اخر الروايات

رواية متاهة مشاعر الفصل السادس 6 بقلم نهي طلبة

رواية متاهة مشاعر الفصل السادس 6 بقلم نهي طلبة 


(6)

وقف عامر أمام نافذة مكتبه وهو يستعيد الحوار الذي دار بينه وبين صبا منذ عدة أيام..

ابتسم بحزن وهو يتذكر همسها بأن فريدة سألتها عنه..

فريدة.. هل ما زالت تتذكره؟.. هل تحن إليه كما يحترق شوقاً إليها؟..

هل من الممكن أن تسامحه في يوم من الأيام؟!!..

لقد هدم كل ما بينهما في لحظة حماقة.. وفشل في اختبار تمسكه بها.. استمعت أذناه لكلمات انطلقت من بين شفتيها وغفل قلبه عن صراخ روحها اليائس..

ابتسم ساخراً من نفسه.. كيف من الممكن أن تسامحه بينما هو غير قادر على مسامحة ذاته؟؟!!...

تحرك متوجهاً نحو أحد الأدراج ليخرج منه صورة حديثة لسيدة في منتصف الثلاثينات من عمرها.. كانت عينيها الفضية ترمق الفضاء بنظرات غامضة بينما أحاط شعرها الداكن الشقرة بوجهها وأراحت إحدى وجنتيها على يدها وهي تبتسم ابتسامة غامضة وحزينة.. وكأنها تدرك أن صغيرتها ستمنحه تلك الصورة لتكون زاده في سنين بعده عنها..

تلمست أنامله ابتسامتها الحزينة وهو يتذكر لقاءه الأول بها..

كان ذلك منذ أكثر من خمسة عشر عاماً.. وكانوا قد بدأوا بتنفيذ فكرة حاتم العبقرية بتولي أعمال الديكورات للمجمعات السكنية التي تتولى شركتهما بنائها.. فتعاقدوا مع مكتب لأعمال الديكورات لتلك المهمة وهو المكتب الذي كانت تعمل به فريدة..

كان هو مايزال يتخبط جراء فقده لزوجته وحبيبة عمره ورفيقة دربه منذ شهور قليلة فقط.. كان تقريباً يعيش على هامش الحياة معتزلاً الجميع وذاهلاً عن كل ما حوله.. فحاول حاتم معه بقوة ليخرج من تلك الحالة فقد مرت شهور وهو لا يزال يعيش في صومعة أحزانه.. فما كان من حاتم صاحب التفكير العملي إلا أن أجبره على تولي تصميم المجمع السكني الجديد الذي تعاقدوا على انشائه مؤخراً, وكذلك الإشراف على أعمال مكتب الديكورات حتى يتم تسليم الوحدات جاهزة تماماً..

في أحد الأيام ذهب لتفقد تقدم العمل بأحد الفيلات ليفاجئ بتلك الفتاة ضئيلة الجسم, قصيرة القامة وقد جمعت كتلة من الشعر الشقر تحت قبعة بيسبول ووضعت فرشاة للرسم بين أسنانها.. بينما أمسكت بأخرى وجلست القرفصاء منهمكة في رسم أشكال غريبة على أحد جدران الفيلا..

ألقى التحية بهدوء لينبهها لوجوده.. فانتفضت بشدة لتقف وتواجهه والفرشاة ما زالت بين أسنانها.. وسألته بعنف:

ـ أنت مين؟.. وبتعمل إيه هنا؟؟!!

نظر إلى مظهرها الصبياني وقال بلهجة متفكهة:

ـ أنا اللي مفروض أسأل السؤال ده.. أنتِ مين وبتعملي إيه هنا؟..

رفعت حاجباً متعجرفاً ومرسوماً بدقة وهي تسأله بسخرية متبادلة:

ـ ليه بقى؟.. سيادتك تبقى مين؟..

أغضبته سخريتها فصاح بغضب:

ـ إحنا هنزر!!.. ردي على السؤال..

رفعت القبعة من فوق رأسها فتناثرت خصلات بلون سنابل القمح, كلا.. بل أغمق قليلاً, خطفت نظراته على الفور فضيق عينيه وهو يتأملها بتقدير مختلف.. فلم تعد ذات هيئة صبيانية متشردة بعد الآن..

لم تخفِ نظراته عنها فابتسمت له بتحد مستفز.. لكنه فوت فرصة الشجار عليها عندما أخبرها بلهجة أقل غضباً:

ـ أنا المهندس عامر.. المهندس اللي صمم المجمع السكني ده..

كان يظن أنه سيبهرها بتلك الجملة إلا أنه فوجئ بهزة لامبالاة من كتفيها.. وهي تخبره بمنتهى الإستفزاز:

ـ تصميم سخيف جداً... على فكرة.. أنا مش فاهمة أنت فخور قوي كده ليه..

كانت تلك الجملة بمثابة شرارة البدء لعلاقة عاصفة استمرت عدة أشهر.. لم يهتما خلالها بفارق العمر فقد كانت فريدة فقط في التاسعة عشر.. بينما هو في بدايات أربعينياته...

كان أحياناً يُخضع جنونها لحبه, فيزدادا اقتراباً.. وأحياناً أخرى تتمرد عليه وتهرب منه ومن عواطفه التي تحكمت به بطريقة لم يظنها ممكنة, فقد كان يظن أنه سيعيش مع ذكرى حبه لزوجته الراحلة ما تبقى له من عمر ليفاجئ بقلبه يدق بقوة عاشقاً لفريدة وجنونها..

شعر وقتها أن لحظة لقاءه بها كانت فاصلة في حياته.. وأن ما عاشه سابقاً كان مجرد لحظات تمهيدية لعشقه لتلك المتمردة فضية العينين..

تزوجها أخيراً بعد معاناة لإقناعها بأنه لن يُحجم من طموحها الفني.. وعاشا معاً عدة شهور في سعادة مطلقة.. تخلت فيها فريدة طواعية عن عملها واكتفت بدراستها في كلية الفنون فقط.. وتناست طموحاتها الفنية من أجل عيون عامر ورغبة منها للتفرغ له, ابتعدا عن الناس والواقع في عالم يضمهما فقط.. حتى كانت العودة المتوقعة للحياة الطبيعية والتي كانت بالطبع تضم ابنته نيرة..

نيرة.. الطفلة الصغيرة ذات السنوات الست والتي ترفض بشدة وجود بديل لأمها.. أو بالأحرى رفضت المرأة التي سرقت منها والدها.. وسلبت لبه..

فتفننت في افتعال المشاكل وإثارة المتاعب.. ونظراً لسن فريدة الصغيرة عجزت عن التعامل مع مشاكل ابنة زوج متمردة وحاقدة بشدة..

وفي وسط تلك المشاكل اختار عامر الهروب.. الهروب من اتخاذ موقف حاسم من ابنته المدللة.. فوجد في ذكرياته مع زوجته الراحلة متنفساً للهرب من حياته المتقلقلة.. فبدأ ينتابه شعور محرق بالذنب تجاه ذكراها.. وتعجب كيف استطاع نسيان حبه لها بتلك السرعة ليرتبط بعلاقة زواج سريعة مع فتاة تصغره سناً بعدد غير قليل من السنوات وغير قادرة على تولي مسئولية أمور بيته وابنته.. وبدأت تظهر المشاكل بينهما وهو يقارن بينها وبين زوجته الراحلة..

وازداد البعد والجفاء خاصة مع إعلان فريدة برغبتها في العودة إلى عملها فهي تشعر بالفراغ معظم الوقت خاصة مع ابتعاد عامر عنها مغموراً بشعوره الأحمق بالذنب.. وفي خضم تلك المشكلات ولدت صبا.. ذلك الملاك فضي العينين بخصلاتها الكستنائية الملتفة.. والتي فتنت والدها وسرقت قلبه وعقله معاً.. فعاد لفريدة معتذراً طالباً لمغفرتها عن تصرفاته الحمقاء نحوها.. وسامحته فريدة مانحة إياه أعمق ما تملك من مشاعر.. وراغبة بفتح صفحة جديدة من حياتها معه, وبالفعل هدأت المشكلات لفترة واضطرت فريدة لتناسي عودتها للعمل حتى تلازم صبا الصغيرة..

لكن وجود صبا لم يمر بسلام على نيرة.. فازداد تمردها وحقدها.. وامتد لتؤذي الصغيرة.. فكانت تصرخ بها حتى تجهش الفتاة ببكاء هيستيري.. أو تضربها أحياناً.. ورغم هذا لم يوجه عامر أي لوم أو عتاب إلى نيرة, بل عاد للابتعاد والهروب وكأنه يعاقب نفسه وقلبه على تناسيه السريع لزوجته الراحلة.. فتعمق إحساسه بالذنب ورفض معاقبة نيرة وكأنه بذلك يعتذر لروح الحبيبة الراحلة عن عشقه الجارف للزوجة الحالية...

وبدأ عامر التنفيس عن إحساسه الوهمي بالذنب على فريدة التي استطاعت إختراق قضبان قلبه فكان يدأب على توجيه اللوم لها وإخبارها أنها أم غير صالحة لأي من ابنتيه..

كانت فريدة تحتمله في صبر معتمدة على رصيد حبه في قلبها.. فكانت طبيعتها العاطفية وصغر سنها تدفعها لمسامحته في كل مرة يهينها أو يغضبها فيها, لكن تفاقم الأمر مرة واحدة عندما ضربت نيرة صبا الصغيرة حتى ظهرت علامات أصابعها واضحة على وجنتي الصغيرة .. كانت تبكي بهيسترية غير طبيعية.. فاضطرت فريدة إلى معاقبة نيرة بالضرب لأول مرة منذ زواجها من عامر... الذي ما أن علم هذا حتى توجه بسلسلة طويلة من الإهانات والصراخ في وجه فريدة مخبراً اياها بقسوة:

ـ أنا اللي غلطان اللي اتجوزت واحدة مهملة ومستهترة زيك.. لو كنتِ أم طبيعية زي أم نيرة الله يرحمها كنتِ عرفتِ تتعاملي مع البنت ومنعتيها أنها تأذي أختها زي ما بتقولي.. لكن أنتِ كل دماغك في الرسم والألوان والعبط ده..

جمدتها الكلمات فأخبرته بهدوء مستفز:

ـ وايه اللي يجبرك أنك تستمر في الغلطة دي؟.. طلقني.. طلقني يا عامر..

أطلق الرصاصة الأخيرة في علاقتهما:

ـ خلاص يا فريدة لو هي مش فارقة معاكي كده.. أنتِ طالق.. طالق..

عاد من ذكرياته على تلك الكلمة.. التي أخرج بها فريدة من حياته مصراً على ابقاء ابنته صبا معه بعدما قررت فريدة الابتعاد عنه للأبد والرحيل الى فرنسا..

أخذ يتلمس الصورة بحنين جارف.. ثم أعادها إلى الدرج مرة أخرى وأغلق عليها..

************

جلست علياء على المقعد الخلفي للسيارة وهي تضع قبضتها بين أسنانها.. تلك العادة المصاحبة لها كلما شعرت بالقلق والحيرة.. وهو ما تشعر به الآن.. فقد أرسل عصام الغمراوي السيارة لها صباحاً لتأتي بها من المزرعة.. ظنت في البداية أنه يريدها أن تتناول معهم الغذاء في الفيلا.. ولكن السائق أخبرها أنهما سيتوجهان إلى مقر مجموعة الغمراوي.. ظل القلق يعصف بها طوال المسافة الى المجموعة.. وانتابتها الحيرة مما يريده عصام منها..

هل أخبره يزيد بما حدث ليلة الحفل؟.. هل لهذا لم يأتِ هو أو يزيد إلى المزرعة طوال الأسبوع ولا حتى لتهنأتها بعيد ميلادها الذي مر منذ يومين ولم يتذكره أحداً سوى نيرة التي ملأت لها غرفتها بزهور القرنفل التي تعشقها علياء.. هل استدعاها اليوم ليخبرها أنه سيرسلها إلى أعمامها؟..

كانت ترتجف من هذا الإعتقاد عندما وصلت إلى مقر المجموعة وهناك التقت بعصام الذي اصطحبها إلى مكتبه..

ـ تعالي .. اقعدي يا عليا.. أخبارك ايه يا بنتي؟.. في أخبار عن نتيجة التنسيق؟..

ابتلعت علياء ريقها براحة وهي تتنهد بداخلها.. فيبدو أن يزيد لم يخبر والده بشيء.. فعصام يتحدث معها بطريقة طبيعية تماماً..

عاد عصام ليحدثها:

ـ إيه يا عليا.. سرحانة في إيه؟.. ولا أنتِ زعلانة مني؟..

نفت علياء بقوة:

ـ لا أبداً يا عمو.. هزعل ليه؟..

توجه عصام إلى أحد أدراج مكتبه وأخرج منه علبتين من المخمل الأزرق.. ثم تحرك نحو علياء ليجلس بجوارها..

ـ يمكن تكوني فاكرة أني نسيت عيد ميلادك..لا والله يا بنتي.. بس مشاغل الشغل بتاخد الواحد..

ـ أنا مقدرة مشاغلك يا عمو.. ومش زعلانة..

قدم إليها إحدى العلبتين:

ـ ماشي يا ستي.. اتفضلي.. دي هدية عيد ميلادك.. ولو أنها متأخرة.. كل سنة وأنتِ طيبة يا عليا.. كبرتِ وبقيتِ عروسة زي القمر.. وخلاص هتدخلي الجامعة.. لو كانت مامتك عايشة..

تهدج صوته قليلاً:

ـ الله يرحمها كانت بتحلم باليوم ده.. وبتتخيلك وأنتِ نازلة الصبح أول يوم.. وراجعة لها تحكي لها عن تجربتك في أول يوم ليكي في الكلية.. الله يرحمها.. أكيد هي حاسة بيكي دلوقتِ.. و...

لم يستطع عصام إكمال كلماته فقد خنقته غصة شديدة وهو يتذكر نادية الرقيقة الناعمة.. والتي رغم كل ما يقال عن ظروف زواجه بها من كونها أزمة منتصف العمر إلا أن الحقيقة أنها هي من أنقذته من تلك الأزمة..

تأمل تساقط الدموع على وجنتيّ علياء ومسارعتها لتمسحها..

فربت على كتفها وهو يحاول التحكم في أحزانه:

ـ هاه.. إحنا هنقلبها نكد ولا إيه.. يلا افتحي العلبة كده وقولي لي رأيك..

أومأت علياء بصمت وهي تمسح باقي دموعها وتفتح العلبة المخملية ليطالعها سوار غاية في الرقة.. كان يتكون من حلقات متداخلة من البلاتين والذي تزينه فصوص ماسية صغيرة..

شهقت عليا بقوة وهي تهتف:

ـ ده جميل قوي.. متشكرة قوي قوي يا عمو..

ابتسم بسعادة وهو يثبت لها السوار بمعصمها:

ـ العفو يا حبيبة عمو.. شوفتِ إزاي أني ما نسيتكيش.. ولا حتى يزيد..

همست عليا بخفوت:

ـ يزيد!!

ـ أيوه.. اتفضلي دي كمان يا ستي.. دي هدية من يزيد.. أنا كان المفروض أعدي على المزرعة يوم عيد ميلادك فأعطاني العلبة أوصلها لكِ.. بس ظروف الشغل عطلتني زي ما قلت لك..

أخذت منه علياء العلبة الأخرى وهي تتحرق من داخلها لترى هدية يزيد, ولكنها في نفس الوقت كانت تريد رؤيتها بمفردها بدون مراقبة عصام لها.. وكأن القدر استجاب لدعواتها.. فانطلق رنين هاتف المكتب ليتحرك عصام استجابة له..

وأخذ يتبادل مع محدثه حوار خاص بالعمل... بينما أنامل علياء تداعب العلبة بشعور متناقض بين توق لفتحها, وخوف من أن تصدمها الهدية بداخلها, فهو لم يعطها لها بنفسه بل أرسلها مع والده وكأنه يريد أن يخبرها أنه لا يرغب في رؤيتها ثانية..

التفت على صوت عصام وهو يستأذنها:

ـ عليا حبيبتي.. استأذنك.. خمس دقايق بس هروح أخلص المشكلة دي وهرجع على طول.. استنيني ما تمشيش.. أنا لسه عايزك في موضوع ضروري..

أومأت عليا برأسها وهي تسمع باب غرقة المكتب يغلق خلف عصام..

ظلت أناملها تداعب العلبة التي تحتوي على هدية يزيد لعدة دقائق.. ودقات قلبها تعلو.. خوفاً وتوقعاً.. ثم فتحتها بتردد لتجد سلسلة رفيعة من الذهب الأبيض وقد تدلت منها حبة من الماس لتشكل دَمعة صغيرة..

مدت يدها لتتلمس تلك الدَمعة وكأنها تسألها..

"لماذا اخترت إهداء الدموع لي؟.. هل هي مصادفة أم أنك تعمدتها يا يزيد؟"..

عادت تتلمسها برقة متناهية.. ثم لم تستطع مقاومة فضولها.. فنهضت متوجهة نحو زجاج النافذة.. لترتدي السلسلة وتتأمل صورتها المنعكسة على الزجاج اللامع ولم تنتبه إلى دخول يزيد للغرفة ووقوفه واجماً يتأمل بدوره هديته تزين جيدها.. والدمعة الماسية تبرق وقد توسدت تلك الفجوة الرقيقة بين عظام ترقوتيها.. كما تخيلها تماماً وهو يختار لها هدية مولدها التي أعطاها لوالده حتى يوصلها إليها.. فبعد ما حدث في غرفته ليلة الحفل أصبح لا يضمن نفسه وحيداً معها..

أخذت عيناه تتابعها وهي تتلمس دمعته الماسية برقة.. لم يدرِ لم تصور أنها تهمس لها بشيء ما.. شيء أراد سماعه بشدة..

استمر في متابعة أناملها وهي تتحرك بخفة فوق السلسلة وشعر بعقله يشتعل بأفكار لم يرد أن يستمع لها, بل وجمحت به خيالاته الطائشة وهو يتصور شفتيه هي التي تتحرك على طول السلسلة حتى يصل إلى تلك الدمعة المتلألئة فيتذوقها وقد استمدت الدفء والعطر الخاص بفراشته الصغيرة.. عندما وصل به جموح أفكاره لتلك النقطة, آثر السلامة وقرر الابتعاد عنها ومغادرة الغرفة ولكن علياء التفتت في تلك اللحظة ولمحته وهو يمسك بمقبض الباب فهتفت بعجب:

ـ يزيد!!.. أنت هنا من امتى؟..

التفت إليها على مضض وهو يحاول إبعاد أي أفكار مجنونة تدور برأسه, ولكن يبدو أنه لم ينجح بذلك فما أن التقت عيناهما حتى وجدها ترفع أناملها بلا وعي لتغطي شفتيها وكأنها تحميها منه.. فأخفض بصره على الفور وحياها بهدوء:

ـ إزيك يا علياء.. أنتِ عاملة إيه؟..

تجمدت الكلمات على شفتي علياء.. فبعد أن مرت لحظات المفاجأة الأولى لوجوده معها بالغرفة.. ولمحت تلك النظرات المشتعلة بعينيه وجدت نفسها تتذكر قبلتهما الوحيدة وتلقائيا ارتفعت يدها إلى شفتيها بدون أي تفكير, ثم ما لبثت أن لعنت نفسها لحركتها تلك فلابد أنه سيظن أنها تريد منه تكرار تلك القبلة وخاصة بعدما وجدته يخفض بصره أرضاً هرباً من مواجهتها.. فحركت أناملها من شفتيها إلى الدمعة الماسية المعلقة بجيدها كأنها تذكره بهدية عيد ميلادها.. فبادرها مهنئاً:

ـ صحيح.. كل سنة وأنتِ طيبة يا علياء.. بابا وصل لكِ الهدية؟..

أومأت موافقة بدون أن تفتح شفتيها بكلمة.. فعاد يسألها محاولاً تبادل حوار طبيعي معها كأنه يسعى لمحو أي ذكرى تمر بعقلها بما قام به من قبل..

ـ إيه بقى لكِ مدة مختفية.. أنتِ ما بتروحيش النادي ولا إيه؟..

رفعت علياء عينيها إليه ولمعت زرقة عينيها بتساؤل حائر.. ولكنها أجابت بهدوء:

ـ أنا بروح النادي مع نيرة بس.. وهي كانت مشغولة الأسبوع ده مع حسن.. يا دوب بس جت زارتني يوم عيد ميلادي..

سكت يزيد قليلاً وهو يفكر إذا ما كان عليه مواجهة الأمر والإعتذار منها عما حدث ليلة الحفل.. لكن صوتها سبقه ليسمعها تخبره برقة:

ـ عمو قالي أنكوا انشغلتوا جامد عشان كده ما قدرتوش تيجوا يوم عيد ميلادي.. والله بجد أنا مش زعلانة.. ومتشكرة قوي على الهدية الرقيقة.. كفاية أنكوا افتكرتوني..

اندفعت فجأة الكلمات إلى شفتيه فهو لم يتحمل شعورها بالامتنان في حين أنها يجب أن تصرخ به معاتبة:

ـ بصي يا علياء.. أنا آسف قوي.. آسف على كل حاجة..

هزت علياء رأسها بحيرة:

ـ بتعتذر ليه يا يزيد؟.. أنا..

قاطعها:

ـ أنتِ أختي الصغيرة يا علياء.. وأنا غلطت في حقك غلط جامد ليلة الحفلة.. عشان كده ما اقدرتش آجي وأواجهك يوم عيد ميلادك.. أنا آسف مرة تانية ويا ريت تسامحيني..

حاولت علياء حبس دموعها التي هددت بالإنهمار وهي تسمعه يصفها بأنها مجرد أخت صغيرة له.. لم تعرف بم تجبه وهو يهدم كل أحلامها ويغتال مشاعرها نحوه بتلك الكلمات البسيطة.. بينما هو لعن في نفسه مازن وتلميحاته المستمرة.. وتلك الرقصة اللعينة.. التي أشعلت بركان كان يظن أنه نائم, بل ميت.. ولكنه يشعر به الآن يرسل حمماً مشتعلة تكاد تقضي على راحة باله للأبد..

عاد يلمح دموعها الحبيسة وتعمد إساءة فهم السبب وراءها.. فهو يريد إغلاق فوهة ذلك البركان بداخله.. فغمغم محاولاً إقناع نفسه قبلها:

ـ خلاص يا علياء.. هنرجع أصحاب وأخوات زي الأول؟؟

أومأت علياء في صمت, فهي تعلم أنها لو فتحت شفتيها فستشهق ببكاء لا ينقطع..

اقترب منها ليطبع قبلة أخوية على وجنتها كعربون للصلح..

لم يدرِ ماذا حدث بعد ذلك.. ففي لحظة كانت شفتاه على وجنتها.. ولكنه شعر بيدها على صدره.. لم يعلم إذا كانت تدفعه أو تداعبه.. كل ما يعلمه أنه في اللحظة التالية كان يضع خيالاته حيز التنفيذ متذوقاً دمعته الماسية وقد تشبعت بعبق فراشته الصغيرة..

***********

لم يهتم حسن للحظة بخروج نيرة الدرامي من مكتبه.. كل ما كان يعنيه في تلك اللحظة هو سماع صوت منى..

فتح الخط على الفور وهو يهتف:

ـ منى.. أخيراً يا حبيبتي..

جاءه صوتها متلعثماً بخجل أذاب قلبه:

ـ وبعدين يا حسن!!.. مش قلنا بلاش مكالمات..

سألها بعتاب:

ـ وقدرتِ يا منى؟.. ما كونتش أعرف أنك قاسية كده!

ـ مش قسوة يا حسن.. بس..

ـ بس إيه؟..

ـ خوف يا حسن.. خوف..

ـ يبقى أنا ما أستحقش أعيش يا منى لو سيبتك تشعري بالخوف ده

هتفت بسرعة:

ـ بعد الشر عليك..

سألها بشقاوة:

ـ خايفة عليّ؟..

تهدج صوتها:

ـ طبعاً.. خايفة عليك.. خايفة عليك من كل حاجة.. حسن.. أنا خايفة أني أعذبك وآلمك أكتر لو...

قاطعها:

ـ العذاب الحقيقي هو أني ما اسمعش صوتك يا حبيبتي.. أنا كنت محتاجك قوي.. قوي.. يا منى الفترة اللي فاتت.. كنت هتجنن وأشوفك أو حتى أسمع صوتك..

أجابته وقد تلون صوتها قليلاً بغيرة محببة:

ـ ليه يا حسن؟.. كنت محتاج لوجودي ليه؟.. أنت خايف أنك تضعف قدام جمال نيرة؟.. بدأت تحبها؟..

سألها وقد عادت الشقاوة لصوته:

ـ بتغيري عليّ يا عمري؟..

هتفت بسرعة تحاول نفي شعورها بالغيرة:

ـ لا أبداً.. أنا..

قاطعها بسعادة:

ـ أنتِ بتغيري.. وأنا هطير من السعادة.. بس عايز أقولك أنك مش محتاجة تغيري من أي واحدة في الدنيا.. لأن قلبي ما دخلتوش غير واحدة بس... دخلته وقفلت وراها والمفتاح معاها هي بس..

سكت قليلاً وهو يستمتع بأنفاسها المضطربة نتيجة كلماته المغازلة:

ـ عارفة دي تبقى مين؟.. تبقى حبيبة عمري كله.. وحلم عمري اللي قربت أحققه..

سألت منى وقد غمرها الأمل رغماً عنها:

ـ بجد يا حسن؟..

أجابها بثقة:

ـ بجد يا منى.. الحمد لله أن عمي نصر وافق على مشاركة صاحب مازن..

أجابته منى بتردد:

ـ أنا صحيح شجعت بابا على أنه يدخل في الشراكة دي.. بس برضوه مستغربة منها حبتين

سألها بتوتر:

ـ ليه يا منى؟..

ـ يعني.. العرض كان وقته مريب خاصة بعد ما قلت لي آخر مرة.. أنك بتفكر تبعد بابا عن والدك.. و..

قاطعها حسن سريعاً وقد خشي أن تصل بذكائها لحقيقة الأمر وهي أنه هو الصديق الغامض لمازن:

ـ يا منى.. العرض مش مريب ولا حاجة.. أنا لما سمعت من مازن عن صاحبه ده.. الفكرة ظهرت في دماغي.. والحمد لله.. عمي نصر وافق على العرض.. المهم بقى أنتِ عند وعدك؟..

ـ أكيد طبعاً.. بس وعد ايه؟..

ـ أنك هتكوني جنبي بكل قوتك.. لو اتقدمت لوالدك..

قاطعته:

ـ بس تكون حر يا حسن.. أنا مش هدخل في النص بينك وبين نيرة..

هتف بها بغضب:

ـ أولاً ما فيش حاجة اسمها بيني وبين نيرة.. ثانياً.. عايز أسمع منك يا منى أنك معايا.. حتى لو طلبت منك أننا نتجوز قبل ما تخلصي كليتك..

قاطعته:

ـ بس يكون بابا عارف وموافق..

ـ ده شيء مفروغ منه زي ما قلت لك قبل كده.. عايز وعد يا منى..

همست:

ـ أوعدك يا حسن.. أوعدك أني مش هكون غير لك.. أنت بس.. أنت بس يا حسن..

ـ هيحصل يا منى.. قريب قوي يا حبيبتي..

أرادت أن تسأله كيف سيتخلص من خطوبته من نيرة ولكنها جبنت.. هو لم يخبرها في آخر لقاء لهما إلا عن فكرته في إبعاد والدها عن براثن والده.. وهو ما تحقق بالفعل.. لكن كيفية تخلصه من الإلتزام بالزواج من نيرة لم يصرح لها عن كيفية تحقيقه.. وما لا تعرفه هو أنه يحاول جاهداً إبراز وجوه الاختلاف بينه وبين نيرة.. وإظهار وجه ممل وسخيف له في التعامل معها علها تيأس من إيقاعه في شباكها أو تقرر أخيراً أنه لا يستحق عبء مطاردتها له..

عادت تسمع صوته وهو يسألها بأمل:

ـ هشوفك إمتى؟..

ردت بحزن:

ـ مش هينفع يا حسن.. أرجوك احترم رغبتي.. أنا آسفة.. فترة راحتي انتهت ومضطرة أقول لك مع السلامة... لا إله إلا الله..

أجابها بهمس حزين:

ـ محمد رسول الله..

أغلق الخط.. وهو يفكر في خطوة قوية ليبعد بها نيرة عن كاهله.. ويجعلها هي من تطلب فك الارتباط.. لقد كان يعتمد على الصبر حتى تتبين هي بنفسها استحالة استمرار ارتباطهما.. ولكن صبره نفذ سريعاً خاصة وهي تحبط محاولته واحدة تلو الأخرى للابتعاد عنه, فكبريائها وغرورها يمنعاها من التسليم بأن حسن لن يسقط في شباكها..

كبريائها وغرورها!!..

ترددت الكلمتان في ذهنه وعقله يرسم له خطة على قدر بساطتها فهي ستكون شديدة الفاعلية.. وكلها تعتمد على كبريائها وغرورها...

ولم يدرك أن نيرة بنفسها هي من ستمنحه قريباً السكين ليقطع أي خيط يربط بينهما...

***************

لم تعلم علياء ما الذي حدث لها.. ففي لحظة شعرت بيزيد يمنحها قبلة أخوية بسيطة.. ولكن روحها وقلبها وكيانها بأكمله تمردوا على تلك الصلة الأخوية التي يفرضها عليها.. فوجدت أناملها تمتد بلا إرادة منها لتداعب زر قميصه الأعلى والقريب من بشرة صدره العارية فشعرت باتصال سريع لم يتعدَ ثوانٍ مع بشرته الساخنة.. ولكن ما لم تحسب له حساب هو رد فعله الفوري على هذا الاتصال والذي تمثل في ضمه لها بقوة حيث لف إحدى ذراعيه حول خصرها.. ورفع الأخرى ليثبت رأسها إلى الخلف حتى يتمكن من ضغط شفتيه فوق الدمعة الماسية ليتذوق عبق عليائه ممتزجاً ببريق الماس...

لم تعرف علياء كيف تتصرف أو تتجاوب مع عاطفته التي كان يعتذر عنها منذ لحظات قليلة فقط, فتمسكت بكتفيه مستسلمة لشفتيه التي تمسح جيدها برقة شديدة..

صوت والده العالي خارج غرفة المكتب وهو يملي على سكرتيرته بضعة أوامر هو ما أفاقه من نشوته.. فابتعد عن علياء سريعاً.. واتجه نحو النافذة يحاول تهدئة جسده والتقاط أنفاسه الهاربة منه والتي سجنتها الدَمعة اليتيمة المعلقة بجيد الساحرة الصغيرة..

عاد يلعن مازن ألف مرة.. ويلعن ذاته ملايين المرات وهو يلمح نظراتها الزائغة وهي تستمع لإعتذار والده عن تأخره عنها وتركه لها وحيدة.. ثم ما لبث أن لمح يزيد فهتف بارتياح:

ـ يزيد.. طيب كويس أنك هنا.. أنا كنت لسه هبعت لك..

تنتح يزيد ليجلي صوته وهو يسأل والده:

ـ خير يا بابا في حاجة؟.

أشار عصام لهما ليجلسا.. فاتجهت علياء لتجلس على أحد الأرائك متجنبة الجلوس على المقعد المواجه لمكتب عصام فقد خشيت أن يلمح تشوشها وتخبط أفكارها.. خاصة وهي تغطي بيدها على دمعة الماس وكأنها تخفي قبلة يزيد عن أعين والده...

فضل يزيد الوقوف كما هو مواجهاً للنافذة حتى لا يكشف عن ثورة جسده.. وفوران مشاعره..

سمع صوت والده:

ـ طبعاً يا عليا.. أنتِ عارفة اتفاقي مع أعمامك.. أنهم يعطوني الوصاية القانونية عليكِ في كل شيء ما عدا الأمور المادية اللي أصروا تكون في إيديهم.. وأنا ما اعترضتش وقتها عشان أقدر أوفي كلمتي لمامتك أنك تكوني تحت رعايتي.. الوقتي بقى أنتِ وصلتِ 18 سنة.. لو عايزاني أكلم المحاميين عشان نحرك الأمور.. وأحاول أسترد أرضك اللي تحت سيطرة أهل والدك.. وخاصة أنهم مش أشقاء له.. فأنا تحت أمرك.. إيه رأيك؟..

هزت علياء رأسها بحيرة فعقلها من الأساس يدور في دوائر مفرغة وما فعله بها يزيد منذ قليل جعل الضباب الوردي يغلف عقلها:

ـ أنا مش عارفة يا عمو.. بصراحة ما فكرتش في الموضوع ده قبل كده.. ممكن آخد شوية وقت عشان أفكر فيه..

أومأ موافقاً وهو يتجه بنظره ليزيد:

ـ وأنت رأيك ايه يا يزيد؟..

ـ طبعاً لازم تحاول تدور على حقها.. ده شيء مفروغ منه..

ردت علياء بتردد:

ـ بس.. بس.. أنا مش عايزة حاجة منهم.. الأرض دي بابا-الله يرحمه- سابها وساب البلد كلها عشان يبعد هو وماما.. حتى ماما.. ما فكرتش في أي وقت أنها تطالب بالأرض دي..

ـ بصي يا بنتي.. زي ما قال يزيد.. دي أرضك وده حقك.. فكري كويس.. وبعيد عن أي عواطف.. فكري بعقلك.. وأنا هنفذ لك أي قرار.. موافقة؟..

أومأت برأسها في موافقة صامتة.. فهز عصام رأسه راضياً:

ـ نرجع بقى للسبب التاني اللي طلبتك عشانه..

ـ خير يا عمو؟؟

ـ خير يا حبيبة عمو.. مش قلت لك أنك كبرتِ وبقيتِ عروسة.. وعروستنا الحلوة مش متقدم لها عريس واحد.. لا.. دول تلات عرسان.. وإيه.. من أعرق العائلات.. يظهر يا شقية أنك سحرتِ شباب النادي يوم الحفلة.


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close