رواية عزف السواقي الفصل السابع والاربعون 47 بقلم عائشة حسين
السابع والأربعون
تائهة تتلفت حولها بضياع، تنظر للمنزل المحترق بنظرة خاوية،كأنه لا يخصها ولا هي فردًا من تلك العائلة،تتابع المشهد من خلف زجاج اللاوعي،كأنها داخل كابوس أو أن أحدهم جذبها داخل فيلم رعب كانت تشاهده قبل نومها،هدهدها بالأمس صوت مؤمن حتى نامت قريرة واستيقظت صباحًا على صرخة مدوية لن تعد بعدها الحياة كما كانت قبلها.
تأملت جدرانه المسودة بوداع،راقبت سعي الجيران وسرعتهم في مهادنة النيران وإخماد زئيرها، أقرنوا التفاتتهم بنظرة مشفقة ومصمصة شفاة،عادت بنظراتها للمنزل من جديد
النار محت كل ذكرياتها هنا، سيئة كانت أم جيدة النار أكلتها كلها بشراهة وانتقام تاركة لها حسرة ممتدة الأثر وخوف يركض بدمائها، احتضنت جسدها بذراعيها وهي تهوي فوق صخرة كبيرة أمام المنزل، الصرخات تنزعها من شرودها لدقائق ثم سرعان ما تغوص بوعيها كله في ذهول مطلي بجدارن قاتمة تتخبط فيها كطير ذبيح،صغيرها يصرخ متشبثًا بها فتسحبه أيادي الجيران بعيدًا عنها،تتلفت على الأيادي الرابتة على كتفها بمواساة وسؤال واحد فوق يافطة نظراتها لهم «ماذا يحدث؟»
أمس سألت نفسها من يمحي ذكريات والدها السيئة؟ من يمحي آثار خذلانهم من النفس؟ لتأتيها الإجابة سريعًا بصوت الصرخات، محتها النار كلها حتى أنها التهمت جزءًا من قلبها اللحظة.
هاهو والدها نائمًا بسلام بعدما اختنق بدخان النار ووالدتها خلفه بطاعة عمياء كما كانت في الدنيا، كأنها أبت إلا أن تكون النهاية كما البداية، ها هي أختها محترقة مشوهة بعدما طبعت عليها النيران بصمتها متذكرة غريبة عايرتها يومًا بغدر النيران، فأخذت النيران منها بالثأر نادمة على ما فعلته بالأخرى مقدمة قربان ندمها.
تسارعت أنفاسها وهي تتابع بنظراتها جسد أختها المغطى، حاوطنها السيدات بجلل مواسيين ومترقبين، ارتجفت صارخة تضرب خديها بقوة بعدما عادت لواقع أسوأ من كوابيسها.
لم يكن هو بأقل منها ذهولًا يقف في المشفى حاملًا الصغير محتضنًا له بحماية، يربت على ظهره مهدئًا بحنو فيضع الصغير رأسه على كتفه مطمئنًا آمنًا، أشفق عليه مما رآه وسمعه، حين علم بالخبر جاء يركض بعدما استنجدت به والدته أول ما فعله كان البحث عن الصغير ومعانقته،انعزل به في مكان آمن من الصرخات والعويل، يضمه لصدره محيطًا لجسده بذراعه كحماية له، ها هو الآن داخل المشفى يتابع الإجراءات ومازال لا يصدق، يتحرك بالصغير الذي يتشبث به كطوق نجاة خلف المتطوعين من أهالي البلدة بإنهاء الأمور.
ماتت والدتها مختنقة وبقيّ لوالدها عدة أنفاس استعان بهم وتعكز عليهم حتى انتشله المسعف من بؤرة الخطر وها هو الآن يجاهد ليعود للحياة من جديد.
أما زوجته السابقة فتعاني الأمرين، حروق وأنفاس ضائعة.
تذكر الغائبة الحاضرة ومعايرة المصابة لها بتشوهاتها، فذكر الله مستغفرًا لا يصدق كيف رد الله لها حقها.. هز رأسه لتتفرق أفكاره المتجمعة، ليعتدل تفكيره، تمسك بذكر الله صارفًا أفكاره عن الحدث مسلمًا الأمور كلها لله.
*****
ذهب بالصغير لمنزل والده، أراد وضعه في عناية عمته لكنه رفض وتشبث به رافضًا تركه، من وقت لآخر يفتش باحثًا عن والدته ثم يعود لوضع رأسه على كتفه في تعب ، في نهاية اليوم أرسل من يستأذنها في أخذ الصغير معه فوافقت شاكرة له مطمئنة أكثر عليه معه.
ذهب بالصغير لمنزل خالته وضعه فوق الفراش وخرج محركًا ذراعيه من تشنجهما في الهواء طاردًا الألم الذي أصابه نتيجة حمله للصغير طوال اليوم،أوصى قاسم الذي استيقظ فور دخوله بالصغير ثم اتجه ناحية المرحاض لأخذ حمامًا دافئًا يسترخي به ويعيد به حيويته،اطمئن لنوم الصغيرين فدثرهما وخرج مستنشقًا الهواء
«ريح ضهرك شوية يا ولدي أنت من الصبح على رجلك»
قالتها خالته بإشفاق وهي تناديه فعاد إليها وجلس بالقرب منها في صمت تربعت ضاربة على فخذيها بحنو مستدعية له فوضع رأسه في حجرها بصمت ممتنًا لدعوتها شاكرًا لها إحساسها به، مسحت على رأسه بحنان طرد الغم من صدره في تنهيدة عميقة، تمتمت بالأذكار والأدعية وهي تواصل المسح على رأسه محتوية بالأفعال، ململمة شتاته بصبر وتفهم… تشوهت آيات وقد تموت، أصبحت نجاتها صعبة، فإن نجت من الموت كيف ستنجو من تشوهاتها؟ هل ستتحمل؟ أم ستموت كمدًا وحسرة؟ لا يشفق عليها ولا يشمت، مشاعره جامدة تجاهها محفوظة في قالب بارد بمعزلٍ عنها.
تمنى اللحظة لو كانت غزل موجودة، لو كانت تنتظره كما كانت تفعل فيختبئ بأحضانها تاركًا الدنيا وأهلها خلف ظهره، كانت سده المنيع وحائطه الذي يتكيء عليه، أين هي الآن ؟ ولماذا يشعر أنه طفلٌ تائه من والدته دونها يريد العودة إليها والاحتماء بقلبها.. زفر بإرهاق فهمست خالته مواسية « مسير الطير لعشه يا ضنايا»
اعترف لها متحررًا من قيوده وأصفاده «وحشتني يا خالة»
مسحت على جبهته بأناملها الحنونة داعية «ما يوحشك عزيز ولا غالي يا ضي العين»
سألها مستغيثًا بعدما ضل طريقه «فين ألاقيها يا خالة؟ أروحلها فين؟»
ابتسمت قائلة بحكمة وفراسة«هي في الجلب غمّض عينك هتشوفها لما يؤون الأوان كل حاجة هتدلك عليها»
زفر بإحباطٍ ويأس فابتسمت مهونة «الصبر يا ولدي»
تأوه معاتبًا «وكأني مكنتش صابر طول العمر»
ابتسمت ممنية له «الصبر دلوك له معنى وطعم،صومت زمان من غير أدان، صوم دلوك وأنت عارف في أدان هتفطر عليه»
توسلها بحرقة في الصدر وهو ينهض جالسًا «ادعيلي يا خالة يهونها»
أجابته بحنو «دعيالك يا ولدي ينور طريقك ويهدي قلبك وتنول الي فبالك»
أمن خلفها ونهض متفقدًا صغاره وجدهما نائمين فاندس جوارهما محتميًا بهما من هجمات الشوق التي لا ترحمه ولا تشفق عليه.
**
سارت خلفه وهو ينثر البذور في الأرض «ازيك يا عم حامد؟.؟»
«ازيك يا بابا عاملة إيه؟» قالها بابتسامة حنون ونظرة من عمق القلب المحب لرؤيتها.
أجابته وهي تتابع السير خلفه كظل «الحمدلله بخير»
سألها وهو يتابع تناثر البذور حوله «زينة أختك يا رأفة؟»
أجابته بالحمد فابتسم وجلس تحت الشجرة منهكًا يلتقط أنفاسه بتعب، سعل فانتبهت متحفزة «أجبلك مية يا عم؟»
ابتسم لها قائلًا وهو يمسح على رأسها «لاه يا بابا، بس جوليلي زين جوز أختك»
ابتسمت قائلة بإشراق «زين»
«قالي هيديني دروس ببلاش جولتله مش عايزة» قالتها بضيق
فسألها باهتمام منتبهًا لحديثها«ليه مش عايزة؟»
أخفضت رأسها تخطط الأرض بغصن شجرة يابس وهي تقول بإنزعاج «لاه مش عايزة يا عم مبحبش حد يديني حاجة ببلاش»
ابتسم لكبريائها بإعجاب قبل أن يمسك بأذنها ويشدها محذرًا بمرح ومشاكسة «بس أنا غير الناس يا رأفة والله ما تفتحي بوقك لأعلقك في الشجرة ليلة بحالها»
ضحكت قائلة «ماشي مش هجول حاجة»
ترك أذنها مطلقًا سراحها بعدما عفى عنها قائلًا «جدعة»
ارتفعت نظراته لفيونكتها البيضاء الزاهية ، وخزه قلبه شوقًا لصاحبتها فأشاح محوقلًا يطرد الوحشة بالذكر، جذبت انتباهه بقولها التالي وكأنها قرأت أفكاره «امبارح صليت القيام زي ما جولتلي يا عم، ظبطت المنبه وصحيت ودعيت لأبلة غزل كتير جوي وحلمت بيها كمان»
تلألأ الحنين بنظراته المعلقة بفيونكتها كأنه يراها فيها، شكرها بحشرجة تأثر «كتر خيرك يا رأفة ربنا يتجبل منك»
ابتسمت له مردفة «بعتالك السلام ياعم، حضنتني جوي وجالتلي سلميلي على رؤوف»
وضع كفه موضع قلبه يهديء من ارتجافته المتأثرة،وهمس بضحكة متقطعة «قبلت البشرى يا بابا الله يرضى عنك وألف سلام لحبيبتك وحبيبتي »لم تفهم مقصده لكنها واصلت مستفسرة «مش أنت اسمك رؤوف برضو يا عم»
ضحك قائلًا «البشرى جات لرؤوف لو كانت جالتلك حامد كنت شكيت»
هزت رأسها بعدم فهم لكنه فهم وهذا يكفي، انطلقت نظراته راكضة في السماء هامسًا «ليكِ ألف سلام وألف عذر وألف محبة يا غزالي»
*****
اقتربت حسناء من مكتبه ومالت للأمام منادية بهمس «مؤمن»
رفع نظراته لها مجيبًا ببشاشته المعهودة ولينه «أيوة يا أستاذة حسناء» قطبت حاجبيها معاتبة له «إيه أستاذة دي يا ابني قولي حسناء عادي»
ابتسم معتذرًا لها بلطف وهو يشيح ببصره في أدب «لاه مش هعرف خلينا كده معلش»
سحبت الكرسي وجلست بالقرب منه بأريحية أزعجته وهتفت «ليه القفلة الصعيدي دي»
أخفض بصره كاتمًا ضيقه من قربها، محافظًا على ثبات نبرته وجديتها من تسرّب الإنزعاج لها «معلش أنا كدا»
ابتسمت مهادنة له «ماشي يا سيدي براحتك بس قولي هتروح فين بعد الشغل؟»
أجابها وهو ينهض من مكانه مرتبًا الأوراق فوق مكتبه كإشارة لها لتبتعد «مفيش عادي هرجع البيت»
لم تفطن لاشارته وتابعت «هنطلع كلنا النهاردة إيه رأيك تيجي معانا»
اعتذر منها بأدب «لاه شكرًا مش عايز»
نهضت لشعورها بتململه في وقفته وضيقه الذي تسرّب لملامحه الوسيمة «فكر يا مؤمن القعدة هتعجبك وبكره أجازة هتنام براحتك»
رفع نظراته لها أخيرًا قائلًا ببهجة ظهرت في نبرته ولمعة عينيه الساحرة «مين جال بنام دا أنا بستنى يوم الأجازة عشان أكلّم عبدالله وأمه»
انحسرت ابتسامتها من كلماته واضطربت بشكل واضح قبل أن تتماسك قائلة «خليلنا احنا ما قبل الأجازة»
جلس مرة أخرى في استياء رغم حفاظه على بشاشة وجهه «لاه بحب أقرأ واريح دماغي شوية وأجعد مع عيال اختي»
لم تتركه وشأنه التقطت كلماته ولضمتها في حوار آخر مستقطبة له «طيب هتقرأ إيه؟»
ضج من أسئلتها وحشرها أنفها في حياته، فتنهد قائلًا «أوراق شمعون»
أبدت حماسها له مؤيدة معجبة باختياره «تحفة هتحبها جدًا»
أومأ بصمت علها ترحل لكنها تابعت ببلادة «هستنى رأيك فيها لإنه بيعجبني أوي وبيكون زي رأيي»
ناداها أحد الزملاء فاستأذنت للمغادرة، أخرج ما كتمه من ضجر مع أنفاسه وتنهيداته قبل أن يعود للعمل داعيًا ألا تعود مجددًا وتسرق انتباهه من العمل بثرثرتها الفارغة.
في المساء انعزل بحجرته محاولًا الاتصال بزوجته لكن هاتفها مغلق على غير العادة مما أثار قلقه عليها ، انشغل باله فدار في الحجرة يزرعها بخطواته نافخًا بضيق، جلس أخيرًا مفتشًا بين كتبه باحثًا عن روايته التي سيقضي معها السهرة، التفت على طرقات الباب سامحًا لطارقها بالدخول
«مؤمن حسناء برة تعالى اسهر معانا» قطب حاجبيه مندهشًا من مجيئها بعدما أخبرته أنها ستخرج مع الزملاء، عاد لروايته يقلب صفحاتها معتذرًا «رحاب ماليش نفس هقرأ شوية وأنام»
دخلت الحجرة معاتبة تحاول إقناعه واستمالته «مؤمن من ساعة ما نزلت الشغل مبقيناش نقعد مع بعض يا حبيبي بليز متغلسش كمان في الأجازة»
ابتسم موضحًا لها بلطف «مش غلاسة والله بس أنا فعلا تعبان وهنام»
تأبطت ذراعه وسحبته عنوة متدللة عليه «عشان خاطري تعالى ساعة بس ونام»
استسلم لإلحاحها وخرج مرحبًا بتلك التي تركت نظراتها تستقبله بحفاوة، غض بصره وجلس جوار زوج أخته الذي عبس بإنزعاج مما يحدث
نهض مؤمن بعد قليل مقترحًا «هعمل فشار وحاجة نشربها»
أيدته أخته مشجعة له بينما تطوعت حسناء«استنى يا مؤمن هساعدك»
نفخ صدره بتأفف مكتوم دون رد أو قبول، تحرّك متجاهلًا لها بعبوس واضح، اقتربت منه مستفسرة «مؤمن ناوي تستقر هنا ولا هتنزل؟»
أجابها بجدية «هشوف مرتي هترتاح فين وأكون معاها»
عبست بضيق قبل أن تُعلن له غباءها «يعني إيه؟»
أجابها دون أن ينظر إليها، يتحرك بعيدًا كلما اقتربت «هسأل مرتي الأول إيه يريحها ويرضيها ونتناقش وتحب تيجي ولا أنزل ونكمل زي ما كنا»
هتفت حسناء رغم امتقاع ملامحها وغيظها «شغلك هنا غير وهيوفرلك دخل كبير يا مؤمن ويحسن الأوضاع، كفاية هتشتغل بمؤهلك فمكان محترم له مكانته مش زي مصر»
أجابها برزانة «الشغل مفيهوش عيب أنا لما كنت سواق مكانش محترم مثلا»
وضحت بإرتباك «مش قصدي خالص فهمتني غلط»
أوضح بابتسامة رفيقة لوجهه البشوش مذكرًا نفسه وإياها حتى لا تذل قدمه «لا عادي بعدين وافجت بالشغل فمصر علشان هكون جنب البنت الي بحبها ورفضت أجي مع رحاب علشانها ودلوقت هي ليها كل الحق تحدد خطواتنا الي جاية، تعبت كتير واتحملت أكتر علشاني»
سألته بحزن «أد كده بتحبها؟»
ابتسم موضحًا لها بشجن «ربيتها على إيدي.. علمتها إزاي تحبني واتعلمت معاها إزاي أحبها،مرينا بحاجات صعبة كتير مع بعض »
اعترفت له بتأثر «بحب حبك لمراتك أوي يا مؤمن عاجبني ، لما مقرر تسألها قبلت الشغل ليه معانا؟»
أوضح لها بصبر وصراحة «أولا دول تلت شهور قبل التثبيت تدريب يعني، أكمل علاجي خالص وأعمل مبلغ اشتري بيه شوية حاجات لعبدالله وهدى تبسطهم»
كظمت غيظها وضيقها قائلة «ربنا يوفقك»
هز رأسه بشكر مقتضب قبل أن يحمل أكواب العصير ويغادر بها مشيرًا لها «هاتي الفِشار بقا»
جلس بينهما لا يتحدث سوى لزوج أخته ولا يتفاعل سوى مع ذكريات زوجته وسهراتهم فيبتسم أحيانًا وتتلألأ نظراته أحيانًا أخرى، منشغل البال يخطط لما بعد عودته.
**
*في القاهرة بعد مرور يومان*
أرسلت له على خاصية صراحة خافية الهوية «وحشتني يا طاهر»
اختلج قلبه بمشاعر عديدة حين قرأها، وقف يدور ممسكًا برأسه قبل أن ينشر رسالتها و رده ملحقًا بها «كلمة وحشتيني متكفيش الي جوايا ليكِ بس وحشتيني برضو »
انتفض أخيه من على كرسيه يدقق النظر في الرسالة ويعيد قرأتها مرات، غادر حجرته مناديًا «طاهر»
رفع طاهر رأسه مُجيبًا «أيوة يا حبيبي محتاج حاجة؟»
سأله بإقتضاب وكل خلية فيه ترتجف «مين الي كاتبلك؟»
ضحك طاهر قائلًا بخجل وهو يفرك فروة رأسه «معارفش والله بس الي أنا وحشته أكيد وحشني»
هتف بعصبية وأنفاسه تسابق كلماته «طاهر متستهبلش»
رمقه طاهر بنظرة مشفقة لينة قبل أن يقترب مقسمًا له «والله ما أعرف.. بس أنا حسيت إنها غزل فرديت»
عاد يجر أذيال الخيبة خلفه، بطيء الخطوات ثقيل النفس بالهم، جلس أمام جهازه منحنيًا بجذعه للأمام في تفكير قبل أن يعتدل ويكتب تعليقًا على كلمات طاهر أظهرت تناحر غيرته وشوقه « ربنا يهنيكم ببعض يا حبيب أخوك»
انتفضت هي الأخرى مرتجفة تحملق في كلماته قارئة، هل عرفها؟ هل يقصدها بتهكمه؟»
ضغطت شفتيها بقوة وهي تنكس رأسها بألم بالطبع يقصدها،يزهدها .. فاقت على كف سكن وهمسها الحنون «بتبكي ليه؟»
مسحت دموعها بسرعة نافية «لا مفيش حاجة عيني اتطرفت »
سخرت منها سكن وهي تسحبها لتجلس جوارها «يبجى أكيد اتطرفت بواد الحفناوي»
ابتسمت وهي تطأطيء رأسها بخجل متهربة من نظرات سكن الثاقبة، رفعت سكن ذقنها هامسةً«مش النهاية يا غزولة دا بس اختبار لحبكم»
زحفت لمنتصف الفِراش قائلة بيأس «معنديش أمل يا سكن فأي حاجة، بس عايزة أقف على رجلي من تاني وأعرف هتصرف إزاي؟»
أجابتها سكن بإصرار «لاه لازم يكون عندك أمل وتدعي ربنا يحققهولك ولا هو حب أي كلام»
عاتبتها غزل بنظراتها ثم لسانها «شايفة من ناحيتي كدا؟»
تحركت سكن حتى جاورتها وضمتها بحنو كما تفعل قائلة «لاه بس المتر حبه ليكي غلب كرهه لأبوكي والحب الي يغلب الكره مفيش حاجة تجدر تمحيه بسهولة ولا توجفه»
سألتها غزل بدموع مترقرقة «تفتكري هيسامح»
أجابتها سكن مستبشرة «أكيد دا لو مكانش سامح أصلا»
سألتها بضياع «وإيه يجبره؟»
قرصت سكن خدها موضحة لها «جلبه يا هندسة»
ثم أوضحت لها برزانة «أنتم الاتنين محتاجين الهدنة دي، محتاجين تفكروا بهدوء وبعيد عن أي ضغوط، قربكم مش هيوفرلكم ده بالعكس هيشوش عليكم مع ضغط الي حواليكم، أنتِ تفكري وتشوفي الي عملتيه صح ولا غلط وهو كمان، عشان لما ترجعوا تبقوا واثقين إنكم مش هتجدروا تكملوا بعيد عن بعض ولا تبعدوا تاني يا غزل لانكم جربتوا الفراق»
صارحتها غزل بمعاناتها «مش عارفة يا سكن كنت فاكرة الي عملته صح بس لما فوقت حسيت إني غلطت وغلطي كبير ومكانش ينفع اتصرف بالشكل ده، أنا وعدته وطمنته وبعدين رميت كل ده، بس كان نفسي يسمعني»
أجابتها سكن بحيادية «لما كلمك سمعتيه؟ لما اترجاكي ترجعي وقالك أنتِ فكفه والعالم كله فكفه عملتي إيه؟»
طأطأت رأسها بندم فسخرت سكن «ضربتيه بالكفتين على دماغه، وشمتي فيه الي اتحداهم عشانك، سبتيه يواجه كل دِه لوحده من غير مبرر واحد يقوله ينقذ به كرامته، مش بعيد فكر إن الي عمله مكانش كافي وإنه ميستاهلش تحاربي معاه ريحتي دماغك ومشيتي»
سخرت سكن من نفسها للتهوين عليها «بس اطمني في بجرة سبقتك في الموضوع أنتِ مش لوحدك ومش طفشت لاه اتجوزت بالصلاة عالنبي »
ضحكت غزل من بين دموعها فضمتها سكن مؤازرة لها «هترجعوا بإذن الله ولو عيزانا نتدخل ونفهمه » رفضت غزل «لا يا سكن»
نصحتها سكن بحكمة «هتكملوا أو لاه لازم تجعدوا وتتكلموا يا غزل وكل واحد يجول الي عنده بصراحة ويفتح جلبه علشان لو في سوء تفاهم أو حاجة مش واضحة»
تنهدت غزل قائلة «لما أكون قادرة أعمل ده يا سكن هعمله»
ربتت سكن على كتفها قائلة «براحتك خالص، أحسن عشان الأخ لو عرف مكانك مش هيسيبك يوم واحد هنا وأنا والعيال اتعودنا عليكي خلاص»
ابتسمت لها غزل بامتنان فقالت سكن وهي تنهض واقفة استعدادا للمغادرة «متهيألي ولادي هيروحوا معاكي، حكيم أول ما أقوله غزل هتمشي يقلب وشه وورد بعد ما كانت بتحب المتر قلبت عليه خالص»
دعت لها غزل بمحبة «ربنا يخليهملك يارب وتفرحي بيهم»
قبلتها سكن على وجنتيها ورحلت تاركة الصغيرين معها كما طلبا،
استقبلها حمزة الذي كان في انتظارها داخل سيارته «ازيك يا حلوة؟»
صعدت جواره مُجيبة بدلالها «ازيك يا حموزتي»
سألها وهو يتلفت حوله «فين العيال يا سكن؟»
أجابته وهي تتأبط ذراعه «هيباتوا مع غزل وجدتهم ولما لقيوا حمزة فوق وأخواته شبطوا أكتر»
تأفف بضجر قبل أن يقود سيارته قائلًا «كويس علشان أنا جعان نوم والله» ثم اقترح وهو يكتم ضحكته «بجولك ما تكملي جميلك وتبيتي معاهم كمان عشان أنا اتوحشت الروقان والهدوء وأكلم الواد إبراهيم ييجي يسهر معايا» ابتسم متخيلًا ما يقوله منشرح الصدر بالإفتراض
رفعت رأسها له بعينين متوعدتين فسألها متظاهرًا ببراءة «إيه في حاجة يا سكينة ؟»
تركت ذراعه قائلة بابتسامة متوعدة «سكينة كمان يا دكتور البهايم!»
ابتسم للذكرى ونظر إليها بصمت يرى آثار الذكريات على وجهها وملامحها، تشابكت نظراتهما لدقائق عادا فيها أعوامًا، انتزعهما رنين الهاتف من ذكرياتهما، فتح حمزة مجيبًا صغيرته «حموزة فين الحلويات الي قولت هتجبهالنا لما نبات مع تيتة؟»
أجابها بإبتسامة مشرقة «هتوصلك يا حبيبي أنا طلبتلكم كل الي بتحبوه»
شكرته الصغيرة برقة «شكرًا يا حموزتي باي»
تأبطت ذراعه من جديد واضعة رأسها على كتفه فهمس بابتسامة جذابة «ها يا حلوة إيه تخيلك لليلة نرجع فيها أنتِ سكينة وأنا حمزاوي دكتور البهايم»
نظرت لعينيه المتوهجة قارئة «مممم»
لينطقا في نفس واحد متبعين افتراضهم بضحكة عالية «عايزة بوسة زي الحلم يا حمزاوي»
****
«أخيرًا فتحت» قالتها بتنهيدة خلاص وثقل على صدرها لا يحركه شي ء، ضحك ساخرًا من قولها «إيه وحشتك؟»
أجابته بنبرة جادة مفعمة بالسخرية المريرة «أكيد دا احنا عشرة عمر يا غالي»
تابع سخريته بضحكة عالية خدشت مسامعها «غالي؟ مالك أنتِ شاربة حاجة؟»
أجابته كاتمة غيظها في القلب جوار القهر الرابض «لا أنت الي مالك؟»
سألها بإهتمام «رجعتي من عند الحفناوية ولا إيه ؟»
أجابته بنفس الجدية «جوز بنتك حلف مقعدش معاهم وهددني لو شافني هيقتلني»
أشاد بقوله في إعجاب «الواد ده راجل والله رغم كل حاجة بس بيعجبني أحيانًا»
كتمت قهرها وحرقتها وأردفت «هي غزل معاك؟»
أجابها بلا مبالاة شاتمًا الغائبة «لا بنت ال.... هربت بالورق لجوزها»
أجابته بصبر «صفوة بتقول مرجعتلوش تاني»
بنفس البساطة واللامبالاة أجابها «عادي يبقى أحسن وعملت حاجة صح خليه يتجوز صفوة بقا يا عواطف»
اجابته بغضب مكتوم «مرضيش يا مرتضى وقف قصاد أهله علشان بنتك وقال يا قاتل يا مقتول وعادا الكل علشانها » هتف مرتضى بإستحسان ورضا «شكلي هحبه والله وارضى عنه بيفكرني بعمه الواد ده»ثم غمغم بحقد وكراهية مشتعلة« بس دول مهما حصل بينهم مبيتفرقوش»
أجابته ساخرة «بس غزل مرجعتلوش»
هتف بضحكة متفاخرًا «جدعة كسرته واطية زي أبوها مهما كانت لسه دمي بيجري فعروقها »
سألته عواطف بحذر «أنت فين؟»
لكمها بقوله العنيف «وأنتِ مالك عايزة إيه؟»
أجابته بإنكسار وذل «عايزة أجيلك هفضل لوحدي خلاص معدش ليا حد؟»
تمتم بتفكير«أنا مش عايز حد بس خلاص هفكر»
أنهى الاتصال فتنهدت براحة داعية أن تتيسر لها السبل، حاولت مراسلة صفوة فصدتها ككل مرة وأغلقت في وجهها باب الحديث.
صفوة التي كانت تجلس بالحظيرة متابعة روح بنظراتها المتعطشة للراحة والمحبة، تجلس أغلب وقتها وحيدة بين صديقين مكتئبين كحال صاحبيهما، تسعد بأقل رد فعل منهما على حديثها وتبتهج كلما تقبلوا مودتها الصادقة، تذكرت والدتها وكيف كذبت عليها بشأن أموالها التي اعطتها لمرتضى وخدعتها حتى تعود والدتها له، الحقيقة أنها لم تفعلها إلا حين اصطدمت برد فعل أمها تجاه غزل وكراهية الجدة لها ومحاصرة الجميع لغزل، فخافت أن تعاني غزل، لذلك قررت كسر وديعة باسمها وحفظ المبلغ باسم الغائبة كفارة واعتذار فلولا مكيدة أمها واتباعها هي لكلماتها لما عانت غزل وفقدت مشتلها الذي تحب وأموالها التي جمعتها بكدها ومثابرتها واجتهادها.. وجدت أن ذلك تعويضًا مناسبًا لها على ما عانته ونذر يسير، وحماية لها من غدر الزمن بعد ما فعلته لأجلها وتركها رؤوف، ولن تنكر دور يونس ومساعدته حينما أخبرته بنيتها وتشجيعه لها على ذلك مؤيدًا فكرتها، وعلى ذكره رفعت هاتفه تسأله كما تعودت «مفيش أخبار عن غزل؟»
أدمعت عيناها متذكرة معاملة طاهر الفظة لها وخشونته ورفضه الإجابة على رسائلها واتصالاتها إن فعلتها لأجل والدته، كذلك رؤوف عيناه دائمًا تحملها وزر رحيل غزل وابتعادها، ليس فظًا طاهر لكنه يجلدها كلما نظر إليها، ينفر من رؤيتها، يعبس وإن جاهد ألا يفعل.
تمنت أن تعود أختها فلم تعد تطيق ذلك لولا الخوف لهربت مثلها من هذا المنزل الموحش بنواح قاطنيه وبؤسهم منذ أتت وكراهية جدتها لأختها التي تثير حفيظتها دائما فتشفق على غزل وتؤنب نفسها أكثر على ما فعلته بحقها.
*****
بعد مرور أسبوع في قنا
جلس حامد جواره قائلا ببروده المعتاد وهو ينظر حوله «ازيك يا واد يا فتحي»
انتفض الجالس بإسترخاء حين التفت ورآه جواره بهيبته وابتسامته المُربكة «ازيك يا أستاذ» قالها وهو يغطي عنقه بكفه متذكرًا ضربات كف الآخر ولهيبها المستعر، مخبئًا ومدثرًا لها خوفًا وقلقًا.
ابتسم حامد وهو يراقب فعلته وأشار له بوداعة كاذبة ولطف زائد «تشرب شاي يا فتحي؟ ولا أجبلك حلبة حصى؟ ولا أجولك سحلب بيعملوه حلو هنا»
نظر إليه فتحي متوجسًا حذرًا من لطفه الزائد و وده الجديد «مش عايز حاجة» قالها بإنزعاج شديد متذكرًا ما أكله من ضرب على يديه وما ناله من صفعات.
رفع حامد كفه ووضعها فوق كتفه قائلًا بلطف يزداد منسوبه فيغرق الآخر في التشتت«هجبلك سحلب»
انتفض فتحي واقفًا بهلع نافضًا كف الآخر التي هبطت عليه كالمطرقة، كتم حامد ضحكته وجذبه ليجلس قائلا «مالك بتتنفض يا واد ما تسترجل كده»
جلس مرغمًا يتحسس كدمات وجهه سائلاً بخوف «عايز مني ايه تاني مش خلصنا»
استند حامد بساعديه على الطاولة التي أمامه قائلًا «شوف رغم عملتك السودة بس أنا جاي أفتح صفحة جديدة معاك»
انتفض فتحي واقفًا يرفض بهلع «لاه معايزش سبني فحالي خلاص مش هسرق ولا هعمل حاجة»
صفق حامد قائلًا وهو يحيطه بنظراته حد الاختناق «سحلب جامبو هنا لفتحي يا واد»
فرك فتحي خلف عنقه مغمغمًا بشبه بكاء «يا بوي كمان جامبو»
كتم حامد ضحكته وهو يتابع حركات كفه و ذعره الواضح وأردف «مش هكلمك أجعد عايزك فموضوع» جلس نافخًا بسأم يسأله بسرعة «عايز إيه مني»
هتف حامد بجدية «اركز يا واد واجعد بدل ما أديك على قفاك»
انكمش صامتًا مُرغمًا حذرًا فأخرج حامد من جيب جلبابه رزمة أموال ووضعها أمامه لإغرائه قائلا «خد دول»
نظر له فتحي بعدم تصديق وارتباك فهتف حامد بغضب «بجول خدهم»
تناولها بكفٍ مرتعش وحذر شديد فأردف حامد «حتاخد كدهم تلت مرات لو عملت الي هجولك عليه»
ابتلع فتحي ريقه وسأله وهو يتأمل الأوراق النقدية الكثيرة «هعمل إيه؟»
همس حامد وهو يميل ناحيته، فابتعد فتحي قليلًا بهلع، جذبه حامد مرة أخرى وثبته ثم همس «بجى عمتك ادتك على قفاك وخدت الحاجة وسابتك تتضرب وتتهان»
ردد فتحي بذهول «زينب؟»أكد حامد قوله «أيوة وجات وهددتني بيهم وأنا محبش كيد الحريم»
سأله فتحي بإرتجاف «وأنا أعمل إيه؟»
همس حامد بخطته وهو يتأمل ملامحه ونظراته التي تلتهم الأموال «لو جبتلي منها حاجتي الي عندها هديك كدهم ولو مجبتهمش هسجنك بطريقتي ومش سرقة لاه حاجة تليق بيك وتشفي غليلي » نظر إليه فتحي بذعر فابتسم حامد واسترخى قائلًا «ها جولت إيه هتعرف؟»
دس فتحي الأموال بجيبه قائلًا بحماس «هجيبهملك هعرف إن شاء الله بس هو الورق ده فيه إيه؟»
ضربه حامد على عنقه بقوة زاجرًا له بضحكة قصيرة «مالك أنت تسأل ليه؟ ما تجيب وخلاص»
فرك فتحي مكان ضربته عابسًا يهز رأسه بطاعه فقال حامد وهو ينهض من مكانه «اشرب السحلب مدفوع تمنه»
غادر يدندن
ولقد رأَيتكِ في منامي ليلةً
ف نسيتُ ما قد كان في أحزاني
لو كنتُ أعلمُ أن الحلم يجمعنا
لأغمضت طول الدهرِ أجفاني
في طريقه مرّ من أمام المقبرة، غلبه الحنين فدخلها دون رهبة يترحم على موتى المسلمين ويدعو لهم، وجد عبود جالسًا كعادته فجلس جواره بصمت وقدسية محترمًا لمشاعره ومقدرًا معاناته اللحظة، دعا مترحمًا على ساكنة القبر وصمت فقال عبود موصيًا إياه «الغريبة تربي قاسم يا حامد محدش يربيه غيرها»
تنهد حامد قائلًا بحسرة «وأجيبها منين أنا دلوك الغريبة يا عم؟»
أردف عبود كأنه لم يسمعه مؤكدًا وصيته « محدش شفق عليه غيرها ومحدش هيحس بيتمه غيرها وهي قابلة وراضية وأحب ما على قلبها.. معاها هكون مطمن عليه وعليك»
سخر منه حامد مازحًا «والله ما حد ملبسني فحيط غيرك لما اديني جاعد اهو أغني ظلموه»
ابتسم عبود بمحبة فأردف حامد ممتصًا حزنه رافضًا ما شعر به راكلاً ذعره من فكرة الفراق يتهكم مقلدًا له «الغريبة يا حامد، نوارة الجلب يا حامد لما ولّعت في الجلب وفاتته خرابة ميتسكنش بعدها»
ربت عبود على كتفه وهو ينظر إليه بحنو مشفقًا عليه ومتألمًا لمعاناته، تنهد حامد هامسًا «كان مالي أنا ومال الحب ياعم، أنا لا كده ولا حمله، قالوا للشقي حب قال الله يرحمني»
هدده عبود «والله هجول لتماضر»
نهض حامد نافضًا جلبابه من التراب، ثم سحبه متأبطًا ذراعه وسار به للمنزل متراجعًا «لاه خلاص مش هتكلم »
هتف عبود بجدية «هسافر مصر أدور عليها»
هتف حامد ممازحًا له بمرح «وتجولها إيه؟ ارجعي للمسكين الغلبان هيموت من غيرك»
أجابه عبود بنفس الجدية «لاه هجيبها تشوف بعنيها كل حاجة»
سايره حامد في رغبته ممازحًا «وماله زين جوي اهو نحبسها هنا لغاية ما عقلها يرد وعفريت التضحيات بتاعها يطلع من صباع رجلها الصغير »

