رواية عزف السواقي الفصل الرابع والاربعون 44 بقلم عائشة حسين
♡الرابع والأربعون ♡
وقفت وحيدة شاردة بأفكار فوضاوية، تتأمل المارة بضياع وتنظر للطريق بتوهة، بحركة تلقائية ضمت مقدمة بلوزتها بأناملها خوفًا وذعرًا من فكرة بقاؤها في الشارع وحدها، متحيرة أي الطرق تسلك وأي وجهة تختار، بمن تستنجد؟ ومن مَن تطلب العون؟ أين ستقيم! بل إلى أين ستذهب؟
بكت لإدركها وحدتها وعجزها وضياعها، انهزمت بالخوف، فسارت في الشوارع دون وجهة أو هدف، تطرد دموعها كلما تشوشت رؤيتها مواصلة السعي نحو المجهول، تتنقل من شارع لآخر دون أن تعرف عن ماذا تبحث؟ أظلمت السماء وسكن الكون فدارت حول نفسها متفقدة الشوارع شبه الخالية، تنفست بهلع كبير مدركة أن الوقت مرّ وليس لديها مكان تسكنه أو تستريح فيه حتى ترتب أمورها، خسرت كل شيء حتى مقدرتها اللحظة على الركض والهرب من هذا الشارع الخالي والرهبة في القلب تصور لها نهايتها المفزعة.
زادت ارتجافة جسدها مع تسرّب الأمان من نفسها، بدت كورقة جافة في مهب الريح.. تتنفس بسرعة مهلكة لا تمنح ذهنها الصفاء اللازم للتفكير في حل، اقترب منها رجل كبير يسألها بقلق «عايزة حاجة يا بنتي»
دققت فيه النظر برعب يتمخض خيالها هواجسه المميته الواضحة في اتساع عينيها وانكماش جسدها، مدّ الرجل كفه ليربت على ذراعها فانتفضت متراجعة خطوة وهي تحتضن جسدها بذراعيها في حماية «لا لا مش عايزة»
قالتها واستدارت راكضة وعقلها يضع أمامها الحل الفوري لمعضلتها
بعدما أدركت قربها من المكان الذي تحفظه وقد منحها عقلها دفقة من وعي مُنقذة رأفةً بها.
جاءت طرقاتها على باب الدار مستغيثة، فتح لها الحارس السبعيني مدققًا في ملامحها بعينيه الضيقة حتى عرف هويتها وتذكر ملامحها، ركضت للداخل محتمية بأسواره لا يهمها إن باتت في الحديقة قدر ما يهمها أن تكون آمنة بين جدران تعرفها وكان بينهم سابق ودّ وجرح قديم، جلست على ركبتيها باكية فرحل الرجل وعاد لها بإحدى المشرفات التي تعرفت عليها فورًا «بشمهندسة غزل»
رفعت عينيها المحتقنة المنتفخة تعي ما يدور حولها فابتسمت المشرفة مطمئنة لها وتمد كفها لمعاونتها على النهوض، استندت غزل على كفها ونهضت معها للداخل، ادخلتها المشرفة مرحبة بوجودها بينهم، مراعية حالتها النفسية الواضحة من هيأتها المزرية التي تثير الفضول، أجلستها في حجرة مكتبها مانحة إياها زجاجة عصير وأخرى للمياه تلقفتها غزل فورًا وتجرعتها بعطش شديد أسفت له المشرفة، أنهت الزجاجة لاهثة تمسح ما تساقط من فمها وبعدها تركت الزجاجة معتذرة بتلعثم وحرج «آسفة من الصبح مشربتش»
ربتت ابتسامة المشرفة على حرجها فتوارى، شبّكت غزل كفيها أمام نظراتها المنخفضة وصمتت طويلًا تفكر بمقل تتحرك يمينًا ويسارًا راكضة خلف حجة يُحيكها العقل؛ ليلبسها المنطق فتبدو للتلك الجالسة صحيحة وسليمة.
رفعت نظراتها هامسةً برجاء «ممكن أفضل هنا كام يوم بس لغاية ما أدبر أموري؟»
صمتت المشرفة بتفكير قبل أن ترحب بها في ضيافتهم «طبعًا يا بشمهندسة أنتِ عارفة معزتك»
تذكرت المشرفة معاملة رؤوف لها واهتمامه بها وحرصة أن تُعامل أفضل ما يكون بعد صنيعها مع الأطفال لذلك لم تفكر كثيرًا في الأمر فمنذ زمن منحها رؤوف وسام الاستحقاق والقبول.
حمدت الله في سرها وهي تمسح أخر قطرات الهوان والحيرة من عينيها، فهنا يمكنها المكوث آمنة بعيدًا عن العالم في حضن صغارها.
سألتها المشرفة «تحبي تفضلي فأوضة لوحدك ولا مع الولاد»
بتلقائية وسرعة أجابت «عايزة أكون مع غزل الصغيرة»
ابتسمت المشرفة بتفهّم ثم قادتها للمكان بصمت، تبعتها مفكرة في أمر ملابسها وماذا ستفعل؟ لكنها أرجأت الأمر حتى تأخذ قسطًا من الراحة.
داخل الحجرة استراحت فوق فراش منزوي، تركتها المشرفة قليلًا وعادت لها بملابس نظيفة جديدة ومنشفة وأدوات شخصية قائلة «دي حاجات موجودة هنا جاهزة للضرورة»
تناولتهم شاكرة وهي تتنفس برضا وراحة، فحيّتها المشرفة بهزة رأس وتابعت «شوية وحد هيجبلك العشا»
رفضت قائلة بحياء «مالوش لزمة أنا هنام»
أصرّت المشرفة «أكل خفيف متقلقيش، علشان تعرفي ترتاحي وهجبلك معاه مسكن »
شكرتها غزل ممتنة للطفها وتفهّمها «متشكرة أووي»
ابتسمت المشرفة بدبلوماسية ثم انسحبت تاركة تلك المسكينة في معاناتها الخاصة، وصراعاتها التي لا تنتهي.
****
«قنا»
قلّب الصور في هاتفه بنظرات متلاحقة راكضة تبحث عنها بين ركام الأحداث، يتأفف ثم يلقيه جواره متذكرًا أنه لم يلتقط لها صورة واحدة، لم يحتفظ بجزء منها يمكنه العودة إليه، ظنًا منه أنه ليس بحاجة لصورة والأصل أمامه؟ لم يظن لحظة أنها ستغادر وتصبح بعيده يبحث لها عن آثار ويفتش لها عن رائحة، أن يختزنها في صورة يتطلّع إليها كلما غلبه شوقه، متعزيًا بها عن لقياها، تُرى أين ذهبت؟ هل عادت لوالدها؟
أغلق خزانة النفس على نداء زين له «ازيك يا صاحبي»
ابتسم مُرحبًا بمجيئه «ازيك يا أبو عمار»
جلس زين جواره متربعًا فوق العشب الندي يسأله «أخبارك إيه؟»
أجاب بشجن وابتسامة خفيفة محى بها آخر آثار الشجن «بخير الحمدلله»
عاتبه زين بلطف وهو يطالعه بتلك النظرة المشفقة «مبقتش عارفلك مكان يا صاحبي ولا بتكلمني ولا بترد حتى على مكالماتي»
اعتذر منه بأدب ورصانة وهو يربت على كتفه بشبه أسف «معلش أنا بس مشغول شوية»
تنهد زين بإستسلام ونظراته تتجول فوق ملامح الآخر المتعبة الحزينة «عملت إيه؟»
أجابها ببساطة وهو ينفض كفيه المعروقتين من بقايا العشب الملتصقة «ولا حاجة»
صاح فيه بنفاذ صبر «أنت غاوي عذاب وحرقة قلب؟ هي مش بتحبك وأنت بتحبها مروحتش جبتها من شعرها ليه»
ابتسم خفيفًا لقوله وهو يعارضه بهدوء بارد جالب للغيظ «مبجتش فاهم ولا عارف حاجة»
لم يتمالك زين نفسه، طفح غيظه فصاح «عشت مع واحدة سبع سنين مفيش عندك ذرة مشاعر لها ومستكتر على نفسك تجيب الي بتحبها دي غصب وتعيّشها معاك »
عارضه من بين أسنانه «أنت مبتفهمش بجولك راحت ترفع خلع»
«خلع»
نطقها زين بإستنكار ساخر وهو يضرب كفًا بكف في ضجر ثم أردف «دا كدا سبب وجيه إنك تجيبها من شعرها حضرتك وتمم جوازك منها وتوريك هتعمل إيه فخلعها»
ضحك رؤوف يلعن شياطين صاحبه، الذي ضحك بدوره هازئًا «رجالة أخر زمن والله، مش أنت بتحبها وعايزها دا فحد ذاته مبرر يخليك تجيبها وهي براحتها حبتك خير وبركة محبتكش مالناش فيه»
قالها باقتناع تام ورضا وقناعة جعلت رؤوف يضربه دافعًا له بغلظة «يا أخي أبو أفكارك ومبادئك الزفت»
قهقه زين قائلا «خليك كدا، مش عارف صاحبتك ليه أصلا»
شرد رؤوف وهو يهرش ذقنه النامية فقال زين باحثًا بنظراته في المكان «فين قاسم عايز أخده معايا»
انتبه له رؤوف مستفسرًا بعصبية «تاخده ليه وفين؟»
أجابه زين «العيال بيسألوا عليه عايزينه ابنك محبوب ماشاء الله »
تهكم رؤوف من حاله «يبقى فلح أحسن من أبوه»
هتف زين حانقًا من قوله ومعناه يستهزئ به«أبوه الي مخيب نفسه والله الستات دي لو كانت بتترن العلقة التمام مكانتش عملت كدا»
سايره رؤوف في قوله مهادنًا «المرة الجاية حاضر لو فيها جاية»
هتف زين بنظرة لامعة ومرح «تعالى أجوزك على ذوقي أنت خلاص مينفعش تختار تاني سيبني أنا اختار»
أعلن موافقته الفورية مهادنًا جنونه «موافق اتوكل على الله»
هز زين رأسه بإستحسان قبل أن يقترح بحماس وهو يكتم ضحكته «شايف إنك محتاج رقاصة من شارع الهرم بورقتين عرفي علشان قضية الخلع»
لم يكتم ضحكاته أكثر انفجر مقهقهًا فدفعه رؤوف لاعنًا «غور من وشي»
تحدث زين من بين ضحكاته العالية «صدقني دا الحل الوحيد أنت ملكش جواز رسمي بتتحسد خليك فالمضروب المتداري»
نهض رؤوف وتركه مكانه فتبعه زين قائلًا «مش هتديني الواد»
تجوّل رؤوف في أرضه عاقفًا كفيه خلف ظهره «لاه خليه معاي يا زين دلوك»
توقف زين عن المزاح وربت فوق كتفه مواسيًا بلطف «ماشي براحتك»
ثم قال بجدية منحّيًا هزاره «خلينا فالجد بقا روح جيبها متسيبهاش يا رؤوف وأنا هكون معاك»
تنفس بعمق قائلًا «يا مسهل»
زفر زين بيأس من قوله الذي يعرف به معنى إجابته جيدًا.
انتبه لرؤوف بتحفز قائلا «المهم بس عايزين نظبط موضوع زينب ده؟»
قال زين باهتمام «رسيني بس عالحوار، والي فداغك ونشوف»
ابتسم رؤوف ونظراته تلمع ببريق المكر والاستمتاع.
*******
دخل خلف الصغير واجمًا ثقيل الخطى مكدّر النفس، وضع فأسه بأحد الزوايا قائلًا بترحاب بارد ثقيل «كيفك يا ناظر، ازيك يا أم يونس وكيفها صحتك؟»
اندفعت لمعانقته فتركها تضمه وتقبله وهو جامدٌ كصنم منحوت، ابتعدت مقشعرة الجسد من برودة مشاعره تجاهها تتأمله بنظرة عاتبة، ابتسم برسمية شديدة وابتعد عنها، فعادت لجوار الناظر خائبة، خالية القلب من عاطفته التي امتنع عن منحها إياها وسكبها في قلبها كما تعودت، نادت «قاسم تعالى يا قاسم»
تقدم الصغير خطوة مرتبكة شاعرًا بالتوتر السائد بينهم، قبض رؤوف على كتفه مانعًا إياه من التقدم فما عاد يرى عاطفتهم ومودتهم إلا زيفًا وخداعًا،لن يتحمل في قاسم ما تحمله في نفسه وغزل، أشار للصغير «روح العب يا قاسم»
أومأ الصغير بصمت ورحل ثقيل الخطوات يلتفت خلفه بقلق،خيرهما رؤوف برسمية شديدة«اعملكم شاي ولا ينسون؟»
تعلقت نظرات نجاة به كالغريقة، تتبعه أينما ذهب فقال عدنان بصرامة «تعالى جارنا عايزينك»
تهرّب منهما وهو يحاول أن يكون ثابت رصين لا يسرّب وجعه لملامحه ولا تفشي نظراته الحزن الكامن في أعماقه«هعملكم شاي»
زفر عدنان بإحباط وصمتت نجاة بحسرة مكتومة،، سمع صوتًا يناديه من الخارج فزف بخلاص وتنهد بارتياح ثم استأذنهما ليُجيب، خرج فبكت نجاة قائلة «شايف بيعاملنا كيف ولدك زي الغُرب وأكتر»
هز عدنان رأسه أسفًا، تخلت تماضر عن صمتها هاتفةً بسخرية ضاق بها صدرها «وليكي عين تشكي وتبكي يا بت؟ جايلك جلب تعملي العملة وتاجي تطلبي ودّه وزعلانة؟»
برأت نفسها من دنس الذنب وتملصت من حسابها وعتابها بانكسار«عملت إيه أنا يا خيتي؟»
هتفت تماضر متخلّية عن حذرها، مُخرجة غضبها كله في وجهيهما «وكنتي عايزة تعملي إيه يا حزينة تاني بعد ما هان عليكي ضناكي»
هتف عدنان بحدة «مالوش عازة الكلام دِه دلوك»
ضربت تماضر بعصاها تحفزًا كشارة لرفض قوله وتابعت نهشهما بأنياب غضبها دون رحمة «وأنت يا ناظر يا متعلم يا حقاني فين حق ولدك؟ »
هتف مدافعًا عن نفسه «حق إيه يا أبوي؟»
أوضحت تماضر بشراسة «أيوة ليه حق عليك وكتير، تسنده، تنصره، تفهّمه، ترضيه زي ما بيرضيكم ولا تعرف حقك بس يا ناظر؟»
زفر بضيق ملتزمًا الصمت أدبًا فصاحت معرّية نفسه «فاكر لما يجيك أخوك في الحلم معناها رجّع بته ولاعايزك تجف جارها وتضحي باليتيمة وتكسر خاطرها هي ولدك؟»
بهتت ملامحه وتجهّم وجهه مستمعًا لكلماتها الحقيقية فتابعت بسخرية «لاه يا ناظر لاه حامد الله يرحمه كان بتاع ربنا الحقاني الي فدار الحق ميجيش فباطل، الباطل ده بتاعك يا ناظر»
هتف عدنان غاضبًا من قولها الذي أصاب سهمه الحقيقة «أنا مش باطل يا تماضر»
صاحت فيه «خايف على ولدك من مين وأنتو بعمايلكم وجحدانكم تخوّفوا بلد، لو كنت وجفتوا معاه وساندتوه كان جوي بيكم، أنا ولدي دعياله معاه ربنا هيجويه _ميتخافش عليه واصل _كان هيجيب حقه وحق عمه ومرته بس كسرتوا ضهره ودرتوا راسه»
صاح عدنان بفظاظة مستهينًا بقولها «مش ولدك وكانت غلطة لما جه عاش هنا ودروشتوه، أبوي كان معاه حق»
أمسكت نجاة بكفه راجيه بنظراتها ألا يكمل..بينما دخل رؤوف مهرولًا يهتف «مش كفاية ولا إيه؟ عيزين تصعّبواعليا العيشة زي بركم؟»
نهضت نجاة محاولة تهدأتهم جميعًا «خلاص هنمشي يلا ناظر»
طرقت تماضر الأرض بعصاها قائلة بتحدي «ولدي غصب عنك مش بالجول هي، أبو أبوك يا ناجص، أبوك الي غصب ولدي على جوازه عفشة عشان ميطلعش عن طوعه، امشي ومتجيش هنا أنت ومرتك»
انكبّ رؤوف على رأس تماضر مقبلًا بتقدير معتذرًا بالنيابة عنهما مستقبلًا شظايا نظرات والده في جسده، وهو يهتف «أنا مش عايز حد يا أبو يونس لو جاي عشاني، وبالله عليك كله إلا خالتي»
عادت نجاة لأختها تضمها معتذرة لها بعدما سبقها عدنان في الخروج، فدفعتها تماضر عنها بغضب «ورا جوزك يا بت يلا» رحلت مهرولة تاركة ابنها يبكي كالصغار في حجر خالته بعدما نال منه الوجع.
******
ابتسم بحنين وهو يضمها لصدره متذكرًا صغيره متنسمًا فيها ريح عبدالله.
انقطاع اتصال النت من عندها يعني أن مالها نفذ ولن تفعلها وتصوم عن الحديث معه إلا مُجبرة عاجزة مثله وهو أيضًا لا يملك رصيدًا كافيًا للاتصال بها دوليًا فالأمر يحتاج للمال وهو لن يطلب، يكفي صنيع زوج أخته معه ومعروفه، لن يُثقل عليه بأكثر، ولن يطلب من مال أخته الخاص مستغلًا أنّ لها ذمة مالية منفصلة.. رفع هاتفه لنظراته عدّة مرات وهو مستلقي جوار ابنة أخته أمام التلفاز، دخلت أخته للمنزل بسرعة تعلّق حقيبتها جانبًا وتخلع حذائها واضعة له بالجوار في دولاب خاص بالأحذية.
سألته وهي تخلع سترتها الرسمية وتلحقها بحقيبتها«ها عملتوا إيه طول اليوم؟»
نهض مؤمن مستقبلًا لها بابتسامته البشوشة الراضية «ولا حاجة»
شهقت متلفتة له تعاتبه حين دخلت المطبخ ورأت صنيعه به «مؤمن عملت إيه؟»
أجابها ببساطة وهو يقترب منها «ولا حاجة رتبت المطبخ وغلست الأطباق وجهزتلك غداء بسيط»
اقتربت منه بنظرة ممتنة، ضمته معاتبة له «يا حبيبي أنت لسه تعبان تعبت نفسك ليه؟»
أجابها بابتسامة رائقة وهو يبادلها عناقها بمحبة «مفيش تعب والدكتور طلب مني اتحرك وأهو بتسلى»
تحركت مبتعدة عنه ترتدي مريلة المطبخ وهي تحذره «متكررهاش تاني»
ضحك ضحكة قصيرة قائًلا«موعدكيش»
نفخت بملل وهي تسأله «ريم نامت؟»
تفحّص الصغيرة بعينيه من بعيد ثم التفت مؤكدًا «أيوة»
هتف وهو يتابع سرعتها في التحرك وسعيها الدؤوب «اقعدي اتغدي الأول وبعدين اشتغلي»
واصلت العمل بحماس من حوله وهي تردف بنظرة لامعة «جايلنا ضيفة النهاردة»
قطب باستفسار غير منطوق غير متحيزًا لفضوله، فقالت بنبرة متلكئة «واحدة صاحبتي هتتعشى معانا»
أومأ بفهم قبل أن يعود لركنه جوار الصغيرة متفقدًا هاتفه وكله أمل.
*******
في المساء تعلل بالنوم، انعزل وحده مع ذكرياته في الحجرة يستبدل شوقه وحاجته للونس بالقراءة، دائمًا ما كانت الكتب أنيسًا وجليسًا لا يمل صحبته، شغوفًا هو بالقراءة ومحبًا للقصص الرومانسية الناعمة لا يمل قراءتها ويحب مشاركة حكاياها زوجته، ابتسم لهذا الخاطر متذكرًا شغفها بالقراءة معه وهي داخل أحضانه وتغييرها النهاية على ميزاجها وكما ترتضي إن لم تلقى النهاية استحسانها..
تنهد وهو يقلّب صفحات الرواية مبتسمًا للذكريات فكل ما كان يفعله طوال فترة مرضه هو صُنع لحظات جميلة بينهما تعوضهما معاناتهم مع الناس والحياة.
رفع نظراته من على الرواية مُعلقًا لها بالباب الذي طُرق للتو، أذن لأخته بالدخول ففعلت وهي تبتسم بلطف «مش هتيجي تتعشى معانا يا مؤمن؟»
أجابها بابتسامة جذابة ونظرة راضية «لا خدوا راحتكم أنا هقرأ شوية وأنام»
سحبت الرواية من بين أنامله دون أن تهتم بقراءة العنوان ووضعتها جانبًا قائلة بإصرار وهي تحانقه من الخلف «لا تعالى حسناء لذيذة ولما قولتلها إنك هنا حابة تتعرف عليك»
صمت قليلًا بتفكير قبل أن يتعلل «معلش أنتِ عارفة ماليش في الجو دا»
استنكرت وهي تميل برأسها ناحية وجهه بمرح «يا ابني هو احنا هنسكر؟ وبعدين الي أعرفه إنك بتحب الناس والكلام جرالك إيه؟»
ربت على كفيها المتعانقان على صدره قائلًا «كنت دلوقت مبحبش»
ابتعدت قليلًا وأمسكت بكفه جاذبة له بإصرار «قوم اسهر معانا بكرة إجازة ونام براحتك دا غير حسناء بتحب الكتب زيك ومغرمة بالروايات هتنبسط بالنقاش معاها»
أحاط كتفيها بذراعه وسار جوارها يهتف بابتسامة تخطف القلب «ماشي علشان خاطرك بس»
لثمت خده وهي تربت على صدره بكفها شاكرة بوداعة «حبيب قلبي»
استقبلته نظرات تلك الخجول منذ خروجه، تأملته بحياء شديد قبل أن تخفض نظراتها لطبقها منتظرة، لا يشبه صديقتها، مختلفًا بوسامة محببة وساحرة.. ابتسم مُرحبًا بالضيفة وهو يجلس مقابلها على الطاولة جوار ابن أخته، حيّته بهزة رأس وابتسامة وخدين متوردان قبل أن تعود بنظراتها لطبقها من جديد ، عرفتهما رحاب ثانيةً بصخب «مؤمن.. حسناء»
حياها من جديد باقتضاب وهو يبدأ في وضع القليل من الطعام في طبقه.
هتفت رحاب وهي تجلس جوار زوجها الحانق «حسناء مؤمن أخويا مدمن كتب وروايات زيك هيفيدك جدًا متهيألي مفيش كتاب مقرأهوش»
سألته الأخرى وهي ترفع نظراتها له بحياء «بجد»
هز رأسه قائلا بلطف «مش قوي»
سألته حسناء متخذة الحوار معه زريعة لتتأمله بحرية «إيه أخر حاجة قرأتها؟»
أجابها بابتسامة لطيفة ونبرة رصينة شديدة التهذيب «عهد دميانة لأسامة الشاذلي»
أشادت باختياره مبدية حماسها وتفاعلها معه «واوو سمعت عنها بس مقرأتهاش لسه»
راقب بلال الوضع بضيق وغيظ فهاهي زوجته تحاول من جهة أخرى لهدم زواجه والاستئثار به هنا جوارها، لم تستطع كلماته المحذرة النفاذ لعلقها الصلد المتحجر، بل زادها قوله إصرارًا.. خاصة أن لرويتها لأخيها أيقظت في قلبها الكثير من المشاعر الدافئة التي نسيتها مع مرور الأيام، يعرف مدى تعلقها به ومحبتها له ورغبتها في بقائه هنا تحت عينيها يعوضها حرمانها من الأهل ودفء العائلة.
اقترح مؤمن بأدب وهو لا يرفع نظراته لوجهها ولا يواجهها بتأمل دقيق لملامحها كما تفعل هي، بل ينظر لكل شيء عداها كأنها وبكل فتنتها الواضحة شيئًا عاديًا مألوفًا لا يجذب حواسه «ممكن لما أخلصها أديهالك»
اقترحت عليه بحماس «وممكن بعدها نتناقش فيها هكون سعيدة جدًا لو شاركتني دا»
رفع نظراته لها فجأة فابتسمت له مُرحبة بتعارف العينين ذاك، سعيدة بتلك المصافحة اللذيذة، عاد بنظراته لطبقه متذكرًا حبيبته السمراء الفاتنة منحوتة القوام،الرائعة في كل ما ترتدية والرقيقة الناعمة دون تكلّف أو تصنّع، الدافئة بسحر مغري، تنهد رغمًا متأثرًا بذكراها فانتبهت له الأعين بتساؤل جعله يبتسم بحياء ويتناول الطعام بسرعة هربًا منهم.
****
«قنا»
تعمد المجيء في وقت الظهيرة موعد قيولة جدته الأساسية وانعزالها بحجرتها، دخل من الباب الخلفي للمكان خافضًا نظراته حتى يشتبك القلب مع ذكرياتها في أركان المكان،يهرول هربًا وكأنها هنا تتبعه وتسحبه لشوقٍ لا يقدر عليه، يخاصم الأماكن التي تحمل بصماتها كذنب وشذى عطرها الفواح كإثم تستحق عليه النكران والتجاهل، هنا أشتعل قلبه عشقًا، وهنا منحته قلبها بسكينة..ركض لاهثًا متخطيًا أضغاث أفكاره حتى اصطدم بأخرى في طريقه، ابتعدت مرتبكة وابتعد هو ضائقًا، همست بتوترها المعتاد «ازيك يا أستاذ رؤوف؟»
تخطاها بسرعة محاولًا تخبئة نفوره منها رأفة بها، فهي ليس لها ذنبًا كما أنه أيضًا مثلها ليس له ذنب في نفوره منها ووضعها سببًا فيما حدث له «اهلا ازيك يا صفوة»
همست بأسف «الحمدلله»
لحقت به مهرولة تستنجده بسؤالها، تناشده الطمأنينة لقلبها «ملقتش غزل؟»
توقف عن التهام درجات السلّم قائلًا «لاه»
دعت له بصدق قبل أن تغادر المكان هربًا واحتماءً بالوحدة وجدران الحزن الرطبة بالدموع والآهات «ربنا يردهالك بخير»
لوى فمه ببسمة متهكمة قبل أن يواصل السعي المرتجف المتردد تجاه والدته المريضة ، وقف على الباب يعدّل من جلبابه فاصطاده الشجن ولعب بقلبه فرفع رأسه للأعلى متنهدًا بحسرة، ثم طرق الباب ثلاث طرقات متفاوتة يتخللها تردد واضح للسامع.
اعتدلت تهتف بلهفة ودموع «دي خبطة حامد»
اعتدل عدنان بترقب، ارتدى خفه واتجه ناحية الباب؛ ليفتح، وجده هو بسيرته الأولى من الحزن المعتق في النظرات والشجن الطافح على ملامحه، بوقاره ونور وجهه الذي يهز القلوب، أخفض رأسه قائلا بنبرة خشنة حيادية المشاعر لا تميل لكفة «ازيك يا ناظر»
طالعه عدنان بتدقيق رغم تهرّب نظرات رؤوف منه ثم سمح له «ادخل»
فتحت نجاة ذراعيها في دعوة حين ولج ذاكرًا الله «تعال يا حامد»
اقترب منها ببسمة مغصوبة على الظهور ممزقة بالرفض ومطعونة بالضيق، أمسك بكفها وقبّله بإحترام وتقدير متجاهلًا حضنها رافضًا له بأدب «سمعت إنك عيانة جوي ألف سلامة عليكي»
انسحب عدنان فور دخوله تاركًا لهما، فأدارت نجاة له رأسها ومسحت على خده بحنو وهي تتأمله بدموع هامسة «ازيك يا ولدي عامل إيه طمني عليك وعلى صحتك»
ابتعد تاركًا كفها يسقط جوارها وجلس قريبًا منها واضعًا بينهما مسافة وحرم آمن له من لمساتها التي ما عاد يتقبلها.
بكت بحرقة شديدة فتركها ذاكرًا الله لا يعرف بما يُجيب ولا ماذا يفعل بعدما قيّدته أفعالهما، زفر بخفوت وابتسم مهدئًا لها «وحدي الله يا أم يونس لو عارف شوفتي هتزعّلك مكنتش جيت»
مسحت دموعها بطرف حجابها معاتبة له ترجوه بإنكسار «متوجعش جلبي كده يا حامد»
حوقل بصبر وصمت فقالت بندم «حقك عليا يا ولدي أنا غلطانة» ببرود ومشاعر محبوسة مقيّدة، ببساطة المتخلي أجابها «بسيطة يا أم يونس المهم صحتك»
صاحت لائمة بضيق ونحيبها لا يتوقف «أنا أمك برضك وأنت أول فرحتي وعكازي في الدنيا»
حاول امتصاص غضبها ببروده وصبره؛ ليتفادى العتاب والتصادم «وحّدي الله أنتِ تعبانة انسي كل حاجة»
لكنها أصرّت بهزيمة وهي تراه هكذا بعيدًا جدًا جافيًا، قاسي القلب والملامح «أنت الي تاعبني»
استغفر بضيق وهو يشيح ضائقًا بقولها وضغطها عليه صابرًا يسأل الله اللطف وأن يحسن عاقبته في الأمر، حتى سألته فانفجر في وجهها كاسرًا قوقعة الصبر «غزل فين؟ راحت فين ومجبتهاش ليه معاك، محدش منكم بيرد علينا ولا معبرنا ولا بيفهمنا»
انتفض واقفًا يسألها بملامح ساخرة «مالك بيها غزل؟! ها.. أجولك غزل فين يا أم يونس، غزل مع مرتضى ومش هترجع »
صكت وجهها متفاجئة بقوله، تتأمل ملامحه المظلمة بحسرة باحثة في عينيه بخيبة عن بريقهما، متوجعة لأجل ما وصل إليه من حالة مزرية..
التقط أنفاسه وقال بلهاث «أنا جيتك بر متصعبيش البر عليّ، ومتخسرنيش دنيتي وآخرتي»
نهضت من الفراش محاولة ضمه فابتعد عنها قائلا بصوت متهدج «موجعتنيش من حد غيرك، جتلك وحكتلك ورتبناها وكل حاجة كانت تحت عينك، بالله كيف هونت عليكي؟ كيف بعد موال آيات استحليتي كسري تاني»
ضمته باكية تحاول تقبيل جبينه وكتفه لكنه انتفض ثائرًا بجسد مرتعش «أنا كبير بس ولدك،بيجيلي وجت عايز أتسند مسندش، نفسي فونس وهدوان بال وسرّ وأخلّف، حد يبجا جلبه عليّ لما أطلع يدور ولما أرجع ألاقيه مستنيني»
اعتذرت منه ببكاء معترفة بخطئها«معاك حق احنا غلطنا يا حبيبي»
مسح عينيه وقال بهزيمة «قاطعة فجلبي مشية غزل، وواجعني منكم قلة التقدير أنكم قلتوني ومعملتوليش خاطر ولا وجفتي معاي، مهمكيش أتعب دلوك ليه بتسألي عني؟ ليه معرفتيش إني فبعدها هموت وأنا حي يا أم يونس»
جلست منهكة متعبة تبكي دون توقف فجلس مثلها مُردفًا «متسألونيش عن حاجة ولا تطلبوا مني حاجة خلاص، أعيش أموت، أجعد هنا ولا عند خالتي، بعمل إيه مبعملش إيه، سبوني يا أم يونس فحالي جبتي واد للدنيا شقي ادعيله وبس» قالها برجاء وبؤس وبعدها نهض مترنحًا في سيره ضابطًا اعدادات قلبه على الحزن الدائم.
*****
قطع صوت هاتفها رنين ضحكاتها هي وحنين على ما تشاهدانه في شاشة التلفاز، أجابت فورًا بعدما أخفضت صوت التلفاز «ازيك يا هالة؟»
أجابتها الأخرى بكلمات ملتصقة سريعة تمحو العصبية حميميتها «عاملة إيه طمنيني، صُح سقطتي يا بت؟ كدا متجوليليش ولا تبعتيلي؟ عملتي لوحدك إيه يا حزينة؟»
ابتسمت هدى بلطف بعدما سمعت كلماتها وأجابتها «الحمدلله بخير أستاذ رؤوف ومرته كانوا معايا مقصروش وعمته جات جعدت معاي برضك»
«أستاذ رؤوف» قالتها هالة ممطوطة ذات مغزى وبسخرية، فتنهدت هدى وصحتت لها بصبر «أيوة هو وجولتلك قبل كده الراجل دِه مالوش دعوة بحاجة ولا يعرف حاجة هو زيه زيكم»
هتفت بهدوء مُغيظ بارد ثقيل على نفس هدى «ماشي ربنا يهنيكم ببعض يا أختي»
حذرتها هدى من التمادي أكثر «هالة»
فتوقفت هالة مستغفرة، تنتقل بالحديث «كيف أسمع من بره يا ملكومة ليه مشيعتليش حد»
اعتذرت منها بلطف«اتلخمت والله والناس مقصروش»
«بتعزيهم أنتي الجماعة دول» قالتها هالة بغيظ دفين وكراهية مخبأة.
أوضحت هدى بصبر «مشوفتش منهم غير كل خير والله حتى أختي ما تستاهلهم»
مصمصت هالة بغير رضا فأردفت هدى «ما تعقلي يا بت هو كره وخلاص، هو كان الراجل ذنبه إيه ولا بيده إيه؟ مش هجولك عنه البلد كلها عرفاه وعارفة سيرته»
تنهيدة استسلام ورضوخ أفلتتها هالة قبل أن تلوم بسخط وتصب غضبها فوق رأس الملعونة «هجول إيه الله يجازي من كان السبب، المهم بجيتي زينة كده وكويسة؟»
أجابتها بنبرة ممتنة «الحمدلله والله بس سيبي حنين تبيت معاي وتونسني يا هالة ربنا يخليكي»
صمتت هالة مترددة في الموافقة، فتابعت هدى محاولة إقناعها «أنا جاعدة لوحدي وبابي مجفول عليا سبيها معاي»
أوضحت الأخرى بنبرة متردد «هشوف أبوها وأجولك بس أنتِ عرفاه»
ابتسمت هدى بتفهم قائلة «ماشي»
أنهت الاتصال وأعادت الهاتف لمكانه فسألتها حنين بلهفة «أمي جالتلك إيه؟»
أجابتها هدى ببسمة رائقة مزدانة بالاستبشار «هتشوف أبوكي»
هتفت حنين بسرعة «أبوي مش هيقول لاه بيعزك أنتِ ومؤمن»
على ذكر الغائب الحاضر تنهدت بإشتياق شديد له.
سحبت خمارها وارتدته حين سمعت دقات الباب الرزينة الهادئة، نهضت بحاجبين منعقدين في صرامة متوعدة هذا الغبي لو كان هو، لكن ما إن سمعت النحنحة الرصينة التي أعقبتها عبارة الترحيب بذات النبرة المتواضعة«ازيك يا أم عبدالله» حتى بشت برضا وابتسمت بفرحة وترحاب شديد«الحمدلله، إزيك يا أستاذ»
«الحمدلله» قالها بصوته الرخيم الهاديء فسارعت بالقول«يزيد حمدك يا أستاذ»
سألها بلهفة لم تُنقص من رصانته بل زادت صوته عمقًا «فين أمال عبدالله؟»
أجابته بخيبة عانقت نبرتها «نايم»
ابتسم بخشونة قائلا «هبقى أرجعله مرة تانية المهم صحتك بخير؟ محتاجة دكتور أو علاج؟»
أجابت ممتنة للطفه وذوقه رغم معاناته الواضح آثار أناملها على جسده وملامحه «الحمدلله بخير والست أم طاهر مقصرتش كتر خيركم»
سألها من جديد بنبرة خاضعة متلهفة لاستجابة أي طلب منها «محتاجة حاجة طيب، تؤمري يا أم عبدالله»
أدمعت عيناها تأثرًا بحالته وهي تجيبه «كتر خيرك كل حاجة موجودة»
مدّ ذراعه بحقيبة صغيرة منحها لها قائلا «حطيها لعبدالله في التلاجة لما يصحى وسلميلي عليه» تناولتها بحذر شاكرة له فسألها باهتمام «مؤمن بيكلمكم؟ كويس كده وعمل العملية؟»
أجابت برضا لا يخلو من عرفان تحمله له مع كل نبرة تسلمها له«عملها وبخير الحمدلله»
طلب بلهفة «ابقي اكتبيلي رقمه فورقة لما أجي تاني، أحب إني اطمن عليه وعلى أحواله»
شكرته بلطف شديد «شكرًا كتر خيرك، حاضر»
استأذن منها الرحيل فما كاد يخطو حتى تحررت من خوفها وفكت لجام لسانها سائلة «يا أستاذ»
عاد ما قطعه ملبيًا «أأمري يا أم عبدالله»
اختصرت أسئلتها الكثيرة وعتابها لهما على الفراق «فين غزل؟»
تنهد تنهيدة مزقت صدره وشرد قليلًا تائهًا ثم أجابها «راحت لحالها»
عاتبته بدموع حارة «ليه بس؟»
ابتسم قائلًا بوحشة في صدره وضيق «النصيب دعواتك لها»
مسحت الدموع عن أهدابها موقّرة ومحترمة له في نفسها.
«النصيب»
جاءت ساخرة بغيضة من فمها وهي تقف عاقدة ساعديها أمام صدرها متحدّية تصدر بفمها صوتًا أسِفًا تملؤه السخرية كما الحقد «سابتك يا متر؟ لا متجولش! بعد الحب دِه كله مشت؟ زعلتني والله»
أظلمت عيناه بنظرة سوداء وهو يشيح أكثر في نفور بكفين يتقبضان بعصبية جواره وعروق بازرة تكشف عظيم غضبه المحبوس نهرتها هدى بإنفعال حقيقي تنهش حقدها بأظافر قولها «آيات احترمي نفسك واتكلمي بأدب»
زجرتها بنظراتها الحاقدة قائلة «كيف هو الأدب، دا أنا بحمد ربنا إني جيت وسمعت ويا فرحتي والله»
ثم وجّهت كلماتها القاسية كنصل بارد اخترق الصدر «مشت اهي و متحملتش عشان تصدق، والله شمتانة فيك تستاهل عشان قليل أصل»
منحها نظرة متقدة كالجمرة متحفزة للانقضاض عليها وسحق لسانها فانكمشت بذعر وخوف واضح سرعان من نفضته وتماسكت متحدية، تدخلت هدى معتذرة له «حقك عليا يا أستاذ»
أسبل جفنيه بصمت قبل أن يتحرك مغادرًا المكان، بينما صاحت هدى فيها «أنتِ إيه جابك يا شيخة وعايزة إيه منك لله»
قالتها وهي تدفعها بقبضتها من كتفها مما جلب استنكار آيات وسخطها فصاحت فيها «جيت أشوفك وأطمن عليكي واهو ربنا نصفني وشوفت حقي»
دفعتها مرة أخرى بقوة وهي تقترب منها «مصدقة نفسك أنتِ إنك مظلومة وفاكرة اتنصفتي؟ لاه يا آيات دا لازم تخافي وتخافي جوي من الي جايلك ربك يمهل ولا يهمل»
رمقتها آيات بنظرة باردة مستهجنة وهي تقول ساخرة من تقديرها الأمور وتحذيرها «والله؟ ماشي يا مؤمنة»
عادت هدى للداخل وأغلقت الباب رافضة استقبالها في بيتها بعد ما صدر منها في حق هذا المحترم وظلمها البيّن له، فما كان ينقصه وهو بكل هذا الحزن والشتات حقد أختها.
رفعت رأسها تمسح دمعة فرّت من عينيها فاصطدمت بنظرات حنين الجامدة أمامها وتساؤلات عينيها المخنوقة. فردت ذراعها مستنجدة بها فسارعت حنين وأمسكت كفها معاونة على النهوض والعودة لحجرتها دون سؤال..
وضعت هدى كفها على بطنها كاتمة تأوهها في حلقها ضاغطة شفتيها بقوة تحبس الأنفاس في الصدر، ألقت بجسدها فوق الفراش ما إن وصلت فدثرتها حنين هامسة «أعملك حاجة سخنة؟»
هزت هدى رأسها بالرفض غير المنطوق وهي تأخذ نفسًا قويًا تتمالك به نفسها، تطرد به ألم بطنها غير المُحتمل بعد وصلة غضب كفيلة برج جسدها رجًا.
*****
أصرّ على المجيء معه بحجة حمايته والبقاء جواره، رفض رؤوف كثيرًا لكنه عانده بحزم حتى رضخ ووافق على صحبته، لم يقف كثيرًا لمعرفة سبب إصراره أو إفتراض سبب آخر غير ما قاله، فهذا كان عملهما الدائم هو وطاهر منذ ما حدث، حتى أنهما يضيقان عليه الخناق قليلًا باهتمامهما المبالغ فيه والتناوب على رعايته، سأله رؤوف بغيظ وهو يدخل المصعد الكهربائي أمامه «شغل العيال ده مش هيخلص خنقتوني»
ضحك يونس قائلًا «لاه استحمل يا حبيبي يا أما خنقتنا»
رفع رؤوف حاجبه هازئًا«يعني بتردوهالي»
أكد يونس بضحكة مستمتعة «أيوة»
صمت رؤوف بحزن بات يعشعش في قلبه ونظراته بينما انشغل يونس بأفكاره الخاصة عن هذا اللقاء ورغبته في حضوره عن قرب.
وصلا المكان فاستقبلهما سائق والد فهد الشخصي مُرحبًا مشيرًا نحو الحجرة التي يمكث فيها داخل المشفى بعد تعرضه لوعكة صحية أعادت ترتيب أوراق حياته ودفعته للنظر في كل الأمور المعلّقة.
دخل بهيبة فاردًا ظهره بكبرياء ونظرة واثقة متحدية، استقبلهما الرجل بوهن بدا واضحًا، قبض رؤوف على كفه الممدودة وربت عليها برفق «ألف سلامة عليك يا حاج»
«الله يسلمك يا متر اتفضل» قالها الرجل بامتنان وهو يشير لأحد الكراسي ثم التفت لصاحب النظرة المتحفزة الذي لا يقل هيبة ولا كبرياء عن أخية مُرحبًا «ازيك يا بشمهندس؟»
صافحه يونس برسمية، بنفس لا ترضى بهذا التصافح ولا تقبله لكنها مُجبرة عليه، ثم جلس جوار أخيه بهيبة.
بدأ الرجل كلماته وهو يسعل قليلًا بتعب «الي بينا مش قليل يا متر ولا بسيط أتمنى متكونش شايل مننا، إحنا هنا علشان نصفي كل حاجة وصدقني أنا بعتبرك زي ابني»
هز رؤوف رأسه بابتسامة عملية متقبلًا قوله بلطف يؤكد عليه وهو يربت على كفه الراقدة جوار جسده المسجي فوق الفراش «أكيد يا حاج»
دخلت فيروز أولًا مُلقية السلام مُرحبة قاطعة حبال الود بينها وبين عمها مؤكدة على مكانته منها بسلام عابر وسؤال مقتضب عن صحته ثم جلست جوار رؤوف على بعد مسافة آمنه.. تجاهل وجودها تمامًا رغم إلحاح رغبته عليه بتأملها ولو قليلًا، لكنه سيطر على جموح نفسه ممسكًا بذمام رغبته جيدًا لا يفلتها لركض متهور لا يعرف عواقبه.
بعد قليل تجمّع الأطراف للمناقشة وحلّ الأمور ودّيًا، أصرّ رؤوف أن يُلقي فهد يمين الطلاق ثانية ففعل مهادنًا لهما رغم غيظه الشديد و نظراته الكارهة للأمر المسلّطة عليها بتوعد رغم ما حصده من خسائر نتيجة تهوره واندفاعه.
تجاهلته كما لو كان غريبًا مستخفة بنظرة التهديد في عينيه راكلة لها في حقل ألغام استهانتها به.
بينما كان المتحفز يتابع نظراتهما لبعضهما باهتمام، لا يفوّت شاردة ولا يُسقط حرفًا من حروفهما.
نالت نصيبها كاملًا غير منقوص بذكاء رؤوف وحسن إدارته للموقف ومراوغته لهما، حقق لها نصرًا كبيرًا ما كانت ستصل إليه لولا دهائه، ولا تخيلت يومًا أن تفعلها بكل هذا اليأس في قلبها.
نظرت للأوراق بنظرة لامعة منتصرة وهي تبتسم ابتسامة بلهاء أصابت الآخرعدوتها فابتسم مثلها.
هتف فهد بنظرة داكنة تعلن لها ببجاحة أن الأمر لم ينتهي عند هذا الحد بل هو بداية حرب من نوع آخر «مبروك يا دكتورة»
تغاضت عن قوله متجاهلة بنظرة مشمئزة قبل أن تنهض مستأذنة المغادرة، استوقفها عمها بقوله النادم«سامحيني يا بنتي»
كز فهد على أسنانه بغيظ وكفه يتقبض جواره بغضب محبوس داخل قمقمه.
أما هي فتحركت للخارج مُكملة طريقها غير مانحة له صك غفرانها مما جعله يتنهد بأسى.
تبعها الأخران بعد قليل في الخروج ليجدانها في انتظارهما أمام السيارة، اعتدلت في وقفتها حين لمحتهما منتظرة اقترابهما منها «مش عارفة أشكرك إزاي يا متر بجد»
قالتها بنظرة ممتنة وعرفان شديد فابتسم قائلًا بعملية «ولا يهمك دا شغلي»
هزت رأسها بتفهم ثم منحته شيكًا قد جهزته فور خروجها، نظر لكفها الممدودة قائلا «ايه ده؟»
ازدردت ريقها قائلة بخجل «أتعاب حضرتك وحقك»
هتف بمرح «خليهم حتى شوية في الحساب يا دكتورة مستعجلة ليه»
قالت وهي تتحاشى الإتقاء بنظرات الآخر المعلّقة بها على غير عادته «دا اتفاق بينا»
تنفس بعمق ثم أجابها بابتسامة ودودة ونبرة شديدة التهذيب «الإتفاق أتنفذ وخلاص يا دكتورة أنا مش هاخد حاجة»
رفضت بعبوس شديد «لا مش هينفع»
أشار لها وهو يتحرك ناحية باب السيارة «تعالي نوصلك طيب»
اعتذرت عن قبول عرضه وتبعته بإلحاح وإصرار طفولي «لا متشكرة هرجع لوحدي لو سمحت خد دا حقك»
أجابها بصبرٍ وهدوء «يا دكتورة أنا ممسكتش جضيتك لو عايزة تدفعي إديها لجهاد»
هتفت بشكر ونظرة ممتنة لهما «لولا وقوفكم جنبي والي عملتوه وتنازلكم عن حقكم علشان أخد حقي مكانش هيحصل كل دا»
شاكسها يونس رافضًا دور المتفرج «وده تمن الضربة يعني وجدعنتنا معاكي؟»
زجرته بنظرة خاطفة جلبت ابتسامته قبل أن تعود بنظراتها الوديعة لرؤوف مصححة من بين أسنانها «لا يا متر مش قصدي الي فهمه البشمهندس بس على الأقل إيجار الشقة وأتعاب حضرتك والي كنت بتديهوني»
همست بها في حرج وهي تسبل جفنيها بخجل، جلس رؤوف فوق مقعد سيارته في شارة لتوقف النقاش العقيم، ضربت الأرض بقدمها معترضة على فعلته فابتسم متذكرًا أخرى كانت تفعلها دومًا حين يستفزها، يئس من رحيلها فتناول منها الشيك شاكرًا وهو يتنهد بيأس، ابتسمت له بفرحة راضية عن ما فعل وامتثاله لغايتها ثم استأذنت راحلة.
تابعها الآخر بنظراته من مرآة السيارة حتى ابتلعتها الشواره والتهمها الزحام.
*********
دخل رامز مرتبكًا كعادته بابتسامة كوزر ثقيل خانق في مثل ظروف مديره ومرضه الواضح لكنها ضرورية لتخبئة شفقته ، استقبله رؤوف بابتسامة اتخذها قناعًا مناسبًا يرتديه وقتما يحتاج ولضرورة ملحّة ، قلبه لا يفيض بزهر الفرح؛ ليصنع ابتسامة حقيقية جميلة بعد انقضاء ربيع العمر.
«تعالى يا رامز»
جلس متوترًا عيناه تفيض حزنًا على مديره الذي يحب ويحترم، تأمله بدأ من هزل جسده الواضع وذقنه النامية حتى نظرة الحزن العميقة في عينيه،قطع سكون الصمت و منحه خطابًا مُغلقًا وهو يبرر «لقيته في الملفات الي جات»
نظر رؤوف للخطاب المغلق بلونه الشاحب مرتجفًا وعقله يأخذه في رحلة لذكريات بعيدة كبعد الأماني، ما بين تردد ورغبة قاتلة تناوله شاكرًا متهرب النظرات، فنهض رامز من أمامه مانحًا إياه مساحة خصوصية، نظر إليه رؤوف بوجوم قبل أن يلتقطه بأنامل مرتجفة ويمرره على أنفه متنفسًا عبقها، سارقًا عطرها من بين حناياه ومنقبًا عن رائحتها كترياق للروح. استنكر أن يمزقه فاسترخى بظهره ومرره فوق لهيب شمعة أعداد إشعال خيطها.
فتحه ساحقًا تردده مستسلمًا للهفته، أخرج الورقة المطويّة وفتحها قارئًا «أنا مخنتكش، مش أنت يا حبيبي الي تتخان أبدًا»
اختصرت كل الحديث والثرثرة، اللوم والتقريع، والدفاع عن نفسها في جملة أرسلها لها يومًا كمرافعة دفاع عن نفسه واختصارًا لحدث غامض بريء هو من تدبيره وملابساته، يتبرأ من جرم لم يرتكبه فتقبلت هي رسالته وضمتها في حنايا الروح مصدقة دون مراجعة مانحةً إياه البراءة من أول جلسة..
والآن تذكّره أنّ لها عنده تصديقًا وأنها أُجبرت كما أُجبر يومًا وأرغمت على فعل مالا تطيق دون وعي مثله تمامًا فهل يصفح عنها؟ أعاد ورقتها لأمان الظرف حيث يسعه جيب بنطاله كما يسع القلب المحب كلماتها التي وجِّهت كالسهم لله، مسح وجهه بكفه مستعيدًا صفاء ذهنه لكن هيهات عشعشت الكلمات في ذهنه وجرّت معها ذكريات لا يمكن أن ينساها وإن حاول، ترك مكتبه وخرج قاصدًا قلوب صغاره الآمنة.
******
استقبله الصغار بحفاوة كبيرة ومحبة وافرة غامرة ومضمدة لجروح القلب والروح، جلس بينهم في حلقة واسعة يسأل عن أحوالهم ويطمئن عليهم، يمزح ويشاكس ويلعب
يغوص داخل أعماق قلوبهم الصافية باحثًا عن شربة هناء تريحه ولو قليلًا أو جوهرة ثمينة تغنية مرّ الحاجة وفقر نفسه من الحب.. يركض معهم متناسيًا مكانته وهيبته، يزاحمهم في أخذ الكرة غير عابيء بالوحل بل يدوس عليه ويركض كطفل لا يعبأ سوى بمتعته.
جلس أخيرًا لاهثًا يرتب خصلاته بأنامله السمراء الطويلة وهو يحيطهم بنظراته وضحكاته وهتافاته المشجّعة، أشار لهم أن يذهبوا لتبديل ملابسهم المتسخة بأخرى كما سيفعل هو وينظف ملابسه وإن أمكن سيستبدلها ثم يلتقيهم هنا للثرثرة وسرد الحكايات وتناول الحلوى والمقرشات.
سأل عن الصغيرة مفقتدًا لها فأخبرته إحدى العاملات أنها نائمة، غسل بالمياه اتساخات اللعب عن وجهه وكفيه، نظف ملابسه جيدًا وسار قاصدًا حجرتها؛ ليوقظها حتى تنال نصيبها اليوم منه وينال هو راحة قلبه برؤيتها، فتح الباب ببطء وخطا ناحية فراشها فتراجع ما قطعه ملتصق الحاجبين بضيق، هرول عائدًا للخارج بعدما لمح جسدًا لإمرأة يحتوي جسد الصغيرة ويعانقها بدفء في سلام حسدها عليه، أغلق الباب ووقف يتنفس بغضب منحبس حامدًا الله أنه لم يتقدم أكثر أو يقترب، راقبته المشرفقة بتوتر قبل أن تكشف له وجودها بنحنحة مرتبكة.
ترك مقبض الباب والتفت لها يهتف من بين أسنانه بصوت خافت حذر «مين دي؟ وإزاي حد يدخل وينام كدا مع الولاد؟»
أجابته مبرئة نفسها «معرفهاش الي أعرفه إنها جات منهارة واستقبلتها استاذة بشرى وطول الوقت تبكي حتى لما سألتها مرة أنتِ مين مقالتش اسم قالت بنت أبوها»
ارتد للخلف بصدمة قوية من قولها مرددًا «بنت أبوها؟ غزل»
جاءت بشرى من خلفها منقذة لها ووقفت تراقب علامات الصدمة على وجهه ثم تنحنحت متأهبة للتوضيح «دي بش مهندسة غزل يا أستاذ رؤوف»
هتف بإندفاع وهو يقترب منها ليفهم أكثر «غزل وجات متى وإزاي؟ ومبلغتنيش ليه؟»
صرفت المشرفة الأخرى بإشارة مقتضبة فهمتها وغادرت على إثرها ليتثنى لها التوضيح بهدوء وتبرير الموقف خاصة وهي تعرف تحذيراته الصارمة فيما يخص الغرباء وقوانين المكان « جاتني من حوالي أسبوع كانت تعبانة جدًا وقالت ملهاش مكان وهتقعد لغاية ما تدبر أمورها والمكان هنا مبيقفلش فوش حد وغزل أنا عارفة ليها مكانة خاصة هنا، وحضرتك قولت تيجي فأي وقت وتتصرف براحتها »
ضغط خصلاته بنظرة زائغة مرتبكة تعود للباب المغلق بلهفة جامحة لم يستطع السيطرة عليها ولا تلجيمها، حتى أعاده رنين هاتفه فأخرجه وابتعد قليلًا يُجيب، اندفع سيل التوبيخ والاستنكار من فم جهاد الغاضبة «فينك بكلمك مبتردش»
خرج للساحة مُجيبًا «خير يا أستاذة»
أوضحت له بعصبية وإنفعال «قفلت لما كلمتك من غير ما تفهم حضرتك»
اعتذر منها بأدب شديد «معلش كنت مشغول»
سألته جهاد بتأفف مستاء «غزل جاتلك؟ شوفتها؟ جابتلك الورق؟»
أوقف طوفان أسئلتها «أنتِ تعرفي منين كل دِه؟»
صاحت بغضب «يا بني آدم هو أنت سمعتني؟ البنت جاتني مع أبوها وكانت منهارة جدًا وتعبانة» ثم أضافت بإثارة وهي تتنهد بحماس «قالت إنها بتحبك ومش عايزة تبعد عنك وطلبت مني أهربها فهربتها من أبوها فورًا» خفت حماسها بضحكة مستمتعة «وصلت عندك؟»
نبضاته كانت تدق صدره بعنف تضرب كالدفوف وهو يستمع لها كأنها تحكي أُحجية هو بطلها «وصلت يا أستاذة بارك الله فيكِ»
أوصته عليها بلطف وحنان موضحة شعورها وتحليلها لما رأته منها «رؤوف البنت مش كويسة بجد، باباها عامل فيها حاجة اعرضها على دكتور وسلملي عليها وخلينا نتقابل»
تواصلت أفكاره مع ذكريات حديث صفوة عن معاملة أبيها لها والمهدئات التي يكفي نفسه بها اعتراضاتها ورفضها وجموح ثورتها«تمام يا أستاذة»
أنهى الاتصال واستدار عائدًا لها، وقف مترددًا أمام باب الحجرة مُفكرًا فيما سمعه وما يتوجب عليه فعله بعد كل ما عرفه ورسالتها.
تنهد وهو يضع جبهته على الباب حائرًا لا تصيب أفكاره هدفها.
ابتعد مقررًا تركها حتى تستيقظ وحدها، لن يجهض راحتها المسروقة في أحضان الصغيرة بمواجهتها الآن فليتركها حتى تنهض وحدها بصفاء.
******
أمسك صغيرًا بكفها وجذبها للعب معه بمرح وحيوية، فتوسلته الوقوف قليلًا والتأنّي لكنه رفض ذلك فتعثرت في رباط حذائها وتأرجحت، أوقفته مثبتة جسدها على أرض صلبة وهي تهتف «استنى هربط الخيط يا سراج»
توقف عن الركض تاركًا كفها وعاد إليها يراقب جلوسها ومحاولتها ربط خيط حذائها بفشل، ضحك الصغير حين تأففت بضجر وخيبة «مش بعرف أربطه»
سألها الصغير بتفكير «ما تخلي حد يربطهولك»
عادت لطرفي الخيط محاولة فانحنى الصغير وهمس في أذنها مقترحًا بحماس «خلي بابا يربطهولك»
رفعت رأسها بأنف مجعّدة استنكارًا «بابا؟»
فسّر الصغير قوله بحماس «بابا رؤوف جه ممكن يربطهولك»
شهقت بذعر وعينيها تتسع بهلع واضح وهي تتلفت حولها مستفسرة بإقتضاب «هو فين؟»
أجابها الصغير وهو يشير لحجرته «في المكتب بتاعه أنا شوفته من الشباك كان نايم»
انتفضت واقفة بإرتباك، تتطلع حولها بحذر شديد، وهي تركض ناحية المبنى والصغير خلفها يناديها، دخلت الحجرة التي تقيم بها، لملمت الأغراض القليلة التي تمتلكها وخرجت بسرعة هاربة منه قبل أن يكتشف أمرها وتنال من غضبه ما يسحقها.
تعجب الصغير من ركضها المذعور وعاد ليخبر المشرفة بما رآه منها..
أما هي فواصلت الركض حتى ابتعدت عن محيط المكان قليلًا بمسافة آمنة مكنتها من الوقوف والتقاط أنفاسها غير منتبهة للسيارة التي ظهرت فجأة أمامها ودفعت جسدها الواهن ليسقط أرضًا.
ترجل حمزة من السيارة بسرعة مرتعبًا يلوم نفسه على عدم انتباهه وانشغاله بثرثرة الصغيرة التي تبعته الآن ووقفت تشهق جواره قائلة بعينين متسعتين «غزل يا حمزة»

