اخر الروايات

رواية عزف السواقي الفصل الخمسون 50 بقلم عائشة حسين

رواية عزف السواقي الفصل الخمسون 50 بقلم عائشة حسين 



الخمسون
هتف فيه بحزم «قوم يا بابا اسند ضهرك وارفع راسك ما عاش الي يكسرك ولا يحنيك وأنا عايش» نظر إليه يونس بامتنان قبل أن يعانقه بقوة كما الصغار، تعلّق بأحضانه معتذرًا مستنجدًا بعاطفته ومحتميًا بمحبته الحقيقية، ربت رؤوف على ظهره كاتمًا تنهيدة وجعه وحاجبًا عنه حزنه يشد أزره ويدعمه بما استطاع من قوة، لا يُظهر له خوفه وقلقه بل يقف صلبًا كجدار ينتظر الإتكاء عليه، جبلًا يدعمه ليتخطى ولا ينهار.
ابتعد عنه قائلًا بحنان وفير«متخافش»
طأطأ يونس رأسه مخفيًا عنه دموعه الحبيسة المتلألأة فرفع رؤوف له رأسه مشددًا بحزم «ارفع راسك وحط عينك فعين التخين يا واد أنت معملتش حاجة»
أفصح يونس عما يقلقه أكثر ويثقل كاهله «فيروز؟»
ربت رؤوف على كتفه داعمًا ومطمئنًا «متخافش ربك هيدبرها يا ولدي متشلش هم حاجة دلوك واهدا»
عاد يونس للجلوس جوار الشرطي فتنهد رؤوف بحزن يشق الصدر وهو يرى أخيه بتلك الحالة وهذا الانهزام، تأجج الغضب داخله فتوعد فاعلها بالدمار وسحقه لما فعله بأخيه، ما إن دخل على الضابط حتى ضيّق عينيه عليه متذكرًا له، سرعان ما انقشعت غمامة الجهل وأدرك «رؤوف بيه الحفناوي يا أهلا، مصدقتش لما قرأت اسم أخوك معقول؟»
لوى رؤوف فمه قائلًا «معقول يا جواد باشا دا دلوقت بقت معقول»
ابتسم الأخر مستخفًا بكلماته ثم هتف «طلّع أخوك منها عشان شكلك هيبقى وحش وعامة أنا هوصيلك عليه»
قالها بتهكم فابتسم رؤوف برزانة مُصدرًا له ملامحه الباردة اللامبالية وقال «هيطلع بإذن الله أوعدك يا باشا كتر خيرك»
اتكأ الآخر على كرسيه قائلًا «تمام»
خرج رؤوف من مكتبه بجحيم غضبه وتوعده الذي أخفاه سريعًا حين التقت نظراته بنظرات يونس، ابتسم مشيرًا له بالصبر والصمود مانحًا له شربة اطمئنان هانئة من عينيه وابتسامته المرتاحة..
أُخذ من أمامه فأشاح ضائقًا برؤيته مُكبل يُجر جرًا أمام عينيه، صغيره الذي رباه على الكبرياء ينهار أمامه ، أخيه الذي بالغ في تدليله يجرّ ذليلًا، مهانًا بتهمة بشعة لطخت كبرياؤه وأخذت من كرامته وأحنت هامته الشامخة.
لكم الحائط يود الإنفجار والصراخ لكنه التقط أنفاسه وتحرّك للخارج محاولًا الاتصال بزين.
رأى طاهر جالسًا بالخارج مهمومًا حزينًا بائس النفس، منطفيء فسارع بالاقتراب منه «طاهر ليه جاعد كده؟»
وقف طاهر مستفسرًا بلهفة باحثًا في ملامح رؤوف عن طمأنينة «عملت إيه؟ يونس هيطلع يا أخوي؟»
ابتسم رؤوف بحنو قائلًا بهدوء ووقار «ايه يا متر هو أنا الي هجولك إنها مدبرة؟ وإنها سهلة بإذن الله؟»
صارحه طاهر بنظرة ضائعة أوجعت رؤوف «خايف على يونس يا أخوي جوي»
لم يجد رؤوف أمام نظرات طاهر الضائعة وحزنه إلا أن يعانقه مهدئًا له محتويًا خوفه وجزعه، ابتعد قليلًا قائلا بمرح
«رجعتوا عيال صغيرة ليه؟ اهدا ياواد واجمد أنا مربي رجالة »
«هتعمل إيه وناوي على إيه؟» قالها طاهر بقلق كبير سرى في دمائه فابتسم رؤوف مشاكسًا ليخفف عنه حزنه ويطمئن فؤاده «مالكش فيه عاد؟ » ثم قال بجدية «تعالى أوصلك البيت دلوك ارتاح ومتشلش هم»
هتف طاهر بإصرار «لاه هكون معاك رجلي على رجلك مش هسيبك»
عبس رؤوف برفض متذكرًا زوجته التي تمكث معه لا يريده أن يتركها وحدها ولا أن تبيت دونه في مكان لا تعرفه، منذ أن رآه بالخارج وهو قلقًا عليها ولا يريد أن يتشتت تفكيره في كل اتجاه ولا ينقسم عقله في ناحيتين يكفيه قلقه على يونس «لاه روّح واطمن يا بابا هروح لزين ونشوف »
رفض طاهر فسحبه رؤوف من كفه وأدخله السيارة عنوة قائلاً بحزم «اسمع روّح دلوك سواد الليل بس والصبح هكلمك»
رضخ طاهر حين رنّ هاتفه باسمها، تذكر كيف تركها تقاسي قلقها وخوفها منذ أن أبلغها بما حدث، ابتلع ريقه مُفكرًا في أمرها، هل يخبر أخيه اللحظة أم ينتظر حتى تنقشع الغمة؟ هو يعرف رؤوف لن يمرر أمر ظهورها وبقائها معه فلن يثقل عليه بحدثين ثقيلين على نفسه، سينتظر حتى تفك أصفاد يونس ويطمئنوا عليه وبعدها سيفعل ما بوسعه للتوفيق بينهما.
«رد على تليفونك» قالها رؤوف وهو ينظر للطريق أمامه، يعرف أنها هي، النغمة التي صدعت أوشت له بهويتها، قلبه الذي دق بقوة الآن عرفها، لو يمكنه الذهاب إليها ووضع رأسه المتعب على كتفها؟!
شعر طاهر بالحرج فأجابها «أيوة، أنا جاي، كويس» نظر للجالس جواره مُجيبًا «مش عارف كويس ولا لاه، لاه جاي»
أنهى الاتصال وصمت مطرقًا بضيق فتنهد رؤوف بصمت مماثل، وصل طاهر فترجل مودعًا له،أغلق محرك السيارة وظل مكانه صامتًا يضع رأسه على مقود السيارة بإنهاك، أغمض عينيه سابحًا في خيالاته وأمنياته المؤجلة، هو اللحظة في حاجة إليها، يشتهي عناقها كما لم يشتهيه من قبل لذلك سيكتفي بالمكوث قليلًا بالقرب منها.
بالأعلى اندفعت ناحية أخيها معانقة تسأله بلهفة «يونس عمل إيه»
سحبها طاهر وجلس بها قائلًا «لسه يا غزل»
مسحت عينيها من الدموع المتعلقة بأهدابها وسألته بقلق «ورؤوف يا طاهر؟ كويس؟ أكيد تعبان»
طمأنها بحنو «كويس يا غزل اطمني»
شردت قائلة بمعرفة «بيبين إنه كويس علشانكم بس هو أكيد تعبان»
صمت طاهر بوجوم، فتحركت ناحية الشرفة تتستنشق الهواء الطازج، نظرت للأسفل فوجدت سيارته واقفة وهو على كرسيه يضع جبهته فوق المقود بتعب، انقبض قلبها وهي تراه هكذا منهك وتائه، أمسكت بهاتفها مقررة ارسال رسالتها المتأخرة، حسمت النزاع داخلها لصالحه وأرسلت تريد أن تكون جواره ولو بالقليل، قريبة منه اللحظة ولو برسالة تحمل له لهفتها عليه
«ياللي أمر من بعدك لقاك ياللي أمر من هجرك رضاك
يا غربتي وانت بعيد عني يا غربتي وانت قريب مني
يا حب اقول له ايه يا حب اسامحه ليه
دا العذاب هو الي يسامحه والسهر هو اللي يسامحه
والدموع هي اللي تسامحه
كل دا وقلبي الي حبك لسه بيسميك حبيبي»
أرسلتها ووقفت تنتظر رد فعله، تتابع بنظراتها حالته التي لم تتغير ووضعه الثابت، ظل على حاله فغادرت الشرفة تخبر أخيها «طاهر رؤوف لسه تحت وشكله تعبان انزل شوفه»
انتفض طاهر قائلًا بقلق «لسه تحت؟»
هرول طاهر بسرعة بينما غادرت هي للشرفة تتابعهما من الأعلى بحذر، طرق طاهر نافذة السيارة فرفع رؤوف رأسه «انت كويس يا رؤوف»
قالها طاهر بلهفة حينما فتح زجاج النافذة فأجابه رؤوف بوهن «أيوة متقلقش»
حانت منه التفاتة لما ورائه فالتقت نظراتهما لثواني معدودة ارتجف كلاهما فيها بعدما سرى في جسديهما تيار الشوق والعشق، انحنت للأسفل بسرعة بينما كتم هو ابتسامته ونظر أمامه قائلًا وهو يحك ذقنه «تصبح على خير يا طاهر»
منحته النظرة العابرة القصيرة الكثير من الطمأنينة والرضا، سرى بداخله شعور خطير بالنشوة بعدما أسكرته نظرة عينيها العابرة، انطلق بسرعة عائدًا لمكتبه مقررًا المبيت فيه..
بعد قليل كان يتمدد فوق أريكة جلدية فخمة داخل مكتبه، هي من رأته إذًا وأرسلت له طاهر؛ ليطمئن ويطمئنها ابتسم مغمض العينين بإسترخاء قبل أن يفتحهما ويعتدل ممسكًا بهاتفه يفتش فيه باحثًا عن شيء طرق خاطره..
لم يخب ظنه ولا افتراضه ها هي ترسل له فهمس بتنهيدة «كل ده وقلبي الي حبك لسه بيسميك حبيبي»
ترك هاتفه ونهض متجهًا لمكتبه متحمسًا بطاقة جديدة ونظيفة للعمل مؤجلًا أمر الرد عليها حتى يطمئن على أخيه، حضر زين إلى المكتب بسرعة جلس حول الطاولة الواسعة في منتصف الحجرة لاهثًا «أبو معرفتكم السودة حد يكلم حد يوم الخميس»
قطب رؤوف حاجبيه مستفسرًا وهو يقدم له زجاجة عصير من الثلاجة الصغيرة المجاورة لمكتبه «لو جبتك يوم تاني هيبجى عادي»
أجابه زين بضيق«أيوة طبعًا»
لوى رؤوف فمه يتهكم من قوله فهتف زين بابتسامة ساخرة «هقول إيه ما أنت قفل وكمّلت عليك اختياراتك الزفت»
صمت رؤوف حتى ينتهي من توبيخه والرثاء الذي لا ينتهي، تجرع زين زجاجة العصير وهتف «روحت وصيت عليه وكلمته بس مفهمتش إزاي ده حصل؟»
جلس رؤوف على رأس الطاولة موضحًا «بيقول الست انتصار الي فيروز ساكنة معاها كلمته وطلبت منه ييجي علشان عيزاه فخدمة فراح هو ورجب، الست أصرّت يقعدوا يتعشوا بعد شوية الشرطة جات وأخدتهم لإن في ناس بلغت إن الشقة مشبوهة وصاحبتها مدوراها»
تأفف زين لاعنًا يلومه «كان لازم أخوك يروح؟ مش موضوعها اتقفل؟»
تنهد رؤوف قائلًا بنفاذ صبر «الي حصل خلّص بقا وخلينا نشوف هنعمل إيه قبل ما المحضر يتقفل ويروح النيابة»
«يتجوزها» قالها زين بسخرية متندرًا من الموقف والمأزق، فهتف رؤوف مستحسنًا الاقتراح «يا ابن اللعيبة هو ده فعلا»
هرش زين فروته قائلًا بدهشة«إيه ده أنا كنت بتريق»
ابتسم رؤوف قائلًا «بس فمحله»
نهض زين قائلا بعجالة«يعني خلاص أروّح؟»
جذبه رؤوف من ذراعه قائلًا وهو يهز حاجبيه باستفزاز «متحلمش هتجعد معايا لغاية ما نخلّص كل حاجة»
سأله زين بابتسامة وهو يعاود الجلوس «أخبار غزالك إيه؟»
زفر رؤوف قائلًا «ركز دلوك معايا دورها جاي الغزالة»
سحب رؤوف ورقة بيضاء وقلم قائلًا «نكتب الأول ورقة عرفي ونمضيهم عليها»
سأله زين بحمق «هنعرف نمضيهم؟»
ابتسم رؤوف ساخرًا منه «بجا زين باشا مش هيعرف يخدمنا فيها دي أخس وأنا الي فاكرك يا ما هنا يا ما هناك»
هتف زين بإدراك لنواياه «بتثبتني يا حفناوي بس ماشي»
قهقه رؤوف ثم توقف غامزًا له «يلا يا باشا نلعبها بحرفنة»
سأله زين بنظرة ماكرة «وجواد وفهد؟ »
أجابه رؤوف بنظرة لامعة بالحماس «نكمل احنا اللعبة الي بدأوها معاهم»
اتسعت ابتسامة زين وهو يفرك كفيه ببعضهما متحمسًا للأمر.
***********
داخل قسم الشرطة هتف رؤوف برفق وهو يتأمل ملامحها الذابلة بأسف «مش بنجبرك يا دكتورة بس دِه الحل الوحيد للورطة دي»
ضمت جسدها بذراعيها هامسةً وهي تنظر للبعيد بنظرة فارغة مستسلمة للأمر «تمام يا متر الي تشوفه»
صمت رؤوف بحزن ثم مال بجذعه هامسًا بعدما رق لحالها وأشفق عليها من معاناتها «شدي حيلك واجمدي كان لازم تتوقعي إن فهد مش هيسيبك وانكسارك دلوقت هو دا الي هو عايزه»
نظرت إليه بعينيها المغرورقة بالدموع بتوهة وشتات قبل أن تهمس بارتجاف «فهد الي عمل كده؟»
هز رأسه مؤكدًا قوله فأغمضت عينيها تاركة سماء عينيها تمطر بغزارة، أشاح رؤوف بضيق مستغفرًا لاعنًا قبل أن يعود إليها قائلًا «متقلقيش شدي حيلك بس ومتديهوش الفرصة»
صارحته ببكاء لم تعد تستطع كبحه ولا منعه «دي مصيبة يا متر مش عارفة هتصرف إزاي فالي جاي، تعبت والله تعبت»تماسكت بقوة أمامه فتنهد رؤوف بإشفاق قبل أن يمنحها مواساته نورًا تسير خلفه «اهدي قدام القانون والناس هتكوني مرات يونس التهمة باطلة
شخصت عيناها من وقع الجملة، ارتجفت مطبقة شفتيها ببؤس حارق لإنتهاء أمرهما بهذا الشكل المخزي.
لما عليه أن يتحمل؟ منذ عرفته وهي مصدر قلق لهما وإزعاج له وبشرة سوء، غطت وجهها لا تعرف كيف تترجم مشاعرها ولا تصف ما بداخلها،بكت بإنهيار معتذرة لهما «أنا آسفة ليكم كلكم والله» أخرج لها رؤوف منديلًا ورقيًا ومنحه لها قائلًا «اهدي يا دكتورة وقولي يارب»
نظرت إليه من خلف كفيها بوداعة قبل أن تهمس بتضرع شديد توسل «يارب»
انتهى رؤوف مما يريده وخرج مثقل الصدر بعدما فشل في تهدأتها، مختنق برئتين متكدستين بالهم لأجل تلك المسكينة ومعاناتها التي لا تنتهي عند حدٍ، واصل العمل بسعي دؤوب وهمة عالية حتى نال ما سعى إليه وتم تحويل العقد العرفي الذي كتبه لزواج رسمي ليثبت به أنها زوجته فتم الإفراج عنهما
خرجت فيروز تتعكز تتأبط ذراع انتصار لا تلتفت للذي لا ينظر لسواها منذ أن فك أسره، بينما كانت انتصار منهكة واجمة لا تقل عنها وجعًا وخزيًا ففكرتها الطارئة تحولت لكابوس ستلاحقها مشاهده أبد الدهر،
صعدت فيروز السيارة معهم دون جدال أو مناقشة، زائغة البصر واهنة الروح مستسلمة أخيرًا للأقدار، لا تعاند ولا تفرد شراع قوتها الممزق للإبحار في الحياة المظلمة، متقبلة الغرق وسكن الأعماق الموحش.
*******
غارقة في بؤسها الخاص، منعزلة وصامتة، وحيدة وبائسة تنظر للعالم حولها بخواء غريب، نظرة فارغة مذبوحة.
توقفت عن العمل لأنها لم تعد تقدر عليه ولا تملك الطاقة له، عقلها غائب طوال الوقت وذهنها شارد ومطاردة طوال الوقت من أفكارها اللعينة وهواجسها التي لا تنتهي، الأيام ثقيلة دونه والقلب فارغ مما يعدل ميزان النفس، علا صوت آذان الفجر فنفضت عنها رداء الكسل بإستعاذة وتحركت للخارج بعدما دثرت صغيرها جيدًا وقبلته بحنو، اتجهت ناحية الصنبور وفتحته استعدادًا للوضوء، صوت الباب الخارجي أرعبها فانتفضت مغلقة الصنبور هرولت للمطبخ باحثة عن سلاح تحمي به نفسها اللحظة من هجمات العدو المتربص، ارتدت خمارها وخرجت ممسكة بالنصل الحاد، وقفت أمام الباب تستمع لهزاته بقلق ولأنفاس ضجر الفاعل برعب، وضع مفتاحه وأعاد المحاولة بأمل لكنه فشل فزفر بإحباط جعلها تهمس مستفسرة بقلبٍ مرتجف «مين؟»
هتف بلهفة رغم إحباطه من أن يفلح بمفاجئتها بوجوده «أنا مؤمن يا هدى»
ضحكت بتوتر وهي تلقي النصل من يدها بعيدًا وتندفع للباب بلهفة «مؤمن؟»
رغم يقين سمعها وقلبها المرتجف في حضرته صاحب شهادة الحق بقربه منها إلا أنها كررت السؤال فهتف مؤكدًا «أيوة يا أم عبدالله»
ما بين البكاء وضحكات السعادة فتحت بابها الموصد كما روحها لاستقبال الغائب، انتظر بلهفة حتى أطلّت فنظر إليها مليًا بشوق قبل أن يندفع للداخل مغلقًا خلفه، استند بظهره للباب لاهثًا يتأملها بدقة قبل أن يجذبها لأحضانه محيطًا لها بذراعيه، ما إن استقرت داخل أحضانه وأحسّت بنبضات قلبه، حتى انفجرت في بكاء قوي أسقطت به آخر رايات قوتها المزعومة التي اتخذتها درعًا حاميًا في غيابه، أبعدها يبعثر قبلاته على وجهها هامسًا «وحشتيني»
استسلمت لشوقه الجارف ولفيض حنانه الذي أغرقها حتى توقف هامسًا بنظرة ضمتها «عاملة إيه طمنيني عليكي؟»
أفاقت هامسةً وهي تتلفت خلفها «تعالى نطلع فوق الأول حنين نايمة جوه»
أومأ متفهمًا قبل أن يسحبها من كفها ويصعد بها للأعلى، دلف لشقتهما ثم أغلقها خلفه، تأملته بنظرة تنضح عشقًا وفرحة قبل أن تقترب وتعانقه تلك المرة بشوق جارف فابتسم وضمها بقوة «حمدالله على سلامتك يا مؤمن نورت»
ابتعد قليلًا محيطًا وجهها الباهت بكفيه هامسًا وهو يتأمل ذبولها وشحوبها بقلق «عاملة ايه؟»
هبطت نظراته لبطنها مستفسرًا وهو يضع كفه عليها بحنو مستفسرًا بدهشة «والحمل»
ازدردت ريقها وأجابته وهي تنكس رأسها بأسف «سقط يا مؤمن»
فغر فمه مصدومًا متفاجئًا يسألها بدهشة «سقطتي متى وكيف؟»
رفعت نظراتها الواهنة هامسةً بصوت مبحوح مترجٍ «ارتاح الأول وهحكيلك»
عاد يضم وجهها بكفيه هامسًا بحنانه الغزير ورفقه المعهود «المهم أنتِ كويسة؟ حاجة تعباكي؟»
أحاطت بطنه بذراعيها واضعة رأسها المتعب على صدره هامسةً ببكاء «أنا مش كويسة يا مؤمن»
«بعد الشر عليكي» قالها بلهفة وهو يضمها لصدره بحنان وعطف و يمسح على رأسها برفق.
بكت معتذرة له «سامحني معرفتش أحافظ عليه، غصب عني يا مؤمن والله» قال متفهمًا برفق مهونًا عليها الأمر«الحمدلله إنك بخير لله ما أعطى ولله ما أخذ»
ثم سألها وهو يجلس بها فوق أقرب أريكة قابلته «عشان كده كنتي متغيرة ومبتكلمنيش كتير وقافلة»
صمتت متنهدة تجتر ما حدث داخل عقلها لا تعرف بأي حدثٍ تبدأ وماذا تقول، وجدت نفسها ترفع رأسها وتسأله «مجولتش ليه إنك جاي»
ابتسم مُجيبًا وهو يداعب أنفها بأنفه في رقة «مفاجأة»
عادت رأسها لاستقرارها فوق صدره متنهدة برضا ، قبل أن ترفع رأسها متأملة له من جديد متحسسة وجهه بأناملها الرشيقة، وكلما انتقلت لموضعٍ في وجهه تركت الآخر مليء بالقبلات.
**********
في الصباح
جلس الصغير بحجر والده يتأمل ما أحضره خصيصًا لأجله، قبّل مؤمن رأسه وداعب خصلاته فرحًا بفرحة الصغير، مبتهجًا لإرضائه ولو بالقدر اليسير، بينما كانت هدى شاردة حاضرة في مكان آخر لا تعرف له بوابة خروج، عينيها مثبتة على جسديهما ببسمة متصلبة على شفتيها، لاحظها مؤمن فترك صغيره يلعب ونهض متجهًا نحوها وقف أمامها مستفسرًا «مالك؟»
اتسعت ابتسامتها وهي تنظر إليه بقوة محركة شفتيها بخفوت «وحشتني» قالتها ثم ارتمت بين ذراعيه من جديد، ضمها مؤكدًا على شوقه لها هو الآخر، رنين هاتفها أخرجها من كنفها الآمن، عادت لأمواج الحياة المتلاطمة، ابتعدت عنه لتُجيب تحت نظراته القلقة والمتابعة لحالتها واهتزازها الغريب، يلوم نفسه كلما شاهد توترها الواضح وشرودها الغريب وكأنها في عالم آخر.
أنهت الاتصال وجلست منهكة فجاورها هامسًا وهو يجذبها لأحضانه المتعطشة لها دائمًا «مين؟»
أجابته بتنهيدة ملتاعة «المستشفى بيجولولي آيات بتصرخ زي عادتها»
هتف بدهشة عظيمة «آيات؟ ليه؟»
شعرت أنّ الوقت مناسب لتحكي؛ لتتخفف من حمولتها؛ لتنجو من براثن الوحدة والكتمان المقبض.
من بين شهقاتها وأنفاسها المتسارعة حكت له ما حبسته عنه، قصّت عليه من أنباء ما قد كان وهي ترتجف بين ذراعيه مستعيدة الشعور، تتجرد من قوتها الزائفة في أمان، واثقة من أنه سيدعمها ولا يتخلى، احتفظت بجزء منه لنفسها لا يمكنها مشاركته إياه على الأقل حاليًا.
عاتبها عتابًا رقيقًا مترفقًا بها عندما أدرك ما عانته في غيابه «كده متجوليش؟ متحكيش؟»
انكمشت مبررة ببكاء مرّ «كنت خايفة عليك، مكنتش عايزة أبوظ علاجك وعمليتك عشان خاطر أهلي والأستاذ رؤوف كتر خيره مسبناش»
مسح على ذراعها قائلًا «كتر خيره ابن أصول»
قبّل رأسها معتذرًا لها عن غيابه عنها وتركها وحدها تعاني.
فتنهدت برضا وارتياح وهي تشدد من احتضانه
*******
بعد مرور ثلاثة أيام
جهز رؤوف الطعام وصفّه مناديًا «يونس» خرج يونس من عزلته مُجيبًا بوهن «أيوة»
ابتسم رؤوف مشجعًا له بلطف وهو ينظر إليه بتمعن «تعالى اتغدى»
رفض يونس «مش عايز آكل»
هتف رؤوف منزعجًا من حالته «اسمع الكلام وتعالى متناهتش»
تحرك يونس ناحيته بزفرة ملل، جلس متربعًا جواره ينظر للطعام بقلة شهية رغم اجتهاد أخيه في صنع ما يفضله من أطعمة ويحبه من مأكولات، فاق على لكزة من رؤوف يشجعه بمنحه رغيفًا من الخبز «خد يلا وسمي الله»
رفع يونس رأسه باحثًا بنظراته عن آخر غائب «فين طاهر؟ بيختفي كتير»
توقف رؤوف عن الطعام ناظرًا لأخيه بدقة وإمعان يستشف من ملامحه صدق جهله بمعرفة مكان طاهر ثم أجاب بنظرة ثاقبة واقفة فوق ملامح أخيه«مش عارف مجاش من عند صاحبه» على ذكر الصديق شعر رؤوف بالقلق من اختفاء طاهر اليوم على غير عادته، فنفض كفيه وسارع بمهاتفته في قلق لم يفصح عنه، حين أجابه سارع بلهفة «فينك؟»
أجابه طاهر وهو يتحرك من جوار أخته «كويس»
سأله رؤوف «مجتش ليه؟»
نظر لأخته التي تسير خلفه متتبعة، سحبت من أذنة سماعة فعاتبها بنظراته العطوف على طفوليتها، استمعت لسؤال الآخر «طاهر مجتش ليه أنت كويس؟»
تنهدت بهيام وهي تستمع لصوته الذي أحيا بداخلها الكثير من الذكريات، أجابه طاهر بإرتباك «أنا كويس يا حبيبي هاجي»
ابتسم رؤوف قائلًا بحنان «ماشي يا بابا راعي لنفسك وسلّم على صاحبك ولو ينفع جيبه معاك» غمغمت بتهور واندفاع وهي تعيد السماعة لأذن أخيها «أنا صاحبك؟ » كتم ابتسامته حين وصله همسها المعترض، رق قلبه واختلج بمشاعر كثيرة حاول مدارتها عن عيني يونس الصامت ببؤس بينما كمم طاهر فمها محذرًا يلعن تهورها «هستناك» قالها رؤوف محاطة بتنهيدة متأثرة فأجابه طاهر «حاضر جاي»
أنهى الاتصال وتابع رؤوف تناول طعامه بلا رغبة، يلوك الطعام بين فكيه بقلة شهية بعدما استمع لصوتها الذي اشتاقه وأصاب قلبه بوحشة فراقها وهجرها،يؤجل أمر اللقاء حتى يتعافى يونس وتستطيع هي مساعدته،يعرف أنها لن تتركه ستحاول مقابلته والتخفيف من عليه وتسريته لذلك يؤخر الأمر حتى تفعل وحتى يطمئن على يونس فحسابهما سيطول كثيرًا.
هناك سارع طاهر بإرتداء ملابسه «رايحلهم تيجي معاي»
قالها بابتسامة رقيقة سمحة فابتسمت هامسةً «ياريت»
عاتبها طاهر وهو يرتدي حذائه «وليه ياريت تعالي وهيفرحوا جوي والله»
هتفت بمشاكسة «يعني أخوك مش هيطخني عيارين يا طاهر؟»
ضحك طاهر قائلا «لاه مظنش بس يمكن يرنك علقة»
قالت بإضطراب «لما رؤوف يرجع قنا عايزة أشوف يونس مش هينفع نسيبه كده يا طاهر»
نهض طاهر قائلًا بضحكة متقطعة «ولا ينفع نسيب رؤوف يا غزولة والله»
رغم خوفها الذي يمنعها من مقابلته إلا أن قلبها يرغب في الأمر ويريد هذا اللقاء بشدة، تشتاق لحضنه الرائع وكلماته الجميلة الرقيقة، ابتسامته ومشاكساته التي لا تتوقف
كلما حاولت فعلها منعها خوفها، تذكرت ما حدث فخمدت لهفتها عليه وانطفأت نار شوقها، عاد إليها ترددها المهلك مكتفية بالأماني والأحلام.
ودعها طاهر ورحل فأمسكت بهاتفها وأرسلت
«تعالى أتصالح على نفسى وأنا وياك
وأعيش جوه سلام إيدك وأموت وأنا بهواك»
********
في اليوم التالي تأكد طاهر من رحيل أخيه لقنا كما أخبره
دخل طاهر الحجرة قائلًا بمرح «ازيك يا بشمهندز؟» أجابه يونس بابتسامة سريعة «ازيك يا طاهر»
فتح طاهر ستائر النوافذ فغطى يونس عينيه معاتبًا له «يا طاهر»
اقترب منه طاهر مشجعًا له ببشاشة «جوم عاملك مفاجأة هتغير مودك»
تنهد يونس قائلًا بحزن عميق «مفيش حاجة هتغير مودي يا طاهر»
ربت طاهر على كتفه مؤازرًا بحنو قائلاً له «لاه فيه اطلع شوف كده»
مازحه يونس بمرارة عالقة «جايبلي ستات ولا إيه ما أنا بقيت وش آداب أصلي»
سحبه طاهر ضائقًا بقوله، تأبط ذراعه وجرّه خلفه يعلن له انزعاجه من القول «لاه يا زفت»
خرج به رغم رفضه وامتناعه وكأن الصالة عالم منفصل عن الحجرة التي يقبع بها منذ حادثته، وقفت حين شعرت بمجيئهما، ابتسمت ببشاشة قائلة «ازيك يا بشمهندس؟»
نفض ذراع طاهر وتقدم منها مبتسمًا يهتف بدهشة امتزجت بفرحته الشديدة «غزل»
قطعت هي المسافة بينهما ممتنة لمقابلته اللطيفة وبشاشته رغم المعاناة «ازيك عامل إيه؟»
مدّ كفه فصافحته بطمأنينة لتأكدها سلامة نيته وصفاءها فهذا أقصى ما يفعله ليعبر به عن مودته وفرحته بعودتها، نظر يونس لطاهر المبتسم قائلًا «غزل يا واد يا طاهر»ثم التفت لها قائلًا « وحشتينا يا غزل»
أدمعت عيناها لسعادتها باستقباله الدافيء قائلة «وأنت كمان والله»
سحب كفه وأشار لها بالجلوس نافضًا حزنه مهتمًا بها «اجعدي تعالي وطمنيني عليكي»
جلست بالقرب منه متأملة تهتف بقلق «طمني عليك يا يونس عامل إيه؟»
ابتسم لها شاكرًا «الحمدلله بخير وبقيت أحسن لما شوفتك يا غزولة»
واسته بمحبة وحنو «متزعلش خير بإذن الله » تنهد بثقل مصارحًا لها «الحمدلله يا غزل» التفت لطاهر الجالس جواره فوق حافة الكرسي «وصلتلها كيف؟ ومجولتليش يعني؟»
ربت طاهر على كتفه بحنو قائلًا «هي الي جات برجلها ولما عرفت بالي حصل صممت تاجي تشوفك»
التفت لها شاكرًا بعرفان «فيكِ الخير يا غزل والله متعرفيش جيتك دي فرحتني كيف»
صارحته بدفء نظراتها «مينفعش أعرف المحنة الي أنت فيها ومجيش أطمن عليك يا صاحبي وأكون جنبك»
ابتسم متأثرًا بقولها فقالت بمواساة حنونة «اجمد يا يونس»
تجاهل قولها وسألها باهتمام رافضًا منزعجًا أن ينال الرؤية قبل أخيه «رؤوف يا غزل هتجابليه متي؟ »
رفعت نظراتها القلقة لطاهر ثم عادت بهما ليونس قائلة «اطمن بس عليك وهقابله»
قال يثنيها عن التأخير «أنا كويس لازم تعرّفي رؤوف يا غزل»
ابتسمت مطمئنة له «لما يرجع طيب يا يونس»
اقترح طاهر عليه ليهدأ «هنعملهاله مفاجأة متقلقش»
استرخى يونس متنهدًا برضا فهمست غزل ببشاشة «قولي بقا واحكيلي يا يونس عامل فنفسك كدا ليه وحزين بالشكل ده»
صارحها يونس بنظرة منطفئة «افتقدناكي يا غزل»
صارحته وهي تضمهما في نظرة حنونة «وأنا كمان جدًا»
اقترح طاهر عليهما «جومي يا غزل نحضرأكل ونتكلم واحنا بنجهزه»
نهضت مشجعة الفكرة بحماس «حلوة الفكرة يلا يا بقدونس»
ابتسم لحماسهما متشجعًا للحديث ومصارحتهما بما في نفسه وينغص عليه أيامه.
سحبه طاهر للمطبخ وهي خلفهما قائلة «وحشتوني يا شباب أوي»
****
هتف رجب وهو يتلفت حوله بحذر «أيوة يا أستاذ بجولك الأستاذ طاهر جايب واحدة فوق للأستاذ يونس»
غمغم بعدها رجب بحذر «أعوذ بالله حصلت للحرام كمان»
سأله رؤوف باهتمام وهو يعتدل في جلسته «شكلها إيه؟»
أجابه رجب مفكرًا «متخفية بس حلوة وملفوفة ومدملكة»
توعده رؤوف بغلظة «عارف لو طلعت مرتي يا رجب الي بتقول عليها كدا هجرك من عندك لعندي على ضهرك»
هتف رجب برعب «به به به ليه يا أبوي هو أنت متجوز؟»
سخر رؤوف بحرقة «متزفت يا رجب واحدة معرفش غير إنها ملفوفة ومدملكة» قالها وقهقه عاليًا بسخرية مريرة بينما صمت رجب متوجسًا منه
«اطلع فوق غلس عليهم كالعادة واعرفلي الحكاية» قالها رؤوف فلبى رجب بطاعة «ماشي تحب أصورلك الكاميرات؟»
أجابه رؤوف بضحكة متهكمة «تلاقيهم عاملين حسابهم الكلاب»
أنهى الاتصال وأعاد الهاتف لجيب جلبابه الذي رفع طرفه لأسنانه وصعد للأعلى بحماس.
بينما غمغم رؤوف بابتسامة «شكل أم حمزة قامت بالواجب زين قوي يا غزالي»
أدّعى أنه سيسافر قنا؛ ليمنحهم الحرية المطلوبة والأمان الكامل حتى تخرج من مخبأها، لا يريدها أن تلتقي بأخيه خارج البيت إن فعلتها فليكن في منزلهم الآمن.
*********
بعد مرور يومين
صف سيارته وصعد لمقابلة جهاد بعد إلحاحها عليه وطلبها رؤيته وتسليمه الملف الناقص بنفسها رحبت به بشدة وهي تشير له ليجلس«إيه يا أستاذ مغلبنا يعني ونقولك عايزين نشوفك»
ابتسم معتذرًا لها بلطف «اعذريني والله كنت مشغول شوية»
هتفت وهي تطلب له الشاي خاصته «ربنا يعينك يارب طمني على مراتك؟»
أجاب بإرتباك وهو يعدل من ياقة قميصة بحركة تلقائية مصحوبة بنحنحة «كويسة الحمدلله»
دققت جهاد النظر في وجهه غير مقتنعة قبل أن تهتف «الملف عندي من بعد ما سابوه محبتش أبعته مع حد»
هتف بلا مبالاة مخفيًا حرجه من هذا الأمر الذي يترك في نفسه أثرًا سيئًا«كنتي ارميه عادي يا أستاذة»
منحته الملف قائلة بجدية «لا يا رؤوف مينفعش لازم أنت تستلمه وتشوفه فيه ورقة مهمة أعتقد لازم تشوفها»
ضيق ما بين حاجبيه مستفسرًا وهو يفتحه «ورقة إيه دي؟»
نهته عن فعلها والقراءة الآن «لما تروّح شوفها، خلينا بس ندردش شوية على ما ييجي بدر هو كان نفسه يشوفك من مدة وبما إنك جيت وهو جاي ياخدني فخلاص تتقابلوا»
ابتسم تاركًا الملف فوق طاولة صغيرة أمامه «كويس أنا برضو نفسي أشوفة بقالي مدة مقابلتوش»
ظل مشغول الفكر والبال بأمر الورقة التي أخبرته عنها جهاد، يسترق النظرات إليه بفضول وقلق شديد، يترك جزءًا من عقله لهذه الورقة وافتراضه بشأنها وتخميناته، يشاركها الحديث والضحكات بعقل منقسم وقلب يستعجل الوقت ليمر، حتى انتهى الوقت وودعهما بسرعة.
دخل المصعد الكهربائي فسارع بفتح الملف وتفقد محتوياته باحثًا عن تلك الورقة التي لم تكن إلا رصاصة صوّبت لمنتصف قلبه مضطرب الدقات، رفعها بعينين زائغتين وكف يرتجف، يقرأ محتوياتها بتأني مرة وسرعة مرة لا يصدق، سقطت باقي الأوراق من كفه ومازال محملقًا في التي أمامه بعقل مشوش وأفكار متشابكة..
فُتح المصعد الكهربائي فانحنى يلملم أوراقه في مجموعة غير متناسقة وخرج يجر ساقيه جرًا، يخبيء عينيه المشتعلة خلف نظارته السوداء وإن كان لا يحتاجها فهو يرى سوادًا ممتد، كل ما حوله باهتًا،مادت به الأرض فسارع بالجلوس داخل سيارته لاهثًا، هل فعلها مرتضى وأخضعها لكشف طبي؟ هل أجبرها الحقير على ذلك؟ كيف عرّضها لذلك؟ وكيف احتملت هي وحدها هذه اللحظات وماذا قاست وعانت أيضًا؟ تنكشف الحقائق أمامه واحدة تلو الأخرى وكأن ينقصه ندمًا وجلدًا لذاته... رفع الورقة لنظراته مقررًا البحث عن الطبيبة لتكتمل المعرفة.
لم يستغرق بحثه عنها كثيرًا، بعد مدة كان يقتحم عيادتها بهيئة شيطانية وعينين هما أصل الجحيم، ضرب مكتب الممرضة بكفه صارخًا «فين الدكتورة الزفت؟»
ارتجفت الممرضة من هيئته وصراخه، أشارت له بتلعثم «جوه»
اندفع ناحية الحجرة مكرمشًا الورقة بين أنامله، انتفضت الطبيبة تستفسر بغضب حين دفع الباب بقدمه ودخل «أنت مين وعايز إيه؟»
هدر فيها وهو يبتلعها بنظراته الغاضبة «اترزعي وجاوبيني على اسألتي؟»
حملقت فيه مستنكرة لهجته الآمرة ووقاحته، سارعت برفع سماعة هاتفة تطلب الإنقاذ، فسارع بخطفها منها ووضعها مكانها مهددًا «جايلك وسايب رجالة تحت أي حركة هجيبهم يطربجوها على دماغك»
ابتعدت خطوة للخلف شاهقة تتأمل هيئته بذعر «عايز إيه بالظبط؟»
هتف بشراسة «هو سؤال واحد وهمشي ويا دار ما دخلك شر، جتلك واحدة من شهور اسمها غزل عملتيلها كشف عذرية؟» نطقها بهلاك تاركًا مرارة الكلمة المنطوقة تعلق في حلقه ، خاتمًا بملامح تغص بالوجع والعذاب.
هتفت بإرتباك «مش فاكرة» قالتها الطبيبة متملصة ومتهربة خوفًا من العقاب، راقبت الممرضة ما يحدث بأعين منتبهة
فصرخ وهو يرمي التقرير الطبي بوجهها ثم ضرب الطاولة بكفيه حتى اهتزت بقوة أمامها وطارت الأوراق من عليها وتناثرت «مرتي غزل جاتك ولا لاه؟ كشفتي عليها ولا لاه؟»
انكمشت مكانها تطالعه برهبة وتردد، شفتيها ترتجفان من ثقل الكلام والإعتراف فصرخ مهددًا بغضب ونظراته تحرقها
«هتتكلمي ولا أكسر العيادة على نفوخك شكلك دكتورة شمال»
هزت الطبيبة رأسها قائلة وهي تبتلع ريقها المتعسر في الخوف «هحكيلك كل حاجة»
بعد قليل خرج من حجرة الطبيبة عاصفًا كما دخل،تبعته الممرضة حتى استوقفته على باب العيادة بهمسها تتلاعب برغبته وبجشعها على فضوله للاستفادة منه «أنا فكراها مراتك » توقف مكانه مهزوز الجسد والوجدان،تسمرت قدماه بوجع سحق نفسه قبل أن ينظر إليها مشجعًا لتكمل حديثها،ابتلعت ريقها متجاوبة معه «الكشف كان غصب عنها،صرخت وقاومت كتير وأغمي عليها بعدها وهي بتقول حرام مش هيسامحني عليها دي يا مرتضى»
تقبضت كفاه جواره بحسرة وألم،أغمض عينيه أمام هذا الإعصار الهادر من الوجع،نظر إليها باحتقار شديد وتوعّد أردعها فتنحت عن طريقه بذعر، عاد لسيارته لا يرى أمامه تناول دوائه وسكن مكانه. ارتعشت يده التي لطالما تحملت الأوجاع والآلام، شعر أن مرتضى منحه اللحظة ضربة أخرى فوق رأسه، ضربة دواء العالم كله لن يؤثر فيها، كل خلية داخل جسده تتألم وتصرخ بأنين موجع، كرامته كان لها النصيب الأكبر من العويل.. الصور تتلاحق والخيوط تتجمّع وتترابط داخل عقله، وهي كيف شعرت؟ ماذا عانت؟ بل كيف تخطت الأمر وواصلت العيش؟ وهو ماذا فعل؟ ألقاها حين جاءته متعرية تتستر بردائه، ركلها بعيدًا عنه وهو الذي وعدها بالحماية طوال العمر، زمجر بعنف يضرب جبهته في مقود السيارة متأوهًا بألم انحشر كله وتجمع داخل صدره فأثقله، رأسه تؤلمه بشده يعاني من آثار الماضي والحاضر، أين يذهب وكل الأماكن لا تسعه الليلة؟ لمن يشتكي واللسان ثقيل بالغدر!
حبيبته التي استنجدت به كطفلة وجاءته تركض محتمية من سهام الغدر ضيعها هو ولا يعرف كيف استعادت نفسها من جديد دونه ؟وأي عراقيل واجهت؟
ترك سيارته وترجل يجوب الطرقات دون هدى، يسير ولا يجد له مستقر، كل الأماكن مجهولة وكل الوجوه لا تطمئنه، الهواء كله لا يكفيه والزحام لا يطغي على أصوات عقله.
عاد لسيارته من جديد ذاهبًا إليها فقد حان وقت العتاب وأزفت آزفة الحساب.
وقف أمام الشقة التي تقطن فيها محملًا بغضبه وخيبته وعتابه ، حسرة نفسه المشتعلة تنعكس في نظراته فتتوهج بألم، نهضت محتفظة بابتسامتها الحلوة فتحت الباب والكلمات تتدفق كما الضحكات، نظرة واحدة للواقف أمامها أوقفت العالم من حولها كما الضحكات، عادت الكلمات متقهقرة منحورة بسيوف عتابه المنبثق من نظراته المتألمة، أغلقت فمها متمتمة باسمه «رؤوف» فغاب عن الوجود في عينيها باحثًا عن نفسه القديمة داخلها، هاله أن يمحى من موطنه، أن يُنسى كأنه لم يكن، هو يتعذب وهي تضحك هو يمرر الأيام بصعوبة متمنيًا الموت وهي تمارسها بشغف، وقف أخويه في ارتباك واستعداد، نظرة حارقة جاد بها وهو يقترب فابتعدت عن طريقه متنحية ترتجف خوفًا وشوقًا.
أغلق الباب خلفه ووقف واضعًا كفيه في جيبي بنطاله يطالعهما بنظرة محترقة بالحسرة، يلومهما بخيبة
تقدم يونس متوترًا «رؤوف اجعد وهفهمك»
هتف بهدوء كالعاصفة الباردة «تفهمني إيه؟»
تطوّع طاهر بالتوضيح «احنا كنا هنجولك؟»
سألهما بهدوء وهو يحك أسفل ذقنه «عارفين مكانها من متى»
صمت الاثنان في قلق وتوتر يتبادلان النظرات باضطراب فكري
انتهى مخزون صبره فصرخ فيهما صرخة زلزلت ثباتهما «ما تنطقوا»
تحركت من خلف ظهره، خرجت عن صمتها ووقفت أمامه ترد بصلابة متحدية له ومدافعة عن صديقيها بحماية «هتفرق فإيه وليه أصلا؟»
بعينين محتقنتين التفت لها محذرًا بغضب مستعر «اكتمي لسه دورك»
تأججت ثورتها حاولت معاندته فاقترب طاهر منها ينهاها عن عزمها بنظراته، ابتلعت ريقها ممتثلة تحت نظرات الآخر التي ازدادت وجعًا وحسرة وعذاب، لكنه أشاح صارخًا بعتابه «كنتوا ناويين تعرفوني متى؟»
تدخلت مرة أخرى مدافعة عنهما «أنا طلبت ميقولوش؟»
نظر إليها مستنكرًا مستهينًا بجوارح مُعذبة «طلبتي» ثم نظر إليهما متابعًا بحرقة «ميقولوش؟»حملت نبرته عتابًا قاسيًا لهما بنظرة جريحة وفؤاد مثقل بالخذلان المميت منهما. رمقها يونس بنظرة متأسفة لائمة قبل أن يعارض «لاه يا رؤوف كنا بنرتب هنجولك كيف، مكناش هنسمع كلامها والله»
صاح متجاهلًا قوله، تبريره، وأسفه يصفعها بالعتاب ويضربهما بقسوته وزجره «طب هي أنا مفارجش معاها وأنتم؟هي لا شافت ولا دريانة بي وأنتم؟ هي شايفة ملهاش جوز ترجعله ومكملة وأنتم؟»
اعتذر طاهر شاعرًا بالندم «معلش يا أخوي حقك علينا بس والله كنا هنجولك ونعرفك»
التقط أنفاسه وكرر خلفه متهكمًا بأطياف ضحكة ساخرة «كنا هنجولك ونعرفك»
اشتعل رأسها مما يحدث فصاحت بغضب مدافعة عنهما لا تحتمل «هما ملهمش دعوة بأي حاجة الحساب بيني وبينك يا متر؟»
زجرها الشابان بنظراتهما لكنها واصلت متحدية له تجابه غضبه بآخر فزعق فيها «جولت اكتمي خالص أنا وأخواتي أحرار »
أجفلها قوله فابتلعت كلماتها وصمتت بدموع مترقرقة، صاحت فيه مجابهة «لا أنا ليا دخل »
تلقف كلماتها بأذرع سخريته، ضمها شاهدًا لقضية هجرها له وهروبها وقال بنظرة تحذيرية «ولا كلمة زيادة ادخلي لمي هدومك وتعالي»
رفعت رأسها بشموخ ونظرة متألقة بسخرية تعلن رفضها لما طلب وعدم رغبتها في تنفيذه،نظر إليها الشابان بإستنجاد تجاهلته، قبل أن تتفوه بالأكثر ويبدأ العذاب أمام أخويه وقبل أن يسقط قناع صلابته، سحبها من كفها خلفه دون كلمات، لن يحتمل أكثر من ذلك عنادها وغضبها.
*****
جلست جواره في السيارة بعدما رمقها بنظرة تحذيرية غاضبة، بمهادنة جاورته تضم كفيها لحجرها في توتر نابع من شوق كبير يزئر داخلها جائعًا له، تتنفس بسرعة ساحبة كل الهواء المحمل برائحته التي حُرمت منها، تفرك كفيها بتوتر بالغ خائفة أن تتركها فتركض معانقة كفه التي تتحرك جوارها بعصبية.
عضت شفتيها تتفادى هجوم الفكرة وتحكم سيطرتها على الرغبة المتأججة بصدرها وكأن ما فات أصبح سرابًا لا يعنيها في شيء، بل كل ما تريده اللحظة أن تعود لموطنها بين ذراعيه، لبيتها الآمن.
بينما كان هو جامدًا مكانه يستعجل الوصول، لا يلتفت لها يحبس الغضب والشوق في حلبة قتال لا ينطفيء حماسها، ضدان يتقاتلان فيُدهس هو بينهما، أميرة حكايته أخيرًا هنا لا يفصل بينهما إلا عدد أنفاس مشتعلة جواره لا يعرف بأي يوجه سينفرد بها وأي شعور سينتصر وهي أمامه، لكنه في الحالتين مهزوم..
عند الوصول سحبها من كفها كأنه يخشى لو أفلتها تذوب أو تختفي، يقبض علي كفها بقوة رغم الألم فيها لكنها مُرضية لقلبها الذي تعذب يومًا بإفلاته لها.. صوت أنفاسه يصلها وحركة صدره تزيدها ارتباكًا وتيهًا، نظرت لصدره العريض بصمت وكلها شوق لعناق تذوب فيه وتنصهر، أن تضع رأسها أخيرًا دون مشقة فتتناثر الأفكار والكلمات ويسقط كل شيء، على صدره يذوب العتاب مع الأنفاس وتصفو اللحظات من قلق الفراق وعذاب الهجر.
دخل الشقة ولم يفلتها كأن كفيهما التصقا والتحما في عناق لن ينتهي،قليلًا
وسحب كفه ببطء مرتجف وإرادة منفصلة، فرفعت كفها لعينيها مواسية له بنظراتها قبل أن تسقط جوارها عائدًة لوحدتها.
راقبته وهو يفك أزرار قميصه ثم يرفع كميه كعاته في استعداد، ابتلعت ريقها وسألته وهي تجاهد حتى لا تنظر إليه،تعقد ساعديها هربًا من ضعفها وانكشاف أمر ارتجافة كفها المتروك، المخذول من كفه «جبتني هنا ليه ؟ وحساب إيه الي بينا »
سخر منها وهو يدور حولها متقلبًا في جحيمه الخاص المحجوب عنها الآن « معلش لو نسيتي إنك على ذمتي الدنيا تلاهي برضك» قالها مستهزئًا من قولها، زجرته بنظراتها فابتسم ساخرًا لا يهتم
«اتكلمي يلا عايز اسمع» قالها وهو يقف أمامها متخصرًا، شددت من احتضان جسدها شاعرة بالخطر من إعادة الماضي «ليه عايز تسمع؟ اشمعنا دلوقت؟ مش جتلك ومسمعتنيش وطردتني» خطان رفيعان من الدموع سالا على خديها فاستنشق بقوة منكسًا رأسه قبل أن يرفعها قائلًا «وكنتي عيزاني أعمل إيه وجهاد بتجولي مرتك عندي بترفع خلع وأبوكي يكلمني يجولي جدع يا متر كتر خيرك سيبتهالي بت بنوت عشان أفضحك» صاح بكلماته ساخرًا منها يتقيأ الوجع والعتاب، مسحت دموعها بعصبية ورفعت عينيها هاتفة تنحره باللوم «تتأكد إن غزل الي حبتك متعملش كدا، تثق فيها وتكون معاها مش ضدها»
صاح بعصبية وهو يحرك ذراعه بعنف«وهي كانت فين ثقتها وهي بتجوم من جاري وتتسحب زي الحرامية؟ كانت فين ثقتها وهي رجعاله وتجولي انساني بحلّك من أي وعد»
قلدها بسخرية مريرة مستعيدًا خيبته العظيمة فيها وشعوره بالخذلان وقتها،ثم سألها بغصة «أنتِ حبتيني أصلًا يا غزل أظن بعد الي حصل كله مش هصدق؟»صعقها السؤال ونظرة الشك في عينيه فصاحت مبررة تدافع بقوة «كنت خايفة عليك منه، مهانش عليا حياتك تتهد بسببي وسببه ولا تخسر أهلك، خوفت أفضل تخسر أهلك ومترتحش مكونش كافية ليك »ثم همست بعتاب «لو بتشك فحبي ليك فأنا كمان عندي أسبابي الي تخليني أشك فحبك ليا»نظرت إليه بتحدي،تجاهل تلك النقطة، هدر وهو يقترب أكثر «أنا الي أجول، أنا الي أحدد كافية ولا لاه، أجبرتيني زيهم وضغطتيني، هزتيني، رميتي كل حاجة ورا ضهرك ومهمكيش وعودك الي علقتيني بيها ولا حسرتي عليكي وخوفي ورايحة تحكي لأبوكي الي كان بينا وتفضحيني »
بنحيب قوي هتفت «والله وأنا تعبت، بُعدي عنك مكانش سهل ولا هيّن، أنا مفضحتكش والله مش ممكن أعمل كدا وأنا الي طلبت منك إن جوازنا يكون على الورق،إزاي هعملها وأنت احترمت رغبتي بنبلك» تألم بشدة من كلماتها فصاح بغضب ضاغطًا عليها يستدرجها لتبوح بما تكتمه داخلها «أمال إيه ها؟ أبوكي عرف منين؟ ولما مخونتنيش ومش أنا الي اتخان هو عرف حاجة زي دي كيف؟»أخرسته كلماتها الصارخة واعترافها الملجلج «جرجرني غصب عني والله»
ضغط أكثر بتهكمه من قولها «والله والمفروض أصدق أنا؟ هيعملهولك ليه إلا لو كان في كلام»
جلست منهارة دفنت وجهها المرتجف الغارق بالدموع قائلة «خوفت تطلقني أو يجبرك قولتله إني حامل، خدني يتأكد لما الدكتورة قالتله مفيش بيبي قالها تكشف عليا وتعمل التقرير»
أمسك بالمقعد محاولًا التماسك بعد ما سمعه منها وأثبته التقرير المرفق بأوراق القضية، تعكز حتى جلس بانهيار مماثل يزفر عجزه مع الأنفاس، تابع بحسرة «ومشيتي من الدار ليه يا غزل، هربتي تاني ليه»
رفعت عينيها الذابلة المحتقنة بالحمرة معترفة «خوفت، معرفتش انسى كلامك ليا، لسه سمعاه فوداني وأنت بتقولي شوفتك بتوجع»
عاتبها بحرقة وهو يصرخ فيها مستعيدًا غضبه «الشارع كان أرحم مني وأحسنلك؟»
ابتسمت من بين دموعها معترفة له بلوعة «عارف رغم إن شوفتك إنت لقلبي دوا بس لما شوفتي وجعتك اخترت الشارع ولا إني أوجعك تاني»
صمت مطأطأ الرأس مشبكًا أنامله يكتم القهر والحسرة والندم،
صمته آثار الذعر الكامن في أعماقها منه ومن اكتشافه الأمر، إعادة الشعور والإحساس بما حدث أنساها ما خافته طوال تلك الأيام، توقفت عن البكاء رافعة نظراتها له بحذر متوجسة خيفة من رد فعله متذكرة صراخها «مش هيسامحني عليها يا مرتضى» غمغمت باسمه في توسل وهي تراه منكس الرأس يضع كفه على جبهته مخبئًا عنها ملامحه يكتم رد الفعل داخله محتفظًا به لنفسه،فيرتعش جسده رغمًا عنه، تركت المقعد واندفعت تعتذر «غصب عني والله» جلست على ركبتيها أمامه ممسكةً بكفه تعتذر
هالها ما رأت منه اللحظة، تراجعت قليلًا صدى ذهولها كان ارتجافة مرّت بجسدها، اقتربت مرة أخرى متحققة مما ترى، أحاطت وجهه بكفيها تتلمس دموعه كشيء عجيب وهي تهمس بعدم تصديق «رؤوف»
«معرفتش أحميكي منه ولا أحافظ عليكي» جلد نفسه بكلماته القاسية، اعترف بذنبه
«لا لا أنا....» قالتها ونظراتها تتعلق بحسرة عينيه في ألم ودهشة وخوف عليه.
قبل أن تتفوه كان يزرعها بأحضانه، يدمغها بجسده صامتًا لا يمنحها سوى ضجيج أنفاس متسارعة وارتعاش مُربك دفنت وجهها في عنقه تشهق باكية متأوهة بقوة، همس معتذرًا لها «أنا آسف »
لكنها واصلت البكاء مرتجفة بين ذراعيه وهي تهمس من بين شهقاتها التي تزداد ارتفاعًا «أنا بحبك والله مشيت عشانك، بس والله اتعذبت ودفعت التمن غالي، بعدك عني كان لوحده كفاية على قلبي»
مسح على ظهرها بحنو يستسمحها الصمت ويرجوها التوقف لتهدأ انتفاضة جسدها لكنها واصلت «والله ما كان عادي ولا هيّن عليا ولا مش فارق، إزاي وأنا محبتش فحياتي غيرك»
أبعدها عنه قليلًا معانقًا وجهها بكفيه معتذرًا يتوسلها «أنا آسف ياريتني موت ولا حصلك دا كله بسببي»
عانقته من جديد بقوة تضرب ظهره بقبضتها المرتعشة متوسلة من بين شهقاتها «متقولش كدا، أنا مسمحاك والله وملومتكش حتى فخيالي ولا حتى عاتبتك بيني وبين نفسي يا حبيبي»
أبعدها قليلًا ناثرًا اعتذاره المفعم بقبلاته على وجهها، يلملم دموعها بشفتيه، يرصف طريقه إليها بالكثير من الأسف والندم بعد صمت طويل هتف بنبرة مبحوحة ترتجف
«مش قادر أقولها يا غزل بس جوايا نصين بيتقاتلوا نص يقولي خليها فحضنك حتى لو غصب عنها ونص بيقولي أخيّرك لو عايزة تكملي ولا لاه»
اقتربت أكثر حتى دثرت نفسها بذراعيه، غاصت بأحضانه حتى تنفست عبقه واستنشقت أنفاسه ثم همست «متسمعش ولا نص اسمعني أنا هغششك وأريح قلبك»
تعلقت نظراته المستنجدة بوهج عينيها، يسير خلفه متتبعًا، رفعت كفها لذقنه ومسحت عليه قبل أن تلثمه برقة هامسةً «مكاني هنا فحضنك عايزة أكون فيه، لو تسمحلي عايزة أبني الي اتهد بنفسي المرة دي يا رؤوف»
ضمها بقوة هامسًا وهو يغرق في عاطفتها الثرية يتقبلها بجوع ويمنحها عاطفته بإسراف «وحشتيني»
همست بصدق وعاطفة حارة تتوهج كالشمس كلما اقتربت منه «وأنت كمان أوي أوي أوي»
****************
هتف يونس بإمتعاض شديد وهو يسير بنظراته خلف طاهر الذي يزرع الأرض ذهابًا وإيابًا «اتهد شوية»
توقف طاهر عن الحركة يستفسر بقلق ينهشه «تفتكر حصل إيه؟ زعقلها، ضربها» ضرب يونس كفًا بكف مستنكرًا قوله وخوفه، ثم هتف موبخًا «يا ابني أنت مخك فين؟ أنت عبيط يا طاهر»
صرّح طاهر بخوفه في انكسار واضح وحزن «أنا خايف يمشيها فتهرب تاني وتبعد» زفر يونس بيأس قبل أن ينهض ويربت على كتفه موضحًا له بصبر «يا طاهر بقا أخوك هيسيبها تاني؟ ولا هي هتهرب؟» ثم لكزه في رأسه موبخًا «بجرة مبتفهمش وجولنا ماشي كمان مبتشوفش؟»
سأله طاهر بحمق «طيب اتأخروا مرجعهاش ولا اتكلمت»
قهقه يونس وهو يهز رأسه بإحباط، دفعه طاهر غاضبًا منه «في إيه بتضحك ليه؟»
تحرّك يونس ناحية المطبخ وهو يقول باستنكار «ليه فاكر أخوك هيرجعها تاني؟ ولا هتشوفها أنت تاني»
قفز طاهر منتفضًا يهرول خلفه قائلا «مش هشوفها تاني ليه؟»
دفعه يونس هاتفًا بحنق «افهم أبوس إيدك يا قفل، لما نشوف هيعمل فينا إيه؟»
غادر طاهر المطبخ هاتفًا بضيق «هكلمها والي يحصل يحصل»
لوّح يونس مستاءًا ضائقًا بعناده، جلس يستمع بصبر
حين أجابت سألها طاهر باهتمام وهو يقضم أظافره بتوتر «غزل أنتِ كويسة؟»
رفعت نظراتها الهائمة للجالس بالقرب منها يتأملها بابتسامة مشعة سحبتها لعالمه وتاهت في دهاليزه، بعدما منحها الهاتف لترد على أخيها الذي بالطبع يريد الاطمئنان عليها.
سأل طاهر من جديد بقلق أكبر «غزل ردي»
أجابته وهي تنتزع نظراتها منه «ها»
كرر يونس السؤال بصورة أخرى وهو يكتم ضحكته «ضربك؟»
أجابت وهي تتابعه بنظراتها كالمسحورة «ها»
سألها طاهر بقلق مغتاظًا من صمتها«زعقلك يعني شتمك؟»
جلس جوارها عن قصد فتعلقت عيناها به وهي ترد «ها»
ضحك رؤوف بخفوت وهو يستمع لما يقال وخجل زوجته وشرودها، مال ولثم خدها برقة محتسيًا من كؤس نظراتها خمر الغرام ثم ابتعد
فكرر أخويه الأسئلة فأجابت بتنهيدة طويلة ممطوطة«هااااااا»
هتف رؤوف بسخرية «لو ضربتها هتعملوا ايه مثلا؟»
أجاب أخويه متراجعين عن عصبيتهم منكمشين بأدب «ولا حاجة هنجول ربنا يسامحك»
هتف رؤوف محذرًا وهو يسحب منها الهاتف «محدش يرن تاني ولا عايز أشوف وشكم مفهوم اطمنتوا وخلاص؟»
صمتا فهتف بحدة «مفهوم؟»
هتف طاهر بغيظ «مفهوم بس هي مبتردش ليه وتجول حصل إيه كله ها ها؟» قهقه يونس فدفعه طاهر بعيدًا عنه وطلب بعناد«عايز أكلم غزل»
هتف رؤوف بحدة «نام يا طاهر وعدي ليلتلك عشان لسه حسابك معاي»
تأفف طاهر بضيق وقهر فاقتربت غزل وهتفت بسرعة من بين ضحكاتها الرقيقة الناعمة «طاهر متقلقش أنا كويسة يا حبيبي لا ضربني ولا كسرني ولا طردني» عنفها بنظرة حادة زادت من ضحكاتها الرقيقة فأشاح مستغفرًا
صمت طاهر مستسلمًا فأنهى رؤوف الاتصال مهددًا ومحذرًا «روح نام ياض وإياك يا طاهر فاهم إياك تحاول ترن ولا تيجي»
هتف يونس بضجر«طيب وحاجتي الي فالشقة؟»
أجابه رؤوف بحسم «هلمها وأبعتهالك مع رجب يونسكم شوية»
كتم طاهر قهره وأجاب بطاعة «حاضر يا أخوي»هتف رؤوف مثنيًا على رده «جدع يا طاهر خليك بجا مع أخوك شهر بدل صاحبك»قهقه متشفيًا قبل أن يغلق الهاتف ودسه في جيبه قائلًا بحزم «مفيش تليفون» تأبطت ذراعه قائلة بدلال «الله يا متر طيب وأكلم اصحابي إزاي؟»
هتف باستهجان ونظرة عاتبة «أصحابك! مشبعتيش من كل الناس دي؟ وأنا فين وقتي فين نصيبي منك؟»
أحاطت عنقه بذراعيه ضاحكة بدلال ورقة وهي تهمس بطاعة «خلاص تمام يا أوفة أنا برضو عايزة نصيبي منك، مفيش شغل مفيش تليفونات ولا أصحاب ولا حاجة غيري أنا وبس»
ضم خصرها بكفيه وقربها هامسًا أمام شفتيها في استعداد لنيل نصيبه كاملًا منها «متفقين يا غزولة»
همست من داخل أحضانه بعدما ابتعدت ملتقطة أنفاسها «رؤوف خلاص سامح الشباب هما ملهمش ذنب والله»
رفع كفها مقبلًا له رافضًا قولها «لاه عشان الكلاب كانوا شايفيني بتعذب ودايخ عليكي وساكتين»
ضحكت برقة وهي تسأله بدلال« هو أنت اتعذبت؟»
ابتسم قائلًا بمكر «لاه مش جوي يا غزولة شوية بس»
أحاطته بذراعيها في تملّك قائلة «ماشي مش مهم أنا اتعذبت كفاية بالنيابة عنك وعني وخلاص»
هتف قائلًا «احكيلي يلا كل حاجة بالتفصيل»
ابتعدت تتمطأ بكسل وهي تتثاءب، راقبها بابتسامة حنون فقالت «أوفة أنا عايزة أنام تعبت خلاص»
اقترب محررًا خصلاتها من الحجاب وهو يسألها بحنان «أطلبلك أكل الأول؟»
ابتسمت قائلة «لا شبعانة» ثم غمزته بشقاوة مستفسرة «سريرك هيكفينا يا أوفة ولا هتنام عالأرض»
حرر خصلاتها من القيود ثم تخللهم بأنامله مستشعرًا ملمس نعومتهم على أنامله، قبل أن يقترب مستنشقًا عطرهم وهو يقول بنبرة شوشتها عاطفته «جصدك هنّام على الأرض، لسه عايزة تبعدي تاني؟»
عضت شفتيها بخجل لون وجنتيها بالحمرة قبل أن تهمس «لا مش هبعد تاني أبدًا خلاص»
اقترب ملثمًا شفتيها برقة فهمست «رؤوف كلّم طاهر يجبلي هدومي»
ابتعد قائلًا «لاه جولتلك معيزهوش ياجي عشان مكسرلوش دماغه»
تراجعت مهادنة له «خلاص على إيه، هتصرف أنا فين دولابك؟»
نهضت قائلة «غيّر وافرش الأرض على ما أشوفلي حاجة تنفع تتلبس عندك يا متر» أومأ بصمت وهو يتابع رحيلها بتنهيدة هيام بعدما أشار لها ناحية حجرته.
اغتسلت وبدلت ملابسها بتيشرت من عنده، غاص فيه جسدها لكنها راضية، ستستنشق رائحته دومًا ومع كل نفس وقد تنال الجزاء الأوفر وتُدمغ بجلدها، ابتسم تلقائيًا حين جاءت تمشي على استحياء، فرد ذراعه لها قبل أن تقترب فأمسكت بكفه وتابعت خطواتها متهادية تتدلل على إيقاع نبضه، جلست متربعة في الجزء المفترش من الأرض تنظر للشطائر التي أعدها قائلة «أنا مش جعانة»
ناولها شطيرة قائلًا بحنو «لاه كلي جبل ما تنامي وأنا عشان صايم بكره»
قضمت ما تناولته من يده مقترحة «أصوم معاك؟»
ابتسم قائلًا وهو ينظر لعينيها مقتبسًا من نظراتها المتلألأة نورًا يضيء به مصابيح القلب المطفأة من جديد،ينشر ضوءها في غرفات قلبه المظلمة ويفتحها مُرحبًا بعودتها «أكون ممتن والله لو شاركتيني اليوم»
قالت بشقاوة محببة افتقدها «ماشي هنصوم، مفيش أحلى من كدا نبدأ بيه من جديد يا حبيبي»
تحرك ليجاورها التصق بها هامسًا وهو ينظر لها بعشق «حلوة حبيبي منك يا غزل»
نفضت كفيها والتفتت مغازلة قلبه بهمسها الصادق المشتعل بالندم«بخلت عليك كتير بيها بس ملحوقة هنبدأ من جديد»
عانقها مجددًا ثم ابتعد يناولها شطيرة أخرى فقالت وهي تقضمها «بكرة تجبلي هدومي وفوني ضروري»
قال بجدية «هجبلك هدوم غيرهم مش لازم هما»
عاتبته برقة «ليه مش كفاية الي سبته هناك في قنا ليه كل ده!»
صارحها بأسف «مدخلتش البيت من بعدك تاني»
وضعت باقي شطيرتها في الطبق قاطبة الحاجبين تعاتبه «ليه كده دول أهلك ؟»
تنهد قائلًا وهو يحمد الله ويزيح الطبق جانبًا «مش هدخله تاني، يوم ما أرجعه يبقى بيكي»
ضمت وجهه بكفيها هامسةً «طيب أنا عايزة أفضل هنا وتروح وتيجي عليا»
تمدد واضعًا رأسه فوق الوسادة قائلا «مفيش الكلام ده أنتِ هتنزلي تعيشي عند خالتي زي ما كنتي عايزة» سحبها لتتوسد صدره ففعلت محيطةً بطنه بذراعها قائلة بمهادنة «طيب علشان منختلفش نأجل النقاش»
ضمها أكثر قائلا بثقة «ماشي نأجله وبرضو الي عايزة هيمشي»
تنهدت مستسلمة فأغمض عينيه راضيًا..
بعد قليل سألته بقلق «منمتش ليه؟»
أجابها «مش عارف يا غزل لسه فجلبي حاجة وجعاني عليكي، لسه بيلومني»
رفعت رأسها موضحة «سلامة قلبك يا حبيبي» عانق شفتيها برقة قبل أن يبتعد فتهمس «انسى خلاص»
سألها وهو يمرر أنامله على خدها «هتنسي؟»
داعبت أنفه بأنفها معترفة له بشقاوة «بصراحة أول ما عيني وقعت عليك نسيت كل حاجة أصلا حتى اسمي متخيل ولولا شوية الزعيق بتوعك الي بيفوقو زي فنجان القهوة كنت نسيت أنا مين وفين؟»
اقترب منها أكثر في عزم قطعه ارتفاع صوت أذان الفجر، ابتعد عنها ذاكرًا فضحكت برقة قبل أن تتبعه للوضوء وأداء صلاة الفجر.


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close