رواية عزف السواقي الفصل الثالث والخمسون 53 بقلم عائشة حسين
لثالث والخمسون
كان وقع القول عليها خطيرًا، انتفض جسدها وارتجف وهي تنظر إليه بإمعان متسائلة «بتقول إيه يا رؤوف أمال قاسم ابن مين؟»
أوضح رؤوف بابتسامة دافئة رقيقة وهو يحاوط كتفيها بذراعه في احتواء «قاسم ابن بنت عبود يا غزل»
شلّتها الصدمة فحملقت فيه مستفسرة «إيه؟ طيب إزاي؟ وقاسم يعرف؟» هطلت دموعها غزيرة فضمها مشفقًا عليها قائلاً بحنان «لاه ميعرفش بس لازم هيعرف ويمكن يحتاجك الفترة الي هيعرف فيها»
ابتعدت قائلة ببكاء متوسل ورقة قلب انبثقت من نظراتها الدافئة «أنا مستعدة لأي حاجة يا رؤوف، جيبهولي أو وديني ليه»
مسح على رأسها هامسًا بحنان «حاضر» استفسرت منه «علشان كده مش عايش معاكم وبعيد هو وأخوك؟»
هز رأسه موضحًا بحزن « خطف قلبه أول ما شاله، اتعلق بيه لما عينه وقعت عليه وقلبه رق ليه وقرر يتبناه ويكونله الأب والأم والصاحب بس جدي رفض وقوّم الدنيا ومقعدهاش وبهدل تماضر وعبود واتهمهم إنهم بيستغلوا قلب أخوي وإنهم دروشوه ، أخوي كان اتعلق بقاسم خلاص ومعدش ينفع وكان عنده إستعداد يفُوت أي حد ولا يسيبه ، جدي مستسلمش حلف عليه وحلّفه ميدخلش قاسم البيت ويتجوز، عشان يرضي جده اتجوز الي مش رايدها وعشان يسيبهم وميفضحش السر .. أخوي ضحى وقبل وفضل يروح وياجي عليهم وربى قاسم وسطهم وحتى لما جدي مات التزم بقسمه ومدخلش قاسم البيت»
تأوهت بوجع وحرقة قبل أن تدفن وجهها بين كفيها منتحبة بشدة متأثرة بالحكاية فأردف رؤوف بحنان ومواساة «متبكيش يا غزل»
أبعدت كفيها عن وجهها هاتفة «وأخوك اتجوز ومعادش عايز قاسم؟»
أوضح لها «أخوي روحه فقاسم ياغزل صح مش من صلبه بس من قلبه، رباه وعلّمه ومش هيتخلى عنه مهما حصل»
هتفت بخوف جلي «مش هيديهولنا؟»
ابتسم قائلاً وهو يمسح على رأسها«لاه هيديهولنا»
أمسكت بكفيه وتوسلته برقة «خلينا نربيه، أنا عايزاه يكون معاك محدش أحنّ منك علشان يربيه ويحميه»
ابتسم لثقتها فيه وربت على كفيها قبل أن ينحني ويلثمهما هامسًا «حاضر بس متبكيش»
سألته بتوجس «وأهله يا رؤوف ممكن يأذوه ؟»
أجابها بحنان «الموضوع يطول شرحه وحكيه يا غزولة نامي وبعدين لينا روقة وكلام»
تمددت بأحضانه الخضراء متشبثة به، تحاول النوم دون فائدة، تستدعيه فلا يجيب، عقلها سافر بعيدًا ضم قاسم وهدهده مرات، مسح على رأسه بحنان وقبّل وجنتيه بعاطفة أمومية ثم عادت مستدعية النوم في اطمئنان.
*****
في اليوم التالي
جاءت متمايلة بدلال، تدندن باستمتاع لحنًا يألفه، تغني بخفوت وتضحك برقة وهي ترتشف من كوب عصير طازج، جلست متربعة فوق الكرسي المقابل لكرسيه بيد الهاتف والثانية كوب العصير، تعلو نبضاته كلما ضحكت وتتبعثر أفكاره كلما تمايلت ،يعيد القراءة بتركيز أكبر واعدًا نفسه ألا ينجرف معها في تيار عاطفتها ويواصل العمل بكد،يأخذ ألف عهد وكلما دندنت مُزقت العهود ورفع عينيه مشدوهًا بسحرها ، كل أفكاره تتمركز حولها هي،تطير كما الدخان، حتى يئس من الثبات فغمغم باستياء وضجر «بيت أبوكي ناجص حِزن أنا»
سمع صوت رنات هاتفها فضاق ذرعًا بكسله في العمل وهمته التي تخفت في حضرتها، نهض معترضًا بتهكم وغيظ «وبالصلاة عالنبي بترني على مين دلوك؟»
رفعت نظراتها من على الهاتف رامقة إياه بدهشة وهي تجيبه ببرود ونظرة متباطئة فوق ملامحه «طاهر حبيبي»نطقتها بدلال
فأمسك بالوسادة الصغيرة التي جواره ورماها بها صارخًا بحنق«ما تتهدي شوية»
تركت كوب العصير ونهضت هاتفة بغيظ وبراءة كاذبة«وأنا عملت إيه؟»
أمسك بنوت صغيرة وقرأ عليها «الساعة أربعة ونص كلمتي ورد ساعة، الساعة 6 كلمتي صفوة والساعة 8كلمتي يونس تشوفيه عمل إيه فشغله»
ابتسمت قائلة وهي تهز كتفها بدلال «والساعة ١٠ دا وقت طاهر»
صاح بغضب شديد وهو يلقي بالنوت جانبًا «حرجة أبو الي جابك معندكيش دم»
همست بنفس البرود والدلال وهي تتأمل أظافرها المطلية بنظرة لامعة «وأنت شاغل نفسك ليه وبتراقبني يا متر؟مش عندك شغل متلتل» قالتها من بين أسنانها بغيظ مقلدة إياه ثم أردفت بخبث «بعدين ما تكلم أنت كمان الي بتحبهم»
صاح فيها وهو يحرك ذراعه باستهانة «مبحبش حد» رمى كلماته وانحنى يلملم أوراقه التي وقت فاقتربت منه عابسة بزيف،شلّت حركته بقربها ، عاتبته وهي تصدر بشفتيها المضمومتين صوتًا مشفقًا «صصصص يا حرام يا متر صعبت عليا هفضيلك نفسي ساعة ولا مش بتحبني؟»
اقتربت منه حد الالتصاق به فارتبك هامسًا وهو يبتلع ريقه بنظرات مثبتة على شفتيها المتكورة كدعوى للاقتراب «لاه» تبعثر مجددًا، معها يفقد كل ذرة ثبات، يخسر قوت يومه من القوة حين تتدلل أمامه
أحاطت عنقه بذراعيها متسائلة بدلال لا ينطفئ وهجه «لا بتحبني ولا مش بتحبني»
همس متجاهلًا قربها يفصل مشاعره بحائط من برود«عايز اتعشى» ثم كتم ابتسامته وانتظر.
ابتعدت تضرب جبهتها بكفها مستاءة منه «مخك بقا تخين أوي يا متر بجد،العشا جاهز في المطبخ »صرخت بقولها في تأفف عالي وهي تستدير حانقة.
انحنى وحملها على كتفه كجوال البطاطا قائلًا باستياء وضحكة مفعمة بالمرح «والله ما حد مخه تخين غيرك أنتِ»
وبعد مرور ساعات وقفت أمام المرآة تعاين ما ترتديه وهي تقول
«رؤوف أنا مكنتش بعمل حاجة من مرتبي غير اشتري هدوم بجد»
ابتسم لقولها وفرد ذراعه مستقبلًا لها «وإيه المشكلة؟ متضايقة ليه؟»
جمعت خصلاتها في ربطة شعر بعدما استخلصت غرتها تاركة لها مكانها «لا مش عارفة هي حاجة حلوة ولا وحشة؟»
هرش فروته قائلًا بابتسامة جذابة وهو يعاين ما ترتديه بنظراته «حلوة جدًا الصراحة لو عايزة فلوس تجيبي تاني معنديش مانع خالص»
ضحكت برقة قائلة «والله طلعت مش سهل يا أوفة»
تهكم من قولها «عبيط مين الي قالك أنا سهل»
تنهدت قائلة «أنا حسيت وفهمت»
سخر من قولها«على أساس بتفهمي أنتِ أصلًا» فغرت فمها قائلة «أنا»
هز رأسه بتأكيد وهو يلثم شفتيها بسرعة خاطفة، زحفت بعيدًا عن أحضانه فسحبها قائلاً «دا عند بابا مرتضى تعالي هنا»
نفضت ذراعه معاتبة له بدلال «لا خلاص مش هكلمك »
جذبها لأحضانه هامسًا أمام شفتيها «ومين قال عايزك تتكلمي كفاية تسمعيني»
ابتسمت هامسة وهي ترفع سبابتها لخده «أوفة فيك غمازة تجنن»
داعب أنفها بأنفه قائلًا «مش أكتر منك»
ضحكت برقة قبل أن تحيط عنقه بذراعيها في صمت مستقبلة هدير عاطفته بكل ترحاب.
***********
(بعد مرور أسبوع)
استيقظ بعد مرور ساعتين، نظر حوله قبل أن يعتدل قليلًا،ململمًا لها في نظرة حنون سكبت كل عاطفته وشوقه فوقها،لا يصدق السعادة التي يحياها والفرحة تزهر في قلبه بقربها، مال قليلًا ململمًا خصلاتها من على وجهها ناثرًا قبلاته بدلاً عنهم وهو يهمس برقة «غزل»
تململت هامسة برفض وكسل «أمممم»
رجاها بنبرة دافئة حنون وهو يمرر أنامله الدافئة فوق وجهها «جومي كفاية نوم» سألته وهي تحاول فتح عينيها «الساعة كام؟»
أجابها وهو يرفع نظراته لساعة الجدار «3»
عاتبته بدلال وهي تسحب الغطاء مجددًا على وجهها في كسل «رؤوف لسه بدري أوي سيبني أنام »
سحب الغطاء من على وجهها وانحنى هامسًا برجاء مغلوبًا بأمر الشوق وهو يقبّل خصلاتها ويتنفس رائحتها معبقًا صدره «وحشتيني طيب أعمل إيه،اليوم كله كان شغل ورجعت لقيتك بتنامي »
فتحت عينيها مبتسمة واعتدلت قليلًا مُرحبة تلبي بطاعة وسعادة «متعملش حاجة يا حبيبي أنا صحيت»
وضع رأسه على صدرها فضمتها بحنو غارسة أناملها في خصلاته، هتف بانزعاج طفولي « مش عارف أشتغل في المكتب وأنتِ بعيد ولا عارف في البيت وأنت قريبة أعمل إيه يا بت الناس» قالها بقلة حيلة وإحباط فضحكت هامسة وهي تتثاءب «ولا حاجة متشتغلش وخليك جنبي»
شدّ كفها من على فمها قائلا «ونشحت صُح؟ بعدين بتتوّبي ليه؟» استنكرت «رؤوف منمناش غير ساعتين»
رفع رأسه لها قائلًا «كفاية جوي،مجدرش وأنتِ وحشاني أنام أكتر من ساعتين وأسيبك؟»
ابتسمت مسايرة له في قوله تؤكد عليه بمرح «لا طبعًا معاك حق يا أوفة »
عاد مسترخيًا بأحضانها يهمس وهو يضمها بقوة «بت يا غزولة أنا بحس معاكي بحاجات أول مرة أحسّ بيها، مشاعر مكنتش أعرف إنها موجودة بكتشف معاكي حاجات جديدة»
قبلت رأسه معترفة له ببهجة «وأنا كمان والله يا حبيبي » ختمت قولها بتثاؤب كسول فابتعد عنها مُقسمًا بغلظة وغيظ «مش هتنامي برضك يا مخمرة النوم أنتِ يالي ممبطلاش توّيب»
اطبقت شفتيها بحنق رافضة تجبره فهتف بحدة مفتعلة وهو يبتعد ساحبًا منها الدثار «يلا جعان عايز آكل»
همست مستغلة سحرها عليه ودلالها الذي لا يُخطيء الهدف «أوفة بليز»
التقط اسمه من فوق شفتيها مغرقًا لها بموجة عشق مفاجئة ردًا على همسها المتدلل ورغبتها في النوم.
بعد قليل تسطح متوسدًا كفيه أرضًا بينما توسدت هي كتفه
همست بعدما وضعت رأسها على كتفه جوار قلبه تهمس على أنغام دقاته« أقولك يا صعيدي» ابتسم قائلًا وهو يحرك أنامله لخصلاتها يفرك بهما منابت شعرها
«أنا موجود علشان تجولي ومسمعش غيرك» تنهدت هامسة بتأثر
«كلامك غير كل الكلام وكأني طول عمري مسمعتش كلام»
مازحها قائلًا وهو يضمها لصدره،يمسح فوق رأسها وعلى خصلاتها بحنان يأسر ويطوّع الدقات والروح «ليه وأنتِ عمرك كد إيه؟» شاركته المشاكسة والمزاح بعدما رفعت عينيها إليه هامسةً بغرام
«أحسبه من امتى قولي»
قبض على ذقنها وقربها هامسًا أمام شفتيها «إيه رأيك كل ليله نحسبه من جديد؟» همست مؤكدة ذائبة في عشقه، مترنمة بأنفاسه « خلاص كل ليلة فحضنك عمر جديد»
********
في اليوم التالي مساءً
يقف في الشرفة مدندنًا بأشعاره، قبل أن يستدير على صوت غير مألوف وغريب، اتسعت عيناه عليها بانفعالات شتى وهي تقف أمامه بكامل زينتها، همست وهي تميل مبتسمة «ها إيه رأيك يا متر؟»
دخل وأغلق باب الشرفة قبل أن يستدير من جديد متأملًا يهمس بارتباك وهو يهرش فروته «ها»
هزت رأسها ضاحكة وهي تراه مشتتًا ضائعًا لا يعرف بماذا يبدأ وماذا عليه أن يفعل، خطفتها نظرة الانبهار بعينيه فتنفست برضا وراحة قبل أن تقترب وتفرقع أصابعها ليفيق «رؤوف»
مرر نظراته عليها بإعجاب قائلًا «آخر مرة شوفت رقاصة كانت ففيلم عربي قديم» أحاطت عنقه بذراعيها مستفسرة «وبعدين»
هرش فروته قائلًا ببراءة سلبت لبها وعفوية مهلكة «كنت عند خالتي يومها، تاني يوم لقيتها باعت التلفزيون وقالتلي عشان تتربى» صمت وهو ينظر لعينيها ثم أردف باستياء «معرش أنا إيه ذنبي ولا أتربى ليه هو أنا قولتلهم جيبوا رقاصة»
ابتسمت للمعة عينيه المبهرة وعفويته الصادقة وارتباكه اللذيذ، تلميذان في الحب يجربان كل ما يسعدهما ويختبران المشاعر، مرات تشعر أنه عاد مراهقًا خجولًا يختبر كل شيء ويجود بعاطفة منفعلة وجريئة.
«بعدين هو أنا رقاصة أصلا؟» عاتبته بدلال، فأسقط نظراته عليها متأملًا من جديد وهو يقول «مش لابسة لبس رقاصين!»
ضحكت قائلة «ربنا يخليها الخالة لولاها مكنتش هشوف الجمال دا والله»
هرش مؤخرة رأسه بنصف عين قائلًا «قصدك الخيبة مش كده؟»
لفت ذراعها حول ذراعه وسارت به لحجرتهما قائلة «مش أوي يا أوفة أنت محدش يتوقعك أصلا، لانت يا روحي تشتغل بلد بحالها وميبانش عليك»
نظر إليها معاتبًا بمكر «أنا يا غزولة دا أنا طيب والله وغلبان»
هتفت من بين أسنانها غيظًا «أيوة هتقولي ما أنا عارفة» قهقه عاليًا
فسبقته في الدخول للحجرة قائلة بسخرية «إن شاء الله ميكونش هترقصني على نشيد ديني؟»
ضرب مؤخرة رأسها معاتبًا «بتتريقي!»
عاتبته وهي تبتعد عنه منزعجة«الله! ما أنت مبتسمعش أغاني»
اقترحت وهي تمسك بهاتفها مفتشة «بقول تسمع النهاردة يا أوفة وأبقى صوم ولا اتصدق اليوم الي بعده»
اقترب موبخًا لها«أنتِ قليلة رباية والله»
صدع صوت الأغنية عاليًا فمالت على أذنه مؤكدة «حصل يا أوفة والي بيحصل دا أكبر إثبات، نكمل فقلة الرباية ولا اتربى؟»
ضحك قائلًا بمرح «مش شايف خدنا حاجة من الرباية يا غزولة ربنا يباركلك فقلة الرباية يا حبيبة قلبي»
ضحكت ضحكة عالية رنانة فهتف بابتسامة جذابة «الضحكة دي تقريباً من المكملات للبدلة صح؟»
هزت رأسها مطلقة ضحكتها الناعمة الرقيقة فابتسم، أجلسته فوق الفِراش فقال بارتباك وهو ينظر حوله «طب إيه أجيب فلوس أنقطك بيها ولا إيه أنا مروحتش كابريهات قبل كده ؟»
هتفت بغيظ شديد «ولا أنا كنت رقاصة في كباريه يا رؤوف أصوّت»
فرد كفه أمامها علامة التوقف والصمت وهو يكتم ضحكته، ثواني وهتف من جديد وهو يهرش فروته كاتمًا ابتسامته متظاهرًا بالجدية فيما يقول «طيب مفيش حاجة تتشرب ؟ الخمرة حرام بس اللمون عادي أو عصير تفاح أهو شبه الخمرة»
اقتربت منه مغتاظة، أمسكت بوسادة صغيرة وضربته بها صارخة « يالهوي منك أنت بتحقق أحلامك دلوقت يا رؤوف عايز تموتني»
ضم خصرها بذراعيه محاولًا ابتلاع ضحكاته وتفادي ضربات الوسادة على رأسه واعدًا لها «خلاص هسكت » نظر لعينيها مبتسمًا يهمس وهو يزيح الوسادة «لقيتك بتحققيلي كل حاجة ولا كأني داعك الفانوس قولت أكمّل في الأمنيات»
ابتعدت زافرة بقنوط فنهض واقترب منها حد الالتصاق، ثم مال وهمس برقة «أنا معنديش مانع أشاركك يا غزولة»
رفعت عينيها مستفسرة بشك «بجد» غمز لها هامسًا قبل أن يتشاركا الضحك «خالتي باعت التلفزيون بس أنا روحت المولد من وراها كم مرة » أشعل حماسها بتجاوبه معها ومشاركتها مرحها وشقاوتها، لتبدأ ليلتهما الملحمية.
*********
في الصباح وقف جوار الفِراش حيث ترقد صاحبة السحر بعدما ألقت على قلبه وروحه من تعاويذها الليلة الماضية، نثر فوق جسدها برقةٍ أوراق وروده، غمرها بروائحها الذكية ودثرها بنعومة ملمسها، فتحت عينيها وطالعته بنظرة بريئة ثم أغمضتهما من جديد ترسم فوق ثغرها ابتسامة رقيقة، همست «صباح الخير»
سلبت نفسًا عميق منغّم ثم انتبهت على ما يلامس وجهها من أوراق، التقطت واحدة وطالعتها بين أناملها ثم سألت«إيه دا؟» انحنى هامسًا «صباح الورد يا وردة الجلب» اعتدلت ببطء وهي تتأمل الفراش المغطى بأوراق الورد حولها، فغرت فمها بدهشة قبل أن ترفع نظراتها مستفسرة «منين دا كله يا أوفة ؟»
انحنى أمام وجهها هامسًا «نزلت واشتريته بدري عشانك، موصي عليه من كام يوم »
همست مبهوتة من سحره وسحر كلماته وصدق مشاعره «بتتكلم بجد»
أمسك بكفها، لثمه ونظراته تغزو العين وتسقط كالسهم على القلب، تغمر الروح والكيان بالعشق «جومي يلا كفاية كسل هنطلع شوية»
همست بحماس «هنروح فين؟ وهنعمل إيه؟»
سحبها ثم حاوطها بذراعيه هامسًا وهو يلثم خدها « زي ما تحبي و تتمني النهاردة أنتِ تطلبي وأنا أنفذ»
تركها متجهًا للخزانة فسألته بتعجب «ليه كل دا»
استدار قائلًا بصدق نبع من داخله «لإني اكتشفت إني لسه عايش يا غزالتي، كنت فاكر إني ميت»
همست وهي تعض جانب شفتيها بذهول يسيطر «رؤوف كل ده علشان رقصت»
سخر من قولها البريء بمرح «لاه عشان خالتي المرة دي مش هتقدر تبيع التلفزيون وهتفرّج براحتي»
ضحكت برقة على قوله فضمها شاكرًا بصدق وعاطفة متوهجة «شكرًا إنك موجودة يا غزل»
ابتعد قليلًا مستفسرًا وهو يضيّق نظراته بترقب «غزل كان معاي مصليّة فقنا مش لاقيها مشوفتهاش؟»
تظاهرت بالتفكير قائلة بدلالها الأخاذ «لونها أخضر ومرسوم عليها قبة نبيتي؟»
هز رأسه وهو يدقق النظر في ملامحها «اها»
تركت أحضانه متبرئة من المعرفة تدّعي الجهل «لا مشوفتهاش لا»
اقترب مستفسرًا بحاجب مرفوع «وعرفتي كيف لونها؟»
ارتبكت مبررة «عادي كنت بشوفها معاك»
سحب حقيبة بلاستيكية دون أن يحيد بنظراته عنها وفتحها مخرجًا سجادته أمام نظراتها المتسعة بترقب «ياه جبتها من قنا»قالتها بتوتر فاقترب هامسًا بابتسامة «لاه من شقة دكتور عبدالرحمن»
قطبت متظاهرة بالغباء «وإيه وداها شقة بودي ؟»رمى السجادة أرضًا بعنف وصاح بعصبية مستنكرًا قولها متحفزًا بنظراته للقتل «نعم يا روح أمك؟»
ركضت بسرعة للمرحاض ضاحكة، دخلته وأغلقت مستندة على بابه تلتقط أنفاسها ثم أصغت لتهديده ووعيده «مش هتطلعي يعني؟! أنا هقصه لسانك دِه وهرنك علقة تحلفي بيها »
سألته متجاهلة تهديده «إزاي وصلتلك السجادة؟»
أوضح بتهكم «قصدك السجادة الي سرقتيها، عبدالرحمن جالي المكتب وجبهالي مرتضى مخدهاش مع حاجته»
أكدت قوله بعاطفة جياشة،معترفة له «مكنتش هعرف أمشي من غير حاجة منك،فخدت أكتر حاجة بتستعملها،أكتر حاجة فيها من ريحتك»صمت الاثنان إلا من صوت أنفاس هادرة مزقت السكون ثم تابعت «هوّنت عليا كتير، لما هربت معرفتش أخدها وزعلت إني سيبتها وخوفت أرجع لها، سامحني عشان سرقتها وسبتها» قالتها بندم حقيقي وإحساس صادق بالذنب، همس بصوت غارق في عاطفته «اطلعي» اعتذرت برقة «أنا بحبك أنت، مفيش حد سبقك فقلبي ولا هيكون يا رؤوف»
هتف بانفعال دون صبر «افتحي خلّصي»
فتحت الباب بحذر وأطلّت برأسها متفقدة بنظراتها أحواله، رأت نظرته الخاشعة المتأثرة فابتسمت بحياء، مدّ كفه لها فمنحته كفها بضحكة ناعمة، سحب جسدها وضمه بين ذراعيه متنهدًا بحرارة أبلغ من الكلام.
*******
صاح رؤوف في الهاتف بغضب «سلمله كل ورقه يا رامز وقوله مش عايز ألمحه تاني في المكتب لا هو ولا مرته الحيزبونة» أنهى الاتصال وجلس يتذكر ما حدث لهما منذ قليل
فاليوم الوحيد الذي قرر فيه الخروج بها والتنزه، شاءت الأقدار أن يقابل عميل عنده بصحبة زوجته، كانت المرأة سمجة، فضولية، ومزعجة لم تكتفِ بالسلام والمصافحة العابرة بل دققت النظر في زوجته بطريقة غريبة واهتمام مريع كأنها تستوجد لها عيبًا أو تُخرج لها نقيصة، حتى اكتشفت أمر حروقها ثم تقدمت في انتصار غريب كأنها حلّت معضلة كونية، منحتهما بطاقة لطبيب شهير بجرأة صدمته، مما أزعج غزل وجعلها تنكمش ببؤس مقررة العودة فورًا للمنزل والاختباء.
عاد للحجرة فوجدها على حالها من البكاء الصامت الذي يمزقه
دفء قلبها بلمساته الحانية وهو يهمس متوسلًا بضعف يصنعه حزنها«وبعدين من ساعة ما رجعنا مبطلتيش بكا يا بابا»
توقفت عن النحيب رافعة نظراتها المستنجدة له وقد منحها بطاقة هوية سارية النفاذ يمكنها بها العبور لدهاليز الوجع بأمان، وتعرية مشاعرها بحرية ودون خوف، فتح ذراعي أبوته لها مستقبلًا بحنان انتمائها لأحضانه، فتح لها القلب والسمع مرحبًا،فتوسلته «متطلعنيش تاني معاك بليز؟»
مسح على رأسها قائلًا بحزم امتزج بحنانه «هتطلعي معاي ويدي فيدك ومحدش يقدر يكلمك يا بابا طول ما أنا معاكي»
ضربت بقبضتيها الفراش رافضة مزمجرة «لا لا متحرجش نفسك بسببي»
أوقفها بحزم وهو يضمها لأحضانه بقوة متمنيًا لو تسرب وجعها داخله هو «بس، عايزك قوية مفيش حاجة تكسرك يا بابا كده ولا تزعّلك وتبكيكي»
بهذيان همست «مش كفاية رضيت بيا كده»
لثم جبينها هامسًا وقلبه ينتفض خوفًا وذعرًا عليها «أنا مرضتش بيكِ، أنا عايزك، واقع فغرامك والله»
اعترفت من بين شهقاتها ذائبة في أمنيتها «كان نفسي نتقابل قبل ما أتشوّه، أنا عايزة أكون حلوة عشانك وليك، مفيش حاجة بتريحني ولا حاجة بتطمني، أب وحش وشكل وحش»
مسح على خدها متوسلًا بضعف «اهدي ومتجوليش كده، مالك جرالك إيه بس أنتِ حلوة فكل حالاتك، ارتاحي ،أنا بحبك وده كفاية يطمنك ..مردتش فيا الروح غير لما رجعتي تاني، ما أنا كلي عيوب برضك ،مريض مستني مدت يدك بالدواء وتايه مستني قلبك يدلني ووحيد مستنيكي تونسيني وعصبي وهجوم أرنك علقة دلوك لو مسكتيش عشان صبري بيخلص»
ضحكت من بين دموعها وهي تضربه بقبضتها ضربة عتاب على سرقته لها من أوجاعها بغتة «اضحكي كده ونوري يا غزولة بكره هروح أترافع مع الخصم وأسجنه الواكل ناسه هو ومرته، ضيّع الخميس » ضحكت فغمغم لاعناً «ذنب زين الفقري»
أبعدها عن أحضانه قليلًا، نظر لعينيها هائمًا يهمس بغمزة «بت اعقلي شوية بالله عليكي هو في أحلى منك وأنتِ باللون الي معارفش ملته دِه»
ضحكت وهي تجفف خديها فهمس بمرح وهو يغمزها بوقاحة «إيه هنسيب الدملكة واللفة ونمسك فشوية حروق مخك تخين ومصدي والله» تأففت منزعجة تهتف بغيظ «هخس علشان ترتاح أنت ورجب»
هتف بحدة «أدلدلك من فوق السطح والله»
همست معاتبة برقة «رؤوف بليز سيبني أروح الجيم»
هتف بحزم «الشقة واسعة اتنططي فيها وجبيلي الضغط، ليه جيم وخساير وغيره»
تأففت معارضة قوله «أوفه» هتف بمزاج رائق مدلل بغنجها «فينك يا خالة تشوفي دعواتك»
«رؤ...» قاطعها بقبلة طويلة بعدما هتف باستياء «يسد بيت أبوكي رغاية تاكلي الراس»
*********
هبط موسى الدرج يتمتم بسخط ويزفر بقنوط بعدما صفعت زينب الباب خلفه بقوة، استقبلته والدته ساخرة منه وهي تقف متخصرة في نهاية الدرج «يا أهلًا بالرجالة»
تثاقلت خطواته على الدرج وتباطأت وهو يمط شفتيه بضجر حقيقي من رصاصات أمه الطائشة وتوبيخها الذي لا يتوقف منذ تزوج وأعلمها بصعوبة الاقتراب من زوجته ومنحها حرية الأمر.
«ما خلاص يا أما» قالها بعصبية وهو يقف قبالها في نهاية الدرج، ربتت والدته على كتفه ممصمصة بتعجب مستنكرة عصبيته وهو المخطيء الغافل عن حقه «خيبة تخيبك يا واد بطني أكتر ما أنت خايب» نفخ عاليًا باستياء وهو يضرب جلبابه «كمان مش عاجبك؟» قالتها والدته بتهكم ونظرة ساخرة تذبح، ابتعد عنها وجلس ممتعضًا فجاورته متحسرة «جوازة الحزن جولتلك بلاها منها يا واد»
هتف بهزيمة «بحبها يا أما ورايدها من زمان وما صدقت»
لوت فمها قائلة بتشفي وشماتة «اهي ملوداك»
قال بصبر «بكرة تحبني وتلين»
أكدت والدته بحاجب مرفوع ثقةً فيما تقوله «مش هتلين وواد الحفناوي ضحك عليك ولبسهالك والله أعلم ليه؟»
سألها بانتباه «قصدك إيه يا أما؟»
وضعت كفيها على بعضهما فوق بطنها قائلة وهي تنظر إليه بطرف عينيها «شوف أنت عاد»
تذكر إغفاله أمر الخاتم وعدم ذكر الاتفاق أمام والدته حتى لا تستهزيء به وتابع بثقة وراحة «مفيش حاجة من الي فمخك هو صاحبي»
حركت فمها يمينًا ويسارًا مستنكرة قوله «صاحبك! هو دِه له صاحب دِه خبيث ونابه أزرق»
اتكأ مؤكدًا بتفاخر «لاه صاحبي يا أما ارتاحي»
هتفت قائلة بإصرار«مش هرتاح غير لما تدخل عليها وتبرّد قلبي يا خايب»
زفر بنفاذ صبر ثم هتف «عيزاني أعمل إيه بس يا أما جولتلك عايزها برضاها مش غصب»
أشاحت مُفكرة باستسلام قبل أن تعود إليه قائلة «روح بس سلّم البضاعة الجديدة وخلي بالك على نفسك وأنا هتصرف»
سألها ببهجة «هتعملي إيه يا أما؟»
أجابته بثقة وابتسامة ظفر تتراقص على شفتيها «مش عايزها بكيفها خلاص احنا ملوك الكيف يا واد»
انحنى ملثمًا ظاهر كفها بامتنان حقيقي وشكر قبل أن ينهض بحماس للعمل ونشاط وفير.
****
استيقظت زينب من نومتها تنظر حولها بذهول قبل أن تستقر نظراتها الهائمة على جسدها شبه العاري فتشهق محاولة تغطيته وإخفائه بارتجاف، ابتسم لها موسى بسخرية وهو يلتهم الطعام باستمتاع وهمهمة رضا مقززة لنفسها، سألته والمعنى يقف في قلبها كالغصة «حصل إيه؟»
أجابها وهو ينهض ممسكًا بقطعة لحم، جلس جوارها ودسها في فمها مباركًا «صباحية مباركة يا عروسة»
بصقتها بعنف جلب الألم لحنجرتها وصاحت بغضب «أنت شربتني إيه ولا عملت إيه؟»
ضمها لأحضانه قائلًا «معملتش حاجة خدت حقي وبرضاكي كمان»
اندفعت مبتعدة عنه بنفور مبدية تقززها من قربه تصيح بهياج مبرئة نفسها من الأمر كتهمة «لاه مش برضاي لاه أنت سقيتني حاجة»
نهض رابتًا على صدره بفخر، ضحك بسماجة قائلًا «جومي وبلاش كسوف الوكل زين جوي»
صرخت وهي تترك الفراش وتهرع لمئزرها المُلقى، ارتدته تحت نظراته الساخرة وربطته «بالسم الهاري»
ترك ما بيده متأففًا يقول «اللهم طولك يا روح»
جلست قباله فابتسم قائلًا وهو يمد لها كفه بقطعة لحم طيرٍ «خدي رمي عضمك يا بت ومتتكسفيش أنا جوزك»
ضربت الصينية الواسعة فتناثرت محتوياتها صارخةً«جزّ نحل يا جوز الندامة بقا تخدرني وتاخد غرضك»
ضحك مستفزًا لها «يمتنعن وهن الراغبات صُح»
صرخت في وجهه بغضب «أنت إيه مبتحسش»
مال بوجهه قائلًا بعاطفة «لاه بحس قوي يا بت وبحبك موت»
نهضت مزمجرة، دارت حول نفسها في الحجرة تعض أناملها غيظًا وقهرًا مما حدث والخدعة التي تعرضت لها، بينما غمغم هو مستمتعًا برؤيتها هكذا مغلوبة على أمرها، متحسرة وهالكة بالقهر«ربنا يخليكي ليا يا أما»
اقتربت منه صائحة«طلقني يا موسى»
نهض من جلسته ضاحكًا ببرود، اقترب منها قائلًا بنظرة جريئة «ما تهدي امال يا بت أطلقك وأنا ما صدقت أنولك وبعدين مش يمكن تشيلي فبطنك؟»
شهقت بفزع حقيقي وهي تضع كفها على بطنها مستنكرة تندب حظها «يا مرك يا زينب»
رمها بنظرة مستهجنة قبل أن يقترب أكثر منها قائلًا «ما تهمدي يا بت وتعقلي»
تراجعت للخلف مهددة باضطراب وهي تبحث حولها عن منقذ لها تصد به هجومه«إبعد يا موسى أحسنلك؟»
نظر إليها بوقاحة قائلًا «اعملي الي عيزاه صرخي، ابكي محدش في البيت طلعوا راحوا لأختي بتولد»
حاولت ردعه والتملّص من قبضته فلم تفلح،خارت قواها فاستسلمت بقهر وغل.
*********
مالت فيروز مستندة بساعديها على حائط الشُرفة تتابع المارة بنظراتها وتتأمل الناس منشغلة بتتبعهم، ترافقهم نظراتها أينما تحركوا مكرسة كل اهتمامها لهم، تختلق لهم الحكايات المثيرة في عقلها وتصنع لهم المواقف واللحظات، تضحك معهما بهستيريا وتشاركهم الحديث بهذيان، تتوقع قولهم الذي لا يصلها وتخمينه ثم تضحك معجبة متفاخرة بصنيعها، جلست انتصار أمامها تتابعها بنظراتها المتحسرة، التفتت لها فيروز قائلة بنوبة ضحك غير معلومة السبب «بصي يا طنط بيرقصوا إزاي»
رمت انتصار نظراتها للأسفل فلم تجد ما يستحق الضحك بهذا القدر.
عادت محملقة فيها بتعجب فجلست فيروز متسائلة بنبرة كُسر الحزن داخلها «بتبصيلي ليه يا طنط؟»
قالتها وألقت نظراتها على معازيم الفرح الذي يُقام في صوان كبير أسفل بنايتهما، عادت للضحك مجددًا بنفس الطريقة فهتفت انتصار بعصبية «مفيش حاجة تضحك» حاولت فيروز إقناعها من بين ضحكاتها «بصي بصي شوفي...»
قاطعتها انتصار بحدة فالتفتت لها فيروز متوقفة عن الضحك تسألها «في حاجة حصلت يا طنط؟»
أجابتها انتصار بمصمة شفاه مشفقة «أنتِ يا بنتي الي حصلّك مش أنا»
ضربت فيروز كفيها ضاحكة تؤكد قولها «آه والله يا طنط حصلي كتير»
سرى بينهما بعد ذلك صمت ثقيل قطعته انتصار قائلة «ابني بعتلي ورق علشان أروح أعيش معاه»
تلاشت ابتسامة فيروز ورست جبال من الحزن في نظراتها قبل أن تهزم ذلك الحزن وتهتف مشجعة لها بمرح غريب واستسلام للغرق في الضياع مخيف «كويس مبروك يا طنط أخيرًا هتروحي وتعيشي معاه»
هتفت انتصار بحزمها المعتاد «مش هروح»
سألتها فيروز بدهشة «ليه بس يا طنط؟»
أوضحت لها انتصار بنبرة خشنة تلقمها المودة وتهديها العاطفة الصادقة دواءً «وأسيبك؟»
هتفت فيروز بسخرية مستهزئة بقولها مغلقة أبوابها أمام تلك المودة لا تستقبلها بالترحاب «ما تسبيني إيه المشكلة؟»
أطبقت انتصار شفتيها بنظرة لائمة قبل أن تفتهما مقحمة كلماتها في عقلها المغلق وقلبها الموصد،تطرق بقوة أبوابها دون يأس «أنتِ بنتي اقتنعتي أو لا بنتي، حسيتي أو محستيش بنتي ومش هسيب بنتي فمحنتها ولا هرتاح غير لما توصل بر الأمان»
نظرت إليها فيروز بدموع متحجرة، تكابر وتغالب عاطفتها وطبعها الحنون بقسوة وليدة «يا طنط سافري وسيبك مني، انفدي بجلدك قبل ما تاخديلك رصاصة كفاية الي حصلّك واحمدي ربنا إنك ممخلفاش متعوسة زيي» انفجرت في ضحك هستيري غير مبرر قبل أن تنظر للفرح مدندنة مع الأغنية الشعبية، هتفت المرأة متحدية «مش هسافر غير لما تفوقي واطمن عليكي »
التفتت لها فيروز قائلة وعلى وجهها ابتسامة بلهاء «يبقى مش هتشوفي ابنك يا طنط» قالتها بضحكة مجلجلة قبل أن تعود ببصرها للناس تتمايل مجارية اللحن الشعبي باستمتاع غريب ومريب، نهضت انتصار تاركة لها تدور في الشقة مستغفرة تفكر علها تهتدي لحلٍ أو تجد في براح الذكر متسع من الطمأنينة وإجابة لدعواتها لتلك التي انقلب حالها في غمضة عين.
*********
بعد مرور يومان
«أخوك فين؟» قالها بانفعال حاد وعصبية مفرطة وهو ينظر للطريق بانتباه، ليجيبه الآخر وهو يحك فروته بقلق بينما يتجول في مكتبه «فشقته بس تعبان شوية يا رؤوف»
صاح فيه «ومجولتليش ليه؟ وكيف سايبه لوحده؟ الواد معارفش يجول كلمتين على بعض من الكحة»
أوضح يونس بضمير معذب «والله ما رضي لما بفضى بوديله أكل وعلاج يا رؤوف»
طفح كيله فصاح موبخًا« ليك روقة غور يا يونس »
أنهى يونس الاتصال لاعنًا بينما غمغم رؤوف بخوف واضح «كيف يسيبه كده ليه ميجوليش؟»
هدأته رغم اقتسامها القلق معه وخوفها الظاهر في ارتجافتها وزيغ نظراتها واستعجالها الوصول.
«اهدا هيبقى كويس»
لم يلتفت لها و واصل القيادة بقلق يغمره حتى وصلا..
وقف أمام الباب يرن جرسه بتعجل وسرعة، يقرن الرنين بندائه السريع المحاط بالقلق «افتح يا طاهر»
جر ساقيه حتى وصل، فتح الباب مبتسمًا باشًا كعادته «العرسان إيه النور دِه؟» لم يكد يتم ترحابه حتى سقط محاطًا بصرخات غزل ونداء رؤوف المرتعب عليه.
بعد مرور مدة كان رؤوف يجلس أسفل الفراش الذي يرقد فوقه طاهر محمومًا يعاني من حمى تفور في جسده، يئن ويتألم وجعًا كلما غلبه السعال، فيمسح رؤوف على صدره قارئًا الأذكار مبردًا جبينه بقطعة قماش مبتلة، يرفع الغطاء الثقيل على جسده، همس طاهر بنبرة متوسلة متقطعة بالارتجاف «بردان»
همس رؤوف معتذرًا ونظراته تنضح ألمًا وهو يمرر كفه على صدره«معلش غفلت عنك يا بابا»
ارتفع قليلًا ملثمًا جبينه في اعتذار حار التصق بجبين أخيه الندي، ثم عاد لجلسته أسفل الفِراش، يعانقه بنظراته بين الحين والآخر متمنيًا لو خبأه داخله.
دخلت الحجرة تمسح كفيها قائلة «خلصت الشوربة لما يفوق...»
قطع استرسال كلماتها وجهه الشاحب ووجع نظراته فاندفعت ناحيته تسأله بقلق «رؤوف في إيه؟»
نظر رؤوف لطاهر مبديًا وجعه وألمه وضعفه وهو يرى طاهر ممددًا لا حول له ولاقوة «الواد تعبان يا غزل»
طمأنته بحنو وهي ترفع كفها متحسسة جبين أخيها «لا الحمدلله حرارته أهي بدأت تنزل»
نظر له بارتجاف هامسًا «مش حاسس كده؟ عايز أوديه المستشفى»
ضمت وجهه بكفيها هامسةً بلوعة «اهدا هو كويس وبعدين أخويا قوي وراجل هيقوم بخير» ثم شاكسته ببريق شقاوة مشتعل دائمًا في نظراتها «أنت متعرفش مين مربيه ولا إيه؟»
تنهد بصمت وقلب خالي إلا من القلق الذي ينسكب من نظراته، همست وهي ترفع كفيها ماسحةً على رأسه وهي تغمزه بمرح «مش ناوي تربيني بقا»
ابتسم هامسًا وهو يلثم باطن كفّها برقة «أنا باجي أربيكي ألاقيني بربي نفسي»
ضحكت برقة فاختلج قلبه..
سحبها لأحضانه متنهدًا فهمست «مش هتاكل حاجة أنت من الصبح بتلف حوالين نفسك»
أراح ذقنه على كتفها هامسًا «مش هاكل غير لما طاهر يقوم واطمن عليه»
التفتت له معاتبة «وبعدين تنام بداله»
«مش مهم بس هو يبقى كويس وميوجعش قلبي عليه» همسها ببساطة أسرت قلبها فقالت «أد كده بتحب طاهر؟»
أغمض عينيه مسترخيًا يخبرها عن نفسه وقلبه «ولدي يا غزل ربيته أنا، كنت بذاكرله وألعب معاه، أوديه وأجيبه من المدرسة، هو ويونس أهم من نفسي فرحهم يفرحني وبكاهم يبكيني ووجعهم يوجعني»
تأثرت بقوله الصادق والتفتت له مشاكسة بدلال «أوفة وأنا إيه؟»
قبل أن يغرس زهور غرامه كانت كف أخيه المرتعشة تهبط على كتفه.
انتفض تاركًا لها، وقف على ركبتيه يسأل «طاهر أنت بخير؟»
ابتسم مستفسرًا بوهن وهو يلتقط أنفاسه بصعوبة «إيه جابكم هنا؟»
ابتسم رؤوف قائلًا وهو يعيد القماشة الندية لجبينه بعد أن جددها بالمياه الباردة «رجلينا»
التفت طاهر لغزل هامسًا «ازيك يا غزولة وحشتيني»
ضمت كفه بكفيها هامسةً «وأنت يا حبيبي ألف سلامة عليك»
سعل بشدة مزقت قلبه فوضع رؤوف كفه على صدره وملامحه تتمخض الألم والإشفاق «إن شاء الله أنا يا بابا ألف سلامة»
ضربته غزل بقبضتها رافضة قوله «ليه أنت أو هو ما تدعيله بالشفاء»
تحرك طاهر محاولًا الإعتدال فنهض رؤوف وساعده بسرعة على الجلوس وهو يعاتبه «كده متجوليش ولا تبعتلي أنا أو غزل»
قال بأسف «فكرته دور بسيط وهيعدي والله»
ربت رؤوف على ركبته مطمئنًا «هيعدي يا بابا بإذن الله»
مازحه طاهر بابتسامة باهتة «أنت معلقتليش محلول زي غزل لما تعبت ليه؟»
ابتسم رؤوف مستعيدًا الذكرى قائلًا «وهي أختك كان طمر فيها وقتها صحيت تشكر فيك البجرة»
ضحك طاهر بتعب بينما عبست غزل مستفسرة «مفهمتش»
لوى رؤوف فمه ببسمة ساخرة كما قوله «العادي يا حبيبتي لو قولتي فاهمة أشك»
ضربته بقبضتها وهي تمط شفتيها برفض واستياء، بينما أوضح طاهر بخفوت «يوم ما تعبتي فقنا رؤوف هو الي سهر جنبك الليل كله وطلع جبلك علاج وعلقلك محاليل»
رمقته بجانب عينيها شاكرًة بغطرسة «والله طيب كويس أهو وقتها عمل حاجة عدلة وهعتبر كان بيكفر عن ذنوبه فحقي مقدمًا»
عاتبه رؤوف بمزاح «شايف أهو»
كشرت مستفسرة بتوعد «قصدك إيه؟»
تراجع بلطف «وأكفّر العمر كله ولا حاجة جنب تكوني راضية يا أم الغايب»
لانت ملامحها وتنهدت بهيام وهي تضع كفها على قلبها هامسةً بدلال «الله على كلامك يا متر»
لكزها رؤوف لتفيق معاتبًا من بين أسنانه «ما تتعدلي واخشني شوية»
نفخت صدرها وقالت بخشونة متعمدة مجارية له في قوله «كلامك يجنن أوي يا متر»
ضرب رؤوف جبهته بيأس بينما قهقه طاهر بتعب وهو يتابع عرضهم المسرحي الممتع بشغف ومحبة..
توقفت مشاركة لهما الضحك فقال رؤوف ممازحًا «تلاجيك عيان عشان أختك سابتك يا واد يا طاهر»
أردف وهو يدس جهاز الحرارة بفم طاهر «وهو الشهادة لله حقك عشان كدا مش هتكلم»
سحب رؤوف الجهاز وطالعه بنظرة راضية قبل أن ينهض قائلًا «خليك بجا معاها هطلع اقضي كام مشوار طالما بقيت أحسن»
نهضت مثله قائلة بلهفة «رايح فين؟»
رمقها بنظرة زاجرة وحاجب مرفوع قائلاً «اجعدي جنب أخوكي وأنتِ ساكتة»
ضمت شفتيها باعتراض فتركها وغادر المكان محذرًا «أوعي تنامي جنبه وتسبيه أنا عارفك بجيتي مخمرة نوم الأيام دي»
رحل وتركها جوار أخيها مطببة ..بعد مرور ساعتين رنّ هاتف طاهر باسم سماسم قربت غزل منه الهاتف فأجاب «أيوة يا أما»
بأنفاس متلاحقة سألت« فين رؤوف يا طاهر»
اعتدل مستفسرًا بقلق «في إيه ياأما؟»
من بين بكائها المحموم همست «خالك كان مع قاسم وعربية خبطتهم وجريوا بيهم عالمستشفى كلّم رؤوف قوله ياجي عشان ولده وأبوه»
كتمت غزل شهقتها بباطن كفها وهي تنتفض واقفة تلّف حول نفسها، بينما أنهى طاهر الاتصال متناسيًا تعبه وسارع بمهاتفة رؤوف الذي أجابه فوراً «أيوة يا طاهر أنت زين يا بابا؟»
ابتلع طاهر ريقه وهتف «قاسم يا أخوي و..» لم يكد يتم كلماته حتى هتف رؤوف «قاسم ولدي ماله جراله إيه؟»
همست خلفه بأعين متسعة «ولدي؟» ثم صمتت غزل بقلب مرتجف تستمع بأنفاس متلاحقة ودموعها تجري على خديها بخوف وقلق واستنكار.
أجابه طاهر بسرعة «كان مع خالي وعملوا حادثة يا رؤوف»
أغلق رؤوف فورًا حينما أنهى طاهر كلماته.
*********
بعدما اطمأنت على قاسم وعدنان من صفوة أجلستهما أمامها قائلة بجدية وهي تتبادل النظر لملامحهما الممتقعة مستشفة ردود الفعل «رؤوف بيقول على قاسم ولدي ليه؟»
سعل طاهر وهو ينظر ليونس باستنجاد عله يتصرف وينقذهما من ذلك المأزق حتى يعود أخيهما، هتف يونس بتنهيدة استسلام «كلميه واسأليه احنا مالنا؟»
وضعتهما بين شقي الرحا بقولها الغاضب المنفعل عكس طبيعتها الهادئة المتسامحة «أوكية يا يونس ولو طلع الي فدماغي صح ساعتها أنا مش هسامحكم ولا هكلمكم»
نظرا لبعضيهما بارتباك وحيرة قطعها طاهر بلطف قوله ورجائه «غزل الموضوع دِه عند أخوي منجدرش نتكلم فيه بدون إذنه »
نهضت واقفة بنظرة قاسية متحدية بنظرة مهزومة وروح مخذولة منهما«تمام يا طاهر»
ابتلع يونس ريقه وهتف بعزم مستسلمًا لمطرقتها «اجعدي يا غزل وهنفهمك بس أوعدينا كلامنا يشفعلنا عندك»
نظرت إليهما نظرة منكسرة حزينة قبل أن تعاود الجلوس قائلة «تمام أسمع وأقرر»

