رواية عزف السواقي الفصل الخامس والخمسون 55 بقلم عائشة حسين
الخامس والخمسون
وقف جوارها منتظرًا رد الطبيبة التي تعلقت نظراتها بشاشة الجهاز أمامها في اهتمام ودقة بينما كان هو يمسك كف زوجته ويقبض عليه بكف و يضع كفه الأخرى فوق رأسها ، محيطًا لها بحنانه الغزير وهمسه المطمئن «متخافيش يا بابا خير بإذن الله»تنهدت بعدما سرت الطمأنينة في عروقها من كلماته،فأرخت جسدها باستسلام ورضا، هتفت الطبيبة بابتسامة منمقة وهي تعيد الجهاز لمكانه «الأمور تمام الحمدلله مفيش حاجة بس ترتاح شوية وتاخد العلاج الي هكتبه»
تنهد بارتياح وابتسمت هي برضا، تحركت الطبيبة لمكتبها فسحب هو ملابس زوجته ورتبها لها ثم ساعدها على النهوض والسير، تناول روشتة الدواء من الطبيبة شاكرًا بأدب وخرج بها، عند الباب انحنى وحملها بين ذراعيه، استنكرت فعلته «رؤوف نزلني مينفعش كده»
أجابها وهو يسير في طريقه بلا مبالاة لا يأخذ برأيها ولا يعمل به«هو دِه الي ينفع»
نظرت حولها قليلًا هامسةً بخجل وحرج «رؤوف الناس تقول عليك إيه؟»
ابتسم ساخرًا يقول «يا بت أنا قالوا عليا كتير مجاتش على مرة»ثم عدد لها بمرح « قالوا مرة مجنون، متدروش،مستقوي»
جذبها بسحر كلماته المتآلفة مع نظراته إليها متوقعًا بمرح ما سيقال عنه «هيجولوا سحراله شوفوا شايلها كيف؟ هيجولوا جننت العاقل، وهيجولوا مفيش حيا خالص المرة طيرت عقله» تنهد وتابع مختطفًا لها بسحره «مهيبقوش كدبوا والله ولا اتبلوا عليا أنتِ سحراني يا غزولة ومطيرة عقلي لا عارف الحادي من المنادي»
نظرت أمامها محتفظة بابتسامتها و وجيب قلبها العالي متنعمة بدفء أحضانه،فوجدت مالم تتوقع يومًا مصادفتها، وقفت آيات متسعة العينين بينما تجاهل هو كل هذا وسار بثبات كأنه لا يراها ،غير متأثرٍ لرؤيتها ،رفعت غزل نظراتها إليه فوجدت ملامحه كما تركتها بابتسامة حنون ونظرة رضا مشعة وعينان ممتلئتان بها فابتسمت،تابعتهما آيات بنظراتها في دهشة عظيمة لا تصدق أنّ الذي يحمل زوجته على أعين الناس زوجها المحافظ ،كأنها لا تعرفه وهل عرفته حقًا أو منحت نفسها الفرصة يومًا لتعرفه؟سارت متعكزة في الممر على الجدار تسكب الدموع والشهقات من فمها سكبًا.
فاقت غزل من شرودها وإبحارها في نظراته على وجودها داخل السيارة، ضحكت هامسةً «وصلنا أنا محستش والله» جاورها أمام محرك السيارة قائلًا «عرفتي إن يونس اترفد»
شهقت مستنكرة بانفعال واضح وضيق «يالهوي دا بجد؟»
تنهد مؤكدًا بحزن سلب سكينته «أيوة فهد الكلب وراها»
أمسكت بذراعه ومالت هامسةً «ويونس كويس؟»
أجابها بتنهيدة استسلام وحزن عصر فؤاده «لاه الواد طاهر بيجول زعلان جوي ولا بياكل ولا بيشرب»
أشارت عليه «روحله يا رؤوف وأنا هفضل هنا علشان السفر والتعب»
هتف بحيرة «خايف أسيبك لوحدك يا غزل» نظر إليها مردفًا «مش هجدر تاني على يوم واحد بُعد عنك»
ربتت فوق ذراعه قائلة بحنان «لا يا روحي متخافش وديني بس عند صفوة واطمن أو جبهالي،مينفعش نسيب يونس لوحده في المحنة دي »
هز رأسه مؤكدًا قولها ثم قال «خليكي بس عند خالتي دلوك لما أرجع نروح مع بعض بيت الحفناوية»
اعتدلت قائلة ببعض الصرامة والحدة «أوكيه الي تشوفه بس هاخد ابني معايا يا رؤوف ومش هيفارقني»
أوقف السيارة قائلاً وهو يلتفت ناحيتها «عيون رؤوف تأشري يا بكرية القلب»
لانت وتبخرت صرامتها فهمست برقة ودلال «حبيبي أنت يا متر» ختمت قولها بتعلقها برقبته ملثمة خده،ثم ابتعدت قائلة «بس إزاي هنسيب الخالة»
أوضح لها «اطمني مش هنطوّل هناك»
أومأت باستحسان ورضا ثم مالت ولثمت شفتيه فابتعد مقهقهًا يقول «وكده هيجولوا عليا جليل رباية لا عنده حيا ولا خشى ولا دين» عاد بها للمنزل حاملًا لها بين ذراعيه، نهض قاسم قافزًا ينبيء جدته بقدومهما «جم يا جدة وغزل بخير»
فنهضت متعكزة تستقبلهما بحفاوة.
********
حضرت لمنزل أختها مغشية بصورته، ظلت جالسة تطوّح ساقيها في الهواء بوجوم وهمسهما الخافت يرن بأذنيها، هيئتهما تشعل النار في خافقها، كتمت صرخة قهر كادت تفلت منها متلوية.، تركت التخت وتجوّلت في الحجرة بقهر،تململت في سيرها كأنها تسير فوق جمر، طرق مؤمن باب الحجرة بأدب فأذنت له بالدخول، فتح الباب باشًا مبتسمًا يسألها بأدب «عايزة حاجة يا آيات من بره؟»
صاحت بهستيريا «مش عايزة حاجة سبني لوحدي مش عايزة أشوف حد» تلاشت ابتسامته، حل محلها الوجوم، انسحب بنظرة مشفقة بينما مازالت هي تحصد القهر من رؤيتها له وترتوي بالجنون.
عاد مؤمن لزوجته الصامتة محوقلًا وجاورها هامسًا «وأنتِ يا غالية منفسكيش فحاجة أجبهالك؟»
هزت رأسها بالنفي وهي تمسح دموعها المتساقطة، نظرت إليه باعتذار غير منطوق مما بدر من آيات فضمها محتويًا متفهمًا صارفًا ذهنه بقوله «عارفة شوفت مين في المستشفى؟» ابتعدت بنظرة مستفسرة فأجابها بحنو ونظرة متألقة ترتدي ثوب الفرح لصديقه «الأستاذ رؤوف ومرته غزل»
نطقت لأول مرة منذ يومان، جادت على مسامعه بصوتها الحنون المتألق الآن بالفرح «صُح»
وصف لها حالتهما بحماس «تخيلي كان شايلها على يده وماشي بيها ولا هامه حد تصدقيها دي»
أدمعت عيناها تأثرًا ، فمسح على رأسها متابعًا «عارفة بيطمنوا عليكي دايماً ولولا حمل غزل وتعبها كانوا جاينلك» انتفضت واقفة تتأكد مما ألقاه على مسامعها «غزل رجعت وكمان حبلى يا مؤمن؟» وقف يتابع فرحتها برضا قائلًا «أيوة كلموني كتير عايزين يكلموكي بس الشغل وبرجع متأخر» قالها بنظرة متأسفة ونبرة معتذرة وهو يقبّل رأسها رفعت نظراتها تهم بالنطق ومواساته لكن صراخ آيات وصوت الأشياء التي تتحطم أوقف كل شيء كما الدماء في عروقها، وقطع وصال أرواحهما بعد فراق، تركته هدى وركضت للخارج فمسح وجهه متأففًا يدعو الله بالصبر فكلما تعافت زوجته قليلًا انتكست بفعل أختها، سحب سلسلة مفاتيحه وغادر متحيرًا لا يعرف ماذا يفعل.
*********
هتف يونس برجب الجالس بالقرب منه في وجوم متأثرًا بحالته وما أصابه من سهام الهموم التي دثرت مرحه وأخفت بريق عينيه «ما تقوم جاعد كده ليه؟»
أجابه رجب بحزن «مستني يمكن تطلب حاجة أو أساعدك فحاجة» جلس يونس مسترخيًا فوق المقعد يخبره بيأس «لا يا فقري مفيش حاجة أديني مرزوع لا شغلة ولا مشغلة» مطّ رجب شفتيه بضيق قبل أن يقترح «الأستاذ طاهر طبخ أجوم أسخنلك تتغدى؟»
زفر يونس قائلًا بنبرة هالكة بالبؤس
«ماليش نفس يا رجب والله»
هتف رجب بحذر متحسسًا كلماته ومراعيًا حالته «مينفعش يا بشمهندز أنت مكلتش حاجة من الصبح»
أجاب بابتسامة ساخرة «ولما أكلت خدت إيه بقولك إيه كيلو الكانزات وصل كام؟» نظر إليه رجب نظرة متوجسة ثم أخفض بصره متوترًا، ضرب يونس فوق كتفه ضاحكًا ثم نهض يدندن متجهًا للشرفة، التفت على الباب الذي يُفتح فرأى أخيه يدخل مبتسمًا بشوش الوجه ابتسم له مُرحبًا قبل أن يندفع ناحيته معانقًا باستقبال دافيء عَطِر بالمودة «ازيك يا بابا عامل إيه؟»
ابتعد عنه يونس قائلًا بابتسامة ونظرة كسيرة أزعجت رؤوف «الحمدلله بخير»
جلس رؤوف ملتقطًا أنفاسه بعدما سلّم على رجب الذي وجد في مجيئه نجاة ليونس فابتسم بطمأنينة، اقترب رؤوف من أخيه وقبض على ذقنه بأنامله قائلًا «ليه الدقن دي يا واد» تركه وأشار له كله بحركة من إصبعه «وليه عامل فنفسك كده؟»
تهرّب يونس بنظراته قائلًا «مفيش حاجة أنت مكبّر الموضوع» راوغه متفاديًا نظرة عينيه المعرّية «طمني على غزل وقاسم وخالتي» ارتفعت نظراتهم نحو طاهر الذي دخل الشقة باشًا مهللًا«المتر يا دي النور»
استقبله رؤوف بابتسامته السمحة، قبل أن يصل طاهر وقف يهتف بتلقائية وبساطة «غزل مع مين امال؟ سبتها لوحدها»
اتسعت عيناه ختامًا لافتراضه الذي ناوش فكره بالقلق وهاجم قلبه بقنابل الذعر، ضرب رؤوف كفًا بكف وهو يشير ليونس «شايف حرجة الدم،حرجة أبو أبوه» ضحك يونس بلا متعة بينما جلس طاهر يهتف ببراءة «في إيه»
دفعه رؤوف ممتعضًا «قبل ما تسلّم بتسأل عليها» ضمه طاهر معتذرًا من بين ضحكاته ثم قبّل رأسه في تقدير امتزج بأسفه، نظر رؤوف إليه مليًا هامسًا وهو يربت على خده «سبحان الله» مازحه طاهر بمرح «شايفني غزولة ولا إيه؟» قالها وهو يتراجع بنظرة متوجسة فسحبه رؤوف وضمه بذراعه ساخطًا يتأفف «يحرجلك أبوك يا مرتضى أنت تخلّف وأنا أربي والتنين قسموا القلب بينهم»
ربت عليه طاهر بامتنان قبل أن يبتعد عنه قائلًا «شوفلنا بس موضوع الحزين دِه» أشار ليونس الذي ابتسم بإرهاق، نهض رؤوف متجهًا للحجرة «أكلّم مرتي وأطمن عليها وأريّح شوية وهفوقله»
التفت وهو يمسك بمقبض الباب قائلًا وهو يهرش مؤخرة رأسه بخجل مؤطّرًا نظراته اللحظة «و غزل حامل»
انتفض طاهر مهرولًا تجاهه يتأكد من صحة ما سمعه «بتجول إيه؟»
نفض يونس عنه رداء البؤس وقفز بسرعة واقفًا يردد «غزل حامل»
قفز طاهر للأعلى ضاحكًا كما الصغار ببهجة خاصة أدهشت رؤوف بينما عانقه يونس مباركًا بفرحة محت حزنه وأورثته البهجة، هتف رجب المستمع الصامت «مش فاهم يا أبوي»
أوضح له طاهر بعدما عانق رؤوف مباركًا له «مرت رؤوف حامل يا رجب هنبقى عمام»
ابتهج رجب وصاح وهو يسير ناحية رؤوف برغبة في عناقه «واه واه مبروك يا أستاذ» قالها بأدب متمنيًا لو عانقه كما أخوته لكنه تراجع في حرج، ترك رؤوف أخويه واقترب منه مبادرًا بتواضع متفهمًا ومحتويًا بلطف، عانقه رجب مبديًا السعادة ثم ابتعد «لو أعرف ازغرت هزغرت والله»
ربت رؤوف على كتفه ممتنًا له ناظرًا لأخويه وسعادتهما بالخبر وتألق نظراتهما، تنهد برضا حامدًا الله فمال رجب هامسًا في أذنه ببلاهة «هي غزل دي المدملكة الملفوفة» دفعه رؤوف هاتفًا بضجر «حرجة أبو الي جابك عايزني أعميك يعني»
فرد رجب كفيه علامة التوقف وتراجع مخبئًا ضحكته، سأل طاهر بنظرة شاردة «غزولة عاملة إيه؟ كويسة»
دخل رؤوف الحجرة وأغلق خلفه لاعنًا فعاد الأخوان لأماكن جلوسهمًا كلٌ شارد في عالمه.
*******
دخل فهد الصيدلية متبخترًا ينظر للمكان البسيط باستهجان، وقف أمامها فقالت دون تدقيق أو نظرة مشبعة بالوضوح «اتفضل يا فندم»
نزع نظارته الشمسية وأجابها بفم مبتسم بتهكم «ازيك يا فيرو»
انكمشت عابسة بضيق ونفور، مستنكرة مجيئه ووجوده «عايز إيه؟» أجابها وهو يميل مستندًا بساعديه على الزجاج «عايز اتكلم معاكي»
هددته بنظرة شرسة متوعدة «لو ممشتش هصوّت وألبسك مصيبة»
قال بنفس البرود والابتسامة المتهكمة المتعلقة بزوايا فمه «وماله وأنا مستعد وأهو أقول إنك شمال ومش...» صرختها قطعت تواصل كلماته «اخرس»
هتف بحدة ونظرة ماكرة «أمك تعبانة تعالي شوفيها »
هتفت بعصبية شديدة «امشي مش عايزة أشوفك ولا هروح»
هز كتفه قائلًا ببساطة ولا مبالاة «براحتك يا فيرو» سألها وهو يرتدي نظارته الشمسية مجددًا «إلا البشمهندس أخباره إيه مبشفهوش يعني معاكي هو زهق ولا إيه؟» ختم قوله بابتسامة هازئة أججت من كراهيتها له،ثم جلست منهكة تلتقط أنفاسها بسرعة وكأنها سارت مائة عام أو ركضت عمرًا شيعته بنظراتها ذاهلة تسأل كيف أحبته يومًا، من داخل سيارته أشار لها مودعًا بضحكة ساخرًا استندت على قدميها بساعديها ووضعت رأسها عليهما باكية.
********
بعد مرور ثلاثة أيام
في المساء دخل رؤوف حجرة أخيه الجالس وحده، استقبله يونس ببشاشة فسارع رؤوف بالقول «جوم تعالى معاي»
سأله يونس بكسل «على فين يا أخوي؟»
خرج رؤوف من الحجرة قائلًا وهو يمسك بهاتفه «هنروح مشوار»
حاول يونس الإعتراض فأشار له رؤوف بالصمت والذهاب لإرتداء ملابسه ففعل بصمت وضيق، بعد قليل كان يجاوره داخل السيارة يسير به في طريق لا يعرفه لا يرد على استفساره عن الوجهة- إن فعل- فصمت بشرود حتى وقف رؤوف أمام قسم الشرطة قائلا «انزل»
ترجل يونس بجهل، وفعل رؤوف المثل ثم تقدم ناحية المبنى ممسكًا بحقيبة سوداء بلاستيكية وهو خلفه يسير دون فهم أو هدى حتى وصل فالتفت له رؤوف قائلًا «خد عيش وحلاوة لفهد أول ما توعاله ادهوله»
نظر إليه يونس ببلاهة فابتسم رؤوف له قائلًا «هو أنا مقولتلكش مش اتمسك مخدرات وآداب وجولت العشرة والعيش والملح يحتّموا علي آجي أنا وأنت نشوفه»
أثناء خروج فهد من حجرة الضابط مطأطئ الرأس منكسر النفس اقترب رؤوف مواسيًا بمكر «جلبي عندك يا فهد ؟» أطبق فهد على شفتيه بقهر حين رفع نظراته وتحقق من هوية صاحب النبرة الشامتة، ربت رؤوف على صدره قائلًا بأسف كاذب ومواساة خادعة «ليه كده يا فهد يا حبيبي مخدرات ودعارة أعوذ بالله تهمتين أوعر من بعض» زمجر فهد بنظرة لاعنة حاقدة فأمسك به رؤوف وضمه بذراع واحدة وهو يهتف «إيه الحالة جاتلك؟ أكبرلك في ودانك»
مال رؤوف وهمس داخل أذنه «ولسه إياك فاكر اللعب معاي هيعدي كده لاه وحق العيش والملح الي بينا لأطفحهولك»
ابتعد عنه وأشار ليونس بمرح «ادّي الوكل لفهد يا يونس احنا نعرف الأصول» احتار يونس وتشتت تفكيره فسحب رؤوف منه الحقيبة البلاستيكية ودفعها لصدر فهد قائلًا «العيش والملح يا فهود» ختم قوله بضحكة مرحة ثم اقترب من العسكري شاكرًا «متشكرين يا شاويش» سحبه الشاويش وغادر به في صمت هتف رؤوف بكيد «حبيبي يا فهد حاططلك مخلل عشان تبلّع وتتفتح نفسك» استدار رؤوف ببقايا ضحكة وأشار ليونس بالسير خلفه، صعد سيارته وجاوره يونس الذي قال بعصبية «رؤوف أنت الي عملت كده»
هرش رؤوف ذقنه قائلًا بصرامة «كان نفسي» ثم نظر ليونس مردفًا بحدة منبهًا وموضحًا «وكان هيبجا حقي يا يونس مش افترى بس هو مكانش محتاج سهلها عليّ أنا يادوب فتّحت عين الحكومة عليه»
هزّ يونس رأسه بفهم وصمت فقال رؤوف وهو يمنحه ورقة كانت أمامه «خد روح الشركة دي مستنينك بكره»
تناولها يونس غير مصدق يسأل «شغل» أجابه رؤوف بغروره المعتاد ونبرة التفاخر والتباهي المعتادة والثقة «أحسن من الشركة الي كنت فيها ومساهم كمان» ضحك يونس قائلًا وهو يقرأ اسم الشركة «بس يا أخوي عملت كده كيف؟ وليه تعبت نفسك» أجابه رؤوف بمحبة «ولو أطول أعملّك شركة لوحدك ومتاكلش لجمتك من يد حد ولا حد يكون ليه كلمة عليك ويتحكم فيك ولا يكسرك» اقترب يونس وقبّل كتفه شاكرًا بتقدير «ربنا يخليك لينا وميحرمناش منك»
ابتسم رؤوف قائلاً بود «ولا منكم يارب، جولي طلقت فيروز ولا لاه؟»
عاد يونس لمقعده متوترًا يبتلع ريقه باضطراب فهتف رؤوف مشجعًا له يأخذ بيد قلبه في طمأنينة وحنو «أنت عايز إيه يا بابا جولي»
أوضح له يونس بنبرة راجية ونظرة متوسلة «مش هجولك على القلب وأحكامه أنت عارف، أنا عايزها يا أخوي سيبني أجرّب وأحكم، سيبني أمشي خطوة في الطريق الي مخترتوش وأشوف»
صمت رؤوف بتفكير قبل أن يتنهد قائلًا باستسلام «روح يا يونس اجعد معاها وأنا هحمي ضهرك، روح وجرّب وقرر وأنا معاك، فالأول والآخر مش عايز غير راحتك وسعادتك» اقترب يونس شاكرًا يقبل كتفه هاتفًا بسعادة «بركاتك يا غزل أنتِ والي فبطنك»
********
جلست غزل أمام المنزل تتنفس الهواء الطازج غير منتبهة للقادمة نحوها بخطوات مهرولة، أمسكت بها نجاة ناصحة «استني بالراحة يا صفوة»
هتفت وهي تنظر لغزل المنشغلة بالنقر فوق شاشة هاتفها «غزل يا طنط اهي»
تركتها صفوة وهرولت منادية بسعادة وهي تلوّح «غزل»
رفعت غزل رأسها من على الهاتف متبينة فرأتها تركض تجاهها، نهضت في استعداد وحذر ووقفت مكانها تتابعها بنظراتها بدموع الشوق وفرحة اللقاء، لوّحت لها مبتسمة فضحكت صفوة واشتد ركضها، حتى وصلت واندفعت لاهثة لأحضان غزل بقوة أفقدت غزل القليل من توازنها، ضمتها غزل مبادلة لها شوقها ومحبتها، دارت بها صفوة ضاحكة فأوقفتها نجاة التي اقتربت منهما لاهثة «راعيلها يا صفوة دي حبلى يا ماما»
اختلج قلب غزل بمشاعر عديدة حين سمعت صوت نجاة، أدركت أنها بصدد مواجهة دونه، نظرت لوجه نجاة بوجوم، ابتسمت لها نجاة بتوسل فرأت في ابتسامتها حبيبها المحتل لقلبها، نظرت إليها برجاء وهي تفتح ذراعيها فتذكرت أمان أحضانه واحتوائه، قلبه الذي لا يغفل عنها وحبه الذي يتدفق، رفعت الهاتف لنظراتها حين ضج بنغمة تعرفها «وحشتيني يا غزولة» جملته كانت كفيلة بهدم السور، بقبول تحية نجاة
اقتربت ترد طلبها بعفوها، ضمتها بسماح ولطف، مبتسمة بترحاب، فإن لم تستطع منحهم من ما تملك من المودة شيئًا فلتمدهم بحب من ما يتركه بقلبها، من ما يمنحه لها بإسراف، ابتعدت عنها راضية بما فعلت، قانعة بما أُعطيت.
نظرت لها نجاة دامعة العينين تهمس بأنفاس متسارعة «بيجولو حبلى يا غزل»لوّن السؤال خديها بالحمرة وألبسها رداء الخجل فأخفضت بصرها هامسةً «أيوة الحمدلله»
فما كان من نجاة إلا أن رفعت كفها وأعلنت الفرح والسرور بزغرودة عالية مزقت الصمت وأرّقت العصافير في أعشاشها فطارت حولهم، ضمتها صفوة من كتفيها مباركة بحب «مبروك يا حبيبتي»
ابتسمت غزل شاكرة،سحبتها نجاة لأحضانها من جديد مباركة داعية فابتسمت غزل وأغمضت عينيها في اشتياق تستنشق رائحة والدته باحثة عن ريحه ولكم اشتاقته، لا يكفيها إنّ حدثها كل ساعة، لا يُعينها صوته الحبيب على فراقه بل يؤجج عاطفتها، كل كلمات الغزل التي يُلقيها على مسامعها لا تسد حاجتها إلى ذراعيه ولا تشبع رغبتها في رؤيته.
خرجت تماضر مرحبة «ازيك يا نجاة» اندفعت نجاة معانقة لها «الحمدلله يا خيتي»
ابتعدت نجاة عنها مباركة «مبروك لحامد ياخيتي» ابتسمت تماضر قائلة بحكمة «مبروك عليكي أول الحبايب عقبال ما تفرحي بيونس وتشيلي عوضه»
تسللت كف غزل لبطنها في تلقائية بشيءٍ من فخر وامتنان لتلك المضغة التي أتت بالسعادة.
جلس الجميع في المنزل، من وقت لآخر كانت نجاة تتابع غزل بنظرة دامعة منبهرة تخطتها غزل بادّعاء الإنشغال والحديث مع أختها، سمعت غزل صوت عبود فنهضت بلهفة وهرولت بسرعة تجاه الباب مستقبلة بفرحة «حمدالله على السلامة يا عم»
ابتسمت نجاة متابعة بشغف صنيع غزل الذي يطابق صنيع ولدها،متأملة عجائب قدرة الله في توليف القلوب وزرع المحبة وعوضه الجميل، لو اختار ابنها لنفسه ما اختار أفضل منها، هي النصف الآخر له ورحمة الله المهداة لقلبه وسكينته التي طالما فتش عنها حتى أتته ببركاتٍ من الله.
دخل بصحبتها سلّم على نجاة وتماضر وجلس وغزل جواره تسأل «تاكل، تشرب؟ نفسك فحاجة أعملهالك»
تقولها وهي تنفض التراب عن كتفيه برفق، سألته بعتاب «كنت فين؟»
نظر لعينيها وأجاب «كنت عند أم قاسم روحت أجولها إن حامد هيجيله آسيا»
صمت الجميع بشجن قطعه هو بسلامه ونظراته لصفوة «ازيك يا صفوة» ارتبكت وترددت نظراتها بينهم قبل أن تهمس «الحمدلله»
نظر لأعلى وهو يضع كفه على صدره قائلًا بخشوع «اوعي للحزن يا بتي،اصحيله بيسرق العمر»
نظرت لغزل باضطراب فابتسمت لطمأنتها، التفت عبود لغزل قائلًا «هجعد بره هاتيلي شاي نفسي أشرب شاي يا غريبة»
نهضت فورًا ملبية، أمسكت بذراعه وقادته للخارج بحنو ثم عادت تعمل بحماس ونشاط ونظرات نجاة وصفوة معلقة بها كما أذان تماضر
تذكرت يوم جاء منزل الحفناوية واستقبلته، ضحكت حين أعادت على مسامع عقلها الكلمات وإشاراته التي لم تلتفت لها ولا وقفت عندها.
في منتصف الليل تسللت من جوار صفوة، ذهبت لحجرتهما وأغلقت الباب عليها، تسطحت فوق التحت بعدما صعدت على ما صنعه لها أسفل من التخت حتى تعتليه دون تعب أو مشقة، فردت ستائره حولها وأمسكت بهاتفها تطرق بابه أولًا «حمودي صاحي ولا نمت؟»
أجاب فورًا كأنه كان في انتظارها «في نجمة في السماء متوهاني ومطيرة النوم من عيني معارفش غير أفكّر فيها»
ضحكت برقة وأردفت «طيب ممكن يا متر أسمع صوتك»
بسرعة كان اسمه يظهر على شاشة الهاتف، أجابته فورًا هامسة بالقبلات «وحشتني يا حمودي»
ارتفع وجيب قلبه بهجةً وسرور من فعلتها البسيطة وجمال استقبالها له،همس بمرح «وحش يلهف كل الي يشوفك وميسبحش يا غزولة»
ضحكت قائلة «بتجيب الكلام الغريب دا منين يا متر»
أجابها وهو يقف في الشرفة ممسكًا بكوب عصير «والله يا غزولة مخدتش الحب في المدرسة ولا عيشته قبلك فهتلاقيني كده بخبّط كتير سامحيني، بس هتعلّم كل ما هو حلو ويليق بيكِ بس عندي مشكلة » سألته بجدية التقطتها من نبرته «إيه هي»
أجابها بتنهيدة غرام «ملاجيش بيت شعر يوصفك ولا كلمة فمعجم تساوي جمالك وتوزنه»
ضحكت هامسةً برقة ودلال «دا أنت رايق بقا؟»
تنهّد معاتبًا «أسمع صوتك ومروقش إيه فالدنيا يروّق بعدك يا بكرية القلب؟»
أرسلت له القبلات حارة قائلة «بحبك كتير يا حمودي»
دندن لها بما حفظه لأجلها من أشعار واستمعت هي هائمة بجمال كلماته وصوته العذب، صمت فقالت بتردد «رؤوف عايزة أقولك حاجة»
سارع بالقول في لهفة «تقولي و تطلبي وتنولي يا غزولة»
أجابته بتوتر واضح في أنفاسها «مش طلب يا حبيبي تسلم بس كنت عايزة أحكيلك حاجة حصلت»
تسرّب إليه ارتباكها فاعتدل مُحفزًا لها بحنان «جولي يا غزولة»
تنحنحت هامسة بعدما ابتلعت لعابها «رؤوف طنط نجاة جات مع صفوة» ارتبك،اعتدل مستمعًا بإصغاء بعدما سأل «وبعدين حصل إيه؟» شعرت بتوتره وقلقه، وحيرته فقالت بمراوغة«متوقع إيه مني؟» سألها «بتسألي ليه السؤال ده؟» أجابته بلطف «علشان حساك قلقان ومتوتر» التقط أنفاسه وأجابها
«لاه عادي مفيش حاجة هقلق ليه أنا مش متوقع منك غير الخير والأصول »ابتسمت موضحة له
«كنت زعلانة منها بس بصيت فوشها شوفتك فيها زعلي فثانية اتقلب شوق ليك، حضنتني فافتكرت بيتي الي فحضنك اتكسفت أزعل منها وهي سبب فإنك تيجي الدنيا وتملى قلبي بالفرح ، مسامحة يا رؤوف حتى قبل ما يعملوا الحاجة، مسامحة وقابلة بأي حاجة بس أكون جنبك»
سمعت صوت أنفاسه العالية التي تنبيء بهرولته فقطبت متسائلة «أوفة في إيه؟»
أجابها بحسم «أنا جاي»
كتمت شهقتها ثم قالت «أوفة تاجي فين؟»
أجابها وهو يصعد سيارته «جاي عندك، ليه عيزاني بعد الكلام دِه أبيّت فيها والله ما عيني تغفل غير فحضنك»
رجته بدلال امتزج بخوفها عليه ودهشتها من موقفه «رؤوف إعقل عارف الساعة كم دلوقت؟»
أجابها وهو يقود سيارته «دا عين العقل وعين الحب وعين الشوق القرب، قولي لأخوكي ياجي يمسك المكتب أنا متنازله ومش عايز غيرك أنتِ» انتفضت موبخة له بعصبية «ايه الجنان ده أنا غلطانة إني كلمتك»
ضحك قائلًا «عقلي وخداه بت زي القمر أعمل إيه بس كان مستخبيلك فين دِه يا حفناوي»أنهى الاتصال حتى لا تصرخ بوجهه ولا تعنفه أكثر «يلا ريحي شوية الصبح بإذن الله هكون جنبك» لعنته وهي تتثاءب بإرهاق، ثم وضعت الهاتف وأسلمت وعيها للنوم رغم رفضها مجيئه لكنها منتظرة بشغف وشوق.
*********
نهضت زينب من جلوسها حين دخل الحجرة متنحنحًا، تقدمت تتمايل أمام نظراته بغنج وتدلل بإغراء أثار اندهاشه، ابتلع لعابه وسألها بإرتباك ومشاعر مقيدة «خير ليه الرضا دِه؟»
اقتربت أكثر حد الالتصاق، لفت ذراعيها حول عنقه وقالت بدلال «وحشتني»
هتف بنصف ضحكة وملامح متوشحة بالذهول «واه يا أبوي ووحشتك كمان»
مالت ولثمت خده برقة فهتف وهو يحملها بين ذراعيه «يا أبوي جمر، يا بركة دعاكي يا أما»
عزفت ضحكتها المغناج لحن الخلفية وختام اللحظة..
بعد مرور وقت كانت تقدم ما صنعته من طعام قائلة «كُل يا حبيبي» نهش قطع اللحم بأسنانه مستحسنًا مذاقه بهمهمة رضا، استغلت نشوته وفرحته ودست سمها قائلة «موسى عايزة أجولك حاجة»
هتف وهو يدس الطعام بفمها «جولي يا حبيبتي»
فكرت مليًا ثم قالت «عارف حامد عمل معاي كده ليه؟»
دفع الطعام للصينية بغضب ثم مسح فمه هاتفًا «جينا للكلام العفش»
أمسكت بكفه قائلة «عشان عرفت حقيقته والي مداريه»
نهض متأففًا منزعجًا فعاجلته بسهم الحقيقة قبل الهجوم «عارف الواد الي مربيه وبيجول ولده ده يبجا مين؟»
صاح بغضب ونظرة مشتعلة «وأنا مالي واد مين ما تشيليه من راسك وتتلمي يا زينب»
تجاهلت كلماته وقالت بإصرار وحسم «يبجى واد أخوك مصطفى يا موسى»

