رواية عزف السواقي الفصل الثامن والخمسون 58 بقلم عائشة حسين
الثامن والخمسون
أجاد خداعها وأتى، أخبرها بأنهم طلبوه لقضية مهمة على وجه السرعة، خبأ عنها صحف نفسه ودثّر ملامحه بالعشق الذي يجيده ولا يتظاهر به، العشق الذي لن يكذب لو ارتداه قناعًا ولن يتصنع إن أظهره لها بقوة،أفل منها بأفكاره، حبسها في زنزانتها بعيدًا عنها لا يحررها في نظراته ولا يتركها تسير فوق ملامحه فيُكشف أمره، ودعها كما يليق بها بعدما سكب كل شغفه وغرامه في أحضانها وبعدها رحل، أحيانًا يشعر بشكها في أمره فيغيّبها عن التفكير بموجة عشق، يلفها في دوامته، يغرقها معه فلا تفيق.
دخل المكان النائي البعيد في استعداد يشمّر كميه في حماسة الصبية للقتال، نظراته الداكنة تلمع بشغفٍ غريب وكلما اقترب من صيده زاد لمعانها وتألقت بتاج الظفر
شكر معاونيه بلطف ونقدهم أموالهم بأكثر مما طلبوا و كله رغبة في رؤية فريسته والفتك بها...
ببطء دخل المخزن القديم ذو الجدران الرطبة والأرض غير الممهدة الممتلئة ببرك المياه المتعفنة،تتناثر في أركانه بعض الخردة وقطع الحديد الثقيلة الصدئة ولا يوجد فيه إلا نافذة بعيدة المنال محاطة بسياج حديدي، فك أول زرين من قميصه وهو يصدر بفمه صوتًا مستاءً «كده برضو يا رجالة دا المكان طلع كويس عن ما توقعت و وصفتوه» انتبه مرتضى المقيد فوق كرسي للصوت، عرفه فزمجر وهز جسده بعنف معترضًا يصرخ دون أن يخرج صوته المحجوب بقماشة مليئة رثة ، برائحة كريهة تضرب خياشيمه
جلس رؤوف قائلًا بحماس مشتعل «ازيك يا حمايا واحشني يا راجل كل دي غيبة اخس عليك»
ترك رؤوف كرسيه ودار حوله نصف دورة ثم وقف أمامه وانحنى نازعًا عصابة عيني مرتضى، نظرا لبعضيهما بقوة فابتسم رؤوف ونزع القماشة عن فمه، بصق مرتضى بقرف وهو يتنفس بسرعة مهولة.
عاد رؤوف لكرسيه ناظرًا إليه بحدة، صرخ مرتضى محيطًا اسمه بسباب «عايز إيه يا ابن...»
ابتسم رؤوف ابتسامته المُربكة التي لا تشي بدواخله وتحجب نفسه وقال ببرود «ولا حاجة يا حمايا بحب أشوفك جوي»
نظر إليه بقوة متمعنًا في ملامحه التي يرى فيها شيطانًا لعينًا وقال «كيف أنت تخلّف غزل؟ كيف دي بتك من ضهرك، يا أخي دي معجزة والله ،سبحان الله، أبص فوشك أتنكد وأبص فوشها يصفى القلب»
بصق مرتضى لاعنًا بحماقة «زيك ملعونة، وشبهك»
ضحك رؤوف مصفقًا بكفيه يشيد بقوله «والله العظيم أول مرة تجول حاجة صُح، غزل شبهي»
هدر فيه مرتضى بغلّ منبثق من نظراته تجاه رؤوف الجالس بأريحية «عايز إيه يا ابن....»
أصدر رؤوف من فمه صوتًا معترضًا وقال «يا أخي لسانك دِه عايز قطع فكرني أقطعه عشان بنسى»
هدر مرتضى وهو يميل بجسده متملصًا من القيود يحاول تخليص نفسه منها والفكاك من أسرها خاصة أن الألم يزداد ويتضاعف بعدما تسرّب مفعول مسكن الألم من جسده
«مش مراتك عندك عايز مني إيه تاني؟»
ترك رؤوف الكرسي وأمسكه محطمًا بغضب قبل أن يقترب وينظر إليه وجمرة الانتقام في صدره تتوهج «عايز أقطّع من لحمك نساير وأرميه للكلاب، عايز أصفي دمك على الأرض وأقطع ايدك الي اتمدت على مرتي»
زعق مرتضى حين اشتد ألمه «فكني لو فاكر إني لما أموت هترتاح متحلمش»
دفع رؤوف كرسي مرتضى بقدمه فسقط أرضًا بعنف، صرخ مرتضى متأوهًا بعذاب يشتد بينما خرج رؤوف ممسكًا بحزامه وأشار لمعاونيه «عينكم عليه هرجعله تاني» سار في المكان المنعزل الفارغ وحده مثقلًا بأفكاره حتى جلس منهكًا يتنفس بصعوبة وهو ينظر لكفه العليلة مستمدًا من مرضها عنف الانتقام متغذيًا بذكرياته حتى ينهض من جديد ويتابع مذكرًا نفسه بألا يضعف ولا يترك حقه وحق زوجته التي أهينت.
في بداية المساء عاد بنظرة كراهية محنطة في عينيه لآلاف السنين، دار حوله مُفكرًا بعدما هدأت أنات مرتضى واستكان بتعبٍ ومرض مستسلمًا لقدره و لكم كره رؤوف استسلامه وتسليمه، أمر له بالطعام والماء والحبوب المسكنة فحلّ الرجلان وثاق كفيه ومنحاه الحرية، تابعه رؤوف بنظراته الداكنة كيف يلتهم الطعام بشراهة ويتجرع المياه دون صبر، حتى أتى على ما أحضروه وبعدها صمت منتظرًا أن يسري مفعول الحبوب في جسده ليتقوى..
عادت نظرته لقوتها وعنفوانها فابتسم رؤوف قائلًا «امشي يا مرتضى» لم يصدق مرتضى قوله إلا حين أمر رجاله بفك الحبال من حول جسده وتحرير قدميه، نهض غير مصدقٍ يراقبه رؤوف بنظرة متأنية كسولة ثم نهض واقفًا يستشعر الغدر من نظراته، لكمه مرتضى بقوة على فكه فاعتدل رؤوف ضاحكًا وأشار لمعاونيه حين أمسكوا بذراعيه وقيدوه «سيبوه»
تحرر مرتضى بنظرة متغطرسة محتقرة لرؤوف وسار ناحية الباب ناعتًا «جبان زي عمك»
نال رؤوف ما كان ينتظره أخرج سلاحه و وجه فوهته ناحية ذراع مرتضى «مبخدش حقي من ضعيف يا مرتضى»
صوّب ناحية ذراعه الأيمن فأصابه، صرخ مرتضى متألمًا وهو يسقط على الأرض، سار ناحيته رؤوف حتى وصل، وضع قدمه فوق صدر مرتضى وانحنى قائلًا «تستاهل يدك القطع بس مش هقطعها هسيبهالك وأنت ونصيبك يا دمك اتصفى وموت يا اتقطعت» رفع كفيه متهربًا من المسئولية وسوء النية «أنا يادوب زرعت فيدك النجسة رصاص وأنت وقدرك يا حمايا»
بصق رؤوف على وجهه ورفع قدمه من عليه وغادر ساحبًا رجاله خلفه.
رحل بسيارته وتركه يعوي كذئب مريض.. تعكز حتى خرج باحثًا عن من ينقذه فاصطدم بالظلام والفراغ حوله، صرخ صرخة مدوية وهو يسقط على ركبتيه منهكًا.. بعد قليل نزع قميصه وربط جرحه ثم نهض محاولًا السير بحثًا عن الطريق بمشاعل الألم.
**********
وقف جوارها وهي في حالة انشغال سحب مشبك الشعر الذي ترفع به خصلاتها للأعلى فسقطت كشلال حول وجهها وتناثر، ابتسم برضا لما أحدثه بينما نظرت إليه هي بعتاب «مؤمن»
أجاب ونظراته المنبهرة تنزلق على خصلاتها الناعمة بإعجاب شديد لا تخمد جذوته «كده أحلى أنا بحبه كده»
نظرت لما تصنعه قائلة «الأكل يا حبيبي مش هعرف أعمل حاجة»
أجابها وهو يقف أمامها متابعًا بنظراته الشغوفة «أنا موجود كل ما يضايقك قوليلي»
هزت رأسها قائلة بمشاكسة «يعني أنوم عبدالله علشان ميتعبنيش أنت تتعبني»
أزاح الخصلات المزعجة خلف أذنها مبتسمًا فسألته وهي تخفض نظراتها «عبدالله قالي في واحدة ركبت جنبك وقالتله حلو زي أبوك»
مازحها بمكر «طيب ما هو حلو زي أبوه»
رفعت له نظرة زاجرة فابتسم وصمت، سألته باهتمام «مين دي يا مؤمن؟ وكيف تجعدها جنبك من الأساس»
اختبرت العجين ثم تركته مغطى واقتربت منه بنظرة مصرة تنتظر إجابته، ابتسم لفعلتها وقال مراوغًا «واحدة معرفة كده وأنا جولتلها تجعد جنبي عشان الحمولة كلها كانت رجالة وخوفت حد يضايقها»
أطبقت شفتيها بغيظ فضحك مستفسرًا«إيه؟»
وضعت كفها على خصرها مستفسرة «وإيه حكاية حلو زي أبوه دي؟»
عاتبها بلطف ومزاج رائق «كدبت يعني الست قالت الحق»
كشرت في وجهه واستدارت مزمجرة اقترب وأحاط خصرها قائلًا «عارفة كان نفسي تكوني معاي هناك»
استدارت بين ذراعيه قائلة بخجل «احكيلي عن الي كانت عايزة تتجوزك دي يا مؤمن»
جلس بها أرضًا كما كانا يفعلان دائمًا وقال«مفيش حاجة تتحكي كانت صاحبة رحاب منفصلة لما عرفت بنواياها سبتلها الشغل الي جابته والبلد ورجعتلك»
سألته بجدية «رجعت خوف منها ومن نفسك ولا إيه يا مؤمن»
ابتسم لسؤالها رغم فظاعته ثم أجابها بحنان «لا أنا أجعد وسط مية ست وبرضو مشوفش غيرك ولا يملى عيني غيرك بس جولت مرتي أولى بيا إيه لزمته الشغل والراحة وهي بعيد تعبانة، أرجع ونبدأ مع بعض»
دمعت عيناها متأثرة بقوله قبل أن تهمس بتوتر وارتباك «عايزة أحكيلك حاجات متعرفهاش يا مؤمن متعودتش أخبي عنك حاجة» تخلل أناملها بأنامله وابتسم مشجعًا بحنان «جولي»
قالت باهتزاز أقلقه ونظرات متهربة من مواجهة نظراته «أوعدني جبلها تسامح وتعذر»
قطب حاجبيه بقلق فأشاحت تحكي له بكلمات مبعثرة، كلما ارتجف جسدها ضمها لصدره محتويًا لها في صمتٍ وصبر، خافيًا عنها تأثره بما تحكي، عقله يغلي كمرجل من شدة سخونته، لا يصدق ما مرت به وحدها ولا حقارة علاء ووالدها وأختها، لا يستوعب ما عرفه والأيام العصيبة التي مرّت بها، غلى الدم في عروقه وتشنج جسده من شدة كتمانه فنظرت إليه مقسمة بدموع «والله العظيم ما لمس شعرة مني ولا طال مني حاجة»
وضع أنامله المرتجفة فوق فمها رافضًا قولها يعتذر بنظرة حزينة منكسرة «أنا آسف»
أمسكت بكفه تتوسله بنظراتها«مؤمن»
جذبها لأحضانه معتذرًا لها بانكسار «حجك عليا إني سيبتك لوحدك تتحملي كل دِه»
انهارت بين ذراعيه متطهرة من أوجاعها تغسل أدران المصائب في نهر الإعتراف، تتحرر من كل وجع يبعدها عنه ويكبلها بينما صمت يمسح على رأسها مهدئًا، بعد قليل مسحت دموعها ونهضت للعمل بينما ظل هو مكانه كجثة مصلوبة بالحقائق، يتعفن ضيقًا وحزنًا وندمًا، بنظرات زجاجية قاتمة لا تعكس الألم ولا يتخللها ضوء الراحة، بينما تعمل هي بآلية منتظرة صدور الحكم، يحجبها عنه شعور بالضآلة والخزي فتغمغم بحسرة «ربنا يسامحك يا أبوي» تقطر دموعها فتمسحها دون النظر إليه وتفقّد أحواله، تخشى مواجهة عينيه اللحظة وقراءة ملامحه، تهاب رواسب ما ألقته في قلبه.
********
ضرب الصغير باب الحجرة التي تقطن فيها بمنزلهم فخرجت عاصفة، تثير الهلع بهيئتها وغضبها المندلع من نظراتها كالشرر، تراجع الصغير مرتعبًا لم تكن حروقها السبب الكفيل لخوفه بل غضبها الذي تصبّه فوق رأسه مرارًا، وكفها التي تنال من جسده وتنثر الألم في أنحائه، بأعين متسعة ركض حتى اصطدم بجسد والده فانكمش محتميًا به مستنجدًا «الحقني يا أبوي آيات هتضربني»
حمله مؤمن وقبّل خده بمداعبة حنونة لفروته وبعدها أنزله موجهًا «روح لأمك» نفّذ الصغير بسرعة وهرب فقالت آيات بضجر وتسلّط «متخلهوش يلعب هنا قدام الأوضة»
تلاشت ابتسامته المحفوظة لصغيره و حل محلها ظلام الغضب القاتل، اقترب خطوة محذرًا يبرز أنيابه في وجهها «ملكيش دعوة بالواد، يلعب في الحتة التي تعجبه» انكمشت بغضب وذهول لا تصدق تطاوله عليها بالغضب والتهديد وهي التي عهدته مؤدبًا لا يرفع نظراتها فيها ولا يعارضها احترامًا، حملقت فيه تستوعب قبل أن تضحك ضحكة عالية أثارت حفيظته وأشعلت غضبه من جديد، هدر فيها «اكتمي ولو هتعيشي معانا يبجى بأدب وتحترمي البيت وأهله»
توقفت عن الضحك تنظر إليه بغرابة فقال بحقد «والله لولا أختك مكنتش دخلتك بيتي بعد عمايلك»
أتت هدى مهرولة وقفت جواره مهدئة وهي تعلم أن غضبه الذي كتمه سينفجر لا محالة، التفت لها صارخًا «متدخليش أنتِ والي أقوله يتسمع ولولا ربنا مكنتش هخليها دقيقة فبيتي»
صرخت آيات ببكاء مغلوب ممتليء بالحقد عليه تهرتل بالحماقات «وأنا عملت إيه؟ خلاص خفيت وبتستقوى عليا يا مؤمن نسيت لما كنت عاجز»
هدر فيها باندفاع وإنفلات «اكتمي كلمة زيادة ومش هعمل اعتبار لحاجة وهرجعك بيتك»
تراجعت منكمشة بذعر تحملق فيه ثم نظرت لهدى متوسلة ببكاء «شايفة جوزك»
أخفضت هدى بصرها متهربة منها تدعم زوجها بالصمت وتؤازره بالقبول، أشعر ذلك آيات بالقهر فدخلت حجرتها وأغلقت الباب عليها تصرخ وتبكي، تضرب الباب والنوافذ بجنون، التقت نظرات مؤمن بنظرات زوجته ليقطع تواصل روحيهما بالمغادرة دون كلمة، رحل للعمل دون أن يستريح هاربًا من جو المنزل الكئيب وندمه الذي يلاحقه كلما نظر لزوجته، ذنبها الذي يطوّق عنقه فيكاد يخنقه، لولا ما حدث من آيات اليوم لما كان سيتهجم عليها بالقول ويجلدها بالتهديد والوعيد، رحم ضعفها ومرضها وصمت لكن أخلاقها السيئة أبت إلا الظهور حين جاءه رؤوف حاملًا الود في نظراته مثقل الكاهل بالمحبة الصادقة، يقبض بين أنامله على صدق الأخوة ففتحت النافذة ونفثت فيه سمومها، طعنته بكلماتها «مرتك حامل يارب ما تشوفه ولا تفرح بيه، يارب تموت هي وهو وتفضل تتعذب زيي، تتحرم منها زي ما اتحرمت أنا من حبيبي بسببك»
اقترب منها رؤوف بابتسامته المعهودة نظر إليها بتحدي وثقة بدا كأنه لم يتأثر بما قالت «مسكينة يا آيات حتى التوبة مش لحقاها، عارفة أنتِ صعبانة عليا جوي والله هتمشي منها شايلة حملك وحمل غيرك»
قال كلماته واستدار مودعًا مؤمن بكياسة، بينما عادت هي لجنونها تشيع رحيله بالمزيد من الكراهية والحقد، تمطره بوابل من الدعوات
حينها علم أن لا فائدة وستبقى هي كما هي، لا تستحق شفقته وعطفه عليها ولا رحمته بها، بل ما حدث لها هو حصاد حقدها الدفين.
*******
حين عاد لم يكشف شيئًا من دواخله لها بل استقبلها بباقات الشوق والحنان المصنوعة بأيادي عشقه، غمرها بالمحبة فلا تنفست إلا هواه عطرًا، حتى أخبرتها صفوة بما قالته أمها عن وجود مرتضى وحيدًا في الصحراء وانتشاله من الموت وقطع ذراعه واتهامه رؤوف بذلك، رغم رضاه بالخبر لم يظهر ذلك بل ظل محتفظًا بجموده واجهة، أنهت الاتصال والتفتت إليه.
نظرت لعينيه تلك المرة بقوة، نظرة ترسّب الألم في قاعها وهمست بعدما قبضت على نظراته «رؤوف روحت لمرتضى؟»
تلاشت ابتسامته الهادئة، احتدت نظراته اللينة، ليتبخر كل ذلك ويبتسم ببروده المعتاد «مين مرتضى معرفوش»
أدار جسده المشتعل بنيران الغضب المدفون، منحها ظهره حجابًا بينهما لا يعري مشاعره ولا يستشف منه ملامحها، وقفت أمامه تسأل «ضربته ليه ؟»
نظر إليها بصبر، نظرة جامدة لا تنطق دواخله إلا بفظاظة، أمسكت بذراعيه وهتفت «إيد مرتضى اتقطعت»
نفض قبضتيها في ثورة وهدر «وإيه المشكلة؟ زعلانة عليه ولا إيه؟»
تراجعت مفجوعة بما نطق، تحملق فيه بعتاب قبل أن تهتف «لا بس مش بإيدك، كنت عايزة إيدك نضيفة منه لكن إيدك دلوقت متعاصة بدم»
اتسعت عيناه بذهول واستنكار قبل أن ينتفض زاعقًا «وإيده هو؟ دا حجي يا بت وخدته ومش ندمان ولا شفقان، ايده اتمدت وطالت كل الي ليا وأنا صبرت كتير»
اقترب منها وفرد كفيه أمام وجهها هادرًا بسخرية «عاجبني أنا منظر الدم مش عاجبك أنتِ متمسكهاش»
رفعت عينيها النديتين بالدموع ذاهلة فتابع بألم طفا فوق سطح نظراته الجامدة «ويدي أنا يابتي مشفقتيش عليها، يدي الي خذلاني وكأنها مش مني ومعنداني وقت الحوجة» التقط أنفاسه بقوة ثم عقف كفيه خلف ظهره وأردف «ضربته فدراعه بس ربك أراد دراعه تتقطع وأنا مرتاح»
ارتمت على صدره باكية تعتذر له فضمها فاردًا جناحي حنانه، لان قلبه فقبّل رأسها وانسحب بتوهته وخذلانه جلس جوار خالته صامتًا يذكر الله بخفوت.
بعد قليل خرجت من الحجرة وجدته يرقد ساكنًا يضع رأسه في حجر خالته مغمض العينين يتنفس بهدوء وراحة، قطبت في ضيق، خالطت محبتها للخالة بعض الغيرة الحميدة منها، من احتوائها له بعدما بعثرته هي بقولها، أحس بوجودها فتنهد بعمق وظل على حاله لا تعرف هل يلومها أم يعاتبها بإعراضه عنها
«محتاجة حاجة يا خالة» قالتها بصوت مبحوح مهتز عاتب فيه محبته لكنه صمت مقيدًا مشاعره
«لاه يابتي نامي وارتاحي»
قالتها تماضر ببشاشة وحنو لكنها منشغلة به، تسلط نظراتها عليه ولا تبرح.. منحها ظهره كما فعل منذ كان معها يحميها منه ومن نفسها التي يراها الآن مشتعلة
«هتنام يا متر ولا لسه هتشتكيني تاني للخالة وفي حاجة مقولتهاش»
قالتها بنبرة عتاب ففتح عينيه عليها غير مصدقٍ قولها، حملق فيها بأعين متسعة تكاد تبتلعها ثم نهض زافرًا يستغفر «اشتكيكي؟» وقف أمامها يعتاب بابتسامة واهنة «واه كل دِه ظن عفش فيا يا غزولة»
نظرت إليه بإرتجاف، نظرة مهتزة، أردف بحنو «كيف أشتكيكي !هو الواحد لما يزعل من روحه بيشتكيها؟ لما يتحدت وياها وياخد ويدي معاها ويغالطها وتغالطه بيتقمص منها ويتحاربوا ويشتكيها؟»
أغرورقت عينيها بالدموع وهمست باسمه فاحتدت نبرته وهتف بجمود «حاسبته على مدت يده عليكي وكشف سترك فين الغلط؟ العين بالعين والسن بالسن والحق كانت روحه قصاد شرف مرتي وعفتها»
قالها بحدة وغضب فارتعش جسدها ثم تابع بحسرة «مش هنسى يابتي جيتك لي تتحامي فيا ومشيتك من عندي مكسورة، الأيام معاكي مبتزدنيش غير ندم على وعدي ليكي الي خلفته وكسرة خاطرك، مش مسامح نفسي يا بتي وبحاسبها كل ما أبص فوشك ولغاية ما أموت كان نفسي أقطعله ايديه الاتنين وقولت يارب أقدر ومقدرتش ،بس ربنا سمعني و ورهاني فيه مش زعلان منك بس لو بتدوري على ملاك بقلب زيك يشبهك فأنا مش ملاك يا غزل ولا هكون يابت الناس حقي وخدته وراضي ومش ندمان »
تسللت دموعها في غفلة، تتابعت بحرارة على وجنتيها، اقترب منها بحنان، تلقاهما على أنامله فهمست من بين شهقاتها «أنا أسفة والله يا بابا مقصدش أزعلك مني كدا ولا أضايقك»
ضمها بكل قوته، مفتتًا كل خلاف بينهما وماحيًا كل مسافة تبعدهما، محتويًا يتنفسها للعيش «خلاص يا مكتئبة هي بتك محزناكي زي أبوها علطول ليه؟»
ضربته بقبضتيها معاتبة رافضة لقوله فابتسم وانحنى حاملًا لها بين ذراعيه غادر بها، وضعها فوق التخت ثم جاورها محتفظًا بها بين أحضانه الحضراء يهدهدها حتى نامت.
*******
في اليوم التالي في بداية المساء
اقتربت منه ببطء تمني نفسها بمفاجأته، تتسلل أنفاسه لصدرها عبر الهواء فتزيدها انتعاشًا وتطرد الوحشة من صدرها، وقفت تتأمله قليلًا بشوق قبل أن تتابع السير نحوه، كان مشغولًا بنظرات تعانق السماء في ولهٍ وعشق يناجي بخفوت، استحوذ على قلبها بسكونه نال قلبها المغرم باستحقاق، تعشق هذا الجانب منه جلست خلفه محيطة كتفيه بذراعها هامسةً جوار أذنه «وحشتني»
انتفض مرددًا اسمها بذهول وهو يلتفت متحققًا من نبوءة قلبه بوجودها «غزل»
عزفت له نظراتها لحن الشوق والمحبة فاعتدل يسألها «مين جابك وعرفتي مكاني منين؟»
نظرت خلفها للصغيرين بمغزى فأشار لهما، نهض حامد واتجه ناحيتهما قائلا ببشاشة «يا مرحب»
اندفع ناحيته قاسم حاضنًا امتنعت رأفة في أدب، ترك صغيره واقترب مرحبًا يعاتب «كده تفتني عليا»
أجابته بخجل «غزل بتسأل عليك وكانت زعلانة»
أومأ بابتسامة راضية قبل أن يخرج بضع نقود ورقية ويمنحها لقاسم قائلًا «ارجعوا قبل الليل وأنا هروّح غزل وخلوا بالكم من نفسيكم، اشتروا حلاوة وأنتم راجعين»
ثم شدد في القول وهو ينظر لرأفة بصرامة «لو مجبتيش هزعل»
ابتسمت على طريقته بخجل وهي تهز رأسها بالموافقة، ودعهما وعاد للجالسة مكانها تراقب، ابتسم قائلًا «نورت الدنيا أم آسيا»
جلس بالقرب منها فرفعت حاجبها مُطالبة «رؤوف تعالى جنبي»
تلفّت حوله بقلق قبل أن يوضح «احنا في الزرع ودي ساعة مرواح للناس»
تهكمت في غيظ «من امتى بيهمك الناس يا متر» ثم ابتسمت هامسة بنظرة متلاعبة شقية «أمال لو قولتلك بوسني أو مثلا قومت بوستك» هتف بنظرة أكثر شقاوة «واه يا ساتر يارب» ثم قهقه عاليًا
تحركت حتى جاورته وهمست «مشيت الفجر حتى الأذكار مقرأتهاليش زي كل يوم»
نظر إليها معتذرًا بأسف «حقك عليا بس لما أفتكرت بعتلك قاسم يقرأهالك»
أجابته وهي تمسك بكفه وتضعها فوق رأسها «لا محدش يقرألي ويقرأ لآسيا زي كل يوم غيرك»
ضمها بنظرة حنونة فنظرت حولها قائلة «فاكر لما جابني طاهر ليك يا رؤوف»
نظر لما تنظر إليه قائلا بتنهيدة «إلا فاكر وأنا أقدر أنسى»
عادت بنظراتها إليه مبتسمة تسأله «زعلان ليه؟»
تجاهل قولها وسألها وهو ينظر لعينيها منفذ السحر «شيفاني كيف أنتِ يا غزل؟»
ذكرته بما نسيه وتحفظه «زمان قولتلي متحسبيناش ملايكة وامبارح قولتلي مش ملاك مين قال إني عايزة ملاك؟»
صمت ونظر للبعيد بقلبٍ خافق فهمست «أنت فهمتني غلط»
صارحها بما في نفسه «أنتِ عايزة حامد بس وعيزاني أكون حامد طول الوجت»
هتفت بغيظ «وأنا حبيت مين؟ مش رؤوف الي أتجوزني انتقام وكيد فأبويا، الي طلّع عيني»
صمتت بانفعال ثم ابتسمت هامسةً «عارف أنا فكل ده كنت خايفة على قلبك مش إنه يقسى بس أنا عارفة إنه بيتضرر بأذى إنسان وإنك مش هتتحمل حتى لو معاك حق، خايفة عليك من نفسك اللوامة وعتابها فكنت عيزاك بعيد ميشغلكش غيرنا ولا يبعدك عننا غير التفكير فينا»
ابتسم مطمئنًا لها «متقلقيش أنا مرتاح»
هتفت براحة مقترحة وهي تنظر لجمال المكان من حولهما «رؤوف خلينا نبات هنا بليز»
نهض واقفًا يقول بغيظ «جومي يا بت المجانين نروّح أنا عارفك»
نهضت متعكزة على كفه وهي تضحك ثم تأبطت ذراعه وسارت معه نحو المنزل تشغله بثرثتها الكثيرة وتغمره بمحبتها الوفيرة.
************
سار يونس خلفها متتبعًا حتى وصلت، زفر باستياء واضح وهو يجلس فوق أحد الأحجار الصلبة نازعًا نظارة الشمس، عادت من الداخل متحفزة تلعنه بغضب، أسبوع يحاصرها من كل الجهات بصمتٍ وصبر ونظرة مُربكة تبعثرها وتلملمها، يراقبها من بعيد دون تدخل ويحميها دون ضغط،ترك بينهما مساحة آمنة تتيح له مراعاتها وتتيح لها التقاط أنفاسها والهدوء والتفكير برويّة وقفت أمامه عاقدة الساعدين بغضب ونظرة شرسة من ما يحدث لها وعدم سيطرتها على مشاعرها في وجوده، تمنحها أفعاله أملًا تخشى أن تلهث خلفه كالسراب «بشمهندس هو أنت سيبت الهندسة واشتغلت بادي جارد؟»
رفع نظراته إليها قائلًا ببروده المعتاد معها وصمم الإدراك الذي أصاب به نفسه عن قصد«لجيتها مجيباش همها يا دكتورة»
أشاحت بضجر شديد تتمتم بعبارات غير مفهومة ثم أعادت بصرها إليه مصارحة له «بتعمل كده ليه وعايز توصل لإيه؟»
نفض التراب عن بنطاله قائلاً«أوصل لإيه فدا مش وجته، عايز إيه؟ خايف عليكي وحابب أكون جنبك»
ارتبكت لوهلة من صراحته، تلونت ملامحها بلون الحياء الجميل، يخنقها الضغط على مشاعرها وامتهانها القوة والثبات أمامه، تغزل كلما رأته اللامبالاة بنظراتها إليه فيجيد بعثرة خيوطها بابتسامته المتمردة ، فتجد نفسها تبحث عن نفسها التي تاهت فيه، تمكن منها الضعف فحجبت نفسها خلف الصراخ والغضب استعانت بهما لحماية نفسها وستر مشاعرها «مش عايزة حد جنبي لو سمحت ولا عايزة شفقة وجدعنة منك»
بنفس البرود والنظرة الشقية أجابها بهدوء وابتسامة مرنة تقفز من شفتيه لنظراته «مش بمزاجك ولا اختيارك ولا حتى ليكِ رأي تقوليه»
عضت شفتيها بيأس منه، عاجزة عن إفساد تلك الابتسامة المُربكة ،حاولت الحديث مجددًا فنهض حين لمح رجلين قادمين، أشار لها بصرامة «يلا زوري الوالدة عشان نمشي» ارتبكت من جديته ونظرته الصارمة فعادت لقبر والدتها ممتثلة في ضيق وقلق، وقف هو بالخارج صامتًا ساكنًا كتمثال مانحًا لها حرية التعبير عن مشاعرها وبعض الخصوصية، عادت بعد قليل واجمة بملامح مكسوة بالحزن ونظرة خاوية، سارت جواره كأنها ليست هي بطاعة وهدوء يعكس حجم الألم داخلها، صعدت جواره دون جدال وصمتت مغمضة العينين بجرح قلبٍ ينزف من عينيها، استغفر ضائقًا بما يحدث لها حتى وصلا، اعتزلت بحجرتها كما تفعل وبقيَّ هو بالخارج.
في المساء نادتها انتصار لتناول الطعام فخرجت منهكة، ذابلة بأنف محمر ونظرات زائغة فضلت التقوقع وتجاهله، فلا تزيدها مشاكسته إلا تعبًا وإرهاقًا، والاحتكاك به يولّد شرارات غريبة ففضلت الصبر حتى يقضي مهمته ويرحل.
وضع أمامها الطعام قائلًا «الصلاة تبع الإضراب؟» نظرت إليه بعينين محمرتين محتقنتين بالغضب فقال«مبتطلعيش تصلي ليه؟ فهمت إنك حابسة نفسك عشاني طيب والصلاة؟»
رفعت رأسها مندهشة تستنكر حديثه «أنت مالك؟»
ابتسم قائلًا بتهكم «لو متضربتيش على عشر اضربك أنا»
هتفت بغيظ «أنت بتقول إيه؟ ومالك أنت أصلي ولا لا؟»
ببرود أجابها وهو يتناول قطعة خبز «الي بتعمليه فنفسك مش حل، وبعدك عن ربنا مش هيزيدك غير توهة ووجع»
ضحكت ساخرة من قوله «والله واتمشيخت امتى بقا؟»
صمتت انتصار مراقبة كالعادة بينما أجابها هو بعاطفة صادقة «أنا خايف عليكي من نفسك»
نهضت مستهزئة بكلماته في غضب، كلماته التي تلامس قلبها برقة وتضرب جوانبه الباردة بالدفء «متخفش وكفاية كدا امشي ولا أكلّم المتر ياجي ياخدك»
صمت بصبر بينما نهرتها انتصار بحدة «عيب يا بنتي دا جوزك»
هدرت بغضب «جوز مين أنتِ مصدقة! وهو دلوقت يمشي»
نهض مبتسمًا يخبرها باستفزاز «مش همشي أنا جوزك ولو مشيت هاخدك معايا»
فغرت فمها ذاهلة من كلماته قبل أن تقول «وياترى المتر عنده خبر إنك هنا يا بشمهندس ولا جاي من وراه؟ خدت إذنه ولا هيجي يقولنا شربتوا أخويا حاجة أصفرة»
ضاقت نظراته فوق وجهها بغضب مكتوم، تلاشت ابتسامته وهو يقول بجمود «لاه واخد إذنه يا دكتورة ويعيش و آخد شورته وأذنه وميحرمنيش منه مهما كبرت هفضل محتاجه، كلامك مزعلنيش ولا ضايقني زي ما فاكرة يحقله والله ،رباني وصرف علي وعلمني ويحقله يخاف عليّ ما هو أب مش أخ»
التفت لانتصار مبتسمًا يشكرها بأدب «تسلم يدك ياخالة الأكل حلو»
ترك الطاولة ورحل مغلقًا خلفه بهدوء، ركضت ناحية الحجرة باكية تلوم نفسها على اندفاعها وتهورها وحماقتها.
في منتصف الليل عاد، أحست بمجيئه فتناولت حجابها ولفته ثم خرجت عازمة على إصلاح الأمر وترميم ما كسرته، وجدته واقفًا في الشرفة فاقتربت هامسة «مساء الخير»
«مساء النور»
جاورته مستندة بساعديها على سور الشرفة مترددة قلقة ومرتبكة، سألها «صاحية ليه؟»
التقطت انفاسها وأجابت بتوتر «مكانش ينفع أنام قبل ما اعتذر لك على الي قولته»
ابتسم قائلًا بحنان «ولا يهمك مفيش حاجة»
همست بصوت مبحوح «أنا آسفة بجد يا بشمهندس»
أشاح بنظراته بعيدًا يقول بتنهيدة «مقبول يا دكتورة»
سرى بينهما صمتًا مشحونًا بالعواطف قطعته هي بسؤالها «مش معاك شغل بكرة ولا إيه؟»
ابتسم لها موضحًا بمرح «لاه لسه بايع كام كيلو كانزات وتمام»
هتفت باستنكار «كانزات؟» تذكرت ما كان بينهما فضحكت رغمًا عن حزنها، تنحنح بحرج مخفيًا تأثيره بضحكتها الناعمة، توقفت بخجل تسايره في مرحه «وسيبت الشغل وبتبيع كانزات ليه؟»
صارحها بصدق «اترفدت بعد ما الشركة عرفت بالجضية» وضعت أناملها المرتعشة على فمها قائلة «بجد!»
هز رأسه بابتسامة باردة فسألته «ولسه هنا جنبي واقف معايا؟»
أجابها بثبات «أيوة عادي ومن الشهر الجاي هنزل شغل جديد»
سألته بأعين دامعة «ليه كل ده ؟طلقني وكفاية بجد وأنا آسفة على كل الي حصلك بسببي »
ببساطة شديدة وصدق أجابها بما لجمها في صدمة «عشان بحبك ومش عايز أطلقك يا فيروز»
شهقت بذهول من صراحته التي طوقتها نظراته الدافئة وحنانه الغزير، تراجعت خطوتين بهلع فقطعهما قائلًا برجاء وهو يمسك ذراعها بقبضته «تعالي ننسى الي فات ونبدأ من جديد، انزلي معاي قنا عيشي وسطنا»
بنفس النظرة الهلعة السوداوية وباندفاع مشوش صرخت برفض وهي تدفع قبضته عنها «وأنا مبحبكش طلقني وابعد عني »
ركضت ناحية حجرتها كقطة مذعورة خائفة، دخلتها واحتمت بجدرانها تتنفس بسرعة، جسدها يرتجف بقوة كلما أعادت على مسامعها قوله وطلبه، تبكي ولاتعرف فرحًا أم خوفًا.
*******
في الفجر خرج واهنًا بالأرق، يكابد همًا ثقيلًا على صدره، يعاني من وحشة في القلب وضيقًا في الصدر، تابعته بنظراتها في أسفٍ وحزن، راقبته بقلق لا تفصح عنه بل تحفظه بعيدًا عن عينيه وقلبه، يدور في الحقل ويرفرف بذراعيه كالمذبوح، ينظر للسماء باستنجاد ويذكر أحيانًا بصوتٍ راجٍ متوسل، اليوم أول أيام امتحانات قاسم وقرب المواجهة لذلك يعاني،حاول كثيرًا مصارحة صغيره ولم ينجح، كلما نظر إليه تلجّم لسانه حتى أجّل الأمر و أرجأه لوقته غير المعلوم، سيذهب به للمدرسة ويتركه وديعة عند أحد أصدقائه القدامى ممن يستطيع إئتمانه على سره، سيكون جواره حتى ينهي الحلّ وبعدها سيدوّن اسمه على الورقة وهكذا لن يعرف قاسم بالأمر، لكنه رغم ذلك منقبض الصدر بضيق غريب .
دخل الحجرة ليأخذ شاله فنادته بوهن «رؤوف» ابتسم رغم معاناته واقترب مُلبيًا ندائها بحنان «تحت الطلب يا غزولة» اعتدلت جالسة فأمسك بكفها وسألها وهو يمسح على رأسها «صاحية ليه؟»
ضمت كفه بين كفيها هامسةً «إزاي هنام وأنت كدا؟»
قبّل رأسها مطمئنًا لها بحنان «أنا بخير اطمني»
سألته بقلق «طيب هتروح فين دلوقت؟»
أجابها «طالع بونس شوية يا غزل وهرجع»
توسلته بإرتجاف «رؤوف متقلقنيش عليك هتروح فين دلوقت؟»
اتسعت ابتسامته رداءً يستر ضعفه وقال بمرح كاذب «متخافيش الحرامي مش هيخطفني ولا حاجة»
توسلته بصوت متحشرج «رؤوف بليز خليك جنبي»
ضم رأسها لصدره متوسلًا «سبيني أطلع محتاج ده يا غزل وبإذن الله أرجع كويس»
صمتت مترددة ،الخوف عليه يمنعها من السماح له وتركه يخرج وحده وبهذه الحالة لكنها تنهدت مستسلمة تطلق عفوها «ماشي يا حبيبي بس خلي بالك من نفسك»
قبّل مقدمة رأسها مودعًا لها وبعدها رحل، في الصباح انتظر بالخارج قدوم قاسم، ارتدى قاسم ملابسه بمساعدة غزل وخرج مُعلنًا استعداده «أنا جاهز يا متر» قالها مُقلدًا غزل بمرح قبض قلب والده وأشعره بالهم والغم، التقت نظراته بنظرات غزل التي فهمت ما جال بخاطره وقرأته في نظراته وملامحه القاتمة فسارعت بمحو الحزن عن نفسه «لا يا قسومي غزل بس الي تقوله يا متر أنت تقوله بابا»
أومأ قاسم بطاعة فنصحته بلطف «ركز كويس يا حبيبي واهدا ومتقلقش من حاجة ولا تخاف» ابتسم رؤوف لنصائحها وحنانها وقيامها بدور الأم على أكمل وجه هز لها قاسم رأسه ثم أشار لها فانحنت قليلًا، لثم خدها وابتعد مودعًا، أمسك بكف والده بعدما قبله ورحل معه… دخل رؤوف المدرسة فوجد والده يجلس منتظرًا قدومه
سلّم على قاسم بحنان وأمسك بكفه ثم قال لرؤوف «متشيلش هم حاجة»
ابتسم رؤوف رغم قلقه ووجد في معاونة أبيه له متكأ لقلبه وركنًا شديدًا يلجأ إليه، حاول رؤوف التوضيح فهتف عدنان «طاهر حكالي عشية فجيت بدري أستناك و أخده منك»
أخفض رؤوف بصره بخجل وحرج فهو لم يخبر أباه ولم يطلب مساعدته، بل لجأ لصديقه ناسيًا أن بمقدور والده فعل الكثير.
ربت عدنان على كتفه بدعم ومؤازرة متفهمًا الأمر لا يلومه بل يجد فالأمر تكفيرًا عن أفعاله وتعويضًا لابنه عما بدر منه في حقه.
انحنى رؤوف ملثمًا كف أبيه ونظراته تصرخ متوسلة له دون نطق، تطالبه بالدعم والوقوف جواره في تلك المحنة
انتقلت نظراته الشاحبة لقاسم فهتف الصغير ممازحًا بشقاوة «هو أنا الي همتحن ولا أنت يا أبوي دا أنت خايف أكتر مني» غرس رؤوف أنامله في فروة رأس صغيره قائلًا بحزن «أنا يا ولدي والله»
ضحك الصغير دون فهم قبل أن يحث جده متحمسًا «يلا يا جدي بسرعة»
دخل عدنان به المدرسة بعدما ودّع ابنه وطمأنه، خرج رؤوف مستقلًا سيارته عائدًا للمنزل بوجوم، حين وصل ترجل منها وتركها ثم امتطى ونس وركض به في الصحراء الواسعة .
********
أيقظته انتصار حين دخلت الشرفة وتفاجئت به نائمًا فوق الكرسي، فتح عينيه حاجبًا أشعة الشمس بذراعه قبل أن يعتدل ناظرًا حوله مستكشفًا مكانه بوعي يقظ متحفز، نظر لانتصار المترقبة يقظته الكاملة قبل أن يسند ظهره بذراعه كاتمًا معتصرًا التأوه في فمه متذوقًا مرّه «صباح الخير يا ابني»
قالتها انتصار بنبرة متأسفة يخالطها الحزن فأجابها برفق «صباح الخير يا خالة»
ربتت انتصار على كتفه قائلة بحنان «قوم اغسل وشك وصلي»
نهض متمطئًا، غادر الشرفة فكان أول ما وقعت عليه نظراته داخل الشقة هو باب حجرتها المغلق، تنهد بأسف وألم متذكرًا ما دار بينهما أمس وانتظاره قرارها ولهفته على قبولها ورغبته في سؤالها اللحظة قبل كل شيء، حملت انتصار له داخل نظراتها الأسف واليأس قبل أن تدخل المطبخ مغمغمة «ليه كده يا بنتي بس! دا الواد عينه هتطلع عليكي وقلبه طالع من عينيه»
أدى فرضه وجلس ذاكرًا يتلو أذكاره حتى نهض على مجيء انتصار وجلوسها، نهض طاويًا سجادة الصلاة وجلس فقالت انتصار بترقب قاتل «حصل إيه بينكم امبارح يا ابني؟»
صمت بوجوم رافضًا الحديث عن أمر يخصهما لكنه مجبر على ذلك «ولا حاجة يا خالة قولتلها جايلي شغل فقنا وعايز أخدها معايا»
تنهدت انتصار باستسلام متذكرة حوارهما عند الفجر ومشادتهما الكلامية وصلابة رأس الأخرى وعدم اقتناعها بحقيقة المشاعر التي تحملها له ويبادلها هو إياها بقوة ورفضها التام قبوله والإعتراف بزواجهما وأخذه على محمل الجد بل واستنكارها مشاعره وترجمتها لشفقة وعطف ،حين يئست منها انتصار تركتها تفكر وغادرت.
«ربنا يهديها يا ابني» تبيّن من ملامح السيدة بعض الحسرة والحزن فانقبض قلبه، هز ساقه بقلق لا يعرف منبعه في نفسه ولا مصدره في نظرات انتصار الصامتة، نهض قائلًا وقلقه يتصاعد ويحكم سيطرته على النفس «هجوم أشوفها واطمن عليها»
أذنت له انتصار فاقترب من حجرتها طارقًا بأدب مناديًا بنبرة مهزومة بالتوتر «فيروز» طال مكوثه دون إجابه منها فعاد للجلوس محبطًا يلوم نفسه على اندفاعه وتهوره، تطوعت انتصار حين رأت وجومه «هقوم أشوفها أنا يا ابني»
طرقت الباب منادية ترجوها «اطلعي يا بنتي طيب نطمن عليكي»
تزامنت اهتزازات ساقه مع طرقات انتصار ونداءاتها، فاق توتره الحد وتراقصت الهواجس في عقله فنهض مشاركًا لها النداء، حين يئس حاول فتح الباب باندفاع، تفاجأ من عدم غلقه لكنه تخطى الأمر ودخل باحثًا عنها ليصدمه الفراغ وتبارزه وحشة الصدر، استدار للخزانة فوجدها فارغة خاوية على عروشها اعتصر قبضتيه ورحل تاركًا انتصار تولول معاتبة بصوتٍ عالٍ

