رواية عزف السواقي الفصل الثاني والستون 62 بقلم عائشة حسين
لثاني والستون
تعثرت نظراتها في حذاء تعرف هوية صاحبه فنهضت على شفتيها اسمه كجحيم «علاء»
ابتلعت لعابها وتراجعت خطوة قائلة «أنت جيت ليه وعايز إيه؟»
رمقها بنظرة ناعسة وهو يصدر بفمه صوتًا لائمًا «دا أنا لازم آجي وحقي أعوز كل حاجة» ختم كلماته بنظرة وقحة، هتفت بعدما التقطت أنفاسها «خالك مات جاي لمين؟»
فتح ذراعيه وقال بابتسامة مستفزة «لبنات خالي الي معدش لهم غيري»
صاحت فيه مسيطرة على رعبها منه خاصة وهي تراه بتلك الهيئة من نحول واضح و إسمرار شديد كأنما قلبه طبع ما داخله على ملامحه«مالكش بنات خال وامشي من هنا بدل ما أبلغ عنك»
جلس بأريحية يقول «تبلغي عني ليه! خير؟»
نظرت إليه بحدة قائلة «هقول إنك أنت الي ولعت في البيت وجتلتهم واتهجمت علي»
ابتسم قائلاً باستهانة «وإيه يثبت؟ أختك حد علمي اتجننت يعني كلامها مش هيتاخد بيه»
ابتلعت ريقها ناظرة لباب المنزل في خوف وقلق تتمزق بين رغبتها في عودة زوجها وعدم مجيئه اللحظة خوفًا عليه.
«بس أنا معايا شاهد ، حنين» قالتها بتلعثم شديد فابتسم مستخفًا بقولها، صاحت فيه بنفاذ صبر «امشي يلا اطلع بره ومتجيش هنا تاني» دخل مؤمن يحمل صغيره ببسمة تلاشت حين وقعت نظراته على الجالس في مدخل المنزل بأريحية مستفزة وعنجهية بغيضة ،
غلت الدماء في عروقه وتوسد الشر نظراته فأنزل صغيره ورمى ما بيده من أكياس واقترب منه «يا أهلاً»
شمله علاء بنظرة سريعة استقرت فوق ملامحه وقال باستهزاء «أنت جيت؟»
هجم عليه مؤمن ممسكًا بتلابيبه في عنف قائلًا بنبرة متوعدة «كويس إنك جيت بس دخلت ليه بيت مفيهوش راجله؟»
ابتسم علاء بسخرية فهزه مؤمن صارخًا بغضب أعمى معصوب الإدراك يتحسس أول طريق الانتقام المظلم «بيت أنا مش فيه تخطيه ليه!»
اندفعت هدى تحاول تخليصه من قبضة زوجها خوفًا عليه من تهور غير محسوب وغضب متراكم «سيبه يغور»
نظر إليها علاء هاتفًا بإصرار «مش همشي عايز حقي وفلوسي»
ثم دفع مؤمن بقوة وهو يهدر مهددًا إياه «ابعد أنت راجل صحتك على كدها ومش هتتحمل»
لم يتمالك مؤمن نفسه واندفع لاكمًا بقوة وهو يزمجر بغضب، قبل أن يتدارك علاء الأمر هجم عليه مؤمن يلكمه على وجهه بسرعة بضربات متتابعة،ابتعد مؤمن لاهثًا يلتقط أنفاسه يبصق على الآخر ، بينما تقف هدى مذهولة تتسع عيناها بهلع، لا تستطيع الإتيان برد فعل يناسب ما تعانيه اللحظة ،نهض علاء مستغلًا ركض الصغير ناحية أبيه فسبقه بضربة من قدمه فوق ركبة مؤمن فاختل توازنه وسقط مما دفع هدى أن تستيقظ من غيبوبة الذهول وتصرخ مستنجدة بالجيران خوفًا من دناءة علاء، وعلى زوجها بعدما تلقى ضربه في عقر دار تعبه ، هتف مؤمن رادعًا لها «بس متنطقيش»
استغل علاء الأمر ونظر حوله مفتشًا حتى وجد عصا غليظة في ركن المنزل، تناولها وأشهرها فوقفت أمامه هدى مانعة، سدًا حاميًا لزوجها فهمس علاء بوقاحة ونظرة جريئة «لعيونك أقتله»
دفعته هدى بكل قوتها للحائط فضحك باستهزاء، نهض مؤمن وسحبها بعيدًا ثم اشتبك معه في معركة حامية جعلتها تخرج مستنجدة بالجيران الذين أتو على الفور وقاموا بفض الاشتباك، انسحب مؤمن للأعلى بينما جلست هدى تبكي والصغير بأحضانها مرتجفًا بغير حولٍ ولا قوة.
عاد بعدما تسرّب غضبه منه، ضمها حيث تجلس برفق وصمت عاجز، قبّل رأسها كثيرًا كأنه يمحي من عقلها كل فكرة سيئة راودتها أو فعل أوقعها في شراك الخوف، طردت الصغير من حجرها بزحزحته بعيدًا ورفعت رأسها للصامت بكثيرٍ من الأقوال والأفعال، ابتسم رغم وهنه فانتفضت واقفة بعدما منحتها نظرته الوعي ، تفحصته بقلق تمخض به قلبها المحب «مؤمن أنت كويس؟ فيك حاجة؟»
حاول إثنائها عن الفعل وضمها لكن خوفها أمسك بزمام العقل والإدراك، خلعت عنه قميصه القطني غير مهتمة بكلماته ولا تسمعها، تفحصته بعين مهتمة ولم تطمئن بعد، تشعّب خوفها لجراحته، لساقه، لعرج قدمه، للمحنة التي ولّت بعهدها التعيس، لكل ضعف تملّك من قلبها وحزن سيطر على الفؤاد، لابتسامته التي عادت وحيويته، أحاط كتفيها مثبتًا وبنظرة منه إليها عرف ما أحاط بعقلها «يا بت اهدي مفيش حاجة وكله كويس ؟»
نظرت لساقه قائلة بذعر «امشي وريني»
هددها بمزاح «هضربك لو مسكتيش»
توسلته وهي تضرب على صدرها «امشي يا مؤمن وريني رجلك»
ضربها بخفة ضاحكًا فضحكت من بين دموعها، ضمها فصفّق الصغير ودار فرحًا، صاحت آيات من خلفهما بضجر وقد خرجت من حجرتها كوحشٍ كاسر «إيه الدوشة دي؟ »
تأفف مؤمن بضجر ما عاد يتحمل سلاطة لسانها ولا أخلاقها التي ازدادت سوءًا ولا عنجهيتها، توسلته هدى بنظراتها أن يصبر فتركها وتحرّك للداخل، لكنه وقف مقابل آيات وهتف بسخرية «علاء جه يا آيات عايز ورثه وفلوسه شوفي هتعملي إيه»
كأنه صبّ فوق رأسها دلوًا من الماء البارد، حملقت في الفراغ أمامها شاهقة فرحل ساخراً وتركها تعاني، سحبت هدى صغيرها وتبعته في وجل.
**********
فاقت غزل من غيبوبة البكاء، أفاقتها ربتاته الحانية المستمرة دون انقطاع مع هدهداته وتهويدات حنانه ،همست وهي تختنق بعبراتها «أنا آسفة يا رؤوف بجد آسفة»
عاتبها برفق ولين متفهمًا معاناتها ومحتويًا بصبر «لاه يا بابا مفيش أسف»
ضمته أكثر ، مختبئة بأحضانه من هواجسها تلعب دورها كابنة لأبيها تحتمي به ولسانها يتفرد بالأسف لا يتبع إرادة قلبها «غصب عني»
تركها بأحضانه تفرغ شحنة ألمها على صدره وهو يربت على كتفها تارة ويمسح على رأسها تارة أخرى ويتمتم بأدعيته وأذكاره، يدعو لها بمحبة ورقة قلب حتى هدأت وعادت نفسها لمرفأ طمأنينة القلب ورضاه، رفعت رأسها له بنظرة متألقة وهمست باسمه «رؤوف»
ابتسم ملبيًا بحنان «ها يا قلب رؤوف»
كانت نظرتها إليه أبلغ من أي كلام، بها حلاوة تجلي القلب من همومه وتغسله من أوجاعه، نظرة بألف معنى ، فهمها ورأت ذلك في عينيه فعادت لتغوص برأسها في أحضانه صامتةً راضية بتواصلهما الروحي حين تعجز عن التفسير، همست برجاء «أوعى تسيبني أبدًا يا رؤوف»
ابتسم هامسًا بلطف وحنان يغدقه عليها بوفرة «لاه، وده يحصل كيف؟ » ثم استعاد خشونة صوته وجديته هامسًا «هتسافروا مصر ولا لاه يا غزل؟»
رفعت رأسها تنظر إليه حائرة، تطلب منه طوقًا للنجاة ويدًا تقلّها من عثرة أفكارها «مش عارفة» كانت توهتها عنوانًا لملامحها اللحظة ،فضمها مؤازرًا بكيانه كله لا يبخل «معاكي أنا وجنبك زي ما تحبي يا حبيبتي»
تنفست براحة افترشت صدره بنغماتها مدغدغة قلبه ثم همست «مش عايزة أروح ولا أشوف ولا عايزة صفوة كمان تشوف ،خلّص أنت كل حاجة يا رؤوف»
أكد على قولها «ودا رأيي برضو يا غزل» تنهدت قائلة بخيبة «بس لازم نخيّر صفوة برضو»
مسح رأسها وقبلها قائلاً «على كيفك الي تشوفيه أنا معاكي فيه»
فضلت غزل بقاء صفوة قربها للاعتناء بها ورعايتها، عرضت عليها أمر الذهاب وتوديع والدتها فأجابت بصوت متحشرج «كان نفسي يا غزل بس مش هقدر أشوفها كده خليني عايشة على أمل إنها عايشة وبعيد»
بعد قليل عرضو الأمر على صفوة التي ضمتها غزل بحنان بينما جلس رؤوف جوارها داعمًا بالقول «اجمدي أمال يا بت العم» ابتعدت عن أحضان غزل ماسحة دموعها تتظاهر بالشجاعة والقوة فهتف رؤوف بوقار «مش بجولك كده عشان تكتمي جواكي ومتحزنيش لاه أبكي وازعلي دي أمك بس متسبيش الحزن ياكل في قلبك ويضعفك جومي وادعيلها واتصدقيلها وشوفي حياتك هترتبيها كيف وإزاي واحنا معاكي» ابتسمت غزل له بامتنان وشكر محتوية له في نظرة حنونة، أجابته صفوة وهي تمسح الدموع من أهدابها «ماشي» نظر لها بشفقة امتزجت ببعض ندمه على ما فرّط من قبل شاعرًا بالذنب ناحيتها بعدما انكشف الغطاء ورأى هشاشتها وضعفها، تحرّك للخارج فتبعته غزل موقفة إياه «رؤوف»
وقف أمامها مُلبيًا «إيه يا بابا؟»
طالت على أطرافها ولثمت خده شاكرة إياه «شكرًا يا حبيبي هو ده رؤوف الي أعرفه وحبيته ، قلبه يساع الدنيا ومحدش فبيته يتوه»
ابتسم لها برزانة وقال شاكرًا «ربنا يخليكي ليا، ومين غير قلبك يدلني وياخد بيدي يا حبيبة رؤوف وعيون حامد؟»
انسحبت عائدة لمجاورة أختها ومواساتها بينما خرج هو لأخويه، جلس جوارهما فأعرب طاهر عن حزنه ومؤازرته العاطفية لصفوة «مسكينة البت دي ساعات بتصعب عليا»
تهكم يونس بفظاظة وهو يرميه بنظرات كالشرر «واه من متى؟»
أجاب طاهر بصدق «لاه بجد يا يونس لو بصيت لوضعها هتحزن»
تنهد يونس عازفًا عن مزاحه مؤكدًا «أيوة والله»
أفصح رؤوف عن ما بداخله من ندم وحسرة «اتظلمت من كل ناحية واحنا جينا عليها جوي ربنا يسامحنا»
هتف يونس بمرح «ابسط يا واد يا طاهر هتحلف برحمة أبوك»
سخر طاهر من قوله «هو دِه هيشوف رحمة دا هنحلف بحرقته»
ضحك يونس وفرد كفه لطاهر الذي ضرب فوقها يقاسمه الضحكات، زجرهما رؤوف مؤنبًا على صبيانتهما وبلادة شعورهما «أنتو صغيرين عيب كده»
صمتا بأدب فنظر رؤوف أمامه هامسًا يسبق قوله بتأوه «آه… الله يحرق أبوك يا طاهر ويبشبش الطوبة فوق دماغه»
ضحك طاهر ويونس وشاركهما رؤوف ذلك على استحياء وهو يزجرهما بنظراته مخافة أن تسمع غزل «اضحكوا بالراحة يا بهايم» مالا مقبلين كتفه كلاً من ناحيته وصمتا بعدها بتفهم وعذر.
*******
حين عادا للمنزل و علمت جدتهما بخبر وفاة مرتضى انطلقت الزغاريد من حنجرتها تشق الصمت وتمزقه بينما جلست سماسم بذهول تحاول استيعاب الخبر وتمريره لعقلها المليء بالحقد ناحيته، تربت على قلبها المكلوم منه بنبأ يقين، ضم طاهر والدته لشعوره بها، احتواها بين ذراعيه ولم ينفق دمعة، وكيف ينفق على رجل بخل عليه يومًا واستغنى ؟ بل لن يتصدق عليه لا بالرحمة ولا العفو..
مالت فيروز المتابعة على يونس مستفسرة «مش ده والد غزل ومامة صفوة؟»
أجابها بنفس الهمس ونظراته لا تبرح الموجودين «أيوة»
حزنت قائلة «وأخبارهم ايه؟» هز رأسه قائلاً دون يقين«كويسين»
هتفت بأسف «عايزة أروح أعزيهم يا يونس وأقعد معاهم»
أجابها «كده كده هتروحي تجعدي معاهم هناك مُدة»
قطبت مستفسرة «ليه؟»
أجابها بغيظ «عشان حصار العدوان الثلاثي دِه»
كتمت ابتسامتها ونظرت أمامها بتهذيب متفهمة ما قاله وتراه في أفعال الجميع يوميًا، فهما لا يجدان فرصة للحديث، وكلما همس لها زجرته والدته وأنّبته عمته ودققت جدته _التي لا ترى _النظر فيهما، تلك التي تدعي أنها لا ترى ولا تسمع تُلقي بأذنها متصيدة كلماته، تسمعه كلما همس وتردعه حتى أصبح يشك حتى في ضعف نظرها.
"" "" ""
في اليوم التالي ..
وقفت فيروز أمامه متثائبة بخصلات مبعثرة تهمس بصباح مدلل بنبرتها «صباح الخير يا يونس»
اعتدل متأملًا في حضرة جمالها، يرد التحية بأخرى على مهل «صباح الورد»
اعتذرت منه بصوت ناعس «معلش اتأخرت عليك»
نظر إليها مليًا بعدما تحررت من خجلها قليلًا وفكت قيود الحرج في حضرته سامحة له أن يراها بخصلاتها وملابس نومها «لاه عادي»
دقق النظر فيها فسألته بقلق مُضيء بخجلها «إيه؟»
اقترب أكثر حتى ما عاد يفصل بينهم الا الأنفاس وقال بجدية «أنتِ نمتي باللينسز ليه؟»
تعجبت من قوله وابتسمت موضحة «لا مفيش، بعدين أنا مبلبسش لينسز يا يونس» ختمت قولها بتثاؤب فقال حين توقفت «لاه لون عينيكي متغير عن الي أعرفه»
أكدت بدهشة حاضرة الجدال «يا ابني بقولك مبحطش»
دقق النظر لعينيها قائلاً بحاجبين ملتصقين «لاه كان فيروزي على اسمك دلوك أخضر زي الزرع»
ختم قوله بتقبيله لعينيها فجأة ارتجفت وانعقد لسانها بصدمة، متفاجئة برفرفة شفتيه فوق جفنيها بنعومة دغدغتها فتسمرت مكانها مستسلمة للمساته تغمض عينيها ترحابًا ومباركةً لفعلته التي أخذت قلبها «يونس»
هبطت شفتاه لخدها مقبّلة فارتعشت مما دفعه لأن يحيط خصرها بذراعه ويقربها لصدره أكثر مستغلًا توهتها اللحظة وتخبطها،فاقت دافعة له بعيدًا تهتف بصوت رادع وهي تلملم خصلاتها بخجل «يونس»
ابتسم متفهمًا وقال بشقاوة «أنا مالي عنيكي الي حلوة ونادتني»
عاتبته بغيظ «يونس»
فأكد بابتسامة متسعة «طيب والله لون زرعة الشامي الي بحبه»
استنكرت قوله مرددة «شامي؟»
صحح لتفهم «الذرة»
هتفت بحنق «أنا لون عيوني شبه زرعة الذرة ؟»
أكد بهزة كتف «أيوة لدرجة فكرتها قنديل شامي يتاكل»
أطبقت شفتيها بغيظ وهي تضرب الأرض بقدميها قبل أن تستدير ململمة خصلاتها في ذيل حصان، شيع رحيلها بمطلبه موضحًا اياه بلغتها «بحبه مفرود عشان تُبقي شبه كوز الدرة بالضبط»
دخلت الحجرة صافعة الباب خلفها بغضب فهبط مُحمّل الصدر بضحكاته... استقبلته والدته بسؤالها «اصباح الخير يا يونس مالك؟»
اعتدل ململمًا ضحكاته في قلبه وخياله الخصب بصورتها وتنحنح قائلًا «مفيش يا أما»
سألته بمكر «الدكتورة صحيت؟»
تبرأ بملامح جادة «وأنا هعرف منين يا أما؟» لوت فمها جانبًا بنظرة متهكمة مشككة في قوله، وأكملت الصعود بينما هبط هو لطاهر.
**************
اجتمع ثلاثتهم في دائرة مغلقة لا يقطعها متطفل على مودتهما ولا يتوسطها دخيل يتناقشان في أمر قاسم، هتف عبود بحزن «عبادي عرف يا حامد ولاد الشرّ قالوله»
انتفض جسده كما قلبه وحملق فيه متسائلًا «متى؟»
أجابه بهدوء «مش مهم يا ولدي بس خلي بالك» قالها وغاب في ملكوته بجسد حاضر وذهن راحل وقلب في حضرة الذكر، مدت تماضر كفها ووضعته فوق رأس حامد مُطمئنة «اطمن يا ولدي يدبرها ربنا»
نهض عبود وخرج من المنزل وجد الصغير في صحبة أصدقائه فناداه «تعالى يا قاسم»
جاء راكضًا يستفسر بلهاث «خير عايز إيه؟»
ابتسم عبود بحنو قائلًا «تعالى يا قاسم امشي معاي»
نظر قاسم لأصدقائه معتذرًا «نكملوا بعدين سلام»
انطلق جوار عبود يردد خلفه ابتهالاته بمتعة لا يدري بأي أرضٍ سيرسي.
وأمام الباب بعد رحيلهما وقف عبادي بكامل استعداده، طرق الباب بعصاه مناديًا «يا أستاذ» أمسكت تماضر بكف الجالس جوارها في دعمٍ ومؤازرة حنون فضمه وقبله بتقدير قبل أن يعيده ونهض مُجيبًا بثبات «يا مرحب يا أبو موسى»
جلس الرجل فوق الدكة جوار المنزل قائلاً «ازيك يا أستاذ»
تعجب رؤوف من مجيئه له لأول مرة وحيدًا تمامًا دون رجاله «الحمدلله» جلس رؤوف على الناحية الأخرى فقال الرجل وهو يستند بكفيه على عصاه الأبنوسية «هفّ على نفسي مصطفى فجيت أشوفك»
عض رؤوف شفتيه من الداخل يقول في سره بغيظ «هفّك جرار»
نظر عبادي للأرض الزراعيه أمامه قائلًا بمكر «غالي أنت يا متر»
«اللهم طولك يا روح» لم ينطق بها رؤوف واحتفظ بها داخله بينما خرجت تماضر متعكزة على عصاها الضخمة فهتف عبادي «كيفك يا نسيبتي زينة؟»
عبست في وجهه بغير رضا وهي تُجيبه «زينة يا عبادي وأحسن منك»
ضحك عبادي ببرود مغيظ وهو يسألها«أمال فين صُهرك المخبل عبود »
عض رؤوف شفتيه محاولًا السيطرة على غضبه من هذا الرجل اللعين البارد بينما أجابته تماضر وهي تضع كفها فوق كتف رؤوف ممتصة غضبه داعمة له تُعلن بفعلتها وجودها جواره ومؤازرته ، تنهد رؤوف بفهم متذكرًا زوجته وكيفية إقناعها بالرحيل وتركه
انتشله الرجل من شروده بسؤاله الخبيث ونظرته الحادة «أمال فين ولدك يا أستاذ؟»
أجابه رؤوف بصدق «مع أمه»
سأله الرجل بعد قليل من الصمت «منين أمه دي؟»
نظر إليه رؤوف بحدة رادعًا بها فضوله فابتسم الرجل بتهكم وقال «الأبلة ولا بت مرتضى ولا في غيرهم؟»
رفع رؤوف حاجبه بملامح ممتقعة ثم أجابه«الي قالك اسأله»
طرق عبادي الأرض بعصاه قائلًا «ولدك شبه ولدي لما اتلفت فيه وعيت لولدي معارفش دي محبة منك ولا حاجة تاني»
صمت رؤوف بصبر قبل أن يهتف «هات الي عندك يا أبو موسى أنا محبش اللف والدوران»
ابتسم الرجل قائلًا «ولا أنا بحبه بس دي شغلتك يا أستاذ وأنا جيتلك من الناحية بتاعتك»
كظم رؤوف غيظه وحنقه فنظر إليه عبادي قائلا بقسوة وجفاء «فين واد ولدي يا أستاذ؟»
مسح رؤوف وجهه مستعيدًا رباطة جأشه فتولت تماضر الإجابة «مالكش حاجة عندنا يا عبادي»
تجاهل عبادي قولها ونظر لرؤوف منتظرًا إجابته التي لم تتأخر «في الحفظ والصون زي ما كان عايز أبوه»
نهض عبادي قائلاً بنظرة خطرة «واه واه يا أستاذ واعر أنت كل السنين دي مداري» صمت رؤوف بترفّع فتابع عبادي بنبرة تحذيرية «عايز واد ولدي يا حفناوي»
أجابه رؤوف ببساطة «مفيش، أمانة صاحبي مش هفرّط فيها»
ابتسم عبادي بخشونة وهتف «احمد ربنا اني مش هحاسبك على الي عملته وهاتلي الواد»
نهض رؤوف صلبًا لا يُهزم بابتسامة واثقة ونظرة صارمة قال «مفيش عيال عندي ووصية صاحبي الواد يكون معاي بعيد عنك»
حملق فيه الرجل بصدمة قبل أن يداري صدمته ويهتف «معرفش أنا الكلام الفاضي دِه الواد واد ولدي وحقي أربيه»
قاطعه رؤوف بصرامة ونظرة متقدة «لا مش حقك ،والبيت الي هرب منه مصطفى- فيوم- ولده ميدخلهوش»
هجم الرجل عليه في غمرة غضبة وجنونه وغيظه وأمسكه من تلابيبه زاعقًا يخبيء هزيمته خلف صوته العال «مين أنت عشان تقول! عايزها عافية وماله عايزها قانوني برضو ماشي والواد لينا»
قبض رؤوف بقوة على كفي الرجل وأنزلهما وهو يزرع نظراته الحانقة بعينيه قائلاً «وأنا عندي كل حاجة ،عافية وقانون.. امشي وأقصر الشر واد ولدك مش هيتربى فبيتك، صاحبي قال المال الحرام يغور ومش هتنيها أنا فولده»
صرخ به في قسوة وهو ينهشه بنظراته «كلامك واعر وهتدفع تمنه كتير»
قلّب رؤوف شفتيه باستهانة ونظرة ساخرة ثم أجابه ببرود «أعلى ما فخيلك اركبه»
ضرب عبادي الأرض بعصاه هاتفًا بغضب «هتشوف وافتكر إنك بدأتها»
ضحك رؤوف بتهكم وأجابه وهو يعاود الجلوس مسترخيًا ببرود «وأنا بحب أنهي يا أبو موسي واتكيّف»
رحل عبادي عاصفًا بينما زفر رؤوف بصمت قطعه دعاء تماضر «ربنا ينصرك يا ولدي ويكفيك شره»
أمّن خلفها ونهض عازمًا على التحرّك بسرعة.
***********
في المساء عاد فاستقبلته غزل بالعناق، هكذا ترحب به حين يعود، تهرول ناحيته بلهفة كأن مرّ ألف عام على فراقهما، تختصر كل كلمات الشوق والحكايات في ضمة طويلة ثم تبتعد متفرسة في ملامحه بابتسامة وتنهيدة ونظرة تثير شغفه بها وجنونه «قاسم مجاش يا رؤوف اتأخر أووي وحتى صفوة الي قالت هتجيب هدوم وترجع لا رجعت ولا بترد»
تنهد قائلًا وهو يرسم ملامحها بإبهامه «مش هياجي يا غزل خليه بعيد شوية دلوك واطمني صفوة بخير »
انتفضت مستفسرة بقلق «ماشي ؟ بس إزاي هنسيب قاسم لوحده في الي هو فيه دِه؟ » استدارت قائلة بتلعثم كأم حقيقية «لأ مش هقدر يا رؤوف»
نظراتها مررت له رجاءً عاجزًا فابتسم لها وقال بأسف «معلهش وأنتِ هتروحي تجعدي معاه»
استنكرت قوله بملامحها، اقتربت تستفهم بقلبٍ يدق بين الضلوع بقوة «يعني إيه؟»
بنظرة جادة مشفقة وحزن متلعثم هتف بصوت متحشرج «يعني أنتِ وهو وصفوة هتروحوا مكان تاني تجعدوا فيه لغاية ما أحل موضوعه»
هتفت بعصبية شديدة وهي تضربه بقبضتها على صدره «يعني هسيبك؟ يعني هتفضل فمكان وأنا فمكان؟ »
توسلها بحزن «معلهش يا غزل استحملي عشان خاطري»
هتفت بهجوم لا تصدق قوله وتستهجنه «ولو استحملت أنا أنت عادي؟»
أخفض بصره بكتفين متهدلين وهتف بحشرجة «لاه بس غصب عني»
صاحت بغضب «وأنا مش هستحمل يا رؤوف ومش هقدر أبعد ولا يوم هفضل هنا جنبك والي يحصل يحصل»
رفع رأسه متوسلًا برفق عاذرًا لها «مينفعش قاسم لازم يبعد عن هنا وأنتِ معاه لا ينفع أسيبه لوحده ولا ينفع تفضلي هنا فقلب الخطر»
شهقت متفاجئة بقوله واندفعت صارخة بذهول تستفهم بعصبية «بتقول خطر وعايزيني أسيبك؟ لا طبعًا مستحيل أنا مش هسيبك يا رؤوف وإياك تغصبني» قالتها بتحذير غليظ فأمسك بسبابتها ضامًا ورفع كفها مقبلًا له برقة، لانت هامسةً وهي تضم كفيه بكفها «والله العظيم ما هينفع مش هقدر»
همس وهو يمسح خدها بكفه وهو مازال محتفظًا بكفها بين أنامله على صدره جوار قلبه «ولا أنا بس مجبور مش هتحمل فيكي وفيه حاجة» انهمرت دموعها على خدها حين هزت رأسها رافضة بقوة تهتف «وأنا مش هتحمل فيك حاجة الي بتطلبه ده فيه موتي والله»
أحاط رأسها وقربها من صدره لتستقر عليه قائلًا «بعد الشر عنك متجوليش كده، هجيلكم كل يوم»
حافظت على الرفض بقوة «لأ متحاولش يا رؤوف متعملش فيا كده أرجوك» ختمت قولها ببكاء حار متوسل فضمها بقوة هامسًا «خلاص اهدي ربنا يحلها»
تشبثت به متذكرة وصاياه وكوابيسه فتوسلته بهذيان وكلها يرتجف بين ذراعيه «رؤوف أرجوك متبعدش هموت بجد، متسبنيش أنا ماصدقت لقيتك عشان خاطري عشان خاطر آسيا»
شعر باليأس والإحباط فرفع رأسه للأعلى بنظرة متضرعة يهمس باستنجاد «يارب»
*******#
في اليوم التالي اضطر للحزم والشدة، ارتدى الجمود قناعًا وهتف فيها بصرامة «يلا يا غزل جهزي نفسك» نهضت قائلة بحاجبين منعقدين وهي تتفرس ملامحه الخشنة «على فين ياحبيبي؟»
ابتلع لعابه، سيطر على مشاعره تجاهها وقال محافظًا على نبرته الحادة وصرامته «عند قاسم»
قالت بإصرار متحدية له ومعاندة وهي تقترب زارعة نظراتها القوية في عينيه «لأ مش هروح»
التقط أنفاسه وهدر فيها بغضب رغمًا عنه «أنا الي بجوله يتسمع ويتنفذ من غير مناقشات وحديت كتير» رمقته بأعين متسعة يحف زواياه الذهول، تستنكر إرغامه و حدته بهمس رقيق معاتب «رؤوف» سيطر على عواطفه وقيدها حتى لا يضعف أمامها وقال بصرامة «مفيش رؤوف جهزي نفسك ويلا عشان الوجت»
تحدته ودموعها تتقافز من مخدع عينيها «مش ماشية من هنا»
أمسك برسغها في قوة وجذبها بنظرة ثابتة وفعل يحمل التهديد الغليظ «مش بكيفك هاخدك غصب عنك» نظرت لكفه القابضة على رسغها بنظرات مرتجفة رفعتها إليه فتركها وجلس منهارًا يضع رأسه بين كفيه في هزيمة واستسلام.
هرولت ناحيته، جلست أمامه تسحب كفيه من على رأسه ونظراتها تهرول لملامحه متفقدة «رؤوف» رفع رأسه متأسفًا «حجك علي بس بالله عليكي ماتصعبيها عليا أكتر من كده»
قبّل رأسها معتذرًا ثم سحبها لأحضانه مرتجف الجسد بإعصار الأنفاس الهادرة والألم الذي يكتمه داخله، أحاطته بذراعيها منتحبة تبلل صدره بدموعها عله يستيقظ من غفوة الغضب ولا تأخذه سنة نوم من قسوة، مسح رأسها مهدئًا لها معتذرًا يقبل رأسها بأسف.
«هريحك وأمشي بس مش مسمحاك يا رؤوف على بعدي عنك ولا إنك تكون لوحدك»
قالت كلماتها ونهضت متعثرة في البكاء، كممت فمها بكفها وهرولت تجاه الحجرة تستعد للرحيل.
بعد قليل أوصلها ، ترك كفها فسارت ناحية المنزل دون أن تستدير مودعة له، انتظر أن تلتفت لكنها عزمت على ألا تفعل مقررة ألا تضعف فهمس مشيّعًا لها باعترافه «بحبك يا غزل وهفضل أحبك لآخر يوم فعمري»
وقفت مكانها مرتعشة تضغط شفتيها مسيطرة على بكائها، فودعها قائلًا بحنان «في رعاية الله يا بابا خلي بالك من نفسك»
هرولت تجاه المنزل باكية رافضة الاستدارة والإلتقاء بعينيه اللحظة.
رحل كما جاء تاركًا لها تبكي بأحضان صفوة وقاسم.
بعد مرور ساعات عاد إليها مجددًا ،دخل المنزل بعدما استأذن الموجودين، رأته فركضت للحجرة وأغلقت الباب على نفسها معلنة رفضها الصريح لمجيئه فعاد أدراجه خائب الرجا مكدر النفس، جلس قليلًا جوار صغيره مؤنسًا وحدته بينما دخلت صفوة المنزل واجمة، نام الصغير فحمله ونادى صفوة لتأخذه فجاءت ملبية، حملته ودخلت فقال برفق «طاهر في الطريق هيبيت معاكم»
أومأت بصمت ورحلت فأغلق الباب وانتظر حتى سلّم لطاهر عهدتهم ورحل.
********
في اليوم التالي مساءً حين استمعت لأصواتهم خرجت مهرولة تسبقها لهفتها للقائه وضمه، لاستنشاق رائحته في حضن طويل لا ينفصلان بعده بل يمتزجان، وقفت على عتبة المنزل حافية القدمين تفتش في الوجوه باحثة عن وجهه، بصمة الروح التي يُفتح بها كل جميل في النفس، قلبت الوجوه بخيبة ، تراجع الأمل في قلبها كما تراجعت نظراتها لأسفل قدميها تحبس الدموع خلف قضبان الثبات، صمّت أذنها عن الأصوات لأن صوته ليس بينهم وعادت للداخل قلبها يفيض وجعًا وعينيها تمطر الألم وصدرها يطرد اللوم مع الأنفاس، نظروا لبعضهم بحزن ولم يتجرأ أحد على الاقتراب والمواساة أو تصبيرها بمجيئه، عادت للحجرة باكية، أغلقت خلفها وانعزلت وحدها مع حلم تطارده بعودة لأحضانه، طرق طاهر الباب «غزل مش هتطلعي»
أجابته بوهن وهي تتسطح فوق الكليم «لا يا طاهر تعبانة شوية»
عاد طاهر بخيبته جلس جوار قاسم حزينًا بائسًا لانقلاب الحال واختفاء البهجة من نفوسهم، ضم قاسم الصامت بحنان داعيًا بتضرع وخشوع بينما نهض يونس وأشعل النيران بالمنتصف، بعد قليل جاء لاهثًا وقف أمامهم ينزع شاله عن وجهه راميًا السلام بتنهيدة الوصول، ابتهج الجميع لرؤيته وطرقت أعينهم نافذة غزل كالدفوف فرحة «عرفت تيجي كيف؟» سأله طاهر بقلق فأجاب وهو يبحث عنها بنظراته «النور قطع في النجع المحوّل اتحرق فلجيتها فرصة آجي أشوفكم»
اندفع قاسم لأحضانه فتقبله رؤوف بقبولٍ حسن وضمه مُعلناً اشتياقه له «وحشتني يا بابا جوي»
بادله قاسم الود بالود «وأنت كمان يا أبوي»
أنزله مستفسرًا «أمال فين غزل؟ مش جاعدة معاكم ليه؟»
أجاب قاسم بحزن «معارفش قالت تعبانة وهتريّح»
تخطاهم بقلق «طيب هشوفها» دخل المنزل متنحنحًا فانتفضت جالسة لا تصدق مجيئه، نهضت مهرولة تجاه الباب فاصطدمت به أمامها لا يفصل بينهما سوى أنفاس امتزجت بينهما ، أغمضت عينيها متنفسة عبقه تسلب أنفاسه الدافئة من فوق صفحة وجهها، همس وعينيه تقبّل كل انشًا في وجهها «غزل»
عضت شفتيها تسيطر على عاطفتها الشديدة نحوه، تلجم شوقها وتقيّد لهفتها، أغمضت عينيها نائية بحواسها عنه وهي تتراجع، أمسك بذراعها وجذبها لصدره معانقًا بقوة يريد تفتيتها داخل أضلعه، عانق شفتيها برقة وشغف فانعزلت بروحها بعيدًا عنه لا تبادله الحب بالحب بل لهفته بالجمود، رغم حسرتها ورغبتها في الاكتفاء من قربه إلا أنها فعلت بإصرار وعزيمة لا تفتر.
ابتعد يائسًا منها، مكتفيًا من جفائها وقسوتها على قلبه، لملم رغبته وخنق شوقه بحبال الكبرياء ثم غادر بسرعة تاركًا اعتذاره يطيره الهواء لمسامعها «آسف» لاتدري على أيٍ يأسف، جلست منكمشة تبكي بحرقة حتى نامت مكانها.. في منتصف الليل استيقظت عطشى لقربه، تلهث من شدة حاجتها أحضانه، تجلد نفسها بسياط الندم الملتهبة، نهضت واضعة حجابها فوق رأسها وخرجت باحثة عنه بلهفة، صدمها الصمت وخلود الجميع للنوم لكن باب المنزل البسيط مازال مفتوحًا، خرجت على ضوء القمر فرأت النار مشتعلة وبالقرب منها يرقد أحد لا تعرف هويته أكان طاهر، يونس أو عبود..
تحركت متتبعة ضوء النار حتى وصلت ، كلما اقتربت قلبها يحدثها بأنه هو «مين هنا؟» قالتها وهي تقف على مسافة تتيح للنائم الاعتدال ولها بعدم الحرج، أجابها ومازال ينظر للسماء «أنتِ عايزة مين؟»
ضحكت نشوةً بسماع صوته وبقائه منتظرًا لها، اقتربت تسأله «قاعد ليه ممشتش؟»
أجابها وهو على حاله من الاسترخاء «مرتويتش برضاكي ولا خدت زاد جلبي من لقاكي» ختم قوله بتنهيدة وتابع «رفضني حضنك فملجتش بعده مكان يجبلني»
جلست على ركبتيها عند رأسه معتذرة ودموعها الدافئة تسقط فوق وجهه كحبات الندى «أنا آسفة»
جذب رأسها لأحضانه فدفنت وجهها بصدره باكية تقبّل أنّاتها صدره معتذرة عن جفاء مفتعل وهجر أحرقها قبله.
أبعدها واعتدل خوفًا عليها، ضمها متأوهًا فحررت نفسها من اللوم وضمته بقوة، رفعت رأسها تمنحه اعتذارًا من قبلاتٍ حارة مفعمة بالشوق واللهفة كانت كافية لإرضائه والعفو، أدارها بين ذراعيه وضمها بعدما ربع ساقيه، رفع كفيها مقبلًا يفصح عن شوقه «وحشتيني جوي»
«مش عارفة لو مكنتش جيت وشوفتك كان هيحصل إيه؟ ممكن كنت تلاقيني عندك الصبح» قالتها وهي تتنهد برضا، أوضح لها بصبر «يابت افهمي وفتحي مخك شوية أنا غصب عني، متعرفيش الوجت من غيرك بيعدي كيف»أدارت جسدها رافعة رأسها تسأله بشقاوة عادت إليها من جديد وهي تقلّد لكنته «كيف يا متر جولي»
اقترح وهو يميل استعدادًا لقطف زهور الحب من فوق شفتيها «لاه أنا هجولك عايزه يعدي عليا كيف »
ضحكت برقة فتركها واطفأ النيران قائلًا «الفجر قرّب تعالى كملي نوم»
جذبها من ذراعها فنهضت متأبطة ذراعه ،دخلا المنزل وأغلقا الباب ثم اتجها لحجرتهما، تسطح أرضًا فوق الأرض المفروشة وأشار لها أن تأتي فبدلت ثيابها بأخرى مريحة وانكمشت داخل أحضانه بلهفة، رفع وجهها إليه هامسًا «أوعي أجيلك وتعملي الي عملتيه دِه تاني ، مش منك أنتِ يا غزل»
ضمت شفتيها بأسف قبل أن تعتذر له بندم «متزعلش مش هعمل كده تاني أبدًا يا حبيبي» أحست أنّ رفضها له أثار ذكرى سوداء كامنة في النفس، ذكره بما نسيه على يديها فأشفقت عليه وهمست بعاطفة «كل حاجة فحياتي رفضتها ومتقبلتهاش إلا أنت كنت القبول والرضا» ختمت قولها بوصال رقيق ناعم مثلها منحت فيه نفسها وبذلت فيه كل عاطفتها، سخّرت مشاعرها وحبها قربًانا لرضاه... منحت بسخاء وأعطت بإسراف لا تنضب عاطفتها بين يديه بل تتجدد... فنال من حظوظ العشاق توقًا وشعفًا وعشقًا لا ينتهي.
*****
بعد الفجر انتفض من نومته يدور حول نفسه قائلًا وهو يرى ضوء النهار يغمر الحجرة «يسد بيت أبوكي هرجع كيف أنا دلوك»
همست بدلال وهي تتمايل أمامه بغنج «صباح الخير يا حمودي»
تأملها من أخمص قدميها حتى قمة رأسها وبعدها هز رأسه مستغفرًا، هتف وهو يشيح برأسه «مش جولتلك صحيني»
جلست قربه مبررة بدلال «حمودي لقيتك تعبان»
مسح وجهه مستفسرًا بحنق «وبعدين؟»
هزت رأسها قائلة ببراءة وأسف «للأسف هضطر تقعد معانا لبليل»
خبأ ابتسامته وتسطح ساحبًا الغطاء فوق جسده يقول «ماشي اطلعي يلا واجفلي الباب هكمل نوم»
تأففت بغيظ وحنق من فعلته وقالت «بقا كده»
رنين هاتفه جعله ينتفض مُجيبًا «الو»
تسمرت مكانها تراقب قلقه واضطرابه بينما هتف المتصل «الحق بيتك بيتحرج يا عم حامد» نهض مفزوعًا ارتدى ملابسه وركض للخارج يقول لطاهر الذي حضر للتو «عبادي حرق الأرض»
هاتف طاهر يونس فأخبره أنه علم وسبقهم على هناك، رحل تاركًا لها على الجمر تبكي خوفًا وضيقًا وهمًا.
******
بعد مرور ساعات جلس منهكًا بعدما ألقى الدلو من يده، مدد ساقيه واستند بكفيه على الأرض رافعًا رأسه للسماء بتعب، بالقرب جلس يونس وطاهر يعانيان مثله ينظران للأرض التي صُبغت بالسواد بعدما كانت خضراء تسر الناظرين، أنزل رؤوف رأسه ونظر لشجرة زرعتها غزل يومًا، ابتسم بأمل حين وجدها صامدة لم تتأثر، مخضرة تناقض سوء المكان..
نهض طاهر وجلس خلفه واضعًا كفه فوق كتف رؤوف في دعم ومؤازرة «احنا جنبك ومعاك »
ربت رؤوف فوق كف أخيه مبتسمًا بنظرة ممتنة بينما اقترب يونس منه قائلًا «شوف هترد كيف واحنا فضهرك»
قبل أن يُجيبهما ظهر عبادي من العدم ورجلان من رجاله، نظر للمكان المدمر حوله وهو يصدر من فمه صوتًا آسفًا «شوف الخراب عاد الغُشمة أجولهم نصها يحرقوها كلها»
رمقه رؤوف ببرود دون أن يعتدل في جلسته، فتابع عبادي «جولتلك يا أستاذ بلاش، أنت غالي عاجبك كده الي حصل»
هتف رؤوف بأريحية ونظرة عابثة لا مبالية «جوم يا طاهر اعمل كوباية عصير لمون لأبو موسى جاي على ملا وشه والطريج طويل»
نظر إليه عبادي بغيظ فابتسم رؤوف وتابع ببرود وغطرسة وابتسامة مستفزة «كتر اللمون يا واد» ختم قوله بضحكة مجلجلة زلزلت الأرض من تحت أقدام عبادي الذي ظن أنه سيراه حزينًا مكلومًا يرثي ذاته، هتف عبادي وهو يضيّق نظراته فوق وجه رؤوف «واعر أنت يا أستاذ»
اعتدل رؤوف في جلسته قليلًا وأجابه بكيد «مصطفى الله يرحمه كان محامي شاطر جوي عارف ليه ؟ عشان فيه حتة منك بس هو استغلها في الخير، وأنا اتعلمت من صاحبي»
زفر عبادي بحقد فتابع رؤوف وهو ينهض واقفًا ينظر للخراب باستهزاء ولا مبالاة، لا يمنحه فرصة الشماتة به والتشفي في مصابه «فدا قاسم تروح زرعة يجي غيرها ولا أخلف وعدي لصاحب العمر، إن كان حرجها هيريحه فتربته عادي تتحرق هي والي يحرقها» قالها وهو ينظر إليه بتحدي.. فضرب عبادي الأرض بعصاه مهددًا له «افتكر إنك أنت الي بدأت يا أستاذ»
ابتسم رؤوف قائلاً بثقة «وافتكر إن أنا الي هنهيها يا أبو موسى»
رحل عبادي ورجليه غاضبًا يتوعده فاستدار رؤوف مطمئنًا اخوته يربت على قلبيهما بحنان «متخافوش عليا فداكم وفدى قاسم متساويش الأرض طول ما أنتم فوقيها بخير وسلامة»
صرّح طاهر بقلقه «هتعمل إيه يا أخوي مع الراجل دِه»
دخل رؤوف المنزل المحترق قائلاً «متشغلوش بالكم بحاجة كونوا بخير بس»
استوقفه يونس رافضًا بعصبية «احنا هنكون بخير طول ما أنت بخير متشلش لوحدك احنا كبرنا ونسد معاك ولو مكنتش تفهمني وتشركني معاك أنا هاخد حقك بمعرفتي وبعيد عنك يا أخوي»
التفت رؤوف بملامح غاضبة، نظر إليه بحدة علّ يونس يتراجع لكن إزدادت نظراته عزمًا وإصرارًا على الأمر ومناطحة رفضه بالفعل المخفي... أخفض رؤوف بصره مُفكرًا ثم رفعه ناظرًا لأخيه يقول «ماشي يا يونس»
ابتسم يونس مبتهج الفؤاد ينظر لطاهر الذي ابتسم بدوره في طمأنينة، دخل رؤوف المنزل فصدع هاتفه، أجاب فور ظهور اسمها «ازيك يا غزولة»
توجست منه خيفة وقالت «رؤوف أنت كويس؟»
ضحك بتهكم قائلاً «مالك يا بت ما أنا كويس» نظرت لصفوة المترقبة بشك وللهاتف تتأكد من الرقم خاصته وبعدها قالت «حبيبي كلكم بخير والبيت؟»
أجابها ونظراته تتجول في المنزل «أيوة بخير الحمدلله، الأرض اتحرجت كلها الحمدلله»
تعجبت من بساطة القول والنبرة العادية التي لا تحمل الكدر وتمتمت«لأ هو حصله إيه؟»
ضحك بسخرية فقالت بعصبية «لا أنت تجيلي دلوقت حالًا يا رؤوف»
همس بشقاوة «بالليل لما النور يجطع يا غزولة» ابتلعت لعابها ونظرت لصفوة بارتباك ووجنتين محمرتين تتأكد من عدم سماعها قوله وبعدها هتفت بحزم «رؤوف هتجنني» اعتدلت نبرته بزفرة حارة أتبعها بقوله «أنا بخير الحمدلله فداكم الأرض هنزرع غيرها بإذن الله»
تمتمت بالحمد بعينين دامعتين ثم سألته «والخالة ؟»
أجابها بصدق الحمد المنطبع في قلبه «الحمدلله كنت عامل حسابي ووديت الخالة لأم جمال تجعد معاها كم يوم»
هتفت برضا «الحمدلله ابقا رد لو سمحت ومتقلقنيش»
أطاعها بصبر وهتف مطمئنًا لها «حاضر خلوا بالكم من نفسكم واطمني حواليكي فيه رجالة كتير بتحرسكم»
أنهى الاتصال وخرج لأخويه للحديث معهما بشأن خطته وما يريده وكيفية الرد على هذا المتعجرف.
*****
منذ سمعت الخبر وهي جالسة فوق التخت تؤرجح جسدها برتابة، عينيها تحملق في الفراغ بأنين يخرج من بين شفتيها كرثاء مقبض، فتحا هدى الباب لتطمئن عليها فصرخت فيها بهياج «امشي من وشي»
ابتلعت هدى لعابها وأغلقت الباب عائدة لزوجها بينما بكت الأخرى بشقاء قبل أن تنهض عازمة على لقائه الليلة متسترة بالظلام، الليلة سينتهي عذابها، ستفرغ عليه من جحيمها الخاص الذي تحيا فيه، ستنتقم لنفسها وجمالها منه فلتحرقه حيًا كما أحرقها هو، ارتدت غلالة أظهرت قبح ما أصبحت عليه وفوقها عباءة سوداء، ثم تسللت للمطبخ الواسع أخذت ما ستحتاجه وخرجت بهدوء، رآها مؤمن من الشرفة فغض الطرف ببلادة وهدوء، عصب عقله منتظرًا القصاص.

