رواية إيبار الفصل الثالث عشر13 بقلم رانيا عمارة
أصبح شوقي، برفضه، يمثل عقدة ثُبِّتت في المنشار، فهدم آمالهم وداسها بلا تفاهم. لكن، وعلى الرغم من المشكلة التي رغبت ريم في شرحها لعمرو بحزنٍ عارم، طغت صرخات أسماء في الخارج على كل ما حدث. توقفت الأزمان لبرهة في ظلامٍ دامس، فخرجت ريم من حجرتها على وقع الصرخات، جسدها كأنما صُعق بالكهرباء، متسائلةً بتعابير وجهٍ حائرة، وفي المقابل كانت أسماء ترتعد خوفًا مما رأته بعينيها؛ كان مشهدًا مفزعًا، وهي لا تتمالك أعصابها التي تراقصت على أنغام الخور القاتلة.
فيما كانت "ريم" لا ترى كفَّ يديها، ولا تقدر على تمييز الأشياء من حولها، خطت للأمام تتحسس الهواء كالضريرة. لكنها سرعان ما اكتسبت حصافةً نبعت من عقلها، فعادت إلى حجرتها تلتقط هاتفها، ثم فعّلت الإضاءة، وعاودت الرجوع إلى والدتها بقلبٍ يخفق ارتعابًا، وسألتها بتعجّب:
_في إيه يا ماما؟ بتصوتي ليه؟!
بكَّتت "أسماء"، وأعصابها المشدودة قد قاربت على الانجذام، ولسانها كأنما رُبط بأيدٍ خفيّة، محاولةً شرح ما أبصرته في حجرتها، فقالت بتلعثم:
_فتحت الدولاب أحط الهدوم، وقفلته وديرت وشي من هنا لقيت الدولاب اتفتح لواحده واترزع جامد، وأنا مجيتش ناحيته، بعدها الكهربا قطعت... أنا مش قادرة أمسك نفسي!
لكن "ريم"، حتى لا تشتلّ الرهبة في ذاتها الخائرة، حاولت إيجاد مبرراتٍ منطقية تشفي روعها، فنطقت:
_ممكن تكوني زقيتي الباب جامد وإنتي بتقفليه فرد تاني، عادي حصلت معايا قبل كده.
المبررات كانت ضعيفة، وما حدث كان أشد، فثمّة ما يثبت قول "أسماء"؛ إذ إن ارتداد باب الخزانة سيكون بشكل أهدأ وفي اللحظة نفسها. لكن ما يؤكّد ذلك: أنها، بعد دقيقة، تفاجأت بوطأةٍ قوية انصبّت على أذنيها كالانفجار المحموم، فقالت بنفي:
_لا كان رد براحة وفي ساعتها، إنما لأ ده رد بعدها بيجي دقيقة وبصوت عالي... بقولك إيه، أنا قلبي مقبوض، نوريلي أجيب تليفوني من الأوضة!
رفعت ريم هاتفها للأعلى، فانتشر الضوء حولهما بسرعته الهائلة، وخطت وراء والدتها إلى غرفة النوم تتبعها كظلّها تمامًا، إلى أن التقطت أسماء هاتفها من فوق المنضدة وجلست على سريرها تنظر إلى الخزانة بخوف، كمن يترقّب ظهور لصٍّ مخيف في أية لحظة. أمّا ريم، فظلت قبالتها وهي تتصل بعلياء لتسألها عن تطورات الكهرباء في دار العائلة، وبينما تفعل ذلك، سألت "ريم" باهتمام:
_هتعملي إيه طيب؟
أجابتها "أسماءُ" بقلبٍ يخفق ذعرًا، قائلةً بارتجافٍ خافت:
_هتصل بمرات عمك أشوف الكهربا قاطعة عندهم هما كمان ولا لا...
وتابعت، وهي تُصوِّب النظر نحو الخزانة برهبةٍ تشي باقتراب الخطر:
_أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
بعد لحظات، استجابت علياء للمكالمة بروحٍ مُحبّة، فظهرت في صالة منزلها قبالة التلفاز، حيث كانت الحياة من حولهم فوضويةً بلا نظام؛ الثياب مبعثرة على الأرايك، والأتربة تحاصر النوافذ والأبواب، والسلة هاجعة على الأرض بدلالٍ حقير، والقمامة تتصاعد منها الحشرات اللعينة، وكأنه دارٌ مهجور منذ سنوات.
لم تكن كل تلك القذارة نابعة من شخصية علياء، بل لأنها تعاني من مشكلاتٍ حرجة في الظهر، بعدما خانتها سيقانها على سُلّم إحدى المحلات التجارية، فسقطت أرضًا، وعانت من آثارٍ سلبية عجزت عن حلّها إلى يومها هذا. كلما طلبت من ابنتها منى المعونة، رفضت بحجة أن رأسها غير متفرغ لأعمال المنزل، حيث الطموح يسمو بها إلى أعلى درجاته، وهي ترى ذاتها صاحبة أكبر الشركات، مصطفةً أمامها أفخم السيارات.
سألتها "أسماء" عن أخبار الكهرباء ولسانها لا يزال متجمّدًا من الصدمة، قائلة:
_بقولك يا علياء الله يكرمك، هي الكهرباء قاطعة عندكم إنتوا كمان ولا عندنا احنا بس؟
ردت "علياء" بوضوح، مستنكرة اِنقطاع الكهرباء:
_لا الكهرباء شغالة، هي قاطعة عندكم ولا إيه؟
أجابت "أسماء" بقلقٍ واضح، ناطقةً بعينين لا تملكان الراحة:
_أه قاطعة عندنا احنا بس، معرفش ليه، ده احنا الأجهزة اللي عندنا نصها بايظ ومش شغالة، مفيش غير نور الصالة، والمطبخ، وأوضة ريم، والتلاجة، والمراوح.
خرجت منى من حجرتها بخطواتٍ هادئة، تسير على أطراف أصابعها، حتى وقفت في الطُرقة تُنصت لكل ما يدور بين والدتها وأسماء، زوجة عمها، باهتمامٍ أضمرته في وجدانها، لتجد "علياء" تقول:
_الظاهر الكهربا عندكم ضعيفة، ما هي كانت بتضعف عندنا برضه، افصلي العداد وشغليه تاني يمكن ترجع!
نفّذت "أسماء" ما نصحتها به علياء، فخرجت من الغرفة وأغلقت مفاتيح الكهرباء، ثم أعادت تشغيلها من جديد، لكن دون جدوى. زفرت بضيق، وهي ترى حلّها الوحيد يتحطّم أمام عينيها، فقالت:
_مرجعتش، أنا هتصل بشوقي أقوله رغم إني والله مقفولة منه ومن طريقة كلامه معانا، ده مسمم بدني قبل ما يخرج من البيت، كل ده عشان بقوله ريم متقدملها عريس، والواد شكله ابن حلال ومتربي، لكن هقول إيه؟ الظاهر عليه عايزها تخلل جنب منه لحد ما جنابه يخلص صفقات الحجارة والسيراميك وبعدين يبقى يجمعلها تمن جهازها.
لكن "علياء"، التي اعتادت المعيشة وسط ظروفٍ قاسية مع ذكرٍ لا يستحق أن يُلقَّب برجلٍ حقيقي، كانت ترى أن ما تصفه ليس بغريب، بل هو المألوف في مجتمعٍ يضع المرأة تحت نعليه، فقالت:
_استحملي وعيشي، أهو ضل راجل ولا ضل حيطة! تلاقيه كلام بيقوله من غلبه عشان چيهان مش في حضنه، هو برضه في أب في الدنيا دي يقدر يفرح ولا يشوف طعم الفرح وضناه بعيد عنه ميعرفش عنها حاجة؟
بينما كانت الأحاديث تدور بين علياء وأسماء، تشكو كلٌّ منهما بأسها للأخرى لعلّها تجد في إعرابها راحة، تلقت ريم مكالمة هاتفية من "عمرو"، فدخلت بهاتفها مسرعةً إلى غرفتها، بحماسٍ يطوقها من كلّ زواياها، وربضت على سريرها كناقةٍ غلبها صبرها، واستجابت لمكالمته، لتجده يقول بنبرة عتابٍ لينة:
_أنا رديت عليكي وإنتي قفلتي فجأة، أنا مش فاهم ليه والدك مش موافق على الموضوع ده؟ هو شاف مني حاجة وحشة؟
ردت "ريم" مستنكرة ما قاله:
_لا والله أبدًا، هو مش موافق لأسباب تخصني أنا، ملهاش علاقة بيك خالص.
سألها "عمرو" باهتمام، باحثًا عن سبب الاعتراض الحقيقي على زيجةٍ تحمل في طيّاتها خيرًا جسيمًا:
_مش موافق ليه طيب؟ مانا من حقي أعرف الأسباب دي.
تنهدت "ريم" باستياء، بعدما أحسّت بمدى ما كبّلها به والدها من تحكماتٍ وسيطرة لا ترى فيهما نفعًا، إذ إنّ قراراته كانت تبتر صمّام قلبها كالسيف الباتك.
قول الحقيقة قد يغيّر ملامحها في عينيه، فيسلك طريقًا مغايرًا لطريقها، أما الكذب فلا تحبّذه، بل تكرهه بشدّة، كما تكره كلّ من يفضّلونه. لكنّ طوق النجاة الحقيقي في موقفها هذا يستوجب إضمار النكبة إلى أجلٍ غير مسمّى، علّ القدر يبتسم مقدّمًا لهم عودة جيهان كهديةٍ غالية.
تنهدت باضطراب، وقالت بسكينةٍ كذوبة:
_عشان چيهان مرجعتش، وبابا مش هيقدر يعمل أي حاجة لحد ما هي ترجع.
تعجّب "عمرو"، فأبدى رأيه قائلًا بعقلانيةِ شابٍ مكتسٍ بتاج الرزانة:
_ما هو لو هيمشي بالمبدأ ده، نفترض إنها لقدر الله مرجعتش، هتضيعي شبابك كله وهو بيرفض أي حد بيتقدملك لأنه مش قادر يفرح؟ ولا المفروض يسيب كل حاجة تمشي زي ما ربنا كاتب ويوافق ويسيبنا نفرح؟
على الرغم من إعجاب "ريم" بعقليةٍ حصيفة، وبعينٍ تضع تقديرات الأمور قبالتها بذكاء، بل وترى المدى البعيد الذي يعجز الآخرون عن تبصّره، قالت بإحباط:
_إنت كلامك صح بس هو مبيفكرش بالطريقة دي ومش بيقتنع ولا هيقتنع غير باللي في دماغه وبس... أنا مش هقدر أتكلم معاه في حاجة لأن النتيجة واضحة، بمجرد ما ماما كلمته في الموضوع اتخانق معاها وخرج من البيت معرفش راح فين.
كان المخرج الوحيد من هذه المشكلة أن يطلب "عمرو" الزواج من والدها مباشرةً، لذلك قال:
_على العموم أنا هتصل بيه وهقابله أتكلم معاه، وواثق بعد المقابلة دي إنه هيوافق وكل اللي احنا عايزينه هيحصل....
صمتت ريم بخوفٍ قاتل، جعل الهواجس تغمر "عمرو"، الذي خشي أن تكون قد اصطنعت رفضًا كاذبًا، مبنيًا على رفضٍ شخصي، لتكون أكثر راحةً في إيضاح مشاعرها الحقيقية تجاهه، فتابع بتردد:
_ريم، هو إنتي مش موافقة؟
ردت "ريم" باستنكارٍ، موضحة موافقتها بكل تأكيد:
_أنا موافقة أكيد، المشكلة كلها في رفض بابا، لو وافق يبقى المشكلة اتحلت.
ابتسم "عمرو" كمن يرى الأمل يُلَوِّح له في أفق البهجة، وقال بنفسٍ مطمئنّة:
_خلاص، سيبي الطالعة دي عليا وأنا إن شاء الله هقنعه بمعرفتي!
سكنت أمواج "ريم" المتلاطمة؛ دومًا ما تقع فريسةً للتعجب، ففي كلّ مرةٍ تشعر كما لو أنّه معالجٌ نفسيّ يمحو مخاوفها بطريقته العبقرية. ألقت مخاوفها على كاهله ليتولّى مسؤولية الموافقة بدلًا عنها، فهي لا تقوى على الحديث مع والدٍ متسلّط، لا يقتنع سوى بآراء الأغراب، أما آراء أسرته فيُلقي بها في صندوق القمامة، ولا يعتني بها من الأساس.
ردّت على عمرو ببسمةٍ هادئة، قائلة:
_خلاص أنا واثقة فيك، وإن شاء الله خير.
ضحك "عمرو" بإيجابيةٍ مفرطة، وقال بابتسامةٍ ناصعة:
_كل خير.
الحبّ الصادق دومًا يمنح دافعًا قويًّا لخوض ملاحم خطيرة تبتر الرؤوس، وتجعل الجسد منبعًا للدماء، وتَجلب كوارث بلا حصر، وفي المقابل تمنح تَيُّمًا يطمس كلَّ سلبيٍّ عاشه المرء، فيُزيل الأتراح من مواضعها، ويُبدّلها بطاقة صبرٍ عظيمة وحماسٍ أعظم. لذلك، كان عمرو مستعدًّا لخوض هذه المعركة، لكن على رتمٍ هادئ، دون ضجيجٍ يستجلب الأنظار ويثير التساؤلات.
بدأ يُغيّر مجرى الحديث معها إلى مسارٍ أكثر إيجابية، وهو يستفسرها عن أخبار نتيجتها النهائية، إن كانت قد ظهرت للعلن أم أنّ الكنترول لا يزال يحتجزها في صمت. فأجابته بوضوح أنها قاربت على الظهور، وأنّ الخوف يغمرها كلّ ليلة بعدما تركت بصمتها الخائبة في ورقة الامتحان. لكنه، بدوره الداعم، ملأها بالأمل، وأخبرها أنّ النتيجة ستكون مُرضية للجميع، فهو أوّل من سيُهنئها على خبر نجاحها بفخرٍ وتصفيقٍ حار.
في مكانٍ مُغاير، كان الفرح يزور الحي الذي أنارته الأضواء استعدادًا لحفل الزفاف، والأغاني البدوية لا تتوقّف، حيث يرقص الرجال في حلقاتٍ يُثبتون بها مدى النظام. فوقهم الليل قد انسدل بستاره، والقمر كطبقٍ مضيءٍ بحبّات اللؤلؤ اللامعة، تلك التي انعكست على واجهات السيارات الزاهية من شدّة نظافتها، فهنا يعتني البدو بطهارة منازلهم وسياراتهم.
ليلة الحناء ليست كأيّ ليلة، فهو المشهد الأول من ليالي الفرح، تمهيدًا ليومٍ أكبر سيضمّ العديد من الحاضرين.
كلما حاول رمزي أن يوقظ "چيهان" لتتناول الطعام والدواء، احتضنها السُّبات العميق، مستسلمةً لكلّ ما حولها، فالألم الذي يسري في جسدها لم يكن هيّنًا بالمرة، وحرارتها كلما انخفضت، تزايدت بتعارضٍ عنيد، كأنّ الشفاء يرفض مصالحتها.
خرج رمزي من المرحاض حاملًا طبقًا مملوءًا بالمياه الباردة، ومنشفةً صغيرة، ثم جلس حيالها، يغمس المنشفة في الماء، ثم يعصرها بين قبضتيه الجافتين، ويضعها على جبينها بلُطف. ظلّ يُكرّر العملية مرارًا وتكرارًا، حتى استيقظت من نومها، تفتح عينيها المُحمرتين برفق، إلى أن اتضحت لها الرؤية، فوجدت رمزي قد تعدّى حدوده.
نهضت صارخة، وأنفاسها تتعالى بخوف، ثم خرجت من سريرها مسرعة، ووقفت قبالته بجسدٍ مرتجف، وقالت بصياح:
_إنت بتعمل إيه؟ إنت اتجننت في عقلك؟ ازاي تدخل الأوضة وأنا نايمة وكمان تعملي كمادات؟ إنت فاكرنا متجوزين بحق وحقيقي؟
نهض "رمزي" من مكانه ساخرًا، وقال لها بنبرة تهكّمية:
_وهو أنا لو فاكرنا متجوزين بحق وحقيقي كنت هعملك كمادات برضه؟ وبعدين إنتي مكبرة الموضوع ليه؟ بقى عاملة كل ده عشان الكمادات؟ مانتي أصلك متعرفيش درجة حرارتك وصلت لكام....
وتحرك بعيدًا، وتابع بدهشة:
_ده إنتي حرارتك وصلت لواحد وأربعين يعني لو نفخت نفخة هتقعي ميتة، بقى ده جزائي إني بنجدك؟
وبينما كان يتحدّث، ذُهلت "چيهان" من معرفته بدرجة حرارتها، وعلى الرغم من مرضها، قالت بنبرة عتابٍ عليلة:
_وإنت عرفت منين إن درجة حرارتي واحد وأربعين؟
رفع "رمزي" إحدى حاجبيه بثقةٍ لا تخلو من صوته، وقال:
_بالترمومتر، مانتي أصلك مش شايفة روحك، بُصي في المراية وإنتي تعرفي إن اللي يشوفك يشفق عليكي!
تحرّكت چيهان ببطء نحو المرآة، تتأمل ملامحها بعدما سكن المرض جسدها، فلامست وجهها بأناملٍ رقيقةٍ مرتجفة، لتجد وجهها كالليمونة الشاحبة، عينيها متورّمتين، شفتاها وأنفها متلوّنين بحُمرة المرض، وجسدها أكثر وهنًا من ذي قبل. شعرت وكأنّها تنظر إلى أخرى تجهلها.
وبينما كان "رمزي" يتابعها في صمت، واقفًا عند الباب، قال:
_عرفتي إن كلامي صح؟
استدارت "چيهان" إليه بغضبٍ يتعارض مع حالتها المرضية، وقالت باعتراضٍ على تصرّفه:
_مهما كان مينفعش، إنت كده بتخترق خصوصيتي وأنا مش هسمحلك بده مهما يحصل!
تجاهل "رمزي" حديثها، لأنه إن أنصت لكلّ كلمةٍ وتمعّن فيها بعينين ساخطتين، لأحرقته نيرانها. هناك، في مهجته، حفيظةٌ تزلزل كيانه، يحاول جاهدًا ألّا يُظهر وجهه الأشنع فتفرّ منه بلا رجعة، فقال بلا مبالاة:
_طالما أنا مهما بعمل معاكي بتفهم غلط، أكلك برا، والدوا جنبك على السرير، كلي وخدي دواكي ونامي، ومش هتشوفي وشي، متخافيش!
خرج من المنزل تاركًا إياها تتحرك فيه كما تشاء، دون أن يقيد حريتها، لكنه كان يسير حانقًا بعد أن كبت مشاعره وأنكرت فضله بدلًا من أن تمدحه. شعر وكأنّه يسكب الماء في الغربال، يمدّها بعطاء نابع من نفس صافية، وهي تقابله باعتراض قوي، فهي لا تزال تخشى على روحها من هجماته الشيطانية، محاولةً إبعاد نفسها عنه قدر المستطاع.
وقفت چيهان قبالة المرآة، وصدى الأغان البدوية يزلزل من حولها، طغت مخاوفها على ذهنها، تنظر إلى ملامحها المتوعكة بتردد، مستشعرة مدى ما وصلت إليه من قسوة جعلتها تنكر الفضائل بدلًا من ردّها. كانت تفكر في عائلتها، وتساؤل ليلة عودتها إليهم: هل قاربت أم أنه لقاء مستحيل؟ انسابت دموعها على وجنتيها، ثم دخلت المرحاض وأوصدت الباب، لعل المياه تغسل أوجاعها المستميتة. فتحت صنبور المنضحة، تنظر له بألم، وعادت إلى الباب، توصده بالمزلاج جيدًا لتكن أكثر أمانًا.
وقفت تحت المنضحة تنتحب بعدما علّقت ثيابها على علّاقة الباب، تسللت برودة المياه برفق إلى جسدها، إذ ترتجف من هول العلة، وأفكارها تتفاقم في رأسها بضراوة.
في الأسفل، نزل رمزي ليجد قبالة الدار كراسي متراصة بنظام، وأضواء الفرح متجانسة مع المزامير والطبول، فجلس بعض الرجال على الكراسي يتحدثون سويًا وهم يهمسون بضحك بينهم. كان خاله "فهيم" كهدل، في عمر الستين عامًا، ملتحفًا جلبابه البدوي الأزرق العريق، والعمة البنية تطوق رأسه تخفي شعراته البيضاء، ووجهه يحوي لحية ثقيلة رمادية، ما بين دُجنة الشباب وبياض الشيب. فقد معظم أسنانه، إلا أنه ذو قوة جسدية عجيبة. هنا يهتمون بلعب الرياضة وسط أدوات الطبيعة: كركوب الخيل، السباحة، الرماية، وغيرها.
بمجرد أن رأى "رمزي" خاله، انقض معانقًا له، فكان وجهه يذكره بذكريات طفولة اعتلقت في ذاكرته، فحدثه بلهجتهم الأصلية، قائلًا:
_لك وحشة يا خال، من زمان ما شوفتك!
ردّ "فهيم" باشتياقٍ لافح، وهو ينغمس في أحضان ابن أخته الوحيد:
_ياه يا رمزي، خالك كان مشتاجلك موت، اليوم جّالي ناچي إنك وصلت، فرحتي مكانتش سايعة، وكنت ناوي أطلعلك أسلم، بس جولت أسيبك تاخذ نَفَسك، أكيد السفر هدّك.
ضحك "رمزي"، وأزاحه عنه قليلًا لينظر في وجهه بتمعّن، وكأنّ كل تفصيلة فيه تذكّره بوالدته الغائبة، فقال:
_نمت وارتاحت، ولما چا الليل، جلت لازم أنزل أفرح معكم، ألف مبروك يا خال بفرحة ناچي، وعجبال ليلة الدخلة.
ابتسم "فهيم" بحنان الأبوة الصادق، وقال:
_الله يبارك فيك... بس جولي، سمعت إنك چاي ومعاك حُرمة، دي مرتك ولا شلون؟ أوعى يا رمزي تكون ماشي بطريجتهم، إحنا سِمعتنا دايمًا مرفوعة فوج!
استنكر "رمزي" الحقيقة، فرسم أكذوبة جديدة بأيدٍ واثقة:
_لا يا خالي، اللي فوج دي أختي، والحكاية طويلة شوي، بس هفهمك الزُبدة دلحين، ولما نفضى أجعد أحكي لك بالسِّعة كل التفاصيل!
تعجب "ناجي" مما سمعه، فاستفسر بدهشة، قائلًا:
_أختك؟ كيف يعني؟ إنت طول عمرك وحيد وما لك لا أخ ولا أخت، من وين طلعت هالبنت؟
أحنى "رمزي" رأسه للأسفل بخجل، كأنه يبحث عن الكلمات الأفاكة بين ثنايا الأرض، ثم رفعه وقال بحزن:
_كل السالفة إن أبوي كان متچوز بالسر من سنين، وربك أراد ينكشف، وطلع لي أخت من دمه، البنية من يوم ما أمها ماتت وهي عايشة وحدها، ولما جات، جالت تعيش معاي أحسن ما تعيش مع غريب، وإنت تدري يا خال إن الدنيا ما عاد فيها أمان، وهذي لحمي ودمي!
تلفظ "فهيم" بصدمةٍ عارمة، فقال بحيرة:
_الكلام ذا كبير وما قد سمعته منك قبل، بس والله ما استغرب، أبوك يسويها، ما في شي عليه غريب.
تفوه "رمزي" بملامح كذبة توحي بشجنه الداخلي لما حدث على يد والده الدجّال الأحمق:
_السالفة ذي توچع الجلب يا خال، وما لي خلج أفتحها ثاني، آني جيت أفرح معاكم، من يوم سمعت إن ناچي بيعرّس، والفرحة مالها حدود فجلبي.
ربت "فهيم" على كتف رمزي بحنان، وتلفظ مبتسمًا:
_مش مهم الكلام، المهم إنك معانا وبخير إنت وأختك، وعجبال نشوفك مع اللي تستاهلها من جلبك.
رد "رمزي" بابتسامة، متمنيًا بشوق:
_يا ريت يا خال، متى ييچي هاليوم بس؟
نطق "فهيم" ببشاشةٍ مرسومة على شفتيه، وقال:
_على خيرة الله، روح يا رچال افرح مع الشباب، وبكرا نجعد نتونس ونتكلم شوي جبل الفرح!
قال "رمزي" باستعداد، إذ يقوده الحماس نحو المشاركة في احتفالات ما قبل الزفاف:
_ماشي يا خال، على طول.
اِنخرط رمزي في الحلقات الاحتفالية بين الشباب، إذ كانوا يترقصون على الإيقاعات المتنوعة، كلٌ منهم يبدع في أداء الرقصات التهللية، يصفقون، يغنّون، ويمرحون. وقف رمزي وسطهم، يتحرك بخطى ثابتة، يرفع يديه عاليًا مرددًا الإيقاع مع دقات الطبول، ثم يخفضها في تناغمٍ معهم، فكانت الدبكة البدوية مفعمة بالحيوية، توحّدهم كأنهم جسد واحد يتنفس بنبض الموسيقى.
وفيما الجميع منشغل بالاحتفالات المُبهجة، وفدت عشيرة من الرجال جميعهم من أهل الواحات، يصافحون والدي العروسين بحرارة، مقدمين لهما التهاني والتبريكات الخالصة، حيث السعادة تحلّق في سماء هذا اللقاء.
أما محفل النساء بالداخل، فكان يعج بالحركة، يتعاونّ في إعداد ولائم ليلة الحناء، وبما أن العروس ابنة خال رمزي، فقد كانت في دار والدها وسط النساء اللواتي يُطلقن الزغاريد من سفح البهجة، وتحت ضوء القمر الفضي تجمعت نساء البدو حولها، يعلو صوت الأهازيج ويملأ الأفق بهجة، وأيديهن ترسم الحناء على كفّيها بدقة، بينما رائحة العود والأعشاب تعانق الأجواء الضجّة.
كانت كل واحدة تنتظر دورها مع راسمة الحناء لتصنع لها رسمة مميزة، فكنّ يقدّسن رسومات الحناء ويحبذنها بشدة. أما في الأعلى، بالطابق الأخير حيث يسود الهدوء نسبيًا، فبعد ثلث ساعة خرجت چيهان من تحت المنضحة، وقد التفت بالمنشفة، ثم دخلت حجرة النوم وأوصدت الباب بإحكام على عجل، وبدأت ترتدي ثيابها، تمشّط شعرها، ثم لفّت حجابها حول رأسها، وخرجت إلى السطح تتابع أجواء الاحتفال من بعيد.
كانت تبحث بفضول عن رمزي بين الرجال، يخفق قلبها في تلك اللحظات دون سببٍ ظاهر، وحين رأته ارتاح قلبها وسكن. لكن ما إن تغلغلت الرياح الباردة على وجهها حتى خشيت أن تتفاقم أوجاعها، فعادت إلى الحجرة وأغلقت الباب، تناولت دواءها، ثم ذابت في عالم الأحلام.
وفي إحدى قرى محافظة كفر الشيخ، اجتمع الشيخ "نعمان" مع أهل المسحور في حجرة الاستقبال، إذ كانت رحيبة تسع عشرات الرجال، استقروا على الأرايك العربية، وقبالتهم أكواب الشاي تتصاعد منها أبخرة راقصة بدُعابة. تدنّس مزاج "جميل" والد الضحية بعدما علم بالكوارث التي صعقت ابنه، ذاك الذي يمثل جزءًا من روحه. فبينما عينيه مغمورتان بالدموع، أظهر صلابة رجولية، فقال نعمان بمواساة:
_يا حاج أنا والله العظيم بعمل اللي عليا وزيادة، ابنك حالته متأخرة، لو كنا لحقنا العلة من بدايتها كنا سيطرنا عليها سيطرة كاملة، إنما المرض أكل جسمه وأعذرني لو بقولك كده، بس ولاد الحرام مسابوش حاجة لولاد الحلال، لكن متقلقش بأمر الله علاجه هيكون على إيدي!
طأطأ "جميل" رأسه بحزن، كأنما يحمل فوقه جبالًا من الهمّ، هاربًا من مخاوفه الضاغطة على صدره، تلك التي أوشكت أن تكسر ضلوعه وتُطفئ رجولته، وقال بصوتٍ ممزق الحروف، مغمورٍ بالأسى:
_طيب يا شيخ، علاجه هيحتاج وقت قد إيه؟
أجابه "الشيخ" ببسمة أمل بسيطةٍ:
_المواضيع اللي زي دي ملهاش وقت محدد، احنا هنبتدي ومنين ما ربنا يتم شفاؤه، هتلاقي الدنيا ماشية تمام، أنا بس عايز أسحب المرض من جذوره.
على نحو آخر، حيث كان مصعب بين الجبال مع بعض الرجال الراغبين في قفز سلم الغنى، وردم فقر الماضي بين التراب، استخدموا المثقاب الكهربائي للوصول إلى أعماق غائرة. قدموا إحدى الفتيات قربانًا للجان، ليتمكنوا من فتح أبواب العهد، إذ كانت فتاة في عمر الثالثة عشر ملقاة على الأرض مغمورة بدمائها العفيفة. شق مصعب عنقها بلا رحمة، وفي النهاية انشغل بين رجالٍ معدومي الشفقة، ساعين وراء آمال ستفتح عليهم طاقات الانتقام الإلهي كنيران ملتهبة تأكل أجسادهم جميعًا.
خرجت التوابيت الحجرية بواسطة الونش الهيدروليكي واحدة تلو الأخرى، إلى أن استخرجوا ثلاثة تماثيل عملاقة تبلغ قيمة الواحدة منها مائة مليون دولار. حين انقشع الغبار عن جوف الجبل، ظهرت التماثيل كأنها تنهض من نوم أبدي، منحوتة من الجرانيت الأسود والرملي، بملامح ملكية صارمة ونظرات تخترق الزمن. بعضها يجسّد ملوكًا على عروشهم، بأذرع مضمومة على الصدر، والتيجان تزين رؤوسهم في هيبة صامتة، بينما تماثيل أخرى لإلهة باسطة ذراعيها، تتدلى من جوانبها نقوش عميقة ما زالت تحتفظ ببريقها رغم مرور القرون.
ابتسم الرجال بأمل يكسو وجوههم، وقبل أن تخرج التماثيل إلى السيارات الراسية في الخارج، قال "مصعب" بصرامة لا تقبل التهاون:
_الرُّكاز من ذا يِسوى مية مليون دولار، وحنا طلعنا ثلاث، يعني المچموع ٣٠٠ مليون، نصهم لي آني، ١٥٠ مليون، وما فيه تمثال يتحرك من مكانه إلا لما آخد حجي كامل مكمل!
تلفّظ "أحد الرجال" معترضًا: كيف يفكّر بهذه الطريقة وهم لم يتمكنوا من تصريف الأولى بعد؟ ثم أبدى دهشته قائلًا:
_وش فيك يا عم مصعب؟ إحنا لسه ما بعناهم، تجوم تطالب بحجك؟ إحنا طلعناهم واحنا ما معانا ولا مليم، وحلمنا بس نتغني ونفك زنجتنا، فاصبر علينا شوي، ولَك حجك كامل ومية فوج راسك.
رد "مصعب" بخشونة، فعجَّ بغيظٍ:
_مية عفريت يركبوك ويهزوك هز، آني حصتي مية وخمسين مليون، ولو نجص منهم مليم، أوريكم الشغل الصح كيف يكون!
تدخّل "أحد الرجال" في الحديث، محاولًا إرضاء مصعب، إذ كان يعتقد ذاته تفوقت عليه بمكره، غير مدرك أن ذرة الهواء لا تتسرّب بجواره دون أن يفحص ملامحها كاملة، فقال:
_هنديك مية مليون يا عم مصعب، إحنا خمسة، والمتين اللي فاضلين ميكفوش، إحنا ورانا بيوت وعيال، ونبغى نطلع راسنا فوج ونعيش بكرامة!
تقدّم "مصعب" نحوه بسخطٍ جلي، يخرج منه كأشعةٍ تنبع من عين إبليس، وقال بامتعاضٍ حازم:
_تبغون تجبوا على جفايا؟ يعني آني أتعب وأشجى وفي الآخر تجوني بمية مليون بس؟ طيّب ليه ما تريحوا نفسكم ومتدونيش ولا جرش؟ أجولكم؟ خلاص، ما عاد أبغى ولا حاچة!
تغيّرت ملامحه كذئبٍ مُريع يترصدهم، بشرًا لا يروى وجودهم في قصص الأبالسة. انتاب الرجال فيضٌ من الترقب، جعلهم منشغلين عن رفع التماثيل، فهي تمثل لهم عملية بالغة الدقة. وعلى الرغم من ذلك، تقدّم "أحدهم" نحوه، معتقدًا أن كلماته كفرشاة تمحو ملامح السخط عنه، وقال بترجّي:
_استنى بس يا عم مصعب، الكلام أخد وعطا!
لكن "مصعب" الذي رفض الانتظار، قال متوعدًا بحدة:
_ولا دجيجة واحدة، آني ليّا متين زيادة مو مية وخمسين، وإذا ما وصلوا بروحكم، بنندمكم على اليوم اللي شوفتوني فيه!
خرج حانقًا من الجبل، وقد أزاد مطلبه بعناد أثقل كاهلهم، حتى شعروا أن الجبال نفسها تضغط على أنفاسهم. لقد وضعهم مصعب في أمر لا حلّ له، مكلفًا إياهم بمبلغ ضخم سينقص من حصصهم المالية. وبعد أن اختفى عن الأنظار، انهمك الرجال مع بعضهم في رفع التماثيل، فخرجت الأصوات وكأنها لحنٌ واحد.
بينما ركب سيارته وتحرك في طريقه بين ظلام الأزقة وأصوات الذئاب العاوية على الحواف الرابية، تلقى مكالمة من "إحدى الملعونات" التي تستعين به في تخريب حياة البشر وتهدمها بأيدٍ طالحة، تستغيث به بعدما علمت بفك سحرها المرجوم، قائلة بخوف:
_ألو يا سي مصعب، الحجني! شريف سحره هيتفك وكل اللي عملته هيروح على الأرض! الليلة دي چابوا شيخ وجالهم كل حاچة، كان ناجص بس يجول اسمي!
امتدّ ذراع "مصعب" نحو تارة القيادة، يديرها بهدوء مع دوران متناغم بسيارته في طريق جديد، حيث تظهر الأنوار مفشية ضياءها. لم يكترث لخوف السيدة وطلبها الاستغاثة، فقال باعتياد:
_وش اللي صار يعني؟ جامت الجيامة؟ خلّه ينفك، وأنا أزبطه له، لو يعيدها ميّة مرّة.
كانت "السيدة" ترى أن ذلك إهدارٌ لوقتها ومالها، فاقترحت حلًا أفضل، فقالت:
_لا يا سي مصعب، ما هو كل ما يتفك وإنت تعمله هتطلب مني الفلوس، وآني ربنا العالم بيا، ده الحالة ضنك، آني عاوزاك تضربه الضربة الناهية، آني جلبي تاعبني جوي ومجهورة على بتي....
وتابعت ببكاء:
_بتي مكنتش تستاهل منه يسيبها ويرميها، دهو من يوميها وهي جافلة على نفسها، ومش جادرة تخرچ للناس تتعامل معاهم، آني هبعتلك خمس آلاف جنيه بس الصبح أسمعهم بيزعجوا عليه في البلد.
تلفّظ "مصعب" بصياح، وقال معترضًا:
_هالخمس آلاف بلّيهم واشربي مويتهم! آني يلزمني عشر آلاف غيرهم، وخلال ساعة يكونوا عندي، وساعتها أريح جلبك اللي مكدّرني ومكدّرك.
صمتت "السيدة" لوهلة تدبّر الأمر في رأسها، وفي النهاية وافقت على مطلبه رغم كل ظرف، وقالت:
_حاضر، آني هتصرف فيهم، انشالله أبيع دبلتي، المهم تفرح جلبي وليك الحلاوة بعد دفنته.
نطق "مصعب" برضى، وقال:
_طيب، عجب ساعة نادي عليا، آني سايج الحين، وسلام.
بينما انتهت المكالمة بينهما على اتفاقية خسيسة مدبرة لسحق مسكين فقد زمام الأمور، وأصبح أمر شفائه في يد الخالق، أحسَّ مصعب أن المبلغ لن يكفي احتياجاته وأنه يستحق أكثر بكثير، لكن تعطفه الذي طالما عانى منه جعله يوافق على مبلغها الغَيض، ووضعه في اعتباره خدمة تستوجب عليها ثناءه مدى الحياة. وبعد دقائق، عاد إلى منزله ودخله في صمت، لكن المصابيح أرادت ترحيبه بطريقتها الخاصة وهي ترتج فرحًا.
حينها جلس على أريكته المزخرفة بدماء ضحاياه الذين غلفهم داخل هديته الخبيثة للجان، معتبرًا أنها طريقة مميزة للتعبير عن معزته الخاصة لهم، فهو يحقق مكاسب باهظة من الأرواح المستذلة ويجد فيها ملاذًا آمنًا.
فتح كتابه يتصفح ورقاته برجاحة، يتابع حالاته في هدوء تام، مضيق العينين، يرى حروفًا بالدماء تكتب في حاشية الصفحة، ثم رفع رأسه يتمتم طلاسمه إلى أن ظهرت له أطياف مرعبة بدأت تتحول إلى أشكال مفزعة من الجان. وقف الجني قباله بثبات، وملامحه مشوشة كالمسخ، يملك ذراعًا أطول من الآخر، وأظافره تبلغ طولها عشرين سنتيمترًا، جلده شاحب يميل إلى الزرقة، أما جفناه فكانا جاحظين بغرابة. نظر له "مصعب" بشجاعة، وقال بشر لا يخفى:
_أأمركم يا خدام الچبل... هِدّوا عاليه على روسهم، لا تخلّون منهم طارف ولا تالي... كسروا الضلع، واجلبوا الحچر فوج الحچر، خليها نكبة على اللي طمع!
وقف "الجني" حياله مستجيبًا، وقال بصوت كِلْعٍ يرعد الأبدان:
_اللي أمر، سُمِع، واللي جرى، ما يرجع، الرياح بدت تتحرّك، والجبل صحى من سِكات!
في التوّ انقلبت الموازين، إذ كان الرجال لا يزالون يحركون التمثال الأول، والأعين مترقبة بخوف، لكن الطبيعة الصحراوية أظهرت وجهًا قاسيًا، تنجرف برياحها العاتية على وجوههم. قوة جارفة زحزحت أجسادهم عن بعضها، فانقلبت الرافعة بقائدها، فسقط بشراسة من الجبل ليجد أرضًا قاسية تحتضنه هو وشتات رافعته التي خانته في لحظة مفاجأة. تفتت الجبال وتفرقت صخورها منفجرة كأنها فحمة في يد دخّانٍ.
بدأ الرجال يفرّون كالجراد، كل واحد منهم يسعى للنجاة بروحه، إذ علموا ثمنها الحقيقي بالمقارنة بالتماثيل الفرعونية التي أثارت سخط الطبيعة لتجعلهم بلا منجاة. وفي لحظات قليلة انهار الجبل برمته، حظي البعض بالمناص، والآخرون غطّت الأتربة عظامهم، فأصبحوا جزءًا لا يتجزأ من الجبل.
بعد دقائق من الانهيار، رفع "مصعب" هاتفه بغبطة نفسية عجيبة، تسكنها شماتة، وظاهرها حزن مصطنع، وقال بابتسامة لعينة على شفتيه الداكنتين:
_اللي يفاصل مصعب، نفاصل مفاصله، ونهدّ الچبل فوج راسه، لا هو لحج لا أبيض ولا أسود.
