اخر الروايات

رواية عزف السواقي الفصل الستون 60 بقلم عائشة حسين

رواية عزف السواقي الفصل الستون 60 بقلم عائشة حسين 



الستون
وإن الحوائج لتُقضَى
‏بكثرة الصلاة على النبي ﷺ "
وإنَّ القلبَ لَيَطِيب بڪثرةِ الصلاةِ على الحَبيبِ المُصطفَىٰ .
***************
جلسا متقابلين في القطار عيناه مسلطة عليها بصمت لا يستوعب مجيئها له بنفسها وتخليها عن قراراتها لأجل خوض تلك التجربة معه، ابتسمت مستفسرة بوهن «عايز تسأل عن إيه؟»
اعتدل في جلسته ونظر لعينيها بقوة قائلًا «كنتي فين ومشيتي ليه؟»
أجابته بصدق ونظراتها تتوزع فيما حولها مصحوبة بتنهيدة « في أوتيل لغاية ما أأجر شقة ومشيت ليه علشان فاجئتني يا يونس واجهتني بمشاعر خايفة منها، طول الوقت محاوطة قلبي وحاسة بالذنب ناحيتكم ورؤوف وكلامه فحسيت إني لازم أمشي»
ابتسم محترمًا صراحتها وصدقها مستحسنًا تلك البداية ومتفائلًا برباط محبة لن يتعقد «رؤوف كلمك تاني؟» هبط سؤاله على عقلها بالقلق والتردد، لملمت نظراتها لكفيها المعروقتين في حجرها وصمتت مُفكرة في إجابتها وعاقبة الأمر، لاحظ ما هي فيه فسارع بالتوضيح متفهمًا «متجلجيش من حاجة اتكلمي» هبطت كلماته بردًا وسلامًا، رفعت نظراتها فشعرت بنظراته الدافئة بلسمًا يداوي العلّة «كلمني يا يونس واعتذرلي وقالي مستنيني في قنا» عاد بظهره للكرسي مستفسرًا بحزن «لو مكانش كلمك مكنتيش هترجعي؟»
أجابته بصدق «لا يا يونس مكنتش هرجع ،كمان هبوظ علاقتك بأهلك ! كفاية شغلك وحياتك، رأي رؤوف مهم عندك من شدة حبك واحترامك ليه فمكنتش عايزة تتوه بينا وتحتار محبش يحصل كدا»
مطّ شفتيه بصمت مُفكرًا في حديثها فتابعت موضحة برقة «اتمنى تكون فهمتني صح علشان لو نزلتني المحطة الجاية مش هعرف أرجع لوحدي يا بشمهندس»
نظر إليها بحاجب مرفوع وأجابها «محطة إيه أنا هرمي من الشباك علطول»
ضحكت برقة شديدة ونعومة قبل أن تميل هامسةً «أنا فاهمة علاقتك بأخوك كويس جدًا والترابط الي بينكم ،مرات رجب حكتلي كتير وأنا شوفت، مقصدش إنك هتخاف منه أو بتسمع كلامه خوف لا خالص يا يونس دا تقدير»
تلاشى حزنه وأطلّت الابتسامة الحلوة راقصة فوق ثغره وفي نظراته فابتسمت،
«في حاجة تانية عايز أجولك عليها وعايزك تفهميني»
تبخرت ابتسامتها ومالت ناحيته متحفزة في استعداد «اتفضل»
ابتلع لعابه وأجابها «حياتنا أنا واخواتي فمصر أهلي ميعرفوش عنها حاجة خالص»
قطبت مستفسرة بقلق ظهر جلياً على محياها«بمعنى؟»
تنهد متابعًا «ميعرفوش إني اتجوزت ولا ظروف الجواز ولا أي حاجة عنك ،أنتِ قدامهم ضيفة عزيزة »
انتفضت مرتبكة حملقت فيه بذعر قبل أن تهتف بقلق «يونس هما أهلك ممكن يرفضوا؟ ممكن يحصل مشاكل؟»
أجابها بثبات مستنكرًا قولها «لاه ميجدروش، بعدين مفيش مشاكل ولا حاجة متخافيش »
عادت لمقعدها باسترخاء قائلة بنظرة راضية «كويس كدا يا يونس دا هيسهل علينا الموضوع أكتر وعلشان ميكونش في حاجة ضاغطة عليا»
نظر إليها بتفكير ثم مال بجذعه هامسًا بمشاكسة ففعلت المثل مستقبلة همساته تلقائيًا ربما يسكن خوفها ويهدأ قلقها «أنا أصلا مش حابب أقولهم ويبقى أمر واقع عايز أعمل فرح، عايز أشوفك بالفستان عايز أعيش معاكي كل دِه ولو بلغتهم مش هعيشه » انتفضت محذرة له بعدم التمادي في الأحلام قبل أن تقرر هي «يونس احنا اتفقنا رجاءً مترجعش فكلامك ولا تخوفني منك علشان أكون على طبيعتي معاك»
تأفف بانزعاج لا يروقه قولها ولا يستسيغه، صمت غير مرحب بالاستسلام ثم هتف بنظرة متحدية ترفض الرضوخ«إن شاء الله هتوافقي وهنعمل فرح أنا راجل متفائل يا ستي»
اتسعت ابتسامتها كالنهر الصافي وهي تهز رأسها علامة اللافائدة فابتسم وأخرج من حقيبته ورقة وقلم قائلاً «تعالي بقا أرسملك شجرة العيلة وأحكيلك عنهم»
ضحكت قائلة بسخرية «يونس دا مش مشروع هتخططه على ورق»
رفع حاجبه محذرًا «اسمعي وأنتِ ساكتة»
مررت أناملها على فمها بطاعة واستجابة لقوله فابتسم باستحسان وتابع ما يفعله بحماس.
****
ظلت ساهرة تجلس على عتبة المنزل من الداخل تراقب الطريق بنظرات متمنية وقلبٍ خافق جائع له، يتدفق الحنين من نظراتها ويفترش الطريق منتظرًا عودته ليستقبله وكلما طال غيابة نظرت للسماء داعية برخات من دموع، فتعاتبها تماضر بحنان«جومي يا بتي الجعدة كده عفشة هتتعبي»
مسحت دموعها قائلة «مش هعرف ولا هرتاح يا خالة»
طمأنتها تماضر «لما يرتاح هياجي»
قالت من بين شهقاتها التي لم تستطع السيطرة عليها «خايفة عليه أوي طلع مش شايف قدامه»
ابتسمت تماضر محاولة بث الطمأنينة في قلبها « طلع عشان يشوف الطريق يا بتي متخافيش»
نهضت مرتعبة مذعورة حين صرخ قاسم مفزوعًا «أبوي متسبنيش»
اندفعت معتلية الفِراش بخفة تضمه لصدرها مهدئة «بسم الله عليك يا حبيبي»
طوقها بذراعيه متشبثًا بأحضانها مستجيرًا من ضعفه بقوتها، مستسلمًا لأيادي الطمأنينة والحنان لتهدهده وتمحو أوجاعه سألها بلهاث «فين أبوي يا غزل؟ راح فين وسابني؟ هو صُح مش أبوي ولا بحلم؟»
ضمت شفتيها بصمتٍ بائس حزين، تتلوى وجعًا بحرقة شديدة، حامدة الله أنه ليس هنا ليسمع و يتعذب مرة أخرى ويتلظى في جحيم الكلمات الموقدة، دخلت تماضر متعكزة مقتحمة ومبادرة «مين أبوك ومين أمك يهم فإيه يا ولدي؟ إن كان أبوك وأمك جنبك؟ أهو حامد مخلفتوش بس ولدي ضنايا وحتة من روحي لا مستنية ورجة تثبت ولا هو مستني»
ببكاء هتف متوسلًا«مش فاهم يا جدة حاجة»
أوضحت تماضر وهي تجلس قربه «حامد أبوك الي رباك ورعالك وخد باله منك ولو كان أبوك عايش حامد برضو كان هيربيك ويكون جنبك كان حبيب أبوك وسره »
سألها بارتباك «كيف دِه يعني؟»
دخل المنزل على سؤاله، وقف على باب الحجرة مبتسمًا بشجن، كادت غزل أن تترك الصغير وتهرول لأحضانه ففرد كفه أمامها مانعًا لها يقطع عليها الفعل بنظرة، لا يريد نزعها من أحضانه ولا تعرية صغيره الآن ووحدة أضلعه أرادها متكئًا له وجدارًا يستند عليه في ضعفه وسندًا لا يميل وهو يحكي له، فتراجعت متفهمة تحرك أهدابها علامة الفهم والقبول في طاعة وإن كانت غير راضية وتريد ضمه هو أيضًا واحتوائه في تلك اللحظة العصيبة وجمع أشلاء الألم من عينيه، عقف رؤوف كفيه خلف ظهره وفرد قامته بهيبة ثم قال بصوت مبحوح منكسر «مصطفى أخوي وصاحبي لما جيت هنا كنت تايه ووحيد فملكوتي الي معاه نكتة يجولها عليا والي عايز يتسلى ميلاجيش غيري وهو زيي وكمان يتيم الأم ولوحده محدش عايزه وأخواته كارهينه اتقابلنا واتجمعت أرواحنا واتوحدت ومن يومها متفارجناش يوم واحد»
تقدم رؤوف بابتسامة باهتة، وشجن ضم ملامحه فزادها وقارًا وهيبة، تعلقت نظرات غزل به منجذبة إليه تتبعه في شغف ودموعها تنساب بنعومة على خديها، تابع رؤوف وهو ينظر للسماء من النافذة تتبدل المشاعر على ملامحه كالفصول الأربعة « سرنا كان واحد وحلمنا واحد، مكانش حابب العيشة هنا وسط اخواته الي مبيحبهوش عشان أبوه بيحبه ومرت أبوه مكانتش عيزاه فكان جعدته كلها هنا معانا، دخلنا نفس الكلية نفس الجامعة وعملنا المكتب وعاش فمصر بعد ما اتجوز ست البنات فاطمة»
هتف قاسم بلهفة «أمي»
تنهد رؤوف بصمت ثم تابع «كنت معاهم هناك عارف بيهم وداري بحالهم أول واحد عرفت بيك أنا» ابتسم بحنين وهو يتنهد مجليًا صدره بالأنفاس ثم استرسل «بس شاء ربنا يعملوا حادثة، أنت طلعوك وحطوك فيدي بعد ما فارجت أمك ، وأبوك حصّلها بعد ما وصاني عليك»
كتم وجعه داخله باكيًا بصمت ثم تابع «مصطفى الي عاش عمره لوحده مكانش يتمنى تعيش الي عاشه ولا هيحب تكبر وسط الناس الي رفضهم ورفضوه،كتبتك وداريتك وجولتلهم بموت ولدهم بعد ما خلصت كل حاجة، وعاشوا فاكرينك مُت مع أمك»
صمت الجميع فالتفت رؤوف قائلًا بصوت مبحوح «لو كان ليا اختار كنت فديتهم ولا أديتهم روحي وعاشوا و مُت أنا، حياتي متساويش بس حياتهم هما تساوي كتير» تحشرج صوته بغصة بكاء ابتلعها وأكمل بهزيمة «ياريتني مُت أنا وعاشوا هما وربوك ولا جيه اليوم ووجفنا الوجفة دي يا بابا»
تركت الصغير حرًا منتظرة تحليقه بعدما أراه الطريق،نظرت إليه نظرة متوسلة راجية فلم يخيب ظنها فيه وفي تربيته، فورًا ترك الفِراش واندفع معانقًا الذي انهار أرضًا على ركبتيه يبكي بوجع ما عاد يقدر على ابتلاعه والتظاهر بالقوة والثبات..
هبطت غزل وجلست جواره تمسح على رأسه بحنان مشاركة له وجعه والبكاء، هال الصغير ما رأى من ضعف والده وبكائه لأول مرة وهزيمته، شعر بالندم وحرقة القلب فسخر أحضانه الدافئة لتحتوي كما لسانه الذي قال «أنا مش عايز أب غيرك ولا عايز أعرف حاجة بس متخليش حد ياخدني منك ومن غزل»
عانقه رؤوف بقوة واعدًا له «محدش هياخدك ، بيني وبين مصطفى عهد ووصية مقدرش أخلفهم وإن خلفتهم جلبي الي أنت حبيبه ميخلفش يا بابا »
******
في اليوم التالي
فقد المنزل المرح، ابتلعت الجدران أصواتهم بكآبة وحزن، عبست مثلهم في وجوم بعدما أحست وتسرّب إليها حزنهم، ضللتهم بالصمت الخانق، جاءت رأفة راكضة ووقفت حاملة فرحتها بين كفيها، لأول مرة تجد المنزل مغلق، بابه موصود في وجهها وحامد لا يجلس أمامه ينثر الحكايات، الهواء من حولها لا يرقص مترنمًا على أنغام أغانيه التي تحبها، انقبض قلبها وتلاشت ابتسامتها فورًا بوجل، وقفت مترددة تفكر هل تطرق أم تتركه وترحل؟ نظرت حولها باحثة عمن يعينها، من يمنحها رأيه السديد فلم تجد سوى الوحدة المتشحة بالسواد المقبض، عادت بنظراتها للمنزل، للباب المغلق بأنفاس متسارعة، كأن دقات قلبها المرتفعة دقت الباب عوضًا عنها، نادته في حزنه فنهض تحت نظراتهم بصمت وفتح الباب ملقيّا السمع والبصر «مين؟»
ضحكت رأفة ومسحت دموع الحزن المتعلقة بأهدابها، نهض القلب المحب من عثرة الوحشة المقبضة واندفعت بفرحة «أنا ياعم بس كيف عرفت؟ أنا مخبطتش»
ابتسم لها بعدما خصها بثلث ثروة حنانه المخبئة في نظراته وأجابها «حسيت بيكي» كان صادقًا جدًا في قوله لا يشاكس ولا يتجمل ولا يتصنع ودًا زائفًا بل حقيقيًا نابع من قلبه، مدّت ذراعيها له بما تحمله قائلة بامتنان «أمي خفّت يا عم بقت تمشي وتتحرك» قالتها واصفة حال أمها بانبهار كأن ما حدث معجزة، فخضع حزنه للفرح في نظرات الصغيرة وسطوة السعادة
«خد ياعم عملتهالك بيدي شكرًا» أضاءت عيناه بعد طول ظلمه، توهجت كالشمس في كبد سماء المحنة فتوهجت نفسه ، تناولها بابتسامة مبهجة حنون وسؤال رقيق «إيه دِه يا بابا؟»
بخجل فطري وأدب قالت مرتبكة «اتعلمت من غزل كيف أعمل الكيكة الي بتحبها وعملتها لوحدي عشانك ،شكرًا ياعم أمي بسبب الدكتور الي وديتها ليه خفت وبجت زينة الحمدلله»
ضمّ الطبق لصدره ومال ملثمًا مقدمة رأسها بحنو قائلًا بصوته الممزق بفعل الصمت الطويل المتواري خلف سحابة حزن قاتمة «الشكر لله فرحتيني جوي يا بابا»
بترقب قالت منتظرة رأيه «دوجها يا عم وقولي رأيك»
جلس متعبًا واهنًا فجلست أمامه تسأل بقلق خالط فرحتها وعكرها «أنت زين يا عم؟»
أجابها وهو يفتح الطبق كاشفًا الغطاء «الحمدلله يا بابا»
هزت رأسها بشك ونظرة لا تصدق سوى حمده على الحزن لا إنكاره له
تناول قطعة صغيرة ولاكها رغمًا عن نفسه الرافضة وتهذيبًا لها «جميلة جوي يا رأفة» توسعت عيناها وقالت بفرحة «صُح عجبتك؟»
أجابها وهو يأكل الأخرى بنهم نابع من محبته لها ورغبته في إرضائها ومنحها اليسير من السعادة والرضا، مال وهمس «دي أحلى من بتاعة غزولة بس اوعى تجوليلها»
وضعت كفها فوق فمها كاتمة ضحكة السعادة مقيدة لها قبل أن تزيح كفها وتمنحه الوعد الصادق «حاضر مش هجولها»
تناول قطعة وقربها من فمها قائلًا «دوجي معاي يا رأفة وشاركيني» قضمتها بخجل فنهض قائلًا وهو يمسك بالطبق «تعالي روحي معاي نشوّط على المكنة والقناية ونتحدت واحنا ماشيين» نهضت بحماس سارت جواره تغيّب أفكاره بأسئلتها وعذوبة حديثها فيبتسم تارة ويجيبها بحماس تارة أخرى
ثم قالت ما استحقت عليه نظرته القوية «لما جيت ولجيت بيتك مجفول يا عم خوفت جوي»
سألها باهتمام وهو يجلس مانحًا لها انتباهه الكامل، يشعرها بأهمية ما قالت «ليه خوفتي يا بابا؟»
أجابته بحيائها الجميل البهي «متعودتش بابك يتجفل ولا متكونش مستنينا زي عوايدك»
مسح على رأسها معتذرًا واعدًا ألا يفعلها مرةً أخرى فتوسلته بنظرة مستنجدة «أوعى تجفل بابك يا عم مبعرفش أروح فين ولمين»
نظر إليها بمحبة متأثرًا بقولها الذي أمطر قلبه بالعطف فابتلت عروقه بالفرح وتحرّك لسانه يسقي الروح بالرضا، منحها كوب شاي صنعه فتناولته قائلة «احكيلي يا عم قصة سيدنا موسى زي ما وعدتني» ابتسم مرحبًا بطلبها مستقبلًا له بأحضان الأبوّة الصادقة ، انغمس في الحكاية وهو يتحرّك حولها مؤديًا عمله وهي تتابعه مشدوهة بسحر صوته ونبرته الرخيمة مأخوذة بجمال قوله وسرده للقصة.
سأل عن صغيره حين جاء فأخبرته بخروجه لأصدقائه، الصغير طاف القرية ليتأكد من كل شيء يخاف عليه، من أنّ أصدقائه مازالوا كما هم وكل شيء على ما يرام وأنّ هذا القلق والخوف ما هو إلا حديث نفسه وشيطانه... وضع حامد معداته التي أتى بها جانبًا واتجه ناحية الصنبور ليغتسل، وقفت هي جواره بالمنشفة تساعده بلطف حتى انتهى وسحب منها المنشفة، دخل الحجرة فتبعته كظله، ترافقه منتظرة جوده من المحبة وعطائه من القرب وكرمه من وصال يهديء القلب وتسكن به الروح، أزاح المنشفة فوجدها تتطلع إليه كالطفلة التائهة ابتسم وجذبها محيطًا لها بذراعيه في حنانٍ ورقة، تنهدت برضا حين غمرها بمحبته وسكن جسدها بين ذراعيه مستقبلة هدير عاطفته على شفتيها، ابتعدت عنه قائلة «أجبلك حاجة تاكل أو تشرب يا حبيبي»
أجابها بحنان «لاه خليكي جاري بس يا غزل وقريبة مني لو توهت منك امسكي يدي ورجعيني»
تعلقت برقبته هامسةً بدلال تعزف لحن الشوق على أوتار دقاتها العالية «لأ أنا هروحلك هناك أو هاخدك أنا وأتوهك يا متر»
ابتسم قائلا بعشق «يا محلى التوهة معاكي يا روح الروح»
جلس أرضًا في بقعته المميزة وسحبها لأحضانه متنسمًا عبير الراحة في قربها، نظر لعينيها غارقًا في سحرها يقول «وحشني صوتك غنيلي حاجة حلوة»
ابتسمت قائلة «بس ليا طلب يا حامد»
قطب في جدية القول وخلو اسمه من التدليل المعتاد «خير يا بابا»
ابتسمت مُطمئنة له بنظراتها قبل أن تسحب كفه وتضعها فوق بطنها قائلة «عايزة أحفظ القرآن زيك»
ابتهج قلبه وابتسم هامسًا بمشاكسة «بس أنا أجرتي كبيرة عليكي يمكن متجدريش عليها»
جارته في مشاكسته «لا هقدر بإذن الله أنت تؤمر يا متر وأنا أنفذ»
مسح على رأسها مستفسرًا «وليه عايزة تحفظي؟ »
أجابته بنظرة طامحة «علشان أكون زيك وعلشان لما تحفظني آسيا تسمع صوتك وتعرفه وتحبه زي ما حبيته، عيزاها تحبه زيك كده وتتعلق بيه وأول ما تسمع يكون منك »
لثم باطن كفها متسائلًا «ونبدأ متى يا غزولة؟»
أجابته بحماس «دلوقت حالًا يا حمودي» سحبها لأحضانه هامسًا برقة ومشاعر أفلت زمامها اللحظة «وحمودي تحت أمر أم آسيا بس ياخد أتعابه مقدمًا»
بعد مرور وقتٍ خبتت شقاوتهم وضعفت حركتهم النشيطة الدؤوبة في المنزل، جلسوا متناثرين حول طاولة الحزن ينظرون لبعضهم في وجل، تطوعت غزل بسحق الصمت ولملمته بصخبها «حمودي ما تنشدلنا شوية»
رفع قاسم نظراته بلا رغبة في شيء يتابع من علوّ اليأس بصمتٍ وبؤس
رفع لها رؤوف نظراته بلا إجابه، تحرّك قاسم للحجرة اعتلى الفِراش وجلس ممسكًا بدعائمه شارد الذهن، نهض حامد وتبعه، جلس جواره بنفس الصمت الوقور فالتفت له قاسم قائلًا بخجل «عايز أشوف أمي عايز صورها هي وأبوي»
ارتج قلب الأخر، سقط من عليائه متمرغًا في وحل الحسرة، حاول التحكم في غيرته اللحظة على صغيره الذي نال التفكير من عقله والضعف من جسده وذبلت نظراته النضرة، سيطر على انفعاله وقال بصوت متحشرج «حاضر»
أشفقت عليه غزل من تلك المعاناة، من نزاع نفسه وقتال مشاعره، من غيرته على صغيره الذي رباه، من انكسار أحنى ظهره وهدّل كتفيه بعدما أصبح هناك من يشاركه في ربيبه ويشاركونه في محبته.. تبعته للحجرة ودون مقدمات عانقته بدفء منحته كل الدعم والمؤازرة محاوطة له بحنانها، قوّمت إعوجاج نفسه بمشاعر ضختها دون حساب، وهمست له بأنها هنا جواره يسري عشقه منها مسرى الدم في عروقها..
ألقى بأثقاله في عناقها منحها نفسه المتوجعة تطببها وتضمد جراحها، تجرّد من قوته متقبلًا احتوائها ودعمها ثم ابتعد يسحب الأوراق التي جهزها من قبل وعاد لصغيره منكسرًا مهزومًا داخله يهمس أن يسامحه صديقه على مشاعره التي لا يد له فيها.
جلس جوار الصغير بحماس كاذب فتح ملف الأوراق وبدأ في إخراج الصور واحدة تلو الأخرى له، نظر الصغير لوالدته بأعين متسعة يطلّ منها الانبهار «أمي جميلة جوي»
انكمشت غزل متأسفة دامعة فنظر إليها حامد مدثرًا ضعفها بحنانه وأشار لها أن تقترب، حين قدمت إليه أجلسها جواره ملتصقة به وبدأ في تمرير الصور لصغيره بارتباك وحزن، قلّبها الصغير بين يديه مُعجبًا منبهرًا يطلب المزيد من الذكريات فيمنحه حامد بطيب نفس وهو يقصّ عليه أحداث كل صورة وكيف ولما التقطوها حتى نام الصغير والصور مفروشة جواره.
******
طرق الباب هامسًا باسمها وهو ينظر حوله مراقبًا «فيروز»
انتفضت من مكانها ووقفت أمام الباب مُجيبة «مين؟ يونس؟»
همس بغيظ وفظاظة «امال مين يعني هيخبط عليكي دلوك؟»
سارعت بفتح الباب فرأته أمامها بجلبابه الفخم المكوي بعناية، اتكأت على إطار الباب مستفسرة «أنت لحقت تكوي يا هندسة؟»
أجابها بغطرسته المعتادة «لاه أنا حاجتي بتبجا جاهزة ومستنياني»
ابتسمت قائلة ونظراتها تلمع بإعجاب واضح «دا كدا دلع»
غمزها بشقاوة قائلًا وهو يمسك بكفها ويسحبها للخارج دون إذنها «أيوة عشان تعرفي إني متدلع جوي فتاخدي بالك»
وقف بها في الشرفة فاستنشقت الهواء الطازج بقوة ثم أبدت إعجابها بالمكان الساحر والهواء المنعش الخالي من الروائح الكريهة «المكان تحفة أوي يا يونس»
سألها وهو يتكيء بمرفقيه على سور الشرفة «منمتيش لغاية دلوك ليه؟»
أجابته وهي تفعل مثله «لسه المكان جديد وكنت برتب هدومي في الدولاب»
هتف وهو ينظر إليها بطرف عينيه «هتاخدي عليه بسرعة»
ابتسمت داعية تركل ثقته بكلماتها «هنشوف ربنا يسهل»
سألته باهتمام «فين المتر وغزل؟»
أجابها بلهفة أطلّت من نظراته وهو ينطق أسمائهم «رؤوف وغزولة فمكان تاني بكرة هنروح كلنا بإذن الله غزل عزمانا اتصلوا وسألوا عليكي أكتر من مرة»
همست بنظرة ممتنة « ربنا يبارك فيهم كتر خيرهم»
نظر لساعة معصمه باهتمام فسألته «رايح فين دلوقت؟ »
ابتسم قائلًا «هروح فين أنا بس مستني الفجر علشان أصلي وأنام» ثم نظر لعينيها الجميلة قائلًا«اعملي حسابك هصحيكي كل يوم تصليه ونتمشى شوية»
صمتت بتفكير وهي تفك أسر نظراتها منه «أمم هحاول أنا فعلاً متعودتش أصليه حاضر»
هتف وهو ينظر للفضاء الواسع «اتعودي كلنا هنا كده»
قالت مستحسنة الفكرة «تمام حلو»
علا صوت أذان الفجر فاستأذنها وغادر قائلاً «لو احتجتي حاجة رني»
ودعته بابتسامة لطيفة «تمام يا بشمهندس باي باي»
سخر في نفسه من قولها وهو يهز رأسه «لو جدتي سمعتك هتغفلجها»
أغلقت باب الشقة عليها ثم اتجهت للمرحاض عملًا بنصيحته، تتوضأ عازمة على أداء صلاة الفجر وأخذ قسطٍ من الراحة قبل الذهاب لرؤية غزل و رؤوف
**********
في الصباح صحبه رؤوف لزيارة والديه، سار به بين القبور وجلًا، صامتًا بتفكير، ما كان يحب إحضاره هنا وملأ قلبه بالوحشة والخوف لكنه اليوم أُجبر بإلحاح من الصغير، وجد عبود جالسًا كما تعوّد يبكي بصمت ودون توقف، يتمتم بالكلمات غير المفهومة ثم يختتم ذلك بشهقة عالية مصحوبة باسمها «فاطمة» شهقة تقتلع الروح من جذورها، حوّل بصره للصغير تمعن فيه قبل أن يتمتم ببكاء لا يشفي بل يحرق الصدور «قاسم يا فاطمة»
بأنفاس متسارعة وأعين متسعة جلس الصغير على ركبتيه أرضًا يتحسس التراب بكفه وهو ينطق الكلمة متعثرة في مشاعره المبهمة المتزاحمة«أما»
أشاح رؤوف برأسه عنه يحاول السيطرة على دموعه، يستعيد توازنه... مسح رؤوف دموعه واستنشق المزيد من الهواء قبل أن يجاور صغيره قائلاً بصوت متحشرج «ازيك يا مصطفى وحشتني، جيت وجبتلك قاسم معاي عارف إنها متأخرة، كنت خايف عليه بس خلاص...صمت باكيًا وبعدها تمتم «صعبة الدنيا من غيرك يا صاحبي جوي»
اقتحم والد مصطفى المكان بهيمنة فارتبك رؤوف ونهض واقفًا في تحفز ممسكًا بكتفي قاسم يضمه إليه في حماية تعجب منها الصغير الذي ارتفعت نظراته للرجل المهيب ورجاله.
دخل الرجل بصمت وقف أمام القبر متمتمًا بحزن قبل أن يرمي نظراته تجاه رؤوف الواقف وأمامه صغيره
هتف الرجل بخشونة «فيك الخير يا أستاذ مبتخلفش ميعادك»
هتف رؤوف بضيق ووجه مكفهر «البجية فحياتك يا أبو موسى»
هتف الرجل بإنزعاج «وأبو مصطفى يا أستاذ»
قلّب رؤوف شفتيه بشك ونظرة ساخرة ممتلئة بالاستنكار بعدما تبدد حزنه وخرج مارده مع دخان غضبه، ظل عبود صامتًا نائيًا بنفسه وحزنه لا يتابع ولا يهتم فقط يدعو أنّ يمر الأمر بسلام.
لكزه والد موسى بقدمه في احتقار قائلًا«كيفك يا عبود كيفك يا نسيبي!» قهقه عاليًا ساخرًا من القدر الذي جمعهما وهذا المعتوه فكشّر رؤوف بتحفز، يكتم غضبه ويسيطر على انفعاله وضيقه، تقدّم خطوة ناحية الرجل فحرّك رجاله أسلحتهم تحذيرًا واستعدادًا لأي غدر، منحهم الرجل إشارة التوقف بغضب ثم أدار رأسه لرؤوف قائلًا «الأستاذ حبيبنا»
نظر إليه بحدة ثم تابع «عارف يا أستاذ الي حايشني عنك من زمان عضم التربة، سايبك أنا تبرطع يمين وشمال وتعمل الي عايزه وأجول معلهش حبيب ولدي ، شوطة أجول طب ما أبعته ليه يونسه زي ما صاحبه فالدنيا يصاحبه فالآخرة وشوطة أجول لاه خليه كنه مصطفى عايش»
سخر منه رؤوف بفظاظة ونظرة متوحشة «لاه متجيش على نفسك بس ساعتها هاخدك معاي ونتحاسب كلنا فوق على رواقة»
نظر إليه الرجل بغضب قبل أن تهبط نظراته وتتعلق بالصغير الغاضب، نظر إليه مليًا فرقّ قلبه ولانت ملامحه، تقدم قائلاً «ولدك ده؟»
دقق فيه النظر متعجبًا، الصغير يجمع ملامح ابنه وزوجته في جعبة واحدة ،حاوطه رؤوف بذراعيه مُجيبًا بحدة «أيوة ولدي»
فرد الرجل كفه داعيًا «تعالى سلّم عليا أنا زي جدك»
رفع قاسم رأسه للأعلى لوالده الذي جف حلقه وكاد نبض قلبه أن يتوقف مع عقارب الوقت، تجمد مكانه بروح مهزومة فقال الرجل وهو يرمقه بدهشة استوطنت نظراته من فعل رؤوف«وريني ولدك كده يا أستاذ من زمان مشفتوش، واه بتدريه مني ليه.. دا أنت غلاوتك من غلاوة مصطفى الله يرحمه يعني أنا فمقام جده»
دفع رؤوف صغيره ناحية الرجل وهو يزرع نظراته في عينيه متحديًا «سلّم على جدك يا قاسم»
تحرّك الصغير ناحيته بملامح جامدة وضع كفه بكف الرجل بنظرة غاضبة،
رآها الرجل فعبس بضيق و انتصب واقفًا يحدّث نفسه لكم تشبه تلك النظرة نظرة ولده الغاضبة الحانقة..
أخرج من جيبه ورقتين نقديتين ومنحهما للصغير الذي رفض «متشكر مش عايز»
هتف والد موسى «جول لولدك ياخد يا أستاذ ميصحش»
تذكر رؤوف صديقه ورفضه أموال أبيه وامتناعه عنها وزهده فيها فقال «لاه معيزينش كتر خيرك»
وضعها الرجل بجيب جلباب قاسم عنوة وهو ينظر لعينيه منجذبًا وفي ذات الوقت مندهشًا من الشبه الغريب بين الصغير وفقيده. انتصب واقفًا ثم استدار راحلًا يتبعه الرجلان للحماية كظله.
أخرج قاسم الأموال من جيبه فقال رؤوف بحزم «الي سابه فيوم مصطفى متاخدهوش أنت»
سأل قاسم وهو ينظر للعملة الورقية «دِه جدي؟»
سحبه رؤوف من كفه بصمت عائدًا للمنزل .
في الطريق فتح قاسم قبضته محررًا النقود من قيدها تاركًا لها تطير في الهواء.
*********
همست غزل ليونس الذي جاء بصحبة والديه وفيروز وطاهر وهي تنظر لزوجها بخشوع حيث يقف وحيدًا يستند على فرع الشجرة بشرود حزين «من ساعة الي حصل وهو ساكت حزين وأنا مش عارفة أساعده إزاي»
عاتبها يونس بضيق «ليه يا غزل مبعتليش ولا حكتيلنا»
سلبت الهواء لرئتيها وأجابت ونظراتها إليه توقد في القلب شوقًا «مرضيش قالي مشغلكمش ولا أشيلكم هم»
تأفف يونس بضجر من طريقته وحرصه الشديد على راحتهم وعدم إقلاقهم، توجهت نظرات يونس ناحية قاسم الذي انشغل قليلًا مع صفوة وتنازل أخيرًا عن صمته، قاسم الذي فقد حيويته ونضارته وتاه عقله في دروب لا يعرفونها، النشيط المغامر أصبح كسولاً صامتًا ببؤس يحمل الدنيا فوق رأسه وفي نظراته التائهة
تحرّك يونس ناحية أخيه تاركًا غزل التي عادت للعمل في مطبخها بدأب ونشاط اقتحم عدنان عزلتها «غزل»
استدارت على وجهها عرق الإنهاك متفصدًا، ابتسمت بترحاب حين رأته واقفًا أمامها بنظرة خجولة تحكي الكثير وتنحني في ارتباك فقررت التغاضي والعبور من هذا الزقاق الضيق لا تريد أن يشغل عقلها سوى زوجها كما أنها لا تريد فرقة بينهم تزيد الأمر سوءًا وتحمّل زوجها مالا يطيق فهو يحتاج إليهم ولمحبتهم بشدة ابتسمت قائلة «محتاج حاجة يا عمو؟»
ابتسم ناظرًا إليها بتمعن مفتشًا في نفسها فلم يجد أمامه إلا صفحاتٍ خالية هتف بمشاكسة يخفي بها حرجه الكامن في نفسه منها وقال «من يوم ما مشيتي ومحدش قرألي زيك»
ابتسمت مُرحبة تسايره في الأمر، متفهمة خطواته الحثيثة تجاهها «أخلّص الأكل وعنيا يا عمو نقرأ»
أمسكت بحبات البندورة تقطعها فهتف بعدما تنحنح «سامحيني يابتي غلطت فحقك خوفي على ولدي عماني»
رفعت رأسها قائلة بابتسامة منمقة «مفيش حاجة يا عمو ياريت تنسى الي فات»
سألها بشك وهو يراقب حركة كفها المتوترة «نسيتي؟»
اتسعت ابتسامتها وأجابته بصدق وشريط أيامها مع حبيبها ولحظاتهما السعيدة يمرّ أمام عينيها «أيوة يا عمو رؤوف ميستحقش غير أنسى وأكمل معاه بقلب خالي من كل حاجة غيره، يستاهل أشيل أهله على راسي، لا حلمت ولا عمري كنت أتخيل هكون سعيدة بالشكل ده، فحقه عليا إني أنسى وأنا عارفة كل لحظة بعيشها معاه بيعوضني عن الي حصل»
ابتسم عدنان بإعجاب قبل أن يربت على رأسها ويقبّل جبهتها شاكرًا ثم انسحب، عادت هي للعمل بعدما شاركتها صفوة رفقًا بها، ومساعدةً لها خاصة بعدما لمحت في وجهها التعب والإرهاق..
بعد قليل تجمعوا حول الطعام، رؤوف صامت حزين يدّعي الإنشغال بتناول ما قدّم إليه وقاسم يحصي حبات الأرز بشرود وكلما غلبه الهم دارت نظراته في الوجوه بوجوم لا يصدق أنه قد ينفصل عنهم قريبًا ولا أنه سيصبح له بيتًا آخر وعائلة جديدة، تركت غزل طعامها وانشغلت بمراقبة عائلتها بعيني الاهتمام والعناية، تقدم لزوجها منبهة له وتشجع الصغير بحنانها لكنهما لا يستجيبان لها مما جعلها تزهد هي الأخرى في الطعام، عبس طاهر لحالها وصمت عن الثرثرة في ضيق مما يحدث، حتى نهضوا جميعًا وتفرقوا وبقيت هي وحدها أمام طبقها شاردة لا تعي ما يدور حولها.. تفقّد رؤوف عائلته بالخارج فلم يجدها، دخل مهرولًا للمنزل المغلق مفتشًا عنها فوجدها على حالها منذ تركها ونهض زاهدًا لا يستجيب لها ولا يهتم بشأنها، فاقت على ندائه الخافت باسمها «غزل» رفعت نظراتها الغارقة في بركتي دموع بصمت فجلس محتويًا لها بين ذراعيه يضمها لصدره معتذرًا عن انشغاله عنها «حقك عليا يا بابا»
دفنت وجهها في صدره باكية تعتذر له برقة «أنا آسفة إني مش عارفة أساعدك ولا قادرة أطلّعك من الي أنت فيه» ساعدها على النهوض والذهاب لحجرتهما حتى لا يجذب انتباه الموجودين ولا يثير قلقهم فهو يشعر بالذنب ناحيتها فقد أثقل عليها كثيرًا.
جلس بها فوق التخت معتذرًا يمسح دموعها بحنان «متبكيش أنا غلطان وملهي عنك»
صمتت بإطراق فتابع بأسف «انشغلت عنك حقك عليا، بس غصب عني والله»
رفعت ذراعيها وعانقته دون حديث فقط أخرجت من بين شفتيها تنهيدة حارة مثقلة بالمشاعر، همست برجاء «كون كويس علشان خاطري»تنهد بأسى وندم ملأ قلبه من ناحيتها نتيجة انشغاله عنه وتركها لهواجسها وظنونها فريسة ،
ابتعد على نداء أخيه، قبّلها برقة ونهض مُجيبًا، خرج فسأله طاهر «دخلتوا ليه بتعملوا إيه مش تجعدوا معانا»
كمم يونس فمه بكفه زافرًا بقنوط وهو يقول «يا أخي دا مفيش مخ خالص نعمل فيك إيه»
ابتسم رؤوف بصمت بينما خرجت غزل تمسح دموعها، سحب طاهر كف يونس ودفعه ثم اقترب من أخته يهتف بإنزعاج «ضربك ولا إيه؟»
ضرب يونس جبهته بكفه يائسًا محبطًا منه بينما انكمشت غزل في زوجها بخجل شديد، سحبها رؤوف من خلفه وضمها مؤكدًا «أيوة ضربتها وهي راضية أنت مالك »
سألها طاهر بدهشة «أنتِ راضية صُح» هزت رأسها بتأكيد فلوّح طاهر بذراعه في ضيق وإحباط وخرج، تبعه يونس للخارج بينما سحبها رؤوف ناحية المطبخ مقترحًا «نعمل شاي ونطلعلهم»
استجابت لفكرته بصمت نظر إليها رؤوف مبتسمًا، فمحاولاتها لإسعاده لا تنتهي ولا تقف عند حدٍّ، تسعى دائمًا لإرضائه، كل ليلة تبهره بما تصنعه لأجله وتريد به الاستحواذ على تفكيره وسرقته من همومه، تبارز آلامه متحدية لها.. مهما بلغ تعبها تسهر جواره؛ لتلبية احتياجاته لا يهمها سواه ولا يرضيها إلا رضاه ضمها داعيًا بصدق «ربنا ما يحرمني منك يا غزل»
«ولا منك يا حبيبي» همستها بنظرة رضا فابتعد يحمل الأكواب قائلاً «يلا قبل ما أخوكي الغبي ياجي تاني» ضحكت برقة وهي تتبعه في سيره للخارج.. وزّع الشاي وجلس جوارهم وهي جواره منكمشة في جسده، أمسك بكفها وضمه متخللًا أناملها بأنامله...
استأذن يونس الجميع في أخذ فيروز والسير قليلًا ،تعجب والديه أول الأمر ورفضا الفكرة بنظراتهما المستنكرة دون حديث فانقذ طاهر الموقف «خدوني معاكم يا شباب»
استأذنهم طاهر ورحل معهما بينما كانت صفوة منشغلة باللعب مع قاسم والتسرية عنه وتلهيته عن التفكير، تركته ينهي دوره واقتربت لتضع كوب الشاي الفارغ فوق الصينية الموضوعة أمام رؤوف فابتسم شاكرًا بنظرة امتنان حقيقية «شكرًا يا صفوة»
رفعت نظراتها إليه تهز رأسها بتفهم فقال بلطف لأول مرة معها«خففتي كتير عن قاسم»
أجابته بأسى «متقلقش واطمن محدش هيحس بيه أدي ولا عارف بيفكر فإيه زيي أنا»
نهضت فنكس رؤوف رأسه بصمت، لأول مرة يشعر بمعاناة صفوة، لخصت همومها في جملتين قاسيتين، لم يكن عادلًا معها ولو لمرة لم يمنح نفسه فرصة للشعور بها و الرفق بل كان قاسيًا حتى في صمته، وضعت غزل كفها على كتفه شاعرة بمعاناته وما يدور في عقله، رفع رأسه ناظرًا إليها بانكسار حزين فابتسمت هامسةً «مفيش مشكلة نبدأ من الأول يا متر» ربت فوق كفها الموضوعة على كتفه بصمت.
هتفت نجاة «مش هتاجوا تجعدوا معانا يومين»
أجابها رؤوف باقتضاب «ربنا يسهل»
سأل عدنان غزل الصامتة «ولا أنتِ إيه رأيك يا بشمهندسة؟ العيال هناك بياجوا يدوروا عليكي وعليه»
ابتسمت قائلة وهي تشد على كتفه مؤازرةً تفيقه من غفوة شروده «الي يشوفه رؤوف أنا معاه والي يريحه يريحني» تنهد رؤوف بصمت مفكرًا في الأمر.
فتدخل عبود الذي كان يجلس بصمت «عايز آخد قاسم شوية يا حامد»
نظر إليه رؤوف بقلق قبل أن يسمح له بابتسامة بشوش «خده»
نهض عبود فورًا من جلسته متجهًا حيث يجلس قاسم وقال «تعالى معاي يا قاسم نتمشي»
ابتسم قاسم بحنان قبل أن يمنحه كفه بطمأنينة ويرحل معه تشيعهما نظرات رؤوف بقلق لا يفصح عنه.
********
لاحظت تأخره عن القدوم إليها وبعض الأصوات الخافتة التي تأتي من الحجرة المجاورة فقررت الخروج واستطلاع الأمر، فتحت الباب فوجدته يُسحب لحجرة والدته ببطء ويتم إغلاق الباب، تعجبت من الأمر وحارت مُفكرة فيه، لعب برأسها الفضول فقررت التجسس والإستماع لما يقولونه والذي يحمل كل هذه السرية والمراعاة، تحركت ناحية الحجرة بحذر ثم وقفت مُلصقة أذنها بالباب «عملت إيه يا حزين الواد صُح طلع واد مصطفى ؟»
«أيوة ولده ورؤوف مداري»
«ومرتك كتمت ولا لسه بتفتش وتدوّر»
«هي ساكتة معارفش عاد»
استمعت لصوت خطوات قادمة مصحوبة بنحنحات عالية فهرولت لحجرتها دون أن تستمع لباقي الحديث.
«طيب اكفي عالخبر ماجور عشان لو أبوك عرف هيشبكنا كلنا فمرار واحنا ما صدقنا ربنا ريحنا من مصطفى يطلع لنا كمان ولده»
«ما نجتله هو وحامد دِه ونخلّص »
«لاه خليهم طالما مش ضارينا بس راعي لمرتك زين»
بالحجرة كانت هي تتوعد موسى بالرد والانتقام منه، ارتدت ملابسها وهبطت باحثة عن والد زوجها لتلقي بذرة الشك في قلبه وتخبره لكنها اصطدمت بهدية القدر، لمحت أمام البوابة صبي ووالده يطلبان رؤية صاحب المنزل فورًا لأمرٍ هام، اختبأت حين نادى الرجال على حماها مترقبة تتابع بنظراتها الصقرية، امتثال الرجل وولده أمام حماها الجالس بغطرسة وحوارهما الذي جذب انتباهها
«خير يا أبو مسعد؟»
هتف الرجل معاتباً وهو يشير لوجه ابنه المخموش بأظافر قاسم «يرضيك الي عمله واد ولدك دِه يا أبو مصطفى»
بش الرجل لقوله وسأله باهتمام ولين «واد ولدي مين الي عمل فيه كده؟ وليه؟»
أجابه الرجل ببساطة «واد المرحوم مصطفى»
انتفض الرجل مستفسرًا بتجهم وعصبية لونت كلماته «بتجول واد مين يا مخبل أنت؟»
تراجع الرجل خطوة مذعورًا وهو يمسك بالصبي متشبثًا به في قلق «واد مصطفى الله يرحمه»
لوّح عبادي بذراعه موبخًا «غور طيب من جدامي كنك اتخبلت مصطفى معهوش عيال»
تدخل الصبي مدافعًا يؤكد صحة قوله وهو يخرج هاتفه بأنامل مرتعشة «لاه معاه وأنا شوفت وأهي الصورة»
دقق عبادي النظر في وجوههما المرتعبة قبل أن يسحب الهاتف ويقرأ الاسم مراتٍ ومرات «فينه الواد دِه؟»
أجابه الرجل بلسانٍ متلعثم «مع الأستاذ حامد الحفناوي»
رفع عبادي رأسه مكررًا الاسم متذكرًا ملامح الصغير التي جذبته وتؤكد الآن صحة ما يقولانه، تدخلت زينب مؤكدة بحماقة واندفاع «صدقهم يا عمي الواد الي مع الأستاذ حامد هو واد ولدك مصطفى»


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close