رواية عزف السواقي الفصل السادس والخمسون 56 بقلم عائشة حسين
السادس والخمسون
قالها موسى بملل وعينان محتقنتان بالغيرة والغيظ من زوجته التي لا تملّ من نسج الحكايات الوهمية حول حامد.
اقتربت منه قائلة بثقة مفرطة «مش خترفة والله قاسم ميبجاش ابنه ده ابن أخوك مصطفى وهو مربيه ولما لجيت الشهادة كان هيتجنن»
قال يسايرها في قولها «لو صُح كان أولى يجولي هات الورجة مش الخاتم»
انزعجت بشدة من غبائه وقالت بغيظ من بين أسنانها «موسى بجولك ابن أخوك يعني كيف مخبي عليكم وهيجولك اسرقلي شهادة الميلاد يعني»
ارتبك من منطق قولها مبررًا،احتمى بسور عصبيته قائلًا«بت أنتِ مخك مهوي وعايزة قتايل»
ابتعدت قائلة بثقة ونظرة ماكرة «الشهادة معاي يا موسى»
نظر إليها بعدم تصديق فقالت بتحدي «أقدر أجبهالك وتلاعبه بيها»
استفاق واقترب منها يهزها هاتفًا فيها بالتراجع «الكلام ده لو صُح هيبجى فيه قتايل يا بت، اعقلي»
نفضت كفيه بعيدًا عن ذراعيها قائلة بغطرسة «زي ما يكون بقا الواد ولدكم والأستاذ مالوش فيه روحوا جيبوا الواد»
حذرها بفظاظة مهددًا لها «كلامك دِه لو كدب هتروحي فيها يا حزينة»
اقتربت قائلة بثقة امتزجت بدلالها «مش كدب وهثبتلك بس نتفق الأول»
سألها بحاجبين ملتصقين «نتفق على إيه؟» ابتعدت عنه بخطوات متبخترة كالطاووس وهي تقول بنظرة ظافرة «أديك الشهادة وتجبلي شهادة وفاة المتر»
هتف بتهكم وهو يعاود الجلوس باسترخاء «مش بجولك عايزة قتايل على العموم جيبي الورقة أشوفها بعيني وبعدها نقرر»
*****
فتحت عيناها على قبلاته المنثورة وأنفاسه التي داعبت بشرة وجهها برقة، همهمت برضا ورائحة عطره تنفذ إلى روحها وتنعش خلاياها، همست بابتسامة رائعة وهي تطوّق عنقه بذراعيها في حالة هيام وسكر «أوفة حبيبي»
منحته دعوة خاصة للإقتراب ففعل، غيبها عن العالم بشوقه وعشقه ونبضات قلبيهما تعزف لحنًا خاصًا. أدركت وجوده فشهقت متسائلة وهي تتركه وتعتدل جالسة«إيه ده أنا مش بحلم؟»
التفتت للمبتسم خلفها منتظرًا عودة وعيها، عادت إليه بأنامل تهمس فوق بشرة وجهه بتناغم «أنت جيت»
تناول كفها وعضه فتأوهت معاتبة «بتعض ليه؟»
اعتدل يهتف بقلة صبر «عايز أعضك فدماغك والله مش إيدك هو العيل لما ياخد ذكائك هيفضلي أنا إيه؟ هو عقب شقى أنا عارف»
ضمته هامسةً بدلال «أوفة حمدالله على السلامة»
أبعدها قائلًا بسخط «الله يسلمك يا فصيلة الله يسلمك يا أخرة صبري»
ضربته بخفة على كتفه معاتبة «ما تبطل ندب شوية أنت ما بتصدق اقلب على حمودي الرايق الهادي»
سحبها لأحضانه قائلًا «تعالي يلا عايز أنام»
استنكرت وهي تتملص من بين ذراعيه بدلال «لا نام لوحدك أنا نمت»
سخر منها وهو يحكم سيطرته على جسدها « يعني بتفرق معاكي دي أنتِ تنامي يومين»
تأففت قائلة بحنق «شوف بقا الغلاسة وطولة اللسان»
هتف بانزعاج «بت أنا جاي سايق وتعبان وحالف أنام فحضنك»
تراجعت في عنادها ضاحكة برقة مستسلمة تشاكسه «صوم اتنين وخميس»
استخف بقولها «طب ما أحضنك أسهل يكش يكون هحبسك يومين»
تهكمت من قوله «لا وأنت بتاع حبس الصراحة، بعد يومين من جوازنا زهقت وكنت عايز تنزل الشغل»
ابتسم قائلًا «أنا أزهق منك يا حبيبي هو أنا قادر على فراقك؟ »
لثمت شفتيه بسرعة وهمست وهي تحرّك أناملها على خده «أوفة قولي الحقيقة كنت قلقان من مامتك ليه؟»
ابتسم بلطف وأجابها بصدق «هي مهما عملت أمي زعلها هيزعلني وأنتِ حبيبة قلبي ومعاكي كل الحق مهما عملتي، غصب عني كنت هزعل لو زعلت بس أبدًا مكنتش هلومك ولا أقدر أجبرك ولا أحددلك تتعاملي كيف معاها، واثق فيكِ وفقلبك بس خايف برضو تنازلك عن حقك يضايقك»
قربت وجهها من وجهه هامسةً «حمودي أنا قولتلك إني بموت فيك»شبّك حاجبيه قائلاً بمكر «لاه مش فاكر»
ضحكت قائلة «نقول تاني وتالت ورابع لغاية ما تفتكر يا سيدي»
**********
في العصر دفعت غزل طاهر معاتبة «طاهر هتوقعني يا ابني في إيه؟» ضمها مجددًا وهو يقول بحنان «وحشتيني جوي» جلس فوق الدكة الخشبية أمام المنزل وأجلسها معاتبًا «كده برضو طالما المتر معاكي تنسينا»
رفعت حاجبها مقيّمة له بنظرة مستنكرة قبل أن تطبق شفتيها وتلكمه صارخة «بس يا كداب بقا أنا تحوّر عليا»
تفادى ضرباتها يبرر من بين قهقهاته «حاولت أفهّمك بس مخك تخين»
أمسكت بخصلاته وشدتهم قائلة من بين أسنانها بغيظ «مخي تخين يا متخلف ولا سبكتوها عليا؟»
تأوّه قائلًا «ما صالحك أهو ورضيتي اشمعنا أنا»
تركت خصلاته ولكمته على ذراعه صارخة «عشان أنت أخويا ومتوقعتش تغشني إنما هو شيخ منصر» تنحنح كاتمًا تأففه ينبهها لمجيئه و وجوده فرفعت نظراتها قائلة «لا مغلطتش أنا قاصدة وأنت شيخ منصر»
ضرب كفًا بكف وهو ينظر حوله متفقدًا المكان يهتف «لا إله إلا الله ربنا يسامحك»
هتفت بفمٍ ملتوي سخريةً«أيوة اذكر ربنا واستغفر»
ضرب حامد جبينه مستنكرًا قولها يغمغم «طب أعمل فيها إيه دي يا أبوي، كنت لوحدي ملك والله»
صاحت وهي تنهض واقفة في مواجهته «سمّعني البرطمة يا شات gpt أنت»
نهض طاهر استعدادًا للهرب، قال وهو يكتم ضحكته «هسلّم على الخالة»
أثناء دخوله اصطدم بجسد صفوة فابتعد صارخًا فيها بعصبية وهو يتراجع وقد تلاشت ضحكاته وحل محلها عبوس قاتم «مش تفتحي يا بجرة»
رمشت مصدومة من قوله ثم قالت معتذرة وهي تتراجع بخذلان «آسفة يا طاهر مخدتش بالي»
صاح مجددًا بعصبية مفرطة «أستاذ طاهر» ختام جملته كان شهقة من فم غزل التي وقفت خلفه ممسكة له من ملابسه تطوّحه مستفسرةً بغضب «أستاذ طاهر إزاي يعني ومن امتى؟ وبعدين البنت معملتش حاجة أنت الي داخل بتبصلي ومش مركز»
هتف طاهر بنفور واضح ونظرة مشمئزة «هي كدا دايمًا مش مركزة ومستفزة وبعدين إيه مجعدها هنا أصلا ما تروح لجدتها وعمها؟» تركته غزل وأحاطت رأسها بكفيها صارخة «يا لهوي أنت حصلّك إيه؟»
التفتت ناظرة لزوجها الذي رفع ذراعيه متبرئًا «والله العظيم ما عملت حاجة ولا اتكلمت»
صاحت فيه «شايف تربيتك، سامع كلامه»
قال ببساطة شديد ونظرة متهكمة «هي كل حاجة عفشة تجولي أنا، وأنا مالي ما يمكن اتعدى منك »
جحظت عيناها بصدمة وهي تقترب مستفسرة «قصدك إيه؟»
ضرب وجهه بكفه متراجعًا يوضح «أقسم بالله أنا ناجص رباية إني جيت أطمن عليكي وأشوفك» حمل فأسه وتحرّك قائلاً «أخوكي وأختك ولعي فيهم براحتك»
غادر فنادته بغيظ «رؤوف تعالى»
التفت قائلاً «لاه خلاص هترزع في الغيط»
عادت لطاهر الذي وقف مكانه ثابتًا، ضربت الأرض بقدمها وهي تصيح «اعتذرلها حالًا وإلا والله يا طاهر ما هكلمك»
نادها بغيظ مكتوم «أنتِ يا ست صفوة» حضرت مبتسمة تُجيب باستخفاف «نعم يا أستاذ طاهر»
كتمت غزل ابتسامتها بينما قال هو متجاهلًا بكراهية «أنا آسف»
قالت بنفس الابتسامة «ولا يهمك»
دخل طاهر لخالته بينما جلست غزل ممسكة ببطنها في تعب وإرهاق.
********
بعد قليل جلست غزل جوار صفوة تسأل باهتمام «عاملة إيه طمنيني عليكي؟ مرتاحة ولا لا.. احكيلي يلا كل حاجة» سألتها غزل بنهم للمعرفة وصدق عاطفة فابتسمت صفوة ملتقطة أنفاسها فلأول مرة منذ جاءت تتنفس بهذا العمق والارتياح، رؤيتها لغزل جعلتها تتنفس «أنا بخير الحمدلله»
أجابت باختصار طعّمته بابتسامة باهتة، تدعم بها كذبها، تلاشت ابتسامة غزل وقالت «مش واضح يا صفوة هو أنا مش عرفاكي»
تحركت صفوة هربًا من مواجهتها، سارت في الحجرة متخبطة، مرتبكة، تحاول السيطرة على توترها
«مفيش طمنيني أنتِ على البيبي»
اقتربت منها قائلة بمرح مفتعل ونظرة كسيرة أوشت بما فيها «هبقى خالتو أخير....» التهمت الحقيقة باقي كلماتها، عاد إليها وعيها شاهرًا في وجهها هويتها الجديدة، عضت شفتيها وابتعدت فقالت غزل بحدة وهي تستشعر ما دار بذهنها «كملي وقفتي ليه؟»
بضحكة مجبولة على القهر قالت بمرح لا يليق بلحظتهما السوداء «يابنتي ما أنا مش عارفة كدا مبقتش خالتو بقيت إيه؟ نسيت والله تصدقي؟ هتقولي يا عمتو ولا إيه؟» ختمت قولها بضحكة عالية مقيتة بالنسبة لغزل التي أعلنت استنكارها بكل جوارحها ونهضت بحذر قائلة «بتهزري يا صفوة؟ إيه الي بتقوليه ده؟هو احنا محتاجين ورق يربطنا ولا هويّة تقربنا»
بدموع حبيسة فاجأتها بحسرتها «بس أنا مش أختك ولا أختهم أنا مش فاهمة أنا هنا فين لغاية دلوقت ولا ليه ولا إيه ذنبي ولا هكمل إزاي» ارتعش كل جسدها فاقتربت غزل وضمتها تشاطرها الحزن، ربتت على ظهرها محتوية لها وهي تهمس بصوت حنون «اهدي»
شهقت صفوة قائلة بوجع «أنا تايهة يا غزل ووحيدة وضايعة»
ابتعدت غزل وسحبتها لتجلس قائلة «مفيش الكلام ده أنا هنا موجودة جنبك ومش همشي وهنرتب حياتك تاني من الأول، أرجوكي يا صفوة كوني قوية وابني حياة تانية جديدة»
صارحتها صفوة ببعض الحرج وهي تتوارى في خجل «أنا فكرت أرجع لمرتضى والله»
انتفضت غزل مستنكرة تشهق بذهول «إيه؟ بتقولي إيه أنتِ اتجننتي؟»
نهضت صفوة مثلها توازيها في حدتها وغضبها، معترفة بدواخلها في مرارة تحكى لها «برغم إنه مش أبويا لكن أنا مشوفتش منه حاجة وحشة ولا ضرني، عاملني كويس ومتقبلني يا غزل»
ثارت غزل بعصبية مدافعة عن حبيبها وأهله «وأنتِ فوسط أحسن ناس يا صفوة مفيش زيهم ولا ينفع تساويهم بمرتضى أصلًا»
بكت بحرقة شديدة ثم قالت «هما مُجبرين عليا، متقبليني علشان الناس والأعراف والأصول، جوزك بيجي عالباب يسلمني فلوس ويسأل ويمشي، وطاهر ويونس مشوفتهمش ولو حصل ورديت عالفون بيزعقوا»
ضمتها غزل متأثرة بقولها، تبكي لمرّ الشعور وبشاعة الخذلان، تستنكر عليهم الأفعال وتعاتبهم داخلها بضمير حي متوعدة لهم..
«صفوة هنبدأ من جديد هتحاولي تتقربي منهم كلهم متبعديش وتاخدي جنب لوحدك وأنا جنبك ومعاكي»
ناداهما طاهر وهو يصفق بكفيه «بت يا غزولة الأكل»
مسحت دموع صفوة قائلة «يلا ناكل» خرجت ممسكة بكفها في حماية مُعلنة، فهمها زوجها فابتسم وأخفض بصره، جلست صفوة جوارها من اليمين وزوجها من الشمال وجلس قاسم جوار والده، فهتف طاهر منزعجًا «فين مكاني؟»
أشارت له غزل بحاجب مرفوع «اهو مش شايف؟»
أخفضت صفوة بصرها وحاولت التحرك فأمسكت غزل بكفها مثبتة لها في إشارة واضحة منها، راقبهم رؤوف بصمت لا يروقه ما يحدث لكنه صبر، أشار طاهر لقاسم «تعالى هنا يا قاسم»
امتنع قائلاً «لاه هجعد جنب أبوي»
تأفف طاهر و تحرّك مبتعدًا، أبدل رؤوف مكانه ليفض الاشتباك «تعالى جنب أختك»
كزت غزل على أسنانها بغيظ بينما كتم رؤوف ضحكاته وقالت«قاسم روح جنب بابا من الناحية التانية علشان يعرف يأكلك»
امتثل قاسم وجلس بين أبيه وصفوة التي التزمت الصمت وامتنعت عن المراقبة منشغلة بحصر حبات الأرز.
ابتعدت غزل بعد قليل متعبة، حملت بعض الأطباق وغادرت حيث تجلس الخالة فجاورتها قائلة بابتسامة ودودة ونبرة حنون مراعية «جبت الأكل يا حبيبتي علشان تاكلي»
حمد رؤوف الله ونهض نافضًا كفيه ممتنعًا متقلص الشهية بعدما تركت هي الطعام متعبة بالوحام كالعادة.
********
جلست معه في حجرتهما أمام صينية أعدها لهما، شردت فيما حدث مفندة الأمور في عقلها، سلامه المقتضب على صفوة، وعبوسه الواضح كلما صادفها، تبدّل حاله وصمته الوقور، رفضه تناول الطعام معهم والاختصار في الحديث فسألته «رؤوف صفوة بنت عمك»
ابتسم ممازحًا لها وهو يتناول الطعام بشهية «يا سلام ما أنا عارف يابت»
تنهدت مستسلمة لقرارها بمواجهته وقالت بنبرة عاتبة تستنكر أفعاله ولا تتقبلها«بتعملوا مع صفوة كدا ليه يا رؤوف؟» راوغها بمكر لا يمنحها مساحة الحديث الجدي لينتهي الأمر بسلام ولا يتطرقان لما فيه الحزن والغضب «عملنا إيه يا غزولة بس؟»
همست بحزن عتيق «بتعاملوها وحش.. مش شايفينها، هي مكانتش ناقصة وحدة يا رؤوف متوقعتش منك كده»
ترك الطعام وأبعده نافضًا كفيه، مستسلمًا لأمواجها العاتية، همس بعاطفة وهو يداعب ذقنها بأنامله الحنونة «أنا مشايفش فالدنيا غيرك، مين فينا مكانش وحده وتايه، بالك أنتِ يا غزولة أنا معرفتش الونس غير بيكي ولا دوقت طعم المودة والسكن غير فقربك»
ابتسمت برضا ومالت بشفتيها مقبلة كفه رغم مكره في إنهاء الحديث عن صفوة وتبديله إلا أنها واعية وأشد منه عزمًا وإصرارًا «ربنا يخليك ليا يا حبيبي وأبويا وصاحبي»
نهض ململمًا الأطباق هاربًا من عزمها وما قرأه بنظراتها، لكنها تبعته في تحركه تفيقه بكلماتها «عارف صفوة قالتلي إيه؟» وقف ناظرًا إليها باهتزاز، يخشى الاستفسار ويهاب المصارحة
أجابته بدموع متحجرة «قالتلي إنها عادي ترجع لمرتضى لو هيعاملها كويس،إنه رغم مساوئه مكانش وحش معاها بالعكس، هي هنا وحيدة ومنبوذة»
هاجم بعصبية متهربًا من اتهام نظراتها «خليها ترجع وهقتلها، وحيدة نعملها إيه ما هي حبيبة جدتها وعمتها وعمها عايزة إيه تاني؟»
وضعت كفها على فمه متوسلة له رافضة هياجه «رؤوف لو سمحت البنت بره متجرحهاش عشان خاطري»
انسابت دموعها على خديها فارتجف خافقه و لانت نظراته العصية، خضع في محرابها «بتبكي ليه طيّب دلوك يا بت الناس» قالت بشفقة وهي تواصل البكاء «عشان متوقعتش منك تعمل كده وعلشان البنت صعبانة عليا ليه مش حاسين بيها»
زفر قائلًا ونظراته تتبع دموعها بقلق «مجادرش يا غزل .. ببص فوشها بفتكر كل الوجع والتوهة والحزن وحضني الفاضي منك وقهرتك ووجعك»
اقتربت هامسةً بصوت متحشرج «أنا أهو والله»
ضمها لصدره بقوة هامسًا يستشعر وجودها بكيانه وهو مغمض العينين « أنتِ أهو بس مش مكفيني منك حاجة ولا عارف أنسى الي حصل بسببها »
رفعت رأسها مستميلة له « إزاي قلبك الحلو ده مفيهوش مكان للغلبانة دي كمان»
كتم غيظه وأجابها من بين أسنانه «لاه ومتجبرنيش على حاجة»
صاحت فيه بعدما تركت أحضانه «طيب اطلع نام في الشارع»
تدلى فكه مستنكرًا رافضًا «بتجولي إيه؟ اتهبلتي أنتِ»
هددته «لو ممشتش هروح أبات مع صفوة يا رؤوف»
زفر بحنق وغضب قبل أن يترك لها الحجرة ويرحل مرغمًا، بينما جلست مفكرة.
في منتصف الليل تسلل للحجرة طارقًا بعدما سمع صوت نهنهات بكائها عبر النافذة
«غزل افتحي هعملّك الي عيزاه ويريحك»
ابتهجت لمجيئه،ضحكت من بين دموعها وهرولت تجاه الباب مسيطرة على لهفتها لا تسرّب الشوق في صوتها
«لا نام لوحدك»
صارحها بحنان
«مجادرش على بعدك أنا ولا ليلة»
قالت بعتاب حنون
«لا قدرت يا متر وعادي»
تأفف منزعجًا يسألها
«متى اتربرب المتر وقدر؟»
عادت للأمر بعناد وهي تشهق ببكاء أوجع قلبه واضطره للرضوخ
«بتعاملوا البنت كدا ليه؟ ذنبها إيه؟»
قال من بين أسنانه بصبر متهكمًا
«ملهاش ذنب احنا ناجصين رباية ومجانين في واحد عاقل يتجوز بت عدوه ويحبها كده ويقف يتحايل عليها حقه يقطم رقبتها بس أنا مني لله»
مسحت دموعها وقالت
«لازم تغيّر معاملتك»
أجاب بطاعة
«حاضر لو عاوزة اتجوزها معنديش مانع عشان يكمل الحِزن»
فتحت الباب فورًا متسعة العينين فابتسم قائلًا بمرح «إيه لا يجوز»
دخل وأغلق الباب خلفه، ضمها ناثرًا القبلات فوق وجهها بشوق، ململمًا بقايا دموعها بشفتيه.
ضمته بتملّك وهي تهمس « أنت بتاعي أنا لوحدي» رفعت رأسها مردفة بابتسامة «حامد ورؤوف الاتنين بتوعي أنا محدش يشاركني فيهم»
انحنى برأسه لمستوى شفتيها، قبلها برقة مؤكدًا منتشيًا بغيرتها وتملكها «حصل يا غزولة»
ابتعدت قائلة بحدة «رؤوف…»
كمم فمها بكفه هاتفًا فيها بغيظ «ولا كلمة يا فصيلة،بقيت بعرف بعد كل جملة حلوة هتبدعي»
نزع كفه وتحرّك ليغادر فاستوقفته قائلة «مش قولت مبتقدرش على بُعدي»
سخر من قولها «لا ما أنا هتخمد تحت الشباك قريب منك بس تفصلنا حيطة ساتر»
أمسكت بذراعه رافضة بدلال «خلاص مش هتكلم ولا هنتناقش»
رمقها بنظرة مشككة فرمشت بأهدابها في وداعة تصديقًا لقولها، هتف وهو يحملها بين ساعديه «يسد بيت أبوكي جمر»
ضحكت برقة فهتف «بالله عليكي ما تغيري القناة دا أنا جايلك من آخر الدنيا غاوي»
*************
اجتذبها الصغير من شرودها بحكايته «أما أبوي النهاردة ركّب بت جميلة جوي» انتبهت له بحاجبين منعقدين فابتسم الصغير بظفر لنيله انتباه والدته أخيرًا وجزء من اهتمامها بعد أيام جاع فيها قلبه وتعرى، سرى الحماس في دمائه فأكمل «مرضتش تجعد ورا وقعدت جنبه وقعدتني على رجلها»
قلدها الصغير بمرح ظنًا أنه يثير ضحكاتها «مسكت خدودي كده وجالتلي أنت شبه مؤمن وحلو زيه»
عبست من حلو الكلام، غمرها ضيق مفاجئ وتقلّب قلبها الصب فوق نيران الغيرة، نظرت أمامها تتخيل الموقف هزت رأسها نافضة أفكارها ثم رتبتهم كخزانة مغلقة، دثرت وجهها بكفيها و أنين آيات الذي يصلها يهدم كل شيء ويعيدها لموطن الألم والحسرة، آيات التي رفضت المكوث في المشفى بعد رؤيتها رؤوف وغزل وأصرّت على المغادرة لتستلم هي مسئوليتها كاملةً وتتحمل العناء الذي يقاسمها فيه مؤمن، بعدما عاد محملًا بفرحة الشفاء فوجد رياح الهم في انتظاره...خرج مفتّشًا عن عمل وهو لم يتجاوز فترة نقاهته بعد، وحين يئس عاد للعمل على سيارة أجرة ساعاتٍ طوال تستنفذ طاقته وصحته.
نهضت تدور في الحجرة مفكرة لا تعرف كيف تركته يفعلها بعدما أقسمت عليه بعدم العودة لذلك العمل المتعب، كيف صمتت وتجاهلت الأمر وهي تعرف ما أصابه وذلك الألم الذي ينخر عظامه كلما استعاد ذكرى حادثه، كيف تخطى الأمر وحده وعاد، تذكرت ليالي العمل الأولى وكيف كان يعود شاحبًا مثقل النظرات بالحزن، مشتت الفكر بين معاناتها ومعاناته هو الخاصة التي لا يعرفها سواها، الآن اتضحت الرؤية لديها وتتابعت الصور التي مررتها بهدوء ودون تعليق، الآن يعاود عقلها العمل من جديد واضعًا أمامه ملفات الماضي والحاضر.
رنّ هاتفها باسمه فأجابت بهدوء لا يعكس ما بداخلها من معاناة «أيوة يا مؤمن حاضر تمام هستنى..» صمتت بتردد قبل أن تسأله باهتمام «أكلت؟ »
تعجب من اهتمامها المفاجيء حد الذهول وسارع بالإجابة مُعيدًا عليها ما نسيته بصبر ودون ملل «لا يا غالية أنا برجع آكل معاكم مجدرش آكل لوحدي»
ابتسمت متذكرة ما نسيته في زحمة همومها ومصائبها وهمست«ماشي خلي بالك من نفسك»
أنهت الاتصال وعادت لقعر أفكارها حتى جاءها اتصال الصديقة الغائبة الحاضرة فأجابت بلهفة، لم تمنحها غزل الفرصة وهتفت معاتبةً برقة «يا ستي بتوحم على حاجتك الحلوة مش هنفوق بقا ونشتغل؟ مفيش هدية لصاحبتك وبنوتة صاحبتك»
ضحكت هدى رغمًا عن حزنها ومشاعر الحداد الرابضة بقلبها، ضحكة تضافرت مع دموعها فشكلت مزيجًا مختلفًا من المشاعر المتضاربة «ازيك يا غزل عاملة إيه مبروك الحمل»
تذكر غزل حديثهما أول مرة واستقبال هدى لصوتها كما تستقبل الأرض الجدباء غيث السماء، وبكائها عند سماع صوتها وكيف تركتها تسكب الشهقات والدموع وترجمتها هي برقتها لمواساة ومؤازرة منحتها لها دون بخل، كيف احتوتها وضمتها بالكلمات وربتت على قلبها بعاطفتها الصادقة، كيف فندت لها الأمور وقسمتها لأجزاء تعالج كل جزءٍ بكلماتها على حدى رغم صمت هدى وقلة كلامها وعدم استجابتها أحيانًا لكنها واصلت دون ملل وبصبر. وها هي الآن تعاود الاتصال لإخراجها من واقعها المؤلم والوقوف بها فوق أرض ثابتة والهروب بها من منطقة اللاوعي حتى تستطيع تضميد جراحها.
«الحمدلله بخير أنتِ بخير؟ مش هتيجي بقا وحشني عبدالله أوي»
ألقت مشاعرها الصادقة كالشباك داعية فنال خيرات الرضا والمودة الحقيقية والابتسامة الرائقة «بيسأل عنك دايما منسكيش» صمتت قليلًا ثم أوضحت ببعض الحرج والخزي الذي لا تعرف مصدره لكنه يلازمها تجاه أختها دائمًا «مبجدرش أسيب آيات لوحدها دلوك»
سارعت غزل معتذرة برقة قلب «لو أعرف آجي مش هتأخر سامحيني يا هدى»
ابتسمت هدى لا تصدق رقة قلبها ولا اعتذارها وتأثرها الواضح بالأمر، بل تستنكر «ولا يهمك كفاية مكالمتك ليا ووقوفك جنبي»
«احنا اخوات وأنا بحبك أووي» قالتها بسرعة غير متباطئة ولا مترددة بعفوية تسرق القلب، بادلتها هدى مودتها «وأنا يا غزل»
انتقلت غزل لحديث آخر قائلة «ازي أبو عبدالله يا هدى عامل إيه وأخبار صحته والعملية؟ كويس بياخد علاج ولا خلاص؟»
توقف هدى عند كلماتها تائهة ،هي نفسها منذ عاد لم تسأله ولا مرة عن حاله، انعزلت وحدها معتصمة بالصمت واللامبالاة، صارحتها بصوت متحشرج مكتوم بفعل غصة دمع «تصدقي معرفش يا غزل ولا مرة سألته من ساعة ما جيه»
صمتت غزل متفهمة واعية لبدء إفاقتها تأخذ بيد قلبها نازعة من كفه سوط الندم والحسرة حتى لا تجلد ذاتها، تمنيها بالقادم في تفاؤل «معلش الي حصل مكانش شوية عليكي والضغط النفسي ،بس مش مشكلة يا هدهد ممكن تبدأي من النهاردة وكأنه راجع من السفر وتسأليه وتطمّني عليه»
ابتسمت هدى وهي تمسح دموعها المتساقطة، هتفت غزل «جوزك زعلان أوي عليكي يا هدى أرجوكي فوقي شوية وخدي بالك منه ومن عبدالله أنتِ ملكيش غيرهم ولا هما كمان»
ابتسمت هدى شاكرة لها دعمها ومؤازرتها «ربنا يخليكي يا غزل متشكرة لوقوفك جنبي»
قالت غزل بمرح «لا دا مش ببلاش دا بطبق بواااااخيه » قالت بصعوبة متذكرة الاسم، ضحكت هدى موضحة لها مترفقة بها «ممكن تجولي مخروطة أو قادوسية مش لازم أمبواخية»
قالت بصوت خافت تقاسمه المحبة وتظهرها حتى فيما يقول ويفعل «رؤوف بيقولها كدا وأنا بحب أكون زيه» خفت صوتها بخجل من إعلانها الصريح بعشقه ومشاركته أدق التفاصيل بشغف، ابتسمت هدى داعية لهما فشكرتها غزل وشجعتها «هكلمك تاني وفوقي يلا علشان نعمل مشروع حلويات جامد أنتِ تبدعي وأنا آكل وأفلّس المتر»
ضحكت هدى على قولها ثم ودّعتها وأنهت الاتصال.
هاتفت غزل سكن بعدها وأخبرتها بمعاناتها في الحمل وتعبها والأعراض التي تدفعها للاكتئاب
«بعيط كتير أوي يا سكن» أضاف هو بعدما دخل الحجرة «أيوة وقوليلها بتزني كتير»
زجرته بنظرة خاطفة فغمغم متهكمًا «خوفت أنا كده، وبترغي كتير وبتاكل الراس ولو البت جات زيك كده هتاكلوا وداني وأمشي من غير ودان»
استمعت سكن لكلماته فكتمت ضحكتها وقالت منهية الحديث «روحي يستاهل المتر بعد الكلمتين دول يتنكد عليه»
أنهت الاتصال والتفتت له هاتفة بضجر«رؤوف يالهوي منك مش هتبطل بقا»
استلقى فوق التخت قائلًا ببرود وبراءة كاذبة «عملت إيه أنا، هو كل حاجة رؤوف أسيبلك البلد وأهجّ»نظر للسقف معددًا كعادته يرثي ذاته «حيرتني يا زمان فأمري إش حل فعقاب عمري»
حاولت صعود التخت ففشلت وتنهدت بيأس وإرهاق، نهض محاولًا مساعدتها، اعتدل جالسًا مانحًا قدميه لها كعتبة وصول، وضعت قدمها فوق قدمه واعتلت التخت جواره، ثم استلقت متنهدة فمال على جنبه يهمس بابتسامة خلابة « كنت فاكر الأحلام ملهاش نهاية يا غزل بس طلعتي أنتِ نهاية كل الأحلام الحلوة، الدعوة الي كانت فقلبي ومش عارف أجولها، والحاجات الكتير الي عايزها ومش عارف كيف أطلبها كل دول كانوا أنتِ، ربنا استجاب لقلبي قبل لساني وجمّع كل الحلو فيكِ، عوضني عن كل حرمان بزيادة وكرم، حتى الي متمنتهوش لقيته فيكِ»
ضحكت بفرحة وأدمعت بتأثر، توهجت نظراتها الواقفة على ملامحه وتألقت بزينة كلماته،لثّم كل إنش من وجهها داعيًا «ربنا يخليكي ليا يا غزل وميحرمنيش منك أبدًا» ثم ابتعد قائلًا وهو يضم كفها لصدره «عايز آسيا زيك، نسخة منك تعلميها كيف ما اتعلمتي وتربيها كيف ما اتربيتي يا غزولة»
ابتسمت قائلة «ربيها أنت زي ما تحب ومفيش أحلى من تربيتك لقاسم يا حبيبي»
هتف بارتباك وخوف من رد فعلها على ما سيقوله «وقاسم كمان يا غزولة مش هوصيكي عليه مهما حصل متسبهوش »
ساورها القلق من كلماته الغريبة، سحبت كفها وطافت على ملامحه بنظراتها قائلة «إيه هوصيكي دي؟ مين الي نكدي دلوقت يا متر أنت»
ابتسم وهو يجذبها لأحضانه فرفعت رأسها مستفسرة بتوتر وقلق «في إيه؟ خوفتني يا رؤوف أووي»
غمرها بحنانه الوفير الذي لا يبخل به
وقال «مفيش حاجة اطمني ميبجاش جلبك خفيف كده»
وهج عينيه أضاء شعلة عينيها بالمشاعر فهمست وهي تقبّل ذقنه «قلبي بوجودك فيه بقا بخف الريشة والله»
نهض على طرقات الباب الرزينة ونداء قاسم المتأدب،ساعدها على النهوض وهبوط التخت وبعدها فتح لصغيره «فينك يا أبوي استنيتك كتير»
ضرب رؤوف جبهته قائلًا بأسف «نسيت خالص يا قاسم سامحني وادعي لأبوك يا ولدي بالعقل»
كتمت ابتسامتها وضحك قاسم على قوله ثم سأله «أنت بتعمل إيه؟»
هبط لمستواه مستندًا على ركبتيه يقول بشقاوة ونظرة مشاكسة «دخلت بيتنا فراشة يا قاسم»
وضع قاسم أنامله حول ذقنه مفكرًا باهتمام «فينها دي يا أبوي؟»
مال رؤوف برأسه وغمزها هامسًا بهيام وهو يضمها بنظرة حنونة «اهي.. دخلت ولونتها بألوانها يا قاسم مبجتش عارف أنا فالدنيا ولا فالجنة»
قطبت بعدم فهم تسأل بغباء «فينها الفراشة؟»
عاد لصغيره قائلًا بإنزعاج «يلا يا قاسم نحبس الفراشة قبل ما تفهم »
ضرب الصغير كفه بكف والده ضاحكًا «يلا يا أبوي أنا معاك»
استدارا لها في عزم فسألتهما وهي تنظر لابتسامتهما «قصدكم مين الفراشة؟»
أشار رؤوف لصغيره بعزم «يلا يا قاسم أمسك الفراشة»
ابتعدت عنهما برفق، واقترب هو منها بحرص مجاريًا ضعف خطواتها وحذرها في الهرولة «رؤوف ناوي على إيه؟»
أجابها وهو يتأملها بنظرة ساحرة «عايز أحبس الفراشة ومتطلعش، عايزها لينا لوحدنا وبس»
هرولت من أمامه ضاحكة تقول بشقاوة «ماهي محبوسة وعشانكم بس»
وقف مكانه مال ناحية صغيره واضعًا كفه موضع قلبه يهمس بتنهيدة غرام «نعمة تستحق الشكر والله» قال دون مراعاة وهو يقترب منها «احنا بنتنفسك كيف الهوا يا غزولة وبنرتوي بشوفتك زي ما بترتوي عروقنا بالمياه وقربك بيشبعنا، حضنك بيت بيضللنا أنتِ دنيا بحالها مية وهوا وسكن هنعوز إيه تاني يا فراشتنا الحلوة»
ضحكت برقة لسحر كلماته ووصفه فأشار لصغيره « احضن فراشتنا يا قاسم»
هرول قاسم بطاعة فهبطت لمستواه واحتضنته بقوة باكية، اقترب رؤوف وأنهضها معاتبًا «في فراشة بتبكي»
اندفعت لأحضانه شاكرةً تدرّ عليه من عاطفتها «أنا بحبك أوي يا رؤوف »
ضمهما الصغير مشاركًا لهما السعادة بمرح واحتفاء بعدما اكتملت أخيرًا عائلته التي حلم بها وأراد تكوينها.
*********
هتفت عواطف وهي تراقبه بنظراتها وهو يصول ويجول بإرهاق وتعب «خلينا ننزل مصر يا مرتضى واكشف»
صاح فيها بعصبية وهو يتململ في جلسته من شدة الألم «مصر إيه الي عيزاني أنزلها !يا تقعدي ساكتة يا تغوري تمشي»
تركت مقعدها واقتربت منه رابتة على كتفه تواسيه «بس عايزة نتطمن، الدكاترة هنا مش كويسين والإجراءات كتير» نفض كفها ونهض متوجعًا يكتم آهات ألمه ويدور في المكان بلا قوة «اسكتي بقولك» مصمصت بقلة حيلة ثم عرضت مساعدتها «طيب أعملك حاجة سخنة تشربها؟»
دفعها وهو يتنفس بقوة موبخًا لها «غوري اعملي يلا من غير رغي»
انسحبت كاتمة تأففها وزفرتها في صدرها حتى تبتعد عنه، وقفت في المطبخ تُعدّ له المشروب داعية عليه بحرقة متذكرة فتاتها التي حُرمت منها بسببه وتدميره حياتها من قبل، داعية أن يذيقه ويلات ما أذاقه للجميع.
منذ أيام وهو يعاني ألمًا شديدًا في معدته لا يهدأ إلا بمسكنات الألم ومكوثه يومًا في المشفى، لولا أموالها التي تريد استعادتها ما بقيت جواره يومًا، هي مجبرة على مرافقته والبقاء معه حتى تحصل على أموالها المسلوبة بالحيلة فإن لم تستطع ستقتله بيدها فلم يعد هناك ما تخاف خسارته.
*********
دخل العمارة مناديًا بمرح عاد لصوته من جديد «رجب يا رجب»
انتفض رجب حين سمع صوته واقترب ملبيًا ببهجة بعدما استشعر في نبرته الفرح و السرور و عودته للمشاكسة «أيوة يا بشمهندز»
أحاط يونس كتفيه وسار به ناحية الدرج وهو يشير بعينيه للأكياس التي يحملها «جايبلك غدا وحلو ملوكي»
تعجب رجب وسأله «وليه كل دِه؟»
أجابه يونس ببهجة حقيقية ورضا «عشان مبسوط وقولت أبسطك معايا»
هرش رجب فروته من تحت الطاقية الصوف شاكرًا «كتر خير يا بشمهندز ربنا يبسطك علطول كده وتبسطني»
صعد الدرج قائلًا بشقاوة «خمن جايبلك إيه؟»
فكّر رجب ثم خمّن «كباب وكفتة وبسبوسة بالجشطة»
شاكسة يونس «لا لاه جول غيرها»
«ساندوتشات شاورما وسبيرو سباتس» قالها رجب بأعين لامعة وهو يمرر لسانه على شفتيه بشهية أورثها له التخيّل.
دخل يونس الشقة قائلًا «يعني، قربت»
تحرّك للمطبخ يحضر الأطباق والمعالق وهو يقول بحيرة «حيرتني يا بشمهندز»
افترش يونس الأرض وجلس متربعًا رنّ هاتفه باسم السيدة انتصار فانسحب تاركًا الطعام، أجابها بلهفة وهو يدخل الشرفة، ليعود بعد قليل مسرعًا بملامح لا تفسّر، أوقفه رجب متسائلًا«رايح فين؟»
أجابه يونس وهو يتناول سلسلة المفاتيح من على الأرض «رايح لفيروز أمها ماتت»
نهض رجب قائلًا «وه وه وه الدايم الله»
تركه وهبط الدرج قفزًا مستغفرًا يصارع الوقت؛ ليصل إليها بعدما استنجدت به السيدة ليلحق بها ويحاول مساعدتها.
بعد قليل وصل المشفى مفتشًا عنها بقلق حتى وجدها تجلس القرفصاء أرضًا، تضم جسدها بذراعيها المختض ببكاء مكتوم وشهقات محبوسة، تئن بصوت واضح، ركض مغمغمًا باسمها حتى وصل إليها وجلس أمامها يهتف بجزع «فيروز اهدي»
رفعت عينيها الغارقة في موجة دموع قائلة بتقطّع «ماما.. ماما.. أنا مش عارفة أعمل إيه»
سحبها لأحضانه مهدئًا لها فانفجرت في البكاء والصراخ منادية «ماما»

