رواية عزف السواقي الفصل السادس والاربعون 46 بقلم عائشة حسين
السادس والأربعون
أغلق الباب ورمى المفتاح فوق الخزانة العالية،بتلقائية ونظرات شاخصة تتابع حركته قبضت على مقدمة ملابسها بأناملها التي تجاهد الإرتعاش، تبحث بعينيها عن ما يستر جسدها من نظراته التي تنهشها وتعريها بفجاجة ووقاحة نفرت منها، صاحت وهي تتحرك في الحجرة باحثة عن شيء تستر به جسدها «إيه جايبك هنا وعايز إيه؟»
سحبت حجاب كبير، تلحفت به وهي تسبه «يخربيتك»
جاهدت ليبقى عقلها مستيقظًا واعيًا، لا يشوشة الذعر ولا يشلّه الخوف حتى تتصدى له وتحمي نفسها من شروره، فغياب وعيها الآن واستسلامها للخوف سيجعلها لقمة سائغة يلوكها هذا الحقير،وضعفها الآن سيؤهله للنيل منها وتنفيذ ما عزم عليه وتراه بنظراته وتوشي به خطواته البطيئة ناحيتها، بدا مُغيبًا زائغ النظرات ومرتعش الجسد، راقبته بانتباه كمن يراقب عمرًا يخشى ضياعه والمرور من أمامه، أو ربما سارقًا يريد القضاء عليه بعد أخذ ما يمتلكه، لكنها لن تسمح بذلك ولن تدعه يلوث طهرها بأفعاله ويدنس بقذارته ثوبها النقي
، صاحت بعزمها وهي تبتعد عن الفِراش قدر استطاعتها «اطلع بره يا قذر»
أجابها وهو يمسح أنفه بابتسامة متلذذة ونظرة مُعرّية «لا.. مجتش علشان أمشي والي مش عيزاه برضاكي هاخده غصب أنا دفعت شقايا لأبوكي »
صاحت بغضب متراكم بداخلها كالحطب «غور فداهية منك لله أنت وهو»
مال فمه بابتسامة ساخرة وهو يقترب أكثر مسلّطًا نظراته على مفاتن جسدها، همس وسحر فتنتها يغيبه أكثر كما العقاقير التي تناولها قبل المجيء لتبثه الشجاعة وتضخ في أوردته القدرة «فاكرة كنتي تقولي هتجوز علاء»
صاحت وهي تتحرك للجهة الأخرى بسرعة «يا أخي أنت مبتفهمش الله يحرقك»
تحرك معها قائلًا وخياله المريض بالرغبة يصور له الكثير الذي يدفعه للهجوم «أنتِ بتاعتي أنا وليا أنا، مؤمن ميستاهلكيش ولا ينفع لك»
اندفعت ناحية الباب بحركة سريعة مرنة ووقفت خلفه ممسكة بالمقبض تحركه ضاربة عليه وهي تنظر إليه بحذر؛ لتتفادى اقترابه منها «مؤمن ضفره برقبتك يا كلب متجبش سيرته» سبته مدافعة عن زوجها وكلما غلبها خوفها واستحكم ضعفها سيطرت بقوة متذكرة الغائب معتذرة له في نفسها، تطلب من الله العون وتتوسل إليه المساعدة وحمايتها من هذا المجنون، وجدت نفسها تضرب الباب داعية بحرقة «منك لله يا آيات ربنا ينتقم منك»
أمسك بذراعها فدفعته بكل قوتها، اهتز ثباته فانتصب مزمجرًا في غضب حبيس نظراته المحتقنة، عاد إليها مستعيدًا قوته شاحنًا لها برغبته فركلته وواصلت الطرق على الباب مستغيثة، دخلت حنين بصحبة الصغير، تلاشت ضحكتها وخبت مرحها حين استمعت لاستنجادات هدى واستغاثتها، حملقت ذاهلة قبل أن تترك الصغير وتركض ناحية الباب طارقة بسؤال «مالك يا هدى؟»
بشبه بكاء توسلتها وهي تصرخ فيه وتدفعه عنها «افتحي الباب الحقيني من الزفت ده»
طرق الصغير الباب بكفيه باكيًا ينادي «أما أما...»
دارت حنين بنظراتها في المكان من حولها مفكرة، وهي تفرك أناملها بتوتر وذعر كبير شلّ تفكيرها
صاحت هدى من الداخل وهي تتفادى اقترابه ولمساته قدر استطاعتها «في المطبخ يا حنين في الزهرية في مفاتيح احتياطي هاتيها وافتحي بسرعة والنبي»
أمسك بها من خصلاتها في غضب كبير ينهرها «اخرسي خالص فضحتينا»
دعت بحرقة وهي تحاول تخليص خصلاتها من قبضته بينما يحاول هو تعرية جسدها من خلال تمزيق ملابسها «ربنا يفضحك»
غرست أسنانها في ذراعه بقهر فدفعها بعيدًا لاعنًا لها، تحركت ناحية الباب تطرق منادية برجاء «يلا يا حنين»
سحبها من ملابسها بقوة حد التمزيق لها وقد بدا مغيبًا تمامًا عن الدنيا، هائجًا كالثور لا يفقه سوى رغباته ولا يعي سوى ما يريد الوصول إليه..
اندفعت حنين تجرّب رزمة المفاتيح داعية بارتجاف وقلب تبلغ دقاته عنان السماء بينما جلس الصغير أرضًا يبكي بتوسل، ما إن تحرك أحد المفاتيح حتى قفزت فرحة و حمدت هدى الله ملتقطة أنفاسها، ابتعدت عن الباب قليلًا فدفعته حنين ودخلت، ما إن وقع بصرها على هدى حتى تراجعت خطوة متسعة العينين بشهقة مكتومة، حثتها هدى وهي تنظر إليه بانتقام «تعالي»
بكل ما أوتيت من قهر اللحظة اندفعت تضربه وتركله موبخة له «حقير وزبالة»
أفاقت حنين من صدمتها مندفعة هي الأخرى تضربه وتلكمه بقهر وغضب ألقيت بذرته داخلها منذ أن قرأت خطابات خالها ومذكراته... تكالبوا عليه فدفعهم وركض للخارج بسرعة لاهثًا، هاربًا منهما.
دخل منزل خاله وأغلق خلفه مستنًدا على الباب يلتقط أنفاسه، استعاد قوته بعدما تناول حبة مخدر أخرى ثم دخل المندرة لاعنًا يدور فيها مُفكرًا، بلحظة تهور دخلت المندرة ملتفتة خلفها، أغلقت عليهما الباب مستفسرة «كنت فين يا ابني بقالي كتير بدور عليك»
نظر إليها مستفسرًا «عايزة إيه؟»
اقتربت قائلة متجاهلة نظراته الجريئة الوقحة على غير عادته معها «في حاجة عايزة احكيهالك ضروري أنا واقعة في مصيبة»
مسح وجهه بوعي ينازع، يحضر ويغيب، قال بعجالة وعدم صبر «عايزة إيه اخلصي»
قالت بارتجاف وتردد «كنت بكلم واحد هو أبو بنت بديها درس للأسف خدعني ودلوقت بيهددني بصور كنت بعتهاله ورسايل بينا»
نظر إليها كأنه يكتشفها، مرّ على جسدها كله بنظراته المهزوزة المهزومة بالرفض ثم هتف وهو يمسح أنفه «وعايزه إيه؟»
توسلته بذل «اتصرف يا علاء شوفلي حل»
لاح على خاطره السمراء الجميلة التي امتنعت عنه فزاد حقده وتأججت ثورته، نهض ثائرًا يدور بهمجية أربكتها، اندفع للباب وأغلقه جيدًا تحت نظراتها المتسائلة،ثم اقترب منها بوعي بدأ في التبخر، وطيف السمراء يلوح في خاطره من جديد «في إيه يا علاء مالك بتجفل ليه؟»
بهذيان مُربك هتف وهو يحيط كتفيها ويوقفها أمامه «أنا بحبك مش هو، مؤمن دا ولا حاجة»
ارتجفت أكثر وحملقت فيه متوسلة «علاء أنا آيات فوق»
ضربة كفها على خده ليفيق كانت كفيلة لإشعال غضبه و إصراره، كمم فمها بكفه وهو يهمس بهذيان «متخافيش يا هدى»
هزت آيات رأسها بذعر وأعين متسعة تنهاه لكنه عازم وبذرة الشرة التي رمتها يومًا بقلبه جاء اليوم لتحصدها دون وعي منه وإرغام لها،اليوم تجني حصاد مخدر وضعته لآخر وتقع في فخٍ نصبته لأختها.
***
ذهب هو وصغيره لمنزل رأفة مباركًا يحمل الهدايا ويضمر في جيبه نقوطًا للعروس، بتواضع عانق والدها مباركًا له بسرور وبهجة، قبل دعوته للدخول ففعل، تناول ضيافتهم المقدمة بشكر ثم طلب الصغيرة وانتظر بلهفة طفولية مجيئها ليريها هديته إليها ويسعد برؤية فرحتها ولمعة عينيها الآسرة وعفتها الجميلة، مغتنمًا من فرحتها رضا لقلبه القنوط اليائس متعزيًا برفقتها عن فقد غاليته وحبيبته ساكنة الفؤاد ومعذبته، دخلت بلهفتها عليه، مندفعة ترحب بوجوده وهي تكاد تطير من فرط سعادتها بزيارته ومجيئه إلى منزلها
تأكد من خروج والدها فنهض قائلًا «أنا جايبلك هدية ولازم تجبليها مني وإلا…» توقفت كلماته فتوقفت معها أنفاسها وسكن انبهارها في نظراتها اللامعة المتوهجة «وإلا إيه يا عم….» توقفت عند تحذيره وعقابه الواقف على حدود التنفيذ وقد بدا هذا كل ما يعنيها في الوجود.
ضحك قائلًا بمرح «غمضي عينيكِ الأول»
شجعها قاسم بفرحة مماثلة وانطلاق«يلا يا رأفة»
أغمضت عينيها بسرعة وانتظرت بصدق لا يعكره فضولها الطفولي البريء، صامدة لا تميل مع رغبتها فمحبتها له واحترامها له أقوى من أن تزحزحه لهفة.
هتف حامد وهو يُخرج الفستان من الحقيبة الورقية « هتاخديه مني ماشي؟ أوعديني..»
تململت تعده بلهفة لم تستطع كبحها أو تلجيمها في نبرتها السريعة «حاضر يا عم أوعدك»
فرد قاسم ذراعيه بحركة مسرحية مفتتحًا اللحظة بمرحه «تاتاتا… فتحي يلا»
فتحت عينيها على فستان أبيض من التل فغرت فمها تتأمل تفاصيله المبهرة بأعين متسعة تود التهامه.. سألها حامد بترقب متابعًا مفرقعات البهجة في عينيها وألعابها النارية «ها عجبك؟»
كعادتها عفيفة النفس مترددة لم تقترب فشاكسها بعبوس كاذب «معجبكيش؟»
اندفعت معانقة له بمحبة تبكي شاكرة بامتنان لقلبه العطوف المحب، ضمها بحنو متقبلًا عاطفتها البريئة ومودتها الصادقة، ابتعدت تمسح دموعها شاكرة بلسانها «شكرًا يا عم تعبت نفسك»
مسح حامد على رأسها قائلًا بفخر حقيقي أضاء من نظراته لنظراتها «عندي كام رأفة أنا هي واحدة بس!» ضمت الفستان بذراعها تمرر كفها الصغير على تلّه المنفوش وتفاصيله الجميلة، فهمس بشجن «بعتتهولك غزل يا رأفة عنيها الي في الجلب هي الي اختارته » رفعت نظراتها المندهشة فهز رأسه مُردفًا «هدية لغاية ما ترجع وبتجولك هاديها أنتِ كمان بالدعاء»
هزت رأسها واعدة له بأنها ستفعل فتقدم قاسم مانحًا لها ملحقات الفستان «خدي يا رأفة»
سألته بدهشة «إيه دِه؟»
أجابها حامد بضحكة متألقة «ملحقات الفستان علشان الشياكة تكمل عايزينك تغطي على العروسة » ثم مال هامسًا «لو احتجتي حاجة تاني تعالي جوليلي»
قالت بقناعة تامة وامتلاء للنفس«لاه كدا كفاية جوي يا عم»
ضرب مؤخرة رأسها قائلًا «عادي هاخد تمنهم منك»
ضحكت بفرحة ملكت قلبها فجلس يرتشف شايه مراقبًا سعادتها وانبهارها الذي لا يخفت ولا ينطفيء وهجه ولا يبهت لونه
دخل والدها معتذرًا عن غيابه لإنشغاله ببعض الأعمال والزيارات فتقبل حامد بسماحة نفس عذره «ولا يهمك ألف مبروك»
صرف حامد الصغيرة وقاسم واستمع للرجل باهتمام وإنصات ثم عرض عليه المساعدة بتواضع «لو احتجت حاجة أو أي مساعدة ابعتلي» شكره الرجل بمحبة.
أخرج رؤوف من جيب جلبابه ظرفًا مغلقًا ومنحه له «نقوط العروسة يا أبو رأفة»
رفض الرجل شاكرًا لكنه أصرّ عليه «والله ما يحصل هتكسفني دا للعروسة من أخوها الكبير»
شكره الرجل بامتنان حقيقي داعيًا له بحرارة «ربنا يبارك فعمرك ويحفظك ويخليلك قاسم تفرح بيه وتخاويه يارب»
ابتسم حامد وهو يربت على كتفه قائلًا «في حياتك إن شاء الله»
وبعدها انشغل بالحديث مع الرجل البسيط يأخذ منه ويعطيه دون تعالي وهو يتابع من باب المندرة الصغيرة التي تضحك بسعادة وتركض بحيوية وكأنها ملكت الكون.
*****
جلس زين جواره مولولًا «الناس خيبتها السبت والحد وصاحبي خيبته ما وردت على حد»
ابتسم حامد لقوله وهو يمنحه كوب الشاي فتناوله زين من بين أنامله مرتشفًا بهمهمة رضا مستحسنًا مذاقه الذي يبدد سوء الذي يتناوله في بيته «بالله عليك أكلملك مودة تعلمها تعمله إزاي عليا النعمة ما بشرب كوباية شاي عدلة»
ضحك حامد قائلًا بنظرة ماكرة وابتسامة لعوب «وماله اتصلي عليها حتى أوصيها عليك»
نظر إليه زين بشك قبل أن يتراجع عن اقتراحه مغمغمًا «لا وعلى إيه عارفها وصايتك دي هتسود عيشتي»
قهقه حامد قبل أن يتوقف قائلًا «دا أنت حبيبي والله يا أبو عمار»
هرش زين مؤخرة رأسه مشككًا في قوله مُلحقًا الزيف والخداع بمحبته «أنت هتقولي محدش يعرف دماغك غيري لما بتروق بتفنن»
جلس حامد مسترخيًا يهتف بابتسامة ساخرة وحسرة ناضحة من نظراته «اطمن أنا مش رايق»
اقتحمت جلستهما مبددة لحظات صفائهما بدخول عاصف «استاذ عايزة اتكلم معاك» قالتها وهي تطالعه برجاء.
اعتدل حامد في جلسته بتأهب بينما تأملها زين بنظرة ماكرة، هتف وهو يقف مقابلها غاضًا بصره «اتفضلي»
نظرت لزين المراقب بتوتر وارتباك قائلة «ينفع لوحدنا»
ابتسم زين بتسلية بينما رفض حامد بجدية وعبوس «لاه يا ست مينفعش» أغلق عليها أبواب الجدال بحدته لكنها أصرّت «يا أستاذ مش هطوّل»
لكنه رفع كفه قائلًا بإشارة عصبية «يا تتكلمي يا تمشي حضرة الظابط صاحبي»
تنهدت باستسلام وقالت بغيظ مكمور في أعماقها من طريقته«جيالك تجف معايا يا أستاذ وتلحقني»
بنفس النبرة الحادة هتف «خير يا ست؟»
أجابته بارتباك «أخوي عايز يجوزني لموسى غصب»
سخر منها بفظاظة «وأنا مالي بدي عاد؟»
توسلته «كلمتك مسموعة وليك هيبتك ومكانتك كلّم أخوي أو ابعد موسى»
اعتذر منها وداخله يرقص طربًا لقهرها وتضييقه الخناق عليها ونجاح خطته «وأنا مالي دي حاجات عائلية أتدخل ليه وبصفتي إيه؟»
توسلته بذل «الله يكرمك يا أستاذ»
تلذذ بذلها، استمتع بنظرة القهر التي لمحها في عينيها اللحظة وهي تستجديه فجلس كما كان قائلًا ببرود «معلش يا ست وبعدين ماله موسى راجل زين ورايدك فحلال ربنا»
قالت بقهر «مش عيزاه ولا بطيقه»
ابتسم لها حامد ابتسامة متشفية وهو يعتذر بأسف كاذب «شوفي غيري الله يصلح حالك »
التفت لصديقه كعلامة لإنهاء الحوار فتحركت بيأس من أمامهما بضع خطوات مفكرة في كلمات تقنعه بها وتستميله لصفها رابحة مؤازرته ودعمه.. ليصفعها قول صديقه له والذي تعمده اللحظة بمكر وخبث شديد شامتًا فيها وقاهرًا لها «طيب إيه يا غالي بعد ما طلقت مرتاتك الاتنين هتعمل إيه؟»
عاتبه حامد أول الأمر على أفكاره وطفولية لعبته لكنه سرعان ما سايره مستمتعًا مُجيبًا بتنهيدة «بدور على عروسة ادعيلي أعتر فبت حلال ترضى بظروفي وتجبلني»
عضت أناملها بأسنانها حسرةً وغيظًا قبل أن ترحل مسرعة الخطى تتلظى في خسارتها له وخيبتها العظيمة وحظها التعس.
ما إن رحلت حتى ضرب الرجلان كفيهما مقهقهين بإستمتاع بما حدث.
*****
همس وهو يقف أمام النافذة بحجرته «وحشتيني على فكرة جوي» عاتبته برقة وابتسامتها تبزغ كالفجر «باين يا أبو عبدالله عشان كده غايب وبعيد» اعتذر برفق مُبديًا أسبابه وشارحًا لها وهو على يقين من أنها ستتفهم وتعذر «حقك عليا ربنا يعلم نفسي أكلمكم طول اليوم بس هنا النت متاح، بس الدولي مش معايا فلوس أشحنه ولا أبعتلك تشحني نت» شعرت أنها أثقلت عليه بعتابها فتراجعت محتوية تضمه بكلماتها الحنونة «مش مشكلة عشان نوحشك وتشتقلنا كتير»
تنهد هامسًا بإحباط جلب ضحكاتها الرائقة «أكتر من كده مش هتحمل والله » عضت شفتيها مفكرة في الكلمات المنحبسة داخلها، وثقل ما تحمله، شردت قليلًا فيما حدث وتكذيب والدها لها بل وطردها من المنزل بعدما ضربها بعصاه متهمًا لها أنها ترغب في فضيحة تكسره بها ، كذّب شهادة حنين متهمًا هالة بالتواطؤ والحقد والغل منه، ورغبتها في تدميره وعائلته للانتقام.
سألها مؤمن بقلق بعدما لاحظ صمتها الطويل وشرودها عن حكاياته «مالك يا هدى في إيه؟»
ابتلعت غصتها وأجابته بصوت مبحوح «لاه مفيش يا حبيبي خير، أنت جاي متى؟»
أجابها بإرتباك مفكرًا في عرض أخته والعمل الجديد الذي وفرته له حسناء «لسه لما أكمل العلاج والدنيا تبقى تمام»
سال خطان من الدموع على وجهها في ألم وعذاب، مسحتهما ودعت له بابتهال «ربنا يرجعك بالسلامة»
سألها بقلق يطفو رغمًا عنه «حد مزعلك؟ الحمل بخير»
عضت شفتيها بقوة كادت تدميها مترددة في إخباره، خائفة عليه من الصدمة والخبر تساهم في علاجه بالكتمان «بخير الحمدلله بس أنت وحشتني»
عربد القلق داخله من نبرتها التي تبدلت ومزاجها الذي انقلب فجأة وصمتها الذي يبوح بلغة مبهمة لا تترجمها له، لعن المسافات التي تفصلهما الآن وتسخر من رغبته في ضمها واحتوائها، لعن العجز الذي لا يتركه بأي صورة كانت «هانت بإذن الله خلي بالك من نفسك» قالها بتنهيدة مستسلمة فودعته بإشتياق لا يفرغ إناؤه «وأنت كمان»
أنهت الاتصال باكية، تاركة لدموعها العنان ولشهقاتها المحبوسة بالإنفلات.
**
جلست نجاة بوجوم أمام النافذة بحجرتها تعاني من الفرقة والوحدة وخلو المنزل، تحدثت بنبرة عاتبة «البيت فضي علينا يا ناظر»
مطّ عدنان شفتيه بصمت فأردفت وهي تنظر للطريق مراقبةً علها تلمح أحدًا من صغارها نسي وجاءها أو ضل طريق الجفاء الذي سار فيه فعاد إلى أحضانهم وبراح مودتهم وعفوهم «هنجعد كده يا ناظر؟ طيب سفرني مصر ليهم؟» قالتها وهي تلتفت إليه متوسلة بدموع لا ينضب معينها، هتف بحزن وقور «متتحمليش السفر وأنتِ تعبانة»
مسحت دموعها المتحسرة قائلة بتهدج «هشوفهم وأخف والله هصالحهم والعافية هتردلي يا ناظر»
ربت على كتفها بحنو بعدما استسلمت للبكاء وللحزن في إخلاص«بكفاية بكا دلوك ربنا يهديهم»
اعترفت بذنوبها في انكسار وندم حصده قلبها «غلطنا يا ناظر بعنا الكتير بالقليل»
أجابها بمكابرة وعناد «اتجبرنا كنا هنعمل إيه؟ وولدك عنيد وصوته من راسه؟»
دافعت عنه بحرقه في عتاب متأخر «يا ناظر صوت راسه دِه إحنا عايشين بيه، صوت راسه دِه عاملنا قيمة في البلد وحسّ» تابعت متفاخرة «مين عقله زي ولدي ولا فحكمته خدتنا العزة بالأثم» هاجمته بقوة فانتفض هاتفًا بغضب «كنتي عيزاني أسيبه يهلك نفسه مع مرتضى، ولا يقتل؟ هتنفعني بإيه بته أنا لما ولدي تجراله حاجة هتعوضني؟ هو بيحبها بس أنا أب وأخ خسر أخوه ومالوش غيره هو وأخواته مطلعتش من الدنيا غير بيهم ولا ليا أهل وحبايب غيرهم»
أفرجت عن عتابها المحبوس بين جدران الصمت «ضربته وجليت منه وولدي كبير ونفسه عزيزة كسرت ملمتش يا ناظر»
قالتها بنواح مقبض وهي تضرب فخذيها في كرب ورثاء، فصاح «دلوك بتلوميني وتغلطيني! دلوك عفش أنا! »
ربطت لسانها على قول واحد «هاتلي عيالي يا ناظر رجعهم لحضني»
كررتها مرة أخرى بنظرة متوسلة وهي تضرب بكفيها على صدرها المرتجف بالبكاء، غادر الحجرة وتركها مغلقًا خلفه، بكت متحسرة بعلّة في القلب، تناجي صغارها وهي تراقب الطريق دون ملل من النافذة.
بعد قليل كانت تجلس فوق عتبة نهاية الدرج منادية صفوة بإرهاق. خرجت صفوة مُلبية بلطف كعادتها فأمسكت نجاة بكفها متوسلة بدموع «كلميلي يونس يابتي يمكن يرد عليكي»
هدأتها صفوة بلطف وطمأنتها بحنو «حاضر يا طنط بس اهدي»
تركتها صفوة وغادرت للمندرة، جلبت هاتفها وجلست جوارها تنقر فوق الاسم منتظرة رده..
انتفض قلب الأخر بين ضلوعه وهو يقرأ الاسم الظاهر فوق شاشة هاتف أخيه، تعلقت نظراته به في ترقب أشفق عليه يونس فأوضح «دي صفوة يا رؤوف»
نهض رؤوف منزعجًا من خيبته مرة وانكشاف أمره وشوقه ألف مرة رحل للشرفة مستندًا على سورها يهمس باسمها مرة بشوق ومرة بشجن وثالثة بتوسل، يستحضرها في قلبه ونفسه مترنمًا باسمها ،تغازل نبرته أحرفها وهو يتنهد «غزل، غزل، غزل»
أجاب يونس بتحفظ وهو يتابع أخيه من بعيد بنظراته «أيوة»
ضرب أذنيه صوت والدته الملهوف «ازيك يا يونس إزيك يا حبيبي وحشتني» تنهد يونس بصمت قبل أن يجيبها مشفقًا عليها مما هي فيه «بخير يا أما اطمني»
أردفت بنفس اللهفة الكبيرة «ورؤوف عامل إيه صحته كويسة؟ »
نظر لأخيه مرة أخرى قائلًا كأنه يتأكد مما سيخبرها به وينطق «تمام متجلجيش زي الفل »
ببكاء متألم ونبرة متوسلة «تعالى أشوفك يا يونس متقساش عليا»
اعتذر متعللًا بعمله وقلبه يرق لها «دلوك صعب بس لما أخلّص»
توسلته مرة أخرى «رؤوف جنبك أكلمه»
نظر يونس لأخيه مرة أخرى متذكرًا لهفته وشوقه حين قرأ الأسم واستحضار الغائبة في نفسه ونظراته فزفر قائلًا «لاه يا أما» كذبة بيضاء لا ضرر منها يحتاجها الموقف فرؤوف لن يستطيع الرد الآن وإن فعلها ستقف الغائبة الحاضرة في القلب بينهما..
أنهت الاتصال بخيبة، منحت الهاتف لصفوة بصمت وسكنت مكانها بتعب وإرهاق وتفكير لا يتركها وشأنها، همست بهذيان مرير «جالي وقالي رايدها يا أما جلب حامد مفتحش لغيرها ولا داق الهنا غير فطلتها تشبهني يا أما كنها بتكملني، بس بينها وبين رؤوف قديم مانعني وباني بيني وبينها سور هجيبها هنا تحت عينك يا يتهد السور يا يكمل حيط» استمعت لها صفوة بشفقة،صامتة تربت على كتفها بمؤازرة ودفء،فأردفت نجاة وهي تنظر للحائط أمامها «مكانش ينفع تاجي مني هو مكدبش»
ثم نظرت لصفوة معتذرة بأسف كأنها ترى فيها أختها المقهورة منهم وهمست «فيكِ منها، يا زين ما ربت غزل»
أشاحت متذكرة حديثها ورائحة الفل التي كانت تنبعث من كلماتها وجمال قلبها الذي قهر نصف ولدها التائه، حنانها الذي أشبعته به فكان الفأس الذي هدم السور وعبيرها الفواح الذي ألهمه النسيان وأسكره، جلدت روحها بما استطاعت وكيفما استطاعت ثم وقفت متعكزة على الجدار عائدة لحجرتها.
***
اجتمع يونس بطاهر بعيدًا عن نظرات رؤوف، اختلى به مستفسرًا بقلق «يعني أنت شوفتها في الصيدلية؟»
أجابه طاهر بصبر وهو يتأمله بتدقيق «أيوة»
هرش يونس فروة رأسه متأففًا يغمغم بإنزعاج «طيب فلوسها وخدتها بتشتغل ليه؟»
أوضح طاهر له «طبيعي يا يونس بتسلي وقتها يا عم»
نفخ يونس بسأم فسأله طاهر وهو يترك الفراش ويقترب منه مستخفًا بما يعانيه وشعر به من كلماته «متجولش إنك بتغير عليها»
نظر إليه يونس قائلًا ببساطة امتزجت ببعض حرجه «ليه يا طاهر؟»
حذره طاهر برفق وحنو «يونس شيلها من دماغك القصة دي مش هتكمل»
رفع يونس حاجبه مستفسرًا بنظرة متحدية متحفزة «وليه متكملش؟»
هز طاهر رأسه بملامح مستهجنة ونظرة ذاهلة «يونس مين هيرضالك تتجوز مطلقة»
أشاح يونس قائلًا بحدة «أنا حر محدش له عندي حاجة ولا ليا حاجة عند حد لو عايز دِه»
ناقشه طاهر برفقٍ ولين «يا حبيبي الموضوع صعب وبعدين ايش عرفك هي عندها استعداد للتجربة تاني ولا حاسة الي أنت حاسه»
قال بإصرار «حاسس إنها حاسة بيا يا طاهر ولو محستش هحاول»
استمع لحوارهما فنهض فورًا من تخته، فتح حجرتهما بعدما استأذن ودخل مؤيدًا قول طاهر وداعمًا برفق «وأنا رأيي من رأي طاهر يا يونس»
ارتبك يونس قليلًا واهتزت نظراته لكن سرعان ما لملم شتاته وأجاب بثقة «وأنا عايزها وهحاول»
مال فم رؤوف بابتسامة ساخرة مؤكدًا تخمينه «يعني الي خمنته طلع صح والي حسيته مكانش بيتهيألي فيه»
أجابه يونس بتأكيد بينما تراجع طاهر مستمعًا بصمت منتظرًا نتيجة المناورة الكلامية بين الطرفين.
«وليه تتجوز واحدة مطلقة إيه ناقصك؟»
تنهد يونس مقرًا معترفًا بما في قلبه «مناقصنيش بس القلب وما يريد»
جادله رؤوف «يمكن إعجاب ويروح، ولا عشان انشغلت بمشكلتها»
بنظرة عاتبة رفض يونس تفسيراته للأمر «أنا مش صغير يا رؤوف»
تنهد رؤوف مستغفرًا بصبر قبل أن يجادله «يا ولدي ليه تاخد واحدة متكونش أول راجل فحياتها ليه تميل بختك »
هتف يونس بإندفاع «خلاص مكنتش أنت اتجوزت غزل ولا ينفع تكمل معاها سيبها لواحد تكون هي أول واحدة فحياته»
أكمل له رؤوف ببساطة وهو يبتسم ساخرًا «أيوة كمل كمل وليه ميلت بختها؟»
عض يونس شفتيه بندم قبل أن ينكس رأسه بضيق وأسف، بينما أردف رؤوف بمرارة وغصة «واهي مشت، فكرك أطلقها تشوف حالها مع حد زيها ؟»ارتبك طاهر وتململ في وقفته ضائقًا بالكلمات منزعجًا ومستاءً.
حاول يونس الحديث والإعتذار موضحًا لكن رؤوف قاطعه بإشارة من كفه ونهض قائلًا بصدق وحرارة «بس عايز الحق يا يونس غزل هي أول بختي فكل حاجة وأول واحدة تدخل حياتي، الي جبلها مرّ وعدّى بس مدخلش»
تحرك ناحية الباب ثم وقف واستدار محذرًا بصرامة شديدة «انسى الموضوع دِه يا يونس خالص مش هيحصل و ابعد هتلاجي نفسك نسيت »
بنظرة امتزج فيها العتب بالرجاء هتف يونس بخشوع « ولو مجدرتش يا أخوي؟ أنت عارف جلوبنا مش بيدنا وإلا كنت جدرت أنت »بنبرة صارمة حادة خدشته قسوتها نصحه «فكر تاني وتالت وسيبك مني أنا استثناء لأي قاعدة» قالها ساخرًا من نفسه وحاله متهكمًا من معاناته ثم أردف داعيًا بصدق ونظرة حنونة «ربنا ما يجعل حظك زي حظي فحاجة يا ولدي ويهدي جلبك للي فيه صلاحك»
حاول يونس الحديث مجددًا فأوقفه رؤوف بحزم
«الي أجوله يتسمع يا يونس متجادلش ومتحاولش تجابلها ولا تشوفها خالص»
خرج مُغلقًا الباب خلفه تاركًا أخيه يزفر بضيق وهو يغرس أنامله في خصلاته الطويلة المصففة بعناية.
**
لم يركض مُبشرًا جدته كعادته كل حصاد، بل دخل واجمًا تظلله سحابة صمت سوداء، ألقى السلام وجلس بوجوم فسألته جدته بدهشة «مالك يا قاسم؟» أجابها بوجوم ونبرة فقدت حماسها «الزرعة خايبة يا جدة وأبوي زعلان»
مسحت على رأسه قائلة بابتسامتها التي تجدد عهد السعادة والراحة بقلبه «مش راعيتولها زين يا ولدي؟»
أجابها قاسم بانتباه نهمًا للمعرفة وصابرًا ينتظر قوت قلبه من علمها الكبير «أيوة يا جدة، عملنا كل حاجة ما أنتِ عارفة»
ابتسمت براحة فتفتحت أزهار الرضا في قلبه وأومضت عيناه بنور الفرح«اسمع يا قاسم أنت سعيت وعملت الي عليك كله وسبت الباجي لربنا وجه مش على خاطرك ولا الي كنت مستنيه يبجى كدا إيه؟»
سألها بجدية ووقار «إيه يا جدة؟»
أجابته وهي تمسح على رأسه بحنو «رزقكم كدا يا ولدي والرزق بتاع ربنا مش بتاعنا ، أحنا بس نعمل الي علينا جه جليل جه كتير من عند ربنا»
سألها برغبة في المعرفة وتطييب خاطر أبيه الذي تكالبت عليه الهموم «نعمل إيه طيب يا جدة أبوي زعلان جوي»
أجابته بتنهيدة إحباط تخص الآخر الذي بدأ أول خطوات الغفلة وقالت «ندعيه يا ولدي يرزقنا من فضله وسيبك من أبوك هصلي وأطلعله»قالتها بتوعد أجفل قاسم الذي يرى منها ذلك لأول مرة.
سكنت تماضر مكانها بصبر طويل الأمد تذكر الله وتسبحه منتظرة أن ينام الصغير لتختلي به وتتحدث معه دون حذر أو خشية أمًا لابن.
بالخارج كان هو يجلس مكانه لا نهض يبدل ملابسه ولا تحرّك لفعل شيء، صامت بائس حزين يخاطب النجوم وينكر بزوغ الفجر، لا يقين يربط قلبه ولا ثقة تضبط ميزان نفسه.. تشابكت الأحداث واختلطت، أسكره الألم فقال بثمالة
«خافت مني» ضحك بسخرية فعبس عبود بألم.. توقف عن حرق نفسه وأردف بوجع يتجرعه مع كلماته
«بتوجع الكلمة يا عم ، سكين اتغرست مطلعتش»
ربت عبود على كتفه يثقل كتفيه بالمحبة والدعم علّ ميزان نفسه يعتدل،لكنه أردف قاصدًا تعذيب نفسه وجلدها
«عفش جوي كدا أنا؟ مرة تهرب خوف عليا ومرة خوف مني، بجى بيني وبينها خوف مالوش نهاية، كلهم بيهربوا مني يا عم طب أنا أهرب من نفسي فين ولمين؟»
تأوه وقلبه يتلوى وجعًا بين أضلعه
«تصدقها دي يا عم غزل تهرب مني أنا، تخاف مني تآمن للشارع وأنا لاه، الشارع والغريب مهما عمل فيها أحسن مني ومن حضني..»
ضرب الحائط بكفه متألمًا ترتفع نظراته للسماء مستغيثة من الوجع الذي يمزقه ثم تهبط وتتباطىء معها الأنفاس
«وجعي مالوش دوا يا عم نار في الصدر لا تنطفي ولا تهدا»
بكى عبود بقلة حيلة متلويًا معه يقتسم معه وجعه بتفاني،أمسك كفه توسلًا لكنه تابع سكب روحه أمامه،يتقيأ ما كتمه من أوجاع طوال تلك المدة،يتخلص من سموم الأيام التي نفثتها في قلبه «إن لجيتها ياعم كيف أبص فوشها؟ من يوم ما عرفتها وأنا مبزرعش غير أمان فجلبها، خابت زرعتي يا عم كيف خيبتي أنا في الدنيا وآه من خيبتي»
مع آخر كلماته انتفضت تماضر من مكانها، تخلت عن هدوئها ووقارها، خرجت هاتفة بعصبية «واه يا واد كني هربيك من أول وجديد أنا»
انكمش مكانه منتظرًا عقابها له، مدت عصاها ولكزته في كتفه بغضب «مالك؟ ومالها زرعتك وإيه خيبها يا واد، واجع نفسك كدا ليه ده الي علمتهولك؟»
دفع عبود العصا بعيدًا عنه معاتبًا وهو يقبل عليه محتضنًا له في حماية «بس متكلمهوش ملكيش دعوة بيه سبيه»
صاحت فيه بأسف «مصابرش ليه؟ »
أوضح عبود مدافعًا عنه «داق يا تماضر والي يدوق غير الي يسمع»
عارضته بحدة«مداقش حاجة لسه ولا عرف، مربنهوش احنا على القنوط والنواح فاتح بيبانك للشيطان ليه يلعب بيك ويتوهك؟سايبه يحزنك ليه،الغايب ليه عذره والحبيب له ألف عذر »
ابتعد معتذرًا لها يقبل كفها مبللًا كفها المتغضن بدموعه التي لا تخرج إلا أمامها «حقك عليا يا خالة»
قالت بخشونة لا تلين «صليت ولا لاه؟»
غمغم بحرج وهو يطأطئ معترفًا بذنبه «لاه»
ضربته بالعصا على كتفه زاعقة مستنكرة «واه كله إلا كده»
اعتذر منها بأدب والندم يقطع أحشائه، فهتفت فيه بغضب «مالي أنا ومال أسفك يا واد جوم يلا، الليلة متنامش تبيت جاري تصلي وتستغفر»
عارض عبود قرارها مدافعًا عنه مهددًا لها «مالكيش دعوة بحبيبي لأدعي عليكي» فأسكتته بعصبية وتحكّم «اسكت أنت كنك مدلعه»
قبّل رؤوف كفها متقبلًا حكمها «حاضر يا خالة الي تشوفيه هعمله»
****
«بعد مرور شهرين»
وقفت حاملة الكرة بكفيها فوق رأسها تنادي الصغيرين بمرح «ورد حكيم يلا هنبدأ»
تحفز الاثنان وانتبها مشيرين لها باستعدادهما «يلا يا غزولة»
رمت الكرة بعيدًا وصفّرت بإصبعيها كبداية لإنطلاق المباراة بينهم، تابعتهم ورد بابتسامة محبة دافئة وهم يركضون خلف الكرة تحيط اللحظة ضحكاتهم المستمتعة، بعدما أصبحت غزل فردًا منهم جزءًا لا ينفصل ، يتعلق الصغار بها وتحبهم هي وترأف بهما كأم ، نهضت ورد للسير قليلًا واستنشاق الهواء الطازج، حتى ينتهوا من اللعب ويعودا؛ لتناول الشطائر التي جهزتها غزل والعصائر الطازجة التي صنعتها كما يحب ويفضل الصغيرانِ.
راقبت ورد حفيدها المبتهج غير عادته الرزين كيف تحوّل لآخر مع غزل وخرج عن ثوب رزانته ووقاره الفكري، كيف يحتضنها ويركض في أثرها متتبعًا بابتسامة مضيئة، كيف يضحك ويطلق المزحات مشاكسًا غزل منافسًا أخته في مرحها وشقاوتها على قلب غزل الرقيق الذي ينافس الورد في روعته ورقته.
دخل خلف صف طويل من الصغار،بعدما وعدهم بالخروج من العمل واصطحابهم لأقرب حديقة وها هو يفعلها ويدخل خلفهم بملابسه الرسمية التي لم يتثنى له الذهاب للمنزل و تبديلها حتى لا يضيع الوقت، اختار لهم مكانًا مميزًا ومنعزلًا في الحديقة ثم أشار لهم باللعب والاستمتاع.
جلس مراقبًا يخفي عينيه خلف نظارة شمس سوداء، من وقتٍ لأخر تميل شفتاه بابتسامة خشنة أجبرته قهقهات صغاره عليها وبعدها يعود للمتابعة بوجوم لا يقطعه إلا حديث مقتضب لأحد الصغار أو هتاف عالي بالتريث ، يسيج صغاره بنظراته،يحيطهم بعنايته وانتباهه الذي لا يسلبه إلا شوقه لها الملازم لأنفاسه.
التفت فجأة على صوت قهقه عالية جذبته، قهقهة جعلت قلبه ينتفض بين ضلوعه مرتجفًا متراقصًا على إيقاعها.. نزع نظارته باحثًا عن المصدر لكنه لم يجد أمامه أحد، تنهد باستياء وهو يميل بجذعه للأمام ربما خُيّل إليه أو توهم ذلك فشوقه لها يصنع به الأعاجيب، ويفرض عليه خيالات وهمية يعيشها ويشعر بها، مرّ شهرين وهو لا يعرف عنها شيئًا، بحث في كل مكان بعدما عرف بسفر والدها وهروبه وحده، شهران وهي بعيدة وحيدة وشاردة كيف احتملت ذلك؟ أين تقيم وكيف تعيش؟ وضع كفه على قلبه مهدئًا من نبضاته التي تعلو بذعر يعيشه كلما تذكر وحدتها.. انقطعت أفكاره على ركلة قوية لكرة أصابت رأسه فالتفت ممسكًا به متأهبًا للتعنيف مغمغمًا «يا دي راسي الي تاعبة الكل»
ختم قوله بقهقة عالية انتبهت لها الأخرى الواقفة في انتظار الكرة، ارتجفت حين رأته أمامها يجلس ممسكًا بالكرة منتظرًا صاحبها.
تحركت بسرعة مختبئة خلف أحد الأشجار بينما اقتربت الصغيرة منه بعدما تأكدت من اختفاء غزل بعيدًا، أزاحت خصلاتها خلف أذنها هامسةً «ازيك يا عمو»
خلع نظارته ووضعها بجيب قميصه قائلًا بابتسامة «ورد ازيك»
أجابته بقلق غريب وجديّة مربكة غير عادية «الحمدلله يا عمو»
أحاط كتفيها بكفيه وقربها قليلًا مستفسرًا «جاية مع مين؟»
أجابته وهي تبحث بعينيها عن ورد التي اقتربت بالفعل منهما مرحبة محتوية ارتباكهم وململمة توترهم بابتسامتها المطمئنة وإشاراتها «جدتي»
نهض فورًا مرحبًا بها ببشاشة «ازيك يا أم حمزة أخباركم»
بادلته ترحابه بآخر بشوش«ازيك يا ولدي عامل ايه طمني عليك»
«الحمدلله اتفضلي»
قالها وأشار للأريكة الخشبية الطويلة جواره، فجلست ورد مرحبة بذلك لحاجة في نفسها اللحظة.
بينما طلبت الصغيرة بنفس العبوس الغريب والجمود «ممكن الكورة يا عمو»
سألها بضحكة رزينة وهو يمنحها لها بعدما التقطها من جواره «أنتِ بجى الي ضربتي دماغي»
صمتت الصغيرة لا تجيبه فمن أطلق الكرة هي غزل وهي لن توشي بها ولن تكذب لذلك صمتت محتفظة بالإجابة، قربها منه ملثمًا جبهتها رابتًا على رأسها بحنو.
أشارت لها ورد بمغزى «اجعدي متلعبيش دلوك»
هزت الصغيرة رأسها بفهم وجلست بينهما محتضنة كرتها تتابع بنظراتها رحيل أخيها لغزل وبقائه معها خلف الشجرة.
«كيفك يا ولدي وكيفها مرتك» قالتها ورد وهي تنظر لملامحه بفطنة ونظرة ثاقبة.
صمت بإرتباك لا يعرف بما يجيبها ولا أي عذر سيلقيه على مسامعها. رفعت الصغيرة وجهها المحمر من حرارة الشمس مراقبة له مثل جدتها
ابتسم لها وربت على خدها ظنًا أنها تريد الاطمئنان على منقذتها.
«إن شاء الله تكون بخير»
قالها وهو يفرك خصلات الصغيرة بأنامله، قطبت ورد مستفسرة بمكر «ليه هي فين؟»
«جاعدة مع أبوها شوية» قالها دون تفكير ثم أطرق بحزن،احترمت ورد صمته وعزوفه عن الكلام محترمة خصوصيته داعية له بحرارة«ربنا يردلك الغايب وما يوجع جلبك على عزيز وينور طريجك يا ولدي»
ابتسم شاكرًا لها باحترام ثم التفت للصغيرة محمسًا مشجعًا بمرح «تيجي نلعب؟»
ترددت الصغيرة قليلًا ببعض الضيق الذي لا يعرف سببه، فأشارت لها ورد «روحي يلا العبي مع عمك»
نهضت الصغيرة مجبرة وصامتة غير عادتها، تتابع من وقتٍ لآخر الشجرة .
حلّ رؤوف ربطة عنقه التي جاء بها ورماها على فرع شجرة ضخم بعدما قفز للأعلى بخفة، حاوطه الصغار منبهرين يريدون تجربة القفزة والإمساك بربطة العنق المرتفعة فهز رأسه ضاحكًا وحاول مثلهم القفز للإمساك بها مدّعيًا الفشل... انفضّ الصغار من حوله بعدما هيأهم بالكلمات وفرش لهم طريقهم بالحماس، فك أزرار قميصه العلوية وأتبعهم برفعه أكمامه كما يفعل دائما وبعدها خلع حذائه وركض بينهم مشجعًا بتصفيراته العالية المرحة
، اختلج قلبها وهي تراقبه من خلف الشجرة وهو يركض معهم حافيًا بتواضع، كلما تعثر أحد صغاره حمله قليلًا فوق كتفيه وركض به.. ملأ الأجواء باشتعاله وحماسه وطفوليته اللذيذة ،تحب هي هذا الجانب منه بل تعشقه وهل له جانب لا يحب؟ تأملته حتى امتلأ كأس شوقها على آخره، شبعت منه حتى بكت متعذبة بهذا البعد متلوية قهرًا وكمدًا مستنكرة أن تكون منه بهذا القرب ولا تشاركه،لا تختبيء بأحضانه مثل الصغار ولا يغازلها بنظراته كما كان يفعل.
تركتها ورد رغبة في إرضاء قلبها وأن تملأ عيناها به وبرؤيته، تُشبع قلبها المتضور جوعًا لقربه، متفهمة معاناتها فمن غيرها يعرف الحب وعذاب الشوق .. حين انشغل تسللت ورد وأخبرتها هي والصغير أن يستعدا للمغادرة من الباب الخلفي وهي ستأخذ الصغيرة وتغادر تحت نظراته حتى لا يشك.
لاحظت ورد نظراتها المصوّبة ناحيته بلهفة وداع حار فربتت على خدها بحنو وغادرت.
سحبت غزل الصغير وتسللت للخارج بعدما شغلت ورد رؤوف بتوديعه هي والصغيرة، أوصلهم للبوابة معتذرًا عن عدم مقدرته على إيصالهم للمنزل بنفسه.
رحلوا ملوّحين له وعاد هو للحديقة من جديد بثقل نفسٍ غريب وكأن الحديقة تضيق به وتضغط على صدره ، بينما وقفت هي بالخارج منكمشة كأن انكماشها سيمنع تسرب الشجن منها والشوق أكثر ويحجمه، ترهف السمع لصيحاته مع الصغار وصرخاته الممتزجة بقهقهاته، ماذا لو ركضت الآن دون كلمات أو عتاب وعانقته بشدة هامسة له «وحشتني» ماذا لو أمسكت بكفه تاركين كل شيء خلف ظهريهما، ماذا لو عاملتها الدنيا بالإحسان؟ وليكن وجه إحسانها عناقًا طويل تذوب فيه داخل أضلعه وتسير في دمائه، أو ربما استنشاقها لعطره بعدما تضع خدها موضع قلبه مستأنسة بنبضاته، سرحت بخيالها أكثر متمنية لو كانت هواء يستنشقه ولا يغادر صدره، فراشة تحط على كتفيه ولا تتحرك، أو ربما شمسًا تشرق فوق ملامحه..هل كثير ما تطلبه فتعنفها الدنيا عليه وتقهرها بالبعد عنه ؟ ما أقسى الدنيا! وما أصعب الحرمان للسبب الوحيد الذي يجعلك تحيا!
أفاقت من خيالاتها على ربتة ورد، منحتها نفسها برغباتها وعذابها في نظرة أفلتتها في توهتها، قبل أن تغلق الأبواب كعادتها وتبتسم بهزة رأس .
صعدت السيارة التي كانت في انتظارهم، جلست جوار النافذة تسلب ما استطاعت من الهواء المعبق برائحته فلا أحب إليها من أن تشاركه شيئًا، كلما ابتعد عنها انهمرت دموعها بغزارة وهي تتساءل داخلها لما كل هذا العذاب؟ وهل كتب عليهما الفراق حقًا؟ لو يرأف بها القدر ويمنحها دواءً لنسيانه.على ذكر الدواء
تحسست حقيبتها الجديدة التي اشترتها بصحبة سكن، اشترت يومها دوائه ووضعته داخلها فلا يفارق منتظرًا مثلها لا ينسى.
تحسست كلمات الأغنية التي صدعت من السيارة المجاورة جرحها العميق فبكت بشدة أثارت الشجن في نفس ورد وأحزنت الصغار اللذان عانقاها بشدة مواسيين لها وهي تردد خلف الكلمات بصدق وعتاب «البعد الله يجازيه»
عادت للمنزل فاقدة لحيويتها متلحفة بالصمت الثقيل الخانق، أدت فرضها وانكمشت في تختها تحت الدثار بإعياء شديد في الجسد والروح، لم يتركها الصغار، رفضا تناول الطعام مشاركين لها الحزن والأسى حدادًا على سعادة صديقتهما الغائبة، شاركوها الفِراش عن يمينها ويسارها ورد تربت بحنو وحكيم يمسح على خدها العابس برقة كأن من هنا يبدأ الحزن وينتهي.
بعد قليل توقفت عن البكاء ماسحة دموعها تسألهما «أكلتوا»
أجابها الصغير بلطف «إزاي وإنتِ زعلانة؟ »
ابتسمت الجدة لكلماته ولكم يشبه الصغير أبيه في رقة قلبه وإحساسه وأُلفة قلبه ومراعاته لمن يحب... الصغير الذي بدلته غزل لآخر يتوحد مع من حوله ويشارك
اعتدلت غزل بحيوية، أزاحت الدثار جانبًا وهتفت «يلا هنعمل الأكل ونتغدى ونعمل الحاجات الي بتحبوها»
صاح الصغيران بفرحة، وهما يقفزان في حيوية وحماس، عانقها الصغير طويلًا ممتنًا لعودتها فربتت على ظهره بحنو شاكرة له هو على محبته الوفيرة.
انسحبت معهما تشاركهما اللعب والقفز بينما شردت ورد فيما قاله لها رؤوف وشجنه الواضح وحسرة نظراته،ارتعاشة ذراعه الواضحة كأنه فقد الدعم ونبرته التي تقطر حزنًا، لم يختلف حاله كثيرًا عن تلك الباكية بل عذابه داخله يحبسه كبركان كشيمة الرجال.
انتظرت حتى تنتهي وبعدها ستتحدث معها وتخبرها بقوله.
بعد مرور وقت دثرت غزل الصغيرين وانسحبت للشرفة، تبعتها ورد ووقفت جوارها قائلة «سألت رؤوف عنك»
التفتت لها منتفضة تسألها بتوتر ولهفة «قال إيه؟»
أجابته ورد بهدوء «قال عند أبوها»
قطبت غزل بتفكير تائهة في قوله مثلها وافتراضه لمكانها.
حثتها ورد برفق «مش هتحكيلي برضك الي حصل بينكم؟»
تنهدت غزل باستسلام فربتت ورد على كتفها قائلة «براحتك يا بتي لو مش عايزة متحكيش »
اعتذرت موضحة بأسف ، طاردة سوء الظن «يا طنط مش قصدي محكيش والله بس متعودتش»
ابتسمت ورد متفهمة قولها وصمتت فأخذت غزل نفسًا عميق طرد خوف صدرها وملأها بالشجاعة، ثم بدأت في سرد حكايتها كاملة حتى توقفت على ذكرها تعرية والدها لها، ارتجف جسدها بنشيج مكتوم، وتسارعت أنفاسها فاقتربت منها ورد محتضنة ثم جلست بها وهي لاتصدق ما سمعته أذنها تحوقل بصوت مسموع مستغيثة بلطف الله وعونه تضمها كأنها تريد اخفائها من حزنها وطرد الألم من روحها، تمسكت غزل بحضنها متشبثة وهي تبكي دون توقف…بعد قليل حتى هدأت، ختمت قصتها للسيدة التي حافظت عليها في أحضانها حتى ينتهي ألمها ويتبخر خوفها وحزنها وتعود لطبيعتها من جديد.
***
رمى جسده فوق التخت متعبًا بعد يومٍ طويل مرهق قضاه وسط أولاده يقفز ويلعب، يشقى طوال النهار شاغلًا نفسه بالعمل حتى يتعب وينام ليلًا، يسرق عقله من الأرق بتعب جسده، ويسرق نفسه من أفكاره بانشغاله الدائم ولو فعل غير ذلك لعُذب في نار الهجر، أغمض عيناه متنهدًا على صورتها المُعلقة في أجفانه،هل ستعود؟ هل سيراها؟ وماذا سيفعل ؟
الأيام تطول دونها واليقين بعودتها يتسرب من قلبه فيصبح خاويًا أكثر،هل تشتاقه مثلما يشتاق إليها؟ هل تفكر فيه كما يفعل هو كل دقيقة؟ هل يُشقي الحب أصحابه حقًا؟ تنهد بحرارة قبل أن يذكر الله طالبًا المزيد من الصبر واللطف وبعدها أغمض عينيه وكأنما كانت تنتظره لتجيبه على أسئلته ليصبر.
أحاط وجهها بكفيه في رقة وهمس تائهًا في ملامحها التي يعشق بنظرات تتسابق فوق عينيها «مال عنيكي يا غزالي؟ فيهم إيه؟»
دققت النظر في ملامحه ودموعها تهرول على خديها هامسة بأسف «معرفش يمكن علشان مش بشوفك بيهم بيعاقبوني»
مسحت دموعها المتسارعة ورفعت نظراتها تبتلع صورته وتمتص ملامحه في شغف وشوق، تأمل حركاتها بحنوٍ قبل أن يقترب ملثمًا عينيها العليلة معتذرًا لها وهو يهمس «الدكتور بيجول بكيتي كتير»
همست وهي تمرر أناملها تؤازر صورته المهزوزة في عينيها المرهقة
«يمكن مش عارفة ومش فاكرة، بس مش مهم» توقفت أناملها على لحيته النامية قليلًا ثم عرجت لفمه فقبّل أناملها جميعًا وهو ينظر إليها بأسف بعدها اندفعت ملتصقة به رافعة ذراعيها لعنقه تضمه منتحبة بقوة وهي تهمس جوار أذنه بصدق اخترق قلبه ململمًا قطع روحه المتناثرة منذ غيابها «بابا»
ارتجف من همسها الدافيء وإحساسها الصادق، تنطقها كأنها تناديه أو تستجديه بفعلٍ ما،تتوسل أو ربما تتحسر لا يعرف لكنه أحبه منها بشدة، الآن آن للراحة أن تعود لمسكنها في القلب، أن يضج الرضا في قلبه هانئًا، دفن وجهه بكتفها معترفًا بحشرجة «وحشتيني، سلامتك من كل شر متبكيش تاني »
قالت وهي تنتحب بقوة «خلاص والله مش هعيط ولا هزعل بس متسبنيش لوحدي مش هعرف والله» أبعدها عنه مهدئًا لها وهو يلملم خصلاتها الناعمة عن وجهها «خلاص اهدي»
هزت رأسها بالموافقة المصحوبة بابتسامة ناعمة سحرته فشرب من نهرها حتى ارتوى.
استيقظ على صوت منبه هاتفه، نظر حوله يستوعب أنه كان يحلم وأن ما عاشه للتو لم يكن حقيقيًا، وتلك المشاعر الصادقة خيالًا رسمه عقله ومنحه الروح والحياة، اعتدل ذاكرًا الله يفرك فروته طاردًا الهواجس ومنظمًا أفكاره من جديد، يجلو صدره بفركة من كفه، صدره الممتليء الآن بأنفاسها وكأنها حقيقية، رائحتها تعبق خلاياه فلا يشم سواها مهما سحب من هواء كأنها زهرة فواحة استقرت داخل صدره، أنفاسه المترددة تحركها فتتمايل ناثرة عطرها وشذاها في الروح.
نهض ذاكرًا الله كعادته ليُؤدي فرضه السادس، يسجد لله ويقترب يناجيه أن يرأف بحاله ويعيدها له فماله حيلة في شوقه،أو ينزعها من قلبه للأبد.
***
نادتها سكن فلم تجيبها، فتحت الحجرة ودخلت باحثة عنها حتى وجدتها نائمة تنازع، تئن ببكاء مكتوم ونشيج عالي، جلست جوارها محاولة انتشالها من أضغاثها برفق«غزل»
استيقظت الأخرى منتفضة، تتطلع حولها بتيه، ضمتها سكن بحنان وهي تستعيذ بالله وتبسمل على رأسها، اعتدلت غزل مبتسمة بعدما رد إليها وعيها تهمس «صباح الخير»
مسحت سكن على رأسها متسائلة «كنتِ بتحلمي بإيه؟»
استعادت غزل الحلم فابتعدت تهتف متأثرة مستعيدة الشعور كجلدات دامية «كنت عند رؤوف وزعقلي وقالي إنه هيتجوز وهيعمل فرح تلت ليالي»
كتمت سكن ضحكتها على هيئتها ورعبها الواضح من مجرد فكرة في حلم،ثم سحبت الغطاء مشجعة لها بمرح ومزاح «طيب جومي هي ليلة واحدة كفاية منين جبتي تلاتة دي»
أجابتها ببراءة «معرفش هو قالي كده»
نهضت من فوق التخت متسائلة بتقطيبة حاجب«أنتِ جاية ليه بدري؟»
سألتها سكن وهي تعدّل من وضع خمارها على رأسها «بت مش حمزة قبّضك امبارح؟»
هزت غزل رأسها بالموافقة فغمزتها سكن مشاكسة «هنجيب هدوم»
تأففت غزل قائلة «هو تارجت حضرتك لازم توصليله احنا مش اشترينا الشهر الي فات بعدين هو مش أجازة سايبة حموزتك وجاية ليه؟»
ضحكت سكن قائلة «حموزتي نزل مشوار وقالي هيعدي علينا يروحنا»
سألتها غزل وهي تسحب المنشفة المعلقة من المشجب «هنشتري إيه طيب وهنروح فين حددي؟»
رفعت سكن حاجبها قائلة بتأفف مستاء «أهي الحسابات دي هي الي مضيعاكي، هنشتري الي يعجبنا وهنروح المكان الي نلاقي فيه الي عايزينه» هزت رأسها موافقة فغمزتها سكن مشاكسة لها «وهنشتري الي يحقق للمتر أحلامه بالتلت ليالي»
ضربتها غزل بالمنشفة موبخة لها في خجل، قهقهت سكن وهي تتفادى الضربات بكفيها قائلة «إيه؟ ما أنتِ لو محققهمله مكانش حصل كل ده؟ دا يا عين أمه جايلك في الأحلام يطالب بيهم ويهدد»
تأففت غزل معلنة ندمها «تصدقي غلطانة إني بحكيلك، بعدين مين قالك هنرجع حلمتي ولا مكشوف عنك الحجاب؟»
رفعت سكن رأسها بفخر قائلة بثقة مصدقة على نبوءتها تؤكد البشارة «هترجعوا وهتشوفي وهجيلك وأفكرك وهجبلك 15قميص نوم هدية»
ضربتها غزل مرة أخرى بالمنشفة في ضجر شديد لائمة لها بحسرة «سكن دا شكل واحدة ينفع تلبس قمصان نوم أصلا..؟ أنا مشوهة يا ماما أصحي وفوقي »
أغمضت سكن عينيها مبتلعة غصة دموعها واقتربت منها معاتبةً بحنان «مفيش الي بتقوليه ده ولا أنتِ مشوهة، مين قالك المتر شايف كل ده أصلا ولا هامه، أنتِ بس الي حابسة نفسك جوة الفكرة دي وبعدتي وبعدتيه عنك ؟»
نكست رأسها هامسةً بحسرة «معرفش يا سكن بقا خلاص»
دفعتها سكن للخارج قائلة «يلا اجهزي ونبقى نتكلم في الطريق»
أومأت غزل مبتسمة قبل أن تندفع ناحية المرحاض مفكرة في صداقتها الوطيدة مع سكن ، والمودة التي ضُربت داخل قلبيهما كأطناب الخيام، وتزداد عمقًا مع مرور الوقت، قربهما يومًا بعد يوم وحكاياتهما، نصائح سكن التي لا تنتهي، فدائمًا ورد هي صوت العقل وسكن القلب والجنون بقدر ما أحبت حمزة تشربت الحب ومنحته لمن حولها.
****
انتفضت على صوته، نهضت من جلستها الكئيبة وركضت لتقابله، منذ ما حدث بينهما تلك الليلة وهو غائب، هرب دون تبرير أو كلمة وبقيت هي تتفتت يومًا بعد يوم وتتلاشى كذرات في الهواء، كئيبة واجمة، الدموع لا تفارق عينيها وبجسد مستباح وقلب عارٍ من أي مشاعر تستر ضعفه.. وقفت أسفل الدرج تستمع دون تدخل بأعين شاخصة وجسد مرتجف
«عايز الأرض يا خال محتاجها»
قالها علاء بانفعال وهو يقف أمام خاله بشموخ ونظرة متحدية قاسية.
رمقه خاله باستهانة وهو يسحب الأنفاس الحارة من أرجيلته ثم أجابه وهو يشيح بوجهه عنه في امتعاض «أرض ايه؟»
برود خاله أجج غضبه ونظرته المستهينة أزعجته فصاح غير متقيدٍ بعقل «أرضي وفلوسي الي ادتهملك مهر لهدى»
سحب خاله الأنفاس ونفثها ببطء وهو يجيبه مختبئًا خلف سحابة الدخان الكثيفة «مفيش وبعدين هو أنا ماليش حق فيك وفي أختي»
صاح علاء بغيظ متهكمًا من قوله «نعم حق إيه؟ أنت كنت اتغربت معانا ولا شقيت زينا»
وضع أرجيلته جواره واعتدل موبخًا له ينهاه بتسلّط «احترم نفسك واتكلم مع خالك بأدب»
صاح الآخر بنفاذ صبر «عايز حقي، أنا بعت الأرض خلاص وقبضت عربون»
وقف خاله مندهشًا «واه واه بجى كده يا واد أختي ماشي طيب مفيش أرض ومش هسلمها ولا هرجعلك حاجة هو أنا غصبتك؟»
أقترب منه علاء ممسكًا له من تلابيبه في غضب وتحذير «يا خال متعملش كده»
دفعه خاله عنه ناهرًا له «كنك اتجنيت يا واد المركوب أنت ومعمليش قيمة»
دافع علاء بعداء شديد وهو يبتلعه بنظرته الكارهة «أبويا مش مركوب يا خال»
دفعه خاله وهو يتحرك مغادرًا منهيًا الحوار«طيب غور من وشي، لمّ هلاهيلك وامشي»
صعد الرجل للأعلى بعد ما دفع آيات بقدمه ليصعد، بينما اندفع علاء للمندرة التي يقيم فيها»
عادت لحجرتها مفكرة طويلًا وكثيرًا
في منتصف الليل
اطمأنت لنوم والدها ووالدتها من خلف باب حجرتهما فذهبت له، دخلت فزفر بضيق وهو يبتلع حبة مخدر«كنت فين؟»
رمقها بنظرة محتقرة وأجابها «أنتِ مالك»
التقطت أنفاسها وهتفت بزيغ «لازم نتجوز»
ابتسم بتهكم وهو يشيح عنها برأسه في استهزاء قاتل، فتابعت بخفوت «أنا حامل»
سقطت الكلمات فوق رأسه كصاعقة، التفت مرغمًا يستنكر «نعم يا أختي»
أوضحت ببكاء مكتوم في صدرها ومرارة صبغت حلقها «أنا حامل منك تصور؟ عشت سنين مع رؤوف محصلش وليلة معاك حملت»
ابتسم بمكر ونظرة لامعة، استرخى موسوسًا لها «خلاص انسبيه لرؤوف»
بنظرة متحجرة رجته «متعملش معايا كده»
سألها ببرود وهو يشعل سيجارته المحشية ليغيب كليًا عن العالم «ليه؟ بعدين جات عليا؟»
قالها ببسمة ساخرة فانتفضت تستفسر «قصدك إيه؟»
سحب نفسًا وأجابها بهدوء «يعني يا آيات أنتِ يا ماما من ابن خالتك لغيره»
هتفت بغضب تدافع بعصبية «اخرس ابن خالتي أشرف من كدا وأطهر منك»
شملها بنظرة محتقرة وأجابها بسهمه المسموم«صح علشان كدا ربنا رحمه منك علشان متستاهليهوش وخلّص رؤوف منك برضو علشان ميستاهلش واحدة زيك أنانية وطماعة»
صاحت بغضب وحرقة شديدة وهي تضرب بكفها على صدرها «وأنا مين كان ملا دماغي غيرك ومين قواه على السفر وسهلّه كل حاجة غيرك»
انتفض واقفًا يدفعها عنه بنفور «بقولك إيه مش ناقص ندبك ده غوري من وشي»
هددته بنظرة متشفية «هحكي لأبويا وأخليه يجتلك»
أجابها باستهانة ونظرة متشبعة بالرضا والموافقة «احكيله يستاهل كسر مناخيره الي رافعها وتستاهلي أنتِ القتل»
أمسكت تلابيبه وهزته هاتفةً «أنتِ إيه شيطان؟»
دفعها بعيدًا بنفور واشمئزاز واستدار يلملم أغراضه للرحيل، أمسكت بمطفأة السجائر بغل واندفعت هاجمة عليه تضربه بعزمها وقوة غلها وحقدها منه، استدار لاعنًا يسبها ببذاءة وهو يرفع كفه لموضع الضربة متحسسًا قبل أن يزمجر ويقترب منها صافعًا وراكلًا وهو يكمم فمها، صرخت مستنجدة فكمم فمها ودفعها أرضًا لينال منها، تابع ركل بطنها بغل، وشريط حياتها يمرّ أمام عينيها مع كلمات رؤوف لها.. حتى فقدت الوعي حين ضرب رأسها بقوة.
جلس علاء لاهثًا يتصبب عرقًا، أحاط رأسه بكفيه ومال مفكرًا بأنفاس متسارعة قبل أن يسحب جسدها ويغطيها ثم يركض للخارج، أحضر عبوات الجاز التي يحتفظ بها خاله في المنزل ليستخدمها في تشغيل ماكينة الزراعة خاصته..
أطفأ أنوار المنزل وأغرقه بالجاز قدر ما أسعفه جهده وبعدها خرج مغلقًا خلفه، وقف قليلًا يتأمله لاهثًا قبل أن يشعل قداحته ويلقيها للداخل من نافذة المندرة المفتوحة.
تابع بنظرة ناعسة النيران المتوهجة وسرعتها الخطيرة في الالتهام ثم اختفى وذاب في الظلام.

