رواية متاهة مشاعر الفصل السابع 7 بقلم نهي طلبة
(7)
دوي صوت ريناد في الهاتف وهي تصرخ مذهولة:
ـ أسبوعين!!.. أسبوعين إيه يا يزيد؟.. مش ممكن طبعاً ألحق أخلص أي حاجة في أسبوعين, مش أقل من ست شهور..
هتف بدوره بغضب يتزايد بداخله:
ـ إيه!!.. ست شهور!!.. احنا مخطوبين من سنة ونص.. سنة ونص تبديل وتغيير في كل ركن في البيت وياريت في الآخر بترضي عنه.. خلاص.. احنا نتجوز وابقي اعملي التباديل والتوافيق براحتك واحنا متجوزين..
سألته ريناد بهدوء وقد استشعرت غضبه:
ـ هو في إيه يا يزيد؟.. احنا كنا لسه مع بعض امبارح .. الكلام ده جديد عليّ..
سألها يزيد والغضب مازال يلون صوته:
ـ أنا مش فاهم إيه اللي يزعلك في أننا نعجل من جوازنا؟..
أجابته بنزق:
ـ وإيه اللي جد عشان العجلة دي كلها؟..
ضرب سطح مكتبه بقبضة يده.. حتى شعر أنه على وشك تحطيمها..
ماذا يستطيع أن يخبرها؟.. أنه كان على وشك خيانتها.. ليس مرة, بل اثنتين.. هذا على أرض الواقع.. أما عدد مرات خيانته لها في خياله فهي لا تحصى.. ففراشته الراقصة لم تبرح خياله منذ قبلتهما في غرفته ليلة الحفلة.. يراقصها ويحتضنها.. ويقبلها كما تستحق وكما يشتهي هو.. فلم يتذوق ملوحة دموعها بأحلامه, بل شهد شفتيها الذي لا يكتفي منه.. كل تلك الخيالات انفجرت بوجهه لحظة أن لامست شفتيه وجنتها.. فلم يدري بنفسه إلا وهو يضمها.. يقبلها.. يتذوقها.. وقد اعتلت دمعته جيدها.. وما يثير جنونه.. ويأجج مشاعره.. أنها لا ترفضه.. لا تبعده أو تقاومه, بل تذوب بين أحضانه.. تستسلم له في خضوع عاشقة وكأنها ولدت لتحيا بين ذراعيه..
لم لا تشعر ريناد به؟.. باحتياجه لها ولحبها.. لتواجدها بجواره.. يريدها أن تنقذه من خيالاته.. من أوهامه حول علياء..
نعم..
أنها خيالات وأوهام.. فوران هرمونات ورغبات جسد..
بالطبع ذلك ما يشعر به.. يجب أن يكون كذلك.. لا يهم ما شعر به منذ قليل وكلمات والده تخترق أذنيه كالخناجر السامة... كالأحجار المسننة التي تمزق تماسكه الهش وهو يلمحها تغطي بيدها فوق قبلته.. ووالده مستمر في تعداد مزايا كل زوج محتمل من الذين فتنوا بالفراشة الأثيرة..
هرب من سماع كلمات والده وخرج مندفعاً من الغرفة قبل أن يخونه تماسكه ويصرخ به.. أن ولده خان أمانة اليتيمة المعلقة بأعناقهما.. أراده أن يمتنع عن ذكر كل اولئك الرجال الذين يرغبونها.. فذلك يزيد من تأجج رغبته بها.. ويضيف إلى جنونه جنون آخر.. جنون الامتلاك.. يريدها له وحده.. ولكنه لا يستطيع أن ينالها.. فأي وجود لها في حياته كفيل بتحطيم أعز الناس إلى قلبه.. أمه.. فيكفيها ما نالها من والده.. منذ سنوات.. وكانت السبب فيه نادية والدة علياء.. تلك السيدة الرقيقة التي عجز عن كراهيتها عندما أخبره والده عنها وعرفه بها.. مخبراً إياه أنه يدين لها بالكثير.. ولم يزد عن ذلك.. فقد كانت نادية في أقسى مراحل مرضها..
الذنب الذي شعر به لعجزه عن كراهية السيدة التي حطمت سعادة والدته وأمانها.. تحول إلى حقد على علياء.. ابنتها الصغيرة.. فعلى مدار سنوات كان يتفنن في إغاظتها والتضييق عليها.. حتى أفاقه مازن بتلميحاته المتكررة على حقيقة مشاعره وأن كل تصرفاته تعود إلى أنانيته الخالصة ورغبته التامة في اخفائها عن العيون لتكون له وحده, لقد التقط عقله الباطن مدى هشاشتها ورقتها فتحول تلقائياً لحمايتها من الجميع وأولهم والدته.. ولكنه للأسف فشل في حمايتها من نفسه..
أعاده صوت ريناد إلى الواقع وهي تقول:
ـ البيت مش جاهز و..
قاطعها:
ـ شهر واحد يا ريناد.. هو شهر.. ما فيش يوم واحد زيادة..
حاولت ريناد مجادلته إلا أنه أنهى المكالمة بحسم:
ـ أنا هكلم ماما عشان تتفق مع خالتي.. وأنتِ حاولي تخلصي اللي تقدري عليه.. والباقي بعد الجواز.. ده آخر كلام عندي..
أغلق الخط وهو يزفر بحنق واضعاً وجهه بين كفيه.. ليفاجئ ببعض شعيرات سوداء قد تعلقت بأصابعه..
اللعنة.. أنها تنتمي إلى علياء..
خلص أصابعه منهم بعنف.. وهو يصرخ من أعماقه..
اللعنة.. لقد أصبحت لعنته وهاجسه..
قطع رنين الهاتف استرسال افكاره.. فرفعه إلى أذنه مرحباً بالمقاطعة.. ليجد حسن هو المتصل يطلب منه مقابلته في النادي.. لأمر هام...
**************
ظلت علياء تستمع إلى ثرثرة نيرة بذهن غائب.. فعقلها قد توقف عن العمل في اللحظة التي أحاطها يزيد بذراعيه.. فهو له ذلك التأثير المخدر على حواسها وإدراكها.. أنها حتى لا تتذكر ما حدث بعدما أطلقها من بين ذراعيه..
كل ما يمر في ذهنها خيالات عن حوار ما.. كانت هي أحد أطرافه, بل كانت تجيب عمها عصام أيضاً على أسئلته.. الشيء الوحيد الواضح الذي يلمع في ذهنها هو صوت رأس يزيد يصطدم بزجاج النافذة.. بعدما أخبرها عصام عن خطابها المحتملين.. ثم اندفاعه خارج الغرفة متعذراً بأشياء لا تتذكرها..
ثم تكرار عصام لعروض الزواج.. ولكنها اعتذرت بسرعة مستخدمة دراستها كعذر صلب لتختفي خلفه..
قاطع شرودها صوت نيرة النزق:
ـ عليا.. أنتِ فين؟.. إيه سرحانة في إيه؟.. من لحظة ما دخلتِ العربية وأنتِ مش هنا..
أجابتها علياء بشرود:
ـ هااه.. لا أبداً ولا حاجة..
ـ إزاي ولا حاجة!!... في إيه؟.. يزيد زعلك في حاجة؟.. أنتِ ما قولتليش إيه اللي حصل ليلة الحفلة؟..
تلعثمت عليا.. ولم تعرف بم تجيب نيرة.. فهي تريد الاحتفاظ لنفسها فقط بما يدور بينها وبين يزيد.. تشعر أنه شيء خاص جداً.. ولا تريد إطلاع أي شخص عليه حتى لو كانت نيرة.. حتى لو كانت تحتاج إلى مشورتها بشدة.. فهي لا تعلم كيف تتعامل معه بعد الآن.. فهو يخبرها بشفتيه أنه يعتبرها كأخت صغيرة.. ثم تجده بعد لحظات يقبلها بنفس الشفتين..
ماذا يريد منها؟.. وماذا يظن بها؟..
هي لا تعلم.. حتى رد فعله الغريب على كلام والده لا تعرف ماذا يعني..
هل تشعر بخيبة الأمل لأنه لم يصرخ رافضاً؟.. نعم..
ولكنها كانت تقريباً تتوقع هربه من المواجهة.. ولم يفاجئها ذلك.. أنها لا تريد إلا حبه فقط.. حتى أنها لم تفكر ماذا ستفعل لو بادلها مشاعرها بالفعل!.. وكأن أقصى أمانيها هي حبه فقط.. بل أنها وللعجب لم تفكر لحظة في إزاحة ريناد من طريقها.. لا تدري أتلك سذاجة منها؟.. أم أن قلبها يعلم أن المشكلة لا تكمن بريناد, بل بيزيد نفسه...
أعادها صوت نيرة للواقع مرة أخرى:.
ـ عليا!.. في إيه؟.. لا!!.. أنتِ مش عجباني نهائي..
هزت علياء رأسها بقوة لتحاول تركيز أفكارها وأجابت نيرة بأول ما جاء على لسانها:
ـ أصل.. أصل عمو عصام بلغني أنه في ناس عايزة تتقدم وتخطبني..
صرخت نيرة بحبور:
ـ والله.. دي أخبار عظيمة..
التفتت علياء إليها بذهول:
ـ عظيمة!!.. عظيمة إزاي يا نيرة؟.. ويزيد؟..
ـ أيوه طبعاً عظيمة.. دي فرصة هايلة أنه يشوفك مع واحد تاني.. يشوف أنك ممكن تضيعي منه.. ساعتها هيحس بقيمتك..
هزت علياء رأسها برفض:
ـ قصدك إني أوافق وارتبط بشخص تاني فعلاً؟!..
أومأت نيرة موافقة:
ـ أيوه طبعاً..
أجابتها علياء برفض تام:
ـ بس دي كده تبقى خيانة.. أنا كده هخون الشخص ده وأنا برتبط به ومشاعري مع غيره, وخاصة أني مش هكمل معاه.. وكمان بخون نفسي ومشاعري..
لوحت نيرة بيدها:
ـ عليا.. بلاش كلام الشعارات ده.. أهم حاجة ازاي توصلي للي أنتِ عايزاه..
ـ خلاص يا نيرة.. الموضوع انتهى.. أنا بلغت عمو عصام.. أني مش بفكر في الجواز.. ومش هفكر فيه إلا بعد ما أخلص دراسة..
سكتت قليلاً وهي تلمح علامات الامتعاض على وجه نيرة ثم سألتها:
ـ إحنا رايحيين فين؟.. ده مش طريق النادي..
ارتسمت ابتسامة جذلى على شفتي نيرة وهي تجيب:
ـ أيوه.. إحنا رايحيين البوتيك اللي بتشتغل فيه منى..
اتسعت عينا علياء بخوف:
ـ ليه؟.. بلاش يا نيرة..
تركت عينا نيرة الطريق قليلاً لتلتفت لعليا وقد ارتسمت على ملامحها كل معالم الكراهية:
ـ أيوه.. أيوه يا عليا.. لازم أنهي الموضوع ده النهارده.. والليلة بنت السواق هتكون مشرفة في السجن..
شهقت عليا:
ـ إيه!!.. السجن!!.. نيرة.. الموضوع ما يوصلش للدرجة دي؟.. أنتِ ناوية على إيه؟..
ضغطت نيرة على أسنانها بغيظ:
ـ يعني إيه ما يوصلش للدرجة دي؟؟.. هي اللي بدأت.. وبتحاول تسرق مني حسن.. خلاص يبقى العقوبة على أد الجريمة.. ولو عليّ كنت محيتها من الدنيا..
ـ هتعملي إيه يا نيرة؟..
هزت نيرة كتفيها بلامبالاة:
ـ أبداً.. أنا الفترة اللي فاتت كنت بروح البوتيك يومياً.. بس في وقت هي بتكون مش موجودة فيه.. بقيت زبونة... في آي بي... النهارده بقى أما نروح هقول أن الولاعة وعلبة السجاير الدهب بتوعي ضاعوا.. أنتِ عليكِ أنك تحطيهم في شنطتها من غير ما تاخد بالها.. وهوووبا... هتشرف الهانم في السجن.. بس عشان تتعلم أنها ما تبصش لفوق...
برقت عينا عليا برعب وهي تستوعب ما قالته نيرة وما تنوي عليه بينما ارتسمت على شفتي نيرة ابتسامة متشفية وهي تتخيل منى بالفعل خلف القضبان..
************
طرق حسن غرفة جدته باحترام.. وانتظر حتى سمحت له بالدخول..
دخل غرفتها ليجدها تجلس على أريكتها المريحة الموجودة بمواجهة فراشها.. وقد وُضعت أمامها مائدة صغيرة وعليها المصحف الخاص بها.. وكتاب المأثورات وأذكار الصباح والمساء.. بينما أمسكت بين أصابعها مسبحة طويلة وأخذت تسبح في صمت..
تنحنح حسن.. حتى يلفت انتباهها لوجوده وحياها بهدوء:
ـ صباح الخير يا جدتي..
ابتسمت له:
ـ صباح الخير يا روح جدتك روح..
وضحكا معاً لتحيتها المعتادة له.. فــــ روح هو اسمها...
أشارت له:
ـ تعالى أقعد جنب روح واشتكي لها همك..
جلس بجوارها واحتار كيف يخبرها ما يريد فسألها:
ـ حضرتك فطرتِ؟..
أجابته بصبر:
ـ أنت عارف أني بصحى من قبل الفجر.. ادعي وأصلي.. وأشرب الليمون بالعسل.. وكمان.. آخد الثوم المفصص والمقطع بتاعي.. أنت عارف هو حلو قوي للمناعة.. وبعدين أفطر فتة اللبن بالعيش.. نظامي وعمري ما هغيره أن شاء الله..
ضحك حسن:
ـ ربنا يديكي الصحة..
ربتت على ركبته:
ـ احكي لي عن همك يا ابن حاتم.. قلبك اللي تاعبك.. وأبوك رماك للنار.. وهو عارف أنك مُغرم بنسمة هوى رقيقة..
ـ حضرتك عارفة كل حاجة أهو يا جدتي..
أومأت:
ـ أيوه يا حبيبي.. وأبوك بسرعة عمل الخطوبة وأنا في رحلة الحج.. عشان ما اتدخلش.. بس لو عايزني أدخل.. أنا هساعدك يا حبيبي..
اندفعت الكلمات على لسان حسن وهو يخبرها أنه يحتاج لرأيها فيما يفكر به..
وبدأ يحكي لها عن الخطة التي توصل لها..
عندما انتهى سألته:
ـ ما فيش طريقة تانية يا حسن؟..
هز رأسه:
ـ ما فيش قدامي غير أني أتقمص شخصية حاتم العدوي.. وأفكر زيه.. عشان أحمي منى.. وفي نفس الوقت برضوه ما أسببش أذى كبير لنيرة..
هزت رأسها وهي تخبره بحزن:
ـ هقول لك ايه يا ابني!.. حاول على أد ما تقدر أنك ما تأذيهاش كتير.. ولو عايز مساعدة مع نصر.. أنا هكون جانبك.. لأنه أكيد هيرفض جواز بنته بدون موافقة أبوك.. نصر بيحترمني.. أنا أعرفه من هو صغير..
أمسك حسن يد جدته وقبلها بحب شديد:
ـ ربنا يخليكي يا روح.. يا روح حسن..
ضحكت جدته وهي تسأله:
ـ بقى روح.. هي روح حسن!!.. أومال منى تبقى ايه يا شقي؟!!..
ضحكا معاً وهو يشعر بالارتياح يغمره فقد اكتسب حليف قوي..
***********
جلس حسن مع يزيد بمدرجات التنس وبديا للجميع وكأنهما يتابعان المبارة التي تدور بين نيرة وريناد.. حيث بدت نيرة في مزاج رائق وهادئ تكاد تكون منتشية.. مما مكنها من السيطرة على المبارة بكل سهولة بعكس ريناد التي كانت في مزاج متفجر..
مما دفع حسن إلى سؤال يزيد:
ـ مالها ريناد؟.. شكلها هتفجر الملعب باللي فيه!..
ابتسم يزيد بسخرية:
ـ إيه خايف إنها تخبط الكورة في نيرة؟
هز حسن كتفيه:
ـ مش معنى أني مش بحبها بالطريقة اللي هي عايزاها.. أني أتمنى لها الأذى.. بالعكس.. أنا أتمنى لها كل خير.. بس يكون بعيد عني.. برضوه ما قلتش.. أنت لك دخل بمزاج ريناد؟..
ـ أخيراً أخدت موقف من موضوع تأجيلها للجواز.. وحددت له ميعاد بعد شهر.. وده طبعاً مش جاي على هواها.. سيبك أنت.. خلينا في الخطة الجهنمية بتاعتك دي..
ـ أنا ما كنتش عايز ألجأ لكده.. وحاولت معاها كتير.. أنا حسيت أني بقيت حد بايخ وسخيف عشان هي تبعد من نفسها.. لكن ما فيش فايدة.. وأنا تعبت.. مش قادر أتحمل أكتر.. ومنى رافضة أني حتى أشوفها.. أنا عاذرها طبعاً.. لكن خلاص بقى.. كل شيء وله حد.. وأنا جبت آخري..
شردتا عينا يزيد للحظة وهو يتابع دخول مازن إلى أحد المدرجات كان لا يراهما من موقعه.. لكن يزيد كان يراه بوضوح حيث جلس ليتابع المباراة وبدا أنه في انتظار شخص ما.. فأخذ ينظر في ساعته أكثر من مرة..
وما أن لفت انتباه حسن لوصول مازن.. حتى انتفضا لسماع صرخة نيرة القوية.. فقد قامت ريناد بارسال الكرة بقوة مبالغ فيها لم تتوقعها نيرة فارتطمت الكرة برأسها بقوة.. ولكن ما جذب انتباه حسن الشديد هو رد فعل مازن الذي انتفض فزعاً وقلقاً وبدا الهلع الشديد على ملامحه وهو يتابع نيرة التي أمسكت رأسها لعدة ثوانٍ ثم بدأت تدلكها وتنظر إلى ريناد بغيظ.. وبدأت في توجيه مختلف الاتهامات لها.. وبعد أن انتهت من تفريغ غضبها اتجهت نحو غرف تغيير الملابس وهي تشير إلى علياء التي كانت جالسة في الملعب تراقب المباراة أن تنتظرها في المطعم..
حينها هدأ انفعال مازن وهو يراقب تحركات نيرة بنظرات رقيقة.. وملامح عاشقة, ولم يكن يدري بالطبع أن حسن يراقب كل ما حدث حيث تحجرت نظراته على وجه شقيقه وهو يقرأ عشقه المحروم والمحرم.. عشق لا يستطيع قراءته إلا عاشق..
أخذ يشير ليزيد بكلمات متعثرة:
ـ أنت كنت عارف؟.. كنت عارف يا يزيد..
تابع يزيد نظرات حسن ليلمح وجه مازن وقد ظهرت إمارات العشق والإشتياق على ملامحه بوضوح.. فحاول تهدئة حسن:
ـ اهدى بس يا حسن.. مازن عمره ما حاول يلفت انتباه نيرة أو..
قاطعه حسن:
ـ أنت بتقول إيه يا يزيد.. أنت فاكر أني بشك في أخويا.. أخويا اللي كان بيتعذب طول الوقت وأنا مش واخد بالي.. وقاعد أشكي له همي.. وأطلب منه يساعدني.. وهو.. هو مش قادر حتى يلمح لي باللي واجع قلبه.. إزاي.. إزاي ما اتكلمش.. طيب أنا أتصرف إزاي دلوقتِ.. أواجهه؟.. أكلمه؟.. ألمح له؟.. طيب هقول له إيه؟.. اللي أنت بتحبها أنا بموت وأنا بخطط عشان أبعدها عني.. أنا.. أنا مش عارف أعمل إيه!!!..
لم يستطع يزيد الرد على كلمات حسن العاطفية.. وأخذ يربت على كتفه بمؤازرة..
بينما استطرد حسن:
ـ آااااه.. أنا تعبان قوي.. مش قادر أرفع راسي.. مش قادر أفكر.. أنا كنت الأول بحاول أحافظ على كرامة نيرة وشعورها.. باجاريها أحياناً في تصرفاتها.. لكن دلوقتِ.. إزاي.. إزاي.. إزاي وأنا عارف إنه في كل لحظة بجاريها فيها بموت أخويا بالبطئ..
ـ خلاص يا حسن.. هانت.. واللي أنت ناوي عليه هيعطي لمازن فرصة كويسة أنه يتدخل.. أنت ناوي تنفذ خطتك امتى؟..
ـ أنا كنت ناوي يوم عيد ميلادها.. بعد شهرين.. لكن دلوقتِ.. مش هنتظر لحظة زيادة.. بس هحتاج مساعدة من ريناد..
لم يسمع أي رد من يزيد الذي تعلقت عيناه بالشخص الذي كان مازن في انتظاره.. ولم تكن سوى علياء التي كان يبدو عليها الإضطراب الشديد وهي تتوجه نحو مازن الذي أمسك بيدها ليصطحبها إلى أحد المقاعد ويجلس بجوارها.. وبدا أنه يحاول تهدئتها بينما هي كانت تلوح بيديها وتحركها في انفعال شديد..
ظل تركيز يزيد موجهاً نحو جلسة مازن وعلياء.. بينما استمر حسن في شرح ما يريده من ريناد.. حتى فوجئ بشرود يزيد.. وابتعاده بأفكاره كلية..
وكزه حسن في كتفه:
ـ يزيد.. أنت سمعت حاجة من اللي قلتها؟.. يزيد.. أنت روحت فين؟..
التفت يزيد إليه وكأنه تذكر وجوده:
ـ في إيه يا حسن؟.. أنت عايز حاجة؟..
ثم عاد ليراقب الثنائي الذي أطار عقله من رأسه.. تابع حسن نظراته ليلمح علياء وهي تجلس مع مازن.... فهتف بتعجب:
ـ هي إيه حكاية علياء مع مازن؟.. أنا مش فاهم حاجة!!..
نهض يزيد فجأة وهو يتمتم:
ـ أنا هعرف حالاً في إيه بالظبط..
**********
حاول مازن تهدئة علياء التي كانت في قمة انفعالها وهي تخبره في خوف:
ـ نيرة أكيد هتزعل مني لو عرفت أني قلت لك.. بس أنا مش عارفة ألجأ لمين؟.. أو أحكي لمين؟.. أنت قلت لي أني اتصل بيك لو احتجت لأي حاجة و..
قاطعها مازن مهدئاً:
ـ اهدي بس شوية يا عليا.. تحبي نروح نشرب حاجة؟..
هتفت بفزع:
ـ لا.. أنا لازم أحكي لك قبل ما نيرة تخلص الشاور بتاعها..
ـ طيب اهدي كده وفهميني بالراحة..
أخذت علياء نفس عميق وبدأت تحكي لمازن غضب نيرة الشديد من وجود منى في حياة حسن.. وكيف أنها ترددت على مكان عملها بمحل الملابس حتى أصبحت من أهم زبائنه ثم وصلت لخطة نيرة للزج بمنى في السجن.. بتهمة السرقة.. هنا صاح مازن في غضب ممتزج بالذهول:
ـ إيه.. أنتِ بتقولي إيه يا عليا!!.. مش ممكن توصل الأمور للدرجة دي!!..
بدأت علياء تنشج بالبكاء وهي تخبره:
ـ والله يا مازن أنا حاولت أمنعها.. والحمد لله أنه ربنا هداني لفكرة وقفتها عن خطتها دي..
سأل مازن بسرعة:
ـ فكرة إيه؟..
أجابته علياء بخجل:
ـ قلت لها أنها لو نفذت خطتها وفعلاً منى اتحبست, حسن هيعرف أنها هي اللي ورا الحكاية دي.. وده هيزود الجفا بينهم أكتر.. وهيقربه من منى أكتر وأكتر..
سألها بلهفة:
ـ هيه واقتنعت؟..
أومأت برأسها:
ـ أيوه.. بعد إلحاح شديد مني.. ومحاولات كتير اقتنعت أنها كده هتزود مشاكلها مع حسن مش هتقللها.. بس.. بس..
واختنقت علياء بغصتها وهي تجهش في البكاء مرة ثانية.. مما دفع مازن لأن يربت على كتفها مهدئاً:
ـ طيب اهدي بس يا عليا وفهميني حصل إيه بعد كده.. عشان أقدر أساعدك..
ـ لا بعد ولا قبل يا مازن.. لو علياء عندها مشكلة, أنا كفيل بحلها.. شكراً على تعبك ووقتك....
كان ذلك يزيد الذي ظهر فجأة خلفهما ليجذب علياء من ذراعها.. ويجرها خلفه بينما مازن يهتف خلفه:
ـ استنى بس يا يزيد.. استنى يا مجنون..
لم يستمع يزيد إليه وهو يتحرك بسرعة جاذباً علياء خلفه بدون أن ينتظر لحظة واحدة حتى يستمع إلى تفسيرات مازن الذي تمتم بحيرة:
ـ وبعدين في المجنون ده!!.. طيب أنا دلوقتِ هعرف باقي الحكاية إزاي!!..
************
ضمت منى ركبتيها إلى صدرها وقد كومت نفسها فوق فراشها.. وانهمرت دموع القهر من عينيها..
كانت كل شهقة تخرج منها كأنها خنجر يمزق صدرها وهي تتذكر الموقف الذي وضعتها به نيرة.. وكلفها في النهاية عملها..
لم تهتم بخسارة ذلك العمل بقدر ألمها وهي تحاول تحريك شفتيها وتستدعي بعض كلمات الإعتذار الذي أمرتها بتقديمه صاحبة البوتيك... ولكنها عجزت.. شعرت وكأن لسانها يرفض أن يخضع لأوامر عقلها ويقدم اعتذار عن اساءة وهمية لم تصدر منها..
أغمضت عيونها لتسقط الدموع على وجنتيها.. دموع حبستها طويلاً والآن بدا أنها بدأت في الانهمار ولن تتوقف.. لقد عاهدت نفسها ألا تبكي من بعد تلك الليلة التي أعلن فيها حسن خطبته على نيرة, واحتفظت بتماسكها طويلاً.. لم تتنازل ولم تخضع لحبها.. حافظت على كرامة أبيها وحرصت على مبادئها, ولكن أي من هذا لم يشفع لها.. عندما قررت نيرة أنه حان الوقت للتخلص منها..
استمرت دموعها بالهطول وهي تتذكر دخول نيرة إلى البوتيك وكأنها الملكة المتوجة للمكان وبصحبتها علياء صديقتها الحميمة.. حيث توجهت نيرة على الفور إلى صاحبة البوتيك السيدة نسرين.. ودار بينهما حوار ضاحك أظهر عمق العلاقة بينهما..
ثم بدأت نيرة تتجول بين حوامل الملابس وكأنها تنتوي الشراء بالفعل.. فأشارت السيدة نسرين إلى منى لتقوم بعملها وتبدأ بعرض الثياب على الزبونة الهامة..
تحركت منى بتثاقل نحو نيرة وألقت عليها التحية:
ـ مساء الخير يا نيرة.. بتدوري على حاجة معينة؟..
رفعت نيرة حاجبها بعجرفة:
ـ نيرة كده!!.. من غير هانم ولا حتى آنسة..
ثم رفعت صوتها لتسمعه صاحبة البوتيك وأكملت حديثها مع منى:
ـ إيه الأشكال دي.. مش عارفة تتعاملي مع الناس.. يبقى شوفي شغل تاني.. تنضفي الأرض أو تمسحي الغبار..
انسحب اللون من وجه منى وهي تلمح نظرة متشفية ومتوعدة في نفس الوقت في عينيّ نيرة.. بينما ارتسم الحرج على وجه علياء وهي تمنح منى نظرة معتذرة ومشبعة بالذنب..
فغمغمت منى بحرج:
ـ حضرتك بتدوري على حاجة معينة يا نيرة هانم؟..
وضغطت على حروف هانم بشدة.. فعادت الابتسامة المتشفية للظهور على وجه نيرة وهي تطلب منها:
ـ أيوه.. عايزة فستان سواريه لمناسبة خاصة.. خاصة جداً.. أنا عايزة أعمل مفاجأة لخطيبي.. بس يا ريت يكون الفستان لونه أبيض.. هو بيحب اللون ده عليّ قوي.. وآه.. يكون مقفول لأنه بيغير عليّ مووووت..
أغمضت منى عينيها لتخفي ألمها عن عينيّ نيرة.. وابتلعت تلميح تلك الأخيرة عن عمق علاقتها بحسن.. فهي تعد له سهرة خاصة تحرص فيها على ارتداء ما يحب.. هل معنى ذلك أنها بدأت تنجح في غزو قلب حسن؟.. غيرة عاصفة شعرت بها منى.. شعور لا إرادي لم تستطع التحكم به.. وهي تفكر أن حسن يهتم بنيرة بأي طريقة.. غضبت من نفسها لذلك الشعور.. ولكنها ليست ملاك حتى تسمو على تلك المشاعر.. وتتغاضى عنها.. حبها لحسن وغيرتها عليه.. رغم أنها لا تظهرها.. لكنها تحدث رغماً عن إرادتها...
ومجبرة بدأت تعرض على نيرة مجموعة من الثياب توافق طلباتها.. ومع كل ثوب كان تذمر نيرة يزداد.. كما كان يرتفع صوتها بالشكوى من العاملة المهملة والغبية.. وكانت تقصد منى بالطبع..
تذرعت منى بالصبر.. وتسلحت بالهدوء ورفضت أن تنقاد الى محاولات نيرة المستميتة لاستفزازها..
وأخيراً قررت نيرة انهاء اللعبة.. فأسقطت علاقة مفاتيحها ثم نظرت لمنى بكل عجرفة الدنيا لتطلب منها إحضارها من الأرض..
التمعت نظرات منى بالقهر وهي تلمح نظرات التشفي في عيون نيرة والشفقة والذنب بعيون علياء.. لم تعلم لم ذبحتها شفقة علياء أكثر من شماتة نيرة.. ولم تحتمل أن تكون في ذلك الموقف.. شعرت بجسدها وقد تخدر بفعل الألم.. ورفضت عضلاتها الاستجابة لأوامر عقلها باتخاذ أي حركة.. دموعها كانت تخزها من تحت رموشها.. وهي تحاول منعها من الانهمار.. ملامح وجهها تجمدت حاملة قناع من عدم التصديق المؤلم..
صوت نيرة العالي هو ما أخرجها من جمودها وهي تنادي السيدة نسرين.. لتحكي حكاية وهمية عن تطاول منى عليها, بل وادعت أن منى طلبت منها بعض الأموال حتى تعرض لها المزيد من الثياب.. وأنهت تمثيليتها بنبرة غضب برعت في ادعائه وطالبت باعتذار ورد اعتبار لمكانتها التي أهدرتها عاملة بسيطة بالبوتيك..
بالطبع سارعت السيدة نسرين تحث منى على تقديم اعتذار محترم للزبونة الهامة.. وهو ما رفضت منى القيام به..
فدوى صوت نيرة الغاضب:
ـ مدام نسرين.. بنت زي دي بتعطي دعاية سيئة عن البوتيك.. دي لازم تمشي..
وإرضاءً لنيرة قامت نسرين بطرد منى من العمل بدون تردد مؤكدة أن العاملات من أمثالها يسهل العثور عليهن ولكن زبونة هامة مثل نيرة غيث لا يمكن إغضابها..
التقطت منى حقيبة يدها وتحركت لتخرج من البوتيك وهي تحاول أن تحتفظ برأسها مرفوع قدر ما يمكنها ولكن صوت نيرة عاد يدوي:
ـ دي قرصة ودن بسيطة.. عشان ما تبصيش تاني لفوق يا شاطرة.. فاهمة..
لم تحتمل منى نظرات الانتصار في عينيّ نيرة فتوجهت مسرعة للخارج وهي تكاد لا ترى الطريق أمامها وأخذت تركض حتى وصلت إلى بيتها فتكومت على فراشها تبكي كرامتها وقهرها وحبها
دوي صوت ريناد في الهاتف وهي تصرخ مذهولة:
ـ أسبوعين!!.. أسبوعين إيه يا يزيد؟.. مش ممكن طبعاً ألحق أخلص أي حاجة في أسبوعين, مش أقل من ست شهور..
هتف بدوره بغضب يتزايد بداخله:
ـ إيه!!.. ست شهور!!.. احنا مخطوبين من سنة ونص.. سنة ونص تبديل وتغيير في كل ركن في البيت وياريت في الآخر بترضي عنه.. خلاص.. احنا نتجوز وابقي اعملي التباديل والتوافيق براحتك واحنا متجوزين..
سألته ريناد بهدوء وقد استشعرت غضبه:
ـ هو في إيه يا يزيد؟.. احنا كنا لسه مع بعض امبارح .. الكلام ده جديد عليّ..
سألها يزيد والغضب مازال يلون صوته:
ـ أنا مش فاهم إيه اللي يزعلك في أننا نعجل من جوازنا؟..
أجابته بنزق:
ـ وإيه اللي جد عشان العجلة دي كلها؟..
ضرب سطح مكتبه بقبضة يده.. حتى شعر أنه على وشك تحطيمها..
ماذا يستطيع أن يخبرها؟.. أنه كان على وشك خيانتها.. ليس مرة, بل اثنتين.. هذا على أرض الواقع.. أما عدد مرات خيانته لها في خياله فهي لا تحصى.. ففراشته الراقصة لم تبرح خياله منذ قبلتهما في غرفته ليلة الحفلة.. يراقصها ويحتضنها.. ويقبلها كما تستحق وكما يشتهي هو.. فلم يتذوق ملوحة دموعها بأحلامه, بل شهد شفتيها الذي لا يكتفي منه.. كل تلك الخيالات انفجرت بوجهه لحظة أن لامست شفتيه وجنتها.. فلم يدري بنفسه إلا وهو يضمها.. يقبلها.. يتذوقها.. وقد اعتلت دمعته جيدها.. وما يثير جنونه.. ويأجج مشاعره.. أنها لا ترفضه.. لا تبعده أو تقاومه, بل تذوب بين أحضانه.. تستسلم له في خضوع عاشقة وكأنها ولدت لتحيا بين ذراعيه..
لم لا تشعر ريناد به؟.. باحتياجه لها ولحبها.. لتواجدها بجواره.. يريدها أن تنقذه من خيالاته.. من أوهامه حول علياء..
نعم..
أنها خيالات وأوهام.. فوران هرمونات ورغبات جسد..
بالطبع ذلك ما يشعر به.. يجب أن يكون كذلك.. لا يهم ما شعر به منذ قليل وكلمات والده تخترق أذنيه كالخناجر السامة... كالأحجار المسننة التي تمزق تماسكه الهش وهو يلمحها تغطي بيدها فوق قبلته.. ووالده مستمر في تعداد مزايا كل زوج محتمل من الذين فتنوا بالفراشة الأثيرة..
هرب من سماع كلمات والده وخرج مندفعاً من الغرفة قبل أن يخونه تماسكه ويصرخ به.. أن ولده خان أمانة اليتيمة المعلقة بأعناقهما.. أراده أن يمتنع عن ذكر كل اولئك الرجال الذين يرغبونها.. فذلك يزيد من تأجج رغبته بها.. ويضيف إلى جنونه جنون آخر.. جنون الامتلاك.. يريدها له وحده.. ولكنه لا يستطيع أن ينالها.. فأي وجود لها في حياته كفيل بتحطيم أعز الناس إلى قلبه.. أمه.. فيكفيها ما نالها من والده.. منذ سنوات.. وكانت السبب فيه نادية والدة علياء.. تلك السيدة الرقيقة التي عجز عن كراهيتها عندما أخبره والده عنها وعرفه بها.. مخبراً إياه أنه يدين لها بالكثير.. ولم يزد عن ذلك.. فقد كانت نادية في أقسى مراحل مرضها..
الذنب الذي شعر به لعجزه عن كراهية السيدة التي حطمت سعادة والدته وأمانها.. تحول إلى حقد على علياء.. ابنتها الصغيرة.. فعلى مدار سنوات كان يتفنن في إغاظتها والتضييق عليها.. حتى أفاقه مازن بتلميحاته المتكررة على حقيقة مشاعره وأن كل تصرفاته تعود إلى أنانيته الخالصة ورغبته التامة في اخفائها عن العيون لتكون له وحده, لقد التقط عقله الباطن مدى هشاشتها ورقتها فتحول تلقائياً لحمايتها من الجميع وأولهم والدته.. ولكنه للأسف فشل في حمايتها من نفسه..
أعاده صوت ريناد إلى الواقع وهي تقول:
ـ البيت مش جاهز و..
قاطعها:
ـ شهر واحد يا ريناد.. هو شهر.. ما فيش يوم واحد زيادة..
حاولت ريناد مجادلته إلا أنه أنهى المكالمة بحسم:
ـ أنا هكلم ماما عشان تتفق مع خالتي.. وأنتِ حاولي تخلصي اللي تقدري عليه.. والباقي بعد الجواز.. ده آخر كلام عندي..
أغلق الخط وهو يزفر بحنق واضعاً وجهه بين كفيه.. ليفاجئ ببعض شعيرات سوداء قد تعلقت بأصابعه..
اللعنة.. أنها تنتمي إلى علياء..
خلص أصابعه منهم بعنف.. وهو يصرخ من أعماقه..
اللعنة.. لقد أصبحت لعنته وهاجسه..
قطع رنين الهاتف استرسال افكاره.. فرفعه إلى أذنه مرحباً بالمقاطعة.. ليجد حسن هو المتصل يطلب منه مقابلته في النادي.. لأمر هام...
**************
ظلت علياء تستمع إلى ثرثرة نيرة بذهن غائب.. فعقلها قد توقف عن العمل في اللحظة التي أحاطها يزيد بذراعيه.. فهو له ذلك التأثير المخدر على حواسها وإدراكها.. أنها حتى لا تتذكر ما حدث بعدما أطلقها من بين ذراعيه..
كل ما يمر في ذهنها خيالات عن حوار ما.. كانت هي أحد أطرافه, بل كانت تجيب عمها عصام أيضاً على أسئلته.. الشيء الوحيد الواضح الذي يلمع في ذهنها هو صوت رأس يزيد يصطدم بزجاج النافذة.. بعدما أخبرها عصام عن خطابها المحتملين.. ثم اندفاعه خارج الغرفة متعذراً بأشياء لا تتذكرها..
ثم تكرار عصام لعروض الزواج.. ولكنها اعتذرت بسرعة مستخدمة دراستها كعذر صلب لتختفي خلفه..
قاطع شرودها صوت نيرة النزق:
ـ عليا.. أنتِ فين؟.. إيه سرحانة في إيه؟.. من لحظة ما دخلتِ العربية وأنتِ مش هنا..
أجابتها علياء بشرود:
ـ هااه.. لا أبداً ولا حاجة..
ـ إزاي ولا حاجة!!... في إيه؟.. يزيد زعلك في حاجة؟.. أنتِ ما قولتليش إيه اللي حصل ليلة الحفلة؟..
تلعثمت عليا.. ولم تعرف بم تجيب نيرة.. فهي تريد الاحتفاظ لنفسها فقط بما يدور بينها وبين يزيد.. تشعر أنه شيء خاص جداً.. ولا تريد إطلاع أي شخص عليه حتى لو كانت نيرة.. حتى لو كانت تحتاج إلى مشورتها بشدة.. فهي لا تعلم كيف تتعامل معه بعد الآن.. فهو يخبرها بشفتيه أنه يعتبرها كأخت صغيرة.. ثم تجده بعد لحظات يقبلها بنفس الشفتين..
ماذا يريد منها؟.. وماذا يظن بها؟..
هي لا تعلم.. حتى رد فعله الغريب على كلام والده لا تعرف ماذا يعني..
هل تشعر بخيبة الأمل لأنه لم يصرخ رافضاً؟.. نعم..
ولكنها كانت تقريباً تتوقع هربه من المواجهة.. ولم يفاجئها ذلك.. أنها لا تريد إلا حبه فقط.. حتى أنها لم تفكر ماذا ستفعل لو بادلها مشاعرها بالفعل!.. وكأن أقصى أمانيها هي حبه فقط.. بل أنها وللعجب لم تفكر لحظة في إزاحة ريناد من طريقها.. لا تدري أتلك سذاجة منها؟.. أم أن قلبها يعلم أن المشكلة لا تكمن بريناد, بل بيزيد نفسه...
أعادها صوت نيرة للواقع مرة أخرى:.
ـ عليا!.. في إيه؟.. لا!!.. أنتِ مش عجباني نهائي..
هزت علياء رأسها بقوة لتحاول تركيز أفكارها وأجابت نيرة بأول ما جاء على لسانها:
ـ أصل.. أصل عمو عصام بلغني أنه في ناس عايزة تتقدم وتخطبني..
صرخت نيرة بحبور:
ـ والله.. دي أخبار عظيمة..
التفتت علياء إليها بذهول:
ـ عظيمة!!.. عظيمة إزاي يا نيرة؟.. ويزيد؟..
ـ أيوه طبعاً عظيمة.. دي فرصة هايلة أنه يشوفك مع واحد تاني.. يشوف أنك ممكن تضيعي منه.. ساعتها هيحس بقيمتك..
هزت علياء رأسها برفض:
ـ قصدك إني أوافق وارتبط بشخص تاني فعلاً؟!..
أومأت نيرة موافقة:
ـ أيوه طبعاً..
أجابتها علياء برفض تام:
ـ بس دي كده تبقى خيانة.. أنا كده هخون الشخص ده وأنا برتبط به ومشاعري مع غيره, وخاصة أني مش هكمل معاه.. وكمان بخون نفسي ومشاعري..
لوحت نيرة بيدها:
ـ عليا.. بلاش كلام الشعارات ده.. أهم حاجة ازاي توصلي للي أنتِ عايزاه..
ـ خلاص يا نيرة.. الموضوع انتهى.. أنا بلغت عمو عصام.. أني مش بفكر في الجواز.. ومش هفكر فيه إلا بعد ما أخلص دراسة..
سكتت قليلاً وهي تلمح علامات الامتعاض على وجه نيرة ثم سألتها:
ـ إحنا رايحيين فين؟.. ده مش طريق النادي..
ارتسمت ابتسامة جذلى على شفتي نيرة وهي تجيب:
ـ أيوه.. إحنا رايحيين البوتيك اللي بتشتغل فيه منى..
اتسعت عينا علياء بخوف:
ـ ليه؟.. بلاش يا نيرة..
تركت عينا نيرة الطريق قليلاً لتلتفت لعليا وقد ارتسمت على ملامحها كل معالم الكراهية:
ـ أيوه.. أيوه يا عليا.. لازم أنهي الموضوع ده النهارده.. والليلة بنت السواق هتكون مشرفة في السجن..
شهقت عليا:
ـ إيه!!.. السجن!!.. نيرة.. الموضوع ما يوصلش للدرجة دي؟.. أنتِ ناوية على إيه؟..
ضغطت نيرة على أسنانها بغيظ:
ـ يعني إيه ما يوصلش للدرجة دي؟؟.. هي اللي بدأت.. وبتحاول تسرق مني حسن.. خلاص يبقى العقوبة على أد الجريمة.. ولو عليّ كنت محيتها من الدنيا..
ـ هتعملي إيه يا نيرة؟..
هزت نيرة كتفيها بلامبالاة:
ـ أبداً.. أنا الفترة اللي فاتت كنت بروح البوتيك يومياً.. بس في وقت هي بتكون مش موجودة فيه.. بقيت زبونة... في آي بي... النهارده بقى أما نروح هقول أن الولاعة وعلبة السجاير الدهب بتوعي ضاعوا.. أنتِ عليكِ أنك تحطيهم في شنطتها من غير ما تاخد بالها.. وهوووبا... هتشرف الهانم في السجن.. بس عشان تتعلم أنها ما تبصش لفوق...
برقت عينا عليا برعب وهي تستوعب ما قالته نيرة وما تنوي عليه بينما ارتسمت على شفتي نيرة ابتسامة متشفية وهي تتخيل منى بالفعل خلف القضبان..
************
طرق حسن غرفة جدته باحترام.. وانتظر حتى سمحت له بالدخول..
دخل غرفتها ليجدها تجلس على أريكتها المريحة الموجودة بمواجهة فراشها.. وقد وُضعت أمامها مائدة صغيرة وعليها المصحف الخاص بها.. وكتاب المأثورات وأذكار الصباح والمساء.. بينما أمسكت بين أصابعها مسبحة طويلة وأخذت تسبح في صمت..
تنحنح حسن.. حتى يلفت انتباهها لوجوده وحياها بهدوء:
ـ صباح الخير يا جدتي..
ابتسمت له:
ـ صباح الخير يا روح جدتك روح..
وضحكا معاً لتحيتها المعتادة له.. فــــ روح هو اسمها...
أشارت له:
ـ تعالى أقعد جنب روح واشتكي لها همك..
جلس بجوارها واحتار كيف يخبرها ما يريد فسألها:
ـ حضرتك فطرتِ؟..
أجابته بصبر:
ـ أنت عارف أني بصحى من قبل الفجر.. ادعي وأصلي.. وأشرب الليمون بالعسل.. وكمان.. آخد الثوم المفصص والمقطع بتاعي.. أنت عارف هو حلو قوي للمناعة.. وبعدين أفطر فتة اللبن بالعيش.. نظامي وعمري ما هغيره أن شاء الله..
ضحك حسن:
ـ ربنا يديكي الصحة..
ربتت على ركبته:
ـ احكي لي عن همك يا ابن حاتم.. قلبك اللي تاعبك.. وأبوك رماك للنار.. وهو عارف أنك مُغرم بنسمة هوى رقيقة..
ـ حضرتك عارفة كل حاجة أهو يا جدتي..
أومأت:
ـ أيوه يا حبيبي.. وأبوك بسرعة عمل الخطوبة وأنا في رحلة الحج.. عشان ما اتدخلش.. بس لو عايزني أدخل.. أنا هساعدك يا حبيبي..
اندفعت الكلمات على لسان حسن وهو يخبرها أنه يحتاج لرأيها فيما يفكر به..
وبدأ يحكي لها عن الخطة التي توصل لها..
عندما انتهى سألته:
ـ ما فيش طريقة تانية يا حسن؟..
هز رأسه:
ـ ما فيش قدامي غير أني أتقمص شخصية حاتم العدوي.. وأفكر زيه.. عشان أحمي منى.. وفي نفس الوقت برضوه ما أسببش أذى كبير لنيرة..
هزت رأسها وهي تخبره بحزن:
ـ هقول لك ايه يا ابني!.. حاول على أد ما تقدر أنك ما تأذيهاش كتير.. ولو عايز مساعدة مع نصر.. أنا هكون جانبك.. لأنه أكيد هيرفض جواز بنته بدون موافقة أبوك.. نصر بيحترمني.. أنا أعرفه من هو صغير..
أمسك حسن يد جدته وقبلها بحب شديد:
ـ ربنا يخليكي يا روح.. يا روح حسن..
ضحكت جدته وهي تسأله:
ـ بقى روح.. هي روح حسن!!.. أومال منى تبقى ايه يا شقي؟!!..
ضحكا معاً وهو يشعر بالارتياح يغمره فقد اكتسب حليف قوي..
***********
جلس حسن مع يزيد بمدرجات التنس وبديا للجميع وكأنهما يتابعان المبارة التي تدور بين نيرة وريناد.. حيث بدت نيرة في مزاج رائق وهادئ تكاد تكون منتشية.. مما مكنها من السيطرة على المبارة بكل سهولة بعكس ريناد التي كانت في مزاج متفجر..
مما دفع حسن إلى سؤال يزيد:
ـ مالها ريناد؟.. شكلها هتفجر الملعب باللي فيه!..
ابتسم يزيد بسخرية:
ـ إيه خايف إنها تخبط الكورة في نيرة؟
هز حسن كتفيه:
ـ مش معنى أني مش بحبها بالطريقة اللي هي عايزاها.. أني أتمنى لها الأذى.. بالعكس.. أنا أتمنى لها كل خير.. بس يكون بعيد عني.. برضوه ما قلتش.. أنت لك دخل بمزاج ريناد؟..
ـ أخيراً أخدت موقف من موضوع تأجيلها للجواز.. وحددت له ميعاد بعد شهر.. وده طبعاً مش جاي على هواها.. سيبك أنت.. خلينا في الخطة الجهنمية بتاعتك دي..
ـ أنا ما كنتش عايز ألجأ لكده.. وحاولت معاها كتير.. أنا حسيت أني بقيت حد بايخ وسخيف عشان هي تبعد من نفسها.. لكن ما فيش فايدة.. وأنا تعبت.. مش قادر أتحمل أكتر.. ومنى رافضة أني حتى أشوفها.. أنا عاذرها طبعاً.. لكن خلاص بقى.. كل شيء وله حد.. وأنا جبت آخري..
شردتا عينا يزيد للحظة وهو يتابع دخول مازن إلى أحد المدرجات كان لا يراهما من موقعه.. لكن يزيد كان يراه بوضوح حيث جلس ليتابع المباراة وبدا أنه في انتظار شخص ما.. فأخذ ينظر في ساعته أكثر من مرة..
وما أن لفت انتباه حسن لوصول مازن.. حتى انتفضا لسماع صرخة نيرة القوية.. فقد قامت ريناد بارسال الكرة بقوة مبالغ فيها لم تتوقعها نيرة فارتطمت الكرة برأسها بقوة.. ولكن ما جذب انتباه حسن الشديد هو رد فعل مازن الذي انتفض فزعاً وقلقاً وبدا الهلع الشديد على ملامحه وهو يتابع نيرة التي أمسكت رأسها لعدة ثوانٍ ثم بدأت تدلكها وتنظر إلى ريناد بغيظ.. وبدأت في توجيه مختلف الاتهامات لها.. وبعد أن انتهت من تفريغ غضبها اتجهت نحو غرف تغيير الملابس وهي تشير إلى علياء التي كانت جالسة في الملعب تراقب المباراة أن تنتظرها في المطعم..
حينها هدأ انفعال مازن وهو يراقب تحركات نيرة بنظرات رقيقة.. وملامح عاشقة, ولم يكن يدري بالطبع أن حسن يراقب كل ما حدث حيث تحجرت نظراته على وجه شقيقه وهو يقرأ عشقه المحروم والمحرم.. عشق لا يستطيع قراءته إلا عاشق..
أخذ يشير ليزيد بكلمات متعثرة:
ـ أنت كنت عارف؟.. كنت عارف يا يزيد..
تابع يزيد نظرات حسن ليلمح وجه مازن وقد ظهرت إمارات العشق والإشتياق على ملامحه بوضوح.. فحاول تهدئة حسن:
ـ اهدى بس يا حسن.. مازن عمره ما حاول يلفت انتباه نيرة أو..
قاطعه حسن:
ـ أنت بتقول إيه يا يزيد.. أنت فاكر أني بشك في أخويا.. أخويا اللي كان بيتعذب طول الوقت وأنا مش واخد بالي.. وقاعد أشكي له همي.. وأطلب منه يساعدني.. وهو.. هو مش قادر حتى يلمح لي باللي واجع قلبه.. إزاي.. إزاي ما اتكلمش.. طيب أنا أتصرف إزاي دلوقتِ.. أواجهه؟.. أكلمه؟.. ألمح له؟.. طيب هقول له إيه؟.. اللي أنت بتحبها أنا بموت وأنا بخطط عشان أبعدها عني.. أنا.. أنا مش عارف أعمل إيه!!!..
لم يستطع يزيد الرد على كلمات حسن العاطفية.. وأخذ يربت على كتفه بمؤازرة..
بينما استطرد حسن:
ـ آااااه.. أنا تعبان قوي.. مش قادر أرفع راسي.. مش قادر أفكر.. أنا كنت الأول بحاول أحافظ على كرامة نيرة وشعورها.. باجاريها أحياناً في تصرفاتها.. لكن دلوقتِ.. إزاي.. إزاي.. إزاي وأنا عارف إنه في كل لحظة بجاريها فيها بموت أخويا بالبطئ..
ـ خلاص يا حسن.. هانت.. واللي أنت ناوي عليه هيعطي لمازن فرصة كويسة أنه يتدخل.. أنت ناوي تنفذ خطتك امتى؟..
ـ أنا كنت ناوي يوم عيد ميلادها.. بعد شهرين.. لكن دلوقتِ.. مش هنتظر لحظة زيادة.. بس هحتاج مساعدة من ريناد..
لم يسمع أي رد من يزيد الذي تعلقت عيناه بالشخص الذي كان مازن في انتظاره.. ولم تكن سوى علياء التي كان يبدو عليها الإضطراب الشديد وهي تتوجه نحو مازن الذي أمسك بيدها ليصطحبها إلى أحد المقاعد ويجلس بجوارها.. وبدا أنه يحاول تهدئتها بينما هي كانت تلوح بيديها وتحركها في انفعال شديد..
ظل تركيز يزيد موجهاً نحو جلسة مازن وعلياء.. بينما استمر حسن في شرح ما يريده من ريناد.. حتى فوجئ بشرود يزيد.. وابتعاده بأفكاره كلية..
وكزه حسن في كتفه:
ـ يزيد.. أنت سمعت حاجة من اللي قلتها؟.. يزيد.. أنت روحت فين؟..
التفت يزيد إليه وكأنه تذكر وجوده:
ـ في إيه يا حسن؟.. أنت عايز حاجة؟..
ثم عاد ليراقب الثنائي الذي أطار عقله من رأسه.. تابع حسن نظراته ليلمح علياء وهي تجلس مع مازن.... فهتف بتعجب:
ـ هي إيه حكاية علياء مع مازن؟.. أنا مش فاهم حاجة!!..
نهض يزيد فجأة وهو يتمتم:
ـ أنا هعرف حالاً في إيه بالظبط..
**********
حاول مازن تهدئة علياء التي كانت في قمة انفعالها وهي تخبره في خوف:
ـ نيرة أكيد هتزعل مني لو عرفت أني قلت لك.. بس أنا مش عارفة ألجأ لمين؟.. أو أحكي لمين؟.. أنت قلت لي أني اتصل بيك لو احتجت لأي حاجة و..
قاطعها مازن مهدئاً:
ـ اهدي بس شوية يا عليا.. تحبي نروح نشرب حاجة؟..
هتفت بفزع:
ـ لا.. أنا لازم أحكي لك قبل ما نيرة تخلص الشاور بتاعها..
ـ طيب اهدي كده وفهميني بالراحة..
أخذت علياء نفس عميق وبدأت تحكي لمازن غضب نيرة الشديد من وجود منى في حياة حسن.. وكيف أنها ترددت على مكان عملها بمحل الملابس حتى أصبحت من أهم زبائنه ثم وصلت لخطة نيرة للزج بمنى في السجن.. بتهمة السرقة.. هنا صاح مازن في غضب ممتزج بالذهول:
ـ إيه.. أنتِ بتقولي إيه يا عليا!!.. مش ممكن توصل الأمور للدرجة دي!!..
بدأت علياء تنشج بالبكاء وهي تخبره:
ـ والله يا مازن أنا حاولت أمنعها.. والحمد لله أنه ربنا هداني لفكرة وقفتها عن خطتها دي..
سأل مازن بسرعة:
ـ فكرة إيه؟..
أجابته علياء بخجل:
ـ قلت لها أنها لو نفذت خطتها وفعلاً منى اتحبست, حسن هيعرف أنها هي اللي ورا الحكاية دي.. وده هيزود الجفا بينهم أكتر.. وهيقربه من منى أكتر وأكتر..
سألها بلهفة:
ـ هيه واقتنعت؟..
أومأت برأسها:
ـ أيوه.. بعد إلحاح شديد مني.. ومحاولات كتير اقتنعت أنها كده هتزود مشاكلها مع حسن مش هتقللها.. بس.. بس..
واختنقت علياء بغصتها وهي تجهش في البكاء مرة ثانية.. مما دفع مازن لأن يربت على كتفها مهدئاً:
ـ طيب اهدي بس يا عليا وفهميني حصل إيه بعد كده.. عشان أقدر أساعدك..
ـ لا بعد ولا قبل يا مازن.. لو علياء عندها مشكلة, أنا كفيل بحلها.. شكراً على تعبك ووقتك....
كان ذلك يزيد الذي ظهر فجأة خلفهما ليجذب علياء من ذراعها.. ويجرها خلفه بينما مازن يهتف خلفه:
ـ استنى بس يا يزيد.. استنى يا مجنون..
لم يستمع يزيد إليه وهو يتحرك بسرعة جاذباً علياء خلفه بدون أن ينتظر لحظة واحدة حتى يستمع إلى تفسيرات مازن الذي تمتم بحيرة:
ـ وبعدين في المجنون ده!!.. طيب أنا دلوقتِ هعرف باقي الحكاية إزاي!!..
************
ضمت منى ركبتيها إلى صدرها وقد كومت نفسها فوق فراشها.. وانهمرت دموع القهر من عينيها..
كانت كل شهقة تخرج منها كأنها خنجر يمزق صدرها وهي تتذكر الموقف الذي وضعتها به نيرة.. وكلفها في النهاية عملها..
لم تهتم بخسارة ذلك العمل بقدر ألمها وهي تحاول تحريك شفتيها وتستدعي بعض كلمات الإعتذار الذي أمرتها بتقديمه صاحبة البوتيك... ولكنها عجزت.. شعرت وكأن لسانها يرفض أن يخضع لأوامر عقلها ويقدم اعتذار عن اساءة وهمية لم تصدر منها..
أغمضت عيونها لتسقط الدموع على وجنتيها.. دموع حبستها طويلاً والآن بدا أنها بدأت في الانهمار ولن تتوقف.. لقد عاهدت نفسها ألا تبكي من بعد تلك الليلة التي أعلن فيها حسن خطبته على نيرة, واحتفظت بتماسكها طويلاً.. لم تتنازل ولم تخضع لحبها.. حافظت على كرامة أبيها وحرصت على مبادئها, ولكن أي من هذا لم يشفع لها.. عندما قررت نيرة أنه حان الوقت للتخلص منها..
استمرت دموعها بالهطول وهي تتذكر دخول نيرة إلى البوتيك وكأنها الملكة المتوجة للمكان وبصحبتها علياء صديقتها الحميمة.. حيث توجهت نيرة على الفور إلى صاحبة البوتيك السيدة نسرين.. ودار بينهما حوار ضاحك أظهر عمق العلاقة بينهما..
ثم بدأت نيرة تتجول بين حوامل الملابس وكأنها تنتوي الشراء بالفعل.. فأشارت السيدة نسرين إلى منى لتقوم بعملها وتبدأ بعرض الثياب على الزبونة الهامة..
تحركت منى بتثاقل نحو نيرة وألقت عليها التحية:
ـ مساء الخير يا نيرة.. بتدوري على حاجة معينة؟..
رفعت نيرة حاجبها بعجرفة:
ـ نيرة كده!!.. من غير هانم ولا حتى آنسة..
ثم رفعت صوتها لتسمعه صاحبة البوتيك وأكملت حديثها مع منى:
ـ إيه الأشكال دي.. مش عارفة تتعاملي مع الناس.. يبقى شوفي شغل تاني.. تنضفي الأرض أو تمسحي الغبار..
انسحب اللون من وجه منى وهي تلمح نظرة متشفية ومتوعدة في نفس الوقت في عينيّ نيرة.. بينما ارتسم الحرج على وجه علياء وهي تمنح منى نظرة معتذرة ومشبعة بالذنب..
فغمغمت منى بحرج:
ـ حضرتك بتدوري على حاجة معينة يا نيرة هانم؟..
وضغطت على حروف هانم بشدة.. فعادت الابتسامة المتشفية للظهور على وجه نيرة وهي تطلب منها:
ـ أيوه.. عايزة فستان سواريه لمناسبة خاصة.. خاصة جداً.. أنا عايزة أعمل مفاجأة لخطيبي.. بس يا ريت يكون الفستان لونه أبيض.. هو بيحب اللون ده عليّ قوي.. وآه.. يكون مقفول لأنه بيغير عليّ مووووت..
أغمضت منى عينيها لتخفي ألمها عن عينيّ نيرة.. وابتلعت تلميح تلك الأخيرة عن عمق علاقتها بحسن.. فهي تعد له سهرة خاصة تحرص فيها على ارتداء ما يحب.. هل معنى ذلك أنها بدأت تنجح في غزو قلب حسن؟.. غيرة عاصفة شعرت بها منى.. شعور لا إرادي لم تستطع التحكم به.. وهي تفكر أن حسن يهتم بنيرة بأي طريقة.. غضبت من نفسها لذلك الشعور.. ولكنها ليست ملاك حتى تسمو على تلك المشاعر.. وتتغاضى عنها.. حبها لحسن وغيرتها عليه.. رغم أنها لا تظهرها.. لكنها تحدث رغماً عن إرادتها...
ومجبرة بدأت تعرض على نيرة مجموعة من الثياب توافق طلباتها.. ومع كل ثوب كان تذمر نيرة يزداد.. كما كان يرتفع صوتها بالشكوى من العاملة المهملة والغبية.. وكانت تقصد منى بالطبع..
تذرعت منى بالصبر.. وتسلحت بالهدوء ورفضت أن تنقاد الى محاولات نيرة المستميتة لاستفزازها..
وأخيراً قررت نيرة انهاء اللعبة.. فأسقطت علاقة مفاتيحها ثم نظرت لمنى بكل عجرفة الدنيا لتطلب منها إحضارها من الأرض..
التمعت نظرات منى بالقهر وهي تلمح نظرات التشفي في عيون نيرة والشفقة والذنب بعيون علياء.. لم تعلم لم ذبحتها شفقة علياء أكثر من شماتة نيرة.. ولم تحتمل أن تكون في ذلك الموقف.. شعرت بجسدها وقد تخدر بفعل الألم.. ورفضت عضلاتها الاستجابة لأوامر عقلها باتخاذ أي حركة.. دموعها كانت تخزها من تحت رموشها.. وهي تحاول منعها من الانهمار.. ملامح وجهها تجمدت حاملة قناع من عدم التصديق المؤلم..
صوت نيرة العالي هو ما أخرجها من جمودها وهي تنادي السيدة نسرين.. لتحكي حكاية وهمية عن تطاول منى عليها, بل وادعت أن منى طلبت منها بعض الأموال حتى تعرض لها المزيد من الثياب.. وأنهت تمثيليتها بنبرة غضب برعت في ادعائه وطالبت باعتذار ورد اعتبار لمكانتها التي أهدرتها عاملة بسيطة بالبوتيك..
بالطبع سارعت السيدة نسرين تحث منى على تقديم اعتذار محترم للزبونة الهامة.. وهو ما رفضت منى القيام به..
فدوى صوت نيرة الغاضب:
ـ مدام نسرين.. بنت زي دي بتعطي دعاية سيئة عن البوتيك.. دي لازم تمشي..
وإرضاءً لنيرة قامت نسرين بطرد منى من العمل بدون تردد مؤكدة أن العاملات من أمثالها يسهل العثور عليهن ولكن زبونة هامة مثل نيرة غيث لا يمكن إغضابها..
التقطت منى حقيبة يدها وتحركت لتخرج من البوتيك وهي تحاول أن تحتفظ برأسها مرفوع قدر ما يمكنها ولكن صوت نيرة عاد يدوي:
ـ دي قرصة ودن بسيطة.. عشان ما تبصيش تاني لفوق يا شاطرة.. فاهمة..
لم تحتمل منى نظرات الانتصار في عينيّ نيرة فتوجهت مسرعة للخارج وهي تكاد لا ترى الطريق أمامها وأخذت تركض حتى وصلت إلى بيتها فتكومت على فراشها تبكي كرامتها وقهرها وحبها
