رواية عزف السواقي الفصل الحادي والستون 61 بقلم عائشة حسين
الواحد والستون
********
نظر إليها عبادي بإمعان فارتجفت أوصالها من نظرته التي تحمل النار، ابتلعت لعابها وصمتت فصرف عبادي الرجل و ولده وهو يشير لأحد رجاله بالقدوم «طيب اتكل أنت دلوك لما أشوف» حاول الرجل الحديث فصاح عبادي صيحة أرجفت أجسادهم «جولتلك غور دلوك يلا»
استدار الرجل ممسكًا بولده وهرول للبوابة بعدما أشار عبادي لرجله بأن يخرجه، نهض عبادي مشيرًا لزينب بجمود «تعالي وراي يا بت»
سارت خلفه مرتعدة تدعو أن يمر الأمر بسلام، ترتجف رهبةً غير متوقعة رد فعله ولا تستطيع ترتيب كلماتها وتزيينها بالمنطق، فالعقل مشتت غائب مع افتراضات نبتت داخلها من شدة خوفها، لا تعرف سبيلًا للهرب من قبضته الفولاذية ولا ستمتهن الكذب معه أو الصدق، دخل المندرة بعدما أغلقها خلفهما وجلس مشيرًا لها بقسوة ونظرة تكويها «عيدي الي جولتيه كده يابت»
ابتلعت لعابها محاولة جمع أفكارها في حقيبة النجاة، تلملم شتاتها برغبة الانتقام، وتتقوى بدافعها المنطوي داخل صدرها المحترق بإهاناته لها ورفضه.. حكت له ما حدث بصدق وصراحة تامة، رافقت الصدق في رحلتها للمجهول علها تنجو حتى ختمت حديثها بالقسم «والله العظيم هو دِه الي حصل»،فصمت الرجل بتفكير قبل أن يصرفها بإشارة من كفه ونظرة حادة «روحي دلوك»بسرعة استدارت مهرولة فاستوقفها بتحذيره الغليظ «حسك عينك تجولي حاجة لعمتك هجطع خبرك»
هزت رأسها له قائلة بحروف متكسرة «حححاضر»وبعدها هربت من أمامه،
طرق عبادي بعصاه متوعدًا «واه يا أستاذ بجا كده»ثم زفر متابعًا «ورحمة الغالي ما هتعدي بس اتأكد الأول وأدورها فدماغي »
**********
فتح عين واحدة مستكشفًا المكان من حوله بحذر، رأى طاهر نائمًا فزفر بهدوء وراحة ورفع الغطاء عن جسده ثم نهض متسللًا، قبل أن يصل لباب المندرة ويحصل على حريته الكاملة شعر بمن يجذب جسده مرة أخرى ويقيّد رسغه الأيمن، رفع كفه فرأى خيط بلاستيكي رفيع ملفوف طرفه حول معصمه والطرف الآخر ممتد حتى طاهر، تتبعه ململمًا له حتى وصل إليه لاعنًا طاهر وحماقاته، حاول سحب طرفه فشده طاهر قائلاً «كنت عارف هتجوم والله وتتسحب زي الحرامية»
هتف يونس مستنكرًا وهو يضرب رأس طاهر «أنت رابطني يا حمار»
انتصب طاهر جالسًا يخبره بابتسامة رائقة ونظرة متشفية «أيوة عشان متجومش وتفضحنا»
هتف يونس بغيظ وهو يدفعه بعصبية «أفضحكم يعني إيه؟»
أجابه طاهر بشماتة «خالي قالي أخلي بالي منك عشان مش مرتاحلك وأنا كمان مش مرتاحلك بنات الناس مش لعبة»
عض يونس قبضته قبل أن يزفر قائلاً بهدوء «طاهر فيروز مرتي وأنا أصلاً كنت قايم أصلي»
سخر منه طاهر «تصلي؟ أنت أخرك الفجر وأنا وأنت عارفين»
جلس يونس متوسلًا له «طيب يا طاهر سيبني دلوك وبعدين أفهمك وأشرحلك»
أصرّ طاهر بعناد وهو يرمقه بنظرة متشفية «لاه عايز تجابلها يبقى قدامنا وتحت عنينا»
هتف يونس بغيظ شديد«يا غبي دي مرتي أنت حافظ مش فاهم»
عاد طاهر للتسطح بأريحية وهو يقول بتهكم «مرتك ماشي بس قومتك دي هتدخل بينكم الشيطان»
نهض يونس هاتفًا فيه بغضب وغيظ «يخربيت أبوك .. ياريت يدخل هو بس، أنا عايزه يدخل»
جذبه طاهر من الخيط المشدود قائلاً «ناقصين احنا اتخمد وراك شغل»
حاول يونس قطع الخيط ففشل «رابطه كيف وجايبه منين دِه؟»
أوضح له طاهر بنظرة راضية «خيط الصنارة بتاعة قاسم جبته للعوزة»
توسله يونس وهو يرفع الخيط لأسنانه محاولًا «سيبني أروح أقعد معاها شوية أمي وعمتي ماشيين ورانا طول النهار»
رفع طاهر جذعه قائلاً «اقطعه بس مش هتروح دلوك برضك»
تخلّص يونس من قيده قائلاً «أفهمك كيف أنا دلوك يا جاموسة أنت» اهتدى يونس للاتصال بأخيه والشكوى من طاهر، حين أجابه هتف بلهفة «الحقني أخوك هيجلطني بيقولي عيب أقعد مع فيروز عشان الشيطان»
قهقه رؤوف حين سمع توسل يونس وحماقة طاهر ثم سكت قائلًا «اكبر يا طاهر شوية»
هتف طاهر «خالي قالي ووصاني»
ضربه يونس بالوسادة لاعنًا فقال رؤوف مشاكسًا يونس «معلش روح الصبح»
هتف يونس بغضب«والله أرتكبلكم جناية لو مطلعتش دلوك فميعادي»
قهقه طاهر على هيئته فقال رؤوف متوسلاً طاهر «خلاص يا طاهر سيبه يكش بس يفلح»
هتف طاهر وهو ينظر ليونس محركًا حاجبيه باستفزاز « عشان خاطرك بس يا أخوي والله»
أنهى يونس الاتصال ورمى الهاتف ثم انطلق مهرولًا للخارج تاركًا طاهر يشيعه بضحكاته.. بينما حمل رؤوف زوجته التي جاءت مستفسرة عن سر قيامه من جوارها بين ذراعيه قائلًا «دول أخواتي بيتخانقوا، إيه رأيك نرغي احنا كمان شوية يا غزولة»
همست بدلالها الخطير«نرغي يا حمودي عادي»
****
وقف يونس جوارها لاهثًا فتفرست في ملامحه متسائلة «جاي تنهت ليه؟ » أجابها وهو ينظر إليها بأعين لامعة تخبيء إعجابه بنضارتها وجمالها الذي لا يقاوم «طاهر كان ماسك فيا قال عيب أطلعلك فوقت زي ده» ضحكت برقة، لاحظت تأمله لها فتوقفت بخجلٍ شهي زادها جمالاً وزاده انبهارًا «طاهر ده لذيذ أوي والله وعلى طبيعته خالص»
أشاح عابسًا بعدما أفاقه قولها كمطرقة «بس متجوليش لذيذ»
ابتسمت مؤكدة برقة «لا لذيذ ودماغه حلوة» رمقها بنظرة غاضبة وهو يتمتم «تستاهل الي كان بيعمله فيك رؤوف يا كلب البحر بس أنزلك»
فرقعت أناملها أمام وجهه هامسةً «سرحت فين؟»
مسح خصلاته قائلًا «مفيش»
قالت بحياء وهي تتذكر مواقفهما بإعجاب «لطيف أوي إنكم عاملتم طاهر كأخ رغم الي عمله أبوه وجميل أوي حبكم ليه»
قال مدافعًا عن طاهر «هو مالوش دعوة بأبوه ومشافهوش ومتنسبهوش ليه خالص ، طاهر أخونا»
ابتسمت هازة رأسها بإيماءة بسيطة ونظرة متفهمة وصمتت، اعتذر عن حدته معها «متزعليش»
أجابته بصدق وابتسامة دافئة «مش زعلانة»
غيّر مجرى الحديث «حاسس إني مش عايز أروح الشركة بكرة يا فيروز ولا أشبُك فشغل»
سألته باهتمامٍ بالغ «ليه؟»
أجابها وهو يهرش فروته «حاسس رؤوف محتاجني الفترة دي فمش عايز ارتبط بشغل ومسئولية، عايز أكون جنبه لغاية ما تمر الأزمة»
وضعت كفها فوق كتفه تلقائيًا فانتفض جسده ونظر إليها متحققًا من خطوتها تجاهه، ابتلع ريقه بتوتر فقالت منشغلة الفكر بقوله لاهية عن تأثير فعلتها الخطير عليه «يبقى متروحش أنت صح رؤوف محتاجلك تكون في ضهره ، أخوك أهم»
تصلّب جسده بلمساتها و توقف إدراكه عند حاجته لسرقة قبلة برغبة ملحة في القيام برد فعل يناسب ما يشعر به الآن.. تذكر قول جدته الدائم فنطق به ليفيق من هذيان اللحظة «يغيّب الشيطان ويحضر الرحمن»
سحبت كفها بخجل مدركة فداحة تلك الخطوة العفوية، شعر بها فتغاضى وتابع بتوتر ضرب جسده كصاعق كهربائي «أنا بجول كده برضك» أحست براحة من تجاهله وعدم إتيانه بفعل ولو كان نظرة تخجلها أو تشعرها بالندم بل تعامل كأن الأمر عاديًا حتى لا يهين فيها جرأتها، عض باطن شفتيه قهرًا لصعوبة ما احتمل لأجلها فاقترحت «يونس عايزة أركب حصان»
نظر إليها مفكرًا قبل أن يوافق فورًا بابتسامة ماكرة قفزت فوق ثغره متمايلة بسكر «موافق نصلي الفجر ونطلع»
علا صوت أذان الفجر فانسحب قائلًا «يلا صلي واجهزي»
بعد الصلاة انتظرته في الحظيرة الخلفية تمسح على شعر الفرس بحنان، طُرق باب الحظيرة فتركت الفرس واقتربت منه تستفسر عن هوية الطارق «مين»
أجابها بغيظ «عفريت يعني؟ يونس»
فتحت الباب مستقبلة عصبيته بأحضان ابتسامتها وصبرها الوفير، ضم شفتيه غير راضيًا يقول «داري شعرك زين»
رفعت كفيها ململمة خصلاتها الناعمة من تحت الحجاب لكنها تتبعثر من جديد مما جعلها تتأفف قائلة ببراءة «مش بيدخلوا يا يونس عايزين بنسة شعر ، مش احنا هنطلع لوحدنا؟»
عض جانب شفتيه بحنق قبل أن يأذن لها مغلوبًا على أمره «اطلعي طيب ، تاني مرة لو شوفتهم هثبتهملك بصمغ» وما حنق عليها إلا لحاجة في نفسه هو و رغبة مكبوتة بلملمة تلك الخصلات والشعور بملمسهم بين أصابعه المحترقة باللهفة، خرجت تسأل وهي تنظر للمكان «مش هنركب الحصان؟»
ضرب بكفه فوق ظهر الحمار الذي أحضره لها قائلًا بمرح «أيوة أهو اركبي»
نظرت للحمار مستنكرة تهتف بغيظ «دا حمار مش حصان»
قال ببساطة شديدة ونظرة متفاخرة للحمار «فرق حروف مش أكتر ، عنتر طلقة والله طلقة»
صاحت بحنق «يونس بتتكلم جد؟»
رفع ذقنه قائلًا بغطرسته المعتادة وهو يمسد ظهر الحمار استعدادًا «أنا برضو بتاع هزار؟»
استنكرت رغبته وهي تحتويه بنظرة مشتعلة «هتركبني حمار!»
حاول إقناعها به بكل جدية «عنتر هيعجبك واهو هو و الحصان ولاد عم مروحناش بعيد»
هتفت بسخرية وهي تستعد للمغادرة «اركبه أنت بقا الطلقة الي مفيش زيه»
أمسك بذراعها وسحبها متراجعًا عن قراره بنظرة ماكرة شقية «خلاص متزعليش بس في مشكلة»
وقفت مستفسرة منه تخبيء ارتباكها من فعلته «إيه؟»
قال بأسف كاذب وهو يهز رأسه بيأس«للأسف لازم أركب معاكي لو ونس، عشان لسه متعرفهوش ولا يعرفك»
حدقت فيه بتوتر بينما هو يدعو الله أن توافق وتمنحه الفرصة، سألته بإرتباك «لازم يعني؟»
أكد بجدية مفتعلة وهو يرسم اللامبالاة بملامحه «أيوة ولو خايفة مثلاً بلاش» قالها بخبث متحديًا فيها قوتها فقالت «هخاف من إيه؟»
عدد لها وهو ينظر لحماره «من ونس أو من يونس مثلاً» رفع نظراته تستجوب ملامحها وتستنطقها فقالت بسرعة متحدية له وهي تبتسم «لا أنا مبخافش وأظن ونس أليف، بس يونس…»
تعلقت نظراته بها منتظرًا إجابتها وهو يهرش فروته بعفوية فابتسمت قائلة «هرميه من فوق ونس لو فكر يعمل حاجة كدا ولا كدا»
ختمت كلماتها بالدخول وتحرير ونس بينما ضرب يونس ظهر الحمار موجهًا له «يلا يا عنتر منجلكش فحاجة وحشة»
دخل خلفها وامتطى ونسًا بعدما جهزه ثم مدّ ذراعه داعيًا«يلا»
فكرت قليلًا ثم سألته «قدامك ولا وراك؟» أجابها بثبات ساخر «الي يريحك عادي حتى لو عايزة أجرّك مفيش مشكلة»
أمسكت بكفه مقررة «وراك»
تمتم وهو يسحبها «ميضرش كله ينفع»
امتطت ونسًا خلفه فتعمد استفزاز ونس بضرباته وتشجيعه على الانطلاق؛ لتلتصق به أكثر وتحاوطه بذراعيها ، فعلت لا إردايًا حين خافت فهتف برضا «استعنا عالشقا بالله»
بعد قليل توقف في مكان منعزل جوار النيل هبط وساعدها لتفعل، شكرته برقة «شكرًا يا يونس»
نظر للسماء الصافية والشمس المشرقة مقترحًا عليها «تيجي نروح نفطر مع رؤوف بدل ما نرجع؟»
أبدت إعجابها وحماسها للفكرة «موافقة جدًا لو قريبين»
نظر للبعيد مشيرًا «هما هناك» ثم كرمش صفحة وجهه مشتكيًا بمكر وهو يمسك بظهره «بس أنا تعبت من السواقة سوقي أنتِ المرة دي»
رفعت حاجبها مستهجنة «هي عربية ! دا حصان»
جلس فوق صخرة كبيرة مدعيًا التعب «أنا تعبت هتركبي جدامي ولا نمسكه احنا الاتنين ونرجع زي جحا؟»
خيرها وهو يكتم ابتسامته فرمقته بنظرة مغتاظة قبل أن تشترط عليه «ماشي بس متقربش مني أظن إنك متعود وتقدر تسند نفسك»
قال ببراءة كاذبة «وأنا هقرب ليه يكش أنتِ بس تعرفي مش توجعينا فالترعة»
قالت متحدية له «قوم يلا نشوف»
ساعدها على الصعود أولًا ثم صعد خلفها، لكز ونسًا بحركة يعرفها ويريد بها رد فعله فانطلق بسرعة أرعبتها أحاطها بذراعيه وأمسك قيد ونسًاْ ليتحكم فيه «يونس ابعد ايدك» قالتها بارتباك وتململ فهتف متظاهرًا بالضيق «لما أبعد همسكه كيف يعني؟»
تحركت فهمس مثبتًا لها بسخرية «اهدي يا أسترونج اندبندنت وومن» لكزته بمرفقها في بطنه فتألم معاتبًا «بطني حرام عليكي»
صمتت مرتبكة تائهة فهمس وهو يخفف من سرعة ونس ويستنشق رائحة شعرها الظاهر من خلف الحجاب الشفاف بإعجاب «ريحة شعرك حلوة جوي شامبو إيه ده؟»
شهقت متفاجئة من سؤاله والتفتت فابتسم ببراءة موضحًا «غالي ولا رخيص عشان نشوف الكانزات هتوفّي ولا لاه»
عادت مرتبكة بأفكار متلعثمة ومشاعر متداخلة، قلبها يرتجف بعمق قربه منها وجسدها يرتعش رهبةً من هذا الاحتواء، صمتا بلا قليلٍ أو كثير من كلام ، يعيشان اللحظة ويلمسانها، يستمتعان بها تاركين عقولهم هناك على صفحة مياه النهر المتلألأة، يلقيان المخاوف أسفل حوافر ونس مقتطعين من الزمن وقتًا خاصًا.
استقبلت غزل مجيئهم بفرحة، اقتربت منهما مرحبة بفيروز وهامسةً ليونس «الله يسهلك يا هندسة أختك وأفرحلك»
مازحها بهمس «متفرحيش الشامبو بتاع شعرها غالي يا مرت أخوي»
ضحكت برقة غامزة له بشقاوة «وكمان عرفت الشامبو اتطورنا خالص» لاحظ رؤوف انسجامهما معًا وهمساتهما المفعمة بضحكاتهما الرائقة فاشتعلت النيران في صدره وهتف «يونس تعالى»
تحرّك يونس مستئذنًا غزل التي ذهبت للجلوس جوار فيروز وقاسم منتظرين إعداد رؤوف للطعام وإطلاق صفارة البدء، توعدها رؤوف بنظراته قبل أن يناديها بجفاء «غزل تعالي مين قالك تمشي هعملك الفطور عالجاهز؟»
ابتلعت ابتسامتها واقتربت معتذرة منه «سوري يا متر عايز إيه وأساعدك؟»
جلس يونس مكان غزل فهمست فيروز مبدية إعجابها بالمكان الساحر «المكان خطير بجد فيه كمية راحة فظيعة»
هتف وهو ينظر لأخيه الذي يشاكس زوجته متعمدًا «أخوي المكان الي يكون فيه يبقى كله راحة»
أكملت بإعجاب «حبكم لرؤوف وتعلقكم بيه مش معقول بجد مشوفتش أخوات كده »
فرد كفه في وجهها قائلاً «جاية تقري ولا إيه يا دكتورة ما تصلي عالنبي فقلبك»
قالت ضاحكة «اللهم صلِ وسلم وبارك عليه» لولا معرفتها به لأخذت الأمر على محمل الجد و غضبت من فعلته لكنها بدأت تعرفه، تميّز بين جده وهزله وإن اختلط عليها الأمر مراتٍ وفشلت في فصلهما.
نهض يونس؛ ليساعدهما في افتراش الأرض وصفّ الأطباق ثم تحلقوا حول الطعام، جلسا كلا من غزل ورؤوف بين تماضر وقاسم، تولت غزل مهمة إطعام قاسم وتولى هو إطعام خالته، ظلت فيروز تتابعهما في عجبٍ، حركاتهما المتناغمة وأفعالهما المتشابهة كأنهما فرقة تدربوا أيامًا؛ ليحصلا على هذا الانسجام، دس يونس الجرجير بفمه فانطلق صوت طاهر الساخر من خلفه «حش في البرسيم يا بشمهندس» غُص يونس فسارعت فيروز بمناولته الماء، جلس طاهر جواره قائلاً بسخرية «أبوك وأمك بيدوروا عليك جولتلهم غفلني وهرب مع الدكتورة»
صاح يونس وهو يمسك برأسه «يا ابن المنتول غفلجتها على راسي»
خلّص طاهر جسده منه متشفيًا فيه «عشان تسيبني وتيجي تحش لوحدك»
هتف رؤوف بجدية «اعقلوا شوية مينفعش عمايلكم دي عالأكل»
هتف طاهر لأخته بابتسامة شامتة «هاتي يا غزولة من جنبك العيش»
منحته له غزل برضا أشاح يونس ممتعضًا، اقترحت غزل بعفوية«خلي فيروز معانا النهاردة يا يونس»
نظر يونس لفيروز مستكشفًا يستنبط رد فعلها من ملامحها على طلب غزل الذي ربما ينقذهما من تساؤلات والدته وفضول والده وحماقة طاهر، هتف يونس باستسلام حين منحته فيروز القبول بنظراتها «ماشي عالبركة»
****
في اليوم التالي قرروا الذهاب لمنزل الحفناوية وقضاء الليلة هناك واستعادة ذكرياتهما سويًا.
حين اقترب من باب المنزل أمسك بكفها في قوة ونظر إليها قائلًا وهو يصرف من صدره تنهيدة البلوغ «يلا يا أم آسيا»
أخذت نظراته ونظرت لقاسم الواقف ممسكًا بكفها «يلا يا قسومي»
ابتسم قاسم بقبول فسار رؤوف ممسكًا بهما في هيمنة لا تليق بسواه ودخل المنزل راميًا السلام، أول ما رأتهم نجاة أمامها نهضت مطلقة زغروتة قوية فرحةً برجوعهما أخيرًا وعودتهما بعد غياب، تتوقف لالتقاط أنفاسها وبعدها تعاود الفعل تعبيرًا عن فرحتها بهما، فتحت الجدة ذراعيها في دعوة فتقدم رؤوف ببشاشة ومعه زوجته التي رفض ترك كفها حتى وهو في أحضان جدته، نهض منتصبًا بعدما منحها أحضانه فانحنت غزل مقبلة خديها ببشاشة وترحاب، هتفت الجدة بلا حماس بنبرة حيادية «مرحب يا بتي نورتي» عانق رؤوف عمته ومازال محتفظًا بكف زوجته بين أنامله لا يتركه ولا يتخلى عن وجودها قربه وجواره في إعلان صريح للجميع.. فعلت غزل المثل فعانقتها سماسم بقوة وضمتها في رحب أحضانها الواسعة فرحة بعودتها، ضمتهما بعد ذلك نجاة على حدى ثم جلسا متجاورين، تعلقت نظرات الجدة بكفيهما المتعانقان في غيظٍ وحنق ممصمصة بشفتيها وهي تنظر إليه بخيبة وحسرة، ضمت نجاة قاسم مرحبة بمجيئه «ازيك يا قاسم ازيك يا حبيبي»
نظرت إليه الجدة مستفسرة بخبث«مين دِه؟» ابتلعت نجاة ريقها مستعدة للرد وداخلها تبتهل ألا تثير الجدة المشاكل بمجيء قاسم فسؤالها عنه وهي تعرفه لا يبشر بخير هتف قاسم بعفوية وهو يقترب منها «أنا قاسم يا جدة»
انتفض قلب رؤوف بينما أفلتت غزل كف زوجها وتقدمت محاوطة الصغير كالدرع تهتف بصوت واثق ونظرة متألقة«قاسم ابني يا جدة وأخو البيبي الي جاي»
وضعت كفها على بطنها إشارة لقولها وتأكيدًا لمكانتها في هذا المنزل مدافعة عن صغارها بمخالب حمايتها.
مصمصت الجدة بعجب وهي تشيح برأسها في ضيق أزعج رؤوف، هتفت الجدة وهي تنظر لرؤوف بعتاب «نسيت حلفانك لجدك»
تحدثت غزل بدلاً عنه في ثقة وجرأة «قاسم دخل معايا أنا يا جدة وأنا محلفتش ولا وعدت حد بحاجة»
شعرت نجاة ببداية لا تبشر بخير وصراع محتدم فنهضت قائلة بحزم «عمتي رؤوف من زمان مدخلش البيت هو وعياله وفري حديتك وعتابك لبعدين عشان ولدي لو خطى برة عتبة البيت زعلان همشي معاه ومش راجعة» نهضت الجدة قائلة بحزن «هي بقت كده ؟ ماشي أنا رايحة أوضتي»
تركوها ترحل وتحلقوا حولهم يسألون عن أحوالهم حتى دخل آخر بصخبه العالي ومزاجه الرائق ومرحه الذي لا يقاوم «يا الله على الصدف السعيدة»
نهضت نجاة مستقبلة له بفرحة «يا صلاة النبي البيت نوّر» ضم يونس والدته وقبل رأسها فابتعدت ناظرة للتي تجاوره قائلة «ازيك يا فيروز»
ضمتها فيروز بلطف ترد تحيتها «ازيك يا طنط» ثم توجهت لسماسم وبعدها جلست وجلس يونس قريبًا منها، فابتسمت نجاة بفهم.
هتف طاهر وهو يهبط درجات السلم بسرعة «واه كل الحبايب هنا»
أول ما بدأ كان بغزل، عانقها عناقًا قويًا طويلاً جعل رؤوف يسحبه من ذراعه موبخًا «كل ده زفت حضن مال سايب هو؟»
ضحك الجميع بينما انزعج طاهر وقال متأففًا «أختي ووحشاني يا أخي»
عانق طاهر يونس وسلّم على فيروز بترحاب شديد ثم جلس ، مالت غزل ناحيته مستفسرة «فين صفوة؟»
زفر طاهر هامسًا «هعرف منين هي فين؟»
لكزته غزل هامسةً «مش قاعد معاها في البيت»
أجابها بتهكم وغلظة «قاعد معاها مش بادي جارد ولا مدير أعمالها»
تأففت غزل بضيق قبل أن تميل ناحية زوجها هامسةً «أوفة يلا نطلع تعبت»
أجاب بطاعة معصومة من الإجبار والضيق «حاضر يلا بينا نرتاح شوية وبالليل نبعت للشباب يطلعولنا» استحسنت غزل فكرته وابتسمت هامسة «بموت فيك يا حمودي»
سحبها من كفها مستأذنًا «هنطلع شوية خدوا راحتكم» سحب طاهر قاسم قائلاً «تعالى نروح عند ونس يا قاسم»
سخر يونس منه «أخيرًا بجيت تفهم هحسدك»
زجره طاهر بنظراته فقهقه يونس ، استأذنتهما فيروز لتبديل ملابسها ورحلت
*******
بعد قليل بالأعلى رقدت جواره وهمست أمام نظراته مشاكسةً «أنت هنا حمودي بالكامل صح؟»
ضحك قائلًا بمشاغبة «أوفة بيلعب كل الأدوار فأي مكان زي ما تحب غزولة ويحلالها» أتبع كلماته بغمزة جعلتها تقترب ماحية المسافة بينهما وعانقته هامسةً «تجنن والله»
بادرت بتقبيله فهمس بعاطفة «عارفة ؟ كان ده أحب مكان ليا ، من يوم ما جيتي وبقا أحب مكان ليا الي أنتِ فيه»
همست قبل أن يتوحدا سويًا «في حاجات كتير حصلت هنا لازم تفهمهاني يا حمودي وكل إحساس حسيته ناحيتي وأنا معرفتوش وكل كلمة وذكرى»
لثم باطن كفها قائلًا «بس كده جوليلي غالية والطلب رخيص يا غزولة »
******
بعد مرور وقت ٍتحلقوا حول الطعام في بهجة، رؤوف يطعم غزل التي بدورها تطعم قاسم ولا تغفل عنه، هتفت أراضينا وهي تنظر لفيروز والنظرات المختلسة بينها وبين يونس واهتمام يونس بها ثم نظرت لصفوة ممصمصة بشفقة وعدم رضا ،فابنة ابنها قصة وجع لا تنتهي ، كما أنها لا تعجبها ولا تروق لها بأفعالها وطيبتها الزائدة ، مما يجعلها تدعوها بالخائبة وتندب حظها فيها ،
همست أراضينا ليونس«صلاة النبي حلوة البت الدكتورة دي ربنا يجعلك فيها النصيب يا يونس وميبجاش نصيبك زي غيرك »
امتقع وجه يونس الضاحك من كلمات جدته المسمومة، ضاق صدره فرفع نظراته لغزل بشفقة وحزن ثم همس كاشفًا مكرها ومعريًا مقصدها يضرب لأجل أخيه ولا يبالي «لو جصدك حظ أخوي فربنا يرزقني نص حظه وهكون راضي، مين زي غزل؟» قالها وهو ينظر إليها بفخر فهمست له جدته بامتعاض «ايش جاب لجاب ! بجا فيروز أم عيون ملونة زي بت مرتضى العفشة»
مال طاهر الذي استمع لهمساتهما القريبة وهمس بضيق «أختي مش عفشة و منجصهاش حاجة يا جدة»
مصمصت هامسةً وهي تنظر لغزل بقهر وسخط «هتتكاتروا عليا عشان بت العفش؟»
همس يونس ونظراته تراقب أخيه وزوجته خوفًا من أن يشعرا بشيء، حاجبًا بابتسامة وجهه ما يدور بينهم فلا ينقص أخيه مكر جدته «معيزاش أنتِ باينلك رؤوف في البيت، أصله لو سمع قولك هيطلع ومهيدخلهوش تاني واحنا معاه»
رفع رؤوف رأسه حين ارتفع صوت جدته قليلًا، رمق أخويه الجالسان عن يمين وشمال جدته بشك ابتسما له ببراءة وغمز له يونس فابتسم رؤوف وعاد لتدليل زوجته من جديد بإنشغال راميًا بعض الأثقال على كتفي يونس واثقًا في حكمته وإدارته للأمر بالشكل الأمثل فجدته لم تعد تحتاج لتدليله وبره قدر ما تحتاج لحزم يونس ولسانه السليط أحيانًا، كما أنه يعرف أن أخويه أحاطا جدته عن عمد حتى يمتصان كلماتها الخبيثة ويمنعانها من الانتشار والوصول لأذنه وغزل، حائط صد يحمي قلبيهما من سخافاتها، يمكنه الاستناد عليه والاحتماء خلفه.
لكن جدته لم تيأس وواصلت بحماقة ومكر «صلاة النبي عليكي يا دكتورة جمر.. كُلي يابتي ولا وكلنا مش عاجبك»
تعجبت فيروز مما يقال وشعرت بالقليل من التوتر فشكرتها «شكرًا يا طنط الأكل جميل» ثم نظرت لغزل قائلة بإعجاب «غزل نفسها في الأكل يجنن والله ماشاء الله لازم تعلمني»
ابتسمت غزل لها بامتنان كما نظر إليها يونس بإعجاب وشكر، مصمصت الجدة قائلة «هي طبخت؟»
أجابت فيروز بدلًا عن الجميع مدافعة عن غزل «أيوة يا طنط أنتِ متعرفيش؟ أنا أول مرة آكل أكل جميل كده من زمان»
لوت العجوز فمها بسخط بينما شكرت غزل فيروز بحياء«ربنا يخليكي يا فيروز بالهنا والشفا»
نهض رؤوف حامدًا الله قائلاً لزوجته «يلا يا غزل جومي اغسلي يدك واجهزي عشان نمشي»
وقفت نجاة معترضة «ليه مش هتجعدوا معانا تاني؟»
قال رؤوف بمغزى وهو يضحك نصف ضحكة « لاه كفاية كده »
نهضت غزل ممسكة بقاسم ورحلت ليستعدان للمغادرة.
*********
التقطت أذناها حين دخلت ما ينتويه، فوضعت ما بيدها وهرولت تجاه الحجرة تسترق السمع وعلى وجهها إمارات الفزع «لأ مش مهم اقتله هو أو هي مش مهم وطالما مش معايا تبقى عليا وقتلها هيحسره هو، تمام أنا معاك»
أنهى الاتصال وجلس ينظر لذراعه بحسرة، رمى الهاتف ونهض ، فعادت زوجته لباب المنزل مدعية دخولها للتو، استقبلها بعبوس رافضًا مبادلتها السلام، وضعت ما بيدها متنفسة بعمق وسألته «عامل إيه؟»
أجابها بقنوط وهو يبعثر محتويات الأكياس بهمجية بغيضة «زي الزفت»
ضمت شفتيها بصمت بينما نطقت النظرات بالكراهية والغضب دون حذر، تناول تفاحة وجلس جوارها قائلاً «عايز فلوس للعلاج وأعمل ايد» كان وقع القول عليها عظيمًا.
تحلت بالثبات والقوة وقالت بملامح لا تفسر دواخلها «منين !مفيش .. على عيني والله»
سخر من قولها بفظاظة «أنتِ معكيش !أمال مين معاه؟»
نهضت قائلة بلا مبالاة «كان زمان»
وقفت أمام الطاولة تلملم ما بعثره فوقف خلفها صائحًا يبصق الكلمات مع رذاذ فمه المتطاير «متعملهمش عليا يا مرة»
احتفظت بالصمت سلاحًا ليتوقف عن بصقه القذارة لكنها هُزمت من لسانه السليط فألقت ما بيدها وصاحت «ما أنت خدتها الفلوس، أنا بقا الي عايزة شقايا وشقا أبويا»
نظر إليها بعينين محتقنتين قائلًا«أي فلوس دي أنتِ هتقلبي الطربيزة عليا؟»
استدارت متأففة بضجر تصرخ فيه بنفاذ صبر «يوه بقولك إيه يا مرتضى علشان نخلص هات فلوسي ومتلفش وتدور عليا»
تملّك منه التعب وعادت الأوجاع الغائبة لمستقرها في جسده فزاده ذلك عصبية وغضب وسرعة في رد الفعل، صاحت بقهر «عايزة فلوسي وهمشي وأغور من وشك»
لطمها بقوة وهو يمسك خصلاتها «تغوري فين بعد ما اتحايلتي واتذليتي عشان أقبلك»
دفعته بقوة وهي تصرخ فيه «رجعت علشان فلوسي عايزة تعبي وحق بنتي منك»
زمجر بغضب ملعون قبل أن يمسك بيد الهون ويضرب به رأسها في قوة وهو يكتم الألم داخله ويتلوى وجعًا
ترنحت في غير ثبات من شدة الضربة وقوتها، جلست منهارة تكتم الدماء بكفها لاعنةً له فنظر إليها بشماته راضيًا عن هدف في مرمى قوتها، منتشيًا بخسته وندالته، خرج متأوهًا يسلب الأنفاس سلبًا بحث عن مُسكِّنه بسرعة فلم يعثر عليه، بعثر محتويات الأدراج لاعنًا فتبعته ناظرة إليه بتشفي وهي تراه أمامها ذليلًا مهانًا بالألم وعدم القدرة «فين المسكن؟»
أجابته بنظرة صقرية حادة «مفيش»
سألها وهو يقترب منها بنظرة شرسة، يستعد لإفراغ شحنة الغضب والألم في جسدها «يعني إيه؟»
أجابته وهي تتراجع للخلف «أنت مش عيان ولا حاجة ، أنا بحطلك سم يموتك بالبطيء»
اتسعت عيناه في صدمة قبل أن يهرول خلفها يريد نهشها بأنيابه، طاردها فقالت وهي تدفع الكرسي نحوه؛ ليتعثر فيه ولا يطالها «موت يا مرتضى وكفاية أذى، بقا يا ناقص عايز تموت بنتك عشان تحرق قلب غريمك دا إيه الوساخة دي! » بصقت نحوه فزمجر بعنف وقفز لينالها لكنها تملصت من قبضته وهربت للمطبخ متشفية «بهدلتني وقتلت جوزي وحرمت بنتي من أهلها وفالآخر تسرق شقايا! »
زئر بقوة وهو يجاهد ليمسك بها من شدة الألم ، بنظرة راضية هتفت «حس بقا بالي عملته فجوزي وبنتي وبنتك، عيش الوجع» بصق الدماء من فمه وركض بوقود الانتقام ناحية درج المطبخ سحب نصلًا حادًا فابتسمت له باستهزاء واستدارت راحلة، جلس منهكًا تتقطع أحشاؤه من شدة الألم، قبل أن ترحل سحب الكليم من تحت أقدامها بقهر، اختل توازنها وسقطت أرضًا بسرعة ، سخر الباقي من قوته وأمسك بساقها يعرج ناحية جسدها حتى وصل إليه حاولت النهوض مرة أخرى والإفلات منه لكنه كان الأسرع منها ، دفع النصل لبطنها بقوة فخارت قواها وهبط جسدها، سحب النصل و أعاد طعنها عدة مرات بقهر وهو يشتمها ببذاءة حتى لفظت أنفاسها الأخيرة وتركها هو لاهثًا، رقد جوارها متأوهًا بألمٍ يشتد.
*****
أثناء مغادرته منزل أبيه جاءه اتصال زين فأجاب فورًا ببشاشة «أخبارك يا صاحبي»
«أخبارك إيه ؟ عرفت الي حصل؟»
قطب رؤوف مستفسرًا منه «إيه خير؟»
«مرتضى مات»
أوقف رؤوف السيارة كما أوقفت كلمات زين أنفاسه وأنفاس زوجته عن العبور، جذب الهاتف ونظر لزوجته مستفسرًا من صديقه «ازاي ده حصل؟ ومتى؟»
أجابه زين «لقيو مرات عمك مطعونة كذا مرة وهو جنبها ميت ، مبدئيًا قتلها ومات، لسه تقرير المعمل الجنائي والطب الشرعي»
هتف رؤوف بخشوع «إنا لله وإنا إليه راجعون»
أنهى رؤوف الاتصال بسرعة واعدًا صديقه «هكلمك تاني يا زين»
أعاد الهاتف لمكانه وسحب زوجته منكسة الرأس مختضة الجسد ببكاءٍ مكتوم لأحضانه، حين ضمها حررت حزنها وانفجرت في بكاء مر.
*****
قررت هي إخبار صفوة بالأمر وتحمّل تبعاته رغم رفض رؤوف وإشفاقه عليها من هذا الأمر إلا أنها صممت على ذلك، أرادت لحزن صفوة أن يتحرر داخل أحضانها وأن تملك مساحة للخروج من قمقم الكتمان، أن تمنحها الفرصة للبكاء والصراخ دون حرج، أن تجد أحضانها الواسعة في انتظار سقوطها ومكانًا آمنًا للبوح والبكاء دون عتاب أو لوم، أو إدعاء كاذب بالقوة.
تركها رؤوف ممتثلًا لرغبتها لا يبرح المنزل ولا يبتعد عنها، يجلس جوار الباب منتظرًا أن تجود عليه برؤيتها، أن تمنحه فرصة لضمها، لاحتضانها ومواساة قلبها..
أظهرت بسالة وشجاعة تحسد عليها وهي تقف أمام صفوة بقامة منتصبة تحبس الدمع وتتلحف بالقوة، رفعت صفوة نظراتها من على الحاسوب مستفسرة بابتسامة تلاشت شيئًا فشيء «ايه يا غزل مالك؟»
أخذت غزل نفسًا عميقًا وقالت بحشرجة «بصي في تليفونك بعتلّك حاجة»
أخذت صفوة هاتفها وتفقدته بقلق حتى وصلت لما قصدته غزل، دققت النظر للصورة وهي تقرأ الخبر بصوت مسموع وأحرف متشابكة تتساقط كلما فهمت ونال من إدراكها عصا الواقع المرير ، وضعت كفها على فمها تعيد القراءة وتدقق في الصورة وغزل مترقبة تتساقط دموعها بسرعة، رفعت صفوة نظراتها من على الهاتف مستفسرة «غزل دي أمي؟» صمتت غزل بضياع وتوهة فنهضت صفوة واقتربت منها مستفسرة «غزل ردي دي أمي؟»
هزت غزل رأسها وهي تتهرب بعينيها من صفوة التي هزتها قائلة «لا أكيد لا ، ممكن بابا عامل فينا مقلب علشان عايز فلوس»
ابتعدت عن غزل مصححة بوجع «لا مش بابا دا مرتضى يعني ممكن يكون قتلها فعلا! »
انهارت جالسة بيأس تحدق في الفراغ بجمود، ثم انتفضت قائلة بهذيان «غزل اديني الفلوس أرجعهاله ويسيب أمي، هو ممكن بيعمل كدة وبيخوفني علشان أبعتله الفلوس» تحركت صفوة بعصبية فأمسكتها غزل وضمتها متوسلة «اهدي البقاء لله»
أبعدها صفوة صارخة «لا متقوليش كدا هي مماتتش» ثم اقتربت ترجوها «عارفة إنك زعلانة منها ، سامحيها ، ومتقوليش كده عشان خاطري، هي صحيح غلطت بس لا متموتش ! متسبنيش»
اقتربت غزل وضمتها محاولة تهدأتها «ادعيلها يا صفوة ومتعمليش كده»
رفعت نظراتها الذبيحة لغزل صارخة «لا يا غزل» اندفعت تجاه الباب صارخة «هروح وأشوفها واترجى بابا يسيبها وهديله الفلوس وكل حاجة، هنرجع تاني يا غزل نعيش وسطهم وكأن محصلش حاجة، دا حلم أكيد» ضربت رأسها بالباب متوسلة بانهيار وغزل تضمها باكية «عايزة أصحى عايزة أفوق مش هتحمل الكابوس ده لا»
تشبثت بغزل باكية تهتف بين يدي غزل «ماما»
بعد مدة فُتح الباب فنهض مترقبًا، اندفع ناحيتها فابتسمت مطمئنة له «أنا بخير»
سألها عن صفوة فأجابته «نامت شوية»
تحركت ناحية حجرتهما الخاصة لترتاح قليلًا، أغلق الباب خلفهما وناداها «غزل»
وقفت مكانها مسيطرة على مشاعرها بقوة، هتف برفق يدعوها إليه بمحبة «تعالي لحضني وأبكي، متخافيش من لوم ولا عتاب هتكوني أنتِ وجلبك فأمان..» صمتت مغمضة العين ترتجف برغبة مكبوتة فتقدم خطوة قائلًا بحنان «تعالي يا بابا حضني أولى بيكِ من الدنيا كلها، مستنيكي أنا تجيني»
سمع صوت نشيجها فاقترب وضمها هو بقوة مخبئًا لها يشجعها بحكمته ملتمسًا لها العذر والحب «مفيش عتاب يا بابا ده حقك، ومتخافيش عليا من حزنك»
رفع كفيها لفمه ملثمًا بعاطفة وهو يشجعها بحنانه «اتكلمي و احكي جولي وهسمعك وأفهمك، ارمي علي كتفي وحمّلي عليه يساعك كيف جلبي وروحي»
**"****
تعثرت نظراتها في حذاء تعرف هوية صاحبه فنهضت على شفتيها كجحيم «علاء»
ابتسم لها قائلا وهو يلقي بسجاره تحت أقدامه ويدهسها «ازيك يا أم عبدالله»
ابتلعت لعابها وتراجعت خطوة قائلة «أنت جيت ليه وعايز إيه؟»

