رواية عزف السواقي الفصل الثاني والاربعون 42 بقلم عائشة حسين
♡الثاني والأربعون ♡
+
تنهد بأسى فسأله رجب بدهشة وهو يراقب ملامحه عن كثبٍ وبعناية شديدة «مالك يا بشمهندز؟»
أجابه يونس بهدوء يناقض طبيعته المعروفة لرجب « مفيش يا رجب»
تأمله رجب بنظرات ضيقة مستنبطة بتفكير قبل أن يهرش رأسه مشعث الخصلات من تحت الطاقية الصوف ويسأل«الدكتورة زينة؟» قالها بتردد وحذر شديد مترقبًا رد فعل الآخر الذي التفت إليه مدّعيا الجهل «أي دكتورة؟»
أخفض رجب نظراته المبتسمة منه حذرًا وأوضح بخفوت «الداكتورة فيروز»
اهتزت ملامحه بالحرج فأشاح سادلًا العصبية ستار فوق ملامحه المضطربة «معرفش وبعدين أنا مالي ومالها؟»
خبأ رجب ابتسامته وقال بإستسلام كاذب «ماشي بس مالك راجع حزنان»
دفعه يونس بعيدًا موبخًا بعصبية بعدما تبدل مزاجه على ذكر اسمها وخاف أن يُكشف انفعاله ويفتضح أمره «أنت مالك هو تحقيق»
زفر رجب موضحًا وهو ينهض واقفًا «يا أبوي بطمن عليك»
أشار له يونس بضيق «روح أعملي شاي»
سأله رجب بإهتمام «مش هتتعشى؟»
تأفف يونس بإنزعاج شديد فما كان ينقصه أن يطفو اسمها على سطح أفكاره المتداخلة الآن «لاه مش عايز أطفح»
عارضه رجب بصبر «دي خامس كوباية شاي يا بشمهندز أنت لسه طالع من عيا»
رمقه يونس بحاجب مرتفع غيظًا «أنت مالك أنا حر»
جادله رجب بعناية واهتمام «طيب اسخنلك شوية شوربة؟»
أصدر يونس نفخًا مستاءً وهو يصرفه بضجر «يا تمشي يا تجعد ساكت» كمم رجب فمه بعدما اختار «اها» ثم
جلس بالقرب منه صامتًا، جلس يونس مرة أخرى نافخًا بإنزعاج...
رنّ هاتفه فانتفض حين قرأ اسم المتصلة وسارع بالإجابة وهو يعتدل في جلسته متحفزًا «الووو»
سبقها نحيبها إلى مسامعه فانتفض واقفًا يستفسر «غزل»
التقطت أنفاسها وأجابته بتلعثم «أنا.. أنا صفوة يا بشمهندس يونس»
ردد بدهشة «صفوة»
أجابته بكلمات سريعة متتابعة محاطة بلهاثها العالي «غزل ادتني التليفون وقالتلي أكلمك علشان توصلني قنا»
سألها بلهفة «وفين غزل؟»
أجابته وهي تلتقط أنفاسها «هرّبتني وفضلت مع بابا» ثم صححت بخوف«أقصد مرتضى»
زفر لائمًا لها «ليه يا غزل؟»
أخرجته صفوة من دائرة اللوم بإستغاثتها «لو سمحت أنا مش عارفة أروح فين في الوقت ده ولا عارفة أتصرف»
تنهد قائلًا وهو يلتقط مفاتيح سيارته من على الطاولة «ابعتيلي اللوكيشن وأنا جايلك»
أشار لرجب بإتّباعه فاستفسر وهو يسير خلفه «هنروح فين»
أشار له يونس بإقتضاب «أمشي وأنت ساكت»
تبعه رجب بحنق بينما هتف يونس مُطمئنًا الأخرى «جاي حالا بإذن الله اطمني» أنهت الاتصال وأرسلت له موقعها الحالي فزفر مغمغمًا «يالله المكان بعيد ساعة من هنا»
هاتفها من جديد قائلا «حاولي تستنيني فمكان عام لغاية ما أوصل علشان أنتِ أبعد مني بتاع ساعة»
هتفت بطاعة وهي تتلفت حولها بخوف «حاضر بس أرجوك متتأخرش»
كتم تأففه وهبط درجات السلّم مغمغمًا بإستياء شديد،في طريقه إليها أخبر طاهر بما حدث تفصيلًا وطلب منه إعلام رؤوف.
******
فرك عينيه نافضًا عنه النعاس محاولًا تثبيت نظراته المهزوزة عليها، ابتسم برضا حين وجدها سليمة معافاة تجلس بإسترخاء ممسكة بكوب زجاجي ترتشف منه ببطء، سألها وهو يقترب منها «بقيتي أحسن؟» يعلم أن طريقه معها وعرًا وغضبه لن يجدي معها نفعًا بل قد يزيد الأمر سوءًا، كما أن عصبيته لن تسعفه في تهدأتها فهي عنيدة، والحصول عليها بعد ما زرعه بها حفيد الحفناوي أصبح صعبًا للغاية، وضعت الكوب جانبًا وأجابته بهدوء«الحمدلله»
سألها ونظراته تتجول في الصالة من حولهما«فين صفوة؟»
قالت وهي تبتسم في وجهه بظفرٍ متحديةً إياه بنظراتها الساخرة «هي مش مشيت؟» أجابته بمراوغة، فهتف بحاجبين منعقدين «صفوة رجعت تاني مرضيتش تسيبك ووافقت تسافر معانا» أجابها ونهض مفتشًا عنها مناديًاعليها بقلق، تابعته بنظراتها المتشفية
المنتصرة حتى عاد إليها هاتفًا بغضب«مشتيها تاني؟»
أجابته وهي تنهض واقفة في استعداد ومواجهة «أيوة لإن كان دا اتفاقنا»
صرخ بها ممتعضًا من أفعالها وتحديها له «أنتِ إيه مفيش فايدة فيكِ!»
قالت ببسمة هازئة ونظرة محتقرة «ومش هيبقى مني فايدة أبدًا يا مرتضى»
زمجر في وجهها فابتسمت متهكمة مستهينة، صفعها بقوة هزت ثباتها وأسقطتها فوق الكرسي بوهن وضعف فتمالكت ونهضت فورًا مكشرة عن أنياب كراهيتها «الي أنا جيت علشانها مش هسيبها تقعد يوم هنا مهما حصل»
فرك جبهته وهو يفكر بحيرة واضطراب قبل أن يهتف «هو عملّك إيه؟ غيّرك كدا إزاي؟»
ابتسمت رغم مرارة الخزي العالقة في جوفها وأجابته «هو غيرني فعلا بس للأحسن، أنا بس شوفتك على حقيقتك يا مرتضى»
دفعها مزمجرًا بقسوة فسقطت مبتسمة تتابعه بنظراتها متشفية فيه وهو يدور في المكان مفكرًا، بعد قليل رفع هاتفه وقال «عبد الرحمن محتاج مكان ننقل فيه أنا وغزل»
وقفت مترقبة، مصدومة مما قال تنتظره حتى ينهي حديثه
«أيوة جات يا سيدي ماشي متتأخرش عليا»
ما إن أنهى اتصاله حتى اندفعت ناحيته تستفسر بحاجبين متشابكين «دا دكتور عبد الرحمن؟»
أجابها وهو يتأمل ملامحها المصدومة «أيوة»
استفسرت بذهول «ودا ماله هو كمان؟»
ابتسم قائلًا بتشفي واضح وخسة «عبد الرحمن عايز يتجوزك»
صاحت فيه مستنكرة ذاهلة «نعم دا إزاي؟»
أجابها وهو يغادر لحجرته بعجالة «زي الناس هتتطلقي ويتجوزك هو لسه عايزك على فكرة»
استوقفته صارخة بدهشة «مش هتطلق يا مرتضى»
استدار مستفسرًا«أمال جيتي ليه؟»
أجابته متلجلجة «علشان زهقت من عمايلك وعشان أرجعلهم صفوة »
هز رأسه مقتنعًا مبتسمًا وقال «تمام وأنا شايف إن جوازك من عبدالرحمن هيحميكي»
هزأت بقوله في عصبية «مش هتجوز غيره يا مرتضى »
استدار متابعًا السير ناحية حجرته فقالت بإرتباك «أنا حامل»
ارتعبت من ابتسامته التي استدار راسمًا لها، ابتلعت ريقها بتوتر شديد منتظرة رده الذي جاء عكس ما توقعت «حلو يعني حسرة قلبه هتبقى حسرتين»
رمشت تستوعب ما دفعت إليه نفسها وزجت روحها به من ظلام، بينما قال وهو يلج حجرته «اجهزي عبدالرحمن هيبعتلنا حد ياخدنا مكان تاني»
أغمضت عينيها ملتقطة أنفاسها برفضٍ فصرخ محركًا إياها من الجمود«يلا ولا عايزاني أجرّك من شعرك»
امتثلت لأوامره مرغمة، دخلت الحجرة وبدلت ملابسها فورًا ثم جلست أمام الكومود مدوّنة فوق ورقة فارغة «صالحتني عليا بس نسيت تصالح الدنيا عليا وتصالحني على أيامي»
نظرت إليها بإهتزاز قبل أن تتركها وترحل وهي على يقين تام من أنه سيأتي باحثًا عنها هنا.
***************
في قنا
دخل طاهر ملهوفًا على رؤيته وقف أمامه حيث يجلس أمام خالته ممسكًا بمصحفه بين يديه يرتل «رؤوف» قالها طاهر فرفع نظراته من على المصحف بإستفسار غير منطوق، جلس طاهر ملتقطًا أنفاسه بينما يتابعه الآخربحاجبين منعقدين ونظرة متوشحة بالحزن
هتفت خالته «ازيك يا طاهر الجلب»
ابتسم واقترب ملثمًا كفها بتقديرٍ وحنو ثم عاد للجلوس من جديد قائلًا وهويراقب ملامح أخيه «كلّمتك كتير
مبتردش»
قلّب صفحات مصحفه قائلًا بهدوء لا يشوبه ترقبًا أو لهفة «خير »
هتف طاهر بحماس «يونس كلمني وقالي صفوة كلمته وراحتله»
أجابه بنفس الهدوء المتجرد من ألوان الحماس الزاهية «زين»
حكى له طاهر ما أخبره به يونس «جالتله إن غزل هربتها من مرتضى وادتها تلفونها»
مال فمه بابتسامة متهكمة وهو يجيبه ببرود «فيها الخير بت مرتضى»
أمسكت خالته بكفه مانعةً إياه من الاسترسال وقول ما سيتعذب به هو فتنهد بصمت.
هتف طاهر بما يشبه الرجاء «صفوة بعتت الموقع ليونس وصورت المنطقة الي كانت فيها روحلها يا أخوي وجيبها»
أجابه رؤوف بنفس الهدوء والارتياح «أجيبها ليه هو أنا مشيتها؟ وبعدين جدرت تهرّب صفوة لو عايزة كان ممكن تيجي معاها بس هي معيزاش يبجى أروحلها أنا ليه»
صمت طاهر بأسى وخذلان قبل أن يخبره بما قاله يونس «جالت جاعدة علشان تجبلك الورق منه والشيكات»
ضحك قائلًا بتهكم ذابت مرارته في حلق طاهر «فيها الخير أصل أنا عاجزومستني حريم تجبهولي! تشبع بالورج هي وأبوها»
نهض طاهر بيأس وتحرك ناحية الباب بصمتٍ وخذلان ثم وقف على الباب قائلًا«رجعت أيوة مغصوبة على أمرها مش بمزاجها مش هتسكت له وهو مش هيرحمها، ويا عالم الجاي إيه بس أنا رايح ومش هسيبها، زعلان منها بس خايف عليها وزعلي ميخلنيش أنسى إنها حتة مني ومحتجالي رغم غلطها»
أغمض عينيه على حزنه مهدهدًا، وكفه يرتجف بخوف تمكن من التسلل لروحه مُوقظًا العشق الذي نام مسمومًا بخذلانها.
صورها له خياله فأغلق مصحفه وصمت مُقلّبًا كلمات طاهر في ذهنه،أيذهب وينقذها من مصير اختارته أم يتركها تتلقى عواقب فعلتها وحدها، هل تهون على قلبه فيتركها وحدها تقاسي أم يذهب ويحررها من قيد والدها ثم قيده.
منحته تماضر الحل الفوري «عمك الله يرحمه كان يجول استفتي قلبك وإن أفتوك»
تنهد قائلًا باستسلام«وجلبي الي هي منه مش هتهون عليه يسيبها وحدها مهما عملت»
*******
دخلت الحجرة فوجدته أمام الخزانة يلملم ملابسه ويضعها في حقيبة صغيرة أرضًا، دخلت وأغلقت خلفها متسائلة «على فين يا طاهر؟»
أجابها بوجوم وهو يتابع ما يفعل «ماشي يا أما رايح لأخوي»
هزت رأسها بالموافقة والفهم فسألها وهو يقف أمامها حاملاً ملابسه المطوية«وأنتِ يا أما جيتي ليه؟»
قطبت مستفسرة قبل أن تجيبه «جيت ليه كيف؟»
هتف بأسف حقيقي ونظرات لائمة «غزل مشت يا أما»
أومأت قائلة بتنهيدة حزينة وهي تتحرك في الحجرة مرتبة ما إشعث من جوانبها وتبعثر من محتوياتها «عرفت يا ولدي»
سألها بحزن وهو يتتبعها بنظراته «عرفتي مشت ليه؟»
أجابته بهدوء ولا مبالاة «معرفاش أخوي بيقول...
قاطعها قائلًا مهاجمًا فعلتها بحسرة ،كاشفًا لها دواخلها المغطاة «ما أنتِ مشيتي عشان متعرفيش يا أما»
توقفت عما تفعل وطالعته بنظرة مستفسرة مرتبكة فتابع شارحًا بنبرة لائمة مشروخة بالخذلان منها «أنا روحي في غزل يا أما من يوم ما شوفتها وهي حتة مني معرفش كيف؟ كان نفسي تقفي جنبها، تحضنيها، تطبطبي عليها، لو مكانش عشانها الطيبة، يبجى
عشاني، طبطبة على رؤوف، حقك تختاري بت أخوكي وأخوكي بس رؤوف طول عمره تحت رجلك أنا مسهرتش جنبك كده، كان نور عينك لما نور عينك ينطفي، عارفة حاله كيف دلوك؟»
بررت باهتزاز والندم ينهشها بأنيابه «جولتله يا طاهر يتمسك بيها وإني معاه »
أردف بوجع وهو يتأملها بحسرة « معاه جول مش فعل، ومشيتي يا أما سبتيها وسبتيه لا فكرتي تكلمي جدتي تهديها ولا توجفي خالي وتخرسي أم صفوة»
طرقت نجاة الباب مستأذنة الدخول فأذن لها، دخلت مندفعة بلهفة تسأل«حامد زين يا طاهر؟»
أجابها بسخرية وهو يلملم أغراضه ويرتب حقيبته «لاه مش زين يا مرت خالي وصفوة عند يونس.. غزل هرّبتها وفضلت هي»
فغرت نجاة فمها قبل أن تغلقه وتسأل «وأنت رايح على فين؟»
أغلق الحقيبة وهو يقول بتأكيد وإصرار «مش هسيب أخوي وهدوّر على أختي وخايف أجعد يا مرت خالي»ختم قوله بتنهيدة بائسة
فابتلعت ريقها وسألته بتوتر «خايف من ايه يا ولدي؟»
أجابها وهو يمسك بحقيبته استعداداً للرحيل «خايف منكم ، من قسوتكم ما اني واد مرتضى»
تشابكت شهقتي سماسم ونجاة كما نظراتهما قبل أن تندفع نجاة وتضرب على كتفه؛ ليفيق من هذيانه قائلة بدموع «كده يا طاهر برضك»
تنهد قائلًا بأسى «ما يمكن ياجي يوم وتجولوها، يمكن ياجي يوم تمشوني زي غزل»
استنكرت نجاة قوله واستبغضته في نفسها «واه يا طاهر ليه كده؟»
أوضح طاهر بمرارة وهو يحمل حقيبته خلف ظهره «وكان ليه كده الي اتعمل فرؤوف وغزل المسكينة، غزل كانت هتموّت نفسها يا مرت خالي»
كتمت نجاة شهقتها بكفها المرتجف فتابع طاهر جلدها باللوم «صفوة بتجول غزل تعبانة،غزل عملت كده فنفسها عشان تريحكم وعشان مش هتحبوها وهتاجوا على رؤوف ورؤوف هيتوجع، مهانش عليها يخسركم وهان عليها نفسها »
ضمهما في نظرة حادة قائلًا «مفكرتوش لو جرى حاجة لغزل؟»
صمتتا بخزي فهتف بحدة «ذنبها فرجبتكم أنتم الاتنين.. علشان أمهات وأختي ملهاش أم واعتبرت كل واحدة فيكم أمها» رمى شرارات اللوم في قش رضاهما
واندفع ناحية الباب فنادته سماسم بوجل وركضت ناحيته، قيدت ذراعه مثبتتة له «استنى يا طاهر متوجعش جلبي»
قال بأسف وهو يبتلع دموعه «أرضي هي الي فيها أختي هي الي استنى فيها، مبجاش راجل لو سبتها لوحدها وهي ملهاش حد، أنا عايز أختي ياسماسم أستقوى بيها و تستقوى بي مش هجعد أتفرج لما تموت ولا ياجي دوري عند خالي وجدتي»
صاحت به نجاة تنهاه عن قوله «بس يا طاهر إياك تجول كده»
نفض كف أمه وتحرّك قائلًا بانكسار « أنتم جولتوا يا مرت خالي من غير ماتحسوا، فوجتوني وهديتوا البيت على روسنا.. عارفة رؤوف خد كام علبة برشام اليومين الي فاتو؟ عارفة إن غزل كانت ماشية بيه فجيوبها جبل مايتعب تحطهاله»
بكت محترقة بعذاب ضميرها توقف استرسال حديثه بضعف «بس يا ولدي»
ابتسم ساخرًا ورحل تاركًا لهما خلفه تتلظيان في العذاب، تشربان من حميم الندم وتتلويان وجعًا بالحسرة.
*******
سحبها مرتضى من كفها عنوة وأجلسها جواره غصبًا لا يصده تأففها ولايردعه نفورها، أخرج هاتفه وضغط
الأرقام تحت نظراتها المهزوزة ومؤطرة الجسد بنظراته المترقبة الماكرة، جاءه صوته فابتسم وارتجفت هي مثبتة نظراتها على الهاتف بلهفة متمنية اختراقه اللحظة إليه«الووو»
دق قلبها بين جدران أضلعها بقوة، وهي تستمع لصوته الدافيء بدموع تجمعت واحتشدت في المقل، لسانها يتحرك فتوقفه بقوة، تريد احتضانه ولو بالكلمات والاعتذار منه على ما بدر منها لكنها عاجزة كل العجز الذي يدفع دموعها الآن للتقافز
«ازيك يا متر وحشتني، كده يا راجل البت تهرب منك»
عضت قبضتها محاولة التماسك اللحظة وهي تستمع لصوته «عايز إيه اخلص؟» تمنت لو خمشته بأظافرها اللحظة عقابًا له على قوله الجارح وسخريته لو هشمت رأسه الممتلئة بالإثم.
أجابه مرتضى ونظراته تتابع ملامح ابنته بدقة «يعني لا سألت ولا دوّرت»
قال رؤوف بجفاء واستهجان ساخر«طز يا مرتضى ولا يحرك فيا شعرة»
مال فم مرتضى بابتسامة خشنة وهو يتابع اهتزاز جسد ابنته وترقبها دورها، قال بنظرة متشفية «طلقها يا متر»
أجابه رؤوف ببرود ساخر «كان على عيني بس أنا مبطلقش غير لما أربي»
ابتسمت برضا من بين دموعها بينما هتف مرتضى بتهكم «لا احنا مهمتنا نربيك أنت» جز رؤوف أسنانه بغيظ منشغلًا بأفكاره عنها عن الرد،متنازلًاعن مبارزته بالرد حتى يسمع صوتها ويطمئن عليها
«عايز أكلمها اتأكد منها وبعدها هطلق»
رفرف قلبها فرحًا واقتربت في عزم أغاظ مرتضى لكنه هتف متحديًا«ماشي»
تناولت الهاتف بلهفة جائع للقمة عيشٍ تحييه وشربة ماء ترويه، حاولت تنظيم أنفاسها اللحظة ففشلت وتلعثمت «رؤوف.. أنا..
قاطعها والدها بضجر «اخلصي قوليله»
هتفت وهي تستمع لأنفاسه الهادرة، هتف مُخلّصًا إياها من قيودها «جال عايزة تتطلقي يا بت أبوكي»
أجابته وقلبها ينتفض بعنف «أيوة علشان.. »
ثم تعمدت إغلاق مكبر الصوت قائلة بعصبية «لا مينفعش متطلقنيش، علشان أعرف أعيش بالأمل ده»
صاح والدها بغضب « أنتِ بتقولي إيه افتحي الصوت»
فقالت بإرتباك وهي تتكاسل وتؤخر منحه الهاتف حتى يفهم ويتعلق غريق هواها بقشة أمل «زعق وقالي مش هيحصل» بحرفية أنهت الاتصال ومنحت والدها الهاتف هاتفة بضجر «قفل»
فغر الآخر فمه دهشةً وذهول، وهو يجلس جوار حقيبته مُفكرًا في قولها و فعلها، شوقه لها يشغله عن الاهتداء لسبيل مقصدها، يضبب الأفكارويغطيها بغيماته..
همس بما نطقت بها محاولًا فك شفرات كلماتها ولغز فعلتها حتى توصّل للحل«هي لا ترغب في الأمر وتريد بقائها على ذمته أملًا تحيا به حتى يحين اللقاء من جديد ابتسم متابعًا لملمة أغراضه بعزم وإصرار على إعادتها لأحضانه من جديد مهما كلفه الأمر.
*****
بعد ساعات
دخل الشقة متحفزًا،جلس أمامها دون سلام، غاضب، مرهق، وحزين بإنكسار كأنه فقد روحه، ملامحه خالية من قوة كانت تزينها، منطفيء كأنه مصباح قديم أُستهلك ألف عام حتى نفذ وقوده.
هتف بخشونة «احكيلي يلا بالتفصيل يا صفوة»
طأطأت رأسها بخجل وارتباك وهي تفرك أناملها بسرعة وارتجاف، انتهك الغضب حرمات الصبر فصاح «ما تنطجي هنجعد نبص لبعض كده»
ارتعد جسدها من نبرته العالية، فوضع يونس كفه فوق كتفه هامسًا بتعقّل«اهدا»
زاحم شعور الشفقة والرحمة غضبه فمسح وجهه مستغفرًا؟ وصمت يهزساقه بتوتر شديد، حكت له ما حدث
بالتفصيل بنبرة متلعثمة بالكاد استطاع لملمة أحرفها وتشبيكها وفهمها حتى قال بفزع «مهديء إيه؟»
ابتلعت ريقها بدفقة سريعة وقالت متذكرة ما حدث «الدكتور الي جابه كتبلها مهدئات ..لما رجعت تاني لقيته بيفضيها في العصير بجرعات أكبر من الي بلّغه بيها وقالي عليها»
وضع كفه موضع قلبه يتنفس بسرعة محملقًا فيها بفم فاغر ذهولًا فتابعت وهي تنكمش رهبةً «وإبر ،هو عايزها تنام علشان متنهارش ولا تعارضه دا الي فهمته منه»
زمجر يونس بغضب شديد بينما قال رؤوف بعجالة وهو يلتقط مفتاح السيارة من أمامه «عارفة المكان ومتأكدة منه؟»
هزت رأسها وهي تطالعه بحذر وأطياف من توسل بالرحمة «مش فاكراه أووي والله ،خدني ليه بالليل ولما هربت بالليل هو قريب من المكان الي استنيت يونس فيه»
قال آمرًا بحدة وهو يخرج بسرعة«تعالي هنلف في المكان لغاية ما نلاجيه دا لو مكانش مشي بعد هروبك»
نهضت فورًا بطاعة، تسير خلفه بحذر وخوف داعية الله أن ينجّي أختها.
حين تعرفت على المبنى وأشارت إليه بفرحة ركن السيارة بسرعة وترجل منها ساحبًا سلاحه من السيارة ودسه ببنطاله خلف ظهره،بقيت هي ويونس بالخارج
، يونس الذي شك في بقاء مرتضى وفي العثورعليها بعد كل تلك الساعات،هو يعرف أنّ أخيه فكر مثله، لن تفوته ثغرة كتلك وأنه يائس من الأمر، لكنه لا يتكلم ولا يبوح يتعلق بأقل القليل من أمل، غامر بالدخول وخلفه طاهر في أمل
،أخبره حارس العقار أن المستأجر رحل، لكنه صمم على الدخول ورؤية المكان بنفسه، نقده ما يسدّ به فمه عن الكلام ويفقده شهية الفضول والاعتراض ، ثم ولج وخلفه طاهر محطم النفس منقسم القلب يلقي عليها باللوم في كل خطوة، بينما كان الآخر يتجول سالبًا كل الأنفاس التي تفرزها رئتيه باحثًة عن عطرها وعبق أنفاسها، يخيب مسعاه وحدثه فيزفرها من صدره ويتابع البحث عن ريحها وآثارها في المكان، دخل المطبخ فوجد فوق الرخامة الدواء الذي أخبرته عنه صفوة بأنها رأت مرتضى يطحن حباته ويدسهم لها في كوب العصير بعدما زاد الكثير على الجرعة المقررة، نظر إليه بأسى وقلب منقبض تعصره أيادي الخوف وبعدها دسه في جيب بنطاله باحثّا في الحجرة المفتوحة، تعرفت خياشيمه على رائحتها فور دخوله فتأوه بوجع وهو يسلب منها الكثير مُعبقًا صدره، يملأ خزائن رئتيه منها
، تجوّل متتبعًا آثارها بأنامله تلك المرة باحثًا عن بصمة أناملها فوق الأثاث البسيط، حتى وصل للكومود وقف أمامه متطلعًا للورقة التي تركتها، رفعها قارئًا وهو على يقين من أنها له وأن كلماتها تعنيه وتخصه، فرش أنفاسه الملتهبة فوق الورقة، محيطاً كلماتها بلهيبها الناري،ثم لعن بفؤاد جريح«ملعون أبوها الدنيا» سأله طاهر بلهفة
«كاتبة حاجة؟»
طوى الورقة ومنحها له فقرأها طاهر وأعادها له دامع العينين وبعدها انصرف هاربًا تاركًا له يلملم ما تساقط منها، جلس فوق الفِراش منحنيًا للأمام بانكسار، يحيط رأسه بكفيه متهدل الأكتاف بوهنٍ شديد، قليلًا واعتدل ممررًا كفه فوق الفراش بحنين وشجن، التقط ما تناثر من عطرها و نهض واقفًا تاركًا الحجرة بسرعة هاربًا من كل شيء.
حينما عاد متجهمًا ممتقع الوجه ذابل العينين اندفعت تستفسر بخوف«لقيتها؟»
أجابها بإقتضاب و جمود وهو يشيح بعيدًا عنها بنفور يعجزعن مداراته« لا»
سألته بتوتر شديد واضطراب واضح «هتعمل إيه؟»
أجابها بحدّة وهو يرفع حاجبه مقتًا في وجهها الباكي المتشنج «متشغليش بالك»
ثم قال لطاهر بقسوة وهو ينظر إليها «خد بت خالك ووديها لناسها»
اعترضت على قوله بصوت ضعيف مرتعش «عايزة استنى أدور على غزل معاكم»
صعد السيارة وأشار لها بعصبية«مفيش استنى! هتنزلي وترجعي زي ماغزل كانت عايزة»
حاولت الحديث لكنها فشلت وهو بهذه الحالة، حبست دمعها وطأطأت رأسها بطاعة وخشوع، صمت ملتقطًا أنفاسه مستعيدًا رباطة جأشه وأمرها «أول مانوصل جهزي نفسك»
هزت رأسها بطاعة قبل أن تمنحه صمتها وعبوسها ردًا، ربت يونس على كتفه مؤازرًا ومهدئًا دون كلمات مكتفيًا طوال الطريق بنظراته المواسية الدافئة خوفًا من كلمات تشقق جدارن كبريائه أو تتصدع بها قوته.
حينما عادوا للشقة وقفت أمام الحجرة مفكرة تلملم ما استطاعت من الشجاعة والقوة، عادت ما خطته هامسةً تبرر بانكسار ومهانة «أنا والله ماليش ذنب ،أنا رجعت علشانها ورفضت أسيبها بس هي أصرّت وقالتلي انك اتحملت كتير بسببي وعلشاني»
شاخ فجأة وابيضت شعيرات ذقنه النامية، كتم أساه داخله ممسكًا بصدره مانعًا دقات قلبه العالية من التسرّب للخارج كاتمًا صرخاتها وعويل أنفاسه ، حابسًا ثورة روحه خلف حائط
الصبر وهو يستمع لها بنظرة منكسرة، ابتلعت صفوة ريقها وتابعت «هي بتحبك أوي والله وعملت كدا علشانك وعلشان الورق» ثم استعطفته متوسلة «سامحها أرجوك»
تنهدت بارتياح حين أوصلت له كلماتها محطمة أصناف خوفها منه وحذرها وبعدها هرولت للحجرة تستعد للمغادرة كما أمر.
*******
بمنزل مرتضى
ألقت جسدها فوق الفِراش بتعب، بعد صراع فكري محتد ومناقشات عقيمة مع والدها، سعلت بتعب وهي ترفع الغطاء فوق جسدها الذي تسلل إليه برد الوحدة الوهمي وبدأ في الإرتجاف.. اقتحم والدها الحجرة فأبت النهوض، مسلّمة جسدها للوهن والعجز، رفعت له نظراتها المشوشة فأمرها بجفاء«قومي البسي هنطلع»
غمغمت بهلاك وهي تنكمش أكثر متقوقعة على نفسها «مش قادرة»
أمرها بحدّة «عندنا ميعاد مهم»
زفرت أنفاسها الملتهبة هامسةً بتوسل وهي تفرك جبهتها المشتعلة «يوه بجد مش قادرة سيبني»
هتف بقسوة مهددًا لها «قومي بدل ما أخدك غصب عنك»
بكت متوسلة والألم في جسدها يشتد وينتشر ملتهمًا عافيته «حرام عليك بقا مش قادرة بموت»
صرخ بها دون رأفة «قومي يلا خمس دقايق وتكوني جاهزة»
قالها بجفاء وخرج تاركًا لها تحاول الجلوس بصعوبة، جلست ملتقطة حبتي مسكن من فوق الكومود تناولتهما ونهضت متجهة بتثاقل للخزانة داعية عليه وهي تجفف دمعها بطرف كم بجامتها «منك لله يا مرتضى»
بعد قليل كانت تجلس جواره في السيارة غائبة عن الوعي مسترخية بإنهاك، أفاقت بعد قليل على ندائه ونهضت
متأرجحة بنظرة زائغة وجسد فقد قدرته على التماسك ،لينًا رخوًا بالسقم، أمسك بكفها وجرها خلفه كالشاة، كلماعلِقت في وهن جسدها وسقطت أرضًا جذبها بعنف حتى وصلت للشقة المقصودة، نظرت حولها للوجوه المترقبة بخوفٍ وقلق قبل أن تسأله بوهن وهي تضع راحتها فوق جبينها الندي بعرق المرض«احنا فين؟»
تجاهل سؤالها وحدّث الممرضة التي أمامه «عندنا ميعاد مع الدكتورة»
قطبت غزل وجسدها يرتعش بالخوف والقلق، هزت ذراعه متسائلة بإضطراب «احنا فين يا مرتضى وجايبني هنا ليه؟»
سحبها خلفه دون كلمة حينما أذنت له الممرضة بالدخول مؤكدة أن الطبيبة في انتظاره.. دخل بها وأجلسها وهي على حالها من التوهة والتعب،جيفة مُلقاة على قارعة طريق الحرمان يتناوب عليها المرض والقلق،ينهشانها دون رحمة.
مسحت وجهها بكفها ونظرت حولها مستكشفة برهبة، قارئة اللوحات الجدارية بصعوبة وثقل في الإدراك بينما هتف هو بابتسامة عريضة مرحبًا بالطبيبة التي استقبلته بكل ود وبشاشة ،أشارت لها الطبيبة بعدما نهضت في عزم «اتفضلي قدامي على سرير الكشف»
بهذيان سألتها ورأسها يدور مع تنقلات الطبيبة حولها «كشف إيه وسريرإيه؟»
هتفت الطبيبة وهي تشير للممرضة بنظراتها أن تتدخل «بسيطة مش هتحسي بحاجة»
وجّهت نظراتها المرتعبة مستغيثة بوالدها جامد الملامح الذي نهض فورًا متنصلًا من المسئولية ، هاربًا من استغاثتها بكل تجبر وبرود، صاحت بأنفاس متسارعة «سايبني ليه؟ أنا هنا ليه؟مرتضى أنت مش هتعمل فيا كده صح »
منحها نظرة جافية وخرج فورًا فأمسكت الممرضة بذراعها وسحبتها في قسوة قائلة «تعالي متخافيش اطمني»
حاولت تخليص ذراعها من قبضة الممرضة الحديدية متوسلة لكنها فشلت وخارت قواها بالخوف والضعف، دارت الأرض من تحت قدميها فاضطرت للاستناد ومسايرتها حتى الفراش المنزوي بأحد أركان الحجرة القاتمة ، تمددت متسائلة بهلع «هتكشفي عليا إزاي ؟»
جهزت الطبية الجهاز الذي أمامها في استعداد مشيرة للمرضة أن تقوم بعملها، اقتربت الممرضة ورفعت بلوزتها كاشفة عن بطنها،والأخرى تزداد ارتجافة جسدها وتفقد قدرتها على المقاومة شيئًا فشيء ، تابعت الطبيبة عملها بمهنية شديدة واقتضاب غير مُفسر بينما الأخرى جسدها يختض بفعل البكاء المكتوم داخل صدرها والذي لا تجد قدرة على إخراجه،مررت قطعة معدنية فوق بطنها المنكمش بفعل الخوف وحبسها أنفاسها وبعدها
تركتها وغادرت دقائق فتنفست غزل الصعداء وقد فهمت ما يفعلونه بها وسبب إحضارها،مرتضى يشكك في قولها ويريد تأكيدًا أو نهي.. حاولت النهوض لكن دخول الطبيبة بعد قليل بصحبة ممرضة أخرى بنظرات حازمة مليئة بالعزم جعلها تنكمش تعبًا وإرهاقًا ورعبًا، أشارت الطبيبة لواحدة أن تمسك بذراعي غزل وتقيدهما وللأخرى بتهيئتها للكشف، صرخت غزل والدوار يلفحها وحاولت القفز بسرعة وتخليص نفسها من قبضات يديهم«في إيه؟ حرام عليكي»
هتفت الطبيبة بجفاء وهي تشير للممرضة بسرعة العمل «ولا حاجة هنتطمن عليكي اهدي» ثبتوها جيدًا
فرفست غزل بقدميها صارخة وهي تتململ فوق الفراش الضيق «لا بتعملي إيه حرام عليكي » ثم نادت بصوت مبحوح «مرتضى»
بكت متوسلة صارخة بعجز وهي تحاول الإفلات رغم وهن جسدها«يامرتضى حرام عليك»
هتفت الممرضة بقسوة وهي تثبت جسدها بحرفية «اهدي أمال متتعبيناش الدكتورة هتتطمن وخلاص»
توسلتهم بذل «لا والنبي متعملوش كدا لا أرجوكي لا » حين فهمت ما تنوي عليه الطبيبة تلوت باكية متوسلة«كدا مش هيسامحني يا مرتضى، أنا عرفاه كويس بلاش تأذيني كدا»
هتفت الطبيبة بإستياء وقسوة «بس خلاص اهدي»
توسلتها غزل بحرقة «سبيني لو عرف مش هيسامحني عليها دي »
ثم نادته مستجدية «رؤوف تعالى خلصني»
صمت الطبيبة أذنها وتابعت ما تفعله بصمت، وهن جسدها وضعف فنادته بخفوت «رؤوف» ثم صرخت صرخة مدوّية حين كشفت الطبيبة سترها وانتهكت خصوصيتها دون رحمة أو ذرة شفقة أو مراجعة لما قاله أبيها وطلبه منها.
أنهت الطبيبة ما طُلب منها وابتعدت خالعة قفازاتها تقول بإستياء «ما أنتِ بنت أهو أمال ليه الحوارات دي
وعايزة تفضحي أبوكي»
سلّمت نفسها فريسة للعجز والوهن تهمس بإسمه في نداء مذعور مرتجف وهي تضم ركبتيها لصدرها متقوقعة تهذي بحمى تفور في جسدها «أقوله إيه يا مرتضى منك لله، أنا عايزة أموت يارب خلاص تعبت»
********
بعد مرور يومان
دار في الشقة بغير هدى ولا وجهة، يتنقل بين حجراتها بتعب، مفتشًا عن الراحة في أركانها كإبرة في كومة قش، يجلس مرة ويتمدد أرضًا مرة، ويقف في الشرفة سارقًا الأنفاس ألف مرة، عصى سلطان النوم وتمرد، ندد بالعذاب وهدد بالحرمان، عاث في عقله فسادًا، فشلت كل محاولاته في إخضاعه له والسيطرة عليه، فهام على وجهه يزفر الأنفاس الحارة من الصدرالملتهب، يفرك صدره محوقلًا،
مندهشًا من هذا الضيق الغريب الذي يسيطرعليه وهذا الجزع الشديد غير المبرر في هذا الوقت، هناك ثقلاً يجثّم على صدره..
أعدّ القهوة وجلس يرتشفها ببطء حتى أنهاها فتمدد مناجيًا الراحة، لكنها أوصدت بابها في وجهه وتركته شريدًا، يجوب طرقات المشاعر كالمجذوب مناديًا عليها يتوسل ، يستعطف، لينال فتاتًا يقوّيه، جلس من جديد يفرك جبهته بإرهاق.
رآه يونس فهمس لطاهر بقلق «أخوك منامش ياض؟»
هز طاهر رأسه بأسف وهو يطالعه من الباب الموارب أمامه، فرك يونس منابت شعره متثاءبًا يستعد للاستيقاظ جوار أخيه بعدما قررا هو وطاهرالتناوب على رعايته وتفقد أحواله والسهر جواره حتى لا يتركونه وحيدًا يعاني، أشارله طاهر «أطلع شوفه دا شرب
جهوة كتير وماشي على رجله في الشجة كنه مدبوح وبيفرفر»
زفر يونس مغمغمًا بأسى «لا الحب نفع ولا الوحدة شفعت»
خرج يونس من حجرته راسمًا ابتسامة لطيفة، جلس جواره قائلًا «منمتش ولا إيه؟»
أجابه رؤوف بإرتعاش وهو يفرك جبهته «لاه ممعاكش منوم؟»
أجابه يونس بنظرة مشفقة وهو يربت على ركبته بحنان «لاه بس لو عايزأبعت أجبلك»
تململ رؤوف في جلسته بتوتر غريب قبل أن ينهض قائلًا «ماشي»
غادر للشرفة ملتقطًا أنفاسه بينما أمسك يونس بالهاتف وطلب له الدواء، بعد قليل كان يتسطح في أرض الشرفة دون بساط أو غطاء مسلّمًا جسده المتقد للأرض الباردة علها تمتص حرارته وتمنحه بعض البرودة، حاول طاهر إثنائه بحنان لكنه رفض، بسط له فرشًا فأبعده رافضًا، فاضطر طاهر للجلوس جوار رأسه يتلُ ما تيسرعليه من آيات الذكر الحكيم حتى خضع له سلطان النوم.
بعد قليل انتفض متصبب العرق يناديها مادًا ذراعيه بلهفة، ترك طاهرمصحفه واقترب منه مهدئًا له..
تفقد المكان حوله ثم قال بوجع «غزل بتنادي يا طاهر» ربت طاهر على كتفه بأسى بينما تابع هو في لومٍ وعجز «جالتلي يا بابا ودي أول مرة تعملها ياطاهر،ليه سبتها تمشي! »
رنّ هاتفه فنهض نافضًا آثار النعاس يذكر الله في خطواته حتى وصل للهاتف وأجاب «أيوة»
أجابه مرتضى ببروده المعتاد «إيه صحيتك؟ معلش»
ضم رؤوف قبضته جوار ساقه وانتظر دلوه بصبر وحكمة، هتف مرتضى بضحكة ساخرة «مش عارف أشكرك إزاي يا متر والله.. بقا ترجعهالي زي ماخدتها بنت بنوت!»
جحظت عيناه وانتفض جسده مضروب الظهر متهدم الكيان بعصا الكلمات الغليظة، انحنى قليلًا يتنفس بصعوبة جلبت ضحكات مرتضى الخشنة وأردف متشفيًا «والله لما سمعت الكلام الي داير عليك في البلد من أبو آيات مصدقتش بس دلوقت صدقت»
انحنى مستندًا بكفه على الطاولة فهرول طاهر ممسكًا به يدعم جسده متسائلاً «إيه يا أخوي مين؟»
استمع مرتضى للهاثه بمتعة وتابع طعن كبد رجولته بحقارة «مش عايزك تطلقها، هروح لأحسن محامي وأرفع خلع للضرر»
استجمع قواه وصاح فيه بغضب «اديني غزل»
ضحك مرتضى ساخرًا من طلبه «معلش مش فاضية بتحضر لجوازة عدلة بعد الخلع »
أنهى مرتضى الاتصال فضاق صدره وثقل لسانه ولم ينطق، يتطلع حوله بهلع كأن روحه تسلب من جسده، دارت الدنيا من حوله وصوت طاهرالمستغيث بيونس يأتيه من مكانٍ سحيق و يبتعد شيئا فشيء عنه،حتى سقط أرضًا محاطًا بصرخات أخويه.
#انتهى
#عزف_السواقي
#عائشة_حسين
#رواية_صعيدية
1

