اخر الروايات

رواية عزف السواقي الفصل الخامس والستون 65 والاخير بقلم عائشة حسين

رواية عزف السواقي الفصل الخامس والستون 65 والاخير بقلم عائشة حسين 





الخامس والستون والأخير ج1
في المساء أحاط موسى ورجاله المنزل من جميع الجهات ثم أمرهم بإطلاق النار، استيقظ الجميع فزعين عدا يونس الجالس بالشرفة جوار زوجته، انتفض من جلسته ونهض على ركبتيه ثم سحب زوجته المرتعبة ببطء للداخل «يونس ايه ده في ايه؟»
هدأها وهو يسحبها للدرج بعيدًا عن دوي الرصاص «متخافيش»
تركها وحدها واستدار يتسلل للداخل من جديد فأمسكته رافضة تركه لكنه طمأنها «لازم أشوف في ايه ومين دول»
رفضت بإصرار وخوف وهي تتشبث بذراعه «لا خليك ممكن تتصاب»
ربت على كفها قبل أن يبعدها عنه «هبص من بعيد»
سمع صوت صراخ والدته وعمته ونداء والده الجهوري فسحبها خلفه وهبط بها، ما إن رآه والده حتى رمى تجاهه سلاحًا وأمره بحزم
«يلا يا واد» تناوله يونس بحماس بعدما ترك زوجته المرتعبة وصعد من جديد وخلفه طاهر بسلاح آخر، هتفت فيروز تحاول إيقافه «يونس ارجع كلّم الشرطة»
هدأها عدنان «متخافيش يا داكتورة يونس راجل هيرد عليهم ويرجع»
جلست منهارة تسد أذنيها بكفيها مرتجفة بينما ظلت الجدة تبكي مولولة دون توقف، أما فكر نجاة فغادر حيث يبقى بكريها وحيدًا فأحاطته بالدعوات خوفًا عليه من الغدر، انسحب عدنان بسلاحه يبادلهم إطلاق النيران في ثبات مما جعل أحد رجال موسى يهتف «بيردوا! ممكن حد يتصاب يا كبير هنعمل ايه؟»
طلب منهم موسى التراجع ببطء ثم الانسحاب ففعلوا بحرفية متفاديين رصاصاتهم بمهارة ،حين توقف إطلاق النار من جهتهم صاح موسى بصوته الجهوري «قول للأستاذ عايزين ولدنا ومش هنسيبه ودِه أولها»
قالها ورحل فجلسا يونس وطاهر منهكين يلتقطان أنفاسهما بسرعة عالية، ما إن توقف إطلاق النار حتى صعدت فيروز للأعلى بسرعة تحت نظرات الجميع الواجمة المهزوزة بالقلق والخوف، رأته واقفًا أمامها يلهث من فرط انفعاله فاندفعت معانقة له بقوة، انسحب طاهر بعيدًا مانحًا لهما الحرية مع عدم الهبوط للأسفل حتى لا يثير شكوك الأهل بوجودهما وحدهما، وقف أمام الشقة بعدما أغلق بابها وانتظر محاولًا الاتصال برؤوف.
بكت فيروز داخل أحضانه مرتعبة خائفة، وقفت اليوم في مواجهة شرسة غير متكافئة مع فكرة فقده فهُزمت شر هزيمة، ترك سلاحه أرضًا وحاوطها بذراعيه محاولًا تهدأتها بربتاته الحانية وهمساته الدافئة لكنها تركت لخوفها العنان وحرية الانسحاب من صدرها على شكل بكاء حار، رفضت الابتعاد عنه حتى يطمئن قلبها ويفرّ جزعها بعيدًا حين تداهمه رائحته التي تعبّق بها صدرها الآن كإثبات على سلامته، شاكسها بمرحه المعتاد «انجزي رجلي وجعتني من الوقفة»
ابتعدت تمسح دموعها بأناملها فسألها «والحضن دِه خوف عليا ولا خوف من ضرب النار؟ »
همست بصوت متحشرج «ممكن تبطل غلاسة؟»
همست بخجل زادها جمالًا «خوفت عليك أوي يا يونس»
ابتسم مطمئنًا لها بحنان «متخافيش عمر الشقي بقي بعدين بعد الحضن دِه هبعتلهم يجوا تاني »
عانقته مرة أخرى مختبئة بين ذراعيه من نظراته «مش محتاج يا هندسة»
كتم ابتسامته وطلب ببراءة «طيب ممكن بوسة مع الحضن الله يكرمك»
ابتعدت عنه ضاحكة فهتف طاهر من الخارج بضيق «أبوك بينده يا كازانوفا انجز»
نظر يونس إليها مليًا وهو يهتف «يسد بيت أبوك يا قطاع الأرزاق أشوف فيك يوم»
غادر يونس من أمامها بعدما سرق قبلة من ثغرها فجأة ودون أن تنتبه، رحل ضاحكًا بعدما سحب سلاحه.
استقبلهما الجميع بالسؤال «أنتو بخير يا ضنايا»
طمأنهم طاهر «الحمدلله بخير اطمنوا»
هتفت نجاة برعب حقيقي وفزع سيطر عليها كما وساوسها وهواجسها «كلموا أخوكم شوفوه فين هو وعياله»
هتف طاهر بأسف «بحاول أكلمه مبيردش»
ولولت نجاة وهي تضرب فخذيها بكفيها «يا مري يكون عملوا فيه حاجة»
أشارت الجدة عليهم بانتحاب«روحوله متسبهوش لوحده»
أعلن يونس استعداده وحماسه للفكرة «أكيد مش هنسيبوه»
بينما هتف طاهر يحذره «لاه يا يونس لازم نوصله ونكلمه الأول عشان أي غلطة مش فصالحنا دلوك»
شارك عدنان طاهر الرأي «صُح يا يونس أخوك معاه حق»
اقترحت سماسم بعدما فاقت من غيبوبة عجزها بالخوف والجزع «كلموا صفوة ولا غزل»
هز يونس رأسه مستحسنًا الفكرة وبدأ في تنفيذها فورًا، اقتربت سماسم من ولدها فضمها طاهر لصدره مهدئًا لها بحنانه مسيطرًا على ارتجافة جسدها بطمأنته الدافئة.
بعد قليل كان رؤوف يمتثل أمامهم يلعن موسى متوعدًا له، يفكر مع أخويه في الرد المناسب وطريقته، بعدما اطمأن على الجميع وملأ نظراته بعافيتهم جلس في المندرة مُفكرًا يستشير أخويه فاقترح طاهر «بجولك يا أخوي احنا نبلغ ونقدم الكاميرات»
عارضه يونس بضيق «لاه يا طاهر مينفعش»
صمت رؤوف بصبر فأردف طاهر موضحًا «لو بلغنا الحكومة موسى هيخفي رجالته وساعتها هنستفرد بيه لوحده»
ابتسم رؤوف مستحسنًا الفكرة مثنيًا على تفكيره «جدع يا طاهر بس مش هنبلغ بالمعنى المفهوم هنجبله زين»
*********
في منتصف الليل
امتطى رؤوف ونس، وامتطى يونس وطاهر روح، ركضوا بين الزروع ملثمين يتقاذفهم الهواء ويشيعهم الغبار الكثيف حتى وصلوا لمنزل عبادي... ترجل رؤوف ممسكًا بعبوة الغاز ودار بها حول المنزل ببطء وحرصٍ شديد وطاهر يتابع له الطريق بحذر، ما إن انتهى حتى منح يونس الإشارة فأشعل عود ثقاب ورماه على الخط المرسوم أرضًا، أحاطت النيران المنزل من كل جانب فعاد رؤوف لونس ، أشعل بعض القذائف يدوية الصنع التي أعدها مسبقًا وألقاها من فوق السور للداخل ثم أشار لهما بالرحيل أولًا وهو سوف يتبعهم حماية لهما ولظهورهما من الخلف، نظر للنيران المشتعلة برضا ثم ركض بونس خلف أخويه.
أعاد غزل وقاسم وصفوة لمنزل الحفناوية بعدما أحاطه بالرجال الأشداء وسلحهم جيدًا، أراد أن يجمعهم في مكان واحد حتى يتفرغ لموسى ولا يتشتت هو و إخوته، استقبلهم الجميع بحفاوة، فرشوا لهم خطواتهم فرحة ورضا محتضنين لهم بالمودة.
جلسوا جميعًا؛ لتناول الطعام جميعًا. دارت نظرات رؤوف عليهم حتى استقرت فوق طبقه المملوء بالطعام الذي لم يقربه، همست غزل بعتاب «كل يا حبيبي مالك! »
ابتسم قائلًا بحزن غريب وشجن «حاضر بس بملي عيني منكم الأول»
قطبت مستفسرة بضيق بدأ يغزوها من كلماته المبهمة التي تثير في قلبها حزنًا لا تعرفه وخوفًا لا ترتضيه لقلبٍ عامرٍ بعشقه «يعني إيه وليه بتقول كده؟»
ابتسم قائلًا بنفس النبرة الحزينة «من زمان متجمعناش كده ولا أكلنا كُلنا مع بعض»
صدقته، تفهمت مشاعره فهي تعرف مدى ارتباطه بأهله وحبه الشديد لهم وأنسه بهم حوله.
هتفت سماسم مشجعة لها «كلي يا غزل يا بتي أنتِ حبلي عايزة غذا»
شكرتها بنظرة ممتنة لاهتمامها وقالت «باكل يا طنط»
سألتها نجاة باهتمام «فيكي واد ولا بت يا غزل؟»
أجابتها وهي تضع كفها فوق بطنها البارز «مش عارفة يا طنط كل الي يجيبه ربنا كويس»
هتف طاهر بحماس شديد «واد، بت المهم ياجي بالسلامة وأبقا خال وعم وألاقي حد يونسنا أنا وقاسم»
هتف يونس بعنصرية «أنا عايز واد مالنا ومال البنته»
استمع لهم رؤوف بصبر وابتسامة تزين ثغره بينما تدخلت الجدة قائلة منصفة لأول مرة «الي تجيب الواد تجيب البت بس تجوم بالسلامة مش هنخليها تبطل خلفه، عايزينها تملا الأرض عيال زي ما يكونوا»
ابتسمت غزل بفخر وهي تمسح على بطنها راضية حامدة الله على تلك الهبة وذلك الرباط المقدس بينها وبين حبيبها وهي تُجيب بالموافقة على قولها «بإذن الله»
هتف عدنان وهو يتابع رؤوف الصامت بشرود «وكلي جوزك يا غزل»
التفتت له قائلة «ينفع كده ما تاكل يا متر»
تبسم بمودة وهو يبدأ في تناول الطعام بشهية.
بعد مرور وقت
بالأعلى تمددت جواره فوق الفِراش وقد أخذ طاهر قاسم ليبيت معه، همست وهي تمرر سبابتها فوق صدغه «رؤوف نمت؟»
أجابها بتنهيدة «لاه»
يشغله أمر الأحلام الكثيرة هذه الأيام، تؤرقه التأويل وتلعب برأسه في حيرة، لا يعرف رؤى هي أم أضغاث أحلام، كل ليلة يعاد نفس الحلم بتفاصيله حتى استقر داخل نفسه القلق وباتت لحظاته حزينة باهتة، لا يهاب الموت قدر ما يخشى فراق أحبته .. أيقظته غزل من غفوة شروده بندائها المنزعج «رؤوف ما ترد»
تأفف بانزعاج شديد منها ومن ثرثرتها التي يتشبث بها لينجو من أفكاره فينزلق مرة أخرى غارقًا في بحر هواجسه، يشعر بالضغط الشديد على عقله المكتظ بالمخاوف، دماغه يغلي وتزيد هي الآن من الأمر بعصبيتها، هتف بجفاء و حدّة «جومي من جاري وسبيني لوحدي عايز أنام شوية»
نظرت إليه نظرة عتاب طويلة وهي تهمس باسمه رادعة له، تفيقه «رؤوف»
سحب الغطاء من على جسدها بعصبية أرعبتها وهتف «جومي انزلي ولو عايزة تبيتي تحت مع أختك بيتي» ارتجف جسدها تمرر الفعلة على عقلها المصدوم قبل أن تأخذ الأمر على محمل الجد وتنهض بسرعة من فوق الفِراش ممتثلة لأمره دون رد أو مواجهة أو اعتراض، حملت كبريائها ورحلت بصمت، سحب الوسادة ووضعها فوق رأسه يكتم الأفكار داخل عقله، يخرسها علها تكفّ عن الصراخ والعويل حتى سحبه النوم لعالمه.
استيقظ بعد قليل باحثًا عنها، نهض مناديًا فلم يجدها ووجد المكان فارغًا من حوله، تذكر ما كان منه فصفع جبهته لاعنًا تهوره، ارتدى خفه وهبط مفتشًا عنها حتى وجدهم متجمعين بحجرة والدته،قبل أن يدخل سمع سؤال والدته فوقف يستمع لقولها ،
سألتها نجاة بابتسامة حنون «سايبة حبيبك ليه على غير العادة يا غزولة؟»
أجابتها غزل ببساطة وابتسامة مضيئة «غصب عني يا طنط بس هو تعبان ولو فضلت جنبه هرغي ومش هسيبه ينام فصعب عليا وقومت علشان يرتاح»
هتف يونس بغبطة «سيدي يا سيدي عالحب»
ابتسمت نجاة داعية لهما فطرق رؤوف الباب مستأذنًا الدخول، سمحت له والدته، خطا للداخل فكان أول ما وقعت عليه نظراته عينيها الجميلة وابتسامتها البشوش التي احتضنته بالعفو والسماح، جلس رؤوف جوارها فقالت والدته «نوم الهنا يا ضنايا»
أومأ مبتسمًا ثم هتف وهو ينظر لزوجته بمحبة «مزعل غزل أنا يا أما وهي مشتكتنيش ليكي لاه دا قالتلك إنها هي الي قامت من جاري عشان ارتاح»
أجابته نجاة وهي تتأملهما بمحبة «فيها الخير حافظة سرك وصايناك فغيبتك قبل حضورك»
اقترب مقبلًا رأسها يعتذر عما بدر في حقها أمامهم جميعًا «حقك عليا يا أم آسيا أنا غلطان»
عاتبته بنظراتها في خجل وهي تهمس معترضة «رؤوف بس مفيش حاجة»
أجابها بندم «لاه فيه وأنا غلطت واتعصبت عليكي»
صفّر يونس بفمه إعجابًا بالأمر بينما ابتسمت صفوة بخجل وهي تدعو لهما سرًا، دعت نجاة ليونس بمغزى «عقبالك يا بشمهندس لما تلاقي بت الحلال»
دعا يونس بتضرع فضحكت صفوة العالمة بسره وصمتت تتابع النقر فوق شاشة هاتفها، هتف رؤوف حين رأى قاسم نائمًا على فخذ والدته «هاخده يا أما فوق»
اعترضت نجاة بتفهم «لاه يا ضنايا اركب أنت وخد مرتك وسيبه هينام معاي»
تردد رؤوف قليلًا بقلق لكنها طمأنته «متخافش لو صحى وطلبك هبجى أطلعهولك»
أومأ رؤوف راضيًا قبل أن يسحب زوجته من كفها ويصعد بها للأعلى.
تفرق الجمع، فيروز وصفوة في جهة ويونس وطاهر في جهة أخرى للنوم.
**********
القلق ظل ضيفًا ثقيلًا على قلبها منذ ما حدث، خوفها عليه تضخم فأصبحت الأنفاس ثقيلة، رحل النوم دون رجعة فهامت على وجهها في الشقة المغلقة تجوب حجراتها بأرق وتعب ودموع حارة،تحارب ألف فكرة سوداء الآن في رأسها، تمسك بالهاتف مترددة في مهاتفته وهي تسكب الدموع دون توقف، انتزعت من-أمان روحها - حين شعرت بالخطر يحوم حوله، والفقد يلوّح له، الوحدة تسخر منها مهيئة نفسها للصحبة من جديد..
جلست مكانها على الأرض تضم ركبتيها لصدرها منتحبة بقوة، لا تملك حق استدعائه اللحظة بعد ما كان بينهما من مواجهة وكشف للحقائق ، تنتظر أن يأتيها بخبر قلبه بعدما سمعه منها....
فُتح باب الشقة ببطء فانتفضت، تسرّب الضوء للمكان المظلم فتسرّب الأمل لقلبها من شقوق الحزن،لم ترى وجهه لكنها عرفته ببصمته الخاصة، رائحته التي انطبعت في صدرها وذاكرتها، غمرها احساس بالأمان ضمد جروحها ولملم ما تبعثر من كيانها، رمم روحها المتصدعة بالظنون، اندفع ناحيتها بعدما أغلق الباب يسأل «في إيه يا فيروز جاعدة كده ليه؟»
أجلت حنجرتها وقالت «مفيش حاجة كنت قلقانة شوية يا يونس»
تنهد بصمت وهو يمد أنامله لوجهها متحسسًا له برقة، عضت شفتيها مسيطرة على انفعالاتها اللحظة وأنامله تجوب وجهها بكل هذه الرقة والنعومة الآسرة «كنتي بتبكي؟»
صمتت لا تريد الحديث عن خوفها اللحظة تخجل من تعرية مشاعرها له وتخاف أن يُدهس كبرياؤها.
توقفت أنامله عند شفتيها فلا ضوء يستبيحهما ويكشف الوجوه الممتلئة بالرغبات، الظلام يدثرها ويمنحها رونقًا خاصًا وحرية للانطلاق، أثار الهدوء من حولهما الكثير فوجد نفسه يقبلها، يمنحها مشاعره في لحظة عابرة، فكر كثيرًا في الأمر، ليالٍ يعتصر عقله حتى تعب، يحبها وحبه يجعله يغار عليها من ماضيها، من رجل أحبها قبله ولمسها قبله وكانت له يومًا، كما أنه يخاف خسارتها بقدر حبه لها فلا يمكنه إلا تمزيق الصفحة والمضي قدمًا في علاقتهما وتقبل ما كان فلا شيء يأتي كاملًا في الحياة، طوال عمره كان رجلًا يحب الكمال ويسعى إليه، خطواته محسوبة ومخطط لها حتى جاءت هي ووضعته أمام نقصًا أُجبر على تقبله، حبيبة كانت لغيره يومًا، يعيش هو أيامه الأولى فالحب معها وتكرر هي الأحداث، قد تحصل على نهاية مختلفة وربما لا ، تمنى لو عرفها قبله، رآها وكانت له وحده ،لكنها الحياة لا تمنحنا إلا نقصًا يكتمل بالرضا، ربما إن حصل على ما يريد ما أحبها بهذا القدر كزيجة رؤوف الأولى.
همس وهو يضم كفيها «مش هعرف غير أكمل يا فيروز ،كنت اتمنى أكون أول راجل فحياتك ، كل ما حبك يكبر أكتر فقلبي زادت غيرتي عليكي، و لو بعدت مش هرتاح»
همست بصوت متحشرج «أنا بحبك يا يونس محستش كده قبلك ولا خوفت عليه زي ما خوفت عليك ولا كرهت الحياة من غيره زي ما كرهتها وأنا خايفة متكونش فيها جنبي، يمكن غيرك لمسني، بس قلبي ملمسهوش غيرك »
ضم رأسها بقوة يهمس «و دِه كفاية الحمدلله ،متخافيش مني الي يحب ميأذيش، هأذيكي كيف وقلبي الي بيحبك هو الي بيعاملك، انسي الي فات هنبدأ من الأول، اديني الفرصة أعوضك عن الي فات وارسملك غيره جديد، وليكي كل الضمانات الي عيزاها»
همست وهي تتشبث به «مش عايزة غير انك تحبني و بس يا يونس و تكون جنبي ومعايا ومتسبنيش أبدًا»
أبعدها هامسًا بشقاوته التي تحبها «اتفقنا يا دكتورة الكروش قومي بقا اعمليلنا حاجة ناكلها قبل الفجر»
نهضت ماسحة دموعها بحماس وهمة عالية، تبعها للمطبخ راضيًا حامدًا الله على كل حال، مقررًا مشاركتها التجهيز والثرثرة خارج حدود الماضي في حاضرٍ جديد لهما سويًا.
*********
«في اليوم التالي»
جلس يونس شارد الذهن جوار والدته المنشغلة بخياطة بعض ملابس والده، نظرت إليه نجاة قليلًا ثم تابعت ما تفعل مستفسرة «مالك يا يونس ساكت يعني؟»
انتبه لها مُجيبًا استفسارها باستفسار آخر «خير يا أما أنتِ كنتي عيزاني؟»
وضعت ما بحجرها من ملابس جانبًا وانتبهت له بحنان قائلة «هي الداكتورة مطولة هنا يا يونس؟»
قطب مستفسرًا بمكر «ليه يا أما الدكتورة مضيقاكي فحاجة؟»
تبرأت من ظنونه نافية بجدية «لاه يا ولدي الشهادة لله البت جميلة فكل حاجة»
سألها باهتمام «أمال إيه يا أما؟»
وضعت أفكارها أمامه فوق طاولة المفاوضة «لاه بس قعدتها كده يا ولدي مش زينة وسطنا»
تنهد يونس موضحًا لها «فيروز ملهاش حد خالص يا أما ومتعرفش غير رؤوف هو الي بيراعي مصالحها»
مصمصت نجاة بشفقة قائلة بأسف «يا ضنايا يا بتي»
صمت يونس منتظرًا تاليها الذي لم يتأخر «طيب وبعدين يا ولدي»
تنحنح يونس قائلًا بغطرسة «والله أخوي بيقولي اتجوزها يا يونس واهي تقعد معانا وأنا بفكر»
ضحكت نجاة على قوله ثم توقفت ساخرة منه «بتفكر برضك!»
خبأ ابتسامته وتظاهر بالجدية قائلًا «أنتِ ايه رأيك يا نجاة؟»
لوت فمها بتهكم قائلة بعجب «بتلموهم كلهم يتامى ومقطوعين حتى ما عيالكم ما هيبقالهم خوال يسندوهم»
أجابها بمزاح «عين العقل يا نجاة ، لا حماة تزن ولا حما يوجع راسنا ولا خوات تروح وتاجي، ولو على عيالنا احنا بميت عيلة وعزوة لوحدينا ربنا يكترنا ويكتر عيالنا»
ربتت نجاة على كتفه متفاخرة عينيها تلمع إعجابًا بقوله تؤكد بفخر مماثل «صُح يا ولدي ربنا يكتركم»
نهض قائلاً «شوفي الناظر و ردي عليا»
ابتسمت مشاكسة له «قال يعني لو قولنا لاه هتسمع يا يونس؟»
عاتبها بنظرة حزينة «ليه بتجولي كده يا أما ربنا ما يحرمنا منيكم ، هسمعكم والله بس مش هعمل بالي هسمعه يا نجاة»
ضربته على كتفه بخفه فقهقه قائلًا بهيام «بذمتك يا نجاة البت الي زي لهطة القشطة دي تتساب؟ كفاية اصحى الصبح أشوف وشها»
ضحكت نجاة على قوله مؤكدة «معاك حق يا يونس هي حلوة وميستهلهاش غير البشمهندس»
انحنى ملثمًا رأسها في تقدير وثناء على قولها مستحسنًا له بغرور «شوفتي بجا كده تفهميني يا أم رؤوف»
*********
تسلل يونس ووقف أمامها متسائلًا وهو يقيمها بنظرة طويلة راضية «بتعملي إيه؟»
أجابته باستياء واضح على ملامحها وانزعاج كبير وهي تحيط خصرها بالمتر «حاسة نفسي تخنت بجد، أكل مامتك فظيع هيسدلي شراييني»
خبأ ابتسامته وقال بمكر وهو يدور حولها مستكشفًا «لاه عادي بعدين ما كلنا بناكل شوفتينا تخان؟»
قالت بأسف حقيقي «مفيش غيرنا الي بيتخن أنا وغزل وأنتم زي ما أنتم معرفش ايه ده؟»
ابتسم قائلًا «كفاية حقد يا دكتورة أنا بقول متخنتيش ولا حاجة»
أحاطت خصرها مرة أخرى وطلبت منه أن يتقدم ويرى «لا ازاي اهو شوف بقيت كام بعد ما كنت...»
راوغها بنظرة ماكرة «لاه أنتي متلخبطة وريني كده أشوف أنا»
أحاط خصرها تلك المرة واقترب منها حد الالتصاق وهو يهمس بهيام «حلو جوي والله ملفوف لفة ولا أجدعها عمود فشغلي»
محا توترها بقوله، تبخر خجلها من وصفه فأبعدته عنها بدفعها لجسده بعيدًا قائلة بتهكم «طيب روح يا حبيبي احضن العمود أحسن»
قهقه وهو يجذبها لأحضانه مرة أخرى فحاولت التملص من بين ذراعيه، حاول تثبيتها والاقتراب أكثر لكنها أبعدته بقوة رافضة ومصرّة «لا خلي العمود ينفعك»
رأتهما نجاة فتراجعت عائدة من حيث أتت، هبطت الدرج تكلّم نفسها بما رأته وهي تضرب فوق صدرها مولولة «يا مري ! اخس عليك يا يونس بجا كده دي تربيتنا ليك»
اصطدمت بطاهر في طريقها فجذبته من قميصه البيتي وجرجرته خلفها مما أثار عجبه وتساؤله «في إيه معملتش حاجة! »
وصلت به المطبخ بعيدًا عن الأعين فتركته قائلة «كلملي رؤوف دلوك»
سألها بقلق كبير «خير في ايه؟»
قالت بقلق «يونس فوق مع الدكتورة وشوفته حاضنها الواد ولا كنها مرته هكلم رؤوف يجي يشوف الغُلب دِه البت أمانة»
ضرب طاهر جبهته قائلًا بأسف كاذب «هو عملها تاني والله نبهته كتير وجولتله عيب يا يونس ميصحش والله أنا خايف يكون حصل الي أكتر من كده دِه يوماتي يطلعلها »
ضربت نجاة صدرها مولولة «يا مري يا مري ربنا يستر على ولايانا»
كتم طاهر ابتسامته مجاريًا غضبها بملامحه المستاءة فقالت بسرعة «هات التلفون أشوف الحزين دِه ياجي يشوفله حل أنا محبش الحال المايل»
سحب طاهر هاتفه واتصل بأخيه ثم انتظر يستمع لشكواها بضحكة مكتومة حين لم يخيب رؤوف ظنه وصاح «يا ساتر يارب أنا بقول ولدك دِه فيه عرق فلتان بس مباينش عليه، بيحضنها لا إله إلا الله طيب باسها ولا لسه يا أما متعرفيش؟»
ندبت نجاة حظها «يا خيبتي فيونس كمان يبوسها! »
تدخل طاهر هامسًا وهو يكتم ضحكته « شوفته مركبها فحضنه على ونس»
صاحت نجاة بقلة صبر «دلوك تاجي تشوفه يا رؤوف منقصاش أنا»
أطاع رؤوف «معاكي حق كله إلا عرض الولايا البت أمانة عندنا، علشان يعني ملهاش أم ولا أب نعمل كده إلا الظلم»
قهقه طاهر رغمًا عنه مؤكدًا قوله «أيوة إلا الظلم يا أخوي»
هتف رؤوف موبخًا «اكتم يا فضيحة أنت، هتودينا فداهية عارفك»
سحب طاهر الهاتف قبل أن ينهي الاتصال بوعد من رؤوف بالقدوم فورًا ومواجهة أخيه.
بينما انسحبت نجاة منتظرة له أمام البوابة بعدم صبر.
جاء رؤوف فورًا يكتم ابتسامته ويرتدي الجدية قناعًا ،طمأن والدته واعدًا لها بحسن التصرف وتأديب أخيه، بحث عنه رؤوف حتى وجده في الحظيرة أمام ونس يدندن «رمش خطاف والسحر أصناف وأنا قلبي يتخاف عليه يا بابا»
اقترب منه رؤوف مستغلًا انشغاله وانسجامه بينما سار خلفه طاهر متتبعًا بضحكة مكتومة ، صفعه رؤوف على عنقه مؤكدًا وهو يطلق لضحكاته العنان «صح يا بابا»
استدار يونس منزعجًا من فعلته،يسأله بنفس النغمة وهو يفرك عنقه «وبتضرب ليه بس يا بابا»
غنى له رؤوف ضاحكًا «عشان اتكشفت يا بابا» أكمل طاهر ملحنًا كلماته «وأمك شافتك بتحضن وتبوس وفضحتك يا بابا»
نظر يونس لرؤوف موضحًا يذكره خوفًا من غضبه «بس أنا متجوز ولا أنت نسيت يا بابا؟»
ضحك رؤوف قائلاً «لا أنت اللي نسيت تقفل الباب يا بابا ولبستنا فحيط آهين يا بابا»
ضرب يونس كفه بكف رؤوف ضاحكًا وهو يقول «حلو عشان أتجوز بسرعة وأخلص يا بابا»
جره رؤوف حيث تجلس والدته منتظرة حسن تصرفه، أوقفه أمامه وجلس جوار والدته يسأل بمرح ودعابة «ما قولك فيما نسب إليك يا بشمهندس الغبرة وشافته أمك»
نكس يونس رأسه أمامهما كمذنب مخطيء وقال مجاريًا له «الشيطان غاواني ورب العرش نجاني يا أخوي»
ابتلع رؤوف ضحكته وأعاد سؤاله بينما ظل طاهر واقفًا يصورهما بهاتفه للذكرى «هل أخذت منها أكثر من حضن»صمت ثم تابع بمشاكسة « رفعت راسنا ولا فضيحة عالفاضي؟»
أجابه يونس بأسف «كان نفسي والله بس الحظ»
هتفت نجاة غير راضية بما تسمع «بتجولو ايه فاكريني مفهماش؟»
هدأها رؤوف لكنها هتفت تلومه «حتى أنت يا عاقل يا كبير!»
تنحنح رؤوف مستعيدًا صلابته وهتف بصرامة «خلاص يا أما ولدك مش متربي وكاسفنا خدي فيروز بيتيها معاكي لغاية ما نتكلموا ونشوف»
هتف يونس معترضًا وهو ينظر إليه بغضب «نعم يا أخويا!»
نهض رؤوف من جلسته قائلاً بثبات يوبخه «الي سمعته يا جليل الحيا»
توعده يونس بحرقة وهو يشيّع ذهابه لحجرة الجدة «والله ما هعديها وهردهالك»
أغاظه رؤوف بضحكة متهكمة قبل أن يختفي عن أنظاره بينما هلل طاهر راضيًا بالحكم «يحيا العدل»
فركض يونس خلفه متوعدًا له بحرقة شديدة.
*******
في المقهى المتطرف
نظر له رؤوف من عليائه بغطرسة قائلًا «خير يا موسى قالولي إنك عايزني»
كتم موسى غيظه وحنقه وقال مرحبًا به يعاتبه « يا مرحب يا أستاذ اجعد يا راجل دا أنا لو هجابل المحافظ كان أسرع من كده بس معلهش لجل الورد»
بادله رؤوف القول بمكر وهو يجلس قباله حول طاولة متهالكة بإحدى المقاهي البعيدة النائية «صُح لجل الورد»
«تشرب إيه يا أستاذ؟» قالها موسى وهو يصفق بكفيه مستدعيًا العامل
فقال رؤوف بسخرية مقيتة «لاه معايزش ، الشاي بالليل بيجبلي كوابيس » كتم موسى ضجره منه وتوقف عن الطلب ثم مال ناحية رؤوف قائلًا «بص يا أستاذ أنا ميلزمنيش الواد»
نظر إليه رؤوف بتوجس وازنًا الكلمات بعقله فتابع موسى وهو يشعل لفافة تبغ «واد ولا أعرفه ولا أعرف أبوه أربيه ليه؟ أربط نفسي بيه ليه؟»
حنق رؤوف عليه من كلماته وقوله، ثار غضبه متأججًا في صدره لكنه التزم الصمت واستمع باهتمام لقوله «مستعد أتنازلك عن حضانته بورق رسمي»
بنفس النظرة المتوجسة والملامح الجامدة هتف رؤوف «وليه الكرم دِه؟»
أجابه موسى بحقد ظاهر وغيظ منبثق من نظراته «أبوي الله يرحمه كتب الأرض كلها باسم ولدك»
اندهش رؤوف مما سمعه وسارع برفض الأمر «وولدي مش عايز منكم حاجة ولا يلزمه من فلوسكم مليم واحد»
ابتسم موسى مستحسنًا يقول برضا «كده نتفق يا أستاذ»
سأله رؤوف بصبر «على إيه يا موسى؟»
أجابه موسى وهو يأخذ آخر نفس من سيجاره ويلقي باقيها بعيدًا «أنا معايزش الواد بس عايز أرض أبوي وأنت عايز الواد بس معايزش الأرض»
ضرب رؤوف بكفه فوق الطاولة حاسمًا الأمر «يبقى خلصت يا موسى»
أجابه موسى بنظرة ماكرة «لاه مخلصتش أنا عايز الأرض رسمي وأديك الواد رسمي يا أما أخد الواد بأرضه وأنا بصراحة معايزش وجع دماغ منك ولا عايز الواد فحلها أنت»
أجابه رؤوف بغضب «حلها إني معايزش منكم حاجة وأرضك عندك والواد عندي وخلاص»
هتف موسى معترضًا «لاه يا أستاذ أنا الكلام العايم دِه مياكلش معاي أنا عايز ورق عند الحكومة»
سخر منه رؤوف «ودي تتعمل كيف يا أبو المفهومية والواد قاصر؟»
هتف موسى «وأنا إيه يضمنلي لما الواد يكبر مياخدهاش مني ويقبلها على نفسه»
هتف رؤوف بغضب «مش هياخد ولدي ميجبلش الحرام»
هتف موسى معارضًا بسخرية «لاه مياكلش معايا الكلام ه الدنيا مش مضمونة»
نهض رؤوف منهيًا الحديث «معنديش حل يا موسى والي عايز تعمله اعمله وأنا كدّه»
نهض موسى هو الآخر قائلًا «بس أنا عندي الحل الي يريحنا كلنا ويخلصنا من كل دِه»
هتف رؤوف بنفاذ صبر «وإيه هو يا أبو العريف»
تغاضى موسى عن استهزائه وقال «أرض قبال أرض وتاخد الواد رسمي»
استفسر رؤوف بحاجبين ملتصقين «يعني إيه؟»
أجابه موسى «تكتبلي أرضك بيع وشرا قصاد الأرض الي هتاخدها أنت وولدك وأكتبلك حضانته ويا دار ما دخلك شر»
ضحك رؤوف منه بسخرية «بتحلم أنت؟ أديك أرضي مقابل أرض أنا معيزهاش»
هتف موسى بحدة «بضمن حقي ودِه مش عيب»
صمت رؤوف فقال موسى قبل أن يتركه ويرحل «فكر زين يا أستاذ فكلامي وأنا مستني ردك أنا معايزش أأذيك ولا فاضي لوجع الراس وأنت راجل معاك مكتبك وشغلك وناسك ومناقصش خوتة ولا فاضي»
ختم كلماته بسلام عابر لم يرده رؤوف الذي سار نحو منزله مُفكرًا في الأمر بجدية.
*******
جلس رؤوف بينهما قائلًا بمودة صادقة «وحشتوني جوي يا خالة وأنت يا عبود»
ابتسما بحنان فقال عبود وهو ينظر إليه بإمعان مدققًا النظر في ملامحه «وحشتني يا حبيبي»
أدمعت عيناه تأثرًا بمحبته، رغم أنه سمعها منه كثيرًا لكنها الليلة مختلفة كأنها إمضاء على ورقة ممتلئة السطور بالمواقف والحكايا.. ربتت تماضر على ركبته متسائلة بحنان «اتعشيت ولا هتتعشى معانا»
قبل أن يجيبها هتف عبود بنظرة متجهة للسماء بخشوع «بدعيلك ينجيك يا ولدي عشمان فحبيبي ينجي حبيبي»
ابتسم وقد لمست دعوات عبود وترًا حساسًا و أصابت هدفها فقال «فيه حلم كده كنت عايز أحكهولكم»
نهض عبود بنظرة فزعة، هرب من الجلسة بملامح رافضة وهو يقول برجاء «متحكيش يا ولدي ادعي كتير وبس»
استوقفه رؤوف بندائه «تعالى كُل معانا طيب»
أجابه وهو يبتعد عنه «أنا في الجامع يا حامد هستناك هناك تجيني متتأخرش » شدد على قوله
«متنساش يا حامد أنا في الجامع يا ولدي» قطب بغير فهم يسأل تماضر الصامتة بحزن عتيق «ماله دِه؟»
صرفت فكره عن ما قاله عبود قائلة «متشغلش بالك هتعرف فوقتها بس جولي جاي تشورني فايه؟»
تنهد رؤوف باستسلام قبل أن يبدأ في شرح الأمر لها جيدًا.
بعد خروجه من عند خالته هاتف موسى مُعلنًا له موافقته سيقايض أرضه بصغيره، سيضحي بما يحب لأجل من يحب.
*********
عاد للمنزل فوجدها أمام المرآة ابتسم وهو يقترب منها بعدما دعته للدخول فأحاطها بذراعيه أمام المرآة ينظر إليها عبرها بعشق وهو يلثم، رأسها، خصلاتها، وصدغها، همست وهي تنظر لصورتها عبر المرآة «يا لهوي»
ابتسم متسائلًا بحنان وهو يستنشق عطر خصلاتها «يالهوك ليه»
أدارت رأسها تنظر إليه قائلة بنظرة منبهرة غارقة في العشق «كنت نسيت الي فوشي»
أعادت نظراتها للمرآة تتحسس خدها المتجهم قائلة «من كتر ما شوفت نفسي بعنيك نسيت أشوفها بعنيا، استبدلت عيني بعينك فبطلت أشوفه»
مال ملثمًا خدها بقبلات بطيئة رقيقة وناعمة فأغمضت عينيها متنهدة تستقبل عاطفته بعطش، بصوت رائق همست وهي تفتح عينيها معاودة النظر للمرآة «ملامحي اتغيرت» قالتها وهي تتحسس خدها ورقبتها فهمس بنظرة مغرمة مثقلة بالمشاعر وهو يحك أنفه في رقبتها «كبرتي سِنّة وكل ما تكبري هتحلوي أكتر»
ابتسمت هامسةً بصدق وعينيها تغازل عينيه في المرآة بحديث صامت «احلويت علشان بقيت باسمك، بقيت ليك ، لا لنفسي ولا لحد غيرك، ملكتني يا رؤوف وكل حاجة اتغيرت»
دفن وجهه ما بين كتفها وعنقها هامسًا «هتوحشيني جوي»
انتبهت لحديثه مستفسرة وهي تستدير بين ذراعيه «بتقول كده ليه؟»
راوغها محتالاً عليها بارتباك «لاه عادي عشان هطلع وراجع بالليل»
أحاطت وجهه بكفيها هامسةً «بعدين فيك النهاردة؟» ابتعد عنها ضاحكًا بمرح، جلس عند مكتبه قائلًا «ايه رأيك أكتبلك رسايل زي زمان تخليها معاكي ونس»
وقفت بالقرب منه قائلة وهي تداعب خصلاته بأناملها «هتكتبلي إيه؟»
سحب ورقة بيضاء وقلم ثم رفع رأسه قائلًا «هكتب إني مكنتش عايش قبلك وكنت إيه وبقيت إيه وكيف مليتي قلبي و روحي»
جلست أمامه فوق المكتب قائلة «واكتب إني حبيت حامد وعشقت رؤوف وتوهت بين الاتنين من جمالهم»
ترك ما بيده وضمها، وضع رأسه على صدرها فأحاطتها ، تنهد قائلًا «متنزليش خليكي معايا النهاردة لغاية ما أمشي عايز أشبع منك»
•••••••••••••
بعد مرور وقت هبط الدرج متنحنًا حتى وصل حيث تجلس جدته قبّل كفها وربت فوقه مثبتًا قبلاته فدعت له بصدق
جلس بالقرب منها قليلًا فتجمعوا جميعًا حولهما، مال يونس قائلًا باستعجال واضح «إيه مش هتطلبلي يد الدكتورة؟»
ضحك رؤوف وقال مضيقًا نظراته فوق وجهه «بعد ما حضنت وبوست»
كتم يونس ابتسامته وهمس «دي تصبيرة يا أخوي عايزين نتدلع زيك»
هز رؤوف رأسه مستعيدًا الذكرى «الله يرحم ما كنت عاملك عقدة في الجواز ونازل تقطيم فيا ليل نهار»
همس يونس معتذرًا بنظراته «كنت مثال يحتذى به في الخيبة دلوك في الدلع، فتحتوا نفسنا عالجواز»
عاتبه رؤوف بنظرة متوعدة «أما إنك قليل رباية صُح»
ضحك يونس فأشاح رؤوف يتابع زوجته بنظراته، سأله يونس باهتمام «برضو هتنفذ الي اتفقت معانا عليه؟»
أجابه رؤوف بتنهيدة مستسلمة «أيوة»
أطبق يونس شفتيه داعيًا له بصدق ومودة حقيقية «ربنا يسلمك من شره وتعدي على خير»
أمّن رؤوف خلفه قبل أن ينهض مستأذنًا المغادرة للحاق بموعده.
في المقهى الصغير المتطرف جلس رؤوف ممسكًا بكوب الشاي خاصته المطعّم بالنعناع والقرنفل كما يحب، يطالع السماء بعشق وهو يدندن باستمتاع، قطع عليه استمتاعه ظهور موسى أمامه بنظرة منتصرة «ازيك يا أستاذ»
رحّب به رؤوف بابتسامة مُربكة قلّ ما يجود بمثلها ونظرة متألقة تعجب منها موسى لكنه سكت فهو دائما ما يراه مختلًا، أخرج موسى الأوراق ووضعها أمامه قائلًا «كنت عارف انك هتوافق والله»
منحه موسى القلم فابتسم رؤوف ابتسامة واسعة وأجابه «ودِه برضو عرض يتفوت يا موسى» قهقه رؤوف باستمتاع ثم أردف بنظرة شامتة «يا راجل دا أنت جبتهالي على طبق من دهب»
توجس موسى خيفة لكنه نفض الأفكار المزعجة من رأسه مكتفيًا بنصره الصغير وفرحته باسترداد حقه، بعد قليل مرّ العامل من جوار موسى بهرولة حين ناداه أحد الزبائن ، اصطدم بموسى فسقطت العصائر فوق ملابس الأخير الذي نهض موبخًا العامل لاعنًا له ينفض ملابس بحنق وقرفٍ شديد بينما انشغل رؤوف بمراجعة العقود و وضع إمضائه عليها بمتعة خاصة حتى أنهى ما أمامه فقال منبهًا له «خد يا موسى»
جذبها موسى بسرعة ليرى فابتسم حين رأى اسمه مطبوعًا على الأوراق
أخذ القلم منه بحماس شديد ووقّع له أوراق التنازل عن حضانة قاسم بحماس شديد، ما إن انتهى حتى جذبها رؤوف شاكرًا وطواها بعناية وهو ينهض قائلًا «بالشفا يا موسى»
انشغل موسى بقراءة الأوراق غير منتبهٍ لقوله ولا مهتمًا به ، لا يصدق أنه أخذ حقه بتلك السهولة.
*********
في الصباح استيقظ رؤوف على صوت موسى «جوم يا أستاذ»
فتح رؤوف عينيه ورفع جسده قليلًا مستكشفًا ما حوله بنصف وعي، سخر منه موسى «ايه بتودع الأرض ولا إيه؟»
اعتدل رؤوف جالسًا، مسح وجهه وأجابه بابتسامة ساخرة «أيوة»
قال موسى وهو ينظر للأرض الممتدة «طيب قدامك اليوم كله تلم حاجتك وحالك والرجالة هيجعدوا هنا عشان يشوفوا الأرض محتاجة إيه»
هتف رؤوف بنبرة استسلام ورضوخ لم يستسيغها موسى «ماشي يا موسى كتر خيرك»
دخل رؤوف المنزل وأغلق خلفه بينما مضغ موسى قطعة حشيش وهو يدندن برضا واستمتاع... بعد قليل خرج رؤوف من منزله صعد سيارته الواقفة بالقرب منه وغادر يشيعه موسى بنصف وعي.
بعد مرور ساعة جاءت الشرطة بصحبة رؤوف الذي أتى بهم على وجه السرعة بعدما ذهب يستغيث من هذا المحتال الذي تهجم عليه وأخذ أرضه رغمًا عنه «اتفضل يا باشا دِه موسى»
نهض موسى مستفسرًا «في إيه؟»
أجابه الضابط بعملية «الأستاذ رؤوف مقدم فيك بلاغ بإنك استوليت على أرضه بوضع اليد وكمان اتهجمت على بيته»
هتف موسى وهو ينظر لرؤوف الهادئ جوار الضابط «أرض إيه واتهجمت إيه، الأرض دي أنا اشتريتها منيه و هو بعهالي»
تدخل رؤوف نافيًا «محصلش»
ضرب موسى كفًا بكف قائلًا «إيه هو الي محصلش يا مخبول أنت»
هتف رؤوف وهو يحك ذقنه باسترخاء « و آدي سب وقذف»
هتف الضابط بعصبية «معاك ما يثبت إنه باعلك؟»
هتف موسى وهو يخرج الأوراق من جيبه «أيوة أنا جبتها معاي»
منحها للضابط الذي فردها أمامه فقال رؤوف ما صدم الأخر وهو ينظر لعينيه بقوة متشفيًا فيه «الإمضا دي مش أمضتي والورق دِه مزور يا حضرة الظابط ، أنا بتهمه بالتزوير» ختم قوله بابتسامة جعلت موسى يندفع ناحيته بعصبية مهددًا له بغير وعي «يا ابن.... والله ما هسيبك»
ثبت الضابط جسد موسى محذرًا بحدة «اقف عندك»
زمجر موسى بغضب وهو يحرق رؤوف المبتسم بانتشاء بنظراته المشتعلة الحاقدة.
هتف الضابط «لملي يا ابني الرجالة دي» ثم التفت لموسى قائلًا «وأنت تعالى معايا نشوف حكايتك احنا ما صدقنا خلصنا من أبوك تطلعلنا أنت»
قالها الضابط بتأفف وهو يدفع موسى أمامه بينما هتف رؤوف «أنا جاي وراك يا حضرة الظابط»
ما إن صعد رؤوف سيارته حتى انفجر في الضحك متذكرًا امضته بيساره وخطه المهزوز وكيف سهل ما حدث لموسى من العامل الأمر فنفذ الفكرة فورًا مستغلًا انشغاله.
**********
في المساء عاد للمنزل، حكى لهم ما حدث وهو يضم رأس قاسم لصدره مقبلًا له، أثنى الجميع على تصرفه وذكائه وحدها زوجته انقبضت بضيق، وظلت صامتة غير منبهرة بخطته ولا مُعجبة ،بل يصرخ الخوف داخلها والقلق يقتلها من القادم.. لاحظ رؤوف ذلك فصمت ،شعر بها دون حاجة للتوضيح، أحسّ بمعاناتها ورآها في نظراتها فصمت، هو لا يملك ما يطمئنها به.
هتف قاسم بفرحة «يعني خلاص محدش هياخدني منك يا أبوي؟»
أجابه رؤوف بابتسامة دافئة «ولا حد يقدر يا بابا»
ضمه قاسم شاكرًا «الحمدلله ربنا ما يحرمني منك»
ابتسمت غزل رغم حزنها وبكت متأثرة بما يحدث بينما هتف يونس «يلا ارجع زي ما كنت ومتخافش»
هتف قاسم وهو ينظر لأبيه بإعجاب مُلقبًا له «أنا أبوي سوبر هيرو كيف أخاف»
ضحك الجميع على قوله قبل أن يلتفوا حول العشاء بصمت.
قرر رؤوف العودة لأرضه والمبيت بها رغم رفض غزل وبكائها حاول تهدأتها كثيرًا وطمأنتها لكنه فشل في ذلك، تشبثت به رافضة مغادرته وحده فاضطر لأخذ يونس معه حتى تطمئن عليه وأنه لن يكون وحده هناك.
شيعته بالدموع حتى غاب عن نظراتها واختفى وبعدها لم تبرح فراشه حتى نامت متعبة من الخوف والقلق والبكاء.
********
بعد مرور أسبوع "ليلة النهاية"
دخلت الشقة منادية عليه بعدما أغلقت الباب خلفها، فتشت في المطبخ عنه وخرجت ممسكة بهاتفها تحاول الاتصال به فخرج لها من حجرة نومه ممسكًا بالهاتف وعلى وجهه استراحت أروع ابتساماته وأجملها، فغرت فمها منبهرة بطلته الجميلة بدلته الأنيقة جدًا وخصلاته المصففة بعناية ورائحته التي ملأت المكان وأنعشت حواسها، بدا ساحرًا سلب منها وعيها، سرق نظراتها عنده تحتضنه «رؤوف»
اقترب معاتبًا بنفس الابتسامة وعينيه مسلطة عليها تمرّ على ملامحها ببطء، يرسمها اللحظة بريشة قلبه الصب «مشبعناش منهم؟ مش بجولك اطلعي »
رمشت بعينيها منجذبة له لا تقدر على نزع نظراتها منه ولا مجاراته والانتباه لقوله مأخوذه بهيئته المهندمة منتشية برائحته المسكرة،مغيبة بعشقه «أنت حلو كده إزاي وليه؟»
ابتعد عنها قليلًا بضحكة بعثرت دقات قلبها، انحنى يحمل شيئًا من فوق الأريكة وعاد إليها قائلًا وهو ينظر لعينيها الغارقة فيه بفتنة«إيه رأيك؟ تتجوزيني؟»
فغرت فمها بدهشة تستوعب عرضه الممهور بجمال طلته وسحره، ابتسم قائلًا بصدق «الجوازة الأولى من غير جلب جوازة عقل لا فرحت ولا حسيت، وأنتِ جوازة القلب والعقل والروح» ختم قوله بتنهيدة يقين وابتسامة تُذهب الأوجاع وتنشر السعادة
رمشت بأهدابها تحاول استيعاب ما يحدث لكنها كل مرة تفشل حين ينظر إليها هكذا كتحفة ثمينة، كحلم جاء الأمر بتحقيقه ،كانتصار انتظره بعد هزيمة، مدّ ذراعيه بالفستان قائلًا برجاء حار كعاطفته «البسيه يا غزل عايزك الليلة عروسة ليا لوحدي بتاعتي أنا وبس، ميشوفكيش غيري ولا يلمسك غيري ولا يشم عطرك الليلة غيري»
وقفت نظراتها على الفستان بنظرة فريدة متألقة بينما ظل هو صابرًا ينتظر رأيها، يرتشف ملامحها على مهل وببطء، كرر بنبرة عاشقة «تتجوزيني يا غزل؟ تتجوزي حامد الي مشافش جلبه غير الغريبة ، تتجوزي رؤوف الي محسش بواحدة غيرك ولا اتمنى غيرك جاره»
بكت متأثرة بقوله و رقته، تريد للحظة أن تطول؛ لتظل مستمتعة بما يقول، متنعمة بنظراته الحنونة الساحرة ،قلبها ينبض بعنف لا يستوعب تلك المفاجأة الخطيرة منه. قدّم لها الفستان مرة أخرى برغبة أكبر فتناولته هامسةً «موافقة وراضية ومبسوطة»
شرط عليها بمشاكسة ونظرة شقية «استعدي وناديلي ألبسهولك أنا ،يدي هي الي تفرده عليكي»
همست غير مصدقة «رؤوف أنا حاسة إني بحلم»
ضم وجهها بكفيه هامسًا بحرارة وهو يضم كل ما فيها بنظرة مفتونة «أحلى حلم يا حبيبي مش عايزك تنسيه خالص ، الليلة أنا ملكك زي ما أنتِ ملكي،أؤمري تلاجي الي عيزاه تحت رجلك »
أومأت بخجل ثم انسحبت من أمامه للحجرة، ظل هو بالخارج منتظرًا لها بشغف ولهفة حتى نادته فدخل، ساعدها في ارتدئه ثم وقف مقيّمًا لها بنظراته «ماشاء الله لاقوة إلا بالله مفيش أحلى ولا أجمل منك»
اقترب وضمها بين ذراعيه بحنان ثم ابتعد ليتمم عمله، أجلسها أمام طاولة الزينة وبدأ في تصفيف خصلاتها كما يحب، وضع فوق شفتيها أحمر الشفاه المفضل له ثم نظر لعينيها بعمق نظرة نفذت للقلب المثقل بعشقه، منحها نظرة إعجاب متألقة وبعدها نثر العطر الذي يحبه.. صنعها على عينه هو وبلمسات قلبه ،هي عروسه ، اختيار قلبه فلتكن بزينة يديه، سحبها للخارج ومازالت هي مسحورة منقادة غارقة فيه لا تملك وعيًا للتجديف به بل غارقة فيه، ضم خصرها بكفيه وقربها منه مشاكسًا «فوقي شوية وخليكي معاي»
سألت بعفوية وبراءة «أمال أنا مع مين يا أسمراني؟»
ضحك برقة فهمست بإعجاب «اسمحلي أنا عيزاك تلبسلي الجلابية كمان بموت فيك بيها يا حامد»
ابتسم قائلًا بطاعة «أنتِ الليلة تطلبي بس وأنا أنفذ»
سألته وهي تتمايل بدلال بين ذراعيه «طيب عيد جوازنا نحسبه من أي ليلة علشان نحتفل بيه؟»
ابتسم قائلًا بمرح وهو يغمز لها بعينيه «معنديش مانع نحتفل بيه كل ليلة»
همست وهي تحيط عنقه بذراعيها
«عايزين نروح بيتنا ونحتفل هناك كمان يا حمودي»
وافق فورًا وهو يضمها لصدره «يا سلام بكره نروح ونحتفل يا غريبة»
*********
لعنت والدة موسى الغادر متوعدة له وهي تقطع البهو ذهابًا وإيابًا برأس مشتعل يدبر الخطط «الخاين عملها فينا، ختمنا على قفانا ولبسنا طرح»
ضرب موسى كفًا بكف في غيظ وهو يقول «يا ما نفسي أقطعه بسناني»
جلست منهكة من السير، تنظر لما حولها بضياع وقلة حيلة لأول مرة بعدما قيدها رؤوف بأفعاله، شلّ تفكيرها الخبيث بمكره «لازم نتصرف وناخد حقنا، الورق بتاع الحضانة لازم يتسرق حتى لو هيبجا فيها دم»
عض موسى قبضته وهو يتململ على جمر الغيظ «أنا يا قاتل يا مقتول والله ما هعديها»
قالت كأنما وجدت بغيتها في قوله منشرحة الصدر للفكرة تجد فيها عزاءً مناسبًا لخديعته وعقابًا يناسب جرمه «وماله اقتله، لو مطولناش حاجة مش هنبكي على حاجة، اخلص منه»
كتمت زينب أنفاسها حين سمعت قولهما وفحيح شرهما، استدارت ببطء مقرر النجاة بما تبقى لها من وعيها والهرب لحجرتها حتى لا تُدان بالتنصت فتجد شهاب جنونهما رصدا والعقاب يتبعها.. في أثناء هرولتها تعثرت وسقطت متأوهة فالتفت موسى لها بجمرتين مشتعلتين، رؤيتها جددت في عقله كل الخدع التي تعرض لها، طفا غضبه حينما تذكر عشقها للغادر فنهض كعاصفة، ركض ملتهمًا الدرج فنهضت بسرعة وركضت أمامه بذعر حينما تبيت الشر في عينيه ورأت توعده، أمسك بذراعها فصرخت مستغيثة، جرها لحجرتها قائلًا «حبيب الجلب»
نفت عن نفسها التهمة وهي تتملص من قبضته «لاه لاه والله دا أنا بكرهه»
صفعها بقوة غلّه ثم دفعها أرضًا يحوم حولها كحيوان مفترس، زحفت وهي تنظر إليه بتوسل حتى اصطدم ظهرها بالحائط فبكت بحرقة، جذبها من خصلاتها بنظرة مفترسة قائلًا «إيه رأيك تجتليه أنتِ يا زينب؟»
لوحت بكفيها رافضة بذعر فضرب رأسها في الحائط قائلًا «مفيش لاه هو الي ورطك وورطني فيكي روحي اجتليه وأنا أطلقك ولو مجتلتهوش هجتلك أنا وأرميكي للديابة»
سقطت أرضًا متأوهة بتعب، جسدها فقد القدرة على الدفاع والمواجهة فظلت مكانها تئن بوجع، ركلها عدة ركلات بما امتلك من حقد تجاهها وتجاه الغادر ثم رحل وتركها مكانها تتألم.
**********
«في اليوم التالي»
نظرت من النافذة وهي تفرك كفيها فرأت الغيوم تتجمع منبئة بهطول المطر«الجو تحفة يا حامد»
اقترب منها وأغلق النافذة لائمًا لها بحنان ورفق«مش جولت برد عليكي يا غزل»
شملته بنظرة هيام واضحة ثم تعلقت برقبته هامسة وهي تتمايل بين ذراعيه التي أحاطتها تلقائيًا «لو قولتلك نطلع في المطر نتمشى ولا حتى نرقص»
تركها كمن يترك الفكرة، تخلى عن جسدها وتراجع رافضًا «واه واه حصّلت عيزاني أرقص معاكي في الشارع»
أعادته إليها حينما ابتعد، قربته منها قائلة «وماله يا أستاذ»
أبعدها عنه ساخرًا من قولها «لاه دا أنتِ هربت منك»
ركلتها الصغيرة ففغرت فمها وتسمرت مكانها مندهشة تتبع الركلات بكفها وهي تضحك، التفت مستفسرًا عن سبب ضحكاتها فأشارت بنظرة منبهرة لبطنها «حامد آسيا»
تعلقت نظراته تلقائيًا ببطنها المنتفخ في عدم فهم فصاحت «آسيا بتتحرك»
اندفع ناحيتها بلهفة يقتسم معها الإحساس بوجود صغيرته وقطعة روحه، إطلالة الصغيرة الأولى ورسائلها إليهما، مرر كفه على بطنها برفق وحنو كتحية وهو يهمس بلمعة عينين آسرة «آسيا يا بابا» كأنما استمعت لندائه الحنون فركت ما أسفل كفه تلبيةً لندائه، نظر لزوجته متسع العينين بضحكة ثابتة «غزل آسيا» قالها وهو يتتبع حركات الصغيرة بكفه في شغف كبير وانبهار بتلك المشاعر الجديدة الفريدة يلمس حلمه أخيرًا بعد سنوات، يطارد أمنيته الصغيرة ويشعر بكل ما حرم منه.
أغرورقت عينا غزل بالدموع وهي تتأمل انفعالاته وتفاعل مشاعره مع الصغيرة، ملامحه الجميلة وقد ازدادت بهاءً بفرحته، مالت ملثمة شفتيه وقد شغفها حبًا برد فعله المبهر والخاطف، ضحكت على طفولية فعلته حين انحنى واضعًا أذنه على بطنها، تخللت خصلاته بأناملها في رقة مداعبة لها.. قبّل بطنها هامسًا بتوق «وحشتيني يا بابا جوي استنيتك كتير»
همست برقة «حمودي كده هغير منها كفاية»
انتصب واقفًا يشكرها بامتنان حقيقي «حققتيلي الحلم يا غزل لو طلبتي حتة من روحي مش هتأخر، هيجي للدنيا حتة مني»
نادته تماضر «يا حامد» لثم كفي زوجته وخرج مُلبيًا بطاعة فأشارت إليه أن اجلس، فتربع جوارها قائلًا «أأمري يا خالة»
ابتسمت قائلة «انده مرتك يا حامد وهاتها جارك»
فعل ما أملته عليه، جاءت غزل بسرعة وجاورته ملتصقة به تأملته قليلًا مبتسمة ثم همست «أنت قمر ليه انهردا يا حمودي وتتاكل كده»
لكزها معاتبًا بنظراته موبخًا لها «أنتِ فضحانا علطول ما تتلمي شوية »
نظرت إليه بحدة تنفخ بحنق فضحكت تماضر على صبيانيتهما ومشاكساتهما التي تملأ الأجواء فرحًا وسرورًا، ضرب البرق والرعد إنذارًا بهطول المطر فذكر حامد الله بخشوع، أخرجت تماضر من سُرّة صغيرة خاتمًا ذهبيًا لامعًا ومنحته لحامد قائلة «لبسه لمرتك»
قطب متعجبًا من طلبها يعارض القول «ليه يا خالة دِه بتاعك وغالي عليكي»
ابتسمت قائلة «مفيش أغلى منك ودِه كانت هديتي الي شيلاها لمرتك وحبيبتك»
هتفت غزل بمشاكسة مرحة «ما هو كان متجوز يا خالة»
ابتسمت تماضر قائلة برضا «لاه أنتِ جلبه، الأولى كانت مرته مش حبيبته»
نظرت غزل لعينيه هامسةً بهيام «ما تقوليلي يا خالة حامد شايفني إزاي بعينك»
اختصرت تماضر المعنى في كلمة قصيرة «أرضه» ثم تابعت بصدق وصوت رخيم ساحر
«أرضه يا بتي الي بيعشجها وبيزرعها وهو مطمن، الي بيديها وتديه عارف كل حبة تراب فيها وعرفاه، ورضا جلبه الي عاش محروم منه، سقف بيته ودفاه الي بيلاجي فيه راحته»
أمسكت بكفه تلقائيًا غمرته بدفء نظراتها وطوقته بانفاسها، سحب كفها وهو لا يحيد بنظراته من عليها، ألبسها الخاتم ولثم كفها بتقدير فهمست «الي اتسرق صح؟»
أجابها بفهم وهو يضمها بنظراته «خدته ونضفته زين ولمّعته»
رفعت كفها متأملة بريقه بإعجاب قبل أن تخفضها وتشكر تماضر «شكرًا يا خالة» أتبعت قولها بقبلة تقديرية على كفها المتغضن، سمعت غزل صوت طاهر فنهضت قائلة «طاهر جه» اتجهت للباب مهرولة فتحت لهم جميعًا مستقبلة بحفاوة «تعالوا»
دخل طاهر ممسكًا بقاسم وخلفه يونس»
ضم قاسم والده ثم افترش الأرض بكليم ليجلس عليه عماه هتف طاهر بحماس «هجوم أعمل شاي»
أوصاه رؤوف «حطلي نعناع وقرنفل يا طاهر»
جلس قاسم بأحضانه والده الذي تجاذب أطراف الحديث مع يونس عن ترتيبات زواجه وتجهيز شقته، فجأة شعر رؤوف بانقباضة صدر مخيفة، ثقل الهواء فباتت الأنفاس ثقيلة من حوله، وضع قاسم ونهض بغير هدى، توضأ وذكر الله تحت نظرات زوجته المتعجبة من فعله في هذا الوقت، وقف قليلًا عند صنبور المياه صامتًا كل ما فيه يرتج فاقتربت منه مستفسرة بحنان «تعبان يا حبيبي أجبلك البرشام؟»
هز رأسه بالرفض قبل أن يعود لمكانه، وقبل أن يجلس سمع على الباب طرقًا عصبيًا حادًا ينبيء بعجلة صاحبها، خرج يهتف «مين»
وجدها أمامه متشحة بسواد الملابس والهم، ملطخة الوجه بالخوف، يتناثر الذعر من نظراتها فانقبض قلبه بغم«خير اللهم اجعله خير جياني ليه يابت الناس ناقص أنا»
نظرت حولها للمكان بفزع أثار في نفسه انقباضة مؤلمة أذهبت الأمان وأرسى قواعد الهم في قلبه الذي يعلو ضجيجه..«هربت من موسى خبيني عندك يا أستاذ»
أغلق الباب وواجهها بعصبية «أنتِ مخبولة ولا مخك مشتوت»
توسلته وهي تحاول الإمساك بكفه وتقبيلها «أحب على يدك يا أستاذ محدش هينجدني غيرك ولا هيحميني منه غيرك»
سحب كفه بعيدًا حين علم بنواياها، تراجع خطوة قائلًا «وأنا مالي دِه جوزك»
قالت ببكاء مستغيث «أنت الي رميتني الرمية دي وميلت بختي ذنبي فرقبتك، خلصني منه بدل ما هموت فيده وتشيل ذنبي»
هتف مستنكرًا قولها بعصبية «ذنبي أنا ولا شيطانك أنتِ، هو الي أنا فيه دلوك مش بسببك»
توسلته وهي تنظر حولها بهلع مخافة أن يراها أحد رجاله المنتشرين «انجدني منه وهبعد عنك خالص هسيب البلد وامشي»
زفر بنفاذ صبر وضيق من محاصرتها له وهذا العبء الثقيل «امشي الله لا يسيئك وسبيني فحالي»
صرخت بانهيار «حرام عليك دا أنا قالي أقتلك مرضتش برضو، مهونتش عليا وجيت هربانة، كل يوم ضرب وبهدلة»
لانت ملامحه القاسية، تنهد بضيق وبعض الندم يتسلل لقلبه مما فعل وهو يرى آثار التعذيب واضحة تؤكد كلامها.
خرج يونس متحفزًا بعدما وصله صوتها، صاح في وجهها «امشي يا ست وسبينا فحالنا متلبسناش مصيبة»
بينما وقفت غزل متابعة بعينيها ما يحدث في نفور وضيق، لولا خوفها من غضب زوجها لخرجت لها هي وواجهتها بغلظة وفظاظة كفها.
في لحظة مشئومة انتشر رجال موسى حولهم، فمسح رؤوف وجهه في استسلام... اندفع يونس للداخل مفتشًا عن سلاح أخيه في استعداد
أما طاهر فسحب أخته مطمئنًا لها،لم تستطع السيطرة على ارتجافة جسدها ولا خوفها الذي أثقل قدميها اللحظة، هتفت بنبرة مستنجدة «موسى ورجالته بره يا خالة» ارتج قلب تماضر لكنها صمتت خوفًا وحذرًا حتى لا تُرعب الأخرى التي تتنفس الآن بسرعة مهلكة وعينيها مثبتتة على الباب ترهف السمع، تُطمئن نفسها بانتقاء صوته من بين الأصوات وتتبعه مخافة أن يغيب..
جلس قاسم جوارها يعاني مثلها فضمته محتمية به من هواجسها والخوف الذي يلاحقها.
أحاط طاهر ويونس أخيهما عن اليمين وعن الشمال، تاه رؤوف وتشتت لا يرضى بوجودهما ولا يعجبه تصدرهما، شلّ تفكيره الخوف عليهما فصمت، بينما التفتت زينب شاهقة بهلع حين هتف موسى «والله عال يا زينب، أنا لو قتلتك دلوك أنتِ وهو مش هكون ظالمكم»
اختبأت خلف ثلاثتهم فتركوها رأفة بها وبضعفها، أخذ رؤوف نفسًا عميقًا وهتف «عايز إيه يا موسى؟»
أجابه موسى كمحاولة أخيرة «عايز الواد والورق»
هتف رؤوف والقلق يعربد داخله رغم ثباته « مفيش وامشي بدل ما أجبلك الحكومة»
انتفضت غزل حين هتف بالحل، نهضت مهرولة لحجرتهما مستنجدة، بحثت عن هاتفه حتى وجدته، نقرت مفتشة عن اسم زين مقررة الاستنجاد به اللحظة، لم يدم انتظارها كثيرًا أجاب زين بمرحه المعتاد «أيوة يا حفناوي أخبارك»
لم يجد ردًا ولا صدىً لقوله سوى لهاثها العنيف ومحاولتها الفاشلة في الرد، انتفض زين مهدئًا «ممكن الي بيتكلم يهدأ رؤوف بخير؟»
سخّرت كل قوتها اللحظة وشجعاتها، جرّت الكلمات جرًا من صدرها لحلقها الجاف «لو سمحت يا حضرة الضابط موسى...» داهمتها نوبة البكاء فحاولت السيطرة عليها بفشل، سأله بخوف وهو يستعد للمجيء «أنتم بخير.. جوزك وقاسم»
وقف قاسم خلفها يستمع بقلق، أخرجت الكلمات بشهقة عالية «موسى ورجالته حاوطوا المكان ورؤوف وأخواته لوحدهم معهمش سلاح ولا رجاله»
طمأنها زين «متخافيش حالًا هاجي اطمني»
أنهت الاتصال وهرولت بسرعة للخارج تمرر أذنها على الباب والحوائط تبحث عن صوته كالغريق الذي يريد قشة يتمسك بها، تسرب صوته من الحائط لقلبها الموجوع فهدأت قليلًا واسترخت داعية له.
هتف موسى بغيظ «ضحكت علي ومسخرتني»
أجابه رؤوف بغطرسة «أنت الي اخترت»
سمع رؤوف صوت رأفة تناديه من بعيد فالتفت للطريق بخوف، رآها تركض من بعيد ممسكة بورقة بيضاء.. ارتبك خوفًا من أن يصيبها مكروه بسببه أو تُقحم في الخطر رغمًا عنه.. أشفق عليها فحاول إيقافها «ارجعي يا بابا روّحي عالبيت»
لكنها ضحكت مُبشرة له «طلعت الأول ياعم وقاسم كمان»
التفت رؤوف لأخويه في ارتباك وتوتر نُقِل إليهم فرفع يونس سلاحه استعدادًا، خطا رؤوف ناحية رأفة فارتبك موسى وخاف أن تكون خدعة منه كسابقتها ويُتهم بالغباء وسوء التصرف ثانية، فقرر البدء بإطلاق النار والانتهاء من الأمر.
تراجعت رأفة حين أطلق موسى أسفل أقدامهم للتنبيه نظرت لرؤوف بخوف فابتسم وأشار لها أن تغادر لكنها ظلت واقفة بشجاعة.
حين استدار رؤوف لإنهاء الأمر سبقه موسى وأطلق الرصاص على صدره وظهره، فأطلق يونس على ذراعه..
انسحب موسى برجاله يعرج بساقه، بينما رمى يونس السلاح أرضًا وانهار على ركبتيه متلقفًا جسد أخيه المُضرج بدمائه بين ذراعيه،ركضت رأفه مذعورة حتى وصلت إليه، جلست قربه واضعة الشهادة على صدره في فعل عفوي لإيقاف الدماء وهي تهزه منادية عليه بصوت مبحوح «يا عم متموتش»
جلس طاهر عند رأسه مصدومًا زائغ النظرات، رفع رؤوف كفه الملونة بالدماء وربت على خد رأفة ملونًا له يهمس «مبروك يابابا»
خرجت راكضة حافية القدمين، خطت أمامه وتحت نظراته، محملقة في جسده المسجي بذهول، نظر إليها بأسف، نظراته تتوسلها السماح والعفو عنه حتى يغادر بسلام، ونظراتها تتوسله البقاء وعدم بعثرة العمر، كل خطوة قطعتها ناحيته استعادت ذكرى لهما في عقلها حتى وصلت إليه وجلست قربه، تسلل كفه لكفها في غفلةٍ ونظراته لا تبرح وجهها الحبيب، همست «وعدتني»
دون كلام ضم أناملها بكفه،وضعت جبهتها على صدره باكية و من خلفها كانت تماضر تناديه «ولدي حبيبي ضنايا»
جلس قاسم عند ساقه باكيًا ببؤس.. وصل زين فوجده مكانه وهم حوله ضم رأسه بكفيه ودار حول نفسه يلوم نفسه وتأخره..
ضغط رؤوف على أنامل زوجته بابتسامة طفيفة قبل أن يسحب كفه ويضعها على بطنها بنظرة متحسرة يوصيها دون كلمة، صرخت فيهم وهي تمسك بكفه وتثبتها على بطنها.
«إسعاف»
*******
بمنزل آل حفناوي وضعت نجاة كفها على قلبها قائلة بفزع حقيقي وهي تتوقف عما تفعل منقبضة القلب «حاجة كلبشت فجلبي مرة واحدة»
سخر عدنان من قولها «تلاقيكي جعانه»
تركت ما بيدها وجلست قربه تسلب الأنفاس سلبًا بنظرة زائغة في الوجود «في ضرب نار جاي من بعيد»
عارض عدنان قولها «مفيش أنا مسمعتش حاجة»
شردت مؤكدة ونظراتها تشخص فيما أمامها بتوهة «لاه حتى حسيتها فجلبي واتاخدت كده»
هتف عدنان بقلق «خير بإذن الله»
رنّ هاتفه فسألته حين رأى شاشته «مين؟»
هز رأسه قائلًا وهو يستعد للإجابة «رقم غريب»
أجابه بادئًا بالسلام لكن سرعان ما انتفض مذعورًا يهتف بصدمة «مين الي مات يا ولدي؟ مين من عيالي»
أطلقت نجاة من حنجرتها صرخة مدوية وهي تسأله غير راحمة «عيالي مالهم؟ مين مات يا عدنان»
هزته بعنف فأسقط الهاتف ونظر إليه نظرة قرأت فيها اسمه فصرخت بجزع «رؤوف يا ولدي»


انتهي
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close