناهل.
ثم سكت وأضاف مُتمهلًا وهو ينظر إليها بابتسامة:
_وقبل أن أرحل جازاني الله على نيتي الحسنة، وكان اللقاء.
تلقائيًّا ابتسمت غفران أثناء تطلعها إلى نظراته المُعبرة، والمعاني الخفية التي لم ينطق بها صراحًة، ثم نظرت إلى أختها ليختلج قلبها حالما لاحظت علامات الخفر التي تشي بسعادتها وهي _بالكاد_ تمنع ابتسامة من الظهور على شفتيها، بينما تمنى هو لو كانا بمفردهما لاستطاع أن يُعلق كما يحب، لكنه تنهد في صبر ليلغي المكالمة للمرة الثالثة، حتى صدح صوت شقيقته:
_أنا السبب الرئيسي إذن!
نظرت لين لها في تساؤل، فضحكت ثم قالت ببساطة:
_ألا تعلمين أن لولا حديثي مع أختكِ حينذاك لما رحلت عن البيت؟
حدجها هارون بنظرة زاجرة انتبهت لها غفران التي بدأت تراقبها في صمت مُتحفز، لكن علا لم تأبه له ونقلت نظراتها بين لين وأختها أثناء تحدثها في استمتاع:
_لا تتعجبا! لقد اعتدت أنا وابن زوجي الراحل على تبادل المكائد فيما بيننا، آنذاك كان دوري، وها هو قد عاد بالنفع.
ضغط هارون على أسنانه فيما رمقتها لين متوجسة..
_لدينا فكرة لا بأس بها عما تقولين!
قالتها غفران بابتسامة صفراء حين عاد رنين هاتف هارون فوقف يستأذن منهما للرد مُضطرًا وهو يمنح شقيقته أكثر نظراته تحذيرًا، تحذير لم يجد أي اهتمام منها لتقول في تسلية ما إن ابتعد هارون بما يكفي:
_لكنني لا أستطيع منع دهشتي من غرابة المصادفة!
أدركت لين أنها تستغل غيابه وتجرها إلى اتجاه لن يعجبها، لكنها لم تستطع سوى اتباعها مُتسائلة في اقتضاب:
_أية مصادفة تقصدين؟
هزت علا كتفيها فيما راحت تراقب هارون الذي يتحدث بالهاتف لكن عينيه مُسلطة عليهن، لتتجاهله وتقول في تعجب تعلم كلتاهما أنه زائف:
_الاسم، أعني كم امرأة تحمل الاسم ذاته وتقترن بشقيقي؟!
حينئذٍ نفد صبر غفران فكتفت ساعديها لتخاطبها في غيظ:
_لماذا لا تتحدثين بكلمات واضحة؟! منذ جئتِ وأنتِ تتحرقين لقول شيء ما، أو توصيل معلومٍة ما، أو _وهذا هو الأرجح برأيي_ افتعال مُشكلٍة ما، ويبدو أنه يؤرقكِ عدم حصولكِ على الفرصة، فلتنطقي بما تريدين قبل أن ترتفع ألسنة اللهب من رأسكِ فلا نجد الوقت لإطفائها وإنقاذكِ!
التمعت عينا علا ببريق غاضب لِوهلة وكادت أن تفتعل فضيحة هيأت لها أسبابها تلك المنفلتة اللسان، لكنها تغاضت عنها وسارت نحو هدفها لتسأل لين في بسمة مُتعجبة:
_ألم يخبركِ هارون أنه كان قد عزف عن الزواج بعد وفاة زوجته؟
عقدت لين حاجبيها بلا فهم، فتابعت علا في تمهل:
_لين.
بدهشة رمقتها وهي ترد تلقائيًا:
_نعم؟
تعالت ضحكة علا وهي تتأكد من تخمينها..
لم يخبرها هارون؛ حسنًا.. فلتفعل هي!
أيقنت بظنها أنها تناديها، ثم انتبهت إلى شقيقها الذي يُنهي مكالمته فقالت في تشفي:
_زوجته الراحلة كانت تُدعى لينة، لكنه كان يفضل تدليلها دومًا باسم لين.
بلا استيعاب ظلت تحملق بها وهي تكافح لاستيعاب أثر المعلومة، فيما كانت أختها الأسرع تصرفًا فجذبت إحدى يديها لتوقفها..
ترنحت لين لوهلة فما كان من غفران إلا أن تأبطت ذراعها لتواجه ابتسامة الفوز على وجه علا، ثم بادرت هارون الذي أتى على عجالة بعدما أنهى مكالمته سريعًا وهو يلاحظ التوتر الناشئ على وجه خطيبته:
_يبدو أننا تأخرنا كثيرًا يا هارون، جدي سيغضب إن لم نعد إلى البيت في الحال.
أومأ برأسه موافقًا ليُشير لهما بأن تتقدماه وعيناه لا تحيد عن وجه لين الشاحب، بينما رمقت غفران علا بنظرة امتزج بها الغيظ مع الحيرة!
**********

"هل ستستسلمون جميعكم حقًّا؟! أستتركون البيت والمصنع لهم؟!"
صاح بها عمرو في والدته التي أخذت تبكي أثناء جمعها ملابسها وأغراضها في حقيبة ضخمة بعدما انتهت من حقيبته بينما رد سمير على ابنه بدلًا منها:
_ألا تفهم ما قد حدث يا عمرو؟! لقد باءت كل محاولاتي أنا ووالدتك بإثناء جدك عمَّا فعل بالفشل، لقد طردنا من منزله بالفعل، صار يخص ياسر وأماني، وبالطبع لن نبقى ضيوفًا عندهم!
توترت ثقته بعض الشيء إلا أنه سارع قائلًا:
_لكنها لم تطلب منا الرحيل حتى الآن رغم مرور ما يقرب من الأسبوعين على أمر الهبة، ولا أظن أنها ستفعل.
ضحك والده في سخرية ثم قال باستنكار:
_وهل سننتظر حتى تفعل؟! لم يحترم جدك أمك ليمنحها البيت وهي الكُبرى ليُلقي لها بفتات ثروته مُعتقدًا أننا سنذهب إلى الحقول لنرعاها!
تعالى نشيج والدته وكلمات زوجها تتغلغل بداخل ذهنها، لكن عمرو هتف في تصميم:
_لا يعني هذا أن نطيعه، يجب أن نتمسك بالبيت الذي نشأنا به!
ومُجددًا ضحك والده ليسأله في استهزاء:
_وماذا بشأن المصنع الذي هو مُستقبل هذه العائلة ورمزها؟ كيف سنستعيده من أولاد خالك؟
ثم أردف في غضب:
_ذاك الأبله شقيقك لو كان أتمَّ زواجه من إيلاف لم نكن لنتعرض لهذه المُصيبة الآن!
ثم صاحت والدته في سخط:
_أو لو كنت استطعت أنت إقناع غفران بالـ...
لكن سمير قاطعها في نبرة مُستخفة:
_توقفي يا عزة! لقد تملصت إيلاف التي نعلم جميعًا كم أنها سهلة الانقياد من بين يديكِ أنتِ وابنكِ فكيف بغفران المُتبجحة أن تنصاع لعمرو؟!
والضربة التي وجهها سمير لابنه أصابت الهدف، فتخلى عمرو عن ملامح الحنق والتوتر ليعود إليه الجمود رفقة الثقة مع الكثير والكثير من الوعيد قائلًا في اقتضاب:
_ستنصاع.
ثم طالع أعين والديه المُستهجنة واستطرد في ثبات:
_اسخرا كما ترغبان، لكنني أعدكما بأن غفران ستكون زوجتي، وستصبح هي مصدر نفاذي إلى المصنع مرة أخرى، أعني.. مرة أخيرة!
وأضاف رافعًا سبابته مُبتسمًا في تمهُّل:
_لا تنسيا أنه لولا فكرتي لكنا خرجنا من هذا البيت منذ سنوات!
لطمت عزة على وجهها ثم سارعت بالتأكد من إغلاق باب الغرفة جيدًا، لتعود إليه هامسة بغضب اضطرت إلى خفض صوته:
_أتتمنن علينا بحل كارثة أنت من قمت بها بالأصل؟! ألا تفكر باحتمالية تحدثها؟!
ثم اتسعت عيناها ذعرًا لتردف:
_ألا تخشى أن تُقرر مواجهة جدك فلا يكتفي بطردنا وحسب؟!
_لن تفعل!
بثقة نطق ثم عمد إلى الصمت حينما راقبها تتراجع لتُغلق الحقيبة في استعداد لرحيلهم إلى الشقة التي يعيش بها شقيقه منذ أشهر، وبعد التروي أدرك أنها الخطوة الصحيحة بهذه المرحلة؛
لكم يكره تلك الشقة!
تمثل له صورة الدنيا التي يرحل إليها المطرودون من النعيم، تمثل له الضعف والنبذ، وهو لم يكن يومًا ضعيف.. ولن يكون مُطلقًا بمنبوذ!
لكنه سيذعن الآن، ومُستقبلًا كل أموال الكُردي ستتراص أسفل قدميه، وكل أفراد العائلة سيحتكمون بأمره وحده؛
لن يتبع خطى شقيقه الأكبر الذي أورثه غضبه الوفير من الغباء، بل سيُعلم الجميع درسًا راقيًا في.. فن الانتقام!
وأول طلابه ستكون غفران؛
ووسيلته لتحقيق مآربه ستكون غفران؛
والدرع الذي سيفوز به قبل أن يسحقه أسفل قدميه لن يكون إلا.. غفران!
فقواعده التي أنشأها تعده بالاجتياح؛
قاعدة تُثبت أنه الأفضل، والأحق بالأفضل؛
قاعدة تنص على أن الفوز حليفه وحده بلا مراء؛
وقاعدة أيضًا تؤكد أنه إن لم يحصل على ما يريد.. سيضطر للمواجهة بغضبه المكتوم بعدما هدأته لسنوات ألحان ألَّفَها بنفسه لنفسه..
وإذا لم تنجح القواعد، إذن ليُنازِل الجميع.. بلا قواعد!
**********

"حمدًا لله على سلامتك يا سيد مهند! هل صِرت تستمتع بوقتك في الكلية وتدرس بِجد؟"
بادره نضال بكلماته الساخرة، بينما استقامت والدتهما فور أن دخل لتتجه إلى غرفتها في دلالة واضحة على أنها باتت لا تطيق النظر في وجهه!
أطلق مهند زفيرًا طويلًا ثم _بجرأة_ جلس قبالة شقيقه الذي تابع في استخفاف:
_هل قمت بزيارة صديقك أم لم تفعل بعد؟ هل تنتظر أن يشفى تمامًا ويعود إلى انتظامه بالدراسة؟
أطرق مهند برأسه أرضًا في استسلام فاستطرد نضال مُتسائلًا في حسرة:
_أفكرت بالاعتذار إليه؟ أو ربما الاعتراف بخطيئتك؟
_لا أستطيع.
رد مهند بصوت خفيض، فزم نضال شفتيه ثم تمتم في نبرة مُستهجنة:
_لا تستطيع.
ساد الصمت بينهما حتى تابع نضال في اهتمام مُفتعل:
_إذن علام استقريت؟ هل ستواصل معاملته كصديقك المُقرب وكأن شيئًا لم يكن؟ كيف ستتمكن من النظر بعينيه بلا توتر مُواريًا خبثك الذي امتد إلى محارمه؟
_كفى يا نضال!
هتف بها وهو يهب واقفًا في غضب ممتزج بالأسف، ليواصل بعينين لامعتين:
_أنا نادم، بل أموت ندمًا، لكنني لا أجد للتوبة سبيلًا.
رَفَع نضال رأسه إليه يُمعن النظر به في استكشاف لِصدقه، وقال بجدية:
_التوبة سبيلها معروف يا مهند.
تهدلت كتفاه ليسقط على المقعد مرة أخرى قائلًا في خزي:
_أهناك توبًة لمن هو مثلي؟!
تأمله نضال مليًّا وبدأ يستسلم لذلك القبس من الأمل الذي جاءه من حيث لا يدري، ثم ردَّ:
_ألست على قيد الحياة؟! لم يستثنِ ربك مذنبًا ما دام سيعزم، وسيقلع، وسيعيد الحق إلى صاحبه.
ثم أضاف في نبرة خفيضة كللها الألم:
_عشرة آلاف من الجنيهات.
في حدة رفع مهند رأسه إليه، وبوجه شاحب تطلع إليه ليسأله متوترًا:
_وكيف.. علمت؟
لم يهتم نضال بإخباره بأنه قد علم من الضحية نفسها، فيما ظن هو أن علياء قد منحته كل التفاصيل التي تشاركاها فلم يُكرر سؤاله حتى عاد صوت شقيقه يتردد في حسرة:
_أظن أنك قد أنفقتهم بالفعل، منحتهم لزميلك ذاك أليس كذلك؟!
تنهد مهند في إرهاق ليتابع نضال بحزم قبل أن يرد:
_سأحاول إقناع صاحب الشقة أن يؤجل دفع القسط الأخير قليلًا، لكنك ستبحث عن وظيفة وسترد لي المال جُنيهًا جُنيهًا!
في دهشة تعلقت عينا مهند به وهو يعي مقصده..
تلك الشقة التي أصرت والدتهما على شقيقه أن يدفع مبلغًا كمقدم لها منذ سنوات ويدخر لها من راتبه آخر شهريًا كي يُسدد أقساطها على أن يتزوج بها في المستقبل، ورغم محاولته الرفض لأنه قد أرجأ الفكرة كلها فلم يملك إلا طاعتها، وهكذا واظب على الدفع ولم يتبق إلا القسط الأخير والذي يخبره الآن بكل بساطة أنه سيُضحي به من أجله!
تعاظم الأسف بداخله، تعاظم وتطاول حتى كاد ينفجر، فمد يده بجيب بنطاله ليتناول مظروفًا منتفخًا بعض الشيء ويضعه على المنضدة الفاصلة بينهما..
نظر له نضال في تساؤل قبل أن يمسك بالمظروف ليتفحصه، ثم أخرج منه رزمة مالية لم يكن في حاجة لعدها كي يدرك قيمتها!
تطلع إليه في ذهول وردد بلا تصديق:
_أنت لم تـ..
_لم أستطع.
قاطعه مهند في همس، فسأله بإصرار:
_لماذا؟
_لا أعلم.
بحيرة أجابه، ثم وقف ليبتعد عنه، وضع يديه بخصره فيما كان نضال لا يزال ينظر إليه بدهشة عاد إليها الأمل زاهيًا..
_كنت.. كنت على بُعد خطوات قليلة منه، لكن.. نظرت إليه فرأيت أبواب جحيم تنفتح لتبتلعني، وبداخلها أنا أقف..
تحشرج صوته فبتر عبارته ليزدرد لعابه، بينما عيناه شردت بمكان آخر، بفوهة، بحفرة، ثم استكمل في خوف جليّ:
_أنا هناك أقف، لست على هيئة بشر، بل شيطان، ملعون..
بتر عبارته ثانية ليحل الندم محل الخوف وهو يُردف:
_مُجرم، خائن، ومُبتز!
وقف نضال تلقائيًا في استعداد ليلحق به إن احتاج لنجدة، لكن مهند عاد ينظر إليه في استغاثة مُستطردًا:
_لم أستطع! هناك ما منعني، هناك ما جذبني إلى الخلف، هناك ما أجبرني على العودة حتى البيت جريًا بالشارع كالمجاذيب.
"شقيقك بداخله بذرة طيبة لم تمت بعد، زرعها والدك بإصرار ورعيتها أنت في جَلَد، كيف تسمح لليأس بالتمكن منك إلى هذه الدرجة؟!"
حدَّق فيه نضال ذاهلًا لثوان وهو يتذكر كلمات الشيخ حتى سأله مهند بنظرة ضائعة:
_هل جُننت يا نضال؟
لم يحاول إجابته ليجلس ثانية ويغطي وجهه بكفيه مُرددًا حمدًا لا مُتناهيًا، واعيًا لدموع تبلل وجنتيه، مُبتهجًا برحمة أغدق عليه بها ربه رغم صروف الدهر!
دقائق متصلة بقى خلالها على وضعه، ثم استعاد هدوئه ليقول مُتمسكًا بالفرصة قبل أن يفقدها ثانية:
_لكنني بإعادة الحق لم أكن أقصد المال فقط.
رمقه مهند بلا فهم في بادئ الأمر، لكن نظرته المُصممة جعلته يفهم ما يرمي إليه، ليتمتم في رفض:
_لا أستطيع يا نضال، ليس بإمكاني أن أُقر بفعلتي فأفقد علاقتي بلؤي، إنه.. إنه بمثابة شقيق لا صديق فَحسب.
ضرب نضال إحدى كفيه بالأخرى قائلًا في استهزاء مقهور لم يتعمده تمامًا لكنه أيضًا لم يقاومه:
_عجبًا! أهكذا تفعل بشقيقك؟ كيف ستغدر بأعداءك إذن؟!
ارتجفت عينا مهند في مَذلة، ليكتنف الندم نضال، فسكت لوهلة ثم سأله في ألم:
_فيم أخطأت معك يا مهند؟ خبرني هل قمت بالتقصير؟ هل.. هل بخلت عليك حقًا كما قلت قبلًا؟
_لم تفعل.
في ثبات رد، وطالبته نظرة شقيقه بالاستفاضة.. فألقى سلاح العصيان وأطاع:
_كنت أردد تلك الأسباب على نفسي وعليك حتى أُبرر أفعالي، حتى أجد دوافع لنِقمتي وتمردي فلا يجد الشعور بالذنب منفذًا إليّ، لكن هناك بداخلي ظل جانب ضعيف يسخر مني وهو يهمس بالحقيقة التي لا شك بها.
ثم بعينيه حدَّق ليختتم اعترافه في أمانة حان وقت ردها لصاحبها:
_أنت كنت دومًا نعم الوالد الذي لم أجد الوقت للتنعم بعنايته، ولا زلت رب أسرة أفخر به، ومِثال لن أستطيع أن أحذو حذوه بعد جريرتي.
ورغم الوجع الذي يُظلل بجناحيه عليهما فقد تسللت بعض الراحة إلى قلب نضال، لكنها لم تمنعه من التساؤل في طمع:
_لكنني لم أكن نعم الشقيق، أليس كذلك؟!
والصمت الذي أجبرهما على استضافته كان خير رد على سؤاله، الآن يكتشف أنه حينما كان حريصًا على أداء واجباته المُتمثلة في اهتمام الأب وصرامته قد فقد كل ما له من حقوق كشقيق، يساويه في المنزلة وربما يفوقه احتياجًا!
_تلك الــ.. غفران، لماذا يشع العداء من عينيها، هل أنت متأكد أنها لم تشك فيك؟
في شرود سأله مُستعيدًا نظراتها ولغة جسدها المُتحفزة التي لاحظها حين التقى بها منذ أيام، فأجابه:
_لا أظن ذلك، لكن طباعها حادَّة بعض الشيء حتى مع بعض أفراد عائلتها، شهدت شجارًا أو اثنين بينها وبين ابنيّ عمتها.
تفحصه نضال ثم سأله بنبرة امتحانية لم ينتبه لها مهند:
_هل انتابتك أية مشاعر تجاهها؟ ألا تفكر في الاقتران بها فور إنهائك دراستك؟
والاستهجان الذي انبثق بعيني مهند كان أصدق رد قبل أن يعبر عنه صراحًة:
_بالطبع لا أفكر بالزواج إطلاقًا منها أو من غيرها! كما أنها تكبرني، بالإضافة إلى كراهيتها الرجال كالأبالسة ورفضها كل من يتقدم ليطلب الزواج منها!
عقد نضال حاجبيه ليسأله في فضول لم يبحث عن سببه، مُكتفيًا باتباعه دون مُعارضة:
_ولماذا ترفض الزواج؟
هز مهند كتفيه مُجيبًا:
_لا علم لي، لكن والدها نفسه كان جافًّا معها على عكس تعامله مع لؤي كما رأيت.
_ألهذا كانت الضحية المُثلى؟
والسؤال الذي لا يحتاج إجابة لإثباته كان ختام حوارهما، قبل أن يُلقي نضال عليه نظرة أخيرة ويدلف إلى غرفته..
لكنه توقف ليأمره:
_ ربما تبدأ من استرضاء أمك، ستبقى تائهًا ضائعًا فريسة لنقمة ربك حتى يستأنف لسانها الدعاء لك بالهداية.
أغمض مهند عينيه موافقًا على نصيحته، ناويًا على تنفيذها.

"ألست جائعًا يا أستاذ ضياء؟"
سأله ياسر في اهتمام بعدما لاحظ عزوفه عن إنهاء طعامه، فيما أجهز العم فوزي على صحنه كاملًا وأخذ يربت على بطنه في رضا.
_لقد شبعت يا ياسر، شكرًا يا بُني.
أجابه في صوت فقد مرحه المُعتاد، ليقول ياسر ببعض الحنق:
_علام تشكرني؟ إنها دعوتي لكنك من أصررت على الدفع، وأنا حقًّا مُستاء.
تطلع إليه في حنو، ثم علَّق في شبح ابتسامة:
_سأسمح لك بدعوتنا على الشاي.
ابتسم ياسر وأشار من فوره إلى النادل الذي تقدم منهم يجمع الأطباق، ثم أملاه طلباته من المشروبات، وعندما رحل نقل ياسر نظراته بينهما قبل أن يوجه سؤاله إلى العم فوزي:
_لماذا هذا التجهم؟
أشاح العم فوزي بإحدى كفيه ليُبادر بالإجابة بلا اكتراث:
_شجار آخر مع سلام، لا تهتم! إنها عادتهما كل فترة قصيرة.
التفت صديقه إليه مُتسائلًا في استنكار:
_ألا ترى أنني محق يا فوزي؟
مط العم فوزي شفتيه في ضيق ليُجيبه بهدوء كي يمتص غضبه الوشيك:
_أنا أرى أن سلام تحبك كثيرًا لِهذا لا تتحمل فكرة الرحيل عنك.
لكن عينيه اتسعت في دهشة قبل أن تحتد نظرته وهو يطرق بقبضته على الطاولة ليهتف في سخط:
_إذن أنت من شجعتها على رفض ذلك الشاب، أليس كذلك؟!
تأفف صديقه وهو يضرب كفًّا بكف ثم علَّق في استهجان:
_وكيف فعلت أنا؟! لقد علمت بالأمر أثناء قدومنا، متى تظن أنني شجعتها؟!
كان ياسر يراقب جدالهما صامتًا بمزيج من الحيرة والتسلية، حتى نظر إليه العم فوزي قائلًا بتهكم:
_لتمنحنا مشورتك يا ياسر! الفتاة لا تريد الزواج بينما هو يحاول التخلص منها لأول خاطب يظهر قبل أن يوقن بشأن ملائمته إياها من عدمها.
فغر ضياء شفتيه قبل أن يهتف بحنق:
_أأنا أريد التخلص من ابنتي يا فوزي؟!
وابتسامة صديقه أججت من غضبه، ولم يبد عليه الاكتفاء بذلك حيث أضاف في لا مُبالاة:
_نعم، لقد صرت مهووسًا بتزويجها.
في قوة أومأ برأسه تباعًا، مُصدقًا ومُعترفًا، وقال في ثبات:
_لأنها هي من ترفض الفكرة رفضًا باتًّا، يحق لي الذعر، اليوم هي تُصمم على عدم الزواج وغدًا ستلحق بها شقيقتاها.
لم يجد ياسر بدًّا من التدخل، ليتحدث في تعجب:
_ولماذا ترفض في الأصل؟
نفخ أستاذه في ضيق، ثم أجاب وهو يرمي بنظره تجاه النهر الجاري على يمينه:
_لأنها لا ترغب أن تتركني وكأنني طفل سيضل طريقه طالما لا تصحبه!
_لماذا لا تتزوج أنت؟! إن فعلتها ستُفقدها حجتها وستضمن ألا تفعل شقيقتاها المثل.
ألقى صديقه سؤاله في تسلية ثم انفجر ضاحكًا، فرمقه في غيظ قبل أن يهتف باستياء:
_أهذا وقت مناسب للمزاح يا فوزي؟! أم أنها هي من أقنعتك بأفكارها البلهاء؟!
استغرق العم فوزي في قهقهات مرتفعة كاد ياسر أن يُشاركه إياها، إلا أنه تمالك نفسه حتى لا يُثير حفيظة مُعلمه، فقال في بساطة:
_ولِمَ لا؟
نظر الاثنان له باستنكار فتابع:
_ إنه اقتراح منطقي، فلا تقضي أنت حياتك وحيدًا ولا تندم بسبب عدم استقرار بنات شقيقك _رحمه الله_
استأنف العم فوزي الضحك بينما علَّق الأستاذ ضياء في استهزاء:
_لم أفكر في الأمر منذ سنوات، كيف سأفعلها الآن؟! ومن ستتزوج من رجل بمطلع عقده السادس؟! ماذا سأ..
"ياسر!"
التفت ثلاثتهم إلى المرأة التي تقترب من طاولتهم بينما هَبَّ ياسر واقفًا وهو يُحدق فيها ثم هتف بلا تصديق :
_أمي؟!
توقفت المرأة أمامهم وهي تتجاهل تعبير ابنها الدَهِش لتنقل نظراتها المُدققة بين الرجلين بينما توجه له سؤالها في ارتياب:
_أهذان هما صديقاك؟!
لكن ياسر أمسك بذراعها يسألها في توتر بدلًا من إجابتها:
_ماذا هناك يا أمي؟ هل جدي بخير؟
ضاقت عينا أماني بتشكك وأخذت تمسح المكان بنظراتها، ثم عادت إليه تسأله بنبرة تحقيقية:
_هل أنتم بمفردكم؟
حينئذٍ فقط أدرك ياسر حقيقة ما يدور، ليتراجع ويهمس لها في احتجاج:
_أمي! هل جئتِ تفتشين خلفي مُجددًا؟
ثم تابع بذهول:
_لحظة! أليس من المفترض أنكِ ستصحبين لين وخطيبها لشراء الشبكة؟ لا أصدق أنكِ...
قاطعته ترمقه بلا اكتراث ظاهري، قبل أن تقول في ارتباك حاولت مُداراته ببؤس مُفتعل فيما أوشكت حبال الحَرَج على خنقها وهي تختلس النظر ات المُدققة المُرتابة إلى الرجل الذي كان يحدق فيهما بذهول:
_ظننتك تخدعني يا حبيبي، لقد كثرت لقاءاتك بذاك الرجل فانتابني الشك تجاهه، لقد.. لقد شككت أنه يدبر لك سوءً.
فهم ياسر ما تحاول فعله فكظم غيظه ليربت على كتفها قائلًا في هدوء أصبح لا يملك منه أقل القليل:
_لا تقلقي يا أمي! هذا هو أستاذ ضياء معلمي في المرحلة الثانوية وأظنكِ قد التقيتِ به بضع مرات من قبل، وهذا هو العم فوزي صديقه.
وعندما حياها العم فوزي بتهذيب كان الأستاذ ضياء ينظر لها بانبهار!
عقدت أماني حاجبيها ما إن انتبهت لنظرات الرجل الغريبة، فيما لم يسمع ذلك الأخير اعتذار ياسر منه ليصحب والدته ويرحل، وحالما اختفيا انتبه إلى صوت صديقه الذي يسأله في قلق عما به، ليُجيبه في صوت قطعته أنفاسه المُتسارعة:
_إنها هي!
_من هي؟
لم يستجمع ضياء إجابة مُحددة، إلا أنه تابع في خفوت:
_ يبدو أن الصدأ الذي يغطي القلب منذ أعوام على وشك الزوال!
**********

"ربما يجب عليك البدء بتعليق صورته على صدرك، أو تشييد تمثال من الشمع لذلك الرجل العظيم!"
في تهكم أخرست غفران شقيقها الذي لم يتوقف عن الإسهاب في مدح شقيق مهند وعدّْ مميزاته حين جاء ذكره عرضًا أثناء حديثها معه لترتكب هي جريمة نكراء، شنعاء، رعناء بحقه وتعبر عن عدم استساغته!
_إنها فكرة رائعة، لكن نضال كثير التواضع ولن يوافقني مع الأسف!
علَّق لؤي قاصدًا إغاظتها بعدما لاحظ انزعاجها غير المُبرر من شخص كنضال، ثم تابع ساخرًا:
_لكن خبريني! ما هذا الرضا؟ أراكِ صرتِ منفتحة على العالم الخارجي وتطلين علينا من غرفتكِ كثيرًا، حتى أنني سمعت بإشاعة لم أصدقها..
رمقته بامتعاض ثم ابتسمت وهي ترد لتنتقم منه بلا تردد:
_أخرج لأنني _حمدًا لله_ أستطيع الخروج، على عكس بعض المُصارعين الذين يسقطون من فوق الدرجات بلا منفعة مُكتفيين بتلقي الخدمات من الجميع!
زم شفتيه غاضبًا فضحكت في انتصار، حتى سألها باهتمام بعد قليل:
_هل رافقتِ لين بدلًا من عمتي بالفعل؟
أومأت برأسها إيجابًا فأضاف:
_وماذا حدث؟
زفرت غفران في ضيق ثم هتفت بأقصى غضبها:
_تلك المرأة أفعى ستثير المتاعب وسترى أنني محقة!
اتسعت عيناه استنكارًا قبل أن يهتف بالمثل:
_غفران! لا تتحدثي عن أختكِ بهذا الـ..
_وبات عقلك لا يعمل أيضًا!
قاطعته في حنق، ثم أردفت في إيضاح:
_أتحدث عن شقيقة هارون، إنها خبيثة وتضمر السوء لأختك، والتي _بالمناسبة_ لا يعجبني استسلامها ذلك!
تنهد لؤي في ضيق متفقًا مع شقيقته، الجميع يتشاركون الرأي نفسه بالفعل، لكنه خلال المرات القليلة التي التقى بهارون استطاع أن يكون عنه فكرة مُطمئنة كثيرًا، لذا لا يملك سوى أن يتحلَّى بالثقة فيه.
_ساعديني لأذهب لها إذن بعدما يرحلون لأنني لا أود أن أرى أحدًا منهم.
قالها في تعب فسألته بفضول:
_من سيرحلون؟
_ألم تعلمي بعد؟
ألقى عبارته الاستفهامية مُتعجبًا فهزت رأسها، ليُجيب:
_عمتكِ عزة وزو..
_وعمرو؟
قاطعته بلهفة فنظر لها دون رد، لتلح دون انتظار:
_هل.. سيرحل أم هو باق؟
_سيرحل.
وإجابته صفعتها.. بل احتضنتها.. أو تناوبت على الأمرين معًا..
استقامت تحدق به في ذهول ثم تراجعت جريًا إلى الخارج!
...
خلف نافذة غرفتها وقفت تلهث وهي تراقب عمتها تجلس بداخل السيارة لحاقًا بزوجها، فيما أخذ الحارس يرص الحقائب بالخلف..
عيناها كانت تجري في لهفة بكل الأركان دون أن ترفرف أجفانها حتى شعرت بجفافهما فأسدلت أهدابها ثم فرقتهما.. وتجاه السيارة يمشي الهوينى رأته..
مستقيم الظهر وكأنه منتصر لا مهزوم؛
واثق الخطى وكأنه يردد وعدًا بالعودة؛
هادئًا، آمنًا، مُطمئنًا.. رغم أنه لا يحق له!
واستدار!
رافعًا رأسه تجاه غرفتها، راسمًا نصف ابتسامة تمقتها، حاكيًا قصة إذلالها بنظراته.. فَصَدَّته!
"إياكِ يا غفران! ليس أمامه يا غفران!"
همست لنفسها وهي تكاد تمزق الستار بعنف يدها، ثم بهدوء، بتأنِ، وفي تشفِ.. له ابتسمت!
حدق بها في كراهية فردَّتها له عطية مُجزَلَة، ثم رفعت إحدى كفيها تُحييه لو كان للتحية أن تحمل معنى اللعنات المُرسَلَة!
بعينين ميتتين راقبته يستقل السيارة، وبمقلتين طالهما اللمعان رأتها ترحل..
إلى الخارج!
إلى الخارج!
"إلى الخارج يا عمرو!"
همست بها أثناء مراقبتها الأضواء تبتعد وتبتعد لكنها لم تشعر بأية وحشة جراء ابتعادها..
"لا عُدت! لا سُلمت! ولا ارتحت يومًا يا عمرو!"
في خفوت، في صدق، في حقد بها تمتمت..
"بحق عذابي، بحق إيذائي.. بحق وجعي يا عمرو!"
تحشرج بها صوتها والدموع تشق طريقها أخيرًا إلى عينيها فتهاوت ساقاها في مؤازرة، دموع سجنتها كما سجنت جسدها بين جدران تقيها سوءً ينتظرها خارجًا ولا مانع لديه أن يدخل إليها بنفسه إن قرر!
"اللعنة عليك أينما كنت يا عمرو! اللعنة عليك أينما حللت يا عمرو!"
أنَّت بها وهي تجلس على عقبيها، يهتز جذعها للأمام وللخلف في رتابة بينما ينتفض صدرها انتفاضًا بعدما ضعفت صلابته أمام بركان لن يبقى خامدًا لثانية إضافية!
"سامحك الله يا أبي!"
في انكسار، وفي ألم، في خذلان، وفي حيرة أخذت تردد ورأسها ينخفض تدريجيًا حتى كاد يلامس الأرض حينما عصى لسانها ضم والدها مع المجرم بدعوة واحدة..
ثم رفعته بحدة إلى السماء التي تزينت بالصفاء فجأة بعد تعكر سنوات بعينيها، وبعزم، وبأسى، وبقهر رفعت دعوتها الأخيرة:
"لا عُدت! لا سُلمت! ولا ارتحت يومًا بحق انتهاكك إياي يا عمرو!"
**********

في اليوم التالي:
افتر ثغرها عن ابتسامة لا سبب واضح لها وعيناها تتبعانه حيثما ذهب، تراقب بانتباه كل حركة يقوم بها، تستمع بتركيز لكل كلمة ينطقها، وحينما تدلف إحداهن إلى المحل تتأهب كل حواسها في توتر حتى ترحل..
زفرت في انزعاج مُقِرَّة بحقيقة حاولت تجنبها من قبل، لكنها الآن لم تعد بها رغبة في استمرار هذا التجاهل..
هي ترتعب أشد الرعب حينما تلوح لها فكرة فقدانه، خاصًة لو لِصالح أخرى!
وعند هذا الخاطر نبع في ذهنها تساؤل للمرة الأولى..:
تُرى هل أحب ناهل إحداهن يومًا؟
تململت في مقعدها وانعقد حاجباها لا إراديًا مُرَجحَة إيجاب الإجابة، ربما التقى بزميلة، أو ابنة صديقة لِوالدته، أو...
نفضت رأسها بقوة في مُحاولة جوفاء للتخلص من هذا الضيق الذي اقتحمه، لكن كيف لها أن تُزيح تلك القبضة التي أحكمت على قلبها؟!
وما شأن قلبها؟!
لقد خذلها من قبل، لماذا يقحم نفسه ثانية؟ لماذا لا يلتزم بقواعد قررت اتباعها حتى لا يتكرر خداعها؟!
قواعد تتلاشى بالتوالي دون أي احترام لخوفها، أو لرفضها!
"لماذا تختبئين بالداخل؟!"
رَفَعَت رأسها إليه حينما ألقى سؤاله عليها في تحفز فاختلست نظرة خلفه تحاول الوصول إلى أي لمحة من المحل المُجاور ثم ابتسمت بارتباك قبل أن ترفع كتفيها لتقول في كذب واضح:
_أشعر بالحر.
منحها نظرة ناعسة وقال في تهكم:
_تمرضين في أغسطس لكنكِ تشعرين بالحر في نهاية العام؟!
ثم أضاف في تهكم:
_ ربما لأنكِ تلتحفين بمعطف يفوقكِ وزنًا!
زوت ما بين حاجبيها لتقول في تبرير واهن مُتجاهلة تلميحه إلى هيئتها المُنتفخة:
_كما أن.. الضوضاء بالخارج تزعجني.
اتسعت ابتسامته ومال على المقعد المُرتفع الذي تجلس عليه، ثم قال في نبرة ماكرة وهو يُشير خلفه:
_قولي أنكِ تهابينها وتخشين أن تواصل مُضايقتكِ فتتوارين هنا!
حدَّقت به في ارتباك ثم رَفَعت كتفيها بلا معنى، لترد في غيظ:
_ما المشكلة إن كنت أنا شخص مُسالم للغاية؟! لماذا تتصنع الدهشة وكأنك اكتشفت ذلك لتوك؟!
استقام من فوره لينقلب وجهه سريعًا، ثم همس لها في حنق:
_هناك فَرقًا بين الشخص المُسالم والجبان!
ثم أضاف في صرامة:
_هيا اخرجي لتتولي مراقبة تلبية طلبات الزبائن!
منحته بسمة صفراء لترد في محاولة للتمسك بقرارها:
_أستطيع المراقبة من مكاني.
فما كان منه إلا أن استل أحد أعواد القصب القريبة ورَفَعها تجاهها قائلًا في تهديد:
_تحركي يا إيلاف! ولا تحمليني على أن أفعل ما يجعل منا مشهدًا مُسليًا للرائح والغادي!
استطاعت أن تلاحظ صدق وعيده، فلا شك لديها في أنه سيطعنها بالعود إن لم تنفذ أمره، لِذا أطاعته صاغرة ووقفت تخلع عنها الوشاح الصوفي الذي تلفه حول عنقها ثلاث مرات، وأتبعته بالقفازات مُتظاهرة بعدم رؤية الدهشة بعينيه، ثم اتجهت إلى الخارج.
_ساعديني في حمل هذا الكرسي لأنقله إلى الجهة الأخرى!
نقلت نظراتها بينه وبين الكرسي في حيرة، لتقول في استخفاف:
_ألا تستطيع حمله بمفردك؟َ!
هز رأسه نفيًا في برود ليرد في إصرار مُقتضب:
_لا، لا زلت لم أشفى تمامًا بعد!
بتوجس اقتربت منه لتقف قبالته، وبتعجب مدت يدها لتساعده في حمل كرسي بإمكان طفل صغير حمله بأصابعه، لكنها لم تكد تفعل حتى تعثر هو دون سبب لتتعثر بالمثل، وقبل أن توشك على السقوط ارتطمت بالطاولة المرتفعة خلفها، والتي تخص المحل المُجاور..
طاولة كانت تحمل ميزانًا ثقيلًا، فسقط هذا الأخير أرضًا، مع الكفتين وطبقًا صغيرًا يمتلئ بعملات معدنية تناثرت بصوت صادح في الأرجاء!
عَمَّ الصمت المُطبق المكان فيما أخذت إيلاف ترمش بأهدابها بلا فهم وهي تعي أنها للتو قد قدمت لِجارتها _التي خرجت تحصي الخسائر في ذهول_ فرصة ذهبية للنَيْل منها أمام الحي بأكمله، وفي استغاثة التفتت إلى زوجها تستجديه بعينيها أن يُنقذها من شجار قادم ليست بأهل له، لكنها اصطدمت بملامح دهشة مرتسمة بسخاء على وجهه، وما لبثت أن تحولت تلك الدهشة إلى ابتسامة معسولة نادرًا ما رسمها، ليتوجه بحديثه إلى أم إيهاب التي شمرت عن كميها في تأهب:
_عُذرًا! لقد شردت زوجتي بعض الشيء فَدَفَعت.. أعني.. أسقطت الميزان أرضًا!
والمكر الذي اختلط بالبراءة في نبرته تبدل إلى نزق مزعوم حالما التفت لها مُوبخًا:
_ألا تنتبهين لخطواتكِ يا إيلاف؟! هذا الميزان غالي الثمن.
وجابت عيناه الأرض ليقول مُصطنعًا إشفاق مُبالغ به:
_لقد ضاعت النقود المعدنية، كيف سنجمعها كلها؟!
بالتدريج أدركت أنه يُسلمها _عن عمد_ كأسرى الحرب إلى العدو، العدو الذي ارتفع صوته دون تردد:
_ ماذا فعلتِ بميزاني؟! لقد كدتِ تُحطمينه!
ازدردت إيلاف لعابها في قلق لتصطنع ابتسامة ثم خاطبها في مُهادَنة:
_لم يكن ليتحطم، إنه.. إنه مُتقن الصنع اللهم بارك! هنيئًا لكِ به!
وكادت أن تنحني لتحمله لولا أن سارع هو بِمد يده ليمسك بذراعها فمنعها بقوة، ثم زم شفتيه قائلًا في تحسر مُثير للسخرية:
_والنقود، لا تنسي النقود المعدنية التي يتعارك الزبائن لأجلها!
بغيظ التفتت إليه إيلاف تهتف في استنكار:
_بِصف من أنت؟!
طقطق بلسانه في تعجب ليُجيبها بزهو:
_بِصف الحق يا إيلاف، كنت ودومًا سأكون!
هنا تدخل أبو إيهاب الذي كان يُشفق على إيلاف من جبروتها، فتمتم في رجاء:
_اعتذري لها يا بُنيتي حتى لا تُصعد الأمر!
توتر جسد إيلاف مع ملاحظتها أن أحد عاملي المحل القريب قد انتبه لِما يحدث، بينما خرج الحاج بيومي من المخبز مُتوجهًا إليهم في تحفز، فنظرت للمرأة لتتمتم في خوف:
_أنا..
لكن حينما سحب زوجها عود القصب ذاته ليرفعه مُتظاهرًا بتأمله ناهيًا إياها بعينيه أن تتم اعتذارها بترت عبارتها ثم تلمست بعض القوة لِتُكتف ذراعيها وتشمخ بذقنها، وقالت في بوادر صلابة:
_لقد دفعتِ ثلاجتنا بالأمس وسكبتِ العصائر ولم تعتذري لي، تعادلنا إذن!
اتسعت عينا أم إيهاب في ذهول عندما تطلعت إلى جرأة مُستحدثة من الفتاة التي كانت تتحاشى التقاء نظراتهما منذ بدأت بالتردد على المحل، فاقتربت منها تسألها في لهجة شابها تحذير صريح:
_هل تعنين أنكِ دفعتِ الطاولة عامدة؟
تراجعت إيلاف بضع خطوات للخلف حتى التصق ظهرها بصلابة صدر زوجها فأدار ت رأسها تختلس إليه نظرة تطلب بها المؤازرة، فما كان منه إلا أن رَفَع إبهامه يُشجعها على المُضي قدمًا في طريقها نحو مُشاداة ربما لن تخرج منتصرة منها، لكنها استمدت منه بعض القوة وعادت تنظر إليها لتجيبها في برود بينما أخفت يدها خلف ظهرها كي تُواري ارتعاش أصابعها:
_نعم، فعلتها عامدة!
مد ناهل يده خفية يضغط على كفها في قوة فاحتل العناد نظراتها وهي تُجابه المرأة، وكانت عبارتها إيذانًا ببدء شجار متوازن نوعًا ما، فأم إيهاب فوجئت بمواجهة خصمها الضعيف لأول مرة، بينما ظل البعض يراقبون في دهشة، والبعض في فضول، والغالبية في شماتة!
وما إن اطمأن ناهل لاستعادة إيلاف توازنها حتى ابتعد بضع خطوات للخلف ليتناول إصبعًا من الموز ويأكله في تلذذ، واستمع للحاج بيومي يسأله بقلق:
_ألن تتدخل بينهما قبل أن يتفاقم الأمر؟
تناول ناهل إصبعًا آخر قبل أن يرد عليه في استنكار:
_حاج بيومي! مشاجرات النساء تقتصر على النساء ولا يتدخل الرجال بها!
تعلقت نظرات الرجل بإيلاف التي اكتسبت بعض الثقة من توتر المرأة الواضح باهتزاز صوتها رغم علوه بعدما تدخل البعض، ثم قال لناهل الذي لم يكن يومًا أكثر لا مُبالاة:
_ربما لن يُمرر زوجها الأمر.
ضحك ناهل بصوت عالِ فالتفتت إيلاف إليه في دهشة لِتشاطره ابتسامة رغمًا عنها، لكنه لم ينتبه لها بينما يرد على الحاج بيومي في سخرية:
_صدقني زوجها نفسه سيرسل إلينا خطابًا وافر الشكر بعد أن عكرت إيلاف مزاج زوجته سليطة اللسان المُفترية!
**********

بعد عشرة أيام:
انتهت من تناول طعامها بمفردها على طاولة المطبخ بعد أن تأكدت من تجهيز آخر حقيبة سيتم إرسالها اليوم إلى شقة الزوجية التي لم تهتم بمعاينتها مُكتفية بأن تعتمد اعتمادًا كُليًّا على خالتها وعمتها خاصًة بعد تحسن حالة ساق لؤي، داعبت أناملها حلقتها الذهبية التقليدية والصوت اللائم في ذهنها يواصل صراخًا منذ اللقاء الأخير مع صاحبها..
"ربما قد تسرعتِ بقراركِ!"
"كان من الواضح أن اهتمامه بكِ له دافع تجهلينه!"
تنهدت بتثاقل امتد إلى روحها، يغزوها شعور بأنها ما كانت إلا وسيلة ليُرفه بها عن قلبه الذي يفتقد شريكته..
وسيلة لا يُثير اهتمامه بها سوى.. اسمها!
"ألا زلتِ تفكرين بكلامها؟"
استدارت بجذعها إلى غفران التي تقف على مقربة، تتابع في اهتمام الماء يغلي في الإبريق، لِوهلة تخللت عينيها دهشة لكنها ما لبثت أن ردَّت في خفوت:
_لو كنتِ مكاني ألن تفعلي؟
أولتها غفران ظهرها لتتناول كوبًا زجاجيًا وشرعت في صب مشروبها وأجابتها في لا مُبالاة:
_لست مكانكِ، رغم أن الجُبن في المواقف الحاسمة يُجنبكِ صدامًا وشيكًا، لكنكِ على المدى الطويل ستكتشفين أن عُمركِ قد سرقه حرفا كلمة "لو"!
وضعت لين رأسها بين كفيها فتابعت غفران في صوت بدأ الحقد يفوح منه:
_لو كنت مكانكِ لم أكن لأمنح الراحة لمن سلبوني إياها، لَصببت عليهم اللعنات حتى آخر نفس يتردد في صدري، ولم أكن لأقبل بأن أتقلب كل ليلة على الأشواك بينما يتمرغون هم في فُرُش من ريش النعام بعد أن أفقدوا أنفسهم ضمائرهم قبل ذاكراتهم!
نظرت لها لين في توجس لم تره فقد أغمضت عينيها لِتُردِف في نبرة مُنتشية بظفر خيالي:
_لو كنت مكانكِ لَواجهت، لأضرمت النيران في الجميع بلا تمييز، لهددت البنيان الذي أقف أنا على قمته، لصرخت، ودافعت، واستنكرت، حتى لو عَمَّ الخراب من حولي وطالني بالمُقدمة!
سألتها في ضياع بنبرة مترددة:
_وإذا ثبت الذنب، أتغفرين؟!
فأجابتها عن ثقة دون تلكؤ:
_المغفرة في عُرفي سراب، وهم إن وقعت كالبلهاء في هوى جمال ملامحه نشب أسنانه القبيحة في روحي ليفترسني بلا مُقبلات!
ورغم غياب نظرتها خلف جفونها فإن لين كادت تُقسم أنها تتطلع إلى بركان ينشب في اطراد مُتغذيًا على كل ما يُلقى إليه من كراهية ورغبة عارمة بالقصاص، رغبة انطفأت _أو اختبأت_ حالما استدارت لها غفران لتستطرد في جمود:
_لست مكانكِ كي أُسدي لكِ النصيحة الصائبة، لكن لا أحد يتبع غواية شخص خبيث دون أن يتلمس كل السُبُل حتى يتأكد.
طأطأت لين رأسها أرضًا وابتسمت إدراكًا منها أنها وغفران تتبادلان حديثًا مُطولًا للمرة الثانية خلال فترة قصيرة، فسألتها في فضول:
_لماذا تبتسمين؟
عادت ترمقها مليًّا لترد في صراحة:
_لِتوي لاحظت أنني أكبركم، لكنني ما أنفك أن أطلب منكم النصيحة، أليس أمرًا مُثيرًا للسخرية؟!
والألم الذي تسلل إلى آخر كلماتها لم يؤثر في الضحكة التي أطلقتها غفران قبل أن تُعلق في استخفاف:
_مُخطئة أنتِ إن ظننتِ أن العمر يُشكل فارقًا بهذا البيت، ها هو جدكِ أكبرنا جميعًا، عركته الحياة ويستطيع قراءة ما يدور في أذهان الكثير، لكنه يرتكب من الأخطاء أشنعها كأي فرد خلف هذه الجدران التي يحتفظ بنا بداخلها!
راقبت لين في دهشة هذا الألم الذي لا شك به، وفي استنكار سألتها:
_ألا تصورين الأمر وكأننا جر..
قاطعتها غفران تفرقع إصبعيها بانتصار:
_جرذان اختبار، هكذا نحن، يظن جدكِ أن حلم العائلة المتحابة المُترابطة يُمكن تحقيقه، يتشدق بمبادئ اهترأت منذ زمن ومثالية تليق بقصص الأطفال التربوية!
ثم مالت عليها تتطلع بها عن قرب في غضب، في نقمة، وفي.. وجع، لتردف بكلمات امتزجت بها ظُلمة كالتي اشتدت بمقلتيها:
_لكنه يتجاهل أن القواعد التي أسسها ربما لا يعمل بها سواه، فَهُنا بهذا البيت.. لا قواعد، وهنا خلف هذه الجدران.. نهاية أخرى، أكثر مأساوية، وأحلك سوادًا!
في خوف حملقت بها لين حتى تراجعت هي إلى الخلف لتكمل إعدادها الشاي، واختتمت حديثها بلا اكتراث:
_صدقيني! بعائلة الكردي.. من امتلك الدهاء اللازم فاز بالنجاة بغض النظر عن استحقاقه!
شردت لين في توتر،بينما أغمضت غفران عينيها بتعب بعد سُهاد ليلة طويلة لم تستطع النوم خلالها رغم غياب مصدر الخطر!
هذه المرة كانت الحيرة هي السبب لا الخوف؛
حيرة رافقتها منذ وصلها ذلك الطرد بالصيدلية مُحتويًا على عشرة آلاف من الجنيهات مع ورقة بيضاء مُطوية بعناية خُطَّت عليها كلمة واحدة..:
"أعتذر!"
ألا يتم الحكم على صدق الشخص أو انعدامه من لغة الجسد؟ من النظرة؟ من النبرة؟
لماذا وصلها الصدق غزيرًا ساطعًا بكلمة مكتوبة بخط أنيق؟!
ولماذا يُصمم ذلك الحقير على إرباكها؟
ببداية الأمر يبتزها بكل خسة ثم يهاتفها ليعتذر منها ويؤكد لها أنه لم يتطلع على جسدها، والآن ها هو يُعيد إليها مالها!
لماذا تستقطب المجانين أينما ذهبت.. غرباء كانوا أو قرباء؟!
ولماذا تفقد أسباب قلقها وخوفها تباعًا فتوشك على استعادة نفسها التي لم تكن تحمل أيَّة هموم؟
توشك على التنفس بخفة..
وتوشك على الانطلاق تَوْقًا إلى رفقة!
تنهدت مُطولًا وأمسكت بكوبها ثم نظرت إلى أختها قائلة في هدوء:
_تحدثي مع خطيبكِ! لا أظنه طائشًا حتى يتزوج منكِ بسبب تشابه أسماء وحسْب، نظراته المهتمة التي كان يختلسها إليكِ لم تلحظيها لكني فعلت.
ثم أضافت فيما بدا أنها تحاول جاهدة السيطرة على حدتها:
_أنا أكيدة بأنه يكن لكِ بعض المشاعر، لا أعلم مدى قوتها، لكنني أيضًا أشك بأنه سيحتفظ بها سرًا لِوقت طويل، وتلك المرأة ستنخرس تمامًا حينما تتصدين لها!
ولمَّا رحلت لتترك صدى كلماتها يرن في عقلها تناولت لين هاتفها لترسل رسالة مُقتضبة إليه.

"ثق بي أستطيع فعل الكثير أثناء الشجارات! لكن ما منعني عنك يومئذٍ هو استدعاء جدي وتدخل لين لا أكثر!"
في زهو قالها ياسر وهو يرمق هارون متوعدًا، بينما كبت هذا الأخير رغبته في الضحك ليضيق عينيه ويرد:
_هل تقترح عليّ أن نستأنف ذلك الشجار الآن؟!
مط ياسر شفتيه ثم قال في نبرة مُترفعة:
_لم أكن لأقول لا، لكن سيبدو مظهرك بالغد في زفافك مُثيرًا للدهشة بكل الإصابات المُتعددة التي أستطيع أن أُحدثها بك!
أفلت هارون ضحكة عالية شاركه بها ياسر في سماحة وهو يلحظ قدوم لين، فاستقام ليشير إلى أريكة بعيدة نوعًا وقال في همس:
_سأُسدي لك نصيحة قبل أن أذهب لأجلس هناك.
منحه هارون كامل انتباهه ليُضيف بنبرة على درجة بالغة من الأهمية:
_معك خمس دقائق، ربما عشرة على الأكثر.. الزم مكانك واختصر في حديثك واشرب قهوتك أثناءه ثم ارحل على الفور قبل أن ينزل جدي من غرفته ليجدك! صدقني أنت لا تعلم إلى أي مدى قد أَحَبَّك وكيف سيُرحب بك ما إن يراك!
نال التوجس من هارون وهو يراقبه يرحل إلى حيث أشار مُفسِحًا له مجالًا مع خطيبته للتحدث، اعتدل في المقعد الواسع ليتكلم، لكنها سبقته لتسأله وكأنها تتخلص من أشواك تنغُز لسانها:
_لماذا أردت الزواج بي؟
أغلق فمه ثم فتحه في حيرة، وابتسم في قلق قبل أن يقول بصوت دَهِش:
_ألم نتخطى تلك المرحلة بعد؟! عقد القران والزفاف بالغد يا لين!
أخفضت رأسها أرضًا وراحت تفرك كفيها لا إراديًا، انقبضت أصابعه ثم انبسطت حتى لا يُلبي رغبته التلقائية ويمسك بهما، ثم أشاح برأسه إلى يساره وسألها في ضيق:
_ماذا هناك؟ ولماذا تسألينني الآن تحديدًا بعد رفضكِ أن تأتين مع خالتكِ وعمتكِ للشقة كي تتابعي تجهيزاتها طيلة الأيام السابقة؟!
_أجبني!
نظر لها في حَذَر مُلتقطًا حالتها العصبية التي يراها للمرة الأولى، وفي أنفاس متوترة تابعت:
_هل طلبت الزواج مني لأنك أردتني أنا.. "لين جلال الكُردي"، أم.. أم لأن اسمي يُذَكِّرك بـ..
أغمض عينيه متأوهًا في همس فلم تجد داعِ لأن تتم العبارة الصعبة..
كامرأة ينتابها شعور بالإعجاب لأنها على وشك الاقتران برجل مخلص ربما لا يزال لم يتجاوز وفاة حبيبته؛
لكنها _أيضًا كامرأة_ يقتحمها شعور كريه بالصغر كلما استنتجت أنها لا تُمثل له أكثر من حروف يُنادي بها غيرها!
عض على شفته ثم غمغم بما لم تسمعه، ابتسم في سخرية شابتها المرارة قبل أن يقول في شرود حالما خمن ما خفى عنه:
_كنت أعلم أن حقدها سيتغلب على أية رغبة طبيعية لسعادة شقيقها، كنت مُتيقنًا أن سرورها بالإضرار بأي شخص يمت لناهل بصلة سيدعس أمنية لا جدال بها باستقراري أنا!
ثم أضاف في أسف:
_أنا من تماديت في الأمل، لا عجب بسخريتها الدائمة مني!
وَمال يستند بكوعيه على فخذيه ليُردِف في صرامة:
_أتعلمين؟! كانت دومًا تنصحني بألا أقابل السوء بالتسامح، ويبدو أنني سأعمل بنصائحها أخيرًا، لِذا اسمعيني جيدًا يا لين لأنها ستكون المرة الأولى والأخيرة أيضًا حيث سنتحدث بهذا الأمر!
ورغم تعاطفها معه لِعلمها أن شقيقته لم تأمل من تلك الخطوة خيرًا بها أو به فإنها أرهفت السمع تمنحه جُل تركيزها، تختبره بكل حواسها في أمنية قوية بأن يجتاز بلا عوائق..
وماذا إن لم يفعل؟
هل ستتراجع؟
هل ستنتظر حركة مجهولة سيقوم بها أسامة ليُحقق وعيده؟
أم هل ستواتيها الجرأة وتفصح عن كل شيء من البداية؟
هزت رأسها فظن هو أنها ترفض شرطه، فأجلت حنجرتها لتتمتم ببعض الانفعال:
_أسمعك.
تخلص من تنهيدة طويلة ثم انطلق في صُلب الموضوع قائلًا ببعض الأسى:
_لينة _رحمها الله_ كانت الابنة الوحيدة لِجارتنا، توفيت بعد أشهر قليلة فقط من زواجنا بسبب المرض، لم تُغضبني يومًا وأظن أنني لم أفعل، كانت مثالًا للهدوء والحنان وبالتأكيد لو كان عمرها أطول لكنا سعيدين الآن.
عقدت حاجبيها في حيرة وتسلل إليها بعض الارتياب، أليس بحديثه بتلك البساطة عنها سببًا لانزعاجها وهو يؤكد لها عُمق رابطته بزوجته؟!
أليس عليها أن تجنح إلى الاقتناع بظنونها؟!
_بآخر أيامها اكتشفت مُصادفة أن شقيقتي لم تتوقف عن إزعاجها وإيلامها، لكنها لم تُخبرني، لم تنطق بشكوى، تحمَّلت الأذى المعنوي منها والوجع الجسدي نتيجة المرض حتى رحلت تقسم بأنها ليست منها غاضبة!
جف حلقها وهي تحاول تخيُل طبيعة الشخص الذي يؤذي مريضًا لا حول له ولا قوة، فلم تستطع، لكن مرأى القهر بعينيه جعلها تواصل الإنصات بينما تابع بنبرة مكتومة:
_لكنني غاضب، غاضب للظلم الذي وقع عليها ببيتي، وغاضب لأنني لم أجد الوقت اللازم لأجبر شقيقتي على الاعتذار منها!
وحالما أنهى عبارته طأطأ رأسه أرضًا، تتقاتل مشاعره بين حنق وحسرة وندم، حتى سمع همسها الحنون:
_رحمها الله!
أومأ برأسه ثم عاد ينظر إليها في جدية عبر عنها في تأكيد:
_لِذا أنا أكره الأسرار يا لين، أكرهها خاصًة إن كانت تمسني بشكل أو بآخر! وأكرهها لأنها تسرق مني الفرصة وتسلبني مزية إنقاذ الحقوق، ثم تورثني شعورًا مُقيتًا بفقر الحيلة!
رن صمت مهيب بينهما وكلٌ سابح في أفكاره؛
لمس تحذيره شعورًا خفيًا بداخلها، لكنها تجاهلته!
وانتابه الأسف لأنه لم يمنحها اطمئنانًا تستحقه!
_لم أعلم اسمكِ باللقاء الأول.
قالها في هدوء لتنظر له بتساؤل، فتابع وهو يسمح لابتسامة أن تتولد على ثغره:
_ذلك اليوم، حينما كدت أتشاجر مع ياسر وتدخلتِ أنتِ بيننا، كنتِ تبكين خوفًا على إيلاف، وكنت أتخبط في حيرة لا أدري متى بدأت وإلام ستنتهي!
ارتبكت نظراتها وهي تستعيد لقاءهما حينذاك، لكنها رمقته بتوجس ما إن استقام ليجلس إلى جوارها فاضطرت أن تتحرك بعيدًا بعض الشيء خاصًة مع صوت نحنحة ياسر العالي وكأنه استعار حنجرة جدهما، ثم أضاف هارون وقد ازدادت ابتسامته اتساعًا:
_وبالزفاف انتهت، أجبرتها عيناي التي تلحق بكِ على الانتهاء، وأجبرها وجيب قلبي الذي تشبث بالأمل في إصرار على الاختفاء وكأنها لم تكن!
واغتمت ملامحه فجأة ليعبس مُستطردًا:
_لكن.. حين ظننت أنكِ متزوجة اكتنفني ذعر لم يسبق أن تعرضت له..
وما لبثت أن انفرجت ليُضيف في الابتسامة ذاتها:
_ولكن.. عندما استدعاني جدك واكتشفت أنكِ على وشك التحرر شعرت بذعر أكبر، لأنني أدركت مدى تأثري بكِ، واعترفت لنفسي بأنني أتلقى دفعة جديدة تمامًا من اضطرابات تماسكي، وأنا يا لين لم أكن أبحث عن أي من ذلك!
لم تجد بدًا من التهرب من نظراته التي تتغلغل إلى داخلها، إلى حيث ترفض أن يصل أحد؛
هي لا تود التورط فيما ليست على استعداد له ولا بحاجته؛
ولم توافق على الزواج منه إلا لأنها على اقتناع تام بأنه أفضل القرارات السيئة التي تحمي بها نفسها وطفلها من مجنون لا ينفك يُلاحقها ليُخرب لها حياتها، علُّه يتأكد أنها لن تكون له!
أهكذا وَحَسْب؟!
ربما.. وربما لا!
حلم قديم يُراودها عن أسرة كبيرة تُساوي بها بين أطفالها جميعهم؛
لا تُفضل أحدهم على إخوته فيتجنبونه حسدًا أو كراهيًة، ليتلقى هو كل حلاوة المُعالمة كالعلقم الذي لا يستطيع رفضه كي لا يُتَّهَم بالترفُّع!
هذا الرجل الذي يُحدق بها في إمعان يُمثل لها مخرجًا مناسبًا للهَرب، ووسيلة شرعية لتحقيق حلمها.. حتى الآن!
لا!
هناك شيئًا غريبًا يحدث لها، هناك شعورًا جديدًا يجتاحها ويتعاظم في سرعة مُثيرة للدهشة!
_أهناك شيئًا آخر تودين معرفته يا لين؟
سألها بينما ذهنها قد بدأ تقريعها بدعوى الأنانية، فهزت رأسها في نفي قبل أن تبتسم في تهذيب، أو امتنان، أو بُشرى تُنقب عنها منذ زمن..
ستحصل على أسرتها السعيدة، وستعمل قدر الإمكان حتى تكون له نِعم الرفيق.

بقاعة الزفاف:
إلى جوار عمتها أماني وقفت مُرغمة تستمع لحديث مُثير للضجر يدور بينها وبين إحدى المدعوات، تأففت مرة ونفخت مرات، كتفت ذراعيها وراحت عيناها تجوب القاعة بلا اهتمام لدقائق، لكن شعورها بالاختناق كاد يُجهز على البقية الباقية من اضطرارها التزام التهذيب..
اختناق اضطرت لأن تعترف لنفسها بسببه رغم محاولتها صم أذنيها عنه.. سترحل لين عن البيت بالوقت نفسه حين بدأ تواصلهما، ويورثها هذا الكثير من الوحشة.. وحشة لم تشعر بها بزفافها الأول!
اعتذرت لعمتها وانطلقت من فورها إلى لؤي الذي يجلس على أحد المقاعد بعد أن استطاع التخلص من العكاز.
نظر إليها في بسمة مُتسلية ليقول مُشاكسًا:
_إنه زفاف أختكِ تحملي قليلًا وستعودين إلى غرفتكِ!
في غيظ حدقت به لتهتف باستنكار:
_لماذا تنظر إليّ هكذا؟! أنا سعيدة من أجلها.
ارتفع حاجباه يرمقها كابتًا ابتسامته بصعوبة، فحدجته في حنق لتتابع:
_ألا تصدقني؟! أنا بالفعل أغبطها على فرارها! كل من ينجو من هذا البيت كأنه وُلِد من جديد!
أشاح بوجهه بعيدًا ليضحك بصوت مكتوم، ثم عاد ينظر إليها رادًّا:
_على الرغم من أنني لا أرى بيتنا بهذا السوء الذي تُصورينه دائمًا، فَباستطاعتكِ النجاة أيضًا.
ضحكت في تهكم فافتعل الجدية وقال:
_تعلمين أن ابن عمتكِ ينتظر إشارة موافقتكِ ليعقد قرانه عليكِ في الحال، حينها باستطاعتكِ اشتراط الاستقلال بمسكنكما عن بيت العائلة وتتسبين في الصُلح بين عمتكِ وجدكِ!
احتدت عيناها بغضب صارخ وقالت في تحذير:
_لؤي! لا أحب ذلك المزاح فإياك أن تكرره!
مال برأسه يمعن النظر بها ونطق في تركيز:
_أخبريني بالحقيقة إذن!
نادرًا ما تتوتر غفران، دومًا واثقة لا مُبالية، لكن هذا الارتباك الذي ظهر على ساحة انفعالاتها أكد له شكوكه، شكوك لم تعد كذلك حينما تهربت نظراتها منه تتمتم في اهتزاز:
_أية حقيقة؟
ودون تردد حاصرها متسائلًا:
_لماذا تكرهين عمرو إلى هذه الدرجة؟
افتعلت ضحكة مبتورة وعدلت من وشاحها ثم علقت في سخرية:
_ألا تجد سببًا واحدًا؟!
_لا تراوغي يا غفران! أنتِ تفهمين ما أعني، بعيدًا عن البلاغ الضريبي، بعيدًا عن دعوى الحجر والشجار الأخير، دومًا ما كنت أشعر حينما تقع عيناكِ عليه أنكِ تتمنين قتله.
قالها في صرامة جعلته أقرب في الشبه إلى والدهما..
لا!
بل جدهما..
لا أحد يشبه جدهما مثل لؤي؛
ياسر طباعه أكثر لينًا وترفقًا؛
أما عن الخبيثين فلا يشبهانه البتة؛
إذن هو لؤي من يمتلك جينات فؤاد الكُردي في تطابق مثير للتعجب.. والإعجاب!
زمت شفتيها في غيظ ثم قالت بِنزق:
_نعم، في الواقع أتمنى لو أقتله وشقيقه أيضًا، لذا توقف عن محاولة تمضية وقتك الممل عن طريق أداء دور المحقق! بل وتوقف عن التواكل الزائد! لقد شفيت تمامًا فلا داع لمواصلة استغلال اهتمام والدتك وعمتك، ستسمن بسبب جلوسك الذي لا ينتهي!
ضاقت عيناه ومنع ظهور الغيظ على تعبيراته، ليقول في تهكم:
_أنتِ تحقدين عليّ كعادتكِ لأنني محبوب من الجميع، لكنهم يتحاشون التعاطي معكِ اجتنابًا لكآبتكِ وثقل ظلكِ!
رفعت حاجبيها في استنكار، وقبل أن ترد عليه اتسعت ابتسامته وهو ينظر خلفها ليرتفع صوته في ترحيب ساخر:
_ها هو صديقي البخيل الهارب الذي تمارض طيلة الفترة الماضية حتى لا يبتاع علبة من الحلوى ويأتي لزيارتي!
استدارت لترى مهند مقبلًا تجاههما، لكنه ما إن رآها حتى توقف مكانه في تردد لم تلحظه وهي تقول ضاحكة:
_يحق له أنه يسأم شكواك المستمرة ودلالك المبالغ به.
ثم وقفت تبادره في حبور:
_كيف حالك يا مهند؟ لقد ذهبت إلى الكلية بالأسبوع الماضي لكنني لم أجدك.
وتابعت مُشيرة إلى شقيقها قبل أن يرد مهند ودون أن تنتبه لِشحوب وجهه الملحوظ:
_أرأيت ماذا فَعَلَت به ذنوبه المتمثلة كلها في إزعاجي؟! لم..
لكنها بترت عبارتها حينما ظهر شقيقه من خلفه، والذي حياها في تهذيب:
_مرحبًا يا دكتورة!
لم تكلف نفسها عناء الرد واكتفت بأن أمطرته بوابل من نظرات حانقة تظاهر بعدم رؤيتها أثناء مصافحته شقيقها الذي قال:
_العقبى لك يا نضال!
وقبل أن تتحكم بنفسها تمتمت في تهكم:
_لا أظن!
بجانبي عينيه نظر لها وهو يضغط على أسنانه، فمنحته أكثر تعبيراتها امتعاضًا قبل أن توليهم ظهرها لترحل، لكنه قبل أن يفكر لاحقها في إصرار قائلًا في نبرة مُرتفعة بعض الشيء:
_إذن أنتِ لا تظنين أن هناك فتاة بإمكانها أن تتمنى الزواج بي.
توقفت لتستدير له وترد في تشفي:
_سوداء!
_عفوًا!
علَّق في دهشة فأوضحت بابتسامة شامتة بها من الاستمتاع مع التحدي ما زادها إرباكًا لوقاره:
_ سوداء النية والحظ والمصير ستكون هي! مُتعسِّرَة ستقضي حياتها! ومنكوبة ستنعي أيامها! ولو وُجدت بالأصل تلك الحمقاء فليعينها الله على ابتلائها!
توتر اجتاحه وعيناه تلحظ ثوبها الأسود المحتشم، مع حجاب يتخلله اللون ذاته، ثم أشاح بها عنها وتنحنح في حرج ليتمتم:
_يبدو أنكِ لا زلتِ غاضبة مني.
زوت ما بين حاجبيها مُصطنعة أسف لا تشعر بأي قدر منه ثم علقت:
_يا لقسوتي! كيف لي أن أغضب من شخص طيب مثلك كالملاك بلا أجنحة؟!
عقله يحثه على إظهار بعض الحنق، حواسه كلها ترشده إلى مُبادلتها الهجوم، لكن _من مكانٍ ما، ومن زمان ربما ليس معلومًا_ اقتحمه فضول لا معنى له ولا سبب، فأطلق ضحكة قصيرة وهو يلحظ علامات الغيظ التي عربدت على ملامحها..!
والعبارة الأخيرة التي حررها لسانها بعنف أثناء استدارتها فجأة تزامنت مع سرعة إمساكه بساعدها قبل أن ترتطم بأحد النُدُل الذي كان يحمل صينية مليئة بالكؤوس الزجاجية، وفي اللحظة ذاتها حينما كانت على وشك نزعه من يده سبقها هو ليدفعها وكأن الكهرباء صعقته!
تراجعت للخلف في حرج لتلاحظ أنه عابس بشدة ويتمتم بكلمات غير مسموعة فيما غض بصره بعيدًا عنها في ضيق، فاقتربت..
_أستغفر الله العظيم! أستغفر الله العظيم!
ما إن أدركت ما يهمس به مُشيحًا عنها بوجهه حتى انتابتها حيرة وهي تدرك أنه ربما نادم على ردة فعله التلقائية السريعة، وبلا وعي.. وفي تطفُّل أخذت تتأمل قسماته لتعترف بوسامته المرئية بلا جهد!
وسامة رجولية ممتزجة بخليط متناقض وعجيب من الجرأة مع التهذيب..
و.. والآن ما هذا؟
انطلق السؤال في ذهنها فور أن لاحظت تورد طفيف اعترى خديه، فيما بدأ يتمتم في حرج وهو ينظر في ارتباك بجميع الاتجاهات عداها:
_أعتذر، كدتِ ترتطمين به، لم أقصد أن.. لم أتعمد أن.. أعني.. أعتذر.
اتسعت عيناها في دهشة وهي تراقب حالته المتوترة بينما تسللت إليها تسلية من نوع غريب ولم تشعر بتلك الابتسامة التي لاحت على شفتيها واعيًة ازدياد احمرار وجنتيه، لكن حينما تغلب على توتره أخيرًا وعاد ينظر إليها التقت أعينهما وانطلق الضجيج..
ضجيج صامت؛
ضجيج لم يسمعه سواهما؛
مُتعَب هو.. وهي استطاعت أن تلتقط هذا التعب..
غاضبة هي.. وهو تمكن من استقبال هذا الغضب؛
وتنافُر كان الحاكم بينهما منذ اللقاء الأول يتوارى الآن ليُمهد الطريق للسيد الحقيقي؛
وكأنهما ينجذبان إلى مصير لا يدري أحدهما كنهه، وكل منهما يقاوم على اختلاف أسبابه!
_لا عليك!
قالتها في أدب، في وداعة بدت غريبة شاذَّة على سمعها قبل سمعه!
واليوم حفل! لتتابع مُنسَلِخة من ذاتها العنيفة فَتتلبسها أخرى مُغايرة!
_أشكرَك.
والدهشة التي عبرت عنها عيناه ما إن نطقت تراجعت لتفسح مكانًا لتعبير حائر، متأمل، رافض!
إلا أنها عادت لتهرب إلى عمتها، إلى جوارها وقفت، بلا ملل، بلا ضيق، فيما راح ذهنها يحاول تفنيد هذا الاضطراب الذي يعتريها.
والعروس ابتسمت في تعجب بعد أن راقبت الموقف بأكمله.. يتكرر!
خبرها هارون أنه تأكد من انجذابه إليها بزفاف أختها الوسطى، والآن هي _إن صدق حدسها_ قد شاهدت انجذابًا آخر من حق الصغرى!
وهو.. كان يتلفت حوله في اضطراب، مُستعيدًا مرأى الفتاة نفسها حينما كان يتأكد من تسلمها طرد يحتوي على مالها المسلوب مع خطاب احتوى كلمة واحدة كتبها بيده، رأى ذهولها، ثم خوفها، ثم حيرتها..
في كل لقاء يجمعه بها يلتقي بشخصية مختلفة بروح مختلفة.. وقواعد مختلفة، تُرى أيهما هي الحقيقية؟
وتُرى.. لماذا يُفكر بالأمر أكثر من اللازم؟!
هنأ العروسين وابتعد إلى أقصى زاوية في القاعة يتحرر من سترة بذلته الرسمية التي تحيط بجذعه كالقفص حتى كادت تزهق أنفاسه..
تبًا للأناقة إن كانت ستسلبه راحته!
عقد حاجبيه في ضيق وهو يفك أول زرين من قميصه سامحًا للهواء البارد بأن يتسلل إليه، تنشق في تمهل واحتل الاستمتاع محياه ثم تحول إلى ابتسامة واسعة حين رآها تدس نفسها بين أختيها ليلتقط شقيقها صورة تضم أربعتهم مع العريس.
منذ سنوات لم يرها سعيدة كما هي الآن، لطالما أشفق على احتياجها الدائم لدفء افتقدته بين أختيها، لكن يبدو أن الثلوج التي حالت بينهن قد بدأت بالذوبان أخيرًا.
نظرت له فجأة لتشير إليه أن يتجه إليهم لالتقاط صورة فرفض مُشيرًا بالمثل إلى السترة التي علقها بإصبعين على إحدى كتفيه، فما كان منها إلا أن أصرت أكثر.
ولَبَّى؛
كعادته لَبَّى كل نداء؛
وطواعيه ذهب إلى حيث تكون؛
الأمر خارج تمامًا عن إرادته طالما تعلق بها وحدها!
ثم إلى جوار هارون الذي تفضحه سعادته وقف، ليميل على أذنه قائلًا في سخرية:
_لملم ابتسامتك قليلًا يا نسيب! تبدو لي كمن لم ير عروسًا من قبل!
نظر له هارون في تعجب ثم ما لبث أن قهقه ليرد بنبرة ماكرة وهو يربت على ظهره بقوة:
_ولماذا عليّ أن أُخفي ما أشعر به تجاه زوجتي يا رجل؟! هل أنا مُعقد نفسيًا ما؟!
أطبق ناهل شفتيه مُدركًا أنه رده سيجلب الانتباه بكل تأكيد، فاكتفى بالتقاط صورة معه تشي بصدق سعادته له.. وبه!
وما إن ابتعد قليلًا حتى قابلته إيلاف بلهفة، واشتياق بات أكثر قوة من أن يُنكره!
_إنها كالتابوت!
هتف في ضيق وهو يطوي السترة، فاختطفتها منه مُبتسمة لتحيط بها جذعها قائلة في بساطة:
_أعطني إياها ستنفعني! ينبغي عليهم إلغاء حفلات الزفاف في الشتاء، لا أدري كيف يفعلونها، أنا أشفق على كل العرائس المسكينات اللاتي يضطررن للزواج في هذا الصقيع، تُرى كيف يتحملن الـ..
قضمت عبارتها وهي تستدير عنه في ندم واضعة كفيها على وجهها لتسب نفسها، لكن ضحكته العالية جعلتها ترفع كفيها لتغطي وجهها بينما دار هو ليهمس في أذنها:
_ألم أقل أنكِ انحرفتِ تمامًا؟! ربما يجب علي أن أوصد الباب بالمفتاح ليلًا لئلا يزوركِ حلم بأنكِ تشكرينني مثلًا فتأتين لتحقيقه بينما أنا أثق بكِ وأنام ملء جفوني!
أزاحت كفيها وأحنت شفتيها في رجاء صامت أن يتوقف عن إحراجها، فأخذ وقته كاملًا ليمسح وجهها وكأنه يُقبِّل كل جزء منه، ثم سألها في ابتسامة:
_أتضعين حمرة على وجنتيكِ؟
هزت رأسها في بطء لترد هامسة:
_لا، خبرتك من قبل أنني لا أُتقن توزيعها!
اتسعت ابتسامته وعلق:
_إذن فقد قلت ما يخجلكِ!
أخفضت رأسها في حياء ليُردف بخفوت:
_لا تحتاجين إليها بالأصل، أنتِ أجمل دونها يا إيلاف!
ازدردت لعابها وربتت على صدرها تلقائيًا في محاولة لتهدئته، لكن عينيها اصطدمت به يُحدق فيها بنظرة رَفَعت من وتيرة ترقبها إلى حد لم تشعره قبلًا، حتى ناداها همسًا فسمعته رغم الضوضاء لترمقه بتساؤل..
لاحظت اضطرابه الذي لم يدُم طويلًا فتغلب عليه ليواصل في نبرة خشنة كعادته.. لكنها فاضت بالكثير من الرفق، و..الرجاء:
_هناك ما أود قوله لكِ منذ وقت طويل، ولا أستطيع كتمانه أكثر من ذلك، سأُجن.
_تحدث يا ناهل!
استحثته في إصرار، فحك ذقنه سريعًا ثم ابتسم وقال بِوعد لم يفتها:
_بعد الحفل، ربما نعود إلى البيت سيرًا ونَمُر بالنهر، ما رأيكِ؟
أومأت برأسها في موافقة قوية، وابتعد هو في تباطؤ كي يترك لها مساحة مع إخوتها ليجلس على أحد المقاعد حول الطاولة التي صارت فارغة بعدما ذهب ياسر ليستقبل مُعلمه وراح الحاج فؤاد يهتم بضيوفه القادمين من بلدته..
"أراك استطعت التعايش مع عائلة زوجتك رغم الفارق، لقد فاجئتني بالفعل، اعتدت عليك متهورًا تتصرف قبل أن تفكر، لكن يبدو أن شهور السجن قد قلمت أظافرك، عساك تشكرني!"
والصوت الذي اقتحم سمعه مُشتتًا انتباهه عن حبيبته أجبره على رسم تعبير تلقائي بالامتعاض، فالتفت إليها ليرد في مُقت صريح:
_وأراكِ لا زلتِ كما أنتِ يا زوجة أبي، رغم كل الجهود التي بذلتِها من أجل تحقيق مكاسب ليست من حقكِ لا تتوقفين عن تكبد الخسائر!
اهتزت مقلتاها فيما ابتسم شامتًا بلا اكتراث لِيتابع:
_كيف حال المحل الذي سرقته منا؟ سمعت أنه لا يقترب منه الكثير، وأنكِ بالكاد تُغطين المصروفات!
ألقت بجسدها على المقعد المجاور له لتقول في كراهية من بين شفتيها:
_ألم يكن هذا هدفك حينما اخترت أن تنافسني؟!
مط شفتيه في برود ثم نظر لها بثبات وَرَد:
_أعترف أنني قد توعدتكِ بالكثير أثناء الحبس، كنت على أتم الاستعداد لكي أفضحكِ، كنت سأتغاضى عن القواعد التي ظللت أتبعها فانتهى بي المآل بين المجرمين لأتصرف لمرة واحدة مثلما اعتدتِ أنتِ!
واعتدل في مقعده ليراقب اندلاع نظراتها، ثم أضاف في ابتسامة خبيثة:
_كنت سأخبره بالحقيقة، تُرى هل تصورتِ ماذا كان سيفعل إن علم بسبب شجارنا الأخير؟! وإن أدرك أن زوجته المصون خرجت تلك المرة عن المألوف فآذت نفسها حتى لا يُفشي ابنه سر اتفاقها مع زوج صديقتها كي يشتري منه المحل فتحصل هي على عمولة قيمة؟!
ارتفع صدرها وهبط في تسارع وهي تستعيد تلك المُشاجرة الأخيرة بينهما، حينما واجهها بما علم فكذبت، قدم لها الدليل فتبجحت، بدأت باستجدائه وهي تربت على ذراعه ليدفعها.. فسقطت، وتوعدت!
ليتم إلقاء القبض عليه باليوم التالي ولا يُصدق أن الدفعة البسيطة تستلزم علاجًا طويلًا كما خبروه بالقسم، لكن ما إن رآها حتى أدرك الفخ الذي نصبته له بإحكام وهي تراهن على اندفاعه.. فانتصرت!
أعادتها إلى الحاضر ضحكة عالية منه قبل أن يُكمل:
_لكن من حُسن حظكِ أنكِ تزوجتِ من رجل قاسِ إلى حد أنه لم يحاول التواصل مع ابنه المسجون مرة واحدة، مرة خلالها كنت سأنتقم منكما معًا فيلقيكِ خارج بيتنا ويلقى هو ربه مُكبَّلًا بآثامه!
وارتحل هو إلى الماضي الذي لم يبتعد كثيرًا، إلى تصوراته بالكيفية التي سينتقم منها..
سيخبر والده.. فيطلقها؛
لكن ما إن وطأت قدماه خارج جدران حبسه حتى هدَّم شقيقها كل أحلامه المُتشفية وهو يخبره بوفاة والده بعد خسارة محل والدته، فلم يبق من آماله إلا الغبار..
غبار بدأ يتشكل في استماتة وهو يجد الطريقة الأمثل للانتقام؛
سيعمل على خسارتها؛
سيكافح حتى لا تلتقط بعض الراحة؛
ولن تعثر على سعادة طالما لا يزال حيًّا!
نظر إليها في إمعان ثم واصل مُستمتعًا بلا شك:
_وإجابًة على سؤالكِ: لا، أنا لا أنافسكِ، فأنتِ أقل كثيرًا من أن ترتقين لِتلك المرتبة، لكنني لا أمانع إن حققت أكثر من مكسب في آن واحد!
ثم احتدت ملامحه ليقول في نبرة آمرة:
_ابتعدي عن كل ما يخصني وزوجتي! وإياكِ أن تستخدمي موهبتكِ الفذة في الغدر بلين نكايًة بي! على الأقل من أجل هارون الذي يكمن سوء عمله كله في كونكِ شقيقته!
لَمح زوجته آتية إليه من بعيد فكاد يقف ليتجه إليها إلا أن الضحكة الماكرة التي ارتفعت شحذت كل تحفزه، لتقول في سخرية:
_انظروا من يحرص على العلاقات ويسدي النصائح! هل بات هارون صديقك الآن؟!
اقتربت إيلاف منهما والانفعال الحانق يعلو ملامحها بعد أن لاحظت أن هناك امرأة تجلس مع زوجها منذ دقائق وتوليها ظهرها.. لتعترف ببساطة أن هذا الوضع لا يعجبها!
لماذا لا يعجبها؟
لا تدري على وجه اليقين، لكن ذلك الغضب الذي ينبثق بصدرها ويحملها على التصرف برعونة لا يُبشر بالخير، فلتبحث عن الأسباب لاحقًا أما الآن فلترى من تلك الوقحة التي...
_وهل ستقوم بخيانته مثلما فعلت بصديقك السابق؟
بتلك العبارة علِمت هوية المرأة، وعلمت أن لا داعِ للقلق منها، فهي _رغم عدائهما_ بمثابة والدته شرعًا!
وبتلك العبارة أيضًا نبت شعور آخر مُزيحًا الغضب، شعور مُتوجس، خائف، قَلِق للتأثير الذي ستتركه كلماتها أيًا كانت عليه!
اكفهر وجهه ولجم نفسه عن الاندفاع، وبالوقت ذاته اختطفت عيناه نظرة إلى إيلاف التي توقفت في حيرة خلف تلك اللعينة، حتى واصلت هذه الأخيرة في نبرة ذات مغزى:
_أتتناسى أنك تزوجت زوجته؟! وهل ستتظاهر أنك لم تفكر بها إلا بعد طلاقها؟
لم يهتم بالرد عليها، لا دفاعًا ولا هجومًا، فيما راحت عيناه تأكل انفعالات إيلاف.. إيلاف التي شحب وجهها واستطاع هو أن يقرأ شهقة انفلتت من بين شفتيها!
_إياك والكذب يا ناهل! لا تنس أننا تشاركنا البيت ذاته من قبل لِوقت طويل وأعلم عنك الكثير جدًا!
لم يعد ينظر إليها، لم يعد يُلقِ بالًا للسموم التي تبثها، كل ما كان يفعله هو الصمت، الصمت والإنصات إلى حُكم انطلق من عينين كان سيعترف لهما بالكثير هذه الليلة، كان سيفرغ كل مكنونات صدره بين يديها!
لكن.. كالعادة، لا يشفع اتباع القواعد في عالمه، ولا يُعترف بالصبر خصلة حسنة من شيمه، سيواصل تلقي العقوبات التي لا استئناف بها، وسينهمك في إصلاح التبعيات حيث تسبب غيره بالضرر!
لكن كم من غدر عليه أن يتلقى كي يدرك أن قواعده تخصه وحده وما على الآخرين سوى خرقها؟!
وحان وقت التتمة، والآن يحق لها الختام بفوز استحقته بفضل خبثها، فوقفت في ثبات غير مُدركة لأخرى تكاد تسقط خلفها، وابتسمت بلا وعي لدمعات تسيل على وجنتي غيرها، لتُضيف من الحقد بالمكاييل حملته عبارتها النهائية حيث لا إضافة بعدها:
_أعلم أن رغبتك بحفيدة الكُردي سبقت زواجك بها بوقت طويل، ربما حينما كانت زوجة لآخر، أعني زوجة صديقك الذي وفر لك العمل بمصنع جده فكان جزاؤه أن اشتهيت زوجته!
*****نهاية الفصل السادس عشر*****


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close