رواية عزف السواقي الفصل الخامس والاربعون 45 بقلم عائشة حسين
الخامس والأربعون
«منهارة يا أمي ومش عارفة أفهم منها حاجة والله» قالها حمزة بزفرة ملل طردها من حنجرته وهو يمسح وجهه بكفه مستعيدًا ثباته.
«أنا جاية يا حمزة اطمن» هدأته بها ورد ممتصة توتره بحنوها ورفقها المعتاد، ليردف بتردد «أبلّغ رؤوف؟»
منعته ورد من فعلها بحكمة بالغة وفطنة راسخة «اصبر يا حمزة وبعدين لو عايزة كانت طلبت هي تكلمه يا ولدي، أنت بتجول بجالها كام يوم مقيمة في الدار، أنا جلبي حاسس في حاجة استنى لما آجي »
تنهد بعمق موافقًا على كلماتها، مُعلنًا انتظاره لها ؛لتنتشله من هذا المأزق «حاضر يا حبيبتي مستني»
أنهى الاتصال وجلس منهكًا ينحنى بجذعه للأمام في تعب بعد ما عاناه وشعر به من خوفٍ وقلق.
بداخل الحجرة كانت تجلس الصغيرة جوار غزل ساكبة الطمأنينة في قلبها بربتات كفها الصغير على ظهرها، تواسيها بحنو بالغ كلما اشتد ضعف غزل وزاد عذابها ببكاء حار «خلاص يا غزل متبكيش أنا جنبك مش همشي وأسيبك»
ضمتها متشبثة بصدق عاطفتها وحضنها الدافئ ودموعها تجري على خديها دون توقف أو تعثر في بعض القوة .
دخول ورد الحجرة مهرولة جعلها ترفع رأسها نحوها بنداء صامت واستغاثة خجول، ورد التي عبست حين رأتها بهذا الضعف وحزنت لأجل بكائها ومعاناتها الواضحة، فورًا أخذت مكان الصغيرة وتلقفتها بين ذراعيها حاضنة لها تضمها بعاطفة صادقة وحنو، معتذرة لها عن خطأ ولدها «معلش يا بتي سامحينا» ابتعدت عنها تمسح دموعها هامسةً بضعف «محصلش حاجة يا طنط أنا الي غلطانة كنت بجري ومخدتش بالي، أنا آسفة بجد»
قالتها بنبرة امتزج فيها الأسف بالوهن فجذبتها ورد لصدرها متوسلة لها بتأثر «خلاص يابنيتي طيب ليه كل البكا دِه؟»
أمسكت غزل بذراعها باكية بحرقة تحت جدار قوة الأخرى دون إفصاح فقط تتكيء على أمومتها بُيتمها، مررت ورد كفها على رأسها وظهرها بحركات رتيبة منتظمة وهي تسألها بترقب «فين جوزك؟ نكلمه ييجي؟»
جذبتها من عالم الضياع خاصتها بتلك الكلمات؛ لتفيق من نوبتها مبتعدة تتوسلها «لا يا طنط بلاش أنا همشي»
نظرت ورد لعينيها الذابلة متسائلة بحاجبين ملتصقين اندهاشًا امتزج بصرامتها المعهودة «على فين يا بتي؟»
غرقت في أفكارها من جديد ودموعها تنساب على خديها مشاركة لها فجيعة الأمر والتصور الخانق لما هو قادم وتخشاه، اجتذبتها ورد من جديد بقولها الحنون «جوليلي يا ماما في إيه؟ وليه كل البكا ده طالما إنك سليمة الحمدلله»
ارتخى تشنج ملامحها مسبلة جفنيها بصمت على وخز الدموع الحارق بينما تربت ورد على كتفها في دعمٍ ومؤازرة مقرنة قولها بلمساتها الحنون «رؤوف طلقني يا طنط» لا تعرف كيف نطقتها وكيف طاوعها قلبها على الإيمان بفراقهما كنبوءة، ماذا عساها أن تفعل غير أن تكفر بهذا الحب وتنتزعه من قلبها قبل أن يفعلها هو ويقتله.
تلاشت الصدمة سريعًا من على وجه ورد والتي أدركت بفطنتها أنها تتهرب من شيء أو تكذب، سايرتها بمواساة حنون «خير يا بتي مش نهاية الدنيا»
«نهاية دنيتي أنا» أرادت نطقها فكبلها الأسف وعقد لسانها الحزن والسخط، أسبلت جفنيها على دموعها المتحجرة وهي تمنح ورد الجواب الذي يرقى لمرتبة سؤال دائم لا تنتهي صلاحيته.
سألتها ورد بصبر «طيب هتروحي فين نوصلك؟»
غرقت في الضياع قائلة بهزيمة وهي تخبيء وجهها خلف كفيها «مش عارفة مفيش مكان وماليش حد »
*"*
همس حمزة وهو يسترخي في مقعده بتعب بعد أحداث اليوم الطويلة«خديها يا أمي الشقة التانية واجعدي معاها، هنا مش هتكون مرتاحة»
هزت ورد رأسها مستحسنة قرارة تؤازره فيه بنظرة فخورة «صح يا ولدي كنت هعمل كدا»
جلست سكن جوار زوجها تمسح على ذراعه بحنو «سلامتك يا حبيبي من كل شر الحمدلله عدت»
طالعها بنظرة ممتنة دافئة قبل أن ينهض قائلا «هروح أريّح ضهري شوية»
قالت ورد بإنشغال «ماشي يا ولدي»
نهضت سكن هي الأخرى قائلة «جهزت الأكل لغزل هروح أوديهولها وأجعد معاها شوية »
هزت ورد رأسها موافقة مستحسنة، فغادرت سكن.
بعد قليل كانت تدخل الحجرة التي تمكث فيها غزل مبتسمة تحمل صينية صغيرة بين يديها عليها كوبين من العصير وبعض الشطائر، تعلقت نظرات غزل بها منبهرة بجمالها مشدوهة ومسحورة، اتسعت ابتسامة سكن لقراءتها الأمر واستنباطه من تتبع نظرات غزل لها، نظرت إليها قليلًا بإشفاق قبل أن تخبأه بسرعة بعيدًا عن نظرات غزل المترصدة رفقًا بها وخوفًا على مشاعرها ، جلست فوق التخت متربعة أمامها ببساطة لا تكتف نفسها بفعل دبلوماسي عملي يقيد الأخرى ويزيد من خجلها وحرجها بل تعاملت ببساطة؛ لتمتص خوفها وتوترها «مكانش فيه وجت أشكرك ولا جات الفرصة المناسبة إني أعمل كده»
نظرت إليها غزل بصمت وتعجب فأردفت سكن بابتسامة حلوة «جبل كلامنا أنا عايزة أحضنك وأشكرك ينفع؟»
هزت غزل رأسها ومازالت على بلاهتها تنازع بين سحر سكن وقلقها الساكن، اقتربت سكن وعانقتها؛ ليقصر الطريق الشاق في التعارف وتتوحد القلوب بالعطف والمودة الصادقة، تقبلت غزل عناقها اللطيف فشكرتها سكن بصدق كان له أثر طيب في نفس الأخرى «شكرًا على الي عملتيه مع ورد مهما جولنا وعملنا مش هيوفي حقك»
همست غزل بنبرة مبحوحة نال منها البكاء «لا شكر على واجب»
ابتعدت سكن عنها موضحة لها وهي تسحب صينية الطعام وتوسطها بينهما «متعرفيش أنتِ الي عملتيه دِه إيه؟ بس أنا هعرّفك» أضافتها سكن ببعض المرح؛ لتخف من التوتر تطرد جدية الأخرى وارتباكها، ناولتها شطيرة وهي تشغلها بالحكي «ورد وحكيم مش بحبهم علشان مني وبس ولا لإنهم ولادي »قطبت غزل بصمت وهي تتناول الشطيرة بسلاسة منشغلة بقول سكن العجيب، التي ابتسمت برضا وأردفت وهي تأخذ أخرى مشاركة لها الطعام في أريحية «لاه دول عيال حمزة وحتة منه وفرحة مرت خالي ورد، دول بحبهم فوق الحب حب » قالتها بعاطفة متوهجة جذبت الأخرى كالمغناطيس وجعلتها تتناول شطيرتها بانسجام كأنها تتابع فيلمًا تخشى أن يفوتها منه جزء، أردفت سكن بمرح «بالمناسبة أنا اسمي سكينة»
قطبت غزل مستفسرة تردده بدهشة «سكينة»
ضحكت سكن ببساطة مفصحة عن اسمها الآخر الذي ناداها به حمزة أول مرة.. فابتسمت غزل مثلها،بينما استطردت سكن ببساطة محببة «هو ومرت خالي سموني سكن وللاسم قصة طويلة هنجعد كتير وأحكيهالك»
هزت غزل رأسها بالموافقة ثم سألتها «أنتِ منتقبة؟»
أجابتها سكن وهي تعدّل من وضع حجابها بعدما انحسر كاشفًا جزء من خصلاتها النحاسية المتموجة بنعومة «أيوة حمزة لبسهوني بعد ما اتجوزنا»
أشادت غزل بفعلته في عفوية صادقة وقلب نقي طاهر من الغيرة والحقد،تشيد بجمالها «معاه حق أنتِ ماشاء الله جميلة»
تحيرت سكن بماذا ترد خشيت إن بادلتها مجاملتها تُشعرها بالنقص أو تحرجها كما خافت أن تشكرها باقتضاب فيؤذي الصمت قلبها أكثر.
تأملتها منتقية من ملامحها أجملها وقالت بصدق «وأنتِ عينيكِ حلوة جوي اللهم بارك» ابتسمت غزل بخجل فلطالما كانت عيناها محطّ أنظار الناس ومكمن فتنتها، أردفت سكن وهي تناولها كوب العصير «المرة الجاية لما أحمل لازم تيجي تجعدي معانا علشان آخد العينين الحلوة دي»
تمنت غزل لو بادلتها الأمر وأخبرتها أنها تريد المثل وأن يهبها الله طفلة تشبهها، ابتسمت بحسرة لاستحالة الأمر و بُعده، أمنيتها متعلقة به هو، لن تنال طفلًا منه حتى ينفق هو من سعة عفوه.
شعرت سكن بما يدور بخلدها من نظرة الحسرة الواضحة وانغلاق شهيتها فربتت على كفها هامسةً بلطف «لو عرفتي حكايتي هان وجعك والله،صدقيني ربنا هيعوضك خير»
لاكت الطعام بضيق وحزن، لا تريد عوضًا عنه ولا بديل هي تريده هو كجائزة أو معجزة تنالها بعد صبر. زاد إحباطها حين تذكرت رسالتها له التي دستها بين الأوراق شفاعة لها عنده، ليقينها أن غضبه سيغلبه، هويتها ستطمس حلمه وصبره، ترى هل قرأها وتجاهل ما فيها أم ماذا؟ ولماذا لم تبقى في الدار وتواجهه؟ لماذا تركته لغضبه وهواجسه وتركت نفسها للظنون؟ عادت للواقع على دخول ورد الحجرة، فتركت ما بيدها واستقبلتها باحترام وتقدير
نهضت سكن مستأذنة «هروح أشوف العيال وأجيلكم»
هزت غزل رأسها بتفهم وابتسامة ممتنة لها قبل أن تعود لشرودها من جديد وقد جلست جوارها ورد بوقارها المعهود، متذكرة كيف احتوتها وأصرّت عليها أن تأتي معهم دون أسئلة فضولية كثيرة محرجة لها تثير حفيظتها. وكيف اضطرت هي للمجيء متقبلة عطفهم عليها وضيافتهم حتى تعرف ما ستفعل وهل يمكنها طلب المساعدة منهم أو لا؟
****
«جبتلك كوباية شاي»
قالتها ورد وهي تجلس جوارها مقتحمة عزلتها مبددة الصمت من حولهما، شكرتها غزل بابتسامة ونظرة ممتنة وهي تمسك بالكوب متلاعبة بحافته، تمرر أناملها على وهجه بذهنٍ شارد، متمنية لو يحق لها سؤال ورد «مفيش قرنفل يا طنط أو نعناع»
لكنها امتنعت في اللحظة الأخير عن الطلب، لاحظت ورد شرودها الذي يزداد عمقًا ونظراتها للشاي فهمست بمكر «تحبي أحطلك نعناع عليه أو قرنفل مثلا» طالعتها بدهشة متعجبة كيف قرأت رغبتها؟ هل هي مكشوفة لهذا الحد؟ هزت ورد رأسها قائلة وهي ترتشف من كوبها «المتر لما كان ياجي عندنا حمزة كان بيوصي يتحط للشاي نعناع وقرنفل يمكن بجيتي زيه ولا حاجة» بررت لها شعورها حتى لا تنطوي وتخجل أكثر.
عضت شفتيها مبتلعة غصة الدمع وهي تشيح بنظراتها بعيدًا عن شباك نظرات ورد المتصيدة، ربتت ورد على ركبتها هامسةً بحنو وعاطفة «اشربي الشاي بلاها قرنفل ونعناع»
قالتها ورد بمزاح؛ لتخفف من حزنها فمسحت غزل دموعها المتسربة من حاجز الثبات ورفعت الكوب لفمها مرتشفة ببطء.
اعتدلت ورد متربعة فوق الأريكة هاتفةً بحماس ولمعة عينين مبهرة «إيه رأيك أحكيلك حكاية حمزة وسكن؟»
تركت الصغيرة الهاتف المنشغلة به واندفعت مصفقة تشجع جدتها بحماس طفولي «يلا يا ورد احكيها أنا بحبها»
ضحكت غزل بجزل على حماس الصغيرة التي أردفت تثيرها «هتعجبك أووي يا غزولة أنا بحب أسمعها أوي»
أجلستها غزل على فخذيها ململمة لها خصلاتها بحنان منتظرة الحكاية الخاصة التي جعلت ورد الكبيرة تهز نظراتها طربًا فيفوح عطرها الأخاذ لافحًا لهما
«سكن حمزة» قالتها ورد بإثارة وشغف ساحر خطف الأخرى وغيبها عن العالم، أبحرت بصحبة صوت ورد الناعم في رحلة ممتعة أثارت حواسها وأطربت مسامعها، لتنهي الحكاية بدموع غزل وكلماتها عميقة التأثر «ماشاء الله اللهم بارك ربنا يخليهم لبعض»
أمّنت ورد خلفها منتظرة، ففتح أقفال قلب الأخرى الصدئة ليس بهينٍ ولا سهل.. هتفت الصغيرة وهي تعانق وجه غزل الغارق بالدموع بكفيها قائلة «متخافيش يا غزولة معندناش عفاريت خلاص جدو حسان الطيب هزمهم وبعدهم عن سكن وحمزة»
هزت غزل رأسها بطمأنينة مفتعلة لإرضاء الصغيرة، تجاريها في ظنها وهي تردف «مين جدو حسان ده؟»
تثاءبت ورد قائلة وهي تنهض واقفة «لاه دِه حكايته طويلة بكرة إن شاء الله»
أومأت غزل بخجل وهي تساعد الصغيرة في الهبوط من على فخذيها، هتفت ورد قائلة «يلا ننام علشان نصحى للفجر ومنكسلش»
نهضت غزل فورًا وتحركت بصحبة ورد ناحية الحجرة، اتخذت مكانها على يسار الفِراش وورد على يمينه والصغيرة بينهما.
أغمضت عينيها مفكرة في ما حكته لها ورد وتلك القصة الرائعة التي انتهت بتوحد قلبين، شردت بخيالها مقارنة القصتين، ونهاية حكايتها المأساوية فعبست متنهدة تطرد الضيق وتنهر نفسها على هذه الأفكار الشيطانية داعية لحمزة وسكن بالسعادة الدائمة.
في الصباح لاحظت غزل دخول الصغيرة العاصف وتمتمتها المنزعجة فسحبتها ناحيتها مستفسرة بإقتضاب «في إيه يا روحي مالك زعلانة ليه؟»
عقدت الصغيرة ساعديها أمام صدرها قائلة بكبرياء «حمزة»
سألتها غزل بحاجبين ملتصقين «والدك؟»
ضحكت الصغيرة مصححة لها «لا ابن طنط سامية جارتنا»
ابتسمت غزل مستفسرة منها بمشاكسة «وماله بقا حمزة ابن طنطك سامية مزعلك ليه؟»
جلست الصغيرة أمامها قائلة وهي تطوُح ساقيها في الهواء «مش عايزني أكلم حد ولا ألعب مع حد»
سايرتها غزل باستمتاع وهي تتأمل ملامح الصغيرة «ليه بقا؟»
وضحت لها الصغيرة بعصبية وتأفف «مش عايزني أكلم غيره ولا ألعب مع حد ولا يكونلي أصحاب غيره وبس، وبيقول إن البنات أصحابي مغرورين ومش حلوين»
ذمت غزل شفتيها مستنكرة «يا سلام وأنتِ قولتيله إيه؟»
هزت الصغيرة كتفها قائلة بإستهانة «ولا حاجة براحته أنا مش هسيب أصحابي»
قرصت غزل خدها ضاحكة برقة
«طيب كنتي قولتيله مش هكلمهم وخلاص ومتزعليهوش ولا تزعلي»
أردفت الصغيرة بفطنة «بابا قالي مينفعش ندي وعد ومنفذوش ولا نقول حاجة مش هنعملها، كدا احنا كدابين»
ترقرقت الدموع في عينيها وهي تهز رأسها مؤكدة «صح يا رورو مينفعش»
تذكرت وعودها التي أخلفتها وثقته بها التي دهستها بأقدامها، سألتها الصغيرة وهي تمسح لها دموعها «مالك يا غزولة كلامي ضايقك؟»
أجابتها غزل بحسرة في الأعماق «لا بس افتكرت إني كدبت على حد بحبه ووعدته إني هفضل جنبه وخلفت»
مسحت الصغيرة على رأسها بحنان راسمة التأثر على ملامحها الجميلة «متزعليش لما تشوفيه اعتذريله واحضنيه هيسامح»
ابتسمت غزل هامسةً وهي تمسح دموعها «هعمل كدا لو شوفته»
****
سحب حامد كرسيًا وجلس فوقه بغطرسة وهو يشير للعامل ببرود «هاتلي شاي بالنعناع يا واد»
رفع موسى نظراته المظللة بالحقد ناحيته متسائلًا بغرور مماثل وهو يعاود الإشاحة برأسه في بغض «خير اللهم اجعله خير»
نظر حامد للسماء قائلًا بتنهيدة خشنة وهو يحك رقبته «وحشتني جيت أشوفك يا غالي»
ابتسم موسى بتهكم بينما اعتدل حامد في جلسته ومال ناحيته هامسًا بنظرة لامعة «جاي وجايبلك معاي المُنى كله»
رمقه موسى بطرف عينيه في شك قبل أن يميل للأمام بجذعه يحرك الفحم في أرجيلته ببطء، راقبه حامد وهو يحك ذقنه ولمّا اعتدل مال ناحيته هامسًا«عرفت إن عينك من زينب»
مال موسى بانتباه متحفزًا لاكمًا له بكلماته التي تفاداها وابتسم «وأنتِ مالك انت كمان هي كانت من بجيت أهلك؟» ختم قوله بزفرة حارقة نفث معها جزءًا من حقده وكراهيته، ليتابع حامد بتأنّي مدروس «لاه بس سمعت برضو البت مش راضية ومدوخاك وراها »
انتفض موسى واقفًا يتأفف منزعجًا من تدخله وقوله المهين لكرامته«اللهم طولك يا روح»
استرخى حامد في مقعده ممسكًا بكوب الشاي خاصته والذي أحضره العامل له الآن، ارتشف منه القليل قائلًا بهدوء وهو لا ينظر لموسى ولا يمنح استيائه اهتمام «هجوزهالك»
حصل على اهتمام الآخر وانتباهه الكامل بعدما مسح عبوسه وجلس مستفسرًا بلهفة «بتجول إيه أنت؟» تعثر في تردده حين صمت حامد ببروده المعتاد وصبره المغيظ فهتف موسى بنبرة فضحت لهفته «كيف يعني؟»
ترك حامد كوب الشاي ومال هامسًا بنظرة ثاقبة «ليك تتجوزها وبس»
ابتسم موسى بشرود مفكرًا في النتائج بزهو وهو يعدّل شاله حول عنقه ماسحًا على صدره بكفيه في رضا قبل أن يميل هامسًا بنظرة ضيقة «وليه الكرم دِه؟»
أجابه حامد برضا «أكيد عارف أنت الي عمله واد أخوها معاي وكيف دخل بيتي»
هرش موسى ذقنه قائلًا بتفكير «ومين ميعرفش!»
ارتشف حامد كوب الشاي ببطء منتظرًا انسكاب لهفة الآخر من جديد ليلملمها ويصنع منها رغبته، أصدر موسى تأفف متبرم فتابع حامد بابتسامة باردة «زينب خدت خاتم من واد أخوها ومرضياش ترجعه وبتجول مش معانا وأنا عايزه»
ضيّق موسى نظراته على وجهه مُردفًا «وبعدين؟»
أخبره حامد بنواياه «هتنازل عن الجضية وأطلعه مقابل تتجوزها وتجبلي حاجتي منها»
سأله موسى بشك «وأخوها هيرضى؟»
أجابه حامد بثقة «مش بكيفه أولًا وثانيًا يهمه يطلّع ولده وثالثًا مش هخليه يرتاح»
نظر إليه موسى مقلّبًا الكلمات في ذهنه قبل أن يصارحه بشكه «وهي هترضى»
أجابه حامد بابتسامة واثقة «جولتلك مش هيبجى بكيفها ولا هتقدر تطلع عن طوع أخوها الي مش هيضحي بولده عشانها خاصة وهو أصلا عايز يخلص منها ومن شيلتها »
لاقى القول استحسانه فأصدر همهمة رضا وسأله باستهجان وابتسامة ساخرة أثقلت شفتيه فمالت بخشونة «وكل دِه عشان الخاتم؟»
ابتسم حامد قائلًا بسخرية مماثلة «لا عشان جليلة أدب»
قطب موسى بغير رضا متذكرًا إعجابها بالجالس أمامه وسعيها خلفه ليقول بحمية «ليه عملت إيه معاك؟»
نظر إليه حامد مليًا بمكر ثم أجابه «يدّها طويلة زي واد أخوها ومرضياش تدينا حاجتنا»
واجهه موسى «مجولتش لأخوها ليه؟وكان جبهالك منها واتنازلت»
أجابها حامد بغيظ مكتوم منها «جالت مخدتش والي معاكم اعملوه»
لمعت عينا موسى بإعجاب يكنّه لها وسخر منه حامد، ليسأل موسى مجددًا «وأنت عرفت كيف؟»
أجابه حامد وهو يرتشف آخر رشفة من كوبه «ولاد حلال جالولنا شافوه معاها دا غير الحاجة الي سرقها الواد رجعت ناجصة يبقى مين خدها؟»
نهض حامد مستدعيًا النادل بتصفيقه وهو يقول «فكّر ورد عليَّ أنا عايز أريح جلبك وبالك وأخلص حقي منهم»
أمسك موسى بكفيه قائلًا بتفاخر «خليها علينا يا أبو قاسم»
ابتسم حامد رافضًا «لاه محبش حد يدفعلي شايي وإن شربت على حسابك يبجى شربات»
نقّد حامد العامل ثمن الشاي وأكثر فشكره ببشاشة وانصرف، ثم تحرّك تاركًا كلماته تطنّ ب أُذن الآخر «هستنى ردك»
في الطريق هاتف زين وأخبره بما حدث، فسخر منه زين «ما تتجوزها أنت، البت حلوة ونغشة وطالبة الرضا يعني هتدلعك»
زفر حامد نافثًا يأسه منه في الهاتف «مبتزهقش أنت»
قهقه زين قائلًا بصدق «لا لغاية ما أشوفك متجوز وطالع عينك زيي بالعيال» اتسعت ابتسامة رؤوف من مجرد التخيل فأردف زين داعيًا بعدما أحس من صمته وتنهيدته بما يدور داخل رأسه «ربنا ينولهالك يا صاحبي»
أنهى حامد الاتصال وعاد للمنزل، حكى لخالته ما دار بينه وبين موسى فقالت ناصحة بوجه متغضن «حرّص يا ولدي ربنا معاك»
وضعت كفها على كفه وهمست «ومرتك حالها إيه متعرفش؟»
ارتج قلبه من الكلمة، اهتز جموده بابتسامة لطيفة سرعان من ابتلعتها أخاديد الأسى وقال «مشت يا خالة ..العيال جالولي لما عرفت إنك موجود هربت بسرعة» ذابت كلماته في بحر الشجن الملوّث بالندم، اعتصرته الحسرة فقطر الألم من أحرفه «خافت مني..! خافت أمشيها تاني .. ومعارفش رجعت لأبوها ولا فين أرضيها ولا إيه حالها»
أوصته تماضر مشفقة عليه من ضميره الحي ونيران عشقه وندمه «مكتوب يا ولدي، خطاوي لازم نمشيها ادعي بس ربنا يحفظها ويردها بخير»
صارحها بانكسار وخفوت، بكلمات تخرج منه على استحياء متوجسًا من غضب خالته «خايف يكون آيات معاها حق وأنا مستاهلش يا خالة، ضيعتها ولا هي ضاعت؟ شقي أنا ولا سعيد مش عارف؟»
نهرته تماضر بحزم أم، تخشى عليه الإضرار بنفسه وعاقبة قوله على قلبه «متجولش كده ولا تفكر فيه من الأساس يا ولدي، هترجع يا ولدي ،مكتوبة الخطاوي ومعدودة .. هي منك وأنت منها ، هترجع وهتشوف الفرح»
صمت بشك لا يجادلها ولا يخبرها بهواجسه وظنونه ولا الحروب التي يخوضها مع أفكاره السوداء التي لطخت ملامحه بالكدر، يغلق عليها باب النفس صابرًا متجرعًا المرارة وحده.
****
حرك قاسم سبابته في صفحة السماء الواسعة محركًا مواقع النجوم بمخيلته صانعًا منها حروفًا مغزولة من نورها، تنهد رؤوف راسمًا لها بفرشاة خياله، متأثرًا بصورتها التي انطبعت من أفكاره لصفحة السماء.
أخرجه قاسم من شجنه بقوله الصادق «غزل وحشتني جوي يا أبوي»
نصحه برفقٍ ولطف يذكّر بالكلمات نفسه ويغلق بها جروحه المفتوحة،ينحر بها الشوق عله يكف عن الأنين بصدره «انساها خلاص»
اعتدل قاسم مستندًا بكوعه على الأرض رافضًا قوله يسأل بفطنة «وأنت هتنساها؟»
أجابه بصدق كرفيق حميم يشاركه أوجاعه ويطلب مشورته «هنحاول يا قاسم»
عاد قاسم للتسطح جواره متوسدًا كفيه «هو عادي ننسى حد بنحبه يا أبوي؟»
زفر قائلًا وصورتها التي رسمها في الأفق تتبخر أجزاؤها أمام عينيه كنبوءة لفقدانها خسارتها طوال العمر «لاه بس طالما هو عايز وبعد عننا وبيحاول ينسانا هنحاول إحنا كمان»
اعترض قاسم بضيق غير راضيًا ولا موافقًا على قوله وتأويله «بس غزل بتحبني ومش هتنساني»
نهض مستندًا على مرفقه يشاكسه بلطفٍ ومرح وهو يدغدغه؛ ليتخلص من أسئلته التي توجع فؤاده وتتركه لقمة سائغة للأفكار السوداوية ونزاعاتها التي لا تنتهي «ماشي يا أستاذ قاسم لما نشوف»
قهقه قاسم عاليًا فضمه رؤوف متنهدًا محتميًا به وبحضنه ومتحصنًا بمحبته، ربت قاسم على ظهره بكفه الصغيرة مواسيًا «قولي مكانها وهروح أجبهالك يا أبوي»
اعتدل رؤوف جالسًا بصمت ينظر للسماء، ولكم تشبه حبيبته النجوم ، يظل ساهرًا يتأملها ويتتبعها دون ملل، تراوغه وتخطف بصره ثم تذوب وتختفي في غمضة عين كأنه ما كان بينهم ألفة ولا صداقة.
جلس قاسم أمامه مسترسلًا «أنت تعبان من ساعة ما مشيت وتلاجي هي تعبانة»
صمت بحزن ثقيل على النفس وكآبة موحشة في الوجه فعانقه قاسم بصمت مؤازرًا له بعاطفة صادقة يدعو له دون ملل ولا امتثال لنبوءته عن خسارتها للأبد وضرورة نسيانها،قلبه النقي يوقن بعودتها وبزوغ فجرها من جديد في حياتهما
**
هزّ رؤوف العُلبة التي أخذها من كف صغيره متسائلًا وهو يحركها مستمعًا لرنين العملات المعدنية داخلها «حصالة دي يا قاسم»
قرأ الكلمات المكتوبة عليها بصوت مسموع «بذرة لشجرة كبيرة تضلل علينا»
قطب رؤوف مستفسرًا بنظرة حانية، ضحك قاسم موضحًا له وهو يسحبها ويضمها ككنزثمين وغنيمة «أيوة حصالة بنحوش فيها أنا وأصحابي كل يوم بنحط جزء من مصروفنا»
انحنى رؤوف مُشيدًا بفعلته يمسح على رأسه بحنو ونظرة متفاخرة متألقة بأسمى معاني الحب «جدع بس ليه وهتعملوا بيها إيه؟»
نظر قاسم لعينيه الغارقة في الشجن مانحًا له اسمها كمجاديف «غزل»
اسمها كفيل بزلزلة ثباته المزعوم يلفظ اسمها مُدللًا بنبرته الموسيقية التي تحبها كأنه يعوضها بما ترتضيه في غيابها «مالها غزل»
تذكرها قاسم بنفس الشجن ولمعة العينين التي تخصها وحدها «صاحبة الفكرة»
جلس رؤوف مستمعًا له بخشوع وهو يستطرد «قالتلي نعمل حصالة نحط فيها أنا وأصحابي ونفتحها لما واحد مننا يحتاج حاجة ضروري، نساعده بيها وميحتاجش لحد»
أطبق شفتيه وصمت بنظرة حزن، فتابع قاسم «رأفة فرح أختها قرّب ونفسها فحاجات هنديها الفلوس تجيب بيهم»
ضمه رؤوف لصدره كاتمًا تأوهه بين الضلوع هامسًا بلوعة «ودي هنساها كيف أنا؟» ابتعد قاسم عنه قائلًا «افتحهالي»
تناولها رؤوف منه وفتحها قائلًا بنبرة طفولية راجية «ينفع أشارك معاكم؟»
رفض قاسم «لاه احنا بس»
منحه رؤوف عُلبته بفظاظة «ماشي يبجى افتحها لوحدك»
ضحك قاسم على مزاح والده وعناده الطفولي معه وتناولها قائلًا «ماشي»
خرج يدندن كعادته أسفل الحائط أمام البيت، جاءته رأفة راكضة وقفت أمامه تلهث فابتسم لها قائًلا بعتاب ونبرة محبطة «مفيش فايدة فيكي؟!» جلست جواره متربعة تهتف من بين أنفاسها المتسارعة «ازيك يا عم حامد ليك وحشة»
اتسعت ابتسامته متقبلًا عاطفتها البريئة المدثرة بالحياء الفطري «وأنتِ يا بابا عاملة إيه؟ صُح أختك هتتجوز»
أجابته بحماس طفولي وفرحة متلألأة في نظراتها «أيوة بنخبزلها البسكويت»
شاكسها بمزاح وهو يقطب حاجبيه بعتاب «واه ومجبتليش تدوقيني ليه؟»
نهضت فورًا محملة بلهفتها لإرضائه، سعيدة بطلبه العزيز «هروح جري أجبلك وأرجع»أمسك بكفها مانعًا وهو يجلسها من جديد «لاه بعدين اجعدي معاي شوية»
جلست مرة أخرى مُلبية بابتسامتها الدافئة، ارتفعت نظراته لخصلاتها يتأمل هدية حبيبته التي تحافظ عليها الصغيرة كأنها أغلى ما تملك وأجمل ما أُهديت،أشاح ببصره زافرًا فاقترحت رأفة عليه «إيه رأيك أروح أجبلكم بسكويت وأجي أنا والعيال وعم عبود وناكله كلنا»
عاد ببصره لها مبتسمًا ينظر إليها بمحبة زادت حينما وقدرت عبود ومنحته احترامها، الصغيرة البريئة لا تناديه باسمه كما الجميع بل تحترمه عكس الباقيين وتلصق اسمه بالعم.
سايرها في طفوليتها «فكرة برضو بجالنا زمان متجمعناش ولا حكينا»
أفلتت الصغيرة عاطفتها البريئة دون حذر أو قيد من خجل عفوي «اتوحشناك يا عم حامد واتوحشنا الكلام معاك وحواديتك»
ابتسم لها قائلًا بأسف «خلاص هنتجمع من تاني»
تهلل وجهها وبشت برضا ثم سألته ببعض التردد الواضح «هي فين أبلة غزل يا عم حامد؟»
نظر للسماء مشدوهًا يهمس بعاطفة «ف السماء بتلونها»
رفعت رأفة رأسها تنظر لما ينظر إليه مصححة بنظرة منبهرة «ده قوس قزح يا عم »
أجابها والألوان تخطف بصره «اهي غزل زي ألوان قوس قزح يا رأفة بالضبط »
هزت رأسها بعدم فهم لقوله ومعناه لكنها واصلت التأمل مستمعة لهمسه مسحورة بدفء نبرته، تؤكدة على الوصف « هي حورية الربيع الي بتلون السما بقوس قزح يا عم»
أعاد رأسه ناظرًا إليها بتفكير عميق في الوصف الذي لاقى استحسانه ثم رفع رأسه مجددًا متوسلًا بنبرة مرتجفة «ادعيلها يا رأفة يحفظها ويردها سالمة»
أجابته ومازالت تتأمل صفحة السماء «جولتلنا زمان نهادي الي نحبه بالدعاء وأنا بحبها ياعم وبدعيلها كل يوم ترجع هنا تاني وتفضل معانا»
بش مستبشرًا بقولها خيرًا، مبتهج القلب بسكينة وطمأنينة كأن عودتها من جديد وعدًا وقر في القلب
*****
ولولت جدته بحسرة «واه يا حامد جسي جلبك علينا»
صمتت سماسم بوجوم مشاركة لها حسرتها بصمت، مقتسمة معهم الأثم
بينما بكت نجاة نادمة على ما اقترفت يداها و صمتها وتخاذلها الذي أودى بها في مكب نفايات الأيام لدى صغارها، وأوحش قلبها ببعدهم عنها ورحيل أنفاسهم عن المنزل الذي أصبح خاويًا تتشقق جدرانه من شدة الحزن والكآبة.
صاحت أرضينا عاتبة ترمي أثقالها على ظهر غزل «هي بت مرتضى السبب منها لله» انتفضت الجالسة بينهما ملدوغة بكلمات جدتها المسمومة، ترفض قولها بعصبية «متقوليش كدا عنها لو سمحتي أختي معملتش حاجة لحد ولا أذت حد»
توقفت الجدة عن البكاء متطلعة لها بمصمصة متحسرة بينما أطرقت نجاة بصمت لا تراجعها فيما تقول ولا توقف سيل الاتهامات،منغمسة في مصابها الخاص تعاني من حمى الأنانية.
أسكتتها الجدة بلوم «اسكتي يا بتي أنتِ معرفاش حاجة؟»
اعترضت صفوة متسلحة بقوة جديدة ترد غيبة أختها، مسخرة قوتها للدفاع عنها والهجوم إن لزم الأمر فلا يمسها سوء الكلمات وإن كانت غائبة « لا أنا عارفة وأرجوكم محدش يلوم أختي ولا يجيب سيرتها بحاجة وحشة هي سابت كل حاجة ومشيت»
نهرتها جدتها بعصبية «ما تسكتي يا بتي، بت مرتضى عصّت الواد وأخواته علينا وبعدتهم عننا»
وجهت صفوة لها كلماتها الفظة دون حساب أو مراعاة «ولادكم رجالة مش صغيرين وأدرى بالي عايزينه والي بيعملوه ومن حقهم يختاروا حياتهم مش معنى إنهم بيقدروكم ويحترموكم إنهم ينسوا حياتهم ويتنازلوا عن رغباتهم وحقهم عليكم تريحوهم مش تدوروا على الي يريحكم وبس،الي عملته غزل متستحقش عليه منكم كدا بالعكس، هقولكم تاني وتالت ورابع أنا ربتني غزل وحمتني غزل ودافعت عني.. أختي ليها معروف عندكم تستحق بيه تتشال على الراس وأنا قبل أيام كنت بنت مرتضى زيها»
أكدت نجاة وهي تمسح دموعها «صُح يا بتي مكدبتيش»
عارضت الجدة بامتعاض ونظرة مزدرية «ايه هو الكلام الملخبط دِه وأنتِ يا نجاة هتعومي على عومها»
هتفت نجاة بعصبية «البيت فضي علينا يا عمتي وبجينا لوحدنا،اتهد على روسنا خلاص »
نهرتها الجدة بغضب حاد واستنكار قاسي «متجوليش كده يا بت بعيد الشر دلوك يرجعوا ويملوا بيت»
أجابتها نجاة بحسرة سكنت القلب «خلاص خسرنا حامد يا عمتي ولو رجع مش هو»
هتفت الجدة بامتعاض شديد وغيظ «سحراله البت»
صاحت صفوة بنفاذ صبر «أختي مش كده لو سمحتي»
تدخلت سماسم برفق وهدوء «روحي يا صفوة مكانك دلوك»
غادرت وهي تنفخ بسأم بينما جدتها تعلّق على أفعالها بإستياء «واه إيه هو دِه!»
جلست سماسم شاكية بانكسار « جلبي واكلني عليهم جوي بالأخص رؤوف»
هتفت الجدة «ليه يعني ولدنا راجل مشيت مرة هتهزه !؟»
توسلتها سماسم بأعين دامعة «سايق عليكي النبي يا أما تسكتي»
نهضت قائلة بعتاب «ماشي غايرة المندرة بتاعتي يكش ترتاحوا»
فرد الصمت ردائه على المكان إلا من أصوات نهنهة البكاء التي تتسرب رغما عنهم وتحفظها الجدران بداخلها حتى تنوء بحملها فتتشقق.
*****
«القاهرة»
مرق للداخل كالسهم، أحاط بنظراته جسده أخيه فوق الأريكة صارخًا بغضب نشط طوال الوقت منذ رحيلها«طاهر»
انتفض طاهر واقفًا برعب، وهو يلبي بحنو كعادته «أيوة يا أخوي»
لوّح رؤوف بالهاتف بين يديه بنبرة جامدة «مش نبهت عليك متكتبش في السياسة خالص»
نظر طاهر لعينيه المحتقنة مفتشًا داخل عقله عن مبرر يقنعه ويمتص به غضبه، لكن الآخر باغته بصرخة أطلقها كقذيفة «ما تتكلم خرست ليه؟» قطب طاهر منكس الرأس بصمت مرتبك، فرفع رؤوف هاتفه لأذنه متوعدًا بغلظة وتوبيخه يقطر فوق رأس طاهر كالحمم «هجفلهولك الحساب وأشوف هتعمل إيه؟»
رفع طاهر رأسه معارضًا قوله، يعاتبه برفق «أنا مش بت يا رؤوف عشان تمنعني من الفيس ولا تحكم عليَّ»
هتف رؤوف من بين أسنانه «لما متعرفش مصلحة نفسك أحكم عليك، لما تستهتر وترمي نفسك في التهلكة أمنعك أنا مش ناجص يا أخي ارحموني»
لانت نبرته بأسى فتت قلب الآخر الذي سحب الأنفاس وأقرّ معترفًا بنبرة مذنبة وهو ينكس رأسه من جديد«كتبته عشان غزل...»
تصلّب جسد الآخر فاغر الفم يطالعه باستنكار وعدم فهم فتابع طاهر مقرًّا بطفولية أفكاره وحسرته التي دفعته ليخوض الأمر مجددًا ولو كان سيعاقب «غزل كانت بتكون في آخر الدنيا ولما تشوفني نزلت تجري تكلمني تهددني أمسحه»
سقط ذراع الآخر جواره وأنفاسه تخرج من صدره محملة بحمم قلبه، يجاهد لتبقى عيناه مفتوحتان ومنتبهتان لا يغلقهما حتى لا يتواجه مع ذكرياتها المخطوطة أسفل جفنيه.. تحرر طاهر من ثقله بحذر خوفًا من مشقة بوحه بمكنونات قلبه على أخيه «عملت كده يمكن تكتبلي واطمن عليها»
جلس رؤوف واجمًا فتابع طاهر وهو يراقبه بنظراته، يحاوطه بها خوفًا عليه من نتائج اعترافه«خايف عليها جوي يا أخوي؟ معارفش هتعمل إيه؟ ولا العلاج الي بتاخده هيوديها لفين»
دفن رؤوف وجهه بين كفيه المرتعشين يستمع لجلدات طاهر على ظهر ضميره «قلقان عليها من بُعدها عنك أكتر والله، عارفها أنا يمكن كلامها قليل مبتحكيش كتير بس عنيها الحلوة مليانة بحكايات عنك مجاتش الفرصة تحكيها،بس جلبها الحلو مشغول بيك دايماً»
أسكته رؤوف بنبرة مرتجفة عبر منها التوسل رغمًا عنه «بس يا طاهر بس»
لكنه لم يتوقف بل اقترب جالسًا على ركبتيه يعاتبه « ليه مشيتها لما جتلك المكتب؟ كنت خبيها.. طيب كنت ابعتلي وهاجي أخدها وأمشي كنت عايزها أنا يا أخوي ، ليه توهتها أكتر ماهي تايهة»
رفع له عينين محتقنتين بالألم فتراجع طاهر مغمغماً بندم بعدما رأى ملامحه المظلمة الشاحبة «يمكن معرفتش تفهمك ولا معرفتش تحبك حب يرضيك بس اعذرها مداقتش هي الحب كتير ولا تعرف أشكاله ولا كيف تعبر عنه مسكينة محدش علمها اتعلمت لوحدها واتصرفت حسب معرفتها يا أخوي»
حسرة قطعت أحشائه فحاول إسكاته وإيقاف خناجره الباردة «جولتلك خلاص، امشي يلا»
نهض طاهر يغمغم بما يشبه الهذيان من شدة الألم « والله هي ما تفرق عن عيال الدار حاجة، هي غلطانة وجرحتك وأذتك والله عارف وزعلان منها بس كنت عاملها زيهم، مالت على رحمة جلبك تتسند عليها كنت اقبلها متهدهاش على دماغها»
لم يتمالك رؤوف نفسه ونهض دافعًا له يصرخ فيه بهياج «مش جولتلك اسكت مبتسمعش ليه؟ روح دوّر عليها وخليها معاك أو روحلها وأجعد معاها»
طأطأ طاهر رأسه بصمت مستمعًا له بصبر قبل أن يقترب منه معتذرًا له مقبلًا كتفه بتقديروأسف «حقك عليا متزعلش»
ابتعد عنه فمدّ رؤوف ذراعه ليمسك به لكنه تراجع ساحبًا ندائه، مسقطًا ذراعه جوار جسده بإحباط ويأس.
***
خرج من حجرته مهرولًا يبحث تائهًا بأفكاره، يفتش الحجرات مناديًا عليه متذكرًا كلماته التي ألقاها عليه دون حذر وفي لحظة غضب وتهور اعتادها منذ رحلت وكأنها أخذت معها عقله ولم يتبقى له إلا بقايا يتعكز عليها ليمرر الأيام، طوال الليل يؤنب نفسه ويجلد ذاته على ما قاله ودفعه أخيه للرحيل بعيدًا. لا يعرف كيف نطق بكلماته، هل سيتحمل إن رحل طاهر مثلها وتركه؟ ضغط رأسه بكفيه وهو يقف في الصالة عاجزًا يخشى الافتراض ويهاب الظنون الملتفة حول عقله كالحيات.
سأله يونس حين رأى وقفته ونظراته العاجزة «مالك يا رؤوف؟»
اندفع يسأله بلهفة «فين طاهر يا يونس مشي؟ ولا راح فين؟»
قطب يونس مستنكرًا قوله يردد «مشي فين؟»
بعصبية مفرطة سأله «راح فين؟»
أجابه يونس بشفقة وهو يربت على كتفه برفق«النهاردة الجمعة طلع من بدري زي عادته»
سأله بلهفة «تعرف مكانه؟»
مط يونس شفتيه بتفكير «أيوة تقريبا كان قالي هيروح المكان الي اتقابل فيه هو وغزل»
زادت لهفته كأنه سيذهب ويراها «طيب هلبس بسرعة وخلينا نروحله»
زادت دهشة يونس وتعجب مما بين يحدث بين أخويه، فطاهر أمس ظل مستيقًظا طوال الليل، كلما لاحقه بالأسئلة تهرّب منه وانعزل صامتًا بوجوم وها هو رؤوف الآن غريب الأطوار مما يثير القلق والشك.
****
وضع رؤوف كفه فوق كتف طاهر الجالس وحده فانتفض ملتفتًا لما خلف ظهره، شعّت ابتسامته حين رأى أخيه أمامه ينظر إليه باعتذار
نهض فورًا وعانقه متقبلًا، ممتنًا لمجيئه هنا، رافضًا نظرة الاعتذار بعينيه فهو المخطيء على كل حال، المتسرع في حكمه، لم يعبأ بوجعه ولا حبه ولا هزائمه المتتالية مستهينًا بها ومتناسيًا لها، فإن كان هو يحبها مرة فرؤوف يحبها ألفًا.
جلس ثلاثتهم حول الطاولة الصغيرة، مال يونس مستندًا بمرفقيه على الطاولة يفرك ذقنه بأنامله قائلًا «مش مرتاحلكم والله، هببتوا إيه من ورايا»
تأمل رؤوف المكان حوله مُبديًا إعجابه «المكان حلو يا طاهر»
تنهد طاهر مبتلعًا كلماته يهز رأسه بالموافقة، لا يريد إن يذكرها أمامه سيبقيها سرًا في صدره بعد ما حدث، سرًا له وحده يتذكره ولا ينساه.
مال يونس على حافة الكرسي قائلًا «بتغلوشوا ماشي فطروني على حسابكم يلا»
وبخه طاهر «أنت علطول تشحت»
هتف يونس بضجر «ما أنتم مجرجريني من الفجر والآخر هفطر فول»
صمت رؤوف مستمعًا لمشاكستهم بحب داعيًا الله ألا يحرمه منهما ويقبضه قبلهما ولا يرى فيهما سوءًا يبكيه.
صفق يونس بكفيه مستدعيًا النادل الذي جاء فورًا مرحبًا بطاهر، أملى عليه يونس ما يريدونه وغادر الرجل ببسمة بشوش ليعود فورًا من جديد ضاربًا جبهته بكفه علامة النسيان «الآنسة غزل بتسلم عليك يا أستاذ طاهر وسيبالك ورقة»
انتفض ثلاثتهم واقفين يسألونه في نفس واحد «فين»
ازدرد الرجل ريقه قلقًا من تأهبهم الواضح ونظراتهم التي صوّبت لوجهه كالبنادق، نطق بذعر «جوه»
غادر الرجل للداخل وجاء بالورقة المطوية ووردة صفراء قائلًا «اهي»
التقطها طاهر أولًا يقرأها وهو يستفسر«جات متى طيب وأنا موجود من بدري هنا»
أجابه الرجل وهو يرفع عينيه للأعلى مفكرًا «يجي من ساعتين كدا لما أنت قومت تتمشى»
ابتسم طاهر بشجن وهو يمنح لرؤوف الورقة قارئًا لها بنظراته «ياللي عيونك شمعة وضحكة وبحر في نسمة صيف
آه .. أنت رسيت وأنا وسط الشوق حيرانة من غير مجاديف»
رغم غيرته الشديدة إلا أنه منهدم بفاس الشوق مشتعلًا بجمراته ينظر للمارة بأمل ويفتش وجوجههم بأمل.
جلس ثلاثتهم مفكرين بصمت، طاهر يقلّب الوردة بين كفيه مشتهيًا رؤيتها يسأل أوراقها عن همساتها التي أخفتها فيها سرًا كما تفعل دومًا، ورؤوف يقبض بين جنباته على شوقٍ كالجمر يكويه كيًا ويعذبه.
أما يونس فاكتفى بمراقبتهما وهو يدس أوراق الجرجير بفمه لاعنًا.
****
تحاول مراسلته منذ يومين لكنه لا يجيب كعادته وأحيانًا يتجاهل رسائلها، بكت بحرقة متوسلة إياه أن يُجيبها،أن ينتشلها من وساوسها المخيفة وبئر الحرمان المحفور في قلبها، لن تتحمل خسارته، كثير على قلبها أن تفقد الأصل والشبيه.
رمت الهاتف جوارها وتسطحت فوق التخت تئن..
بعد قليل انتفضت على صوت رسائله، أمسكت بالهاتف في لهفة كبيرة تجيبه مُعلنة له إفتقادها له وشوقها الكبير
«أنتِ اتطلقتي من رؤوف الحفناوي»
هزت رأسها من شدة فرحتها بسؤاله الذي أخطأت تأويله وهي تكتب إجابتها له بسرعة «أيوة»
«مقولتيش ليه؟»
«مش عارفة مجاتش فرصة»
«وحياة أمك»
حملقت في كلماته متعجبة ومذهولة، يساورها الشك من ناحية أسئلته.
«في إيه؟»
«في إنك كان لازم تقوليلي»
«ليه؟ هو دا مش المفروض بنتمناه وعايزينه أنا بقيت حرة»
«مين قال؟بالعكس دا أنتِ حلاوتك كانت فإنك مراته»
«مش فاهمة »
«أنا مكانش يهمني فيكي غير إنك مرات رؤوف»
«بتقول إيه؟»
«بيني وبين رؤوف حاجات قديمة كنت بصفيها بس أنتِ يا غبية خربتي كل حاجة»
«لا متقولش كدا لا؟ أنت كنت عايزني أفضل معاك وأنا على ذمته»
«مش عايز أعرفك تاني إنتِ أصلا مقرفة وغبية ولا تطاقي، أنا استحملت دا كله علشان جوزك بس برضو معرفتش وعشان كدا أنا هفضحك يا آيات»
«لا حرام عليك دا أنا حبيتك»
«إياكِ ترني تاني ولا تفكري تجيبي سيرتي غوري»
حملقت في الهاتف بذهول وهي ترى غلقه حسابه وطردها في قائمة الحظر، وضعت كفها على فمها تتنفس بسرعة مهلكة قبل أن ترمي الهاتف وتضرب خديها ووجهها وفخذيها بعنف، تجاهد لتكتم صرخاتها وتحبسها بين الجدران حتى لا يكتشف أحد أمرها وتُهاجم بالأسئلة والافتراضات.
****
خرجت من المطبخ مناديةً على صغيرها «عبدالله فينك؟»
غادرت حلقها شهقة فزع حين رأت الباب مفتوحًا في هذا الوقت من الليل، بسرعة تسترت بخمارها الطويل وأغلقته جيدًا ثم غادرت لحجرتها مناديةً على صغيرها الذي لا تعرف أين اختبأ؟
فتحت حجرة نومها ودخلتها باحثة عنه «مش جولتلك متستخباش يا عبد الله»
انتفضت على صوت باب الحجرة يصفع خلفها بقوة ، تسمرت مكانها مرتجفة تضم جسدها بذراعيها قائلة بنبرة تنافس ارتجافة جسدها وخواطرها اللحظة «ع.. لاء»

