اخر الروايات

رواية عزف السواقي الفصل التاسع والاربعون 49 بقلم عائشة حسين

رواية عزف السواقي الفصل التاسع والاربعون 49 بقلم عائشة حسين 



التاسع والأربعون
هتف من نافذة السيارة وهو يقود ببطء مجاريًا خطواتها «يا دكتور...»
تأففت بسأم ضائقة بالمطاردة والتتبع من هذا المتطفل اللزج وقفت عاقدة الساعدين أمام النافذة تسأله من بين أسنانها بنظرة متأهبة للإنقضاض «نعم ياحض..»
قطعت تواصل كلماتها مبددة مشاعر الضجر بأخرى وملامح الضيق بنسخة مرتبكة «بشمهندس يونس؟!» مازحها قائلًا بابتسامة لطيفة ونظرة متوهجة «سؤال ولا إجابة؟»
فكت ساعديها واقتربت منه «ازيك يا بشمهندس عامل إيه؟»
أجابها وهو يترك السيارة مترجلًا «ازيك يا دكتورة أخبارك؟»
ابتعدت قليلًا مجيبة بلطف «ازيك أنت وازي المتر؟»
أشاحت بإرتباك زائد هاربة من النظر إليه ترحب برجب الجالس داخل السيارة بملل واضعًا قبضته على خده في بؤس بعدما جرّه يونس رغمًا عنه «ازيك يا رجب.»
لوّح بإنزعاج ونبره مستاءةً نالت غضب يونس ونظرة زاجرة منه.
سألها بنظرة متوترة فضحت ارتباكه «بتشتغلي في المنطقة ولا إيه؟»
أجابته بابتسامة متماسكة لا تعكس اضطرابها ولا بعثرة دقاتها «آه في صيدلية قريبة؟»
«ليه مش خدتي فلوسك؟!» قالها باندفاع أحمق عكس ضيقه من الأمر وعدم صبره على الصمت، تنحنح مصححًا «أقصد مش محتاجة شغل »
أجابته بنبرة حادة «بس مش هقعد في البيت أكيد»
جادلها بفقدان صبر «ماشي افتحي عيادة»
أجابته بصبر وهي تنهل من ملامحه المرتبكة بدهشة «ما أنا أجرت عيادة برضو»
تابع بحماقة «يبقى كفاية ليه شغلين وبهدلة»
زاد تعجبها من تدخله وتوجيهه لها بتصحيح الوضع، قطبت حاجبيها مفكرة قبل أن تبتلع كلماتها الرادعة وتجيبه بحلم «عادي بسلي وقتي» قال بضيق ونظرة محبطة «بهدلة يا دكتورة ووضعك مش محتاج»
«أنا حرة يا بشمهندس أنت مالك؟»
قالتها بهجوم وغضب من مشاعرها نحوه التي تزداد، ومنه لأنه لايمنحها ما يعينها على كبت عاطفتها نحوه، عضت شفتيها نادمة تنظر إليه بأسف، لوى يونس فمه مرددًا كلماتها بتفكير «صح أنا مالي!»
بابتسامة عملية لا تعكس ضجيج الأفكار في رأسه، تشهد زورًا على هدوء كاذب «تركبي نوصلك يا دكتورة ولا برضو أنا مالي؟»
تعلقت كالغريقة بطوق ابتسامته المهزوزة بعتب خفي واجابته «لا شكرًا»
عاد لسيارته دون كلمة أخرى متقبلًا اعتذارها، قاد سيارته تاركًا لها، سارت طريقها منشغلة الأفكار بما حدث تقلبه في عقلها على موقد الإيضاح والفهم.
لم يستمر صمتها كثيرًا ولا انشغالها به فسرعان ما تنبهت على متطفل آخر ظنته هو فالتفتت بلهفة ونظرة تودّ الاعتذار لكنها اصطدمت بكهل عجوز متصابي نال من نظافة سمعها بكلمات قبيحة نابية، لطخ مسامعها ببصقات فمه العفنة كريهة الرائحة، توقفت زافرة بغضب تصرخ فيه «أنت راجل حقير دا أنت أد أبويا»
ضحك بصوت عالٍ متفاديًا قولها «مش أد أبوكي ولا حاجة تحبي أثبتلك إني شباب؟»
التفتت على صوت فرامل تكبح فارتعدت واهتز جسدها، التقت عيناها بعيني الغاضب اللائم فأشاحت مغمغمة بفرحة تجسدت في نظرة ضاحكة تتوارى خلف عبوس مفتعل«يونس»
سحب يونس العجوز من ملابسه صارخًا «اطلع يا أبا مبلبع إيه عالمسا»
صرخ به الرجل منفعلًا وهو يتأمل بنيته الضخمة ونظراته المشتعلة كالجمر «أنت مين؟»
منحه لكمة وإجابة «خطيبها»
كتمت شهقتها بعضة شفاه كابحة للانفعال وتابعت تأديبه للعجوز متشفية قبل أن تفيق من سكرتها وتندفع مخلّصة له «سيبه يا يونس خلاص»
تركه يونس والتفت لها يسألها من بين أسنانه «هتركبي أوصلك ولا إيه؟»
اشترطت عليه وهي تكتم ابتسامتها على هيئته الغاضبة «هركب»
جلست خلفه تاركةً رجب جواره يبدل النظرات بينهما وهو يهرش رأسه من تحت الطاقية هرشات متتالية يفتح بها مدارك الفهم.
سألها يونس بغيظ «حضرتك يا تجيبي عربية تروحي وتاجي بيها يا تتفقي مع حد يوصلك إنما كدا بالليل ترجعي لوحدك المنطقة دي لا»
رفعت حاجبها تحديًا اعتراضها يقف في حلقها مترددًا فرمقها عبر المرآة بتحذير ألا تفعلها ولا تحاول رجمه باعتراضٍ أحمق، أشاحت قائلة بمهادنة«هشوف»
رفعت نظراته الغاضبة راية السلم بينما حملت شفتاه ابتسامة رضا على استحياء، التقت نظراتهما صدفة عبر المرآة فهربا كل منهما يحمل داخله ثقل المشاعر التي تحبو داخله.
خلفهما كان فهد داخل سيارته يلعنها متوعدًا لها، يقسم على نحر كبريائها وتلطيخها بوحل يدنّس ثوبها، لا يمل من مراقبتها وتتبعها حتى تبدد شكه من ناحيتها تمامًا مقتنعًا بكلام والده عن سوء ظنه وهواجسه لكنه اليوم رأى بعينيه يقين شكه واستمارة القبول داخله، صغيرته التي شبت على حبه حطمت الأصفاد وهربت، نزعت الطوق لتسير أول خطواتها في طريق عشقٍ لآخر، لكنه لن يتركها لغيره لن يهنأ بفيروزته سواه ولن يتوقف حتى تعود أو يهلكا سويًا.
**********
في اليوم التالي عاد يونس للشقة هالكًا بالتفكير، دخل حجرته ليستريح فوجد طاهر يلملم ملابسه في حقيبة صغيرة، سأله وهو يتسطح فوق الفِراش «رايح فين يا واد يا طاهر راجع قنا؟»
نظر إليه طاهر مُفكرًا متحيرًا يفصح له أم يحتفظ بالسر ووعده لها بألا يخبرهما الآن، شعر بالضيق من هذا الأمر فلأول مرة يكن له سر يفصله عنهما، يخفيه عنهما باستقلالية تزعجه فلطالما كانوا كالبنيان، حتى رؤوف لا يحتفظ لنفسه ببعض الأمور إلا خوفًا عليهما وحبًا لا يريد إزعاجهما أو تحميلهما فوق طاقتهما.
رمى الملابس في الحقيبة بسرعة قائلًا «لاه هجعد مع واحد صاحبي كده كام يوم»
ضيّق يونس عينيه على وجه طاهر مستفسرًا وهو ينهض بجذعه «مين دِه؟ حد أعرفه؟»
أجابه طاهر وإنزعاجه يزداد«لاه متعرفوش»
سأله يونس وهو يعتدل جالسًا محيطًا له بنظراته الثاقبة المتصيدة لانفعالاته«مالك يا زفت؟»
أجابه طاهر «مفيش مالي يعني؟»
تحرّك يونس ناحيته قائلًا «مش مرتحلك خالص»
أغلق طاهر الحقيبة وحملها فسأله يونس «غزل مكلمتكش؟»
تهرّب طاهر منه قائلًا «أخبار فيروز إيه؟»
هتف يونس قابضًا عليه متلبسًا بهروبه «مخبي عني حاجة شكلك يا طاهر؟»
تأفف طاهر منزعجًا من نفسه ومحاصرة يونس له «يعني هخبي إيه؟»
دفعه وخرج من الحجرة قائلا بانفعال كاذب أتاح له التملص من براثنه «متشغلش دماغك عليا يا يونس»
خرج طاهر تاركًا صدى كلماته خلفه تدفع نداء يونس عليه «خد ياااض تعالى مالك شكلك مخبيلك حاجة»
أغلق طاهر الباب مانعًا تسرّب المزيد من كلمات يونس لأذنه وقلبه الرافض للأمر، تنفس بقوة وركض للأسفل بسرعة.
بمنزل ورد كانت تقف بينهم مودعة، عانقت ورد بقوة شاكرة معروفها وكذلك سكن التي بكت معاتبة لها «كنتي استني لما تقابلي المتر واطمن عليكي»
تنفست غزل برضا قائلة وهي تُبقي عليها داخل أحضانها «هانت وبعدين هقعد مع أخويا طاهر مش هروح مكان»
نصحتها سكن بود ودموع لا تتوقف «طيب ابقي طمنيني ومتتأخريش عليه يا غزل وتقعدي مع أخوكي من غير ما تعرفيه بوجودك»
ابتسمت قائلة «حاضر اطمني»
طالعتها ورد بنظرة حنون مليئة بالمشاعر التي جذبتها فاندفعت ناحيتها بعناق جديد يفيض مودة وامتنان«هتوحشيني يا غزل وتجطعي بي»
ابتعدت غزل قائلة بلطف شديد وخجل «اسمحيلي أكلمك دايمًا وأزورك»
ضمتها ورد من جديد لائمة «واه يا بتي بتستأذني تشوفي أمك وتكلميها!» أدمعت عيناها متأثرة بتلك المكانة شاكرة لها«ربنا ما يحرمني منك»
ابتعدت ماسحة دموعها فهتفت ورد بلهجة جادة حازمة «بجالك أم بيتها مفتوح لك فأي وجت زي حضنها وقلبها تمشي في الدنيا راسك مرفوعة وضهرك مفرود بحبايبك لا تنحني ولا تتذلي ليكي أم تبعتيلها مسافة السكة تكون عندك،ليكي أهل يقلبوا الدنيا عشانك، عاتبي واتجبلي العتاب خدي حقك واديله حقه بعدل ربنا ،واختاري نفسك ليها حق عليكي وهيحاسبك عليها ربنا»
انحنت ملثمة كف ورد بشكر قبل أن تتجه نظراتها للصغير المنكمش بنظرة عتاب قاسية على قلبها، هبطت لمستواه قائلة «هتوحشني كتير، هكلمك كل يوم وهنحكي كل حاجة لما تيجي المطعم بس متزعلش»
عانقها الصغير باكيًا يتوسلها من بين شهقاته «متمشيش يا غزل»
تذكرت قاسم فضمته أكثر وهي لا تعرف لما تفارق كل من تحب؟
أبعدته ماسحة له دموعه قائلة بمرح «إيه يا صاحبي مش اتفقنا منعيطش»
هز رأسه محاولاً ابتلاع شهقاته وكتمها حتى لا يخل بوعده فقبّلت خديه ورأسه ونهضت لتأخذ الصغيرة الواجمة قسطها من الوداع
«هتوحشيني»
عانقتها بشدة مبادلة لها المودة «أنتِ وحشتيني من دلوقتي اهو»
ضحكت غزل وابتعدت مقبلة خديها قائلة وهي تضمهما في نظرة واحدة «هنتكلم وهشوفكم في المطعم وهاجي أفسحكم برضو ونلعب مش هتنسوني صح؟»
عانقاها مرددين في نفس واحد «لا أبدًا يا غزولة مش هننساكي»
نهضت بعدما تركتهما متجهة للباب فتحت وخرجت بخطوات متثاقلة، تبعتها سكن قائلة «خلي بالك من نفسك يا غزل»
ابتسمت غزل قائلة بنظرة ممتنة «وأنتِ كمان»
هتفت سكن تؤكد عليها بصيغة السؤال «مش هتخافي من حاجة وهتثقي فنفسك»
ابتسمت غزل قائلة بتردد «هحاول وهفتكر دايما إن صاحبتي الجميلة قالتلي إن عندي عنين حلوة أوي»
ضحكت سكن من بين دموعها فودعتها غزل وركضت ملتهمة درجات السلّم حتى لا تتوقف وتعود أدراجها لأحضانهم وأمان قلوبهم المتفهمة... بعد مقابلتها طاهر رفض أن تقيم بعيدًا وأصرّ أن تبقى معه فترة تفكيرها ليشاركها الرأي والأمر ويتناقشان فيما رآه سابقًا ويعرفه ولا تعرفه هي، ووضع كل الأمور في نصابها الصحيح، رغم إصراره على إبلاغ رؤوف إلا أنه رضخ في النهاية لرغبتها والانتظار قليلًا وها هي الآن تذهب إليه ليقيما معًا فترة.
*******
تأملت غزل الشقة قائلة برضا وقناعة «حلوة يا طاهر قلبي»
ابتسم طاهر بحنو قائلًا لها بمغزى مشددًا على كلماته «مش هنطوّل فيها يا غزولة بيت جوزك أولى بيكي»
توردت خجلًا قبل أن تتهرب بمشاكسة «فين الأكل يا متر يا صغير ولا هتجوعني؟»
أحاط طاهر كتفيها مذكرًا لها طوال الوقت بمكانتها بينهم وقيمتها وانتمائها لكبيرهم الذي يحبونه ويقدرونه«عيب عليكي دا أنتِ مرت كبيرنا الي مأكلنا كلنا» دفعته بكفها بعيدًا عنها فعاد قائلًا بضحكات رائقة «من حقي أنتِ الي تصرفي عليا» اقترحت عليه «تعالى أطلبلك كام صنف من عند دكتور حمزة حكاية»
هتف طاهر بجدية «غزل ناوية على إيه فموضوع المطعم دِه؟»
قطبت حاجبيها متسائلة باهتمام وهي تجلس على أول مقعد قابلته «قصدك إيه مش فاهمة؟»
جلس طاهر جوارها موضحًا برفق «قصدي مش مقامك ولا ينفع وكفاية كده عشان رؤوف ميشيلش كتير منك»
قالت بكبرياء وشموخ «مال رؤوف في كده أصلا؟ ومش هينفع ليه؟»
ضربها على مؤخرة رأسها معاتبًا لها بحنو «بت أنتِ مش عارفة أنتِ مرت مين؟ ولا جوزك يبقى مين؟ ولو عرف بحاجة زي دي هيعمل إيه؟» أجابت بلا مبالاة «لا، بعدين عادي هيعمل إيه أكتر من الي عمله؟ الشغل لا هو عيب ولا حرام»
مازحها «هيطربج المطعم على دماغك ودماغ الدكتور ومش هيستوعب إنك تشتغلي عند حد يتحكم فيكي أنا عارف أخوي»
أوضحت بدهشة «دكتور حمزة صاحبة وراجل محترم جدًا وبصراحة مينفعش أسيبه يا طاهر مرة واحدة كدا بعد الي عمله معايا » قال بصبر «عارف كل دِه بس رؤوف كده مبيحبناش احنا نشتغل عند حد،دا لو يطول يفتح ليونس شركة هيعمل كده، متخيلة لو أنتِ؟ بعدين مبقولكيش سيبي مرة واحدة عالأقل مهدي له»
تنهدت قائلة «طاهر افرض أخوك طلقني ومتصالحناش؟ أنا هعيش منين يا حبيبي»
ضربها مرة أخرى معاتبًا «بتقدري البلاء ليه؟ معنديش شك إنكم ترجعوا من تاني ، بعدين أنا مش مكفيكي يا بجرة؟»
ابتسمت موضحة له «بالعكس يا حبيبي عارفة إنك مش هتخليني محتاجة حاجة بس متعودتش أقعد ولا مصرفش على نفسي،بعدين أنا حبيت الشغل في المطعم»
هتف طاهر بيأس منها معاتبًا«بتشيلي رؤوف كتير يا غزل»
نهضت مغيرة مجرى الحديث «قوم نجهز أكل وسيب كل حاجة لوقتها بقا ومتعكننش عليا وعلى نفسك»
نهض مستسلمًا يدعو بالهداية لها وتيسير السبل.
********
بعد مرور يومان
دخل رؤوف المطعم مفتشًا بنظراته على الصغيرة،رآها فتبسم ضاحكًا وأشار لها لتقترب لكنها تجاهلته على غير العادة ابتعدت عن محيطه ضائقة وعابسة لا تلتفت لندائه ولا تجيب عليه، قطب مندهشًا من معاملتها شديدة الفظاظة وعبوسها في وجهه فصمت بأسف وتوقف عن مناداتها، اعتزل بعيدًا أمام نافذة مطلّة على الشارع..
أخبر العامل حمزة بمجيء رؤوف فهاتف غزل وأعلمها بوجود زوجها وطلب منها الاحتياط وأخذ حذرها إن رغبت في ذلك فشكرته وجلست تتأمله في الشاشة الكبيرة التي أمامها.
دخلت الصغيرة حجرة غزل فوجدتها عابسة، سألتها وهي تجلس فوق فخذيها «مالك يا غزولة؟»
استفسرت غزل بحزن «عمو رؤوف نادى عليكي ليه مروحتيش؟»
فكرت الصغيرة قليلًا ثم أجابتها بأسف «مش عايزة أكلمه تاني خلاص»
استنكرت غزل بضيق لم تظهره «ليه عمل إيه؟ دا بيحبك خالص»
أجابتها الصغيرة ببراءة «علشان زعلك يا غزولة»
عانقتها غزل طويلًا هامسةً «أنا الي مزعلاه»
ابتعدت الصغيرة تمسح على رأس غزل بحنو قائلة « طيب متزعليش هصالحه واعتذرله»
لثمت غزل خديها مثنية عليها ومشجعة لها «أنتِ شطورة»
خرجت الصغيرة فورًا راكضة ناحيته حيث ينعزل عن العالم، تابعت غزل شاشة الكاميرات التصويرية للمكان وقلبها ينتفض بقوة بين ضلوعها، تحسست بأناملها الشاشة هامسةً «وحشتني أكتر بكتير ما تتخيل»
ابتسمت من بين دموعها حينما وقفت الصغيرة أمامه كمذنبة وتابعت ما يحدث بانتباه.
اعتدل في جلسته منتبهًا يبتسم ببشاشة وحب للصغيرة التي جذبته من شروده بهمسها الرقيق «عمو»
«نعم يا أميرة الحلوين؟» قالها بأعين لامعة فهمست بدلال «سوري يا عمو متزعلش»
اتسعت ابتسامته فبررت برضا «كنت بلعب مشوفتكش»
مسح رؤوف على رأسها بحنو متقبلًا أسفها سعيدًا بمبادرتها «مش زعلان منك»
جلست جواره قائلة بعفوية « زعلان من حد تاني ؟»
نظر للجتيها هامسًا «لاه بس في حد وحشني»
اقترحت الصغيرة ببراءة «ما تروحله يا عمو»
اخبرها بتنهيدة متأثرة «معرفش مكانه ويمكن هو مش عايزني»
شردت الصغيرة قليلًا مفكرة تربط الكلمات والمواقف ثم أجابته «ما يمكن أنت واحشه كمان يا عمو بابا قال مش مفروض نحكم من غير ما نسمع» أطبق شفتيه بصمت مفكرًا في كلماتها قبل أن يقترب ملثمًا رأسها يؤكد «صح.. بس هو لو عايز بعد ليه؟»
همسها لنفسه جوار تنهيدة ملتاعة..
وضع النادل أمامه كوب عصير فراولة طازج قائلا «من دكتور حمزة»
أومأ رؤوف برأسه فشجعته الصغيرة «اشرب يلا يا عمو»
نظر للكوب متذكرًا امتناعها يومًا عن تناوله وتحريمها دخول الفراولة المنزل وإن كان من أجلها حتى لا يتناولها ويتعب، حرصها أن لا تأكلها وإن كانت تحبها.. تنهد بأسف
فورًا كانت تتصل بالنادل قائلة «صلاح نزلت للمتر فراولة»
«أيوة يا بشمهندسة»
«معلش ارجع بدلها بعصير برتقال فريش»
«ازاي هرجع أخدها وليه؟»
«مش هينفع معلش إرجع خدها ممكن تقوله بالغلط»
«مش هينفع حضرتك»
«علشان خاطري الاستاذ بيتعب من الفراولة يا صلاح اتصرف بليز»
«حاضر علشان خاطرك بس لو اتقفشنا تنقذيني من الشيف»
«ماشي اتفقنا»
بعد قليل تحرك صلاح ناحية الطاولة بكوب برتقال وضعه أمام رؤوف محركًا كوب الفراولة ناحية الصغيرة قائلًا «أنتِ مبتتعبيش من الفراولة اشربيها»
قطب رؤوف مندهشًا من قوله، متعجبًا من موقفه قبل أن يسأله دخل زين المكان فصرفه.
تبادلا السلامات والترحاب ثم جلس قائلا «حماتي بتحبني»
تناول كوب العصير من أمام الصغيرة بينما كان الآخر غارقًا في الصمت يفكر فيما حدث منذ قليل
«ازيك يا بنت أخت مراتي»
قالها زين بابتسامة ماكرة وهو يتأملها مفكرًا في خطته.
«ازيك يا عمو»
أجابته الصغيرة ثم نهضت من فوق كرسيها مقررة المغادرة، فسحبها زين وأجلسها قائلا «تعالي بس عايزك»
جلست مستفسرة «إيه يا عمو؟»
«سلمتي على عمك رؤوف؟»
قالها زين بوداعة كاذبة فهزت رأسها بينما هتف رؤوف «سيبها يا ابني تمشي»
اعترض زين بمكر «لا دي متمشيش دلوقت خالص»
تعجب رؤوف من أفعاله الصبيانية وشرد قليلًا قبل أن يخبره بما يشغله «الواد العامل جابلي عصير فراولة ورجع جابلي برتقال وقال لورد اشربيه أنتِ مبتتعبيش منه مين قاله إني بتعب منه..؟ »
تنهد زين بارتياح قبل أن يوجّه كلماته للصغيرة «قوليلي مين زرع كل الورد دا والشجر ؟» تأمل رؤوف المكان حوله متأملًا له بعد ما لفت زين انتباهه للأمر
«غزل؟» قالتها الصغيرة ببراءة وعفوية لاهية عن الذي انتفض واقفًا من مقعده نظراته تدور في المكان حوله بلهفة.. أشار له زين أن يجلس متريثًا فجلس مترقبًا بقلب ينتفض بين ضلوعه بينما تابع زين استدراجها وسؤالها، كممت الصغيرة فمها بكفها نادمة ثم نظرت لرؤوف مستكشفة أثر اعترافها على وجهه، استدرجها زين بدهاء «جدتك ورد قالتلي إنها هنا معاكم صحيح؟»
قطبت الصغيرة مُفكرة فذكر اسم جدتها شتتها فهي ختم المصداقية لأي حوار يقال وتُذكر فيه ثم أجابته «بتشتغل مع حمزة» ابتسم زين برضا قبل أن يسألها بخبث «حتى جدتك قالت إنكم مخبينها بعيد أووي»
أجابته الصغيرة مستنكرة«مش بعيد أوي فبيتنا التاني وأنا وهي وتيتة »
قالتها الصغيرة وهبطت راكضة بينما هتف رؤوف مستنكرًا بغضب«الي سمعته ده صح؟»
أجابه زين بنظرة راضية متألقة ومغامرة «أيوة غزل معاهم بقالها مدة طويلة وشغالة مع حمزة»
ضرب رؤوف الطاولة منتفضًا يهتف بغضب«ازاي حمزة ميجوليش؟»
نهض زين من كرسيه واقترب مهدئًا له يقترح «اهدا لما تعرف كل حاجة ومتتكلمش علشان مراتك متحاولش تهرب تاني منك» اخترقت كلماته القلب
فنظر إليه نظرة عاتبة متوجعة قبل أن يتركه ويرحل من المكان كله، تأفف زين لائمًا نفسه على تسرعه قبل أن يتحرك خلفه فورًا لمراضاته.
*****
لم يعد يطيق الانتظار أكثر من ذلك ترك عمله وخرج هائمًا، حتى استقر بسيارته أمام المطعم منتظرًا خروجها، لا يصدق أن خطوات قليلة تفصله عنها ولا يستطيع قطعها، انتبه لخروجها بصحبة الصغيرة وخلفهما حمزة، ودّعت الصغيرة بضمة طويلة حنون وصعدت لسيارة أجرة كانت في انتظارها، ضرب مقود السيارة بقبضته لاعنًا قبل أن يقود السيارة متتبعًا سيارتها حتى وصلت، انتظرها حتى صعدت وبعدها ترجل من سيارته باحثًا عن حارس العمارة نقده الكثير من الأموال واستدرجه بمكر حتى عرف أنها تقيم هنا بصحبة أخيها طاهر..
خرج يمسح وجهه بكفه متوعدًا أخيه، ضائق الصدر بثقلٍ يزن الجبال.
اصطدم به أثناء خروجه من العمارة فارتد طاهر للخلف مصدومًا من رؤيته هنا يردد اسمه بذهول «رؤوف»
حجب رؤوف عنه غضبه وغيظه مسدلًا ابتسامته ستارًا عازلًا «ازيك يا طاهر؟»
ابتلع طاهر ريقه ونظر خلف أخيه باحثًا قبل أن يسأل بتوتر ملحوظ واضطراب واضح «أنت هنا بتعمل إيه وليه؟»
دس رؤوف كفه في جيب بنطاله بينما رفع الأخرى معدلًا ياقة قميصه وهو يجيبه بابتسامة منمقة مقتبسة من فرحة منسية في القلب وسأله بمكر «أنا الي مفروض اسأل أنت داخل هنا بالأكياس دي ليه ؟ »
رمى نظراته ناحية ما يحمله طاهر الذي نظر بدوره لما يحمله متحيرًا يغوص في وحل الشتات والضياع باحثًا عن كذبة من تأليفه، راقبه رؤوف بحسرة لم يستطع إخفاؤها وعتب تجذر في القلب وحزن حفر في ملامحه اخاديدًا، لا يصدق أنه فعلها دونه وأنها لا تريده لهذا الحد،
أن تستخلص أخيها من بينهما وتختاره وحده لتعود إليه وتبقى معه ليس له إلا معنى واحد، أنه لم يعد له مكانًا في قلبها ولا حياتها وأنها تخطط للقادم دونه.
ابتلع غصته مستقبلًا كذبة طاهر التي حاكها بسرعة «هو يونس مجلكش؟»
أجابه رؤوف وهو يخبيء عينيه خلف نظارته السوداء محتميًا بها كعازل «لاه مقاليش حاجة يا طاهر؟»
خفض طاهر نظراته مستطردًا بضيق «جاعد هنا مع واحد صاحبي كام يوم كده عشان عنده ظروف»
أومأ رؤوف بفهم فرفع طاهر نظراته القلقة مكررًا سؤاله «وأنت هنا ليه؟ »
أجابه رؤوف بخيبة عظيمة أفقدته ثباته لوهلة «صاحب العمارة كان كلمني عارضها للبيع وجيت أشوفها»
لعن طاهر الحظ داخله، فابتسم رؤوف بعملية قائلا «روح يلا طلّع الأكل متتأخرش على صاحبك يا بابا» نطقها رؤوف بخيبة كأنه يذكره بمكانته عنده
أطبق طاهر شفتيه بغصة ندم حارقة وهو يهز رأسه بالموافقة بينما تحرّك رؤوف عائدًا لسيارته بثقل أكبر مما جاء به واكتشاف أدمى قلبه العاشق.
جلس قليلًا صامتًا ببؤس يتابع بنظراته الحزينة صعود أخيه حتى اختفى بعدها قاد السيارة راحلًا.
داخل مكتبه جلس بصمت واضعًا جبهته فوق قبضتيه المضمومتين
طُرق الباب فأذِن للطارق بالدخول «في واحد بره عايز يقابلك ضروري»
أخذ نفسًا عميقًا مستعيدًا به توازنه النفسي وسمح له «دخله يا رامز مفيش مشكلة»
سأله رامز بتردد «أنت كويس يا بوص؟»
ابتسم رؤوف قائلًا بدبلوماسية «تمام متقلقش»
أومأ رامز غير مقتنع وهو يرى تعبه واضحًا وحزنه العميق متهاديًا فوق ملامحه الوسيمة، سمح للضيف بالدخول فنهض رؤوف مُرحبًا بحفاوة معتادة «اهلا وسهلا اتفضل»
صافحه الرجل بشدة وجلس مبتسمًا شاكرًا حسن استقباله، جلس رؤوف قائلًا ببشاشته المعهودة «أأمرني»
سحب الرجل كارت صغير من جيبه وقدمه له مُعرفًا عن نفسه «أنا دكتور عبدالرحمن المنزلاوي»
قطب رؤوف حاجبيه وهو يسحب الكارت معيدًا قراءة الاسم يحاول التذكر أين صادفه، للإسم صدى غريب بنفسه كأنه ليس مجهولًا له ولا لأول مرة يُنطق على مسامعه، أذنه تحمل شفرة المعرفة المسبقة لكنه لا يعرف من أين ولا متى .
ابتسم عبدالرحمن موضحًا «سألت كتير عن حضرتك وكل الناس بتشكر فيك وجيلك في موضوع مهم واستشارة قانونية»
وضع رؤوف الكارت أمام نظراته بنصف وعي «اتفضل يا دكتور تحت أمرك بس الأول تشرب إيه؟»
شكره عبدالرحمن قائلًا «شكرًا مالوش داعي»
طلب له رؤوف عصير المانجو الطازج رافضًا «لا ميصحش»
انتبه له مشبكًا كفيه أمامه على المكتب منتظرًا أن تكتمل المعرفة ربما يعرف أين قرأ الاسم، أوضح عبدالرحمن «الحقيقة بشمهندسة غزل شكرت فحضرتك جدًا وفأمانتك وأخلاقك»
انتفض رؤوف مفككًا أنامله يقطب حاجبيه باستفهامٍ «غزل؟»
أجابه عبد الرحمن بجدية «أيوة وبالمناسبة هي موجودة مع حضرتك؟»
استنكر رؤوف سؤاله عنها وعبس بإنزعاج واضح قبل أن يهتف بعصبية «حضرتك بتسأل عنها بصفة إيه وليه من الأساس؟»
دخل العامل بكوبين العصير فتوقف عبدالرحمن حتى غادر وبعدها تابع «الحقيقة والدها كلمني وسألني عنها وقالي إنها مرجعتش لحضرتك ودا قلقني»
قاطعه رؤوف بغضب وغيرة واضحة «معلش وتقلق عليها بتاع إيه أنت؟ وأبوها مين أنا مش فاهم؟»
أوضح عبد الرحمن بصبر «أنا خطيبها السابق»
ابتسم رؤوف بسخرية قبل أن يسترخي قائلًا «آه وبعدين يا خطيبها السابق»
قالها بتهكم أزعج الآخر الذي تابع بصبر «الحقيقة أنا من ساعة ما هربتها معرفش عنها حاجة هي قالتلي إنها جيالك وكله هيبقى تمام طالما هتكون معاك»
تلوى قلبه وجعًا من الكلمات، سقط قناع غروره وخشعت نظراته بألم وندم فتابع عبد الرحمن «والدها كلمني وقالي هربت منك كمان لدرجة كان شاكك إنها عندي لإن مكانش معاها أي ورق ولا فلوس ولا أي حاجة وقتها ودا يخليني أقلق على مصيرها وآجي أسأل حضرتك»
أطرق رؤوف بصمت، أوضح عبد الرحمن متنصلًا من اتهامات عيني الآخر «بيني وبينها عيش وملح يخليني أقلق و آجي اتأكد من حضرتك خاصة إنها عملت كتير علشان تهرب وتجيلك واستحملت أكتر وكانت مبسوطة»
مسح رؤوف وجهه مستغفرًا وهو يستمع لكلمات الآخر التي تنغرس داخل قلبه ملوثة بالعتاب القاسي القاتل لضميره وعشقه، لا يعرف بما يجيبه وماذا يخبره حتى إنه لا يمتلك حق الصراخ في وجهه وإظهار غيرته عليها، كيف يفعلها وبأي وجه؟ وهو مقيد بذنوبه تجاهها، لم يرحمها هو ولم يرحم ضعفها ولا تقبّل استنجادها به يومها وطردها، نعم طردها مُلقيًا لها خارج مكتبه دون تفكير في عواقب فعلته
صدع قول طاهر في عقله المتزاحم بالأفكار «كنت اعتبرها زي عيال الدار هي متفرقش عنهم حاجة»
أفاق من نزاع أفكاره وشروده على قول عبدالرحمن المراقب له جيدًا «أرجو من حضرتك تتقبل اعتذاري ، أنا مش بتدخل فشئون حضرتك الخاصة لكن عايز أطمن خاصة بعد الي قاله والدها؟ وكمان عايز أبلغ حضرتك إن بشمهندسة غزل دافعت عنك كتير وحكتلي حقيقة أبوها كاملة من غير حرج بس علشان تثبت براءتك من الي قاله وتؤكد على نزاهتك وضميرك وتنقذك ومفيش حد يقول عنك كلمة وحشة أو يظن فيك ظن سيء»
الاعترافات من رجل كانت له يومًا تجلده دون رحمة، تزيده حسرة ووجع، رجل من المفترض ألا يقول ما قاله لكنه فعل، يؤلمه أكثر مما يسعده، ماذا يفعل؟ هل حقًا لم تعد تريده بعد ما حدث وتهدم جدار الثقة بينهما، لم تعد ترغب في العودة إليه من جديد؟ كتم تأوهًا مهمومًا داخله وهتف بجدية «تمام شكرًا لحضرتك غزل معايا وهي تمام جدًا»
ابتسم الآخر بابتهاج حامدًا الله ثم أردف «جاي لحضرتك فشغل بعد ما البشمهندسة شكرت فيك هكون متطمن لو مسكتلي القضية»
ابتسم رؤوف مرحبًا به «اتفضل شهادة البشمهندسة فحقي تشرفني»
****
رفعت رأسها مندهشةً حين وصلها صوته «ازيك يا دكتورة؟»
حملقت فيه متعجبة من مجيئه، همست بخفوت وهي تتظاهر بالانشغال «الحمدلله» لاحظ توترها وتغيّر ملامحها فقال «كنت بدور على علاج كدا مش لاقيه»
أشارت له بعملية «وريني الورقة يا بشمهندس»
أعطاها الورقة وانتظر ردها، تناولتها وتحركت باحثة عنه لتعود بعد قليل قائلة «غريب أوي الاسم أول مرة يمرّ عليا»
قطب حاجبيه مستفسرًا بجدية «ايه ده بجد؟»
سألته وهي تطالع الاسم من جديد مُفكرة «مين الي كاتبه ولمين؟»
أجابها بابتسامة مكتومة «دا لرجب دكتور كاتبه»
هزت رأسها بإدراك قبل أن تردف باهتمام «خليه معايا لما ييجي الدكتور أوريهاله»
شكرها بشدة «متشكر يا دكتورة» ثم تابع بإحباط كاذب ويأس «دا أنا لفيت عليه كتير»
ضمت شفتيها بأسف قبل أن تقول «هعمل سيرش وأشوفه برضو»
ابتسم لها شاكرًا قبل أن يطلب «كنت عايز ميعاد لرجب عندك يتابع كرشه كبر وتاعبني»
كتمت ابتسامتها وقالت بجدية «مفيش مشكلة»
طلب بنفس الجدية «ممكن العنوان مكتوب بالضبط والمواعيد»
هزت رأسها قبل أن تكتبه؛ ليغادر.. وجوده أكثر سيشتتها كثيرًا ويربكها أكثر، في حضرته الكثير من الاضطراب وخفقات القلب العالية وتقلصات المعدة المتعبة.
تناولها مبتسمًا بجاذبية مهلكة جعلتها تنظر إليه لثواني مشدوهة لا تعرف ماذا دهاها لتفعلها،طوى الورقة شاكرًا ثم استدار مودعًا لها
«الفيديو الأخير تحفة يا بشمهندس»
توقف مكانه مندهشًا من اعترافها السريع الذي جاء على حين غرة ، استدار يسألها «بجد؟»
هزت رأسها مؤكدة بابتسامة خجلى وتورد لذيذ،غادر قانعًا بما ناله منها، راضيًا منتشيًا بما حققه وإن كان بسيطًا لا يذكر، بينما جلست هي منهكة كأنها سارت ألف عامٍ تؤنب نفسها على تهورها واندفاعها، لا تعرف ماذا يصيبها، في وجوده يصبح لقلبها إرادة خاصة غير تلك التي يمتلكها عقلها، يسيرها وفق هواه مقيدة بتلك المشاعر الجديدة المبهرة واللذيذة.
صعد سيارته متذكرًا الكلمة التي كتبها والتي لا تنتمي لأي نوع من الأدوية الصناعية، بل دواءً لقلبه هو منتظرًا أن تكتشفها وتعرف معناها من خلال معرفتها اللغة.
حتى يحين الوقت سينتظر بصبرٍ كبير
**
في اليوم التالي
وقف طاهر أمامه مصدومًا يسرّب من عقله المكتظ بالخوف بلاهة وإرتباك لملامحه، ابتسم رؤوف قائلًا وهو يراقبه بإستمتاع بينما يضع نظارته في جيب قميصه
«ايه يا واد مالك متاخد ليه شوفت عفريت»
هتف طاهر متخطيًا صدمته بسرعة «رؤوف أخوي حبيبي ازيك يا رؤوف»
مال فم رؤوف بابتسامة متهكمة قبل أن يجيبه مجاريًا له فيما يفعل، غالقًا أبواب نفسه «ومعلي صوتك ليه هتفضحنا وايه رؤوف رؤوف دي » أزاحه رؤوف جانبًا ودخل الشقة مستطردًا ونظراته تتجول في المكان «جولت أجي أشوفك وعايز أسألك عن قضية كدا ونتناقش فيها»
سأله طاهر بإرتباك وهو يغلق الباب ويهرول ناحيته محاولًا إيقافه وتحديد مكان جلوسه «عرفت الشجة كيف؟»
جلس رؤوف بأريحية قائلًا وهو يمد ساقه للطاولة الصغيرة وهو يرفع نظرات مستمتعة «عادي سألت الحارس »
اقترح طاهر باضطراب «تعالى نطلع نجعد في أي مكان؟»
تأمله رؤوف قائلًا بنظرة متحدية ونبرة عازمة «لاه ماليش مزاج»
نظر طاهر للمطبخ برعب قبل أن يغمغم بخوف «يا حزنك ياطاهر»
سأله رؤوف بنظرة ثاقبة وضحكة مكتومة «بتجول حاجة؟»
جلس طاهر جواره قائلًا بصوت عالي «لاه يا رؤوف يا أخوي يا حبيبي»
اعتدل رؤوف واقترب رابتًا على خده بابتسامة وديعة «عليي كمان مين تاني في العمارة معرفش إني رؤوف أخوك حبيبك وجيت عندك»
ضحك طاهر ببلاهة موضحًا له باضطراب«عادي يا حبيبي»
نهض رؤوف قائلا يراوغه بتلذذ «هجوم أعمل شاي هات ملف القضية ندرسه»
قفز طاهر من مكانه فجأة ووقف أمامه معارضًا «لاه خليك هعمل أنا»
عاد رؤوف للجلوس باسترخاء موافقًا بسهولة «ماشي»
تحرك طاهر ناحية المطبخ برعب ونظرات رؤوف ترشق ظهره بسهام التوعد.. استقبلته غزل بقلقها «هنعمل إيه؟»
همس بتأفف «اطلعيله واخلصي»
عارضت بخوف وهي تنظر لباب المطبخ بلهفة مترددة تريد ولا تريد «لا يا طاهر بعدين»
ناقشها طاهر وهو يضعط رأسه «بعدين متى يعني طالما جه خلاص»
رجته بإرتباك وهي تسارع في صنع الشاي «طاهر بعدين، المهم دلوقت لا»
زفر طاهر بضيق هامساً «غزل مش هخبي كتير عنه لو سمحتي متحطنيش في الموقف ده معاه أنتِ عارفه أنا بحبه كد ايه، لو متصرفتيش بسرعة وفكرتي هقوله أنا»
ضربته بقبضتها عاتبة «قولتلك اديني يومين بس»
صبت له كوبين من الشاي وطعمتهما بالنعناع والقرنفل فتناولهما وخرج لاعنًا، استقبله رؤوف بسؤاله «ايه بتطبخ؟»
ضحك طاهر بإهتزاز وهو يضعه فوق الطاولة، نظر رؤوف للكوبين قائلا بابتسامة حزينة «نعناع وقرنفل كمان يا طاهر، عاش إنك لسه فاكر والله»
هز طاهر رأسه بابتسامة بلهاء ونظرة مترقبة، ارتشف رؤوف من كوبه معلنًا بتنهيدة «مظبوط يا طاهر زي عادتك كنت فاكرك نسيت سكري، بشرة خير»
ساورها الشك من ناحية كلماته، فجلست مفكرة تستمع بانتباه وشغف، ليصفعها بقوله التالي «بجولك إيه يا طاهر عايز أخد رأيك فحاجة»
رحّب طاهر قائلا «اتفضل ياحبيبي»
كتم رؤوف ابتسامته وتابع بنظرة ثاقبة «عايز أتجوز »
انتفض طاهر مرددًا بذهول ونظرة متفقدة لباب المطبخ «ايه تتجوز؟»
تابع رؤوف وهو يتابعه بنظرات ثاقبة متصيدة «أيوة بجول بما إن أختك مختفية ومش ناوية ترجع خلاص هستنى ليه؟»
سقط الكوب من كفها المرتجف محدثًا صوتًا عالي شخصت له نظرات طاهر بينما رفع رؤوف حاجبه مستفسرًا بهدوء «ايه ده هو صاحبك الي قاعد معاه هنا؟»
أجابه طاهر وهو يلعن داخله «أيوة.. لا.. يمكن بسة الجيران ساعات بتنط من شباك المطبخ»
اتكأ رؤوف مؤكدًا «صح القطط بيخربشو ويكسروا، اسألني أنا لسه بلملم وراهم»
قطبت غزل بضيق بينما تابع رؤوف «مردتش عليا، بعدين أنت وحبيبتك المجهولة فتحتوا نفسي عالجواز والحب»
هرش طاهر رأسه الفائرة بضغط رهيب ثم أجابه «بس بس غزل»
أجابه رؤوف ببساطة «وفينها غزل؟ خلاص بح» نظر لطاهر العابس وتابع هامسًا له وحده بنبرة عاتبة حزينة كسر بها مرح نبرته وسخريته «دورت كتير يا طاهر ومخلتش مكان، لا عيني غمضت ولا حسيت بطعم حاجة من يومها وأنت عارف»
رفع طاهر نظراته لعينين أخيه الحزينة اللائمة شاعرًا بلومه موجهًا إليه يزجره، ابتسم رؤوف بسرعة ليحيره أكثر ويربكه ثم تابع بتهكم «عايز برضك واحدة تبعتلي عيناك ليالٍ صيفية ولا حتى شتوية ولا حتى وحشتني يا سيدي ولا هو ليك أنت بس »
فتت عتابه قلبه وأشعره بالذنب أكثر ناحيته فابتسم رؤوف قائلاً بهمسٍ خافت «ولا أنت رأيك زي رأي أختك إني مستاهلش يا طاهر»
رفع طاهر رأسه مُجيبًا ببلاهة «ها..»
رفع رؤوف هاتفه الذي رن ضاحكًا على تعبيرات أخيه «ازيك يا باشا حاضر جايلك اديني بس نص ساعة»
أنهى الاتصال ونهض متحركًا ناحية الباب «معايا معاد كنت نسيته هروحه ولينا كلام يا أخوي» قالها رؤوف مشددًا على حروفه فابتسم طاهر مودعًا له وكله يرتجف.
*****
دخلت رحاب حجرته منادية فرأته يلملم ملابسه ومتعلقاته، اندفعت مستفسرة بقلق «مؤمن بتعمل إيه؟»
رمقها بنظرة متوجعة دون رد وتابع لملمة أشيائه، أمسكت بكفه موقفة إياه «رايح فين وبتبصلي كدا ليه ؟»
نفض كفها بعيدًا بحدة قائلًا «ماشي، راجع بيتي لمراتي وابني ولا فكراني مش هرجع؟»
ابتلعت ريقها وسألته بقلق وهي تتأمل ملامحه «لا عارفة بس ليه فجأة وبتتكلم كدا ليه؟»
هتف مؤمن بغضب «كنت مع حسناء يا رحاب»
هزت رأسها قائلة بتوتر بالغ «أيوة عارفة»
هتف مؤمن بحسرة «قالتلي على اتفاقك معاها وكلامك وكل حاجة»
تهربت قائلة بإرتباك وتظاهر بعدم الفهم لما يقوله «مش فاهمة كلام إيه واتفاق إيه؟»
رفع سبابته في وجهها مُحذرًا لها بحسرة «متكدبيش يا رحاب وتنزلي من نظري أكتر من كدا»
صرخت فيه مغرورقة العينين بالدموع «مش فاهمة حاجة أقف وكلمني من غير تهديد»
نفض كفها الممسك بذراعه وصرخ هو الآخر بنفاذ صبر «حسناء قالتلي إنك طلبتي منها تتقرب مني وتحببني فيها وإنك قولتيلها كل حاجة عني بحب إيه وأكره إيه وإنك بتسعي إني أسيب مصر ومرتي وولدي وأعيش هنا جنبك وأتجوزها»
كتمت شهقتها بباطن كفها شاخصة البصر على ملامحه قبل أن تهز رأسها له بنظرة لائمة مكذبة صديقتها « وصدقتها حتى من غير ما تسألني»
هز رأسه مؤكدًا بصراخ «أيوة علشان عارفك مبتحبيش مرتي وحاسس بالي بيدور حوليا يا رحاب أنا مش غبي وأقولك كمان سمعتك صدفة أنتي وأيوب»
أمسكت رحاب به باكية متوسلة تعترف بعدما دانها «أيوة عملت كدا بس كان قصدي مصلحتك»
صرخ فيها بغضب «مصلحة إيه؟ عايزة تخربي بيتي وتقوليلي مصلحة عايزاني أجي عالغلبانة الي اتحملتني وشالتني وأوجعها كدا هي دي كتر خيرك وشكرًا يا بنت الأصول»
مسحت دموعها مهدئة له «اهدا بس وأفهم»
زعق فيها «أفهم إيه؟ أنا عدت على مرتي أيام مكانتش بتاكل علشان توفرلي تمن العلاج، كانت بتطبق باليومين تخبز للناس علشان ملاليم متحوجناش ليكي ولا لغيرك ولا تكسر نفسي وخاطري،دي ممعهاش جلبية حلوة ولا بجامة وراضية »
جلس منهكًا يتنفس بسرعة هائلة فانحنت متوسلة «متزعلش علشان خاطري كنت متضايقة إنك اخترتها وسبتني وأنا ماليش غيرك»
نظر إليها متحسرًا يلومها «حرام عليكي دا أنتِ ست زيها حسي بيها، لو بتحبيني تكرميها علشان أكرمتني في الوقت الي أنتِ حتى مكلفتيش خاطرك تنزلي أجازة فيه»
اعتذرت بأسف «منزلتش غصب عني»
واجهها بحدة «وأنا ملومتكيش يا رحاب ولا قولت خدك مني واخترتيه عني بالعكس»
قبلت رأسه معتذرة له «خلاص حقك عليا»
أشاح بضيق ونفور قائلاً «وصاحبتك مش حرام تعملي فيها كدا علشان مصلحتك؟ مكفكيش مرتي لاه حتى صاحبتك! من متى وأنتِ أنانية كده يا رحاب!»
عانقته مكررة اعتذاراتها، معترفة بذنبها «معاك حق والله كنت أنانية ومش شايفة غير عيزاك معايا وجنبي»
انتفض واقفًا دافعًا لجسدها برفق مُلقيًا قراره «خلاص كدا»
سحب حقيبته وتحرّك مغادرًا فأمسكت به رافضة «كمل علاجك وأمشي»
هتف بحزن «مش عايز أكمل حاجة ولا أسيب مرتي أكتر من كده وأنا معرفهاش مالها ولا هبقى مرتاح خلاص هنا وأنتِ شايلة كل ده لمرتي الي بتتبهدل فمصر»
أحاطت وجهه بكفيه معتذرة «خلاص مش شايلة وهراضيها»
أبعد كفيها هاتفًا بحدة «مش عايز منك حاجة أنا هعرف أراضي مرتي»
غادر لتتبعه مستفسرة «طيب استنى مينفعش كدا يا مؤمن»
غادر مغلقًا خلفه بقوة فسقطت أرضًا منهارة بندم يحرق قلبها، سحبت هاتفها وسارعت بمكالمة زوجها قائلة «مؤمن عرف ومشي يا أيوب»
**
اختار الليلة المبيت داخل مكتبه وحده بأفكاره وهواجسه وحزنه الذي لا ينتهي
كانت قريبة منه ولم يستطع ضمها لصدره لإفراغ شحنة عاطفته على وجهها، للإحساس بوجودها.. فعلتها الأخيرة حالت بينهما منعته من اقتحام مكانها ومواجهتها لأول مرة يشعر أنها لم تعد تريده، تتنقل من صديقه لأخيها دون الإكتراث به، ألم يخبرها طاهر بمعاناته؟ ببحثه عنها؟ بندمه وشوقه؟
غفل أم أنها عرفت وتجاهلت ولم يعد لديها الرغبة؟ كل أفعالها توشي بذلك، لو يقدر لعاد لخالته تاركًا لها ولكل شيء، رنّ هاتفه فتجاهله زافرًا بضيق وحين تكرر الرنين
أجاب رؤوف على اتصال الملحّ بملل بعدما نزع نظارته الطبية تاركًا أوراق عمله جانبًا بتأفف«أيوة »
هتف طاهر بسرعة مستنجدًا به «أنا طاهر يا أخوي الحق يونس»
انتفض رؤوف واقفًا يهتف بصدمة وخوف جلي «في إيه يا طاهر ماله يونس؟ وأنتم فين أصلًا؟»
أجابه طاهر «مقبوض عليه فقضية آداب»
اتسعت عيناه بصدمة وهو يسقط جالسًا يستفسر بذهول شديد «إيه؟ آداب؟»



تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close