رواية عزف السواقي الفصل الثالث والاربعون 43 بقلم عائشة حسين
الثالث والأربعون
تلك كانت المشترية الثانية التي ترد البيعة وتستعيد أموالها، نقدتها ما أخذته منها وركنت المخبوزات جانبًا بخيبة وانكسار ثم جلست مطرقة الرأس بصمت وبؤس، ربت صغيرها على رأسها مواسيًا بكفه الصغيرة مما دفعها لأن تنفجر باكية، لم يكن سبب حزنها الوحيد مشروعها الذي يتدمر بل تفرّق شمل أصدقائها، ورحيل غزل من هنا للأبد وفقدها طريقة التواصل معها، أصبح كل شيء ثقيل الأيام طويلة حزينة بعدما فقدت داعمتها وكاتمة أسرارها المخلصة وناصحتها الأمينة،إنوكانت هي كذلك كيف حال رؤوف؟ تشفق عليه من كل هذا الحزن بعدما اطمأن بغزل وردّت إليه كرامته بحبها، وعوضه الله بمودتها الصادقة بعد صبره الجميل، تمنت لو استطاعت الاتصال به ومواساته والتوسل إليه بأن يُعيد غزل، تمنت لو أعلمته بمدى حب غزل له الذي أخبرتها به مرارًا، وتعلقها الشديد به الذي لمسته منها، وتقديرها له وانبهارها الدائم بشخصه وأمنيتها الوحيد أن تمنحه الحب الكافي والطفل الذي يحلم به.
عادت من إبحارها في الحزن على دقات الباب، مسحت وجهها ونهضت مُجيبة «مين؟»
فتحت النافذة الكبيرة التي تتعامل من خلالها مع الزبائن ونظرت حولها منادية «مين؟»
وقف أمامها مُظهرًا لها نفسه فارتبكت وزاد حزنها قوة «أنا ازيك يا هدى»
أجابته بحدة وإمتعاض واضح «الحمدلله»
سألها ونظراته تتأملها بلهفة «عاملة إيه وأخبار عبدالله»
أجابته بجفاء وكراهية منبثقة من نظراتها «الحمدلله»
منحها حقيبة بلاستيكية كبيرة قائلًا «خدي»
قطبت مستفسرة بحدة «إيه ده؟»
أجابها بإرتباك «حاجات لعبدالله»
دفعته بنظراتها قبل لسانها «متشكرين مش عايزين حاجة؟»
أصرّ بعناد «خدي بس أنا مش غريب»
قالت بعصبية ونظرة محتقرة «لاه أنت غريب وحيالله واد عمتي، وأنا مبقبلش حاجة من غريب اتكل على الله»
سألها بقلق ونظرة متوترة «مالك في إيه؟ ومال وشك دبلان كدا؟»
صاحت بهجوم «وأنت مالك بتتحشر ليه؟ ما تروح تشوف حالك يا عم أنت»
قطب معاتبًا لها بنظراته،يراوغها بصبر وتحكم شديد في أعصابه «عارف زعلانة بسبب خالي بس...»
قاطعته صارخة فيه بإشمئزاز «أنت يا جدع أنت مبتفهمش بقولك اتكل على الله لسه هنتساير»
احتدت نظراته وشاعرًا بالمهانة من أفعالها فتبسمت هازئة وهي تغلق النافذة متأففة بضيق وضجر بعدما منحته نظرة استهانة أخيرة.
أغلقت النافذة وعادت للداخل ممسكة بهاتفها منتظرة اتصال زوجها بعد إنتهاء باقتها ونفاذ أموالها التي منعتها من تجديدها مرة أخرى.
نظرت لملاءات السرير الموضوعة جوارها بنظرة متحمسة، تتذكر ما عملتها إياه سماسم أثناء إقامتها معها بعدما طلبت منها ذلك عند رؤيتها لها تطرز، أمسكت بالإبرة تطبّق ما علمتها إياه حتى تتقنه، مفكرة في استغلاله والاستفادة منه حيث يمكنها من خلال ذلك أن تطرز الملاءات وتبيعها للعرائس.
تابعت حنين بالخارج ما حدث متذكرة ما قرأته في أوراق خالها عن علاء وكيف ساهم بوسوسته البغيضة في تحطيمه وقذارته في شحن آيات ضد خالها والتأثير عليه ليسافر،شيعته بنظرة حاقدة كارهة واتجهت ناحية منزل هدى طرقته مُعرّفة عن نفسها فسارعت هدى بفتح الباب وأغلقته بعدها جيدًا.
سألتها حنين «عملتي الي أمي جالتلك عليه؟»
أجابتها هدى بابتسامة مضيئة «أيوة تعالي ادخلي اجعدي معاي شوية نرغي وبعدين امشي»
ابتسمت لها حنين وسارت جوارها قائلة «فين بودي؟»
أجابتها وهي تشير للحجرة «جوا ادخلي»
دخلت حنين وجلست جوار الصغير تشاركه اللعب بألعابه البسيطة وهي تتابع اجتهاد هدى في التعلّم قائلة «بتعرفي تطرزي؟»
أجابتها هدى بابتسامة دافئة « لسه بتعلم»
سارت حنين على ركبتيها حتى وصلت إليها مقترحة «بجولك، إيه رأيك تطرزي على طواقي وتبيعيها؟»
قطبت هدى مستفسرة وهي تتوقف عن العمل منتبهة لها «كيف يعني؟»
شرحت لها حنين بحماس«هجبلك كابات بيضة وهتطرزي عليها اسم صاحبته وكام وردة وهنبيعها»
ابتسمت هدى قائلة بخيبة «ومين هيشتري يا ناصحة؟»
أجابتها حنين ببساطة «ساهلة دي جوي، هكلّم صحباتي والبنته في المدرسة وأجولهم بس بعد ما تعمليلي واحدة ليا أنا أوريهالهم والي عايزة نعملها ونبيعهالها»
ضيّقت هدى عينيها على وجهها مُفكرة قبل أن تعلن موافقتها فلا ضرر من التجربة «ماشي»
هتفت حنين بحماس شديد ورغبة في مساعدتها «ماشي اتفقنا»
عادت للعب مع الصغير مستفسرة بحذر «أنتِ مبتروحيش عند أهلك؟»
أجابتها هدى ببساطة وهي تعود للعمل بحماس أكثر تلك المرة «لاه جوزي منبّه عليَّ مطلعش من البيت طول ما هو غايب»
هزت حنين رأسها بإستحسان للأمر ثم سألتها «هي مس آيات اتطلقت صُح»
نظرت إليها هدى بتدقيق فهزت حنين كتفيها موضحة سبب سؤالها «البلد كلها بتجول»
أجابتها هدى بتنهيدة مستسلمة «أيوة اتطلقت»
عادت تسأل من جديد «عشان الأستاذ رؤوف أتجوز ولا زي ما بيجولوا إنه مش كويس ومخه تعبان ومشاها بجميص النوم»
تركت هدى الإبرة موضحة مدافعة عنه «الأستاذ رؤوف مخه يوزن بلد بحالها ومحدش زيه راجل ابن أصول ومحترم »
قالت حنين بدهشة مستدرجة لها بذكاء «بتدافعي عنه بعد الي عمله»
قالت هدى بصدق وقوة «بدافع عن الحق يا حنين أنا مشوفتش منه غير كل خير وأختي كمان بس اهو نفوس مريضة والبلد كل يوم بحال»
ابتسمت لها حنين بإعجاب قائلة «أنت مش شبه آيات خالص سبحان الله»
ابتسمت هدى بصمت وواصلت التعلّم وهي تطلب منها «طيب جومي اعمليلنا شاي وتعالي جوليلي متابعة مسلسلات إيه حلوة أتابع معاكي»
نهضت حنين بحماس متجهة للمطبخ وهي تقول «من عينيا»
غمغمت هدى بإستياء واضح وضيق «الله يسامحك يا أبوي الراجل ميستهلش كده»
*********
أدخلت لها الطعام مرة ومرات وكانت ترفض بشدة تناوله من يدها وتكتفي بما تدخله لها سماسم من عصائر، منزوية متعلقة النظرات بالسماء من النافذة المفتوحة على الدوام في المندرة الصغيرة التي مكثت بها مُحبة لذلك،فهذه المندرة الصغيرة من البيت تنتمي إليه لكنها منزوية منعزلة عن الضجيج وباقي الحجرات، وضعت عواطف الصينية أمامها وجلست معاتبة بدموع وأسى «كدا يا صفوة تاعبة قلبي وبعدين يا بنتي؟»
مزقت عباءة الخنوع والطاعة واندفعت تهتف بشراسة حديثة العهد ونظرات كارهة «أنا الي عايزة أعرف وبعدين؟ في إيه تاني مستنيني؟»
كفكفت الأم دموعها وأجابتها بهدوء ونظراتها تتابع مراحل تحوّل فتاتها المطيعة الخانعة لأخرى «هيكون في إيه بس يا بنتي!»
خرجت الثورة المتعفنة بالكتمان من قبو صدرها المظلم وصاحت تندد بأفعالها برايات من غضب وقهر «على رأيك هيكون في ايه أكتر من كدا»
هدأتها والدتها بصبر محاولة امتصاص غضبها اللحظة والسيطرة على جموحها «طيب كولي، أنتِ من ساعة ما جيتي وحالتك حالة»
استنكرت صفوة قولها وصاحت تطرق بقوة «أنا وكدا؟ طيب متخيلة غزل إزاي دلوقت؟ متخيلة بعد ما خلاص اطمنت وارتاحت وحبت واتحبت، لغاية دلوقت لا سألتي عليها ولا حاولتي تطمني ولا تكلمي بابا وتقنعيه»
جادلتها الأم دون اقتناع وبغيظ مكتوم «هي مع أبوها هيخاف عليها أكتر منك»
هدرت وهي تدور في الحجرة كالمذبوحة محملقة في الأثاث من حولها «أبوها؟ الي يقتل ويسرق ويزور أب إزاي؟ دا بيعاملني أنا أحسن منها والله»
بررت عواطف بضيق وحجة واهية «علشان هي عنيدة»
وقفت صفوة مكانها مؤكدة بما يشبه الهذيان «أيوة وأنا لا، بطيع وأنفذ وخلاص زي ما طيعتك وبلغت غزل»
نهضت والدتها من مكانها قائلة بأسف «متعمليش فنفسك كدا يا بنتي»
صرخت بها صفوة في جنون لا تصدق برودها واستهتارها بمعاناة أختها اليتيمة التي اتخذتها أمًّا ولطالما كانت بارة بها «امشي أنتِ قاعدة ليه أصلا؟ أنا هقعد مع أهلي أنتِ بقا قاعدة ليه؟»
فغرت فمها مندهشة تعاتبها بأسى ودموع «كدا يا صفوة»
تخلت عن حذرها واحترامها مؤكدة بنظرة شامتة جديدة العهد «أيوة أنا مش عيزاكي فحياتي تاني خلاص مش عايزة غير أختي وهعمل كل الي أقدر عليه علشان تيجي تعيش فوسطنا»
لامتها بإنكسار مزيف «دي أخرتها يا صفوة يعني غزل أحسن مني عندك وأغلى»
هدرت بتأكيد متشفية فيها بالكلمات القاسية «ألف مرة والله، دي كانت أمي ولو نسيتي أفكرك، بهدلتونا وفرقتونا منكم لله»
بكت عواطف بحرقة شديد لا تصدق كلمات فتاتها المطيعة ولا خروجها الصادم عن طاعتها وتملصها من أمومتها لها، نظرت إليها صفوة متشفية فيها ثم قالت بغلّ مترقبة بظفر رد فعلها «أقولك حاجة كمان أنا اديت كل فلوسك الي فحسابي لمرتضى»
توقفت عن البكاء محملقة فيها بذهول وصدمة فابتسمت صفوة راضية، سألتها وهي تقترب منها «بتقولي إيه؟ وعملتي كدا ليه؟»
اجابتها ببرود وهي تنظر إليها بقوة شامتة النظرات «علشان مش عيزاها»
هزتها والدتها مستفسرة بقهر «طيب ومرجعتهاليش ليه؟»
أجابتها صفوة وهي تُبعدها بنفور «روحي جبيها»
تركتها عواطف متخبطة تفكر قبل أن تأخذ القرار «دي فلوسي وشقايا وشقى أبويا هروح أطلعها من عينه»
ضحكت صفوة بهستيريا قبل أن تتوقف عن الضحك وتواجهها بقوة«متقدريش تروحي تخلصي غزل وترجعيها بس تقدري تروحي تنهشيه علشان فلوسك»
حملقت فيها والدتها ذاهلة قبل أن تصفعها بقوة لكن صفوة تماسكت ونهضت صائحة في وجهها وهي تزرف الدموع «امشي من هنا أنا معرفكيش ومش عيزاكي»
فتحت سماسم الباب على صوتها واندفعت ناحيتها محاولة تهدأتها لكنها صرخت ببكاء وهي تتلوى وجعًا «لو أنا بنتكم فالست دي مربتنيش ولا حافظت عليا، غزل هي الي كانت أمي أكتر منها أنتم مديونين لغزل ليها جميل فرقبتكم »
وقفت نجاة على الباب متوجعة تسمع صيحاتها دون أن تقترب، تُجلد بسياط الكلمات في تحمّل تذرف دموع الندم على ما اقترفت يداها ، بينما أزاحت عواطف نجاة بقوة عن طريقها وخرجت من المندرة الصغيرة مُفكرة.
******
شهقت بعنف وهي تفتح عينيها هاربة من أضغاث أحلامها لأضغاث أفكارها، تنفست بسرعة كبيرة بعدما نجت من الغرق في أعماق الكوابيس المميتة، نظرت حولها بتيه قبل أن تعتدل متأملة المكان تتعرف عليه من جديد ببطاقة هوية للألم، تستعيد الصور والأحداث وتدوّن الوقت، عاد إليها الواقع مصححًا لها الأفكار وطاعنًا أملها الخائب، ضمت ساقيها بحركة لا إرادية وانكمشت فاغرة الفم تتلو مراسم تشييع طمأنينة قلبها لمثواها الأخير، ابتلعت ريقها وارتجفت متذكرة كيف تم انتهاك خصوصيتها بقلبٍ بارد، ضربت خديها جزعًا ودموعها تتسابق على خديها، نزعت إبرة المحلول بعنف لا تعبأ بألم ولا تلتفت للدماء التي تقطر من كفها، ضمت جسدها بذراعيها وبكت متهدلة الأكتاف بهوانٍ وانكسار تناديه معتذرة ومستغيثة ومن لها غيره مهما مرّ عليهما من خطوب ، تذكرت استعدادهما للزواج وخططهما للإنجاب، وخنجر كلمات آيات المسموع، عاد إليها وعيها كاملًا يجلدها دون رحمة ويصفّ أمامها غنائم أفعالها، وعيها عاد للروح بمشاعل خراب، أحرقها كما جلدها، وحين أتت النيران على كلها توقفت عن البكاء المستغيث وارتمت فوق الفراش متقوقعة، تسير في طرقات النفس دون هدى، لا تملك لسانًا يهذي ولا عقلًا يضل .. فقط تائهة.
لتنهض بعد قليل مُسيّرة، متحركة ببطء وملامح منحوتة من صخر، واجمة بأنفاس تصارع وينابيع دموع تجري على خديها، فتحت الشرفة ودخلتها ببطء، استندت بكفيها على السور ورفعت رأسها لأعلى وخلاياها تنبض بالوجع المميت، ثم طأطأت رأسها متحسسة ندبة الوجه بضياع، حيث لا يمكنها أن تلمس ندبة الروح الغائبة معه الآن.
سيطر عليها شيطانها فاعتلت سور الشرفة، وقفت فوق حافته العريضة وأغمضت عينيها متمنية الخلاص والعبور من بوابة الدنيا للنهاية حيث لا وجع هناك وأمها تنتظر.
شهقت كمن عادت إليه الحياة، فتحت عينيها تنصت لأفكارها وصوت قلبها، من حجاب البُعد سمعته يناديها بأن تتوقف فبكت، بسرعة كان والدها يمسك بذراعها ويسحبها للداخل بعنف وزمجرة غضب، فغر عبدالرحمن فمه مندهشًا مذهولًا برؤيتها هكذا تمنح نفسها للموت بسهولة، مسح وجهه واقترب لمعاونتها والإمساك بها مع والدها الذي كاد أن يودي بحياتها بفعلته غير المحسوبة العواقب.
سألها عبدالرحمن وهو يتأمل ملامحها الذابلة وخريف روحها الواضح «غزل أنتِ كويسة؟»
حملقت فيه لثواني كأنها تتعرف عليه وتدرك وجودها، وبعدها نهضت هامسةً «أنا بخير» اتجهت للحجرة سحبت وشاحًا مُلقى ، لفته حول كتفيها رغم أنها ترتدي ملابس خروجها الساترة لكنها تشعر أنها عارية ومكشوفة لجميع الأعين، خرجت من الحجرة تماما منزعجة بشدة من دخول عبدالرحمن خلف والدها مكانها الخاص، بينما وقف والدها يهرتل بالضلال «شوفت وصلها لإيه؟» يرميه بذنوبه ويثقله بالكذب،فسحقّا له
رمته بنظرة ساخرة وهي تتجرع كوب مياه بارد، أنهته وألقت به أرضًا؛ ليتحطم تحت نظراتهما المصعوقة وبعدها خرجت قائلة «عايزة أنزل المسجد الي تحت»
سبيل نجاتها الوحيد من الجنون ومكان آمن بعدما خلت الدنيا كلها من الآمان، أن تنزل ضيفة في بيته شاكية باكية تبوح بحرية بما لا تستطع النفس عليه صبرًا.
رمقها والدها بنظرة زاجرة يحاول إيقاف جنونها، فتجاهلتها وتابعت «هتنزلني ولا أنزل لوحدي»
نظر لها عبدالرحمن بدهشة، لا يعرف مَن تلك المتمردة التي أمامه ولا هذا الجنون..اقترب منها والدها ضاغطًا على ذراعها في تهديد غير منطوق، فنفضت جسدها مشمئزة نافرة وصرخت «ابعد عني»
تدخل عبدالرحمن عارضًا المساعدة «أنا هنزل معاكي»
عارضه مرتضى وهو يسحبها للحجرة «هي هتاخد علاجها وتنام»
صرخت به وهي تحاول تخليص ذراعها من قبضته «ابعد عني متلمسنيش»
دفعها للحجرة وأغلق الباب، ثم اتجه ناحية عبد الرحمن وسحبه للصالة بعيدًا عنها وخوفًا من هذرها وهذيانها، ضربت الباب بقدمها في قهر وعادت لفراشها متكومة فوقه بتعب بعدما ابتلعت حبتي مهديء من جوارها.
في المساء أفرج عنها، فتح لها السجن فنهضت متعكزة على الجدران، دخلت المرحاض تحت نظراته القاتمة وخرجت منه فخيرها «في أكل لو عايزة تاكلي»
منحته نظرة محتقرة وعادت لحجرتها مغلقة خلفها، افترشت الأرض بسجادة الصلاة خاصته والتي وضعتها في حقيبة الظهر التي هربت بها، جلست فوقها تمسح على نسيجها بكفها بشجن بلل وجهها بالدموع، وبعدها نهضت مُكبرة تؤدي ما فاتها من الفروض.. أطالت السجود صامتة لا تعرف بما تدعو تتزاحم الرغبات وتتجمهر الأمنيات في ثورة فينعقد لسانها، لكن وحده الوجع هو المسيطر«يارب»
همست بها ثلاث مرات مرة خائفة ومرة مستنجدة متوسلة وأخرى داعية.
بعد فترة من الصمت والبكاء همست بأمنية تلحّ اللحظة على قلبها بشدة«يارب احفظه»
شعور بالطمأنينة والأمان تسرّب إليها وغمرها فتدفقت الدعوات على لسانها،متذكرة نصائحه لها «أكون معاه يارب،ردني ليه يارب، قدرني يارب اتحمل الي جاي من غيره،افتحلي الأبواب المغلقة يارب واشرح صدري أو أموت يارب لو مش هشوفه تاني »
رفعت رأسها من على الأرض وتربعت تذكر الله كما علمها وتستغفر كما وجهها يومًا... فصاب سهم دعواتها السماء وفُتح ما انغلق.
شيء ما دعاها فنهضت متجهة ناحية باب الحجرة المغلق ، كادت أن تعود لولا أن سمعته يهتف بحذر «خليه معاك الورق يا عبد الرحمن يا ابني هيكون أفضل وأمان لغاية ما أحتاجه برضو يحميها منه ومن أذاه»
أنهى الاتصال فعادت لسجادتها مُفكرة، ترفع ركبتيها لصدرها محيطة لهما بذراعيها، تدفن وجهها فيهما ذاكرة الله داعية أن يلهمها ما ينجيها ويرزقها الثبات والقوة.
**
دخل يونس الحجرة فابتسم رؤوف لطمأنته مشفقًا عليه من هواجسه وقلقه وخوفه الواضح ، ربت يونس على كتفه متسائلًا «مصمم برضو تطلع يا حبيبي؟»
مسّد رؤوف قميصه قائلًا «أنا تمام الحمدلله متخافش»
انضم طاهر معارضًا لقراره بقلق «كنت فضلت يومين كمان نتطمن عليك»
أجابه رؤوف بابتسامة حنون «أنا بخير الدكتور كتب خروج خلاص»
اقترح يونس عليه «طيب خليك معانا يومين متنزلش قنا دلوك لما تشد حيلك»
أجابه وهو ينظر إليهما بحنان «متجلجش أنا حيلي مشدود هجعد أعمل إيه؟ رامز وطاهر هيشوفوا المكتب ويسكتوا العملاء»
عارضه طاهر بحزن «بس احنا مش كفاية يا أخوي خليك كمان يومين بس عشان منبجاش جلجانين عليك»
ابتسم له رؤوف عادلًا عن قراره «حاضر عشان خاطرك بس»
قبّل طاهر كتفه بفرحة داعيًا «ربنا يخليك لينا وميحرمناش من وجودك»
رنّ هاتف يونس فهتف وهو يعلّق نظراته بشاشته «رؤوف دي خالتي عايزة تكلمك من الصبح»
تناول الهاتف بلهفة وسرعة وأجاب بمحبة وإنشراح فهذا هو الدواء الذي يحتاجه الآن والسيف الذي سيحسم به معارك الروح والقوة التي سيسيطر بها على نزاعات النفس«الوووو»
جاءه صوتها الرائق مشرقًا متهللاً ودافئًا كدثار ثمين أحاطه «ازيك يا ولدي»
ضحك ممازحًا لها بعدما منحه صوتها الرضا اللازم وأعاده من توهته «واه بجيتي تمسكي التليفون دلوك وتتكلمي»
أجابته بلهفة شديدة ودموع غلبتها « ممسكهوش لأغلى منك،دا أنت ضي العين، جلبي واكلني عليك يا حبيبي طمني»
ابتسم متأثرًا بمحبتها دامع العينين باحتياج «أنا بخير وزدت خير لما سمعت صوتك»
أعطى أخويه ظهره هاربًا من نظراتهما ساترًا عنهما ضعفه الذي يظهره لخالته مستغيثًا بقوتها، مسح دمع تعلّق بأهدابه فقالت مشككة في قوله «محساش كده يا حامد،جلبي بيجولي فيك حاجة وجلبي فيك ميكدبش يا ضنايا»
همس بضعف« أنا بخير بس ادعيلي الحمل تقل والضهر حنى»
قالت بصوت متهدج « سلامة ضهرك يا ولدي ربنا يلطف بيك ويعينك وينورلك طريقك ويهدي عليك»
أمّن خلفها بتضرعٍ ثم سألها عن قاسم وأحوالهما، تدخل عبود الذي حضر للتو ناصحًا «تعالى يا حامد مستنينيك وجلبنا مفتوح لك علطول ميجفلش»
ابتسم ممازحًا له بمرح «أيوة تلاجيك عايز عسلية ولا جلابية»
أجابه عبود ضاحكًا «عايزك أنت والعسلية»
ضحك وهو يستدير عائدًا لأخويه المبتسمان لأجله فقال عبود ناصحًا «روح بضعفك لحبيبك يجويك يا حامد واسند ضهرك على رحمته يقيم يا ولدي واحفظ جلبك وجلب من تحب عنده »
استمع بإهتمام ثم تنهد قائلًا «حاضر راعوا لنفسيكم لغاية ما أرجع وسلملي على قاسم ومتخليهوش ينسى نفسه في اللعب بره البيت »
أنهى الاتصال بعدما وصاه ثم شدّ رحاله لشقتهم منتظرًا إنهاء جميع الأمور والعودة.
داخل السيارة رنّ هاتفه فأخرجه قائلًا بإستياء «مش هيبطل رنّ النهاردة»
رأى اسم المتصل فرفع حاجبه قائلًا بتفكير «دي دكتورة فيروز»
ظهرت لهفته جليًًا ونبضت ملامحه بالارتباك مما جعل طاهر يلكزه هامسًا في أذنه من الخلف«ركز بدل ما نرجع المستشفى تاني»
حمحم متمالكًا أعصابه، مسيطرًا على مشاعره بقوة،بينما هتف رؤوف المنشغل بصخب أفكاره «طاهر روح خلّص الموضوع مع عمها»
سأله يونس وهو يتبادل النظر معه والطريق أمامه «يخلّص إيه؟»
أجابه رؤوف وهو يضع هاتفه في الصمت ويركنه أمامه «كنت كلمت المحامي نتنازل مقابل يرجعلها حقوقها كاملة ويمضي بعدم تعرض لها ولينا»
بش وجهه وتهللت ملامحه وهو يعود بنظراته للطريق أمامه، هتف طاهر بطاعة «حاضر يا أخوي هشوف رامز ونروح»
ربت رؤوف على كف طاهر الموضوعة على كتفه بإمتنان وشكر قبل أن يهتف بحزنٍ وانكسار «أمك بعتت ليونس إنك جولتلها خايف يمشوك بس أنا الي خايفك تعمل زيها وتمشي يا طاهر ويهون عليك أخوك»
أدمعت عينا طاهر تأثرًا بقوله وحزنه فاقترب مقبلًا رأسه بتقدير، يربت على كتفه بعرفانٍ وهو يقول « روحي فداك يا أبوي»
تذكر ندائها عليه بنفس اللقب فأشاح مُعتصر القلب، ممزق الأحشاء، متواريًا عن الأنظار بوجعه ووليد فقده الصارخ، تذكر تهديد والدها له فتلوى ، وجعًا مكتومًا في الأعماق ينفجر داخله دون دوي، ربت يونس على ركبته مؤازرًا مواسيًا بعدما رأى وجعه وانقباض ملامحه، فهو لأول مرة يرى أخيه هكذا وعلى هذه الحالة من الضعف والهزيمة، بعجز يكلل النظرات وانكسار كالتاج فوق هامته، لا يعرف ماحدث بالضبط وما قاله له مرتضى وجعله يسقط أرضًا بتعب كلفه المكوث في المشفى غائبًا عن الوعي ثلاثة أيام حتى عاد إليهم من جديد بهذا الحزن الوقور والرثاء المقبض والقلب المكلوم، كما أنه يخشى سؤاله ويهاب استدارجه في الحديث ربما في استعادة الحدث والكلمات وجعًا لن يقدر عليه أخيه ولا قبل له به وهو بهذا الضعف.
*
دخل عبدالرحمن بصحبة لمياء القادمة لأجل رؤية صديقتها بعدما عادت بحسرتها وخيبتها،استقبلهما مرتضى بترحاب شديد لا يكف عن شكرهما ولا يتوقف عن الابتسام بعرفان،أخرج عبدالرحمن الأوراق من جيب سترته قائلًا «عملت تأشيرة عمرة ليك ولغزل وحجزت زي ما اتفقنا، هتسافروا الأول وأنا هحصلكم التأشيرة لمدة سنة هتفضلوا هناك لغاية ما نرتب كل حاجة وبعدها نتجوز ونسافر.
تناولهم مرتضى مستحسنًا قوله، يهز رأسه بالشكر والامتنان بينما استأذنت لمياء منه «ممكن أشوف غزل يا عمو؟»
رحّب قائلًا وهو يشير لها على مكانها «طبعًا يا بنتي»
خطت ممسكة بحقيبة يدها تؤرجحها بإستمتاع وهي ترسم فوق ثغرها ابتسامة منتصرة، طرقت الباب مستأذنة فرفعت غزل رأسها من على ركبتيها المضمومتين لصدرها بصمت، حيث كانت تلك جلستها المحببة فوق سجادته، يهتز جسدها ويتأرجح كبندول ساعة هرمة عتيقة ، هتفت لمياء «غزل أنا لولو»
شحذت غزل همتها ونهضت متوعدة لها، لملمت سجادته وضمتها لصدرها مستمدة من رائحة أنفاسه العالقة قوتها وهمتها في السعي لنيل حقه من تلك الخائنة، جلست على طرف الفِراش هاتفة «اتفضلي»
دخلت لمياء مبتسمة بظفر، تأملت الحجرة البسيطة وهي تخطو ناحيتها بدلال خيّل لتلك الجالسة أن قدمي الأخرى تخطو فوق جثتها بعدما حاصرتها وخنقتها بفعلتها، رفعت غزل نظراتها المهزوزة من الأرض فاتسعت ابتسامة لمياء وانحنت تضمها قائلة بود زائف «وحشتيني يا غزولة أوي»
ظلت الأخيرة على جمودها ثابتة بملامح حزينة معلولة بالقهر المميت، جاورتها لمياء تبخ محبتها الزائفة في وجهها «مبسوطة برجوعك من تاني وإنك خلصتي من الأستاذ الي عامل فيها محترم وخيّر»
التفتت إليها بنظرة شرسة قوية تخمش وجهها بالكلمات «اخرسي إياكِ تجيبي سيرته بحاجة على لسانك»
رفعت لمياء حاجبها مندهشة ببرود وهي تعاتبها «ليه بقا؟ مش هو الي اتجوزك غصب وبهدلك»
هتفت غزل بنبرة متأججة بالغضب تدفع سوءها بالحقيقة، معرية لها قلبها وحقدها «هتصدقي نفسك أنتِ ولا إيه؟ لا فوقي أنتِ واحدة حقيرة خاينة للعيش والملح»
انتفضت لمياء قائلة بحقد «محدش خاين غيرك خدتيه مني »
ضحكت غزل بسخرية من قولها وأردفت «في راجل بيتاخد يا لولو، مش بتقولي غصب مقهورة ليه بقا؟»
هتفت بغل «الحقير الواطي يبقى متجوزك تخليص حق ويتغنى بحبك قدامي»
واجهتها غزل متذكرة قوله عن حبه القديم لها قبل معرفته بهويتها«راجل ابن أصل،بعدين عيزاه يقولك إيه وأنتِ ماشية وراه وبتريلي عليه يا حقيرة »
رفعت كفها لصفعها فنهضت غزل وأمسكت به محذّرة لها «هكسرهالك»
أخفضت لمياء ذراعها وقالت متشفية بابتسامة شامتة «واهو رجعك وسابك»
دافعت عنه بقوة «أنا الي رجعت »
ضحكت لمياء مستمتعة بقولها ثم نظرت لعينيها قائلة «ودا أحسن وأحسن، سبتيه وهربتي بعد كل الحب دا، يا ما نفسي أشوفه والله الي هددني علشانك »
هتفت غزل بغيظ وهي ترمقها بنظرة مشمئزة «أنتِ حقيرة وقذرة ربنا ينتقم منك»
قهقهت لمياء ببرود لتغيظها فطردتها غزل «غوري فستين داهية مش عايزة أشوفك تاني»
سحبت لمياء حقيبتها قائلة بنظرة محتقرة «ولا أنا بس قولت مينفعش بعد مجهودي الضخم دا مجيش وأشوفك بنفسي»
دفعتها غزل بحرقة ناحية الباب فغرست لمياء مرفقها في صدر الأخرى دافعةً لها بغل، تأرجحت غزل ممسكة بصدرها تتأوه متألمة بشدة من قوة ضربتها..
دخل مرتضى بعدما رحل عبدالرحمن متفقدًا بنظراته الوضع بعدما سمع صرخة ابنته المتألمة، نقّل نظراته بينهما مستفسرًا«في إيه؟»
سعلت غزل بشدة وهي تجلس فوق الفِراش متعبة، قبل أن تسترد عافية صوتها وأنفاسها وتبدأ بانهيار «مشيها من هنا .. الواطية بتمد ايدها عليا الحيوانة الي فاكرة نفسها بتساعدني وهي بتنتقم من رؤوف علشان دافع عني »
ضيّق مرضى نظراته على ملامح لمياء الباردة فقالت بأسف كاذب «عمو زودلها المهديء مش عارفة مالها»
صفعها مرتضى بقوة أرجفتها فوقفت تطالعه مبهوتة ومصدومة من رد فعله «أنت ازاي تعمل كدا»
سحبها من مرفقها بعنف للخارج وهو يقول «غوري يلا هو أنا ناقصك؟ مهمتك خلصت خلاص»
صرخت بقوة لا تصدق قوله ولا معاملته لها ففتح الباب ودفعها للخارج بقوة مهددًا إياها «مش عايز أشوف وشك تاني وإلا هبلّغ عنك مديرك وأبعتله رسايلك وخطتك لسرقة مكتبه»
بصقت في وجهه فركلها وأغلق الباب عائدًا لفتاته، صنع لها كوبًا من العصير الممزوج بالحبوب المهدئة ومنحه لها فتجرعته مرة واحدة وانكمشت فوق الفِراش مسترخية الجسد.
***
جلست غزل أمامه فنظر إليها مليًا يدقق في ملامحها الجميلة المُتعبة وعينيها شديدة الذبول والوهن، دائمًا ما كانت_ تلك العينان _سحرها الذي لا يقاوم وجاذبيتها الخاصة المهلكة، كما أنّ بريق الحزن فيهما الآن لا يُقاوم، يجذبه ويلفت نظره، تثمله نظرة الحزن المعتق في عينيها كالنبيذ.. من وقتٍ لآخر تتسرّب منها نظرة حنين مفتشة عن غائب وباحثة عن مفقود، تتحرك شفتيها كل حين بمناجاة مُربكة، استخلصت انتباهه بهمسها «طبعًا عايز تعرف أنا طلبت نتكلم لوحدنا ليه؟»
تذكر كيف دست في كفه ورقة تخبره فيها برغبتها في الحديث معه خارج المنزل وحدهما، أثارت فعلتها الطفولية فضوله فتحايل وراوغ والدها حتى حصل على موافقته واعدًا له بالحفاظ عليها ومهددًا بطريقة غير مباشرة من أنه لن يتمم شيئّا حتى يتحدث معها وحدها.
ابتسم مذيبًا التوتر وأجابها منتبهًا لها منجذبًا كمغناطيس «لا عادي كنت متوقع يا غزل»
طردته خارج مدارها بنظرة لا مبالية مستنكرة وقالت «بس مظنش متوقع الموضوع»
اتسعت ابتسامته مُرحبًا بدعوتها للحديث «لا بس عادي اتفضلي»
انهزم سحرها وتبدد أمام توترها الغريب واضطراب ملامحها، قالت بجفاء «بابا قالك إيه عن جوازي ورؤوف» نطقت اسمه على مهل كأنها تستلذ بنطقه وتستمتع به مما أثار ضيقه ورسم العبوس على ملامحه، أجابها وهو يشعل سيجاره «إن رؤوف أجبرك على الجوازة دي وكنتي بتدافعي عن صفوة وإن والدك اتأذى منه ودمرلكم حياتكم وأنتِ كمان»
مال فمها بابتسامة ساخرة متذكرة تهديده لها حين خرجت من المنزل بألا تفتح فمها،سألته برزانة «وتفتكر ليه رؤوف عمل كده؟»
أجابها بإرتباك وهو يتنفس من سيجاره بسرعة «تصفية حسابات قديمة وعلشان والدك طلّق عمته»
قالت بسخرية «وأنت مصدق يا دكتور الأسباب دي؟»
انتظرت إجابته بسيف نظراتها الحاد فقال وهو ينهي حياة سيجارته داهسًا قبل أوان موتها «مش مهم المهم أنتِ متتأذيش»
أشاحت بنظراتها منه في حرج وتوتر متنهدة قبل أن تسأله «ودا إيه؟ احساس بالذنب ولا تصنيفه إيه؟»
قال بجدية «مش عارف بس زعلان إننا سبنا بعض، أنا لسه بحبك يا غزل»
قالت بلهجة حادة شديدة الحزم والتحذير «لو سمحت أنا على ذمة راجل»
ابتسم قائلًا لها بنظرة انتصار مخبئًا عنها ذهوله من دفاعها «أبوكي قالي إنك لسه بنت ومسلمتهوش نفسك»
فغرت فمها ذاهلة من قوله وخجِلة من أقوال أبيها اللعين وكشفه سترها ببجاحة شديدة أمام الغريب ، فقالت مدافعة بعصبية رافضة قوله «محبش تكلمني كدا بس هرد غيبته وأقولك علشان مستاهلوش، علشان هو كتير عليا، علشان حرام يرتبط بواحدة زيي»
بهتت ملامحه وعبس بإنزعاج شديد،أشعل سيجارًا أخرى تحت نظراتها وسأل «يعني إيه الكلام دا؟»
أجابته بهدوء «يعني آه اتجوزت رؤوف حل لمشكلة بس حبيته وكان كل حاجة ليا فالدنيا حتى إنه أكبر من أحلامي»تنهدت بشجن ثم تابعت «مرتضى ضغط عليه علشان يطلقني وهدده، زي ما دخلك فلعبة قذرة علشان يستفيد منك مستغل إحساسك بالذنب ناحيتي»
واجهته بما استنبطته فخنق سيجاره وانتبه لها يستفسر بحاجبين منعقدين «إيه الي بتقوليه دا؟»
تنهدت بصمت ثم روت له القصة كاملة حتى اللحظة، بعدها هتف بحدة «أنا مش مصدق؟ أنتِ عايزة إيه يا غزل بالضبط؟»
أجابته بحزن عتيق وتوسل حاضر في نبرتها «متظلمش ولا تمشي ورا كلام مرتضى، وتساعدني لو فعلاً حاسس بالذنب ناحيتي»
قال بإرتباك شديد وهو يلملم وعيه المسكوب في كل اتجاه كما أفكاره «أساعدك إزاي وليه بتقولي حاسس بالذنب؟»
أجابته بتفهم وعقلها يشرد في الغائب الحاضر «علشان أنت محبتنيش يا عبد الرحمن ولا بتحبني، الي بيحب مبيتخلاش عن حبيبه ولا بيسيبه وقت ما يكون محتاجله بيقبله بكل عيوبه دا لو شافها» فرك جبهته بإضطراب محاولاً البحث عن مبرر أو رد على قولها لكنها قاطعته قائلة «رؤوف رغم الأذى الي اتعرضله وإني آخر حد ممكن يحبه بس حبني ، شاف عيوبي مميزات، خلاني أحب نفسي بعد ما كرهتها، كانلي أب وأم وصديق وحبيب مطمنة بيه وأنا جنبه ومش شايلة هم حاجة ورجعت علشانه وضحيت حبًا فيه وثابتة وصالبة طولي لغاية اللحظة دي علشانه هو وبس،علشان أردله حقه»
تعلقت نظراته بها في إعجابٍ وسحر، يتأمل بإنبهار ملامحها التي عادت لها النضارة ونظراتها اللامعة والشغف في الحديث عنه بمحبة وتوق مُبهر،هز رأسه عائدًا لوعيه
فأنهت حديثها بتوسلها «رؤوف شخص محترم ومتدين متصدقش عنه حاجة واسأل عنه كويس هتتأكد من كلامي، أرجوك الورق الي عندك يأذيه أنا بقدرك وبحترمك متأذيهوش بدون ذنب وأنا اهو حكيتلك واعترفتلك بكل حاجة ومهمنيش حاجة غير تساعدني أنقذ سمعته»
هتف بتفكير عميق وهو ينقر بأنامله فوق الطاولة «عايزة الورق الي والدك شايله عندي؟ »
قالت بلهفة شديدة «ياريت ودي مش خيانة بالعكس أنت بتصلّح حاجة غلط وتنقذ حياتي وحياته»
صمت بتفكير وهي تراقبه داعية في سرها ثم قالت «وياريت تساعدني أهرب من مرتضى؟»
غرق في التفكير مرتبًا أوراقه يفنّد الحقائق قبل أن يهتف «هفكر وأرد عليكي»
أومأت قائلة متقبلة قراره«تمام وأنا واثقة فضميرك يا دكتور وحكمتك»
أومأ بصمت وابتسامة كسولة الظهور قبل أن يسألها «تاكلي حاجة؟»
أجابته وهي تسمع صوت الأذان المرتفع «لا بس أكون شاكرة لو سمحتلي أروح المسجد القريب وأرجعلك نرجع سوى علشان مرتضى»
زادت دهشته وحيرته لكنه وافق مُغيّبًا بالارتباك «تمام هستناكي»
نهضت شاكرة له بفرحة «شكرًا بجد يا دكتور»
****
تفقد أخيه في شرفة الشقة فوجده نائمًا يضع ذراعه على عينيه بسكون، ناداه ليتأكد من نومه فصمت رؤوف رغبة في خداعه وليطمئن أخيه وينام بهدوء وراحة، يكفيه ما عاناه الليالي الماضية، أما هو فالنوم زائر عنيد لا يأتيه إلا سهوًا ولدقائق معدودة بعدها يهيم على وجهه لا يسعه مكان ، عاد يونس ليجاور طاهر قائلاً «نام الحمدلله»
همس طاهر بالحمد فقال يونس بانشغال «مشغول على غزل جوي يا واد يا طاهر»
أجابه طاهر بتأثر شديد «ومين سمعك ربنا يحفظها»
هتف يونس وهو يرتشف من كوب النسكافيه خاصته «وحشتني والله ومفتقدها أنا ما صدقت يبجالنا أخت نتكلم معاها تفهمنا ونفهمها»
عاتبه طاهر بتأفف «يا أخي بتقطع مصاريني ليه دلوك سيبني»
ضم مدعي النوم شفتيه متأثرًا يشاركهما وحشة الصدر والفقد والشوق الذي لا يهدأ ولا يتركه وشأنه.
سأله يونس بإهتمام وهو يشرد في البعيد «حبيت جبل كده يا واد يا طاهر؟»
رفع له طاهر نظراته ضاحكًا بمغزى ساخرًا من مشاعره الوليدة فضربه يونس بالوسادة في امتعاض مغمغمًا بتوبيخ جعل طاهر يضحك بخفوت «هو أنا اتكلمت؟»
صمت يونس متنهدًا فقال طاهر بجدية «مبحبش ولا هحب غير واحدة»
انتبه له يونس متسائلًا «مين يا ياض دي؟ ومن ورايا»
ضحك طاهر مستفزًا له «غزل»
سأله يونس بجدية «نهار أبوك أسود أنت كنت بتحبها؟»
قهقه طاهر تلك المرة بصوت عالي قبل أن يوضح له «افهم يا أبو مخ تخين ولا الحب هيبوظ دماغك»
أجابه يونس بفهم وهو يسترخي في مقعده ليقول بعدها «أنا صفوة دي مش عارف أتقبلها»
أكدّ له طاهر نفس الشعور «ولا أنا، أنا أصلا مبحبهاش من يوم ما شوفتها»
استفسر يونس باهتمام «هو رؤوف اتحرك فموضوع إثبات نسبها؟»
أجابه طاهر بتفكير «مظنش، دماغه وقفت عن كل حاجة ربنا يكون فعونه»
قال يونس متعاطفًا مع أخيه «والله أنا مش عارف أتخيل غزل تفارقنا وتبعد أمال هو هيعمل إيه؟»
قال طاهر بحزن شديد «وهي هتعمل إيه؟ وهتعيش كيف؟ اتعلقت برؤوف جوي»
تنهد يونس قائلًا «ربنا يكون فعونهم ، على الله ميفتحوش معاه موضوع صفوة ويضغطوا عليه »
عارض طاهر قوله «لاه مفتكرش»
هتف يونس بضيق شديد «مش هيسكتوا أنا عارف مش بعيد يطلبوا مننا احنا»
هتف طاهر بإستياء «أنا هترهبن خلاص أنا جلبي لا يتحمل الحب ولا وجعه»
ضحك يونس وهو يدندن ساخرًا من قوله «الحب وسيرة الحب وظلم الحب لكل أصحابه»
رماه طاهر بالوسادة فتناولها متهكمًا يقلد جدته «أول ما هيثبتوا نسبها هتاجي جدتك وتجعد جنبك وتجولك بت خالك يا ضنايا أنت أولى بيها عرضنا وشرفنا»
هتف طاهر ممتعضًا «والله دا أموت أحسن كفاية كانت السبب فبعد أختي عننا والي هي فيه»
تأوه يونس قائلًا بإفتقاد «فينك يا غزولة كان زمانا سهرانين بنتكلم، هوننا عليكي يا هندسة»
كتم الصامت المستمع تأوهه داخل صدره ونهض من رقدته متجهًا للمطبخ، سأله يونس وهو يستعد للنهوض «محتاج حاجة يا حبيبي»
أشار له رؤوف بصوت مبحوح «لاه خليك مرتاح، بس كفاية رغي صلوا القيام وادخلوا ناموا»
اقترب منه طاهر عارضًا المساعدة ببشاشة «طيب يونس لاه مش عايزني أنا كمان أساعدك؟»
نظر إليه رؤوف مليًا باحثًا في ملامحه عن ما يشبهها فيه وقال بابتسامة وهو يضرب على كتفه «اتوضى وتعالى صلي معاي يا طاهر»
نهض يونس معترضًا مغتاظًا «ومجولتليش أنا ليه أصلي معاك حد جالك عندي عذر شرعي ولا إيه مثلا يمنع؟ »
قهقه طاهر بينما ابتسم رؤوف لأول مرة منذ وقتٍ طويل، اندفع يونس قائلًا بإصرار «والله لأصلي بيكم»
سخر منه طاهر «طيب والعذر ياض حرام»
ضربه يونس بالمنشفة موبخًا له فقال رؤوف برزانة «اعجلوا كبرتوا على عمايل العيال دي».
تجرع كوب ماء وخرج متجهًا للمرحاض دخله أولًا وخرج ليدخل طاهر وبعده يونس، فرش رؤوف ثلاث سجادات وجلس منتظرًا لهما..
جاء طاهر راكضًا واحتل الإمامة، فجاء يونس من خلفه قائلًا «ماشي صلي علشان خاطر رؤوف بيحب صوتك»
ضحك طاهر ورفع كفيه مكبرًا ليبدأ الصلاة وأخويه من خلفه خاشعين.
**
قطرت عينيها ماء القهر وهي تسير جواره مُرغمة، مصفدة بالإجبار، تتلفت حولها خوفًا من أن تلمحه أو يراها وهي تنقاد للخلاص منه، فاجأها مرتضى بالأمر حتى لا تأخذ حذرها أو تجادل، قادها كالشاة لمكان ذبحها متبخترًا، دخلت المكتب بخطوات ثقيلة و كلها يرتجف بخوف، تدعو سرًا أن ينقذها الله أو تموت فلا تفعلها به، أن تنشق الأرض وتبتلعهما سويًا قبل أن يُذبح بفعلتها. نظر إليها وشرر الغضب يتطاير منه، ضائقًا بثقل خطواتها وارتجافتها المُلفتة، ابتلعت ريقها تحاول مسايرته فيما يريد وداخلها يطلب من الله معجزة، تبتهل إليه ليجعل لعنته على الظالمين أمثال أبيها، لهج لسانها بالاستغفار متذكرة نصائحه وأفعاله حين تضيق به الدنيا وتغلق الأبواب، بسرعة خاطفة أو هكذا شعرت كانت تجلس أمام المحامية بصحبته، يخبرها بما يريده، رفعت عيناها للمحامية فتشابكت نظراتها معها، شعرت في ملامحها بالراحة والسكينة فاسترخت مثبتة نظراتها على لوحة الاسم «جهاد»
بينما توجست جهاد من هيأتها وارتجافها واضطرابها الواضح..دخل الساعي بكوبين من القهوة ووالدها يتجاذب أطراف الحديث مع المحامية، تناولت فنجانها بيدين مرتعشتين حين قُدم إليها، زاد ارتجاف كفيها حين نطق والدها باسم حبيبها وسبب الخلع، ارتج خافقها فسقط فنجان القهوة على ملابسها مُلفتًا الأنظار إليها، كان وجعها أكبر من لهيب فنجان قهوة صغير، راقبتها جهاد بشك قبل أن تطمأنها
بابتسامة منمّقة «دلق القهوة خير»
اعتذرت غزل بتلعثم فأشارت لها جهاد والشك يساورها من ناحية هذا الثنائي خاصة وأن المقصود بقضية الخلع هو صديق مقرّب لها.
بذكاء ابتلعت صدمتها واستجوبته بعملية،مما زاد من ارتباك غزل وحركاتها المبالغة في تنظيف ملابسها مما جعل جهاد تتوقف و تشير لها «روحي الحمام مفيش مشكلة»
جز والدها على أسنانه مغتاظًا منها ضائقًا بأفعالها، بينما نهضت غزل ملتقطة أنفاسها تستأذن وتعتذر بحروف متشابكة، غادرت تحت نظرات والدها الذي هتف بحذر «ممكن تخلي الأمن ياخد باله ممكن تطلع وهي حالتها تعبانة ونفسيتها مش كويسة بسبب جوزها» قطبت جهاد لاعنة قبل أن ترفع هاتفها وتخبر الأمن بتحذيره؛ لتطمئنه تمامًا من ناحيتها مستغلة ذلك لصالحها، تبسم براحة شاكرًا فأومأت مبتسمة بعملية ثم استدعت أحد العاملين وطلبت منه أوراقًا، على الفور كان يدخل فاستأذنت معتذرة «عمر هياخد البيانات ويرتب مع حضرتك، بعد إذنك همضي ورق وأرجع تكون المدام رجعت أكلمها وحضرتك ملّيته كل البيانات»
خرجت بعجالة متجهة للمرحاض، دخلت مفتشة عنها فوجدتها خلف أحد الأبواب تبكي بانهيار، طرقت الباب قائلة «مدام غزل أنتِ كويسة؟»
أجابتها بعدما تعرفت على صوتها «لا مش كويسة»
هتفت جهاد بقلق «ممكن تطلعي نتكلم على ما بباكي يخلّص»
فتحت الباب فورًا فخرجت عليها كقطة مذعورة، عضت جهاد جانب شفتيها بأسف قبل أن تطمئنها «ممكن تهدي وتفهّميني»
نظرت إليها بقلق وخوف فمسحت جهاد على ذراعها قائلة؛ لتطمئنها «متخافيش وفهّميني»
قالت غزل من بين شهقات انهيارها وعذابها «أنا مجبرة على الخلع، مش عايزة أرجوكي أنا بحبه»
هدأتها جهاد بحنو وهي تضمها بعاطفة «اهدي طيب أنا أعرف رؤوف وممكن أساعدك »
ابتعدت عنها متعلقة بقولها كالقشة، مسحت دموعها وقالت بلهفة «مش عايزة غير تليفون أعمل منه مكالمة وتساعديني أهرب من مرتضى»
ابتسمت جهاد قائلة وهي تأخذها لحوض المياه «اغسلي طيب وشك واهدي وكل الي عيزاه هيحصل»
بفرحة شكرتها واندفعت تغسل وجهها بعشوائية وجففته بسرعة، منحتها جهاد هاتفها وابتعدت فتناولته بلهفة وسارعت بالاتصال تحت نظرات جهاد المترقبة «أيوة يا دكتور عبد الرحمن، مردتش عليا فالي طلبته منك، إيه بجد متشكرة جدًا طيب هنزل بسرعة سلام»
أعادت الهاتف لجهاد شاكرةً فسألتها «هتروحي فين؟» أجابتها بحماس «في حد هييجي ياخدني من هنا »
هزت جهاد رأسها فاندفعت غزل ناحية الباب متوسلة «أرجوكي اشغليه أد ما تقدري لغاية ما أمشي عبد الرحمن قريب من هنا هييحي ياخدني»
أنهت كلماتها بمغادرتها الفورية من أمام جهاد التي عادت لمكتبها مُفكرة في الأمر، حاولت الاتصال بصديقها لكن هاتفه مغلق.
بالأسفل كانت تصعد لسيارة عبد الرحمن بعجالة، اعتدلت في جلستها قائلة«فين الورق؟»
سألها بشفقة وهو يتأمل ملامحها المنهكة «هتعملي إيه بعد كدا؟»
أجابته بحماس «هاخده لرؤوف قبل ما مرتضى يفوق»
سألها بقلق شديد «وبعدها يا غزل؟»
أجابته ببساطة «مفيش بعدها ومش عايزة أفكر في بعدين المهم الورق يروح لرؤوف»
سحب عبد الرحمن حقيبته من الكرسي الخلفي ووضعها على فخذيه، ثم فتحها وأخرج ملفًا ضخمًا ومنحه لها «خدي يا غزل وسامحيني على كل حاجة»
تناولته بفرحة وضمته لصدرها قائلة «كفاية الي عملته دا»
ابتسم داعيًا لها «ربنا يسعدك»انشغلت بضم الورق مع أفكارها فقاد السيارة قائلا «هوصّلك بنفسي لمكتبه علشان أكون متطمن»
شكرت معروفه بشدة ممتنة لأفعاله ونصرته لها.
**
وقف ململمًا أوراقه وأغراضه في حقيبة سوداء ، ماسحًا المكان بنظراته المُجهدة قبل أن يُطرق الباب فيأذن للطارق بصوت واهن «اتفضل»
دخل رامز مرتبكًا فسأله رؤوف باهتمام وابتسامة عملية «خير يا رامز مالك؟»
دخلت قاطعة التعريف واسترسال الآخر في السؤال، منكمشة تضم رزمة أوراق لصدرها الذي يعلو ويهبط بإنفعال واضح، عانقتها نظراته الذابلة بعدما لملمت المفاجأة بشاشة وجهه ورمتها في الحزن القاتم«أنا يا رؤوف»
قالتها وأخفضت بصرها أرضًا منتظرة سماحه لها، وقلبها يدوي بعنف شديد واضح ،نزع نظراته وصرف رامز «روح أنت يا رامز واقفل الباب وراك ومتدخلش حد نهائي »
هز رامز رأسه وانسحب بقلق مُغلقًا خلفه، وقفا صامتين بعيدين وحائرين، تائهين في مشاعرهما الكثيرة، تقدمت ببطء وارتجاف واضح هزّ ثبات خطواتها، تنزلق الأوراق من قبضة ذراعها فتعود للملمتها في حزم وتثبتها على صدرها محتمية بها كجدارن مانعة وسترٍ حصين.
كف إلحاح الشوق في صدره وكممه بكف خذلانها مانعًا صرخاته المستغيثة من العبور والنفاذ، تأملها قليلًا بوجع وحسرة قبل أن يشيح عنها متنهدًا يسأل بجفاء وسخرية «يا أهلا خير؟»
رفعت نظراتها المغرورقة بالدموع إليه وهمست بصوت مبحوح وهي تمد له يدها بالورق «الورق بتاعك»
شملها بنظرة ساخرة حادة وأجابها بحزن «مكنتش عايزه»
صرخت نظراته بباقي الكلمات هاربة من قيد لسانه «كنت عايزك وبس»
عضت جانب شفتيها متأملة ملامحه الحزينة بوقار وذبوله الواضح وهزل جسده، أخفضت نظراتها هاربة من سياط نظراته وهمست «اتفضل»
وضعته فوق المكتب أمامه وسحبت كفيها تفركهما بتوتر ونظرات زائغة مضطربة، نظرت لصدره المنتفض بنبض قلبه الواضح متذكرة مكانها الآمن فيه وبيتها الذي شيده لأجل سكنها، متمنية لو أخذها بين ذراعيه اللحظة وخبأها كما كان يفعل دومًا، التقط إشارتها وفهم ما تقصده نظراتها وتريده فهتف محطمًا آمالها مُسقطًا سقف رغبتها فوق رأسها «هديته خلاص»
حملقت فيه تستوعب قوله ودموعها تتساقط بغزارة كطفلة فقدت كل ما تملك تتجول شريدة طريدة الألم ، فك أول زر في قميصه ملتقطًا أنفاسه حين شعر بالاختناق وهو يقول «خديه الورق مش عايزه، أرميه ولعي فيه اديه للموكلين وخدي فلوس أنتِ وأبوكي براحتك»
حاولت مجادلته فأوقف عبور الكلمات رنين هاتفه، أجاب وهو ينظر لها بقوة «الو ازيك يا جهاد»
صمتت قليلًا بتفكير، مترددة فيما ستخبره به فحثها بهدوء ورفق «في إيه يا أستاذة جهاد مالك؟»
هتفت بنبرة مرتبكة «رؤوف في واحدة كانت عندي هي وأبوها بتقول إنها مراتك وجاية ترفع خلع و..»
قاطعها بصوت مبحوح غائم بالحزن ومنغمس في الوجع وهو ينظر بحسرة لتلك الواقفة أمامه «ارفعيلها الخلع يا أستاذة جهاد حقها القانوني»
رفعت له نظرات مذعورة، خائفة وهي تهز رأسها برفض ولسان عاجز عن التوضيح مُقيد بالمفاجأة والخوف، أنهى الاتصال فورًا ورمى الهاتف فاغر الفم بذهول، مضروب الرأس بمطرقة الخزي والخيبة، حاولت الحديث «رؤوف...
قاطعها صارخًا وهو يضع سبابته فوق شفتيه المرتجفة «أششششش
ثم قال وجسده يهتز بعنف أمامها من قوة الغضب «خلع! طب ليه؟ جولي طلجني مش عيزاك وهطلجك،ايه يجبرني أعيش معاكي وأنتِ معيزانيش؟ دا جلبي لو طلبها بعد عملتك اقطعه وأرميه للكلاب »
تركت مكانها واندفعت ناحيته محاولة تهدأته فابتعد عنها خطوة محذرًا وهو يرفع ذراعيه حتى لا تلمسانها «ابعدي متجربيش مني »
ضمت كفيها متوسلة له وهي تبكي بحرقة فقال بهذيان وهو ينظر حوله كمن يبحث عن سبيل للنجاة من الغرق « جالولنا زمان العرق دساس بس فيك أنتِ مصدقتش، كنت..
التقط أنفاسه وتابع بحسرة «كنت شايفك بتي أنا، عرقك يوم ما يمد يمد ليا أنا، أنتِ مولودة من جلبي من جواه»
خارت قواها فاستندت على الكرسي بكفها محاولة إسكاته ومنع كلماته من التسرب بالوجع لقلبها لكنه واصل بدموع غلبته وأخذت برأس ثباته وقوته، وهتف بسخرية «كنتي جوليلي متضررة.. ولا أنتِ زي آيات مش عايزة وتفضحي ولا يكونش ده جزاة الصبر؟ » وجّه رصاصاته لصدرها كما نظراته الذاهلة المتسائلة لعينيها التي يحب، نهضت من رمادها صارخة فيه «أنا مش زي آيات ولا هكون»
بما يشبه التوهة سألها وكفه تستريح فوق قلبه «وإيه الفرق يا بت أبوكي، دا آيات كرهها كان واضح وأنا واعيله، أنتِ ادتيهاني فضهري»
اقتربت منه فابتعد نافرًا بنظرة تحذيرية قوية فتوقفت عن السير إليه صائحة «معملتش حاجة أنا بحب...
أسكتها بصرخاته «اسكتي متكمليش أنا شبعان كدب منكم كلكم»
فك زر قميصه الثاني بتعب وأنامل مرتجفة وبصر زائغ فهرولت ناحيته بخوف تحاول مساعدته لكنه حذرها وهو يتلوى ألمًا «ابعدي خالص أنا مش طايقك ولا عايزك روحي مكان ما تروحي ومتخلنيش أشوفك يا بت أبوكي»
تأوه بشدة وهو ينحني بجزعه لأسفل في تعب فأمسكت به «رؤوف أنت كويس؟»
دفعها بما يمتلك من قوة بعيدًا صارخًا فيها «امشي شوفتك بتوجع امشي مش مسامحك أبدًا»
اندفعت مفتشة عن حبوبه في الأدراج وما إن وجدتها قدمتها له فدفع كفها بعيدًا بقوة آلمتها، سقطت علبة الدواء أرضاً متناثرة مع شهقاتها وقبل أن تستعيد وعيها كان يتمالك ويسحبها من كفها طاردًا لها مهددًا بغلظة«برة .. روحي كملي الخلع واتجوزي »
سقطت أرضًا محملقة فيه قبل أن يغلق الباب بعنف وتنهض هي منتحبة بقوة لا تصدق ما حدث منه للتو، حامدة الله أنه لا يوجد في الحجرة أحدٍ.
***
بمكتب جهاد كان مرتضى يصرخ بغضب «فينها! راحت فين؟»
قالت جهاد محذرة إياه من التمادي في غضبه بحدة «لو سمحت متعليش صوتك هنا؟»
هتف بحنق شديد «قولتلك متخليهاش تمشي أنتِ مسئولة قدامي عن هروبها »
ضربت بكفها فوق المكتب قائلة بغضب «وأنا كلمتهم وبلغتهم مش مسئولة ولا هشتغل بودي جارد لبنت حضرتك »
صاح فيها وهو يلف جسده بصدمة متجلية على ملامحه «راحت فين؟»
أشارت له جهاد بعصبية «اتفضل حضرتك لما تلاقي بنتك هاتها تمضي على الورق والقضية بنفسها لإن غير كدا مش هينفع»
فرك جبهته حائرًا مرتبك قبل أن يندفع للخارج مفكرًا فيما سيفعله.
#انتهى
#عزف_السواقي
#عائشة_حسين
+

