رواية عزف السواقي الفصل الحادي والخمسون 51 بقلم عائشة حسين
الواحد والخمسون
أجابته بوهن بلغ الروح وفتت النفس فما عادت تقدرعلى لملمتها من جديد ولا الوقوف «لاه يا مؤمن مش جادرة ولا متحملة صراخ آيات وبكاها» دفنت وجهها في الوسادة؛ لتستقبل دموعها وشهقاتها الحارة، أدارها بين ذراعيه ثم ضمها لصدره هامسًا «طيب مش مهم بس متبكيش»
انفجرت في بكاء مرّ لا تعرف للوجع الذي خلفه هوية ولا مسمى، الأوجاع كلها تتداخل كما الأفكار وتمتزج، تثير في نفسها الكآبة والخوف من مجهول والحزن العميق، سألها مؤمن بحنان وهو يقبّل رأسها «تزوري أمك»
توسلته بانهيار تام وروح فوق نصب الأوجاع تُنحر «سيبني يا مؤمن مش عايزة أزور حد دا هي ارتاحت عقبالي أنا كمان»
انقبض قلبه همًا وضيقًا من قولها الغريب على طبيعتها التي لا تعرف اليأس ولا تتخذه زريعة للهرب من المسئوليات المتراكمة، طوال الوقت كانت زهرة نضرة تفوح بعطر الأمل وتنثر شذى الرضا
عبس موجهًا لها بحنان ورفق «استعيذي بالله ومتجوليش كده»
اعتدلت في نومتها نابذة أحضانه، تركت التخت هاتفة بألم متراكم وغصة في القلب «ليه مجولش؟ لا أنا عايزة أموت» ضمت مقدمة ثوبها البيتي قائلة بهذيان «الموت هيريحني أنا مش عارفة أرتاح يا مؤمن ولا بنام ولا هعرف أعيش بعد كل ده»
قفز من فوق الفِراش بسرعة، ضمها لصدره بمرارة في الحلق وحسرة في النفس «طيب اهدي وارتاحي شوية»
تركت أحضانه بسرعة، عادت للتخت وتمددت فوقه متدثرة حد الاختفاء.
تنهد بآسى قبل أن يغادر باحثًا عن صغيره؛ ليطعمه فهدى منذ آتى نفضت كفيها من كل شيء، تركت له كل المهام وانعزلت وحدها وحيدة في بلورة شفافة يرونها من خلالها ولا تراهم، لا تتفوه بالكثير فقط كلمات تسد بها رمقهم وحاجتهم لها، تشبعهم بالفتات منها دون الإكثار، طوال الوقت شاردة الذهن بنظرة زائغة مريبة كأن روحها تركت الجسد ورحلت لمكان آخر حاضرة ومتفاعلة فيه بكل كيانها، نظراتها الزجاجية تعكس صراعًا كبير وحزنًا قاتمًا ومشقة الطريق.. يستعيدها هو من عالمها الخاص بصعوبة فلا تمكث إلا قليلًا وبعدها ترحل مجددًا، طعامها تتركه كما هو بزهد يُضاعف قلقه وخوفه، يحضر لها ما تحب ويصنع لها ما تشتهي لكن روحها غائبة ونظرتها مُغشاه بالألم تنظر إليه بلا مبالاة وبعدها تتركه، لا يعرف بمن يستعين وماذا يفعل؟ يشعر أن ما يفعله غير كافي، كلما رآها في العذاب تغوص حتى قاعه المظلم تتقطع أحشاؤه ندمًا على تركه لها وسفره بعيدًا..
جلس جوار صغيره بعدما أعدّ له الطعام يراقبه بمحبه ويداويه بابتسامة حنون تعوض غيابها عن الصورة.
بعد الفجر استيقظ باحثًا عنها، فتش المنزل ولم يعثر عليها فقط وجد صغيره نائمًا في نهاية الدرج على عتباته، ايقظه بلهفة «عبدالله نايم كده ليه وإيه صحاك؟»
فرك الصغير عينيه قبل أن يفتحهما ويطالع ما حوله حتى استقرت نظراته على وجه أبيه قائلًا «أمي راحت بيت جدي قالتلي هتروح تشوفهم ومرضتش تاخدني معاها»
ضم مؤمن صغيره بكرب وأنفاس متلاحقة يستوعب ما يحدث وانقلاب حال زوجته، نهض حاملًا الصغير وخرج به باحثًا عنها، سار في الشارع الطويل بقلبٍ مرتجف وعقل تائه، دخل المنزل لأول مرة بعد ما حدث، بحث بنظراته في الداخل حتى وجدها جالسة فوق صخرة كبيرة تضم شال يخص والدتها حول كتفيها بنظرة متحجرة وجسد مرتعد بارتعاشة، ترك صغيره واندفع ناحيتها يسألها وهو يضمها لصدره «إيه جابك هنا يا هدى في الوجت دِه؟»
أغمضت عينيها بطمأنينة وهمست بصوت مبحوح «أمي بعتتلي يا مؤمن أجي أحلب لها البهايم فجيت»
أدمعت عيناه مستغفرًا لا يصدق ما يحدث ولا صدمة زوجته ولا انهيارها المفاجيء بعد وصوله وكأنها كانت تنتظره لتفعلها بأمان بعدما سلّمته عهدة صغيرهما، توسلها وهو يجلس على ركبتيه أمامها «متعمليش كده، متسبيش نفسك وتضيعي مني، أنا وعبدالله ملناش غيرك»
نظرت إيه بنفس النظرة المتحجرة وهمست بصوت مبحوح «خد عبدالله وأمشي يا مؤمن علاء هيرجع وهيجتلني زيهم هو عمل كل دِه بسببي أنا» طمأنها بنظرة متوسلة وهو يمسح خديها من الدموع المتتابعة «أنا جنبك مش هيقدر يعمل حاجة فوقي بس من الي أنتِ فيه»
نهضت واقفة وهي تقول بحزم «امشي يا مؤمن مش عايزة أتوجع كمان فيك»
ختمت قولها بسقوط مدويّ في قلبه لجسدها الواهن بين ذراعيه
**********
«صباح الخير صح النوم يا غزولة» قالها وهو يعود من الشرفة بابتسامة واسعة وملامح جديدة نحتتها فرحته برجوعها إليه ونظرة متألقة برداء السعادة
فركت عينيها نافضة النعاس عن جفونها متسائلة بقلق «صاحي بدري ليه يا حبيبي؟»
ابتسم قائلًا وهو ينظر إليها برضا «بعمل شوية مكالمات وببشر حبايبي برجوعك» اقتربت وضمته برقة فابتعد متبرئًا من فعلتها «اللهم إني صائم وأنتِ صائمة »
ابتعدت ضاحكة تلملم خصلاتها بمشبك الشعر قائلة «ماشي»
نظرت للحقائب الكثيرة فوق الطاولة واقتربت مفتشة «انت نزلت؟»
اقترب قائلًا بحماس «من بدري»
لثمت خده بسرعة وركضت بعدها ضاحكة فتأفف من طفوليتها منزعجًا من فعلتها «جولنا اللهم إني صائم أسيبلك الشجة؟»
حمل الحقائب وسار بها لحجرة النوم،وضعها فوق التخت منتظرًا خروجها من المرحاض،حين لمحها أشار لها من مكانه لتأتي «تعالي»
سارت تجاهه مبتسمة مُسيرة بنظرة عينيه الدافئة الحنون وصرامته الفطرية
وقفت أمامه مُعلنة طاعتها،تقدم الولاء « أنا أهو نعم يا متر ؟»
شاكسها بمرح وهو يمنحها حقيبة بها ما سترتديه «لغاية الفطار نحافظ على مسافة آمنة مناسبة»
سحبت منه الحقيبة ضاحكة ترميه بسخريتها «ليه كورونا؟»
«يارب تيجي مقاسك» قالها وهو يعاينها بنظرة متفحصة، دفعته بقبضتها ضاحكة «الله، مش اللهم إني صائم يا أوفة!» أخرجت الملابس معاينة «مش حفظت المقاس من سبت الغسيل؟»
تحرك مبتعدًا عنها يقول بمكر «الحاجة أم حمزة بوظته الله يعمر بيتها، محتاجين معاينة جديدة »
غادرت تاركة صدى ضحكتها يهب كالنسمة الباردة منعشًا خلاياه، أبدل ملابسه وانتظرها حتى أتت.
سألته باهتمام «هسرّح شعري إزاي؟»
سحب حقيبة أخرى وأشار لها «عملت حسابي»
بسرعة تربعت أسفل ساقيه عند الفراش مطالبة ببعض من حقوقها «سرحهولي يلا»
هتف بتردد صبياني وخجل طفيف خلف روح المغامرة رغم إعجابه بالفكرة «أنا..لا..معرفش..مسرحتش شعر جبل كده ومعرفش هعمل إيه؟»
أدارت رأسها ناظرة إليه تقول بهزة كتف وابتسامة مضيئة «هنتعلم كل حاجة ونشارك بعض حياتنا لغاية ما نتعود.» أدارت رأسها قائلة «عرفت كنت بتسرح شعر جدتك وتضفرهولها»
هتف بخجل «مين جالك؟»
أجابته بابتسامة خجول «طنط نجاة»
اختلج قلبه بالعديد من المشاعر لنطقها اسم والدته ببساطة وانسيابية دون أن يعلق بذكرى النبذ والكراهية، ضم رأسها بكفيه وانحنى برأسه هامسًا «بحبك أنا يا غزولة ومستعد أتعلم وأعمل أي حاجة ترضيكي وتبسطك»
رفعت كفها، لثمت أطراف أناملها ثم رفعتهم لشفتيه قائلة بتأثر«وأنا يا روح غزولة كتير أوي»
عادت تنظر أمامها موجهة له «يلا بقا سرحلي شعري وابهرني»
*********
بعد قليل كان يتمدد محاولًا النوم وأخذ قسط من الراحة لمواصلة اليوم والابتعاد عنها قليلًا حتى لا يضعف «غزل بطلي فرك مش عارف أنام»
عاتبته وهي تسحب ذراعه من فوق وجهه
«قولتلك أروح الأوضة مرضتش»
استدار مانحًا لها ظهره وهو يقول
«مفيش مشي اجعدي خلاص»
سألته وهي تستند على كتفه
«أخبار هدى إيه يا أوفة وعبد الله وعبود والخالة وقاسم حبيبي..؟»
أجابه بجدية
«كلهم بيسلموا عليكي ومبطلوش يسألوا عنك ولا يوم»
صارحته بما داخلها «وحشوني أوي»
سألته ببعض التردد والقلق
«عملت إيه مع آيات؟» أجابها بنفس الثبات وبلا مبالاه «ولا حاجة »
تأففت قائلة بانزعاج «طيب هات الفون أكلم صاحبتي أم ورد»
سحب الهاتف من جواره بصمت ومنحه لها فقفزت واقفة تاركة له بحماس، بينما عاد هو لشحاذة النوم هربًا منها وليتم صومه على خير.
*********
استيقظ قبل أذان المغرب باحثًا عنها مناديًا بوجل «غزل فينك؟»
تنفس بإرتياح حين وجدها في المطبخ واقفة تعدّ له الفطور مدندنة متمايلة بدلال ورشاقة، استقبلته بضحكتها الرائعة «نوم الهنا»
«مريحتيش ليه وكنت طلبت أكل من بره؟» قالها باستياء وهو ينظر للأواني الكثيرة فوق الموقد.
حركت كتفها معترضة «لا طبعًا متفطرش غير من إيدي أنا يا متر»
ارتفع صوت أذان المغرب فتحركت بسرعة وجلبت طبق التمر ثم اقتربت واضعة واحدة بين شفتيه هامسةً وهي تعانق نظراته بنظراتها «من إيدي بإذن الله طول العمر»وضع أخرى بين شفتيها هامسًا مثلها بنفس الدعوة «من إيدي بإذن الله طول العمر»
تناولتها تحت نظراته قبل أن تتحرك ناحية دورق العصير، فسحبها وأعادها إليه، ضمها محيطًا جسدها بذراعيه هامسًا وهو ينثر قبلاته المتلهفة على وجهها كرذاذ العطر ابتعدت متوردة خجلًا، تتملص من بين ذراعيه بحياء وهي ترى انبثاق عاطفته من نظراته مما يشي بالخطر، رغم ضعفها أمام تلك الرغبة ورغبتها هي في إرضائه إلا أنها خائفة ،قلبها المتيم يرتعد داخلها متخيلة أن جسدها المشوه قد يفقده شغفه ويطفيء رغبته فيها مما قد يذبحها، عدم اتمام الزواج يعني أنها في أمان من هذا الخوف والقلق، مرتاحة لا تفكر في سواه، لكن إن فعلها ستموت بهواجسها وظنونها وخوفها من نظرته إليها، هو يحبها وسيتغاضى ويتجاهل لكنها تريد الاكتمال في عينيه وشعوره التام بالرضا والشبع بعد طول جوع.
منحته كوب العصير ببسمة متوشحة بالقلق والتردد، لأول مرة يشعر بها هكذا، كأنها نفذت من مساماته للروح ودمغت بها، يقرأها بوضوح ويفهم حركاتها، خوفها صغيرًا في مهده يصرخ فإما أن يحتويه أو يتركه يكبر ويلتهمها وهو ما لن يسمح به.
نفذت نظرتها الذبيحة لعمق القلب فعاد لضمها يحميها بعاطفته من الوجع، يدثرها بمشاعره من الذعر«يلا نصلي جماعة» أومأت موافقة، تناولت العصير وتبعته كظله، توضأت وارتدت إسدالًا أحضره معه، ابتسمت وهي ترتديه فأول ما فكر فيه حبيبها كيف ستؤدي الصلاة؟
جاورته بسرعة متلذذة بسماع صوته الشجي وخشوعه، أدت فرضها وهمست «حرمًا»
ضمها مقبلًا رأسها «جمعًا يا أم الغايب»
أحاطته قائلة «جمعًا يا حبيبي»
تركها ونهض ململمًا سجادته طاويًا لها وبعدها مدّ لها كفه فوضعت كفها داخله ونهضت متعلقة بنظراته الأخاذة، منبهرة بملامحه المضيئة كالقمر «وحشتيني يا غزل حياتي وقفت فغيابك وضلمت،عارفة لُمت نفسي كام مرة؟ وندمت كد إيه؟ كام ليلة عيني مغمضتش قلق وخوف وشوق »
همست بحب «انسى يا حبيبي خلاص هنعوض كل ده، مفيش لوم ولا عتاب مش هنخبي حاجة عن بعض»
لوى فمه ساخرًا من قولها «والله الكلام دِه ليكي» وجدت فرصتها للهرب من عزمه الكامن في نظراته، للتملص من براثن عاطفته، ابتعدت قائلة بتهكم «ماشي يامتفهم يالي بتسمع وتعذر»
اقترب مستفسرًا «قصدك إيه؟»
نزعت الإسدال وألقته قائلة بحركة كتف متدللة «ولا حاجة .. باي هروح أسخن الفطار»
بعد قليل كان يدخل المطبخ راميًا استفساره «الفطار جاهز؟»
نطقها من خلفها ونظراته تتحرك متأملة لها، التفتت مرتجفة ببسمة متوترة وقول سريع «دقايق»
أزاحت غرتها المتمردة خلف أذنها متهربة من نظراته التي تطوف عليها الآن بنظرة مشبعة لأنوثتها التي احترقت يومّا مع جسدها، نظرة شوق لأول مرة تراها في عينيه.. نظرة ضمدت جُرح أنوثتها النازف
«هناكل إيه؟» قالها وهو ينظر للأواني من خلفها بحاجبين منعقدين في تساؤل، مالت قليلًا للخلف بخجل أثرى خديها بالحمرة اللذيذة، تحررت من حصاره تهمس بأنفاس متسارعة«الأكل الي بتحبه»
تصنع الابتسام قائلًا باختصار «شكرًا» بينما كانت نظراته تعزف فوقها لحنًا آخر بلغة أخرى لا تمت لرسمية حديثه بصلة.
تحركت دون ثبات هاربة من نظراته التي تراقصها وتتحرك معها بمتعة.
وقفت أخيرًا بعدما أسقطت من كفيها عدة أكواب وأطباق أثناء هروبها من نظراته «رؤوف اطلع مش عارفة أعمل حاجة»
استند بكفيه على حافة الطاولة مستفسرًا بحاجب مرفوع ونظرة مراوغة «وأنا عملت إيه؟ أنتِ الي بتلفي حوالين نفسك»
وضعت الطبق فوق الطاولة بعصبية قائلة «أطلع ومش هلفّ» حرر نظرة استسلام كاذبة وتحرّك منفذًا لها طلبها برضوخ اندهشت له، هزت رأسها مغمغمة «ربنا يكمله بعقله دايماً »
«انسي» همس بها جوار أذنها وذراعاه تطوقان خصرها بتملّك
أغمض عينيه هامسًا وهو يقتبس من رائحتها الأنفاس«عايز أحضنك حضن طويل بالعمر كله،عايز فرصة أجولك وحشتيني كد إيه؟ وإني مش عايز غيرك ولا عشقت غيرك»
التفتت إليه من خلف كتفها بعينين دامعتين تأثرًا بقوله، أراح جبهته على جبينها بصمت
تمنت لو أنها أرخت حبال عاطفتها لكنها مقيدة اللحظة وتنازع
«أنا خايفة؟»صارحته منفذة أول بنود العقد ملتزمة بالوعد والعهد، ضمها مخبئًا عنها مشاعره ودافنًا تعابير وجهه المنقبضة في جيدها.
«مني؟» نطقها بتلجلج
فسارعت بنفي التهمة عن نفسها وتبرأته من الظنون«لا والله مش منك»
جاهلة بما يدور في ذهنه، غير مدركة معاناته اللحظة مع الذكريات وأنه يتمسك بها مقربًا لها كطوق نجاة وتأكيدًا لقلبه أن مَن بجواره هي الحبيبة.
أحاطته بذراعيها المرتجفان على استحياء فأفلت تنهيدة حارة من صدره لا تعرف لها هوية.
لا يعرف أن ما يقلقها الآن هي حروقها، تشوهات جسدها التي تخشى لو رآها؟ لن تحتمل انطفاء شغفه بها،أو خيبة تعانق نظراته ، أو نظرة شفقة على أنوثتها المشوهة.. لن تحتمل شعورها بالضاءلة أمام شوقه الكبير، وأنها غير كافية له بعد حرب خاضها مع زوجتة الأولى، لن تحتمل نظرة مقارنة تنغرس في صدرها كنصل بارد، كتمت غصة الدمع في صدرها المرتجف بأنفاسها الحارة، لو يمكنها الرفض لفعلت، لكنه سيفسرها عكس ما تريد وستضيف لجروحه جرحًا آخر لن يتوقف نزيفه في قلبيهما.
تذكر معاناتها الخاصة، فابتعد قارئًا لعينيها متجاهلًا وجعه هو، منحّيًا له جانبًا، بدا ضائعًا لا يحسن التصرف ما بين تضميدها وبين خوفه هو الخاص ورغبته فيها... استنشق الكثير مُفكرًا فتلك اللحظة لا تخضع لحسابات ولا منطق ولا نزاع أفكار كالذي يعانيه، كل ذلك سيفسدها ولو ابتعد أصاب سهم الخيبة قلبها هي، ستصبح فريسة مخلب هواجس ليس لها أساس من الصحة، كلاهما الآن يمرق من هذا النفق الضيق، تنكتم الأنفاس وتنحبس لكنهما يواصلان العبور للنجاة.
رنين الجرس أنقذهما اللحظة فتوقفا خائفين خاشعين، كلاهما لا يريد المبادرة بالذهاب خوفًا من سوء ظن صاحبه.
رنين هاتفه حسم الجدل وأرثى القواعد، انسحب ليجيب بعدما توقف رنين الجرس تحت نظراتها المنطفيء وهجها أجاب،سمعت صوته يصفو وتنجلي عنه العاطفة «يا مرحب يا أم حمزة،الله يبارك فعمرك»
هتفت ورد بحكمة «مبروك عليك رجوع بتي الغالية»قالتها مشددة على حروفها مثبتة في ذهنة هوية غزل الجديدة ومكانتها عندها،شاهرة في وجهه بطاقتها التعريفية الجديدة التي تمنحها الحق فيها بما مضى وفيما هو آتٍ،ابتسم بإدراك وقد وعى مضمون رسالتها وقرأ ما بين سطورها «الله يبارك فعمرك»
هتفت ورد بحزم «بتي ست البنات تشيلها فعنيك وعلى راسك يا حفناوي»
نظر للواقفة مترقبة بنظرة مبهمة وهو يجيب «على راسي يا خالة»
قالت ورد مغلقة الباب ومحذرة في ذات الوقت«غزل كانت عند أمها وفبيت أخوها معززة مكرمة ولا ليك كلام تاني يا حفناوي؟»
ابتسم ممتنًا بعرفان «لاه ماليش ، معروفكم على راسي من فوق وجميلكم فرقبتي لآخر العمر،ماليش كلام ولا قول بعد كلامك ولا ينفع بعد ما حافظتوا على مرتي وأكرمتوها»
تنهدت ورد بإرتياح شديد ثم قالت بلين «على الباب هديتي لبتي يا ولدي ومتردهاش »
سارع رؤوف بفتح الباب فوجد الكثير من الحقائب «وصلت يا خالة متشكرين هدية مقبولة»
«تتهنوا بيها ومش هوصيك على غزل، ربنا بيحبك يا ولدي فأنعم عليك بزوجة صالحة مش هتلاقي زيها»
أكد قولها وهو ينظر لزوجته الصامتة «معاكي حق يا خالة عمري ما ألاقي زيها»
أنهت الاتصال قائلة «شوية وهرن أكلّم غزل»
أجابها «اتفضلي في رعاية الله»
أنهى الاتصال وأدخل الحقائب بمساعدتها حتى باب الثلاجة
حين رنّ هاتفه من جديد «أم حمزة عايزة تكلمك»سحبت الهانف وغادرت للحجرة
********
في الحجرة كان تهتف غزل بدموع حارة ونبرة امتنان «ليه كل ده يا طنط ورد؟»
أجابتها الأخرى بحنان أمومي « حاجات خزين للتلاجة متعمليش حاجة أنتِ دلوك عروسة تاكلي من يدي لغاية ما تشدي حيلك وأمورك ترتاح ؟ »
غمغمت ببؤس خاص وحسرة «عروسة؟ أنا...»
قالت ورد بتفهم محتوية شتاتها «أنتِ زي الفل وأحلى عروسة مفكيش حاجة متفكريش كتير يا ضنايا »
صارحتها وصدرها يختض ببكاء مكتوم «أنا خايفة من كل حاجة يا طنط ومش عارفة اتصرف»
هدأتها ورد «لاه متخافيش متفكريش من الأساس رؤوف بيحبك جوي»
همست بوجع حقيقي «عشان بيحبني عايزة أكونله الأفضل»
دخل الحجرة فسارعت بمسح دموعها حين التقت بنظراته المستفهمة «شكرًا يا طنط ربنا يخليكِ ليا»
شعرت ورد من ذبذبات صوتها التي تغيرت وتبديلها الحوار بشيء فأنهت الاتصال مطمئنة لها على وعد بمعاودة الاتصال.
سارع بضمها لصدره قائلًا «كتر خيرها وبارك الله فيها معروفها كبير وجميلها مفيش حاجة توافيه»
تحركت بقلق «هروح أحط الحاجة في التلاجة» أوقفها قائلًا «حطيت كل حاجة ورتبتها اطمني»
لكنها تهربت قائلة «هجهز الفطار يا رؤوف»
سار جوارها متفهمًا تبلغ حيرته أقصاها لكنه بارع في اخفائها «هساعدك يا غزولة»
************
في المساء
سمح لهما أخيرًا بالمجيء جلس أمامهما يستمع لدفاعهما ببرود ونظرة ساخرة لعثمتهما وأربكت حضورهما، استمع بنصف إصغاء لمبرارتهما بينما كانت غزل تجلس على حافة الكرسي جواره واضعة كفها على كتفه، تتابعها عيني طاهر ببعض الإنزعاج والغيرة الحميدة.
راقبه يونس ببسمة ساخرة تعلقت بثغره مقررًا مشاكسته
فهتف لغزل بمكر معلنًا عن غيظه مما يحدث أمامه خاصة وهو يراقب نظرات طاهر المشتعلة باستمتاع «ما تتبطي يا بت يا غزل وتتأدبي مفيش رجالة؟ لازقة فجوزك ليه هو هيطير»
أكد طاهر قوله بنفس الغيظ والحرقة «أيوة وتعالي جنبنا هنا متلزقيش فيه كدا»
نظرت غزل لرؤوف بدهشة قبل أن يصيح رؤوف باستهزاء«الله أكبر هما الشباب غيرانين على أختهم ولا إيه؟»
ذم طاهر شفتيه بحنق فتحركت غزل لمراضاته لكن رؤوف أمسك بكفها مانعًا «هتعومي على عومهم يا متخلفة»
نفضت كفها هاتفة بكبرياء وشموخ «متقوليش كدا»
استرخى رؤوف في جلسته قائلًا «بتتحامي فيهم؟»
انتفض طاهر بحمائية أفرطت يونس من الضحك «أيوة أمال إيه وإياك تضربها»
رمق رؤوف يونس الضاحك بنظرة زاجرة فتوقف ساخرًا «أيوة حتى أختك وشها مصفر وهفتانة »
استفسر طاهر بهمس وهو يهرش رأسه «هو ضربها صُح ولا إيه مجولتليش يعني؟»
تهكم يونس من قوله «هو المخ التخين وراثة يا طاهر؟ » أمسك بوجهه وأشار له ناحية أخته «البعيد مشايفش، طيب بلاش دي مبيفهمش» انكمشت غزل جوار زوجها بخجل وحرج شديد.
زعق رؤوف بنفاذ صبر «ما تحترم نفسك منك له ويلا أمشو من هنا معايزش حد أنا خلاص»
حرر طاهر طلبه كما أعتراضه «أنا عايز أكلم غزل لوحدنا بجالي كام يوم مش عارف أكلمها خالص»
اتسعت عيون رؤوف على ملامحه بدهشة قبل أن ينهض موبخًا «وحياة أمك!»
عاتبته غزل بنظراتها فصحح بسخرية هازئًا من تعليماتها في تهذيب كلماته «وحياة عمتو ولا أقولك وحياة طنط سماسم »
انفجر يونس ضاحكًا مما يقال ويحدث أمامه، نهضت غزل معترضة «أنت بتتريق كمان؟»
تحرك طاهر ناحية أخته مشبكًا كفها بكفه ففصلهما رؤوف مُبعدًا له «روح روّح ياض»
اقترحت غزل بحنو «خليه يقعد معانا يا رؤوف يومين بقالي كام يوم مشوفتوش »
قالتها بتأثر وهي تعانق ملامح أخيها بأسف.
صرخ بها رؤوف «على أوضتك متتكلميش» راقبها طاهر باقتضاب وهو يهتف مهادنًا «خلاص همشي بس متجيش جنبها»
ضرب رؤوف كف بكف في نفاذ صبر وذهول فتدخل يونس «الواد دا لازم يتجوز»
فكر رؤوف في القول بجدية بينما تدخلت غزل معترضة «لا أخويا مش هيتجوز خليه جنبي»
زعق رؤوف بهياج «بره» قالها وهو يمسك بتلابيب طاهر ويجره خلفه حتى باب الشقة، يتبعه يونس يترنح من شدة الضحكات. أخرجهم وأغلق الباب ملتفتًا لزوجته بنظرة متوعدة، ركضت أمامه للحجرة معتذرة له من بين ضحكاتها «خلاص والله خلاص جوزه »
********
في اليوم التالي
همست فيروز وهي تجبر ثغرها الجاف على الانحناء بابتسامة باهتة «كُلي يا طنط أنتِ مأكلتيش حاجة من الصبح»
همست انتصار بانكسار مميت «مش عايزة أكل شبعانة يا بنتي»
حاولت فيروز بإصرار «لا مينفعش علشان العلاج»
أشاحت انتصار بإصرار مماثل وعزم نبضت به أفعالها، تركت فيروز الصينية وطأطأت رأسها بصمت وإرهاق شديد، أخرجتها انتصار من دوامتها بقرارها «فيروز يونس لازم يجي يقعد هنا معانا»
رفعت رأسها بنظرة زائغة تسأل بقلق «إيه؟ ليه؟»
أجابتها انتصار بصرامتها المعهودة وخشونتها الفطرية الذي أثقلتها المحنة «زي ما أثبتوا براءتنا بجوازك منه في القسم لازم يثبته هنا في الحتة بتاعتنا ووسط الناس والجيران»
انتفضت واقفة بنظرة ميتة ذابلة، تمسك بحافة التخت متعكزة عليه بوهن أصاب جسدها وهي تسألها بكرب «يثبته إزاي تاني؟ مش كفاية الي حصل له وليا؟»
هتفت انتصار بحاجبين منعقدين في صرامة «لازم يدخل ويطلع علينا، لازم الجيران يتأكدوا إنه جوزك يا بنتي بعد الي حصل عشاني وعشانك»
أغرورقت عيناها بالدموع وجلست منهكة تدثر وجهها بكفيها في تعب وتوهة، لا تعرف ماذا عليها أن تفعل، ربما هي محقة فيما تطلبه لكنها تخشى لو طلبت منه ذلك؟ يكفيه ما عاناه بسببها وما تجرعه من مهانة لأجلها وكأنه يدفع ثمن شهامته معها. ربتت انتصار على كتفها مناقشة لها ببعض الرفق «يا بنتي لازم»
كشفت عن وجهها الغارق في الدموع قائلة «مش هقدر أطلب منه كده والله يا طنط»
تطوعت الأخرى بالفعل «هكلمه أنا يا بنتي» ازدادت نظراتها ضياعًا في متاهة الوجع، ضمت جسدها بذراعيها هامسةً بتضرع ودموعها لا تتوقف «يارب»
********
وقف رؤوف أمام الشقة منتظرًا إجابة قاطنيها بشموخ لا يليق إلا به
فتحت والدة فيروز الباب مُرحبة به «أهلا وسهلا مين حضرتك؟» قالتها وهي تضع نظارتها الطبية فوق عينيها؛ لتتضح الرؤية ويمكنها اكتشاف هويته، لانت نظرته القاسية واسترخى قليلًا بنظرة مشفقة حنون وهتف بلطف «ازي حضرتك يا أمي»
ابتسمت السيدة بحنان وهي تجيبه برفق «ازيك يا ابني»
عرّف نفسه لها بتواضع متخليًا عن بروده وصلفه «أنا رؤوف الحفناوي يا أمي» تهللت أساريرها وانكبت تصافحه بود وترحاب «يا أهلا يا ابني»
صافحها رغمًا عنه موقرًا ومحترمًا سنها «الحاج موجود؟»
أجابته وهي تأذن له بالدخول «أيوة اتفضل في انتظارك يا ابني»
تنحنح بأدب وهو يدخل غاضًا بصره راميًا السلام، قادته السيدة حيث الحجرة وقبل الدخول اصطدم في طريقه بفهد يجلس فوق أريكة يعقد رباط حذائه وهو يدندن،توقف رؤوف عن السير بنظرة مظلمة ابتسم لها فهد وهتف وهو يقطع وصلة دندنته «ازيك يا متر واحشنا يا راجل»
ابتسم رؤوف مُجيبًا إياه بوقاحة «تشوف كل شر يا حبيبي»
نهض فهد يمسد قميصه قائلًا ببرود «ليه كدا بس يا متر؟ بس أنا مش هزعل أنت أخويا الكبير»
ضيّق رؤوف نظراته قبل أن يحولها لوالدة فيروز قائلًا بتشفي واضح وشماتة تجلت في ابتسامة مغيظة «مبروك لفيروز يا حاجة اتجوزت راجل» قطبت السيدة مستفهمة «فيروز بنتي؟»
أجابها رؤوف وهو ينظر لفهد بتحدي «أيوة هو فهد مقلكيش إنها اتجوزت البشمهندس يونس أخويا»
قالها رؤوف بفخر وهو يرفع هامته بكبرياء وشموخ، ضم فهد شفتيه بنظرة حقد واضحة فضحك رؤوف ضحكة قصيرة والتفت للسيدة قائلًا «وديلها سبوعها بقا يا ست الكل أصلها عروسة ومش أي عروسة دي مرات يونس الحفناوي»ضغط على أحرفه مذكرًا الواقف أمامهما بنظراته التي تنضح غلًا قابلها رؤوف بالاستهانة ودرع الغرور..
سخر فهد بنبرة انتقامية وقحة «بكره يتخلع زي غيره»
لوى رؤوف فمه قائلًا بشماتة «عيب هي كل الرجالة الي تتخلع يا فهد؟! لا هي تقدر تعملها ولا ينفع، دي جوازة للعمر يا حبيبي عقبالك»
هتفت والدتها بنظرة مستجدية وهي تتابع حرب النظرات الدائرة«اقعد يا ابني وفهمني حصل امتى وإزاي »
رأى فهد والده يعبر الممر الضيق متعكزًا على عصاه الأبنوسية بتعب وأنفاس قوية مترددة في الصدر ، أسرع رؤوف لمساعدته ناقمًا على برود ولده وقسوته، منحه الرجل ذراعه مرحبًا بحفاوة «ازيك يا رؤوف ازيك يا ابني»
«ازيك يا حاج طمني عليك» قالها رؤوف وهو يجلسه فوق الكرسي ببطء ثم جاوره.
جلست والدة فيروز قبالهما بملامح متأثرة ونظرة مترقبة مستجدية رؤوف الصامت، تحرك فهد للمغادرة فاستوقفه رؤوف بصرامة «استنى»
استدار فهد بنظرة مستفسرة فالتفت رؤوف لوالد فهد قائلا «بقا ابنك يا حاج لبس بنت عمه وطليقته قضية آداب قالك ولا لاه؟»
ضربت والدة فيروز على صدرها شاهقة ونظراتها تتوجه لفهد بتساؤل واستنكار، هتف الرجل بإرتعاش «قضية آداب؟»
أوضح رؤوف وهي يزرع نظراته بعيني الآخر متحديًا «أيوة اتفق مع ضابط مش تمام ولفقلها هي وأخويا قضية دعارة»
أراح الرجل ظهره للكرسي هاتفًا بأنفاس متقطعة «عليه العوض ومنه العوض»
هدر فهد بنفاذ صبر وهو يراقب بؤس والده وحسرته «لما هي بريئة وأخوك بريء وأنا لبستلهم تهمة أخوك كان عندها بيعمل إيه؟»
التفت رؤوف للوالد موضحًا ببرود وثبات «الست الي فيروز عايشة معاها فعمارتها فمقام خالتنا من بلدنا ومن وقت للتاني بنزورها نطمن ونقضي طلباتها »
اقترب فهد ساخرًا من قوله ومبرره الواهي «وأخوك مقلكش إنه بيروحلها شغلها وبيوصلها»
أجاب رؤوف بنفس الثلجية المربكة والنظرة الناقدة المستهزئة «عادي واحد ومراته يا أخي أنت مالك محشور ليه»
صرخ فيه فهد بغضب «مراته دي اللعبة الي لعبتها علشان تطلعهم لكن متدخلش دماغي»
ابتسم رؤوف مُجيبًا إياه بنظرة باردة «أنا ذنبي إيه إن دماغك صغيرة يا فهود»
ركل فهد طاولة صغيرة بعصبية وهو يصرخ «أخوك استغفلنا ومشي معاها»
أجابه رؤوف وابتسامته المستفزة تتسع «لاه مسمحلكش أنا أخويا مربيه أحسن تربية والدكتورة متربية وبنت ناس يا فهد عيب» قالها رؤوف وهي يهز رأسه متظاهرًا بعتابه على ما قال ثم تابع «أخويا كان عايز يدخل البيت من بابه بشرع ربنا وأنت اتخلعت خلاص، محموق ليه يا فهود يا مخلوع بس، ليك إيه عندها؟»
صاح فهد وهو يقترب منه أكثر في عزم «مش هسيبهاله على جثتي، أنت خدعتنا يا متر»
نهض رؤوف قائلًا بحزمه وشراسته «أنا مخدعتش حد أنا دورت على رجالة تنجد الولايا ملقتش فكنت أنا وأخويا رجالة يا فهد» تحرك رؤوف واضعًا كفيه في جيب بنطاله مستفزًا له «أنت سبتهاله يا فهد ومش بس كده سهلتله الجواز منها وقدمتهاله على طبق من ذهب، بدل ما كانت ممكن ترفض لاه وافقت إجبار بسبب عملتك»
أمسكه فهد من تلابيبه فنزع رؤوف كفيه وخلّص قميصه بعدما دفع قبضتيه مستهجنًا فعلته ببرود «عيب يا فهود القميص جديد ومكوي وأنا محبوش مكرمش»
زمجر فهد في وجهه بحقد وكراهية بينما انشغل رؤوف بتمسيد قميصه معاتبًا «يا أبوي على الغشامة والمخاخ الضلمة عاجبك كده فيه كسرتين اها» ختم رؤوف سخريته الباردة بلكمة وجّهها لفك الآخر بغتتة وضع فيها كل قوته مما جعل فهد ينحني مدثرًا مكان الوجع بتأوه عالٍ.
هتف والد فهد وهنًا وتعبًا بعدما فاق من غفوته الإرادية على صرخة زوجته المذعورة «سيبه يا ولدي»
تخلى رؤوف عن بروده وصاح مهددًا أمام والده «اسمع يا حاج أنا التالتة تابتة عندي وولدك كده وصل للتالته ميقربش من أخوي ومرته بخير ولا بشر وعملته الأخيرة مش هعديها وحق كسرة أخوي وزعله لأردها وأحسره على شبابه»
أسند الرجل خده على عصاه بإرهاق وتعب وانكسار بعدما اندفع رؤوف للخارج تاركًا تهديده يدوي محطمًا الطمأنينة فوق رؤوسهم.
************
وضع الحقائب فوق الطاولة ودخل المطبخ متسائًلا «أنتِ بتعملي ايه مش جولتلك متعمليش حاجة ولا تتعبي فحاجة يا غزل»
التفتت تحييه بضحكتها الناعمة قبل أن تهرول ناحيته وتطبع قبلتها على شفتيه قائلة «قولت أعمل كيك»
سحبها ناحية حوض المياه، غسل لها كفيها وأشار «اطلعي طيب أنا هحطها»
هتفت معترضة «لا يا حبيبي خلاص أنا خلصت»
جفف لها كفيها بالمنشفة ووجهها ناحية الباب «يلا يا غزولة أنا هكمل » سألته بعفوية «هتعرف طيب»
ضحك قائلًا وهو يتجه ناحية فرن الموقد «أمال مين كان بيطبخلي؟ متجلجيش بعرف أطبخ وأعمل كيك وكل حاجة»
عادت إليه مجددًا، تعلقت برقبته قائلة بدلال «دا قبل ما آجي يا متر دلوقت خلاص »
أنزل ذراعيها من على كتفيه قائلا «يلا بلاش غلبة أنتِ عروسة»
هزت رأسها قائلة «أيوة عادي وبعدين فينها العروسة دي؟» تهرّب من سؤالها عمدًا وانحني مقبلًا جيدها بسرعة ثم رفع رأسه عابسًا يحتال؛ ليتخلص من وجودها وترحل دون جدل «غزل ريحتك كلها أكل»تشممت جسدها مستفسرة «بجد»
هز رأسه بتأكيد فركضت للخارج،
تابعها حتى اختفت من أمامه، هو يعرف مدى اهتمامها بنفسها ورائحتها وحرصها الشديد على ذلك حد الهوس أحيانًا.
ضبط مؤشر الفرن ثم صبّ الخليط في صينية مجهزة ووضعها داخل الفرن، عادت إليه من جديد اقتربت منه قائلة ببراءة «رؤوف غيرت أهو شم»
أشار لها لتقترب أكثر ففعلت، دفن أنفه في جيدها مستنشقًا فضحكت قائلة «ايه»
ترك ما بيده وأحاط خصرها قائلا «ما تصبري بتأكد وبعدين مش لو روحنا الأوضة أشم بوضوح»
أحاطت رأسه بذراعيها فاضحة له مكره «لا حاسة الشم مش هتتعطل هنا »
رفع رأسه كاتمًا ابتسامته متظاهرًا بالبراءة « لا أنا بتتعطل في المطبخ عندي»
ابتعدت متجاهلة مكره ترد له بضاعته «أوفة ريحتك» كرمشت أنفها كعلامة الاستياء فهتف بجدية«مالها ريحتي كمان !»
دفعته للخارج ضاحكة «يلا غيّر هدومك وتعالى بسرعة نتغدى»رحل فوقفت بالصالة أمام الطاولة تستكشف ما أحضره، تفتش بين الحقائب وهي تثرثر، حتى توقفت كلماتها عن العبور كما كفها عن البحث، تأملت القمصان الناعمة بحزن عظيم تجلى في نظرة خيبة عميقة وحسرة أرجفت جسدها، شعر بمعاناتها فترك ما بيده وأسرع لضمها، احتواها بين ذراعيه محيطًا لها وبعدها سأل بحنان تزخر به نبرته وتعتنقه لمساته على جسدها مذهبًا «مالك سكتي ليه؟»
ابتلعت ريقها الجاف وسألته بضياع وهي تنكمش داخل أحضانه متدفئة تحمي نفسها من هجمات عقلها بقربه، تشهره سلاحًا فتاكًا في مواجهة هواجسها وخوفها المتجدد «هلبس ده إزاي يا رؤوف؟»
شاكسها بمرح وهو يضم كفها المرتجف «كيف إزاي؟ لو مبتعرفيش أتطوع أنا وأعرفك أو ألبسهولك»
نفخت هامسةً باسمه في عتاب رقيق ممزق بالقلق والتوتر «رؤوف»
صارحته بضعف وهزيمة وهي تستدير بين ذراعيه معانقة تدفن وجهها في كتفه هربًا من نفسها وخجلًا مما ستبوح به رغم طمأنينة نفسها «أخاف ألبسه بجد، أنا يا رؤوف شكلي...»
توقفت بغصة وجع في القلب ترجوه بتشبثها أن يفهم وحده ما تريد قوله
«ماله شكلك؟ خيفاني أشوف الحروق طب ما أنا عارفها وعارف أماكنها ما أنا الي شيلتك علي يدي »قالها بحنو وهو يمسح على ظهرها برقة وتناغم مع أنفاسه التي تحيطها بعناية وتهدهدها بعشق، كلما غزت الطمأنينة قلبها أسرفت في البوح «مش عارفة يا رؤوف بس خايفة أوي»
تأوه بعجز وهو يرفع عينيها له هامسًا بلوعة «نفسي تاخدي عيني تشوفي بيها أنا شايفك كيف؟ والله لو ينفع هديهالك تشوفي وتطمني وتريحي بالك »
أسبلت جفنيها بصمت وتردد كبير قيدها فابتسم هامسًا «بجولك متلبسهمش مش أنا هموت وأشوفك بيهم بس أنت فهدومي أحلى»
رفعت عيناها له ضاحكة برقة فعلّق بمرح «رغم بوظتيلي نصهم بس يلا فداكي»
لثمت خده وابتعدت داعية «أعيش وأبوظلك هدومك وتعيش وتستحملني»
سألها بعتاب «رايحه فين؟»
«جعانه هسخن الأكل يا أوفة علشان ناكل» تنهد بصبر وصل لأقصاه يتقهقر صموده كما صبره أمام رغبته فيها وفي إتمام زواجهما، سحب هاتفه وأغلقه ثم دخل خلفها المطبخ صامتًا يعقد ذراعيه أمام صدره متابعًا لها، نظراته منسجمة معها تركض خلفها بإرادة من قلبه العاشق الذي اشتاق للحظة كهذه تحلّق حوله، سألها وهو يقترب منها «أساعدك فحاجة»
التفتت مبتسمة تهز رأسها برفض «لا يا حبيبي خلّصت»
توقفت نظراتها فوق ملامحه قليلًا مستكشفة، تتأمله على ضوء عينيه، أعادت نظراتها لما تفعل مستعيرة حمرة البندورة التي تقطعها على خديها بعدما اصطدمت عيناها بنظرة خطرة في عينيه،نظرة لملمت أنوثتها المهدرة ، اقترب قائلًا وهو يهرش مؤخرة رأسه بإرتباك وليد رغباته المتأججة «طيب هتتأخري؟» التفتت له ثانيةً هامسةً وخديها يتوهجان بحرارة مصدرها نظراته الخطيرة «لا.. آه.. لا» ضحك قائلًا بإرتباك «آه ولا لا؟» ما باله عاد صبيًا مراهقًا يتودد لنيل رضا حبيبته، وما تلك المشاعر الجديدة التي تغزوه في حضرتها، وهذا الاضطراب والخوف الذي ملأه حين قرر وكأنها أول مرة له، يجاهد نفسه منذ أيام لكنه لم يعد يقدر،رغم جهله بكيفية البدء لتطمئن لكنه استعان بالله وتوكأ على عشقه حتى يصل، قبّلت أنفاسه الثائرة عنقها فارتعشت بإرتباك، تنحنح مجليًا صوته من عاطفته معيدًا ترتيب أحرفه «جهزتي إيه؟»
تركت ما بيدها بسرعة وتحركت مبتعدة تجيبه بحماس ضائع وسط كومة من مشاعر متداخلة ومتشابكة داخلها « كل الأكل الي بتحبه»
بدا لها ضائعًا قليلًا، مشتت ،في عينيه نظرة رجاء متوارية خلف سحابة قلق، ابتسمت وهي تراه يهرش مؤخرة رأسه كثيرًا كتلميذ متردد في مصارحة حبيبته،بينما أنفاسه الحارة تحمل لها رسالة غرام .
استدارت من جديد تحاول التركيز على ما تفعل لكن هيهات، حركته حولها ونظراته التي تشعر بها تلمسها بنعومة تفسد خططها كلها وتنشر الفوضى بأفكارها، ماذا تفعل؟ هي ضائعة مثله تمامًا تخجل وتخاف، بين شعورين كلاهما مُربك يصيب أفكارها بالفساد.
خلفها كان هو يشجع نفسه على المغامرة، يريدها ولن يتنازل أو يؤجل يومًا واحدًا، كيف يفعلها وهو بكل هذا التوق؟ من أين له بالصبر عليها ولو لساعة واحدة؟ انتهى عهد التريث وولى زمن الصبر، خبراته القليلة لا تسعفه اللحظة، كما أنه لن يرضى بالقليل منها، ليس هي من يرضى بقليلها وإن كان مُشبعًا لقلبه التوّاق، يريد قربًا مكتملًا حلم به معها، لا أنصاف، لا قبول تحت طلب الرغبة والحاجة.. يريد شغفًا يمسح سنينه العجاف، لكن كيف له ذلك؟ ولماذا هو مرتبك هكذا؟ لا يريد تخطيطًا يدمر اللحظة كما كان يحدث في زواجه السابق، ولا يرغب في تمريرها سريعًا كأنها واجب ثقيل، هي حبيبته، عشقه الوحيد، لن يقبل منها إلا الكثير ويريد منحها أكثر وتعويض كل ما فاته معها وحدها.
سقط من كفها طبق ٍفانتفض قائلا «خير متقلقيش»
لملم بقاياه وشظاياه المتناثرة ورماها داخل سلة القمامة متنهدًا، يذكره الموقف بمحاولات العشاق في كتابة رسالة لحبيباتهن، رسالة تليق بهن وتصف ما يشعروا به، هو كذلك يريد قربًا بمذاق مختلف ونكهة تشبه عشقة وتصفه، انتهت من تجهيز الفطور فنبهته «رؤوف يلا»
إنه حتى لم يرقَ لمراهق بليد فاشل، تنهد بضيق وهو يعود ببصره لها. حرّكت طبق الحساء الساخن بسرعة فتناثرت محتوياته على كفها مما جعلها تسحبها بسرعة متأوهة، اقترب ساحبًا له يعاينه لائمًا بعفوية «مش تاخدي بالك يا بابا» رفرف قلبها بين جنباتها حين نطق بها، استشعرت فيها مذاقًا جديدًا ومختلفًا، مميزًا مثله.. رغمًا عنها ابتسمت مرددة ببلاهة «بابا»
رفع نظراته أسيرًا لرقتها، مرتجفًا من نعومة همسها وابتسامتها الساحرة ولمعة عينيها الأخاذة، تذكر حلمه بها، تشابكت نظراتهما وهي تحرك شفتيها متلذذة بنطقها كأنها أخيرًا وجدت ضالتها ورست سفنها، منحها دون جهد منه أو انتباه وصفًا غرقت فيه فكانت الهمسة الثالثة لكلمتها ومستقر حروفها بين شفتيه، يأخذ السحر ويصنع اللحظة، منحته البداية فمنحها أروع النهايات وأكثرها إرضاءً لعاطفته وأنوثتها الجريحة، بحبر عاطفته خطّ على أوراقها ملحمته الخاصة، وحكايته، قدّم مشاعره قربًا في محرابها، واستعاد معها مجد رجولته المهدرة، أزال الغبار عن أمنياته المخبوءة، المتناسية، نال حقه فمنحها حقًا يليق بها، فهم خوفها واحتواه كما احتواها بين ذراعيه، ضمد جروح أنوثتها ورمم روحها،
غازلها دون توقف، سكب مشاعره بإفراط ودون حذر، حتى نسيت حروقها التي تخجلها فأي تلك التي تقف أمام طوفانه؟ بادرت بالقليل الخجول رفقًا بقلبه الذي يحمل الهواجس كالأحجار.
توسلها ألا تخشاه فأغرقته بعاطفتها وأذاقته ما حفظته له متقبلة ومانحة برضا تام مذكرة نفسها بأنها هنا أخيرًا في مكانها الآمن.
********
بعد مرور وقتٍ طويل
همس وهو يميل مستكشفًا بنظراته حالتها «غزل نمتي؟»
همست بصوت مبحوح «لأ منمتش»
اعتدل قليلًا مستنداً برأسه على كفه متأملًا ملامحها بعد ما حدث بينهما «مش هتاكلي؟»
سحبت الوسادة ووضعتها فوق رأسها مختبئة منه، فسحبها برفق قائلًا بضحكة قطعتها قبلاته المتناثرة فوق وجهها « جومي يا غزولة أنا جوعت والأكل برد أكيد»
سحبت الوسادة مرة أخرى قائلة بخجل «قوم سخنه لوحدك أنا سخنته مرة خلاص»
ترك الفراش بضحكات خافتة مستمتعة وتحرك ناحية المطبخ لتنفيذ ما طلبته منه، سحبت الغطاء فوق وجهها متنهدة، تنكمش بخجل كلما تذكرت اللحظات الفائتة وكيف عاملها برفق و أغرقها بحنانه فتلاشى خوفها وتناست أمر حروقها مذيقةً إياه عشقًا يليق به.
عاد حاملًا صينية الطعام بين كفيه، اختبأت أكثر تحت الغطاء، وضعها ممازحًا «هتختفي تروحي فين؟»
أغمضت عينيها هامسةً بصوت مرتجف خجول«مش هاكل ماليش نفس»
سحب الدثار من عليها وجذبها ناحيته هامسًا «مينفعش متحسسنيش بالذنب وإني السبب مخلتكيش تاكلي»
اعتدلت مرغمة فقبّل خدها راضيًا وقرّب منها الطعام، ملأ الملعقة بالأرز وقربها من فمها هازًا حاجبه «يلا»
تناولتها بصمت ورغبة في الاختباء والانزواء بعيدًا عن نظراته التي تحيطها الآن بلمعة جديدة مبهرة «رؤوف متبصليش»
قالتها بتوتر وهي تدير جسدها قليلًا مخبأة وجهها بين كفيها، حمل الصينية وأعادها للأرض قائلًا بدهشة «أبص للحيط طيب؟»
سحبت الغطاء فوق جسدها عائدة لمخبأها من جديد، دخل تحت الغطاء، وسحبها؛ لتستقر بأحضانه هامسًا «مش لازم، أكلنا كتير مش مشكلة»
لم يكن هو بأقل منها دهشة، دهشة خبأها عنها حتى لا يشعرها بالخجل أو الحرج أو تخطيء في تفسيرها، الرقيقة منحته عاطفة لم يكن يعرف بوجودها ولا يؤمن بإستحقاقه لها، أذاقته من كأسها شرابًا لم يذق مثله من قبل، لملمت العمر الضائع من على أرصفة الخذلان، احتوت ما تبعثر وتناثر من مشاعره وعاطفته في سنين العمر تحت الأقدام، نفضت عنها أتربة الهجر والنسيان، دللتها كما لم يفعل أحد، وعانقتها، صنعت منها لنفسها ما ترغب وتريد متباهيةً بصنيعها فجادت أرضه بكنوزها، تمنى اللحظة وهو يضمها أن يعمر بين جوانحها، أن يقيم بين ذراعيها؛ لينهل من قربها ويرتوي، يرمم الروح ويداوي النفس، يزيل بهواها آثار الندوب ، يلملم ما تناثر من العمر بين راحتيها ويغتسل في نهر حبها من أوجاعه وخذلانه المر، أن ينهل من أنفاسها الكثير الذي يطرد به عن صدره وحشة فراقها وينير عتمة القلب بعد غيابها، قربها يجلو القلب و يمحو من قاموسه كل انتقاص في النفس وكراهية نفثتها آيات في صدره وخوف فتت قلبه، قبولها أعاد له اتزان قلبه وتدفق مشاعره، عادت الحياة لشرايينه و أزهرت بأنفاسها.
شعرت بالندم فهمست بحياء «قوم يا رؤوف ناكل خلاص»
همس بخبث وهو يكتم ابتسامته «أنتِ ندمانة يا غزل؟»
تميزت غيظًا من قوله فنهضت منتفضة تهتف «والله! فاكرني مفهمش بتتخابث عليا»
أفلت ضحكاته فضربته بالوسادة في حنق شديد اعتدل جالسًا يضمها لصدره مباركًا لها ولنفسه «مبارك يا أم الغايب وأحلى عروسة في الدنيا والله»
انكمشت بأحضانه صامتةً بخجل فلثم رأسها حامدًا الله داعيًا لهما بالبركة.

