رواية عزف السواقي الفصل السابع والخمسون 57 بقلم عائشة حسين
السابع والخمسون
نظرت لنفسها في المرآة فهالها ما رأت من نفسها، لملمت خصلاتها الطويلة المبعثرة على كتفها، ثم مررت أناملها على وجهها الجاف، توقفت باستياء وغير رضا، هبطت كفاها تنحت جسدها الذي نَحَلَ كثيرًا وضمرت فيه مواضع الفتنة، أسقطت ذراعيها متنهدة بيأس قبل أن تتحرك تجاه خزانتها مقررة تبديل ملابسها السوداء البشعة التي تلف بها جسدها دائمًا حتى أثناء النوم وفي حضور مؤمن،تذكرت قرار انتقالهما للدور العلوي وترك آيات في الدور السفلي وحدها بعيدًا.
اجتهدت طوال النهار في ترتيب هذا الأمر، فمؤمن لا يشتكي ولا يلوم لكنها تشعر بمعاناته الليلية مع آيات واستيقاظه الكثير بسبب صراخها وصياحها، تطاولها عليها وعلى الصغير، كل ذلك يزعجه ويضيّق عليه صدره، ترى الأمر في نوافذ نظراته وعلى جدران ملامحه المطلية دائمًا بسواد الاستياء والحزن، لم يعد لآيات غيرها، كما أن منزل والدها غير صالح للسكن وإن صَلُحَ لا يصح مكوثها وحدها في قريتهم المليئة بالأقوال فيكفيها هرتلة آيات أمام النسوة بأفعال علاء مما اضطرها أن تخبرهم بأنّ عقلها تضرر من الحريق وأصابه خرف المصائب، فأصبحت هكذا تنسج الحكايات الوهمية.
تحرّكت ناحية المرحاض بعدما اطمأنت لنوم الصغير، أخذت حمامًا دافئًا وعادت للحجرة، وقفت أمام المرآة من جديد تمشّط خصلاتها الطويلة وتعيد تحديد فتنة وجهها بما لديها من مساحيق تجميل بسيطة، رخيصة الثمن لكنها لا تشحّ من عندها وتظل في درج خزانتها دائمًا في اهتمام، تحب دائمًا أن يراها زوجها جميلة وفي أحسن صورة .
تألقت صورته في المرآة خلف صورتها مبتسمًا رغم شحوبه، باشًا رغم همومه، استدارت ململمة خصلاتها على كتفها بخجل قبل أن تقترب منه وتحاول مساعدته في تبديل ملابسه «اتأخرت»
قالتها دون أن تنظر لعيناه المتلصصة على جمالها، المفتونة بسحر طلتها وجمالها البسيط الناعم
«متهيكلك نفس المعاد بس أنتِ الي أول مرة تبجي صاحية ومستنية، ولو أعرف هتستني مكنتش اتأخرت ولا سيبتك تحسي بغيابي عنك وإني طولت»
منحته ملابس نظيفة معطرة وهي تقول بخجل وأسف شديد «متضايقتش إني استنيتك كتير يا مؤمن، اتضايقت لطول البعد عنك»
ثم طعّمت كلماتها التالية بالصدق والعاطفة «استناك العمر ومملش ياريت كل انتظار نهايته طلّة عينيك عليا»
ضمها بين ذراعيه بقوة، حاوطها بذراعيه مفصحًا عن شوقه لها «وحشتيني جوي»
اعتذرت له عما بدر منها في حقه وانشغالها عنه «متزعلش يا مؤمن حقك عليا»
نثر القبلات على وجهها قائلًا «مش زعلان ولا عمري أزعل منك أنا زعلان عليكي وجلبي مشغول عليكي»
ابتعدت مبتسمة تخبره بحنان «أنا بجيت أحسن والله الحمدلله»
ضم وجهها بكفيه قائلًا بابتسامته الرائعة «الحمدلله»
شجعته ببعض المرح الذي تحاول لملمته من تحت أنقاض المصائب ومن بين ركام الأيام التي تهدمت فوق رأسها «يلا بسرعة عشان تاكل»
تركها بحماس شديد وأمل أزهر في نفسه، بخفة رحل تاركًا ابتسامة متألقة على وجهها.
عادت للمرآة، هندمت ملابسها ورفعت خصلاتها في ذيل حصان ثم ذهبت لتعد له العشاء.. بعد وقت خرج من المرحاض ووقف يتأملها برضا، حيث تجلس منحنية للأمام وذيل حصانها يسقط على كتفها كشلال، تنهد بهيام قبل أن يتحرك ويجاورها في جلستها، صنعت شطيرة ومنحتها له قائلة تعوّض ما فاتها من اهتمامها به وتلحق بركب العناية بتفاصيله «احكيلي جيت بدري ليه عن ميعادك وإيه حصل هناك»
ضحك قائلًا «نزلت بدري عشان طلعلي في الشغل واحدة مصرّة تتجوزني عليكي، وحصل إيه؟ حسيت إنك وحشاني جوي ومش قادر أجعد يوم من غيرك ولا عارف»
تركت ما بيدها وسألته بجديّة «مؤمن أنت بتهزر؟»
أجابها ببساطة شديدة لا يخفي عليها شيئًا «لاه لو هخبي مش هجولك كده»
تركت الطعام بشيء من الغضب والضيق ثم هتفت مشككة في قوله «هي عملت كده ليه وأنت متجوز إلا لو اديتها الفرصة»
ضيّق عينيه عليها وابتسم، ترك الشطيرة ونفض كفيه من بقايا الخبز ونهض، منحها كفه قائلًا «تعالي»
نظرت لكفه مستفسرة «على فين؟» ثم أشاحت قائلة بغيظ «اجعد الأول وقولي»
سحبها رغمًا عنها، أمسك بكفها وركض بها الدرج للأسفل حيث مطبخها الكبير الذي تستخدمه في صنع المخبوزات.
رفعت قميصها الحريري الطويل خشية عرقلة الركض والوقوع، ترك كفها وفتح الخزنة الطويلة التي تحتفظ فيها بالخامات وقال «بكرة أجازة مش طالع الشغل، وحشني تجفي في المطبخ وتعملي وصفة بتحبيها واحنا بنتكلم ونرغي فكل حاجة، المرة دي هساعدك» قالها وهو يضمها من الخلف واضعًا ذقنه على كتفها، نظرت للخزانة الممتلئة تسأل بعينين متسعتين «مؤمن إيه كُل دِه؟»
ابتعد يوضح لها «كل يوم كنت بجيب حاجة أو اتنين من الخامات الي بتستخدميها وأنا راجع وأركنها هنا، وساعات كنت بجيب حاجة كان نفسك تجربيها، والحمدلله جبت كل حاجة»
اقتربت من الخزانة مفتشة بنظراتها، تقلّب الأكياس والعلب بيديها غير مصدقة، اقترب منها وسألها بنظرة متوهجة زادتها سعادتها تألقًا «هتعملي إيه؟»
عانقته بقوة شاكرة له، فربت على ظهرها قائلًا «احنا واحد روح واحدة يا هدى مينفعش تشكريني»
همست بعشق «أنا بحبك جوي يا مؤمن»
أمسك بأطراف ذيل حصانها هامسًا وهو يقترب من شفتيها «وأنا»
ابتعدت عنه شاهقة تستفسر «طيب وآيات ممكن تصحى وتضايق من الكركبة والدوشة»
تأفف منزعجًا من قولها المفاجيء الذي قطع عليه طريق الوصل يشد ذيل حصانها موبخًا «يا فصيلة»
ضحكت برقة قبل أن تحاوط عنقه بذراعيها قائلة بدلال «هنعمل إيه جولّي؟»
اقترح بنصف نظرة «أنا بجول قرري هتعملي ايه الأول وناخد الي هنحتاجه فشقتنا ونكون براحتنا بعيد عنها» ثم نظر لما ترتديه بنظرة تقييمية مهلكة وهو يقلّب شفتيه «إيه؟» سألته وهي تنظر لقميصها الحريري الطويل الذي يضيق عند الخصر ويتسع لما انساب للأسفل محددًا خصرها وقدها بنعومة
«أنا دافع كد كده فيه ده مينفعش يبوظ »
ضحكت قائلة «ماشي هغيره»
اقترح ورأسه يميل بنصف نظرة شقية «وأنا اختار البديل؟»
أجابته بضحكة ناعمة «وأنت تختار البديل»
ابتعد عنها ينظر للخزانة قائلًا بحماس «جولي هنعمل إيه وناخد إيه؟»
************
تمايلت أمامه حتى جلست بالقرب منه وهو يتابعها بعين المحب، ينتظر بصبر أن تجود بعطرها على روحه «رؤوف خلصت»
أجاب مدعيًا الانشغال بينما عيناه تتغزل فيها بحرية، لا تخفي الإعجاب والتأثر بطلتها «شوية ،عايزة حاجة؟ مش هتنامي؟»
لوت فمها والتهكم من قوله يملؤها، اعتدلت تحدجه بغيظ قبل أن تهتف بعصبية «عايزة شوية وقت ليا زي شغلك»
خبأ ابتسامته خلف غيوم الجدية وأجاب بعملية مزعومة وانشغال كاذب يسحب به بساط الهدوء من تحت أقدامها «معلش مش فاضي» رفع نظراته يسخر مثيرًا أكثر جنونها اللذيذ الذي يحبه، ويفضله كقطعة شوكولاتة «شايف الوضع اتغير بجيتي زنانة»
ابتسمت وكلماته تطرق وترًا حساسًا بنفسها، حتى الآن لا تصدق، وقفت واقتربت منه، جلست متربعة أمام كرسيه تخبره بصدق ذاب في فمه فكان حلو المذاق «أنا لغاية دلوقت مش مصدقة بجد، مش بحب حاجة تاخدك مني»
حك أذنه بجدية وهو يخفض أوراقه ويميل بجذعه مرتشفًا من بحور هواها «لاه صدجي مش وجت توهة عايزك مركزة وواعية علطول» قالها باللهجة التي تعشق والطريقة التي أصبحت لها مُريدة، فضحكت بجذل مدمعة العين، مما جعله يحضتن وجهها وينتقي من مشاعره أجملها ليصنع لها باقة من حب فريدة الصنع بأيادي العشق «كلي ليكِ يا ضي الروح لغاية ما تصدجي»
ضحكت راحةً ولذة وصولٍ وسعادة، فتخلى عن عليائه وجاورها قائلًا «يا تجعدي جاري يا أجعد جارك يا بت»ارتمت بين ذراعيه فملس فوق رأسها بحنان مصارحًا لها «قلقان جوي أنا يا غزل والهم بياكل فجلبي» ابتعدت تنظر إليه بدهشة، لملمت ملامحه في نظرة عشق وهمست «سلامتك يا حبيبي مالك احكيلي»
ابتسم هامسًا بعاطفة شديدة التوهج «ما أنا مبعرفش أحكي غير ليكي وفحضنك» احنت رأسها ملثمة ظاهر كفه وهي تهمس «احكي يا حبيبي وشاركني همك أشيله معاك أو عنك»
أخذ نفسًا عميقًا وأجابها بنظرة مهزوزة وقلق كشف عنه الحجاب فضمت رأسه لصدرها بتلقائية بعدما هالتها رؤيته ضعيفًا مجردًا من قوته، مهموم الوجدان، أحاطها هامسًا بصوت متحشرج «خايف على قاسم جوي معارفش هعمل إيه لما يعرف وهجوله كيف»
ارتعش جسده فضمته أكثر بحنان كأمٍ رؤوم وأجابته برقة «متخافش قاسم ماشاء الله عاقل جدًا وذكي، بعدين ليه لازم تقوله؟»
تنهد بيأسٍ ثم أجابها «عشان هيمتحن السنة دي يا غزل، يعني هيروح ويكتب اسمه على الورق وهيعرف فلازم أمهدله»
زفرت باستسلام واقتناع قبل أن تقدم له اقتراحها محتوية شتاته «طيب إيه رأيك أكلمه أنا وأشرحله؟»
أبعد رأسه عنها قائلًا بضياع «مش عارف يا غزل محتار جوي»
أمسكت كفيه وضمتهما قائلة «متحتارش بإذن الله ربنا يحلها بس ممكن أقولك حاجة صغننة»
قالتها بوداعة فابتسم رغمًا عنه ومازحها «ربنا يستر جولي ما انا عارفك»
استندت بساعديها على كتفه وهمست برقة «تعرف يا حمودي بتبقى لذيذ أوي وأنت تايه كدا ومحتار»
تأفف قائلًا وهو يهز رأسه بإحباط «تعرفي إنك مصيبة»
ضحكت فجذبها من خصرها قائلًا باستعداد «بيطلّ من عنيكي الحلوة سؤال جوليه يلا»
لثمت خده بسرعة واعترفت «في سؤال بس متضايقش منه وتجاوبني بصراحة ومش هزعل»
أطبق شفتيه قبل أن يهتف «كنت حاسس والله جولي أما أشوف»
داعبت ياقة قميصه القطني وقالت بخفوت ونظرة قلقة «مصطفى الله يرحمه كان أدك واتجوز بنت عبود الي أنت كنت عايش معاهم ياترى كنت بتحس بأي مشاعر ناحيتها؟»
كتم ابتسامته وراوغها بمكر «تجصدي إيه مش فاهم؟»
أوضحت وهي تبتلع لعابها ومازالت نظرتها المتوترة سيدة اللحظة ومسيطرة على مشاعرها«محستش بحاجة ناحيتها خالص»
انزعجت من مجرد التخيل والتخمين، انتفض قلبها وارتفعت دقاته لكنه حافظ على ثبات موقفه الماكر وواصل خداعها متلذذًا بغيرتها وحيرتها «مش فاهمك كيف يعني»
خرجت عن طور هدوئها ممزقة صبرها، وقفت لاعنة تهتف بلا حرج وبغيظ شديد «كنت بتحب أم قاسم؟»
نهض قائلًا بثبات وهمي وجدية زائفة، متلاعبًا بها في خبث «أيوة بحبها وكلنا بنحبها يا غزولة»
أمسكت قميصه بقبضتيها منزعجة من بروده ومكره تهتف «رؤوف جاوبني من غير لفّ ودوران»
أجابها بنفس الجدية ونظراته تلمع مكرًا على ملامحها وتتقافز في عشق فوق شفتيها «يابت الناس مالك بس»
ابتعدت عنه تعض أناملها غيظًا منه، وقفت أمام النافذة بعدما فتحتها تسلب الهواء البارد فاقترب وعانقها محذرًا «مش مية مرة جولت الدنيا برد متفتحهوش»
أجابته بغيظ وملامح مكفهرة «مشاممش ريحة الشياط؟» سألها بدهشة «فين دِه؟»
ابتعدت مشيرة لنفسها بحنق «أنا شايطة منك يا متر» قهقه باستمتاع، ضحكة رجت قلبها رجًا وداعبت مشاعرها، ضحكة أخضعت جوارحها وألبست القلب زينة الفرح والسعادة وجلس معتليًا عرش الانتشاء بعدما احتست نظرتها ضحكته كاملة كزجاجة نبيذ.
تفوقت ضحكته الخلابة على غضبها وحولته لبلاهة ونظرة هائمة جعلته يقترب منها فهمست بانبهار «ضحكتك تجنن أوي»
ضمها من الخلف محيطًا خصرها متنازلًا عن عرش مكره لأجل مليكة قلبه «جولي سؤالك واضح يا غزولة وهرد عليكي»
أخرجته دفعة واحدة وبسرعة «بتحب قاسم أوي ومتعلق بيه ياترى حبيت مامته يارؤوف؟»
صمت قليلًا ينظر لعينيها بنظرة مبهمة بعثرتها فوقفت على حدود الانتظار مترنحة، بنظرة متلهفة وقلب كاد أن يخرج من بين أضلعها، أزاحت ابتسامته ستار الجدية وأطلّت فوق ملامحه متبخترة مبددة شيئًا من خوفها، رفع وجهها بأنامله ونظر لعينيها يسقيها غرامه لتزهر «لاه كانت زي أختي تمام، جلبي الغافل مفاقش وحسّ،وداق الحب غير لما عيني طلّت فوشك،على يدك اتولدت وعرفت ليا جلب بيتمنى نظرة ويطلب الود واللقا و يدق كل ما يشوفك »
همست بتوتر شقق ضحكتها الرائعة «أكيد يا حمودي؟»
أحاط وجهها بكفيه ومال ملثمًا عينيها برقة وهو يقسم «والله العظيم يا غزل كل حاجة معاكي هي أول مرة اطمني خالص »
ضحكت قائلة برضا «تمام اطمنت يلا بقا عشيني علشان جوعت أوي»
ابتعد يهز رأسه بإحباط ويأس وهو يقول «أنتِ يا جعانة يا بتنكدي؟»
أزاحته للأمام بذراعيها وهي ترجوه برقة «حمودي يلا هنعمل سوى وبعدين ناكل وننام»
زفر باستسلام قبل أن يسحبها ويحيطها بذراعه مُلبيًا رغبتها «من عينيا حاضر يعني عندي كام غزولة»
قالت وهي تضمه «شكرًا كتير يا أحلى متر»
***********
أتمّ الإجراءات وهي شبه غائبة ، وعيها في حالة احتضار، تبصر الجمع ولا تراهم، تنزلق الدموع دون أن يرمش لها جفن، لا يختلج قلبها بأي شعور سوى الوجوم، حتى جلس أمامها وطلب وهو يغمرها بحنانه ويضمها بنظراته العاشقة «فيروز جومي ودعيها»
انتقلت نظراتها الجامدة المتحجرة لملامحه مستفسرة «أودع مين يا يونس؟» يكفيه أن يحضر اسمه في ذهنها الآن، أن يخرج من غياهب اللاوعي صحيحًا، ضمها محتويًا لها وهو يهمس «ربنا يرحمها ويغفرلها، جومي ودعيها»
نهضت متعكزة، تعرج بساقها التي ثقلت من الهم، تتوقف منهكة فيحيط خصرها ويشد أذرها بنظراته التي يضاعف لها فيها الحنان أضعافًا، كلما اقتربت تنهمر دموعها بغزارة ويثقل جسدها مما دفعه لأن يحملها بين ذراعيه كقطة ويسير بها، انكمشت بلا وعي حتى وصلت للمكان فمنحها حرية السير وحدها والاكتفاء بدعمها ومؤازرتها من بعيد، سارت بخفة حتى وصلت إليها، كشفت عن وجهها الغطاء متأملة قبل أن يتحشرج صوتها بالبكاء وتنغلق حنجرتها،عاد إليها وعيها اللحظة بمطرقة الوداع، صفعها الحاضر المؤلم ألف صفعة فضمتها باكية صارخة «لا يا ماما متسبنيش ،كنت بتعكز على وجودك حتى ولو بعيدة، قومي .. هيفضلي مين طيب؟ كنت بصبر نفسي إن ليا حد فالدنيا، قومي وهاخدك معايا»
اقترب منها هامسًا بتأثر شديد « ادعيلها بالرحمة ومتعمليش كده»
استدارت متوسلة بكتفين متهدلين وقد عظم فوقهما الحزن فأثقلاه «قولها تقوم يا يونس هخاف أبقى لوحدي» ضمها محيطًا جسدها المرتجف يهدؤها فلا تزيدها كلماته إلا بكاءً، انسحب بها بعدما أشار للسيدة بالانتهاء فابتعدت عنه شاهقة بعدما أحست باقتلاعها من اللحظة، نظرت إليه بذهول ثم عادت إليها ركضًا تتوسله «سيبني معاها شوية مش هشوفها تاني خلاص، الفراق يمكن يطوّل المرة دي»
عاد إليها داعمًا يحاول تهدأتها وحمايتها من نفسها، فتح الباب ودخل منه عمها متعكزًا على سواعد الرجال حوله فانتصبت منتظرة قدومه بعينين تقدحانِ شررًا وبنهم شديد للفتك بعقل هذا الرجل الذي تلاعب بهما ودمّر حياتهما وأوصلهما لهذه النقطة، بعينين حزينتين همس باسمها فصاحت في وجهه «ماتت خلاص، راحت! ارتاح يا عمي حسبي الله ونعم الوكيل فيكم»
اتجهت نظراته الميتة لجسد زوجته غير مهتم بقولها ولا يسمع من قولها الا الضجيج ولا يرى إلا كراهيتها لهما متجسدة في هيئة شبح يطارده...استدارت تُلقي على وجه والدتها نظرة الوداع والسلام فسحبها يونس للخارج برفق منتظرًا الإنتهاء من باقي الإجراءات.
بعد الدفن جلست رافضة المغادرة وكلما حاول الحديث معها صرخت فيه «هبات مع ماما سيبني مالكش دعوة » فاضطر للجلوس جوارها بصبر يدعمها بالقول والفعل، فكلما سنحت له الفرصة وهدأ غضبها واستكانت ضمها لصدره رابتًا على رأسها ثم بعد قليل تنسحب من أحضانه وتضم جسدها مرتعشة، تنظر لشاهد القبر بهلع وأعين متسعة، تحدّق في الأسم شاهقة بارتياع ثم تلتفت قائلة «أمي ماتت يا يونس سابت الدنيا خلاص وموجودة هنا» استمر الحال هكذا حتى جاءت انتصار وبارزت إصرارها بالعزم، لكنها رفضت الرحيل وترك والدتها حتى أنها تمددت جوار القبر فوق التراب بعزم لا يلين فاضطر للنهوض وإجبارها، رغم صراخها وتملصها الذي سخرت له كل قوتها الباقية إلا إنه استطاع حملها والخروج بها، وضعها أمام باب السيارة فصرخت في وجهه «أنت جاي ليه أصلا !ما تمشي أنت لو عايز، أنا مش عايزة أشووو...» مادت الأرض من تحت أقدامها ولفحها الدوار فسقطت مغشيًا عليها، زفر براحة قبل أن يحمل جسدها ويضعها داخل السيارة، صعدت انتصار جوارها محاولة إفاقتها.. بينما كان هو من وقتٍ لآخر يطالعها بقلق لا يخفيه عبر المرآة.
************
في منتصف الليل استيقظت، جلست مكانها متسترة بالظلام، تبكي دون صوت،بعقل لا يرحمها وشوق ينبح متتبعًا صور الراحلة في الذاكرة، شعرت بها انتصار فاستيقظت منيرة المصباح المجاور، اعتدلت جالسة في صمت فمسحت فيروز خديها معتذرة «آسفة إني صحيتك يا طنط نامي أنا هطلع»
ربتت انتصار على ذراعها قائلة بحنو «أنام إزاي يابنتي بس وأسيبك»
قالت بمكابرة «أنا كويسة متقلقيش متعودة أو اتعودت»
هتفت انتصار بنظرة مشفقة «متعمليش فنفسك كده يا بنتي هتموتي»
قالت بلهفة شديدة أوجعت قلب المستمع إليها عبر الباب «طيب ياريت يا طنط يمكن وقتها أتقابل أنا وهي ونعيش مع بعض في الجنة» صمتت قليلًا متخيلة الأمر ثم تابعت بحسرة «كنت برتب إنها تيجي تعيش معانا وتتونس بينا، كنت محضرة نفسي وبقول خلاص هنتلم من تاني»
هتفت انتصار بحزن«لاحول ولاقوة إلا بالله متعمليش كده يا بنتي»
تجاهلت فيروز قولها وتابعت «فضّلت تمشي ولا إنها تسيبه يا طنط، مهمهاش إنها هتسيبني لوحدي، ليه مشيت؟ ليه يا طنط هو أنا بنت وحشة؟»
دار في الحجرة ضاغطًا رأسه، يشق عليه عذابها ولا يستسيغ كلماتها التي تطعن قلبه بخنجرها المسموم ..
رفع هاتفه واتصل بأخيه الذي انتفض من رقدته في قلق، انسحب من جوار زوجته بهدوء حتى لا تستيقظ وخرج مُجيبًا بقلق «يونس أنت بخير يا بابا؟»
أجابه يونس بصلابة لم تدم طويلاً «أنا بخير اطمن، بس عايز أحكيلك حاجة يا رؤوف مش عارف أعمل فيها إيه؟»
ابتسم رؤوف بحنان وأجابه «قول يا بابا أنا سامعك»
حكى له يونس ما حدث وما وصلت إليه حالتها وكلماتها المسمومة التي اندست بين ثنايا خافقه،ثم ختم قوله بسؤال غارق في الخجل «مش عارف أساعدها كيف ولا أعمل إيه قولي يا أخوي؟» ادرك رؤوف محبة أخيه لها من ذعره وخوفه الجديد على طباعه وغلبة الحزن على روحه المرحة فربت رؤوف على قلبه بحنان كلماته « متسألنيش أنا يا بابا ،اسأل جلبك والي يقولك عليه أعمله»
بتوهة شديدة وضياع أشفق له رؤوف «برضو اتصرف كيف يا أخوي»
ابتسم رؤوف وأجابه «هي مش محتاجة أكتر من جلبك الحلو دِه يا بابا يكون جنبها ومعاها وياخد بيدها سيبه وهو هيدلك، هتلاقي نفسك بتتصرف وتاخد بيدها»
صارحه يونس بنبرة خافتة حرجًا مما سيقوله «خايف عليها يا رؤوف، خايف تعمل حاجة فنفسها»
أشفق عليه رؤوف من تلك المعاناة ، يكره هو قلة حيلتهم وشتات أمرهم، يصيبه غمهم بالعجز، تنهد قائلًا «خليك جنبها يا بابا ومتسبهاش ربنا يدبرلك أمرك»
بخفوت طلب في عجز وحرج من فضفضته «ادعيلها وأنت بتصلي يا أخوي»
طمأنه رؤوف بحنان «حاضر يا بابا روح ريّح ضهرك شوية والصبح هكلمك اطمن عليك» أنهى الاتصال متنهدًا مستغفرًا قبل أن يتبدل حاله للنقيض ويستدير على همسها الرقيق يعبر لقلبه قبل أذنه «طيب وأنا يا بابا» بنظرة مغوية حازت على دلاله وفازت بنبضات مترنمة باسمها تولدت اللحظة داخله مشاعر كثيرة وفريدة ففتح ذراعيه يحوز عليها «تعالي»
ابتسمت قبل أن تركض ملبيةً ندائه وحاجتها الدائمة لأحضانه، غرست جسدها فوق صدره مهمهمة برضا، متمسحة كقطة أليفة بصاحبها، ضحك قائلًا بتنهيدة رضا «والله أنتِ الي بابا بعد الي عملاه فيا دِه»
************
خرجت من الحجرة تحملها رياح الغضب فوق بساط الرفض، فتشت عنه حتى وجدته في الشرفة واقفًا يتنفس بعمق، رغم تأثرها بلقياه بعد عودة وعيها إليها إلا أنها صرخت فيه «بشمهندس»
استدار ونبرتها لا تنبؤه بخير، التفت لا يرجو من ملامحها الغاضبة رضا ولا قبول «أيوة يا دكتورة»
سيجت نفسها ببرود عاطفي وعقدت ساعديها أمام صدرها مستفسرة بغضب «حضرتك معانا هنا ليه؟ وإيه جايبك؟»
أجابها بصدق وهو يركض خلف عينيها مهتزة النظرات «أنا هنا عشانك، عشان اطمن عليكي مينفعش أسيبك في الظروف دي»
رغم اختلاج قلبها من قوله إلا أنها صاحت بعصبية «لا يا بشمهندس كتر خيرك مفيش حاجة أنا تمام ،اتفضل امشي»
ارتفع صوت أذان الفجر فصمت مستمعًا يردد خلف الأذان، صرخت فيه بنفاذ صبر «مش بكلمك يا بشمهندس؟»
نظر إليها بصمت فأشاحت متوترة تصرخ «أنا مش ناقصة مصايب تاني ولا عندي طاقة والله! لو سمحت امشي»
تحرّك للمغادرة دون أن يتكلم، بل تجاهل كل قولها وألقاه خلف ظهره وبالقرب منها وقف بإرادة من قلبه سحب رأسها ومال مقبلًا جبهتها في حنان وهو يهمس «ربنا يريح قلبك»
ارتعش جسدها صدمةً من رد فعله غير المحسوب والغريب الذي لم تتوقعه، رفعت نظراتها إليه في ذهول فابتسم لها وغادر من أمامها تاركًا لها في صدمتها.
تحسست موضع قبلته بأناملها المرتعشة كسائر جسدها ثم استدارت تشيعه بنظراتها النادمة وهي تمسك حافة الكرسي بوهن شديد.
عادت للتخت في صمت، جلست فوقه شاردة تنظر للشروق من نافذة الحجرة دون حِراك، اقتربت منها انتصار قائلة «قومي صلي يا بنتي وادعيلها»
لا تعرف لما تحسست قبلته بأناملها مرة أخرى، لما تريد استعادة الشعور بحنانه، فركتها كأنها تريد من موضعها سحرًا ينقلها من هذا العالم ويختطفها بعيدًا، تريد مارد تملي عليه طلباتها، ستخبره أنها تريد الغرق في هذا الشعور الذي لا تعرف ماهيته، نهضت انتصار على صوت الجرس وتركتها في عالمها فتحت الباب فدخل حاملًا حقيبته يسأل باهتمام «فيروز صاحية»
تركت تختها قافزة على صوته، أتى ماردها فلتطلب وتتمنى، رغم سعادتها الداخلية بعودته بعد ماكان منها إلا أنها تسلحت بالغضب وخرجت هاتفة «أنت إيه جابك تاني؟»
أزاحها من طريقه بالحقيبة التي يحملها قائلاً «وسعي بلا إيه جابك»
تابعته وهو يضع حقيبته داخل الحجرة ببساطة وأريحية شديدة ثم خروجه قائلاً «يلا عشان تفطري أنا جايب معايا فطار»
صاحت بحنق من بروده وعدم اكتراثه بقولها «مش بكلمك؟»
تابعت انتصار الأمر بحماس وابتسامة متألقة بالرضا، مستمتعة بما يحدث أمامها.
عاد ما قطعه من خطوات ووقف أمامها قائلًا بنظرة ماكرة متحدية «أنا لا سمعت الكلام الأول ولا التاني وأنا هنا بمزاجي وهمشي برضو بمزاجي» زمجرت بغضب فتابع ببرود «والله أنا مع مرتي محدش يقدر يتكلم ولو اتكلموا أنا كد المشاكل عادي»
أشار لها بابتسامة مستفزة «يلا اغسلي وشك واسنانك وتعالي أفطري الأكل دلوقت بمواعيد وإجباري» ضحكت انتصار باستمتاع فزجرتها فيروز بنظراتها مما جعلها تغلق فمها وتطأطئ رأسها بامتثال.
تحرّك قليلًا حد امتزاج الأنفاس فرفعت أناملها لموضع قبلته بتلقائية جعلته يكتم ابتسامته وهو لا يعرف فعلتها خوفًا من واحدة أخرى أو تنبيهًا له أو شغفًا وتأثرًا بفعلته،همس ممازحًا لها «لاه دي لما بكون رايق دلوك جعان» انحبست أنفاسها من قربه وقوله حملقت فيه قبل أن تستدير مهرولة لحجرتها.
أغلقت بابها فزفر ماسحًا وجهه لتظهر ملامحه الحزينة جلية لانتصار التي اقتربت منه تربت على كتفه بمؤازرة ودعم قائلة «عجبتني يا واد يا بشمهندس أيوة اديها»
******
عبرت الردهة الواسعة وموسى خلفها ينعق كالغراب، يسخر من محاولاتها رغم موافقته على المجيء والبحث عن تلك الشهادة التي خبأتها واعدة له برؤيتها، دخلت حجرتها وبدأت في البحث وهو واقفٌ يتجول في الحجرة متأملًا غائبًا عن أفعالها يعاصر في ذهنه ماضٍ احتواها و تمنى يومًا أنّ يكون جزءً منه «أوضتك حلوة يا زينب وبناتي كده» أمسك بأغراض لها مبتسمًا في عالمه بينما كانت هي تناحر هواجسها بشأن غياب الشهادة، تقلّب محتويات الحجرة في غضب وعصبية جعلته يسألها «في إيه يا بت اتجنيتي ولا إيه؟» تجاهلت قوله وواصلت البحث بهياج واضح… دخلت زوجة أخيها الحجرة مستنكرة تهتف وهي تتأمل الحجرة المقلوبة رأسًا على عقب«واه مالك يا بت داخله بزعابيب أمشير؟»
تركت ما بيدها واقتربت من زوجة أخيها صارخة بالسؤال«مين دخل أوضتي وجعد فيها؟»
مصمصت زوجة أخيها بغير رضا قبل أن تقول مستهجنة « ليه كمان مش هندخل أوضتك يا ست زينب!»
صاحت بعصبية «أيوة ملكمش حاجة فيها»
استهجنت زوجة أخيها قولها ونظرت لموسى قائلة «سامع مرتك بتجول إيه؟»
هدأها موسى بغيظ «ما تهمدي يابت عيب كده»
دفعت زينب زوجة أخيها صارخة «مين سمحلكم تدخلوها؟»
مصمصت زوجة أخيها مستعجبة القول تتهكم «البيت بيت أبونا والغرب يطردونا أوضتنا ورجعلتنا يا زينب وواد أخوكي جاعد فيها دلوك»
امسكت زينب بتلابيب زوجة أخيها وهزتها صارخة «فين الشملول ولدك خلفة الندامة»
نزعت زوجة أخيها قبضتيها ودفعتها مهاجمة لها «واه يابت يا جليلة الرباية مالك ومال ولدي»
هتفت وهي تدور حول نفسها مذبوحة بالخديعة «ولدك الحرامي سرقني»
مررت زوجة أخيها سبابتها على جبينها مستهجنة «وأنتِ حيلتك إيه يسرقوا ولدي يابت؟»
أمسكتها زينب من خصلاتها وهزتها صارخة «ولدك الحرامي فين انطجي»
دخل ابن أخيها المنزل متنحنحًا رحب بموسى حين لمحه فاندفعت زينب تجاهه تسأل «فين الورق بتاعي يا واد؟»
سألها ببرود وهو يقيمها بنظرة مستنكرة مزدرئة لها «ورق إيه يا عمة زينب»
أمسكته من تلابيبه وجذبته ناحيتها « قلبت أوضتي ليه؟ وفين الورقة؟»
سخر منها ابن أخيها وهو ينظر لموسى «مالها دي اتجننت ولا إيه وورقة إيه الي بتسأل عليها؟»
سحبها موسى من ذراعها هاتفًا من بين أسنانه بحنق ونظرات متوعدة «ما بكفياكي يا زينب يلا نمشي من هنا»
التفتت مقسمة له بعجز «والله خدوا الشهادة الواد تلاجيه بعهاله»
ضرب ابن أخيها كفًا بكف قائلًا «مالك ياعمة جرى لمخك إيه بس؟»
التفتت تحاول الهجوم عليه فابتعد قائلا بسخرية قاصدًا إثارة الآخر «ما تلم مرتك يا موسى مجادرش عليها ولا إيه؟»
هتف موسى بغضب وهو يحاوط رسغها بأنامله في شدة وقوة «لمّ روحك واتكلم على كدك» ثم نظر لزوجته بغضب وجذبها خلفه بعنف قائلاً «يلا معاي يا جلابة المصايب ناجصك أنا وناجص هبلك» حاولت إيقافه ولم تفلح، ظلت تسير خلفه مستمعة لسبابه وتعنيفه البغيض بقهر متوعدة قاهرها بالعذاب المهين.
**********
بعد صلاة الجمعة عاد للمنزل، دخل مناديًا صغيره «واد يا قاسم فينك؟»
خرج من الحجرة باشًا انحنى ملثمًا كفه فسأله رؤوف وهو يمسح على رأسه بحنان «طلعت بدري يعني مستنتنيش؟»
أجابه قاسم معتذرًا عن فعلته «معلش يا أبوي كان معايا حاجة مهمة» ضحك رؤوف قائلًا «ماشي يا مهم أنت»
تسللت من خلف الصغير بنظرة شقية تعد وتمني، ضيّق عينيه على وجهها مغمغمًا «استر يارب»
اقتربت منه وانحنت ملثمة كفه كما فعل قاسم ثم رفعت رأسها قائلة بنظرتها الشقية «وأنا يا بابا كمان»
ارتجفت أوصاله من ملمس شفتيها على بشرته، سحب كفه وتنحنح يجلو تأثيرها عليه لاعناً لها داخله، ضحك قاسم باستمتاع حقيقي مستحسنًا فعلتها بينما ابتعدت هي بخجل ووقفت كتلميذة نجيبة أمامه، همس وهو يشيح برأسه «يسد بيت أبوكي»
ضحكت برقة ونعومة ساحرة فأشار لها بعصبية «روحي جهزي الغدا مستنية إيه؟»
تحرّكت من أمامه بخفة ونشاط، تتبعها نظراته دون إرادة منه مجتذبة له بسحرها الخاص
بعد الغذاء جلس أمام المنزل يدندن، توقفت الكلمات حين لمح رأفة قادمة فنهض فرحًا ينتظر مجيئها ببشاشة
استقبلها حامد بترحاب شديد وروحٍ كالأطفال ولهفة المحبة الصادقة «ازيك يا رأفة عاملة إيه يا بابا؟»
انحنى مقبلًا ظاهر كفها بمودة عفيفة طاهرة، فسحبت كفها بخجل شديد شاكرة له «شكرًا يا عم ربنا يخليك» أجلسها حامد وجلس جوارها يطوف بنظراته على ملامحها مستكشفًا متأملًا لها، أورثه ذبولها بعض الضيق فسألها وهو يمسح على رأسها ململمًا في طريقه خصلاتها المبعثرة على غير العادة «فينك غايبة يا بابا؟»
ابتسمت قائلة بأدب «موجودة يا عم بس أمي تعبانة شوية فبخدم في البيت وأساعد أخواتي الصغيرين» لانت نظرته بتأثر فسألها برفق وحنان «خير سلامتها يا بابا؟»
أجابتها بملامح منقبضة بألم أزعجه بشدة «معارفينش يا عم والله ادعيلها»
سألها باهتمام شديد «طيب ودتوها الدكتور؟»
أجابته بسرعة «أيوة يا عم لفينا بيها كتير» قالتها الصغيرة بأسف وحزن لوّث براءة وجهها وطمس ملامحها الجميله فدعى «ربنا يشفيها يا بابا ويعينك جوليلي عاملة إيه في المذاكرة قاسم بيقول معدتيش تروحي الدروس»
أجابته بأسف وحسرة ظللت نظراتها «مفيقاش ياعم والله وأخواتي الصغيرين مبقدرش أسيبهم مع أمي لوحدهم فبذاكر في البيت»
أدمعت عيناه تأثرًا فربت على ظهرها بحنان قائلاً «لو احتجتي حاجة تعالي أنا كنت شاطر في المدرسة يعني مش بليد» ضحكت برقة فقبّل رأسها وصمت، لكنها رفعت نظراتها المنبهرة تستفسر بأدب ومراعاة وحذر «عم حامد قاسم قالي خبرين وأنا مكسوفة أسألك»
ابتسم قائلًا بنظرة لينة «قالك إيه قاسم اسألي متخافيش» أحاطها بالأمان فقالت بحياء ونبرة متلهفة «غزل هنا؟»
أجابها بسرعة «أيوة موجودة جوه على ما سمعت صوتك هتلاقيها جيالك تجري»
ضحكت رأفة بفرحة شديد وتابعت بجرأة اكتسبتها من حنانه ولطفه «قال قاسم هيجيله أخت ياعم»
ضحك حامد مُعجبًا بأدبها وذكائها في طرح السؤال «أيوة يا رأفة غزل حامل وهتجبلك بإذن الله أخت صغيرة»
ضحكت الصغيرة معلنة الفرح والسرور تباركه «مبروك يا عم»
ضمته رغم حيائها فتقبل ذلك ولثم رأسها شاكرًا.. بعد ذلك صمتت رأفة صمتًا طويلًا فسألها بقلق وهو يميل بوجهه عليها مستفسرًا بحنان «مالك يا بابا احكيلي»
رفعت عينان مغرورقتان بالدموع وهمست مصارحة له ببراءة «أنا خايفة أمي تموت يا عم خايفة جوي، بحلم أحلام عفشة»
ضمها حامد متأثرًا يقاسمها الوجع بإنصاف، يطمئنها بحنانه «متخافيش يا بابا أمك هتخف وتبقى زينة»
وجدت الصغيرة ملاذًا لقلبها ، تخلت عن كبريائها وانحنت للعاصفة، ضمته باكية في انهيار غير مسبوق لتلك الصغيرة التي جُبلت على القوة .
ارتجف قلبه حزنًا وتأثرًا حتى عجز عن مواساتها ونطق الكلمات..
خرجت غزل التي استمعت للحديث بينهما وجلست جوار رأفة مسيطرة على حزنها تهمس وهي تمسح على رأسها «رأفة»
ابتعدت الصغيرة عن حامد ملتفتة جوارها، مسحت دموعها ونطقت بفرح «غزولة»
ضمتها غزل مقبّلة رأسها بحنان بينما صمت زوجها شاردًا ببؤس وحزن عتيق«ازيك يا وردتي وحشتيني» قالتها غزل بمشاعر صادقة فبادلتها رأفة مثيلتها بمحبة
ابتعدت غزل عنها قائلة بحنان «متخافيش يا روحي اطمني عمو رؤوف بإذن الله هيشوف دكتور كويس» التقت نظراتهما سويًا فابتسم لكشفها دواخله وما فكّر فيه لكن للصغيرة رأي آخر حيث هتفت بجهل «مين عمي رؤوف دِه؟»
ضحكت غزل قائلة بشقاوة وهي تلملم خصلات الصغيرة من على وجهها «أنتِ من المغفلين أمثالي يا رأفة عمك حامد اسمه رؤوف يا بنتي سموه اسمين عشان يجلطني أكتر ما هو جالطني»
ضحكت رأفة بمرح وابتسم هو بصمت فمازال يحمل هم الصغيرة فوق عاتقه، مازال حزنها ينزف داخل قلبه.
نهضت غزل وسحبتها للداخل تاركةً له وحده يفكر، متولية أمر الصغيرة حاملة هم إخراجها من حزنها وإعادة البسمة لوجهها البشوش.
رنّ هاتفه فسحبه قارئًا الاسم، انتفض بعدها متحركًا بالهاتف، مبتعدًا عن المنزل في بقعة بعيدة منحته خصوصية الحديث وعزلته بعيدًا عن الآذان «أيوة إيه الأخبار.. مرتضى رجع مصر! يا مرحب بيه والله نوّر أنا جايله مسافة السكة بس عينك عليه لغاية ما أوصل»

