رواية إيبار الفصل الثاني عشر12 بقلم رانيا عمارة
تعلّق بها بعد أسابيع قليلة، فغلف الهوى قلبه بكلمات الغرام التي لا تُلفَظ، وفي تلك الأعين بريقٌ لامع من الحُب الذي عبّر عنه بكلماتٍ لأوّل مرة تُفصح، هو الفارس الجَسور الذي أسعفها على حصانه قبل الواقعة الجسيمة، ولولا انجلاؤه بها من الظلمات إلى النور، لكاد حظّها المنكود يفتك بها، قاضيًا على آمالها المتبقية، محطّمًا كل ابتسامة بريئة خرجت من شفتيها.
في انتظاره لردّها آمالٌ عظيمة، وحياةٌ سيرسمانها سويًا بفرشاة الجوى، وكل لحظة تتأخر فيها ريم عن الرد كانت تمر عليه كالأعوام الثقيلة، لكنّ خوفها من تكرار خطيئة الحب كان أكبر من الكلمات المعبرة، وعلى الرغم من أنها أسيرة لمخاوفها، رأت فيه ما ينقصها من أمان، فمنذ أن شاهدتْهُ عيناها، أحسّت بتعلّق خفي كانت تهرب منه معظم الأوقات، فمهما نكصت من مشاعرها وحاولت ردمها مع الماضي، عاودت التفكير فيه.
في نهاية الأمر، تنهدت واعتدلت على سريرها بتوتر، ونطقت معبرة عن رأيها في الارتباط به، قائلة بدهشة:
_ليه يعني؟!
كان سؤالها عجيبًا، ما أثار ذهول "عمرو" وهو يستمع لحديثها، وقد عبّر عن تعجّبه، قائلًا:
_هو إيه اللي ليه؟
ردّت "ريم" مُفصحةً عمّا تقصده، محاولةً أن تفهم ما يكمن في قلبه تجاهها، إن كان يحبّها حبًّا صادقًا أم أنّه مجرد إعجاب لا أكثر، لذلك قالت:
_اشمعنا أنا يعني؟!
ضحك "عمرو"، فأراد أن يُريحها بإجابته التي تأملها، فقال بابتسامة:
_أنا هقولك إجابة سؤالك "اشمعنا إنتي"، لأن أنا من يوم ما شوفتك وأنا معجب بيكي جدًا وخصوصًا يوم ما وصلتك للجامعة، تقدري تقولي لقيت اللي ناقصني فيكي، كفاية هدوءك وأدبك واحترامك دول لواحدهم كفيلين يخلوني أحبك جدًا....
بينما يحكي ويشرح ما يقبضه قلبه منذ ليلته الأولى، حينما لمح شبح الحب يطارده في كل مكان، كلما هرب منه لاحقه، حتى استمع لنداء قلبه المُغرم يخبره بكلمات رهيفةٍ لأول مرة يُصغي لها، كما لو انزلق بساقيه فجأة إلى بستانٍ أخّاذٍ زُخِر بالياسمينات اللّهجة.
كمنت سعادته في لقائها، كأنه مُصفَّد الفرح الذي هيمن عليه إلى حين رؤيتها، والتعامل معها كان ينقله من سفح الأحزان إلى سماء البهجة، كساحرة بلطفها وهدوئها، تمكّنت بعصاها السحرية مما لا يستطيعه الآخرون.
الحروف وحدها لن تكفي لوصف ما في داخله، لكنه، على الرغم من هذا كله، تابع حديثه بابتسامة هادئة:
_فانا حبيت أعرف رأيك إيه فيا، نفسي أسمع اللي يرضيني ومكونش فاهمك غلط.
لكن "ريم" أخفقت في الكلام، لم تكن تدري: هل تُريح ذهنه بإجابتها الواضحة، أم تصنع لذاتها حصنًا من الكرامة النسائية لتزداد مقامًا في عينيه؟ خشيت أن تجيب بطريقة تكسر مشاعره الممشوقة، فهي لم تعتد أن تكون منبعًا للانكسارات، أو أن تُسدّد الردود المُحطّمة لروحٍ صادقةٍ رغبت في الجدية.
لكنه ازداد درجةً في عينيها حين طلب منها الزواج بشكل مباشر، دون الاستناد إلى أكاذيب شباب هذا العصر، الذين يميلون كل الميل إلى تحطيم قلوب الفتيات، واللهو بمشاعرهنّ كمن يستمتع بتطويح كرة القدم بلا مبالاة، وقد قالت له بخجل ينساب من صوتها:
_اديني فرصة يومين أفكر وأرد عليك!
كان مطلبها عسيرًا، إذ يُعدّ تحديًا لفضوله المتزايد، فقال كمن يُرغم ذاته على تحمّل ما لا تطيقه:
_ماشي يا ريم أنا هسيبك على راحتك وهستنى ردك، ويا ريت تاخدي رأي أهلك وتبلغيني بيه، ولو حصل نصيب إن شاء الله ووافقتوا هكلم أهلي وأجيبهم، وربنا يقدم اللي فيه الخير.
ردّت "ريم" بإيجاز، مختصرةً أحاديث يطول شرحها في ثلاث كلمات محددة:
_إن شاء الله.
أحسّ "عمرو" بردودٍ باهتة لم يكن ينتظرها، فلم يلمس السعادة في صوتها كما توقّع، كأنه خاطبها في أمرٍ عاديٍّ ليس بالمهم، أو حتى يسألها عن حالها ككل مرة. أنهى المكالمة مستسلمًا لحيرته، وذهنه الذي تعكّر بإجابة باردة كالثلوج. وقف قبالة المرآة يحدّق في ذاته بدهشة، يرى إن كان ردّها نابعًا من عدم تقبّلها لملامحه أو مظهره. بدأ عقله يجذب الشكوك نحوه بطريقة قاسية، لربما لم تُعجبها شخصيّته. فبينما الوساوس تتفاقم داخله، بكَّتها، وقال مسيطرًا على أفكاره:
_أنا مش هفكر في حاجة تاني، أنا خلاص قولتلها وعملت اللي عليا، هي بقى اللي يا تطلع عايزاني يإما أنا مش في دماغها من الأساس.
طرقت "غادة" باب حجرته، ثم دخلت بهدوء لتخبره، قائلة:
_عمرو! بابا عايزك برا تروحوا تجيبوا جوز خالتو من المطار!
خرج عمرو معها من الغرفة متجهًا إلى والده، كمن طوّق موضوع الخطبة في جيبه مؤقتًا إلى حين سماع رأي ريم وأسرتها، متناسيًا هواجسه التي أثقلت كاهله، فانشغل بعودة زوج خالته من بلاد الخارج. دخل المرحاض ليغتسل استعدادًا للذهاب إلى المطار رفقة والده "فاروق"، وكانت قطرات المياه تتساقط بحدّة تزيد من وطأة التفكير الذي طالما فرّ منه.
على الجانب الآخر، في منزل ريم، قررت افتتاح الأمر مع والدتها، لكنّ حيرتها في التحدث كانت كاليد المطوّقة حول عنقها، تزيد الضيق نظرًا لظروف الأسرة المقيتة، لكنه لربما خيط من الفرح ينقلب إلى شمسٍ تنير حياةً تلونت بالحزن.
طرقت ريم باب غرفة والدتها، فتفاجأت بوجود "علياء" زوجة عمّها في الداخل، والاثنتان جالستان على حافة السرير تشتكيان لبعضهما ظروف الحياة القاسية.
كانت علياء تتمنّى أن تتخلّص من عالمٍ مرهق، يرأسه زوجها الشحيح "عصام"، الذي كان يملك صفات بغيضة لا تحوي ذرة واحدة من الإحسان، بعدما تزوّجته رغمًا عن عائلتها منذ أربعٍ وثلاثين سنة. فالجميع يرونه أُمِّيًا لا يفقه شيئًا في الحياة، أمّا هي فالتحقت بكلية الآداب، إذ زُيّنت بطاقتها بالدرجة العلمية: ليسانس آداب، قسم اجتماع. وظهر الفارق الشاسع بينهما، وكلما مرّت الأزمان انبجست صفاته السيئة كأنها تخرج من تربةٍ رجسة بلا معالم، فكانت تشكو لها بقلبٍ متوجع، قائلة:
_بقى ده يرضي ربنا، عايز يضرب بته عشان جابت كيكة من وراه؟ ده عملنا فضيحة ما يعلم بيها إلا ربنا... أنا جالي السكر على إيده ويا عالم هيحصل إيه تاني.
ردّت "أسماء" بمواساة، ككريمٍ يُطيب الجروح الحامية:
_الحال من بعضه يا علياء، منها لله حماتك روحية هي اللي معرفتش تربيهم تربية كويسة، لا وهو ولا أخوه عارفين يعاملونا بما يرضي الله.
انغمست "ريم" في الحوار، بترددٍ جليّ على ملامحها، وقالت بغمرةٍ من الحياء:
_ماما أنا عايزة آخد رأيك في حاجة!
ردّت "أسماء" بضيقِ صدر، قائلةً بإرهاقٍ بدني:
_عايزة إيه يا ريم؟
جلست "ريم" بجوارهما على السرير، وكانت والدتها وزوجة عمّها، كلتاهما في حالة تركيز كبيرة، منصتتين لما ستقوله، فتنهّدت بحيرة، ثم قالت:
_فاكرة عمرو اللي جه يزورنا هو ومامته؟
أجابت "أسماء" بيقظة، متذكرةً عمرو ووالدته حياة، بعقلٍ لا يغفل:
_أه فاكراهم، مالهم، حصلهم حاجة؟
ردّت "ريم" بالنفي، وكانت تُؤهّب ذاتها للتحدّث بشكلٍ أكثر جرأةً من قبل، ممهّدةً الطريق لوالدتها:
_لا لا محصلش حاجة... عمرو كلمني النهارده وقالي إنه عايز يتقدملي، أنا طبعًا مديتوش كلمة لسه وقولتله سيبني أفكر وكمان أسألكم لو موافقين ولا لا.
نطقت "أسماء" بموافقة، خاصةً أنها لا ترى في شخصيّته ما يُدينه أو يكون نقطةً سوداء تُوجب الشجب:
_هو الصراحة شاب كويس مشوفناش منه حاجة، أنا عن نفسي عادي من ناحيته، معرفش رأي أبوكي إيه.
ردّت "ريم" بقلق، مرتعبةً من فكرة اعتراض والدها على الزواج منه، قائلةً بحرص:
_طيب أبقي كلميه بس مهديله الموضوع واحدة واحدة، وقوليلي رأيه إيه!
سألت "علياء" مستفسرةً عن عمرو، إذ تودّ معرفته لتنخرط معهما في إبداء الآراء الجليلة:
_يطلع مين عمرو ده يا ريم؟ زميلك في الجامعة؟
أجابتها "ريم" بنفي، فقالت بوضوح:
_لا ده واحد ساكن قريب مننا، عرفته من فترة بس هو كويس أوي، ومامته محترمة، هتشوفيه إن شاء الله لو حصل نصيب.
ابتسمت "علياء" مُتمنية أن تنطلق الزغاريد من بيتهم عما قريب، فقالت:
_طب يارب، عايزين أي حاجة تشرح قلوبنا، ده احنا الهم تقوليش مسك فينا وتبت وحالف ما يسيبنا؟
ردت "ريم" بتفاؤل، كما لو أن طاقة من الأمل اجتاحتها:
_لا إن شاء الله خير، كل حاجة هتتحسن، أنا واثقة خير في ربنا.
قد ترمي أطنانًا من البذور في أرضٍ قاحطة، فتنتظر بعد يوم، اثنين، شهر، عام، أن ينبع ما زرعته حصادًا، فلا تجد ما انتظرته عدا الثقة في الله. حينما ترمي يقينًا نابعًا من قلبٍ واثق، قد تنتظر وقتًا أطول، فيفاجئك الله بعظمته وكرمه اللامحدود، حينها تمطر السماء عليك بالخيرات الوافرة. ففي نفس ريم شعورٌ بأن الخير قادمٌ لا محالة، وهذا ما تميّزت به عن أفراد أسرتها، الذين كانوا يقعون فريسةً لهواجسهم.
تركت الأمر في يد والدتها لتفتحه مع شوقي، وتسأله عن رأيه الشخصي في عمرو، فهذه الأوقات كانت أشدّ حساسية ورعبًا من أي وقتٍ مضى، كحدٍّ فاصلٍ بين الماضي الأليم والمستقبل.
بعد ساعاتٍ على الطرقات والمواصلات المتنوّعة، بدأت چيهان تفقد طاقتها بأكملها، وتفاقم الدوار ليُصبح أكثر حدّة، حتى ارتفعت حرارتها بطريقة غير متوقعة. وعلى الرغم من ذلك، كانت تتشاجر مع رمزي كلما فكّر أن يُعاونها، ليكن عكّازًا لها. وأثناء المواصلة الأخيرة، دخلا بين الطرق الصحراوية، حيث الجبال متراصّة على الجانبين، شاهقة الارتفاع، مهيبةٌ بظلالها الملقاة على الطرق ببراعة الخالق. النسور تحلّق على مسافاتٍ عالية، وتُصدر صفيرها كأنما تخاطب بعضها بلغةٍ خاصة لا يفهمها سواهم، وعلى معظم التلال بعض الحشائش الخضراء، إذ يبدو المشهد أمامهم كلوحةٍ فنيةٍ تُجدد الأرواح الضائعة.
بعد دقائق، وصلت السيارة بهما إلى موطن العائلات، حيث المنازل الفارهة كأنما خرجت من روايةٍ تحكي قصص الأثرياء. هناك يُفضّلون تربية النسور، والذئاب، وحتى الثعالب اعتبروها حصنًا لهم بديلًا عن الكلاب.
قبالة كل منزل، سيارة فارهة ذات طراز بدويٍّ أصيل، تتعدّى أسعار كل واحدة منها فوق الخمسة ملايين.
هناك، النساء لا ينكشفن على رجلٍ دخيل، بل يظهرن فقط لأقاربهن ذوي الدرجة الأولى: كالآباء، الأجداد، الإخوة، والأزواج. أمّا من يختلف عنهم في صلة الدماء، فيظلن مستتراتٍ وراء حاجز الحياء.
وقفت السيارة قبالة منزلٍ بسيط، مكوّن من أربعة طوابق، مُغاير في بساطته عن باقي المنازل المُترفة من حوله، تلون بطلاءٍ أبيض، والنوافذ اكتست بالحلكة التي تخفي جميع من وراءها. قبالة كل دار، بهوٌ واسع يتّسع لعشرين سيارة متوازية.
الطريق الممتدّ، الذي يحوي كل العائلات، في نهايته صحراء بلا نهاية، مغمورة بالخيم ذات الأشكال والألوان المتنوعة، وحولها السيارات تقف على مساحاتٍ واسعة، حيث يتجوّل من حولها رجال البدو، مرتدين: الجلباب، والكوفية، والعقال، كلّ واحدٍ منهم متميّز بأيقونةٍ خاصة عن الآخر.
دائمًا ما يصنعون أكبر الولائم، التي تغمر الفضاء بروائح طيبة تشتهي القلوب قبل الأنفس، كأنها مغناطيس جاذب لكل غريبٍ يرغب في تجربة أطباقهم الشهية.
وصل رمزي وچيهان إلى إحدى الخيم، ليجدا رجالًا مجتمعين داخلها، يدعون قبيلة العيادية، وفيما بينهم، يقف "شاعرٌ" في المنتصف، يُلقي كلماته البدوية، وقد كان يقول بأعلى صوت، بطريقته الإنشادية:
_يا زين رمشك فوق خدّك مايل... سهمك أصاب الجلب من غير حيلة... إن مرّ طيفك، طار نومي زايل...وتزيد روحي في هواك الجتيلة... صوتك نسيمٍ في السما له جايل... يشفي الچريح ويطرد الهمّ ليلة... يا ليت عمري لك غطا وحمايل... وأكون ظلّك لو لفاك الرحيلة.
التفت رمزي حوله، فوجد الأنوار معلقة من حوله، النغمات تتزايد، والزغاريد تتعالى من داخل المنازل. رمقته "چيهان" بتألُّم، والكلمات لا تقوى على التمالُك، وقالت:
_مين دول؟ إيه اللي جابنا هنا؟!
ردَّ "رمزي" بتعجُّب، إذ كانت نظراته تمثِّل حيرة كبرى مثلها تمامًا:
_أنا إيه عرفني؟ أنا زيي زيك... بس أنا بقول كده ما دام الأنوار متعلقة، والنسوان بتزغرد يبقى في فرح النهارده.
تفوهت "چيهان" بألمٍ يكتسي جسدها:
_حرام عليك، أنا رجليا مش شايلاني، خلاص جيبت أخري!
رد" رمزي" بابتسامةٍ، وهو يتابع أجواء الحفل من حوله:
_تاهت ولاقيتها... ده فرح ابن خالي، الواد ناجي....
ثم التفت نحوها بفرح، وتابع بقهقهة عالية:
_أيوه أيوه أصله كان خاطب من يجي مدة، وأنا نسيت إنه هيتجوز قريب.
ردَّت "چيهان" بانفعالٍ رغم آلامها، معترضةً على تجاهله لعلَّتها:
_أنا مالي؟ هو ده كل اللي يفرق معاك إنه فرح ابن خالك؟ وأنا إيه نظامي وأنا عيانة وربنا عالم بيا ورغم كل ده ساحبني وراك من غير نقطة إحساس عندك؟
ضحك "رمزي" بإيجابيةٍ عجيبة، كأنَّه وجد راحته التي افتقدها بين عائلته، فنظر إليها بمرح، وقال:
_ده إنتي هتدلعي دلع وهتقولي رمزي قال، هأكلك أحلى أكل وهتنامي على أحن فرشة، وهخرجك أوريكي عالمنا اللي يشرح القلب الحزين، وإن كان على تعبك فهتخفي وتبقي فرسة...
وتابع بمزاح:
_بس أوعي تدوسيني إكمن الفرس مبيرحمش!
ردت "چيهان" بتضايُّق من تهاونه للأمور، فقالت:
_فرس إيه وكلام فاضي إيه؟ أنا مش فاهمة نصيب إيه ده بس يا ربي اللي يخليني أتكعبل في واحد زيك عشان ده يبقى قدري الأسود.
ردَّ "رمزي" بصياحٍ هادئٍ من نوعه، مندهشًا من ردودها الجافة، فقال:
_حد قالك إني طوبة لما تتكعبلي فيا؟ متغلطيش في الكلام عشان مخليش عفاريتي يعملوا وياكي الصح!
زفرت چيهان بسخط، وكانت تخرج من فمه كلماتٌ حانقة وتارةً هازلة، لم تتمكَّن من فهم شخصيَّته العجيبة، خاصَّةً حينما تبدَّل إلى مازحٍ يقول:
_خلاص متنفخيش زي البوريصة كده! ده أنا لو طلقتهم على الدنيا بحالها، مقدرش أطلقهم عليكي إنتي بالذات.
تفوهت "چيهان" بضيق، قائلة لذاتها بمللٍ:
_اللهم طولك يا روح.
أعوجت فمها بحركةٍ دالّةٍ على عدم الاقتناع، ولا تزال حتى الآن تشعر بأنّها تمرّ بأحداث مسلسلٍ مريبٍ لم يولج عقلها على الإطلاق. وبينما رمزي يحدّق فيها ساخرًا بوجهها العابس، يقلِّد تصرّفاتها بهزلٍ قاصدًا إثارة السخط داخلها، كان يشعر براحةٍ نفسيّةٍ كلّما انفعلت، فينتابه النصر بعدما سيطر عليها بمرحٍ عجيب.
في تلك الأثناء، خرج ناجي من الخيمة وسط المعازف، وزغاريد النساء الصادرة من قلب الديار، يعانق الرجال والأنوار تعلو رؤوسهم بأمتارٍ قليلة وهم يتصافحون بحرارة، وكأنّ رمزي استغلّ الفرصة ليهرول نحوه مسرعًا ويضمّه إلى صدره باشتياق، وبعيدًا، كانت چيهان تتابع اللقاءات العائلية الحميمة، حيث استندت بإرهاق على شجرةٍ تجاورها إلى أن ينتهي رمزي من سيل المصافحات.
فكان يصافح هذا وذاك بشوق، كأنّما يوزّع ورودًا عليهم، كلٌّ منهم اشتاق لرؤيته، حتى العريس "ناجي" الذي فرح برؤيته، قال بلهفة:
_حمد الله على السلامة يا ولد العمة، الشوج ملى جلوبنا عشان نشوفك، كنت وين طول الفترة اللي راحت دي؟
ربت "رمزي" على كتفي ناجي وهو غارقٌ في أحضانه، مستنشقًا فيه عبق العائلة وحنانهم اللامحصور، وقال:
_غرجان وسط همّ الدّنيا يا ولد الخال، طمّنّي عنّك، جلبي ناغى لي وجال إنّه فرحك قرّب، يا ترى جلبي صدج وإلا خبّص؟
ضحك "ناجي"، ناظرًا في عينيه بشوق، إذ قال بتأكيد:
_جلبك صادق وحسّه في مكانه، بس اليوم مو يوم الفرح، الفرح جاي بكرا وبعده... المهم طمّني، مين الأبلة اللي معاك دي؟ اتچوزت ولا لسه؟
لم يجد "رمزي" إجابةً سوى أن يقول بإثبات:
_أه اتچوزت من يچي سنة.
رمقها "ناجي" باهتمام، يخمِّن إن كانت زوجة ابن العمّة من الأقارب أم مارقةً عن دائرة القبيلة، وقال:
_جريبة أبوك اللي ما ينجال اسمه ولا إيه؟
ردَّ "رمزي" بالنفي، مستنكرًا قرابتها من العائلتين، فقال:
_لا، ما هي من الجرايب، حبيتها وخذيتها. إيش يعني؟ كسرت السالفة ولا شنو؟
تلفَّظ" ناجي" معلنًا حربًا غرس رمزي نفسَه فيها:
_إنت كسّرتها تكسير يا ولد، تروح تاخذ من برا وتدوس على العرف برچلك؟! والله سنتك سَوْدا سَواد، استنّى بس يوم شيخ الجبيلة يدرى، يشيب راسك من اللي چاي!
قال "رمزي" بلا مُبالاة، فلم يكن يكترث بقواعد البدو التي وضعوها كالسيفِ الباتر على الأعناق:
_الجلب وما يهوى يا ناچي يا ولد الغالي، بس جولي بالله عليك، كنت ناوي تاخذ من العيلة مين؟ وكيف يعني ما عزمتني؟! آچي بالصُدفة وألجاك مودّع العزوبية؟!
وضع "ناجي" كفَّيه داخل جيوب جلبابه، ورفع حاجبَه بفخر، متظاهرًا بأنَّه ملك نجمةً استثنائيةً من أريج الفضاء، ثم قال بابتسامة:
_أبوي خطبلي بت عمي، ما شفتهاش لسه ولا أدري شكلها وش هو، بس جلبي مطمّن، دام أمها زينَة الملامح، والمثل يجول: اجلب الجدرة على فُمّها، تطلع البنيّة لأمها...
وتابع وهو يتحرك برمزي نحو دار العائلة:
_هات المدام وتعالوا وراي، بَسْكِنّكُم فوج عالسطح، هناك تحس روحك ساكن في ڤيلا، والهوا يلعب وياكم لعب!
تسمَّرت "چيهان" في مكانها بصدمة، محاولةً استيعاب ما قاله عنها، وقد أصيب عقلها بشللٍ لثوانٍ، وعيناها تترقّصان كما لو تتحرّك الأرجوحة في ليلةٍ عاصفة، فقالت:
_مدام؟! مدام مين؟!
لكن رمزي، الذي استمع لكلماتها، حدَّق فيها سريعًا، يجزُّ على أنيابه كأنَّها لغة إشارةٍ صامتة بينهما، ودعاها للتحرُّك خلفهما. فواصل "ناجي" شرحه للسطح، الذي يبدو كأنَّه قطعةٌ سُلِبت من الجنَّة، قائلًا:
_فوج فيه حوض مايه، وشجة صغيرة أستوديو، فيها صالة وحمام ومطبخ وحچرة نُوم... أما السطح، مزروع زرع ونعناع، ريحتهم تفتح الجلب، ومتخافش، محدش يطلَع فوج. حنا يوم نحب نغيّر جو، نشد عالچونة يومين ونرچع.
بينما كان الجميع يتحرَّك، حتى ركبوا المصعد الكهربائي ووصلوا إلى الطابق الأخير، دخل ناجي في المقدمة، وعلى عقبه رمزي وچيهان ينظران حولهما بدهشة.
كانت المساحة على سطح المنزل واسعة، ومن يجاور السور يرى باقي المباني من حوله، وعلى بُعد كيلومترات تظهر الصحراء الرحيبة بلا نهاية، حيث يحيى فيها بعض رجال البدو داخل خيامهم، محاطين بسياراتٍ فارهة، ودائمًا ما تخرج روائح المشويّات من داخل تلك الخيام. وعلى بُعد أمتار، يتسابق الشباب على الخيول، كلُّ خيلٍ متميّزٌ بنقائه، وشَعراته الحريريّة المنسدلة على كتفيه برقة.
وعلى الرغم من شعور چيهان ببعض الارتياح النفسي، إلا أنّها تمنَّت أن ترتاح على سريرٍ ينتشلها من آلام الجسد المتزايدة. وقفت قبالة السور تنظر إلى أماكن تبثّ الطمأنينة والسعادة في الأرواح المُضنية، بينما كان "ناجي" يشرح كلّ شيء لرمزي بدقّة، وفي النهاية قال له:
_تنزلوا تنورونا الليلة، خلِّي المدام تجعد مع الحريم، تتعرف عوجوههم، وإنت تعالى، ترى الليلة ما تكملش إلا بوچودك يا ولد العمة!
ردَّ "رمزي" باعتراض، نظرًا لحالة چيهان في وقتها العصيب من العلَّة:
_لا، اعفي مرتي من المشوار ده، هي عيانة وعايزة ترتاح. آني هبجى أنزلكم وأنبسط مع الرچالة.
ابتسم "ناجي" ابتسامة لطيفة، وقال بموافقة:
_خلاص، مستنيك على نار، هبعتلك الرچالة ومعهم الأكل!
بمجرَّد أن أوصد رمزي الباب بعد مغادرة ناجي، الذي ركب المصعد ونزل متّجهًا إلى الخيم استعدادًا لحفل الليلة بحضور أكبر العازفين والشعراء، جلس رمزي على الأريكة يرتاح بعد يومٍ شاقٍ على الطرق الوعرة، اقتلع نعليه ووضعهما جانبًا، وأمال رأسه على ظهر الأريكة.
كان التعب يغمر "چيهان" من كل صوب، راغبةً في نومٍ هادئٍ دون وجود رمزي معها، إذ كان يمثّل لها نسرًا مترصِّدًا، يراقب حركاتها، وبينما جلست على السرير بخجل، نظرت إليه بعينين متلوِّنتين بحُمرة الوهن، وقالت بتلميحٍ واضح:
_هو أنا هانام ازاي؟!
ظلَّ "رمزي" على وضعه كما هو، فالإنهاك كان سيِّد يومهما الشاق، فقط أجابها:
_نامي زي الخلق، ولا يكونش عاوزاني أعلمك طريقة النوم؟ إنتي جاية الدنيا جديد ولا إيه حكايتك؟!
ردت "چيهان" بانزعاج، قائلة بحدة:
_أكيد مش كده يعني، أنا قصدي هانام ازاي وإنت قاعد هنا؟ ممكن تخرج عشان أقدر أنام؟
نهض "رمزي" بضيق، إذ اقتلع الشال من حول رأسه يزيل عن كاهله حرارة الأجواء، ثم رفعه على ذراعه بضجر، وخرج من الحجرة وهو يقول:
_ما هي ليلة مش فايتة، هروح أتخمد في أي زاوية، على الله بعد ده كله أنول الرضا.
خرج "رمزي" من الحجرة وأوصد الباب برفق، على الرغم من مشاعره الحانقة نحوها. استغلّ البرجولة ليكتنف في ظلّها، حيث اقتلع جلبابه وعلَّقه على الأخشاب، واستلقى على الأرضية مستمتعًا بنسيم الصحراء الهادئ، تاركًا چيهان تنام بحريّة داخل الغرفة. وحينما تذكَّر موقفها، ارتسمت الضحكة على شفتيه بتعجُّب، وقال:
_ما هو ده اللي مميزها عن باقي الحريم....
رفع رأسه ليخلد إلى النوم على ذراعه، وهو يتابع:
_أشكرك يابويا، لولاك مكنتش هبقى فرحان كده.
في منازل إحدى العائلات ضحايا طلاسم مصعب، عانى الابن الأكبر لرجلٍ ثريٍّ في إحدى قرى محافظة كفر الشيخ من سرطانٍ في الدرجة الثالثة، نتيجة تسلُّطات الجانِّ الموكَّلين بسحر المرض. بدأ يفقد قوته شيئًا فشيئًا، إذ لم يستجب جسده لأي علاج، ولم يرضخ لأي عملية. ذهبوا إلى العديد من الأطباء بلا جدوى، وكانت الدماء تخرج من عيني والدته في كل ليلة بدلًا من الدموع، تبكي بحرقة وهي تراه يذوي بين يديها.
نَحَل جسده وأصابه الذبول، سقط شعره مع تدهور صحته، حتى جلده الشاحب بات علامةً مخيفة. كل من رآه رفع ذراعيه نحو السماء، وكلماته تخرج من قلبٍ مشفق عليه.
قال البعض إن ما يحدث له ابتلاء قدري لا علاقة له بالسحر، وآخرون فسّروا حالته بأنه ربما حسدٌ قويٌّ سلب صحته. لكن ما يحدث كان أكبر بكثير، لا يتخيله عقل ولا منطق. ذاك الشاب المسكين، الذي انهارت حياته في بضعة أشهر، وخسر عافيته كتاجٍ يُرى على رؤوس الأصحاء.
دخل عليه أحد رجال الدين، من المدعوين "رقاة شرعيين"، رجلٌ خمسينيٌّ، ملتحفٌ بقفطانه، لحيته البيضاء تبلغ صدره. في الغرفة استقر الأهل وبعض أفراد الأقارب في انتظار تشخيصه لحالة المريض.
بمجرّد أن وقف المعالج قبالته، ونظر في عينيه، علم أنَّه يعاني من سحرٍ سفليٍّ شرسٍ موكَّلٍ بالمرض الخبيث. كانت إحدى السيّدات الريفيّات قد صنعت له خمسة عشر عملًا لتنتقم منه انتقامًا شديدًا بعدما أنهى علاقته بابنتها. وليس من الغريب أنها من أقاربهم من الدرجة الثانية، فمعظم الطعنات لا تأتي إلا من قريبٍ أطعمته في دارك واستقبلته بحفاوة وتقدير، من باعدت فكرة غدره عن ذهنك، فإذا به يلقاك بشرٍّ لا مثيل له، يجعلك تفكّر ألف مرة قبل أن تصنع خيرًا.
وضع الشيخ كفَّه على رأس الشاب، وبدأ يقرأ آيات الكشف بصوتٍ عالٍ، فارتجف جسد الشاب بقوةٍ في كل ثانية، إذ تحرّك الجنيُّ في سائر جسده، يصنع ذبذباتٍ عنيفة كأن النيران تسري في دمه، والجميع من حوله في حالة ترقُّب. وبعد عشر دقائق من الشغف القاتل، توقّف "المعالج" عن القراءة، ونظر إلى والده بحسرة، وقال بأسفٍ يغلف صوته:
_لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، اللهم زيل عنه الألم واشفيه شفاء لا يغادر سقمًا.
تقدَّم الوالد "جميل" نحوه، وسأله بقلقٍ أبويٍّ لا يُخفى:
_ابني ماله يا عم الشيخ؟ ابني جراله إيه؟ طمنا ده احنا قلبنا بيتقطع عليه!
ربت "الشيخ" بكفيه على ذراع "جميل"، ليواسيه في محنته، قائلًا بوضوح:
_إنت مسلم ومؤمن بالله وعارف حديث البخاري ومسلم اللي بيقول (ما يصيب المسلم من همٍّ ولا حزنٍ ولا تعبٍ ولا وصبٍ حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه.) ابنك يا حاج مسحور سحر سفلي شديد موكل بالمرض!
سألت الوالدة "حفظة" ببكاءٍ وهي تتقدَّم بهدوءٍ مؤلم نحو الشيخ، قائلة:
_سحر أسود يعني؟ ابني مسحور؟ مين اللي سحره؟ مين اللي عمل فيه كده؟
أجابها "الشيخ" موضحًا التباس معلوماتهم، مصححًا إياها بخبرةٍ في فكِّ السلبيات منذ أعوامٍ طويلة:
_السحر الأسود حاجة والسحر السفلي حاجة تانية، السحر السفلي أشد وأقوى مليون مرة لأنه أعوذ بالله بيتم فيه تدنيس المقدسات وممارسة الرذائل بين المشعوذ لعنه الله وطالبة السحر....
ثم وضع كفيه برفقٍ على جبين المريض، وتابع:
_اللي في ابنكم مش هين ولا بسيط، بس بعون الله شفاءه هيتم على إيدي بفضل الله أولًا ثم بفضلي.
صفعت حفظة وجهها بصراخ، متحسرةً على كل دقيقة مرت في حياة شابٍ كزهرةٍ زاهية سلبتها الحياة فجأةً. وابنتها تعاونها على النهوض مع والدها، فبعد محاولات مستعصية لتهدئتها، جلست على الأريكة بجوار ابنتها ورأسها يدور بها في صدمة، تاركةً الحديث لزوجها "جميل" الذي قال مستفسرًا:
_مين الملعون اللي عمل كده في ابني؟ ابني عملهم إيه يا شيخنا؟ قولي، ريحني....
استذلَّ "جميل" تحت سيقان الشيخ، راغبًا في تقبيل قدميه ليخرج منه ولو معلومة تشفي الصدور المتأججة، فواصل:
_أبوس إيدك ورجلك! أحب على رجليك الاتنين تريحنا!
رفعه الرجال بمساعدة الشيخ للأعلى، كل واحدٍ يبرز براعته في تسكين نيرانٍ متقدة في المكان. فوضع "الشيخ" يده الحانية فوق كتف "جميل" وأخبره:
_اهدى يا حاج! أنا عارف اللي فيكم والله، الواحد بيتقهر على عياله أكتر ما بيتقهر على نفسه، ده هما أغلى شيء نملكه في الدنيا دي، أنا عايزك تهدى إنت والحاجة وتسمعوني كويس!
ما أصعب أن تسقط دموع رجلٍ قوي بعد أحداثٍ عُضال عاشها بنفسه! الرجال كالجبال لا يتأثرون سوى بأعظم النوازل، ككوبٍ يمتلئ يومًا بعد يوم حتى يفيض بكل ما ادّخره من سلبيات. فبعدما هدأ الأب قليلًا، بدأ "الشيخ" في وصف أبعاد المشكلة، ليهدئ من ثورانهم ولو القليل من قطرات الحديث، وقال:
_اللي صنع السحر كافر مالوش ملة، واللي راحتله واحدة تسكن على بعد بيتكم بشارعين بس!
بينما المعلومات تتوافد في أذهانهم، بدأ الجميع يحكمون عقولهم ليصلوا إلى إجابةٍ واضحة، فتابع:
_دفنت السحر في مقابر النصارى تحت جمجمة ميت من تلات إشارات.
سقطت "حفظة" مغشيًا عليها بعدما سحقت كلماته وعيها، مما جعلها في حالةٍ من الألم تُرسى لها. تعاونت الأيدي سويًا وهم يحملونها برفق ويذهبون إلى الحجرة الأخرى، يسعفونها بطرق بدائية وهي غارقة في عالم اللاوعي. أما الشيخ فقد عاد إلى حجرة الحالة ليبدأ في علاجها، فكانت تمثل له تحديًا كبيرًا يبرز جدارته في محاربة الفساد. ولأن العلاج يتطلب برامج مكثفة لسحب المرض من جذوره كأن شيئًا لم يكن، أخبرهم بطلباته الخاصة بدايةً من أوراق السدر، ثم ماء الورد للاغتسال مع بعض البخور القوية.
فكانت العائلة مستجيبةً لكل تكاليف المعالج من أجل لمحةٍ ولو بصيصٍ من الأمل في نفقٍ عاتم.
أما عن أسرة ريم، فقد بدأت أسماء تعبر عن رغبة عمرو في خطبة ريم، إلا أن "شوقي" رفض الأمر لعدة أسباب، من بينها عدم ملائمة الظروف النفسية في الوقت الحالي، وتدهور الأحوال الاقتصادية التي كان لها دور كبير في تجهيز الفتاة استعدادًا لزواجها. وقتما جلست معه في حجرة النوم وأخبرته، أبدى اعتراضه بثقة، قائلًا:
_خطوبة إيه ونيلة إيه في الوقت المهبب ده؟ أختها جابتلنا العار وهي عايزة تتخطب؟ يفرض عرف ولا حد قاله هيكون شكلنا إيه قصادهم؟
اعترضت "أسماء" على طريقة حديثه الفظة، فقالت بتنديد:
_إنت مبتعرفش تتكلم عدل أبدًا زي بقية الناس؟ وإيه يعني لما ريم تتخطب وربنا يكرمها وتتجوز وتخلف وتعيش زي بقية البنات؟
رد شوقي بصياحٍ، فنهض من على سريره بغضبٍ جلي:
_دي طريقتي ومش هغيرها، اللي عاجبه عاجبه واللي مش عاجبه يخبط دماغه في الحيط، ومفيش جواز غير لما أختها ترجع الأول ونشوف حل للمصيبة اللي حطتنا فيها.
نهضت "أسماء" هي الأخرى، مجلجلة بصوتها مثلما يفعل تمامًا، وقالت:
_اتكلم بصوت واطي! ليه مصمم تسمع أهلك بينا؟ وإنت هتفرح لما بنتك تقعد جنب منك وتخلل؟ ما تسيبها تشوف مستقبلها!
ارتدى "شوقي" نعله بانفعال، وفتح باب الشقة ليهرب من حديثها المزعج، قائلًا بصخب:
_أنا نازل في داهية، اقعدي إنتي وبنتك قطعوا في فروتي لما أمشي!
صك الباب بقوة لدرجة ارتجاج المنزل كأنما زار زلزالٌ لعين الحي، وغادر من دار العائلة متجهًا إلى سيارته، ليهرب من ثرثرة أسماء وأحاديثها الضارة لصفوه.
نظرت أسماء ناحية الباب بحسرة، وهي نادمة على زواجٍ نهب منها سعادتها مع إنسانٍ لا يهتم سوى بملء معدته، والعمل، والنوم لا أكثر، إذ كان مقصرًا في حقوقها بطريقةٍ طاغية. لا دور له في هذه الحياة سوى دفع مصاريف الطعام، فلا ثياب تكسيها، ولا ذهب تتفاخر به كالسيدات الأخريات، فيتظاهر دومًا بالسخاء حيال الأغراب ليبكتها ويردعها عن شرح معاناتها، لأن لا أحد سيصدقها وسط هذا النعيم الزائف.
كانت ريم منصتةً لكل كلمة، فسقطت الدموع من عينيها بقهرٍ، وهي ترى نفسها تعيسة بلا حظ، فقدت كل ما ملكته على يد والدٍ نرجسي لا يأمل سوى بتحقيق رغباته، كأنها على مشارف فقدان عمرو هو الآخر ليكون الموت هو حلها الوحيد.
خرجت من غرفتها في تلك اللحظة ونظرت لوالدتها بشجن، والدموع تتلألأ في عينيها. فرمقتها أسماء بنفس الحزن، ودخلت حجرتها في صمت، فعادت "ريم" هي الأخرى إلى موطنها الذي تسكن فيه وتهدأ، وهو غرفتها. ثم أمسكت هاتفها، وأرسلت رسالة لعمرو تبين له ما حدث من تقلبات، منتظرة حلوله النابغة.
فقالت له بقلبٍ ينزف استياءً:
_أنا اتكلمت مع ماما وهي موافقة ومعندهاش مشاكل، المشكلة في بابا إنه مش موافق وشايف إنها ظروف مش مناسبة.
بعد دقائق من الانتظار، قرأ عمرو رسالتها، فقرر أن يجيبها. فظهر أسفل اسمه "متصل الآن"، وبدأ يعبر عن آراءه الخاصة وهو يكتب ما يشعره في وجدانه، حتى هي انتظرت ذلك الرد بشغف والدموع تلمع في عينيها البريئتين. لكن بعد ثوانٍ، لم يشاء القدر أن تقرأ رسالته، فانقطعت الأنوار جميعها حتى شبكة الاتصال اختفت. في الخارج، خرجت الوالدة تصرخ من حجرتها، والأوضاع تزداد سوءًا بما يوحي بالذعر المشترك بينهما.
