رواية عزف السواقي الفصل الرابع والستون 64 بقلم عائشة حسين
الرابع والستون
انتفض من فوق فراشه مرتاح البال مبتهج القلب بعدما أنهى الاتصال، حمدالله كثيرًا وسبحه ثم نهض ليتوضأ ويصلي شكرًا، بعدما أنتهى صلاته اتجه فورًا لبيت خالته سيرًا، خطواته تتسابق مع فرحته للوصول، وجدها تجلس أمام النافذة المطلّة على الشارع تناجي في السحر كعادتها وتبتهل، قبل أن يُظهر نفسه لها وقف على مقربة منها ينظر لها بمحبة، هتفت بابتسامة واسعة تشع دفئًا «قرّب يا ضنايا مشافتكش العين بس القلب شافك، حس بخطاويك من ساعة ما طلعت من البيت، ريحك وصلني يا ضي العين تعالى مستنياك أنا من العشا»
اقترب منها ضاحكًا وقف أمام النافذة هامسًا بمودة صادقة «وحشتيني يا خالة»
تحسست حماية النافذة حتى وصلت لكفيه وأحاطتهما قائلة وهي تربت عليهما بحنان «متشوفش وحش يا ضنايا»
هتف بفرحة غامرة «مات الظالم يا خالة مات عبادي بشره»
ابتسمت حامدةً قبل أن توصيه التريث والاقتصاد في فرحته وأخذ احتياطاته «الحمدلله ربنا ينصرك على من يعاديك يا ولدي بس خلي بالك الشر له ديل اقطعه وبعدها افرح»
طمأنها بحنان «عارف ، ربنا يعيني وينور بصيرتي»
ربتت على قبضتيه مطمئنة له «شايلك الخير كله يا ضنايا اطمن ومتشلش هم ارمي حمولك عليه»
همس بتضرع «ونعم بالله يا خالة»
انحنى برأسه ملثمًا كفيها يوصيها «ادعيلي يا خالة»
تركت كفه الأيمن ومسحت على رأسه قائلة بعاطفة صادقة حنونة «دعيالك يا ضنايا فكل خطوة يسعدك ما يتعبك ويفرحك ما يحزنك»
ابتسم مودعًا لها وانصرف برغبة في رؤية حبيبته والاختباء بحضنها قليلًا من ضجيج العالم وصخبه، اقتطاع وقت من الزمن ؛ ينعم فيه بالهدوء والراحة والسكينة، سار فلن يتبعه أحد الليلة الكل مشغول بالحدث، امتطى ونسًا وركض حتى وصل إليهم، تسلل بحذر متأكدًا من استيقاظها فذلك ميعادهما الدائم مؤكد تنتظره، انقطع التيار الكهربائي فتأفف بضيق يريد رؤيتها الليلة لا مزيد من الظلام.
داخل المطبخ شهقت متفاجئة بذراعيه تحاوطانها في الظلام، ارتجفت كل خلية في جسدها فرحةً واستجابة لهذا العناق، سُلبت منها إرادتها فهمست بعشق تركت له الحرية لينطلق «حامد»
أجابها وتأثيرها يطغى في نفسه وقربها يعيده لمحراب عشقها ، سألته ودموعها تسيل «عرفتني إزاي فالضلمة دي؟»
أجابها بعاطفة وهو يدير جسدها إلي صدره ويضمها بقوة «عارفك ، وكيف معرفكيش! القلب وشوش والروح دلت والخطاوي ليكِ بوصلة يا غريبة» ذكرها بما كان يذكرها حامد.
عاتبته برقة «كل مرة تيجي في الضلمة»
همس وهو يوزع قبلاته في تحية عودة «فينها الضلمة وقلبك نوره ساطع راددني ليكِ بعد كل توهة وغياب»
همست وهي تتعلق برقبته «في إيه الليلة مالك غريب؟»
أجابها بعاطفة صادقة ولهفة للقرب «ولا حاجة وحشتيني بس»
أجابته بالمثل «وأنت كمان أوي يا حبيبي»
حملها وغادر بها لحجرتهما، بعد مرور مدة عاد الضوء لأماكنه يتوسط المصابيح، فابتسمت برضا وهي تنحني ملثمة صدغه ورأسه المستريحة فوق فخذها «مش هتقولي في إيه برضو أنت الليلة غير»
تأفف منزعجًا من فضولها «بت أنتِ زنانة والله، ما تاخدي نايبك صبر»
ضحكت برقة معترضة تلاوعه «لأه يا أوفة وهتقولي حالًا في إيه»
أغمض عينيه مسترخيًا يهمس «في حاجة نسيت أجولك عليها»قطبت مستفسرة باهتمام «خير يا روحي؟»
أجابها بتنهيدة وهو يسحب كفها ويقبله «آيات ماتت»
ارتجفت بصدمة وهي تسحب كفها منه قائلة «لا حول ولاقوة إلا بالله الله يرحمها »
هتف بأسف حقيقي «كنت ناوي أبعتلها حاجتها الي فالشقة تفرش بيها بيت أبوها بعد ما اتحرق أغلبه»
ابتسمت مدللة له بمودتها وإعجابها «فيك الخير دايمًا يا حبيبي» صرفت ذهنه عن التفكير قائلة بدلال «قولي بقا هنرجع امتى بيتنا؟»
ابتسم قائلًا وهو يعتدل ناظرًا إليها «هانت يا غزولة فات الكتير جوي»
نفخت منزعجة فقال مبشرًا «جد قاسم خلاص مات»
انتفضت صارخة تُبدي فرحتها بطفولية محببة «بجد حصل امتى وإزاي؟»
اعتدل جالسًا يخبرها باختصار «مش مهم»
مالت هامسة بدلال «أممم قولت برضو الروقان بتاعك ده وراه حاجة واعرة جوي»
قلدت لهجته فامتزجت رقتها بجمال النبرة مما جعله يقترب منها ماحيًا المسافات يهمس بابتسامة خلابة «كيف عيني تلمحك ومروقش! كيف أحضنك وأسمع منك حبيبي ومروقش!»
عانقته هامسةً بعاطفة حارة وهي تكرر بهيام«حبيبي حبيبي حبيبي»
ضمها أكثر ضاحكًا يشاكسها «دي دعوة للروقان ممتدة المفعول»
ضحكت بخجل ورقة فحملها فوق بساط الهوى لأرض تنبت فيها الكلمات حبًا.
••••••••••
جلس جوارها حيث تجلس صامتة، مكتئبة، حزينة نظراتها تشخص في مجهول لا يدركه بعقله لكن قلبه المحب يدرك حجم معاناتها، توهتها وحيرتها، الوجع يُعاد على قلبها والذكريات تتوالى، يرى أشباح الحزن على ملامحها ويشعر بارتجافة جسدها الواهن حين يلامسها، ابتسم برفق وهو يضع الطعام بين شفتيها في بادرة منه وإجبارًا لها على مشاركته الطعام الذي ترفضه، نظر لعينيها المتشربة بالتعاسة مفكرًا هل أخطأ حين ترك آيات تقتص لهم جميعًا؟ هل فرّط في آخر بقايا أهلها لأنانية فيه ؟ هل كان عليه إخبارها ومنع الأخرى؟
لا يعرف سوى أن هذا هو الجزاء العادل، والقصاص الحق، أن يُقتل علاء بيد آيات ويرث هو السكينة والطمأنينة من بعدها، صمته وتجاهله كان لعبة قمار فاز فيها.. ابتسم لها بحنو لا يعكس لها ما بداخله من نزاع، رنين جرس الباب جعله يقطب في دهشة، نهض واقفًا بنظرة مستعلمة بينما نفضت هي كفيها من الطعام في زهدٍ مترقبة بخوف من ذيول الماضي وآثام الراحلين.
نظر مؤمن من شرفة منزله مناديًا «مين بيطقر؟»
ابتعدت رحاب عن الباب، وقفت أسفل نظراته منادية «أنا رحاب يا مؤمن افتح»
رفع رأسه مرددًا اسمها بدهشة «رحاب»
تعثرت نظراته في ملامح زوجته المستفسرة فهتف يزيح عنها دثار الجهل «دي رحاب أختي» لم ينطقها بفرحة بل بدهشة واستنكار، نهضت هدى فورًا من مكانها تستعد لمقابلتها بعد أعوام من الغربة بينما هبط مؤمن مستقبلًا لها بعينين ممتلئتينِ بالتساؤل.
فتح الباب فاندفعت رحاب معانقة له تسكب المودة سكبًا «وحشتني موت يا مؤمن»
ضمها مؤمن مبتسمًا بحفاوة شديدة وترحاب،يبادلها عناقها بآخر أشد ثم تركها وعانق أيوب وأولاده الصغار ،
جاءت هدى متهادية بخجل فاندفعت ناحيتها رحاب بلطف ومودة نابعة من شعور بالذنب ناحيتها، عانقتها بقوة ثم ابتعدت تستفسر عن الصغير بلهفة «فين عبدالله؟»
«نايم» قالها مؤمن وهو يشير لهما ناحية الداخل ففعلوا جميعًا.
•••••••••••••••••••••
تنفست فيروز بعمق قبل أن تستدير مقترحة «يونس تعالى نطلع بونس»
هرش ذقنه مُفكرًا في اقتراحها قبل أن يُجيبها «خليها مرة تانية»
عادت للصمت بخيبة تنظر للشمس التي تصارع الغيوم لتطفو وتعلن سطوتها على السماء، سألها باهتمام «زعلتي؟»
نفت بسرعة وابتسامة لطيفة تزين ثغرها «لا يا يونس عادي قولت بس نغير جو»
سألها بمكر «إيه رأيك في الشقة؟»
أجابته برضا «حلوة»
سألها من جديد وهو يضيّق نظراته فوق ملامحها «عجبتك يعني؟ محتاجة تغيري حاجة فيها ؟»
خبأت ابتسامتها خلف دثار الجدية لكن حمرة خديها وشوشت له بالتقاطها معنى سؤاله وخجلها من الإجابة ، ابتسم بارتياح فتلك بادرة خير
«هي شقتك؟» احتالت عليه بمراوغة، فابتسم مُجيبًا بخبث «قصدك شقتك»
تظاهرت بالاعتراض من صراحته، وقفت أمامه متذمرة «يونس أنا لسه مقررتش»
عض شفتيه قبل أن يقف أمامها مواجهًا يتهكم «هتقرري متى؟ لما شعري يشيب؟ أنتِ قرياني غلط أنا صبري بيخلص»
كتفت ساعديها أمام صدرها مستفسرة منه «نعم تقصد إيه؟ وبعد ما صبرك يخلص يعني هيحصل إيه؟»
اقترب منها أكثر متحديًا لها بنظرة مشاغبة مملوءة بالشقاوة وهو يهمس بابتسامة واسعة ابتلعت أفكارها و شتتتها «ولا حاجة هتجوز وبعدها فكري براحتك قدامك العمر»
استخفت بقوله وهي تبتسم باستهزاء «يعني إيه؟وبعدين عادي ساعتها مفيش تفكير»
ابتسم لجهلها بمقصده، استراح لسذاجة أفكارها، جذبها برفق حتى ارتطمت بصدره، حاولت التملص فأحكم قبضته على خصرها ومال هامسًا «صُح وقتها مفيش تفكير هتكوني حامل بإذن الله»
فغرت فمها منتبهة أخيرًا لمقصده، أنارت كلماته ظلمة عقلها فرفعت عينيها محملقة فيه بذهول، هز حاجبيه مستفزًا لها أكثر متلذذًا بخجلها وانشغالها بالكلمات عن اقترابهما الحميمي «يونس أنت قليل الأدب» قالتها وهي تفيق من سكرتها متململة تحاول تخليص خصرها من ذراعه أجابها بضحكة مستفزة «صُح مكدبتيش حتى اسألي أمي» مال مقبلًا شفتيها فانتفضت برهبة، أبعدت رأسها ثم
ابتعدت عنه بعدما تخلصت منه فقال بملامح جادة بعدما لاحظ توترها وعبوسها «هكلم أمي تاجي تخطبك خلاص المهلة انتهت»
صاحت بدهشة رافضة قوله بضيق أزعجه «أنا الي أقول انتهت ولا لا، أنا لسه متعافيتش من فهد وعمايله » تحولت نظرته الشقية لأخرى متأججة بالغضب، مفخخة بالعتب الذي سقط فوق رأسها كالرصاصات الطائشة، ابتلعت ريقها وحاولت التصحيح «أقصد...» ماتت الكلمات تزاحمت فوق الشفاه فدهسها القلق والتوتر «ولا هتتعافي طالما مش مدياني فرصة، ولا هتنسى طول ما اسمه على لسانك وخايفة أقربلك»
قال كلماته بحنق شديد وغيظ جعلها تنظر إليه بأسف، تحرك مغادرًا وهي مكانها لا تعرف بماذا تنطق؟ مشتتة، ضائعة، عاجزة عن التفسير.
***********
جاء يونس عابسًا، جلس أسفل الشجرة بالقرب منه فتوقف رؤوف عن العمل مستفسرًا «جاي تساعدني ولا إيه؟»
صمت يونس بعبوس وحزن فترك رؤوف العمل مهرولًا بقلبه ومشاعره ناحية أخيه في قلق، جلس جواره مستفسرًا بحنو «مالك يا بابا حصل إيه؟»
أجابه يونس بحزن فتت قلب الآخر المحب له «فيروز يا أخوي»
ربت رؤوف على كتفه مشجعًا له يحيطه باهتمامه ودعمه «مالها اتكلم احكيلي يا بابا واطمن»
أنصت رؤوف لقوله بمراعاة وصبر، تفهمه وفهم منه، دعمه بحنانه وحسن الإنصات والإصغاء لقلبه ومشاعره قبل لسانه وما إن انتهى حتى هتف «طبيعي يا بابا أمال أنت فاكر إيه ؟ بس أقولك حاجة واحدة بس»
سأله يونس بلهفة لنصائحه وإرشاداته «إيه؟»
هتف رؤوف «لو بتحبها وهتكمل امسح الي فات من مخك لا تحاسبها عليه ولا تذكره بخير أو شر مهما حصل يا يونس، الصفحة تكون نضيفة يا بابا مفتوحة بينكم وبس ، تملاها مودة ورحمة، طال العمر ولا قصر إياك تفكرها بالجديم ولا تفتكره هتعمل كده كمل مش هتعمل وهتفكرها بيه بعدين وتتعس نفسك بيه يبقى بلاها يا ولدي خالص لا توجع ولا تتوجع»
صمت يونس شاردًا بتوهة فقال رؤوف وهو يربط كفه جيدًا برباط ضاغط «عارف غزل من يوم ما حبيتها اعتبرتها بتي أنا، جبتهالي الأيام وحطتهالي بين ايديا بذرة لصدفة كانت لا على البال ولا على الخاطر، البذرة كبرت وبجت حب كبير جوايا وجواها لا فكرتها بالي فات ولا حسبتها فيه من الأساس ، لو عملت كده هضيّع كل حاجة وأنا من الأول رضيت يبقى خلاص»
أوما يونس بفهم فتابع رؤوف «هتجيلك وتحكيلك وساعتها فكر زين وشوف نفسك هتقدر ولا لاه بس يوم ما تختار خليك راجل كد المسئولية»
شكره يونس بامتنان حقيقي وعرفان «شكرًا يا رؤوف ربنا يخليك لينا وميحرمناش منك»
هتف رؤوف بعبوس وهو ينهض «طيب جوم ساعدني وكفاية رغي عشان نخلّص ونروح لغزل وقاسم ، طاهر زهق من زنهم
في المساء ……
جاء بها طاهر كما طلبت، سلّمت على الموجودين ثم جلست جواره أرضًا مُلقية عليه التحية بهمس «ازيك يا بشمهندس؟»
أجابها دون أن ينظر إليها «الحمدلله»
راقبهما رؤوف من نافذة انشغاله ، رأى تجهم ملامح أخيه وأسف زوجته، دعا له في سره وواصل ما يفعله مانحًا له الخصوصية بعدم مراقبته لهما والبقاء منتظرًا في سلام.
وضعت غزل أطباق الحلى أمام كل واحدٍ منهم ثم جلست جوار زوجها
سألهما قاسم «أبوي هو أنت هتحبني أنا ولا آسيا أكتر»
نظر إليه رؤوف بحنان غزير قبل أن يُجيبه بتفهم وهو يمسح على رأسه بلطف «ولا آسيا ولا أمها حتى، أنت ولدي وصاحبي وحبيبي محبش حد أكتر منك، بعدين لما تاجي آسيا نشوفها تتحب ولا زنانة ومخها تخين زي أمها» ضحك قاسم راضيًا بإجابته التي أراحت عقله الصغير المُنهك بالأفكار والمستوحش بالخوف من القادم، عاتبته غزل بمزاح «لو مجبتش سيرتي مترتحش»
نظر إليها هامسًا بنظرة متألقة «دا لازم يا غزولة»
انتزعت نظراتها منه وقالت برضا «ماشي لعيون حبيبي قاسم بس»ثم وجهت كلماتها لقاسم« احنا عايزينك تاخد آسيا وتربيها وتسيبلي أبوك»
قطب رؤوف مستفسرًا بمزاح «إيه هتربيه؟»
همست له «أمال !طلبتها زمان وهنولهالك» غمزت تُذكره بما قاله سلفًا فنظر أمامه متنحنحًا يستعيد توازنه ورباطة جأشه من سطوتها وسحرها «بيت أبوكي»
ابتسم قاسم وتحرك؛ ليجلس بينهما متدفئًا بهما متحصنًا ومحتميًا.
همست فيرز ليونس الذي ظل صامتًا يعاقبها «ممكن نتمشى..!» نظرة واحدة لعينيها جعلته يرضخ ويعلن استسلامه «ماشي»
نهض نافضًا ملابسه يستأذنهم «هنتمشى أنا وفيروز»
هز رؤوف رأسه بالموافقة فتحرك يونس بها، شيعهما طاهر بقوله بعدما رفع رأسه من على شاشة الهاتف قائلاً «آجي معاكم يا يونس؟»
أجابه يونس ساخرًا من طلبه «تعالى وأنا أرميك لديابة الجبل»
ضحك طاهر وهو يعود بنظراته لشاشة الهاتف من جديد منشغلًا باللعب، زفر رؤوف منزعجًا منه يوبخه باستياء «صغيّر أنت عشان تمسك التلفون ليل نهار وتلعب»
أجابه طاهر بانشغال «بسلي وقتي يا أخوي»
هتف رؤوف بصرامة جذبت انتباه الموجودين «أنا مكلم سمسار يشوفلي مكتب فقنا خلاص وهنقل فيه»
ترك طاهر الهاتف مستحسنًا قراره «خير ما عملت يا أخوي بس ومكتبك هناك؟»
أجابه رؤوف «هيفضل شغال وهتابعه بالتليفون ، بس بتاع قنا هتمسكه أنت وصفوة مع بعض» استنكر طاهر قوله بفظاظة «نعم! مين قالك عايز أمسك حاجة ولا عايز مكاتب»
سخر رؤوف من قوله بينما انتبهت صفوة له مترقبة ومندهشة «ليه هاخد رأيك؟ هتنزل ورجلك فوق رقبتك أنت وبت خالك»
تدخلت صفوة معترضة بشجاعة «أنا مش عايزة مكاتب هتدرب مع أي حد»
أجابها رؤوف بصبر وحنان«وليه تتبهدلي !قليلة أنتِ؟ وبعدين ليه الغريب وواد خالك موجود وشاطر»
تنحنحت مُفسرة بخجل «ممكن أتدرب عندك»
أجابها رؤوف بابتسامة ودودة «ما أنا مش هسيبك وهعلّمك كل حاجة بس شدي حيلك أنتِ معاي»
اغتاظ طاهر من قولها فقال «وأنا مش عايز مكاتب ولا عايز أشتغل»
هتف رؤوف بحنق «قوم روّح عشان مقومش أكسر عضمك»
انتفض طاهر واقفًا يصرخ برفضه «معايزش أنا قولت، هو بالغصب؟»
أمسك رؤوف بخفّ قاسم الموضوع جواره وأشهره مهددًا«امشي بدل ما أديك على وشك»
تخطاه طاهر منتقمًا منه «ماشي أنا غاير» استدار راحلًا بتزمت، سار خطوتين يكلم نفسه ثم وقف والتفت لغزل قائلًا بنظرة انتقامية «جوزك كتب وصيته وقسّم كل حاجة علينا قالك ولا لاه؟»
شهقت متفاجئة بقول طاهر المصحوب بنظرة متشفية لرؤوف الذي لعنه ألف مرة قبل أن ينهض فجأة ويركض خلف طاهر الذي ركض أمامه هاربًا من غضبه وانتقامه... ابتلعت الأمر وصمتت دون ابداء أي ردة فعل صابرة حتى تنفرد به، كما صمت هو خوفًا ورهبة يدعو الله أن يمر الأمر بسلام.
انشغل يونس بالسير وركل الحصى، صمت منتظرًا قولها هي وما جاءت لأجله كل تلك المسافة.
«يونس» همستها بنبرة راجية أن يلتفت إليها ففعل تلقائيًا، التقت نظراتهما في حديث صامت قصير قطعه بإشاحته فقالت معتذرة «آسفة لو كنت زعلتك»
أجابها بجفاء «حصل خير»
أردفت بحدة تلقي اللوم عليه «يونس كان لازم تعرف ان الأمر مش سهل ومش بسيط خالص »
وقف مواجهًا لها ، اقترب منها أكثر هاتفًا بعصبية وهو ينفذ لقلبها من عينيها «لاه سهل أنا عايزك وأنتِ عيزاني خلاص نقطة، نقطّع كل الصفحات القديمة وننساها منسبهاش»
ابتسمت بخجل قبل أن تهمس مهدئة له «ممكن تهدا وهفهمك»
التقط أنفاسه بعمق وهو يمسح وجهه، رنّ هاتفه فأخرجه وقرأ ما تلى الرنين، كانت رسالة من رؤوف يتتبعه بقلبه لا عينيه، يمنحه بوصلة التوقيت والفعل، يرشده باهتمام وحرص ومسئولية «اهدأ يا بابا واسمع الأول زين، أفهم واعذر، متخليش عصبيتك تتحكم فيك ، بينك وبينها خلي قلبك هو الحكم مش عقلك عشان الحب مفيهوش عقل يا ولدي »
أعاد يونس الهاتف وقد لان قليلًا،
همست غزل بعدما قرأت قوله «ركز معايا حبة زي ما مركز مع الي حواليك»
انتبه لها مبتسمًا يهمس بعشق «كلي ليكِ اهو لغاية ما ترضي»
سألته بدلال «أوفة بينا بتحكّم مين عقلك ولا قلبك؟»
أجابها بصدق «عقل إيه؟ معاكي مفياش عقل خالص قلبي الي بيحبك وبس يا غزولة»
ضحكت برقة مستأنسة بحديثه راضية تهمس بتنهيدة «تعيش وتاكل بعقلي حلاوة يا متر»
هناك صمت يونس فهمست فيروز بخجل معترفة له أخيرًا«أنا بحبك»
نفض يونس غروره، أزال دثار غضبه منها وانتبه يطلب التكرار وهو لا يصدق «بتجولي إيه؟»
رفعت عينيها تلك المرة وقالت بصدق أكبر نابع من ثقتها فيما تشعر ونضج مشاعرها تجاهه «أنا كمان بحبك يا يونس ومبسوطة جدًا بوجودي معاك»
ضحك قائلًا بفرحة «والكلام دِه كان فين من الأول؟»
أوضحت بتوتر شديد «ممكن أحكيلك حاجات من الي فات قبل ما نقطع الصفحة؟»
أومأ برأسه في موافقة لا يصدق نفسه ولا اعترافها اللحظة بكل بساطة وأريحية، فوجد نفسه يقترب ويضمها لصدره كفعل مناسب لقولها اللحظة وارتباكها وخجلها وما يحسه، أرضى قلبه ومنحها فسحة من الزمن لإلتقاط أنفاسها والهدوء، ضمها بصمت، ثم قبّل رأسها معترفًا مثلها حتى لا ترث الحرج والندم من اندفاعها ناحيته وجرأتها في الإعتراف بمشاعرها النقية المحسومة لصالحه «وأنا كمان بحبك» ابتعد مانحًا لها مساحة آمنة للبوح ممهورة بحنانه واحتوائه، جلسا متلاصقين، ضم كفها وصمت فتنهدت قائلة «فهد أنا عشت نص عمري فاكرة إني بحبه وإزاي مفتكرش كده وأنا عمي كاتبني على اسمه، فيروز لفهد.. وفهد لفيروز، طبيعي كبرت وأنا مليانة بيه مفيش فرصة لغيره ولا قلبي مستوعب إنه فاضي ، اتكتب كتابنا وهو سافر وأنا كملت دراستي، رجع واتجوزنا وواحدة واحدة فوقت وفهمت حجم الورطة والمصيبة الي أنا فيها، كنت فاكرة هو زيي حياته مقفولة عليا.. بس اكتشفت إنه كان متجوز برا غير الحاجات الي كنت بتغاضى عنها ، مخدرات وستات ولما اعترضت اتضربت واتهنت، فجأة حسيت إني مش قادرة ولا عايزة أكمل كده»
توقفت عن التكملة باكية فضمها بذراعه لصدره مانحًا لها دعمه ومؤازرته الدافئة الحنون، تمالكت ثم ابتعدت عنه تستعيد توازنها قائلة «فكرت أسيبك وأمشي بس جوايا حتة أنانية عيزاك، عايزة فرصة للحياة من تاني، أحب واتحب،أعيش»
ضمها متفهمًا ومحتويًا فبكت على صدره بحرية حتى هدأت وقالت بخجل وهي تختبيء بصدره «يونس في حاجة لازم تعرفها اترددت كتير بس لازم تعرفها»
مسح على رأسها بحنو قائلاً «قولي كل الي عيزاه ومتخافيش»
تشبثت به هامسةً بصوت مبحوح «لما جه عندي ودخل قرّب مني غصب عني، خدني بالعافية وكتير عملها ..حياتنا كلها كانت غصب »
ابتلع صدمته مما نطقت به، هدأها بثبات شديد كاذب «خلاص اهدي»
سكنت شيئًا فشيئًا داخل أحضانه حتى صمتت مرتاحة القلب هانئة البال بينما بعثرته هو كلماتها وشتت أفكاره.
****************
منذ أنّ عرّفها طاهر بالأمر وهي تكتم انفعالها وتحبسه بعيدًا عنه، تتعامل كما لو أنها لم تسمع بتجاهل يثير الشكوك، لكنها ما إن اختلت به وحدهما وانعزلت بعيدًا عن المسامع بعدما خلد الجميع للنوم صاحت بغضب «فهمني بقا معنى الي قاله طاهر ده؟»
ابتلع ريقه وقال مراوغًا «قال إيه طاهر مفاكرش؟»
ابتعدت عنه قائلة بعينين مغرورقتين بالدموع «الوصية»
قال ببساطة مهونًا الأمر عليها «عادي كل الناس بتعمل وصايا»
صاحت بأنفاث لاهثة «لا مش كلها، تقدر تقولي دا معناه إيه؟ »
حاوطها بذراعيه مهدىًا لها بحنانه واحتوائه «مالوش معنى ولا حاجة»
مسحت دموعها المسترسلة بعدما يئست من منعها وخارت قوتها «أنت فخطر صح؟»
أجابها بحنان «الإنسان كل لحظة فخطر، كل يوم بيصحى وهو مش عارف هيكمله ولا لاه يا بت»
ابتعدت ممسكة بجلبابه تهزه رافضة قوله من بين شهقاتها «متقولش كده؟ أنت مش هتسيبني ولا هتبعد، أنا مش عايزة حاجة غيرك من الدنيا كلها»
حاوط وجهها بكفيه في حنان هامسًا «ولا أنا عايز غيرك من يوم ما شوفتك يا غزولة يا حنينة يا طيبة يابت جلبي»
أراحت جبهتها على صدره باكية بحزن يعتصر الفؤاد فهمس معاتبًا لها برقة «عايزة تنكدي وخلاص يابت مين فينا ضامن عمره»
ضمته بقوة هامسةً من بين نهنهات بكائها «أنت لا يا رؤوف دا أنا حبيت الدنيا علشان وجودك فيها، صالحتها بيك واتقبلت أعيشها علشان جنبك»
شاكسها بمرح وشقاوة وهو يرفع وجهها إليه «الكلام الحلو دِه محتاج بعده نشغل التلفزيون والله»
لكمته بقبضتها معاتبة بغيظ «متهزرش»
رفع وجهها مرة أخرى هامسًا أمام شفتيها برقة «يارب آسيا تكون شبهك عشان يبجى عندي اتنين غزل»
همست مستجيبة لعاطفته تعطي أكثر مما تأخذ «لأ عيزاها شبهك بالظبط»
لامها بضيق «فيا إيه حلو أنا؟ عشان تكون شبهي، لاه بلاش»
أحاطت عنقه بذراعيها بعدما استطالت قليلًا وهمست معددة وهي تقبله بنعومة «كل حاجة فيك حلوة خالص يا حمودي، عارف لما لمياء كانت بتحكي عنك وتوصفك اتمنيت أشوفك، أقابلك مكنتش مصدقة وفكراها بتبالغ بس لما شوفتك وعيشت معاك اتأكدت إنها مبتبالغش بالعكس أنت أكتر من كده بكتير»
همس بصدق وعاطفة لا تنضب «جلبي فحضنك بيهدا يا غزل، لما بفتكر الي راح من العمر بزعل بس بقول لو الي راح كان تمنه تكوني أنتِ ليا يبجى فداكي مش خسارة، سبع سنين حرمان عوضتيني عنهم فشهور ورضيت، عشت أكتر من الي اتمنيته بكتير »
همست ترجوه قبل أن تمنحه روحها العاشقة بتفاني «رؤوف أوعى تسيبني»
أشار لموضع قلبها قبل أن يغيّب نفسه بغرامها مستمتعًا بهدايا حبها «أنا هنا وهفضل هنا حتى لو غبت»
•••••••••••••
دخل موسى المنزل عاصفًا وجد والدته تجلس بأريحية وأمامها أرجيلة زوجها الراحل الخاصة، تسلب منها الأنفاس بمتعة وتلذذ، صرخ فيها موسى وهو يهز الأوراق التي بين أنامله «جومي يا أما شوفي المصيبة»
تركت الأرجيلة قائلة بابتسامة ساخرة غير واعية يتململ وعيها بين الإفاقة والغياب «إيه أبوك طلع من قبره»
هتف مستنكرًا حالتها منزعجًا «فوجي يا أما مش وجته»
تأففت منزعجة منه تعاتبه «طيرتلي الحجر يخربيتك»
صرخ مولولًا وهو يجلس جوارها «ما هو اتخرب يا أما»
نفخت بسأم قبل أن تسأله بضيق «في إيه يا حزين أنت يا فقري؟»
رمى الأوراق فوق الطاولة وأحاط عمامته بكفيه منحنيًا للأمام يندب حظه «أبوي يا أما كتب كل الأرض باسم واد ولده»
ضحكت قائلة بغياب «واد ولده مين؟ »
هتف موسى بغم «فوقي يا أما أبوس يدك جوزك ضيعنا»
نهض حينما غفت غير منصتة له، رحل للمطبخ زاعقًا في عامليه «اعملولي كوباية جهوة»
أومأت احدى العاملات بطاعة فخرج منتظرًا جوار والدته.
بعد قليل عاد إليها وعيها فأمسكت بالأوراق قارئة، هتف موسى «شوفي الخراب المستعجل»
ضربت على صدرها لاعنة «الله يحرقك يا عبادي بجا دي عملة يا واد الحرام»
هتف موسى بقلة صبر «هنعمل إيه دلوك يا أما هنتصرفوا كيف؟»
هتفت بسرعة «اتصلي بالمحامي خليه يجيني دلوك»
ذكّرتها زينب بأفعالها حين رأتها تهبط الدرج، اتحد الغل منها مع الغضب فشكلا مزيجًا حارقًا في صدرها جعلها تصرخ فيه مُشيرة له وهي تنهض «وبت المركوب دي سبب البلاوي احبسهالي لما نشوف أخرة عشجها للأستاذ»
انتفضت زينب بهلع حين سمعت أوامرها، شهقت برعب حين نظر إليها موسى بشر وعزم على تنفيذ أوامر والدته بحقد مماثل، ركضت زينب مقررة الهرب بحماقة لكنه قبض عليها وجرها قائلًا «هتروحي فين يا جلابة المصايب»
توسلته وهي تحاول فك قيودها «أبوس يدك يا موسى سيبني أنا ماليش ذنب»
تخصرت والدته أمامها صارخة تكاد تحرقها بنظراتها الحاقدة «لو مكانش عرف مكانش كتب حاجة يا ملكومة، والله ما حد هيحلّك مني يا حزينة، روحك مع الأرض دي لو راحت» صرخت زينب مستنجدة فكمم موسى فمها وسحبها موبخًا بجفاء «اكتمي»
وصل بها لحجرة خلفية مظلمة، دفعها فيها وأغلق خلفه شاتمًا ببذاءة بينما انفجرت هي في البكاء متوسلة الرحمة في قلبه القاسي.
*********
تقدم موسى بهيمنة يطوقونه رجاله من كل ناحية، اقترب ببطء من رؤوف الجالس يلتقط أنفاسه بعدما أنهى ما يفعله من ترميم في أرضه الهالكة، دارت نظرات موسى في المكان حتى استقرت فوق ملامح رؤوف الساخرة بنظرته التي لم تفقد غطرستها واستخفافها
«الله يعينك يا أستاذ»
ابتسم رؤوف باستخفاف وهو يفتح أكياس الطعام الموجودة جواره قائلاً «هيعيني يا موسى»
عبس موسى بأنافةٍ فابتسم رؤوف قائلًا له «اتفضل يا موسى معايا»
سأله موسى بسخرية «بتاكل مِش يا أستاذ؟»
هتف رؤوف بخبث «وماله المِش كفاية إنه بفلوس حلال»
رفع موسى حاجبه مفكرًا في قوله قبل أن يقول «عايز أكلمك فموضوع ودّي»
استنكر رؤوف بسخرية وهو يكسر حبة البصل بقوة تحت نظرات موسى «ودّي؟ إيه ودّي دي ومعناها إيه؟»
أجابه موسى بغرور مهددًا إياه بنظراته «يعني من غير مشاكل وسلاح»
تهكم رؤوف من قوله وهو يمضغ الخبز ويلوكه بأسنانه «ليه كفانا الشر يا موسى بجيت تتسرع من صوت الطلج ولا الجواز خلى جلبك رهيّف؟»
نفخ موسى بسأم قبل أن يجلس ناظرًا إليه بإمعان وهو يهتف «جولتلك معايزش ابدأها معاك كده»
نفض رؤوف كفيه قائلًا بصرامة مُخيفة بعدما حمد الله «هات الي عندك عايز أريحلي شوية»
تنهد موسى قائلًا «عايز واد أخوي ، الحضانة دلوك من حقي»
قهقه رؤوف عاليًا في سخرية من قوله قبل أن يتوقف قائلًا بلا مبالاة وهو يحمل فأسه فوق كتفه«مفيش، جولتها لأبوك وهجولهالك»
توقف رؤوف مكانه واستدار متظاهرًا بالأسف يقول «نسيت أعزيك معلهش الدنيا تلاهي عقبال يومك يا موسى»
استدار رؤوف من جديد وهو يدندن فصل بين رجلين كانا يقفان أمامه كالسد ومرّ متخطيًا تشيعه تهديدات موسى «هاخد الواد بالذوق أو بالعافية»
قهقه رؤوف عاليًا مستخفًا بقوله راميًا بتهديده عرض الحائط.
عاد موسى لمنزله مُكدرًا باستخفاف رؤوف، غاضبًا حانقًا عليه في نقمة شديدة جلس جوار والدته فسألته «في إيه يا واد؟»
قصّ عليها موسى ما حدث فأخذت نفسًا من أرجيلتها بتفكير عميق ثم أشارت عليه «في ليلة خد رجالة وروح اضربوا على بيته نار من غير ما تصيبوا حد»
تأفف موسى منزعجًا من فكرتها «يا أما أبويا حرق البيت بالغيط»
نظرت للسماء مستغيثة من غبائه ثم نظرت إليه قائلة بصبر «افهم مش البيت دِه»
سألها بغباء «أمال أي بيت؟»
أجابته بمكر «بيت الحفناوية يا عديم الفهم، إلوي دراعه من نصها ، الي زي دِه ميهموش مال ولا زرع كد ما يهمه ناسه»
ابتسم بإعجاب مستحسنًا فكرتها مثنيًا عليها «زين جوي يا أما يسلم تفكيرك الرايق ومخك الزين»
عادت تسلب الأنفاس من أرجيلتها شاردة الذهن بينما نهض هو يعدّ رجاله للمهمة.
******
جلست أخيرًا منهكة بعدما أفنت وقتها كله في تلبية طلبات المنزل و مضايفة أخته، بدت أمامها رغم التعب نشيطة ومهندمة، تجيد ما تصنع وتصنع ما يحبونه بتفاني وإخلاص، اليوم رأت في عيني أخته نظرة لم تستطع تفسيرها أو الوقوف عليها، نظرة تخطتها بسرعة وتابعت ما تفعل متناسية حزنها فيكفيها ابتسامة زوجها ورضاه، هو من بقيّ لها و هو من يستحق إفناء روحها لأجله، البكاء لن يفيد والحزن عمّر في القلب وانتهى الأمر، نظرت لمؤمن المنشغل باللعب مع الصغار مبتسمة، تركض نظراتها خلفه بعشق.
تذكرت حوار دار بينها وبين والدها، ذهبت بها أفكارها هناك حيث الماضي الأليم
«فلاش باك»
هتف والدها من بين أسنانه معايرًا لها؛ يطرق وعيها بتقبيح ما عندها وتقليله في نظرها
«معندكمش فلوس»
همست بهذيان حمى العشق وهي تشرد في صورته الممتثلة اللحظة أمامها بمواقفهما وأيامهما ولياليهما سويًا«عندي مؤمن»
واصل الطرق بإصرار وهو يلتف حولها كالحية الرقطاء «مفيش وكل ولا شرب»
ابتسمت في شرودها متذكرة فلذة كبدها
«عندي عبدالله»
لكنه واصل الوسوسة كشيطان لا يملّ «ولا بتلبسي هدمة عدلة»
ضمت جسدها بذراعيها هامسةً بتنهيدة عشق «عندي حضن مؤمن»
لم يبلغ اليأس قلبه و واصل متصنعًا الأسف «زي الفجارة»
قالت برضا تام واكتفاء ملأ روحها
«غنية بحبه وكنز قلبه الي ليا لوحدي»
قال ناصحًا كإبليس حين يغوي «بصي لحالك ومصلحتك»
أجابته ونظراتها تمتليء بزوجها «حالي هو حاله وميتعدليش حال من غيره»
فاقت من شرودها فوجدت نفسها تكررها دون وعي .
ابتسمت رحاب التي جلست جوارها مستأذنة بلطف «ممكن أقعد جنبك؟»
رحبت هدى ببشاشة «أيوة أمال إيه»
أثنت رحاب على طعامها بإعجاب «الأكل كان تحفة يا هدى والحلويات والمخبوزات بجد خطيرة تسلم ايدك تعبناكي»
جلس مؤمن خلف زوجته وأحاطها بتملّك مادحًا لها بمحبة «ولسه لما تدوجي كل عمايل يديها الحلوة»
ابتسمت هدى بخجل فلثم مؤمن صدغها بتقدير شديد شاكرًا لها، تأملتهما رحاب ببعض الندم الحقيقي على ما فعلت وما حرمت نفسها منه وصغارها طوال تلك السنوات، حزنت أشد الحزن حين رأت بساطة منزل أخيها لكنها أُعجبت بنظافته الشديدة وترتيبه، لم تروقها ملابس زوجة أخيها البسيطة الدالة على فقر الحال، لكن أعجبها رضاها والقناعة ومحبتها الكبيرة لمؤمن وتدبيرها أمور المنزل بحكمة واستخدام مهارات الطبخ لصنع العديد من الأصناف بالقليل حتى لا يشعروا بالنقص ولا بحاجتهما، يدها ممدودة دائمًا للمساعدة بمحبة وابتسامة بشوشة، تهتم بمؤمن كأم قبل أن تكون زوجة، عينيها دائما معلقة به كتميمة حظ...
هتفت رحاب بضحكة رقيقة «أكلك الحلو ده يخليني أطمع إني آكل منه كل يوم»
ابتسمت هدى قائلة «هعملّك كل الي تحبيه عشان تاخديه معاكي»
ربتت رحاب على ركبتها قائلة «وليه أخده ما أخدك أنتِ»
قطب مؤمن بصمت بينما رفعت هدى رأسها لزوجها مستفهمة، أخرجتهما رحاب من حيرتها قائلة «الحقيقة مش جاية بس زيارة لا أنا جاية أخدكم معايا»
نظرا كلًا من هدى ومؤمن لبعضهما بصمت فتابعت رحاب « خلّصت الورق ومنزلتش غير وهو معايا الي فاضل حاجات بسيطة هنخلصها سوى هنا»
تعجب مؤمن من قولها ومفاجأتها وقال «كيف يعني؟ وليه مخدتيش رأيي»
قالت بحزم وهي تنهض واقفة «مفيش رأي.. أنت مالكش قعاد هنا تاني ، هناك ليك أفضل وفرص شغل أكتر وهدى محتاجة تبعد وتغيّر جو وتنسى»
شعر بمنطقية قولها وصحته فصمت،كما صمتت زوجته التي أحسّت بالنجاة في الأمر فهي حقًا تحتاج لأن تبتعد عن هنا وتغلق صفحة الماضي، هتفت رحاب حين لاحظت شرودهما «فكروا كويس ،بس يا مؤمن أنا محتجالك هناك جنبي وأنت كمان، احنا ملناش غير بعض فليه نبعد؟ لو ينفع أنزل أنا وأعيش هنا مش هتردد بس خلاص حياتنا وأصحابنا ومدارس الولاد هناك فكر كويس ومتضيعش الفرصة دي من ايدك»
قالت كلماتها وغادرت للحجرة التي تقيم فيها تاركة لهما المساحة ليفكران ويقرران بهدوء.
***********
لاحظ مؤمن استيقاظها، شعر بأرقها، حيرتها وخوفها الذي لامس قلبه، قطع المسافة الفاصلة بينهما وضمها لصدره، ابتسم متنهدًا براحة حين فعل، لفت جسدها وواجهته بعينين ذابلتين وابتسامة تاج لوجهها البشوش، مرر أنامله على وجهها الذي بهت وفقد نضارته هامسًا «محتارة وقلقانة ليه يا غالية؟»
أجابته ببساطة دون مراوغة سكبت نفسها بين يديه « مكان جديد وبلد جديدة يا مؤمن وأنا على كدي»
لمس خوفها تلك المرّة وأحس به، ضم رأسها لصدره في حنو وقال «أنا معاكي متخافيش من حاجة أبدًا»
بعثرت آهاتها على صدره هامسةً «أنا معرفش حاجة يا مؤمن غير الي بتقولي عليه حتى الدنيا من يوم ما اتجوزتك بشوفها بعنيك أنت»
أبعدها عن صدره قليلًا ونظر إليها هامسًا «عارفة مش هاممني السفر غير عشانك، عايزه علشان أعوضك، أرد جزء من الي عملتيه عشاني واتحملتيه، نفسي تكملي تعليمك وعبدالله يدخل أحسن مدارس»
عاتبته برقة «معملتش حاجة ، من يوم ما دخلت بيتك وأنت حتة مني»
لثم جبهتها بقبلة ناعمة مشحونة بصدق عواطفة وهمس بابتسامة حنون «من يوم ما عيني وقعت عليكي في الموقف وأنتِ مكملاني»
ضمته بصمت فتقبلها بين ذراعيه بحنان وهمس «هتعملي إيه فحاجة أهلك»
أجابته بما يؤرقها «ساعات أجول أديها لرؤوف يتبرع بيها وساعات أقول دي حقي أنا، عوض عن كل حاجة ورهاني أبوي»
ربت على ظهرها مُعلنًا تفهمه للأمر وإدراكه حيرتها فاقترح «جمديها لفلوس باسمك في البنك لغاية ما تقرري وأنا هستخير في السفر»
رفعت عينيها بنظرة شقية وهمست «هعمل إيه أنا فوسط الحريم الحلوة دي يا مؤمن هناك»
ضحك غامزًا لها « ولا حاجة تاخدي بالك مني هكون مبسوط وبس »
ضحكت مثله قبل أن تعاود الانكماش بأحضانه من جديد براحة بعدما زال توترها وتبخر خوفها بحرارة عاطفته.
**************
في المساء أحاط موسى ورجاله المنزل من جميع الجهات ثم أمرهم بإطلاق النار، استيقظ الجميع فزعين عدا يونس الجالس بالشرفة جوار زوجته، انتفض من جلسته ونهض على ركبتيه ثم سحب زوجته المرتعبة ببطء للداخل «يونس ايه ده في ايه؟»
هدأها وهو يسحبها للدرج بعيدًا عن دوي الرصاص «متخافيش»
تركها وحدها وتسلل للداخل من جديد فامسكته رافضة تركه لكنه طمأنها «لازم أشوف في ايه ومين دول»
رفضت بإصرار وخوف وهي تتشبث بذراعه «لا خليك ممكن تتصاب»
ربت على كفها قبل أن يبعدها عنه «هبص من بعيد»
سمع صوت صراخ والدته وعمته ونداء والده الجهوري فسحبها خلفه وهبط بها، ما إن رآه والده حتى رمى تجاهه سلاحًا وأمره بحزم «يلا يا واد »، تناوله يونس بحماس بعدما ترك زوجته المرتعبة وصعد من جديد وخلفه طاهر بسلاح آخر.

