رواية عزف السواقي الفصل الحادي والاربعون 41 بقلم عائشة حسين
الواحد والأربعون
+
صعد للأعلى لاهثًا، استقر جوارها متسارع الأنفاس يسأل «ازيك ياغزولة؟»
مسحت دموعها التي ما جفت يومًا ولا سكنت بين الجفون هادئة وهمست وهي تتأمله بمحبة «وحشتني يا طاهر»
ضمها لشعوره بحاجتها لذلك، أفاض عليها من دلاله وحنانه «وأنتِ أكتر»
تمسكت بذراعه في راحة، وهي تضع رأسها على كتفه بصمت، عاتبها بلين مسّ شغاف قلبها «مبتنزليش كتير وأنا ويونس مفتقدينك»
أجابته مُلقية بأعبائها على صدره الواسع برحابة الفضاء «رؤوف رافض نزولي خالص»
تنهد مؤيدًا قراره «معاه حق الجو تحت مش حلو»
صمتت فبتر السكون من حولهما بإعترافه الودود وطفولية أفكاره وبراءتها«خوفت جوي متطلعيش أختي يا غزل كنت مرعوب يتبني بيني وبينك حاجزبعد كده، لو كنت بصتلك بس رؤوف كان قطع خبري من الدنيا»
ضحكت برقة متحررة من أوجاعها تعترف بمرارة وغصة «أنا بقا اتمنيت لوكنت أنا مكان صفوة أو طنط سماسم كانت خلفتني أنا»
ضربها بخفة على رأسها معاتبًا بمزاح «يا جلبك أهم حاجة تبجي بت عم حبيب الجلب وأنا عادي»
ابتعدت عن أحضانه تمسح دموعًا تعلقت متأرجحة فوق أهدابها «اديني مغروسة يا طاهر لا مرتضى سايبني أفرح ولا عارفة هيحصل إيه»
طمأنها طاهر ببسمة حنون «خليكي واثقة فرؤوف، هيخلّص كل حاجة متجلجيش وهيريح الدنيا»
همست بإرتجاف فاتحة أمامه خزائن روحها«نفسي اطمن زيك يا طاهر»
التفت يسألها بقلق وهو يتأمل رجفة جسدها بحزن وعبوسها المقبض«مالك ياغزل احكيلي؟»
أجابته بحرقة وهي تتأمل المكان من حولها بعين الشوق، تملأ نظراتها منه«مرتضى مش هيسيبني ولا هيسيبه»
قطب مستفسرًا بتجهم رافضًا ما يصله من فهم «جصدك إيه يا غزل؟»
التفتت إليه هامسةً بوجع سحق الفؤاد «أنا همشي يا طاهر، هروح لمرتضى وأريّح أهلك وأخفف حمل رؤوف»
انتفض واقفًا يهتف باستنكار وغضب «بتجولي إيه؟ أنتِ بتتكلمي بجد ولاإيه؟ »
وقفت متعكزة على الجدار تؤكد بدموع حارة «أيوة يا طاهر مفيش حل غيركدا قدامي أنا تعبت ورؤوف تعبان»
صاح فيها دون حساب «وتسيبيه بعد كل الي عمله وبيعمله عشانك؟ تحرجي قلبه وتكسريه وهو واجف للكل لجل خاطرك دا معملهاش عشان حد فحياته ؟»
أوضحت له متوسلة بنظرات راجية «افهمني يا طاهر مش عيزاه يخسر أهله بسببي ولا يتأذي ومكتبه واسمه»
هدر فيها بغيظ لا يهاب دموعها «رؤوف مش هيخسر حاجة يجدر يحلها، متكسرهوش يا غزل وتشمتي فيه حد»
تأذى قلبها بقوله وهدره، التقطت أنفاسها وقالت «طاهر رؤوف مكتبه هيتقفل وكله هيبوظ الوقت مش فصالحه ودماغه مضغوطة وتعبه بيزيد»
أفهمها ببسمة ساخرة «والله ولا يفرق معاه طالما أنتِ جنبه دا وجودك هيجويه ويعينه، فاكرة رؤوف المكتب هيهمه ولا الدنيا كلها تفرقله؟ تبجي لسه معرفتهوش ...؟»
حاولت التوضيح بحدة «طاهر افهمني وقدرالأمور صح»
صاح فيها بغضب «أجدر أيوه، لكن أفهم إيه؟ إنك عايزه تهدمي الي بناه وتضيعي نفسك؟ أنا أول واحد هجفلك وأمنعك وأبلغه بنيتك »
أمسكت بكفيه متوسلة بإنكسار «لا يا طاهر أرجوك»
نفض كفها محذرًا إياها بغلظة «لو عملتيها يا غزل مش هكلمك عمري وهنسى إن ليا أخت هتبجي وقتها زيك زي أبوكي عندي»
انتحبت بقوة رافضة قوله «لا يا طاهر مش هتعمل كدا»
لكنه صاح فيها بقوة «هعمل يا غزل أخوي ميستهلش وجولتلك مرة إلا رؤوف وهجولهالك تاني، رؤوف أغلى من نفسي عندي وميرضنيش الي هتعمليه ولوعملتيه هيبجى بيني وبينك»
حاولت إقناعه فزجرها بنظرات قوية وتقهقهر منهيًا الحديث بانسحابه تاركًا تهديده مُعلقًا كجرس إنذار لها حتى يكون آخر ما تسمعه ونهاية الحديث وتمام حوارهما لتفكر ألف مرة قبل أن تفعلها .
*********
دخل أيوب الحجرة باشًا كعادته، جلس بالقرب منه قائلًا «حمدالله على سلامتك يا خال العيال»
ابتسم مؤمن وأجابه بحزن «الله يسلمك يا أيوب»
هتف أيوب بمرح محاولًا التخفيف عليه «أنا جايبلك هدية هتعجبك»
شكره مؤمن والحزن لم يفارق محياه «شكرًا يا أيوب»
رفع أيوب الحقيبة وفتحها أمامه مُخرجًا منها هاتفًا جديدًا ومنحه له قائلًا بودّ «دا يا عم تليفون جديد بشريحة جديدة علشان تعرف تكلّم العيال براحتك وفأي وقت»
جزت رحاب أسنانها بغيظٍ وغضب من أفعال زوجها وتصميمه على إفساد مخططاتها.
تعلقت نظرات مؤمن بالهاتف في حاجة ماسة أفصحت عنها نظراته لكنه أخفضها قائلًا «مفيش داعي للتكاليف يا أيوب»
عاتبه أيوب بمرح «يا ابني عيب عليك احنا أخوات ودي هدية بسيطة وبعدين أنا مدفعتش حاجة أختك يا سيدي هي الي كانت عملهالك مفاجأة»
فغرت فمها مندهشة من قوله ونظراته الماكرة التي سُلطت عليها بمكر ومرح فوضوي، غمزها وتابع تشجيعه لمؤمن «يلا خد»
تناوله مؤمن بتردد رغم سعادته الواضحة ولهفته ساكنة المقل، ربت أيوب على كتفه برضا ومحبة.. ثم نهض وغادر تاركًا له يحاول مراسلة زوجته.
********
«أنتِ مش بنتي يا صفوة»
قالها ببرود وهدوء وهو يدهس سيجاره بقدمه بنظرة ملولة مستهينة، رفعت نظراتها إليه بصدمة، تتأمله كأنها لا تعرفه وبعدها همست بإضطراب«بابا..»
قاطعها بهدوء وهو يخترق روحها بنظراته النافذة «أنتِ بنت حامد وأنا كتبتك باسمي»
انكمشت بقلقٍ وذعر وهي تسأله بضياع أطبق على نفسها «إزاي وليه؟ بابا أنا معملتش حاجة»
ابتسم وهو يتأملها بسخرية كصفعة لها وقال «دي الحقيقة يا صفوة»
قالت بدموع غزيرة طفرت من عينيها الذابلة وهي تحيط جسدها بذراعيها محاولة تثبيته والحدّ من ارتجافته القوية «بابا أنا عارفة إنك زعلان مننا علشان غزل بس والله ماليش ذنب»
هز رأسه قائلًا بلا مبالاة «عارف وأنتِ هنا علشان أرجع بيكي غزل زي ما أمك لبست بيكي غزل في الحيط وخلتها عصتني»
ارتعدت أكثر من قوله فبررت بأنفاس متسارعة وهي تنظر للمكان الذي يضيق حولها بخوف «غزل بتحب رؤوف وهو بيحبها أوي»
تحوّل فجأة، تبدلت ملامحه وصاح فيها بهياج،رؤوف هو كلمة سر شقاؤه ولعنته «بيلعب عليها مبيحبهاش، عايز يكسرني بيها ويقولي إنه قدر عليا من جوا بيتي»
زحفت مبتعدة عنه قدر استطاعتها وهي تحملق فيه متابعة هياجه بذعر،خائفة نظراتها تراقبه بانتظار قاتل للقادم، دار حول نفسه قائلًا بحنق«وهي صدقت ،عارفهم أنا مقنعين أوي، محدش يعرف حقيقتهم غيري»
بكلمات متشابكة وممتزجة بانهيار مروّع يناسب ضياعها ووحدتها اللحظة قالت«أنا مصدقتش وفضلت معاك»
صرخ فيها فارتعدت أكثر،سقط قلبها يتلوى في أحشائها يصم أذنيها بصرخات عويلة «أنا مش أبوكي، أبوكي هو حامد. الي خد مني أمك واتجوزها»
شهقت برعب والضجيج داخلها يرتفع فهدأ قليلًا واقترب منها قائلًا « مش هأذيكي أنا ربيتك برضو، أنتِ طيبة يا صفوة ومش ذنبك إن أمك بت ستين....»
قطع استرساله وابتعد قائلًا «لازم تساعديني نرجع غزل قبل ما يأذوها»
وكأنما وجدت في مطلبه وسيلة إنقاذ وطوق نجاة وتأكيدًا على عدم أذاها ، فسارعت بتقديم طاعتها وهي تراقب حركات يديه وتنقلاته الخفيفة حولها«حاضر بس أعمل إيه؟» ابتسم بظفر وهي ينظر إليها قائلًا «كلمي أمك قوليلها اني حابسك وبضربك»
حملقت فيه بعدم استيعاب ونظرة متحجرة فهتف بحدة أفاقتها «فاهمة ياصفوة»
هزت رأسها ودموعها تتابع في هلع، عقلها لا يستوعب ما يحدث ولا كم الحقائق المتتالية ووحدتها هنا معه وشرور نفسه الظاهر لها بوضوح الآن.
منحها الهاتف بعدما ضغطت الاتصال، فأجابت الأخرى بلهفة «صفوة يابنتي»
حين سمعت صوت والدتها بكت بحرقة مهلكة وصدق وافر،تستنجدها بشهقاتها وتستغيثها بتمتماتها «ماما»تنهار بثقة أن هناك مَن سيعينها ويقوّم ضعفها.
فابتسم بانتصار وتركها ترعبهم بحالتها
«اهدي يا حبيبتي»
همست بتوسل وهي ترفع نظراتها المشوّشة لمرتضى،خائفة من أن يحسب صدقها اللحظة فيعاقبها«ماما الحقيني هو بابا حابسني ليه وبيعمل معايا كدا ليه؟»
هتفت والدتها بغضب خارج السيطرة «عملك إيه قولي؟ مرتضى مش أبوكي يا صفوة خلي بالك على نفسك منه دا اتجنن دا قتال قتلة» جحظت عينا صفوة بهلع وهي تنظر لمرتضى الذي
هتف من بين قهقهاته وهو يسحب الهاتف من يد صفوة فتراجعت منكمشة «جن لما يلخبط خلقتك قولي للباشا
معلش يا عواطف هي صفوة كدا مبتتحملش ما أنتِ عارفة دا أنا يادوب زعقت»
صاحت فيه بغضب مهددة «سيبها إياك تقرب منها ولا تيجي جنبها»
ضحك بتهكم وهو يقول بسخرية «كنت أقولك عاملي غزل زي صفوة تقولي الاتنين بناتي وبعاملهم زي بعض» صمتت فصاح بغلّ فاض في نفسه«معملتيش ربع الي عملاه دلوقت لما غزل راحت قنا واتورطت»
توسلته بخضوع وذل «بلاش يا مرتضى أنت ربيتها وكنت أبوها»
صاح فيها بغضب «لو كنتي قدمتي كنتي لاقيتي رميتي بنتي بدم بارد لاوكمان كنتي عايزة تهربي ببنتك وتسبيني»
اعتذرت منه برجاء «مكانش قصدي كنت خايفة»
أنهى الاتصال بقوله «غوري يا عرة الحريم هتوقع إيه من واحدة زيك»
أغلق الهاتف وسحب الشريحة ثم وضع الهاتف في جيب بنطاله وخرج تاركًا صفوة متقوقعة فوق الفِراش تختبئ من سهام المفاجآت التي تصوّب لصدرها دون درع حماية من تكذيب.
*****
جلس بصمت ينتظر بصبرٍ كلمات والدته التي أرسلت في طلبه لأجلها، ينظر لحبات مسبحته العتيقة وهو يمرر أنامله عليها ببطء وتناغم، هذه الأيام المختلفة لا تمنحه هدوءًا قط بل ستثنيه كل صباح من جدول الراحة، تعفيه منها فيلوذ بحصنه المتين من الذكر، يستحضر الله في قلبه كل وقتٍ طالبًا معاونته، يبتهل ويتضرع ويهرع متصدقًا كلما مسّ قلبه نصب وخاف الفقد..
ضمته والدته بحنو مقبلةً رأسه معتذرة له «حقك عليا يا ضنايا متزعلش»
توقفت أنامله على مسبحته، صمت فتابعت وهي تجلس قباله فوق الدكة الخشبية «أبوك خايف عليك»
رفع نظراته الذابلة الممتلئة بالعتب واللوم قائلًا بحشرجة «خايف عليا في الوجت الغلط وبالطريقة الغلط»
ربتت على ركبته مبررة برفق «خوف الأهل مفهوش وجت غلط يا ولدي، مرتضى بدأ يبخ سمه»
طأطأ رأسه محركًا أنامله بسرعة فوق حبات مسبحته، يلتهمهم وذكره يعلو، يشهره في وجه غضبه ليعود كامنًا في مخبأه، زفرت ببطء وقالت «خد غزل وروح لمرتضى حايله وديهاله وبعدين رجعها»
انتفض من جلسته متحفزًا، نظر لها بقوة ثم قال بحسرة تراقصت في نظراته «طيب جدتي ومش هتحب غزل عمرها والناظر خايف ومش عايز وجع دماغ وعايز بت أخوه وأنتِ يا أما؟ كيف تطلبيها؟»
أجابته بدموع مترقرقة «خايفة عليك برضك ومن الي احنا فيه، طول ما غزل هنا مرتضى مش هيهدأ ولا أنت هترتاح»
استفسر بإستنكار وهو يحرك مسبحته في الهواء بعشوائية وعصبية «لما أتنازل عن غزل وأفرط فيها هرتاح؟ أمال لو مكنتيش عارفة وشاهدة يا أما على كل حاجة»
وقفت موضحة له بحزن « امبارح البت كلمت أمها واستنجدت بيها وهتموت من البكا والخوف»
ابتسم بسخرية وهو ينظر إليها بإمعان غير مصدق قولها ولا تراخيها في معاونته وتأييده، فتش في نظراتها عن إنسانيتها وهو يهمس بذهول «بت مين يا أما؟ طيب مصعبانش عليكي مرتي الي قدامك ضربها مرتين لغاية الموت، الي اتعلقت بيكي وعنيها كل يوم تستنجد بينا زي العيل الصغير فين جلبك؟»
حاولت الإيضاح باهتزاز «مهما كان أبوها وبيني وبيك خايفة تكون صفوة بتنا ومرتضى يعمل فيها حاجة عفشة»
ناقشها مستهجنًا بفظاظة «العفش هيعمله فبته عادي عشان هو عفش»
قالت راسمة له طريقه «هتكون جريب منها وخد زين معاك»
قال بإنكسار وحسرة ناسبًا له حبيبته وهو يغرس أنامله في صدره «بتي مش هتخطي بيت مرتضى يا أما رضيتوا أو مرضتوش»
عاتبته بدهشة «عايز تخسرنا ليه عشانها؟»
مال فمه ببسمة متهكمة وهو يخبرها بحسرة هزت كيانه«ما أنتو عايزين تخسروني عشان بت معرفلهاش لسه نسب»
حاولت الحديث فأسكتها بعصبية«اسكتي يا أما ياريتك ما بعتيلي ولا كلمتيني هاخد مرتي وأمشي بيها بيت خالتي يساعني أنا وهي زي ما ساعني زمان »
أوقفت سيره بلومها «العشق بيغير يا حامد وكننا بجينا ولا حاجة عندك ومنعرفكش»
ضرب الهواء بمسبحته وهو يطبق شفتيه متوجعًا قبل أن يستدير ململمًا مسبحته في كفه قائلًا وهو يقبض عليها كالجمر «الظلم عفش يا أم يونس، فكرتيني بالي اتبنى عيّل ولما خلّف رماه وفاته وراه لا منه سابه فحاله من الأول ولا منه خلاه معاه، لاه خده ودوقه الحب وبعدها رماه طول دراعه كنه حجر، مسكينة غزل والله نصيبها تزرع متحصدتش وتدي متاخدش وترحم متترحمش » هز رأسه بخيبة ثم أردف بتنهيدة «مش همشّي غزل ولا هرجع صفوة على حساب بتي وأعلى ما فخيل الكل يركبه كل حاجة هتمشي زي ما ترضيني وشايفها ترضي ربنا مش ترضيكم ولا على حساب حد »
خرج من الحجرة مهرولا تاركًا لها تجلس بصمتٍ وأسف.
*****
انتظرت على جمرٍ من لهفة،منذ سمعت يونس وهو يتحدث عن سرقة مكتبه وواجهته طالبة الحقيقة فاضطر يونس لمصارحتها بما حدث مجبرًا،من وقتها وهي تدور كالنحلة تهبط فوق زهر الصبر مرتشفة رحيقه من القوة، تمنت لو كان بإمكانها مهاتفة والدها لكنها
ملتزمة بوعدها لحبيها بألا تفعل وألا تقترب منه، رآها فابتسم، عانقها فتبسمت متنهدة براحة ورضا، هو كله وسيلتها وغايتها للراحة والسعادة، للرضا وعقد قبولٍ جديد بينها وبين أيامها، العقد الذي تجبرها الدنيا البغيضة على تمزيقه لإحكام سيطرتها عليها
«وحشتيني»
همس بها في هيام مغمض العينين يستشعر بكل ذرة من كيانه قربها،يلطف بأنفاسها حرارة صدره المشتعل ويهدىء من روع قلبه بضمة تأكيدية ،مسكن أوجاعه الخاص الذي يبحث عنه دائمّا ويخشى فقدانه،يطمئن نفسه كلما هام في الوجود أن في منزله حضنًا دافئًا ينتظره وقلبًا كقلبه في شغفٍ للقائه، وحصنًا سيحتمي خلفه إن هاجمته
المصائب وتكاثرت حوله المحن.
بادلته شوقه بأكثر منه في رقة وهي تتلمس كفيه «وأنت يا متر»
استدارت فسألها حاجبًا عنها ما نفسه، طامسًا عذاب روحه، فلا خلود في النفس إلا لحبها ولا ظاهرًا إلا الشوق الذي يفيض ويثور حتى يلتقي بعينيها مرسى أيامه «جهزتي إيه عشا؟»
غاصت في نهر عينيه مغتسلة من دنس أفكارها هامسةً «المكتب اتسرق؟»
توقف قليلًا على ملامحها ثم تخطى القول كما الحدث متنعمًا ببقائها قربه قائلًا ببساطة «أيوة»
استفسرت بقلق وهي تنظر لملامحه الراضية بتشتت «وهتعمل إيه؟»
بنفس البساطة والرضا والسحر الذي يأخذ العقل أجابها وهو يهدهد قلبها بعذب كلماته ويدلله بعشقه «ولا حاجة خير بإذن الله»
استفسرت باهتزاز «مقولتليش ليه؟»
تجاهل سؤالها متخطيًا وقال وهو يداعب ذقنها بأنامله «جعان يا غزولة عايز أكل»
ابتعد عنها مغادرًا للحجرة فاستوقفته بقولها «رؤوف هتتصرف إزاي في المصيبة دي؟»
أدار جسده لها من جديد قائلًا بإستهانة وبساطة شديدة «مفيش مصيبة بإذن الله » استنكرت ملامحه وهدوئه فنظر لعينيها بقوة قائلًا بصدق «المصيبة الصُح إنك تبعدي عني غير كدا ولا حاجة طز»
همست باسمه في رقة «رؤوف»
هز رأسه مؤكدًا لها بجدية يحشر كلماته في عقلها «أنتِ جنبي أنا بخيروكويس ومتشغلنيش الدنيا، أنا بنساها وقت ما عيني تلمحك» عاتبته ودموعها تتقافزعلى خديها تأثرًا«شغلك، واسمك الي عملته، المكتب كل حاجة يا رؤوف»
مال فمه بابتسامة مستهينة ساخرة وهو ينطق بالعشق «كل حاجة هي ولاحاجة قصادك يا غزل أنتِ بكل رؤوف
الحفناوي»
اندفعت معانقة له بقوة، تبكي بشدة لا تصدق أن هذا الذي جاءت يومًا تشكوه منتقدة أفعاله، يذيقها الآم عشقًا فريدًا صنعه خصيصًا لها ويضحي من أجلها هي بكل شيء.
ربت على ظهرها مطمئنًا لها بحنان لا يبخل به «متخافيش ربنا هيحلها، ولومكتوبلي اختار بينك وبين العمر الي فات بحلوه ومره هختارك بالي جاي لإني واثق فيكِ»
همست من بين شهقاتها العالية التي تغطي بها على نزاع روحها وصراعها الداخلي «أنا بحبك أووي»
أبعدها عنه ماسحًا وجهها بكفيه وهو يهمس ممازحًا «يا نكدية أنا جايلك هربان من الدنيا بحالها، جايلك اتحصن بجلبك هتجضيها بكا، أرميكي من فوق طيب!»
ضحكت فتهلل وجهه وتنفس بإرتياح ثم قال «يلا هروح أغير وأصلي ركعتين وأرجعلك تكوني جهزتيلنا عشا حلو من يدك»
همست بطاعة وهي تهز رأسها «حاضر»
قبّل جبينها قائلًا«يحضرلك الرحمن ويغيب الشيطان يا غزالي»
تركها تدخل المطبخ ودخل هو حجرته لتبديل ملابسه.
*******
قبل الفجر
استيقظت مفتشة عنه جوارها، مسحت مكانه بعينيها في قلق وخوف قبل أن تجلس مزيحة الغطاء عن جسدها.. خرجت باحثة عنه حتى وجدته بالخارج يسجد بخشوع وصمت وسكينة، تحيطه هالة من النور وتغمره السكينة، صوته عذبًا لطيفًا، وأدعيته بردًا وسلام،
ابتسمت ماسحة بطرف أناملها دموعها المتساقطة وتابعته بشغف حتى طال سجوده وتبخر صموده، اهتزجسده فارتجفت، خرّ الجبل باكيًا
وجبهته للأرض متوسلة داعية، اختلج قلبها بمشاعر عديدة متشابكة ومختلطة ما بين رهبة وخوف وجزع ورغبةٌ ملّحة في ضمه والهرب به من أحزانه، إخفائه عن العالم محتميًا بأضلعها وعاطفتها التي تتفجر لأجله فقط.
هالها أن تراه وهو القوي الثابت، الصامد أمام نوائب الدهر هكذا بما يثبت أن داخله ألم لا يطيقه ويخفيه لأجلها... أراحت ظهرها على الحائط مختبئة عنه تكتم نحيبها داخل صدرها بقوة خوفًا من أن يحس بوجودها أو يشعر بها فيستاء لذلك
رفع رأسه فسمعته يهمس «أنا راضي يارب بس غصب عني مش جادر، غصب عني تعبان ومش بإيدي وأنت
أعلم بنفسي يا حبيبي»
جلست أرضًا بإنهيار تشاركه الهمس من خلف الجدار تدعوه تضرعًا وخشية «غصب عني مش قادرة يارب وغصب عني تعبانة وخايفة»
ارتفع صوت أذان الفجر فعادت بسرعة لفراشها، ألقت بجسدها فوقه وتدثرت منتظرة مجيئه ككل يوم وهمسه الرائق لها «الفجر يا همسة الفجر الحلوة ونوره»
أتى اليوم ضامًا بين ذراعيه ربيع العشق وزهوره المتألقة، قبلاته تهمس فوق جبينها بالغرام، ساحرًا برضاه ورائقًا بإعتدال ميزان نفسه،حنونًا كأن الحنو خلق من أضلعه ورقيقًا كورودها التي تحب، رجل لأجلها يتبدل كفصول العام، معها ربيعًا ولأجلها شتاءً عاصفًا ولكارهيها صيفًا من جهنم ولعتابه مذاق الخريف...
رجل شكّلته المحن وصنعه الله على عينه ليكون ملهمهاً في الشدائد وعونها على الحياة، وحصنها المنيع القوي.
منحته ابتسامة ونظرة فغمرها بالحب في رضا لا تفرغ قدوره، تتجدد قوته كلما خرّ راكعًا وأناب.
همست بعذوبة «أكتر حاجة تتمنى أعملها عشانك؟» ضمها هامسًا بصدق سحر قلبها « عايزك تصلي، التزامك بالصلاة هيخليني دايمًا مطمن عليكي هتكوني فرعاية حبيبي»
همست بحشرجة «وصيني يا رؤوف»
نظر لعينيها مليًا بقلق وتردد ثم ابتسم هامسًا « متبطليش تدعي ولا تبطلي تحلمي وتتمني وتضحكي »
ضحكت برقة وهي تحيط عنقه بذراعيها فهمس بعاطفة «أنا دوبت يا غزالي»
عبست لائمة له بدلال «أنا من زمان يا متر وكل ما عيني بتقع عليك بدوب وكأني أنفاس طايرة في الهواء»
أضاء وجهه بالرضا وابتسمعت عيناه، لثمها برقة قبل أن ينهض قائلًا«جومي يلا اتوضي وصلي على ما آجي
من الجامع»
ابتسمت بطاعة فارتفع بجسده في استعداد لكنها همست «رؤوف»
عاد مستفسرًا بنظراته فهمست بحشرجة «ادعيلي»
أكد بابتسامة رائعة «حاضر»
رحل وتركها تؤدي فرضها، عاد بعد قليل وتوسد ذراعها مُلقيًا رأسه على كتفها دافنًا وجهه في عنقها، دثرت جسده وانتظرت حتى غرق في النوم.. بعدها تسللت بخفة من جواره ونهضت، ارتدت ملابسها بسرعة ثم سحبت هاتفها بحذر، ألقت عليه نظرة طويلة ممتلئة بالدموع والأسف ثم ركضت للأسفل بسرعة مقررة تخليصه منها ومن مصائب والدها.
******
في الصباح
همس وهو يمسح وجهه طاردًا النعاس من عينيه ليرى عقارب الساعة جيدًا
«واه سبتيني ليه يا غزل أنام كل دِه دا الضهر خلاص»
تثاءب وهو يخرج مناديًا عليها «غزل»
قطب بعبوس حين لم تصله إجابتها
فتش عنها في الشقة فلم يجدها، ناداها مراتٍ بقلق وهو يجوب المكان بحثًا عنها بقلبٍ مرتجف يتضخم داخل صدره حابسًا أنفاسه، أمسك بهاتفه وهبط يسأل عنها «يونس مشوفتش غزل؟»
أجابه بدهشة علت ملامحه «لاه»
ركض ملتهمًا درجات السلّم وصدره يزداد ضيقًا واختناقًا، قابل والدته فسألها «أما غزل فين؟»
أجابته بنظرات قلقة متوترة«مشوفتهاش»
فتش عنها في أركان المنزل متجاهلًا زوجة عمه ونظراتها ونداء جدته ثم عاد للأعلى محاولًا الاتصال بها، تبعه يونس مقتسمًا معه القلق، سار خلفه منتظرًا عطاء اللحظات من الطمأنينة..دار في الشقة باحثًا عن هاتفها ربما نسيته لكنه اطمئن لعدم وجوده وسارع في طلبها وهو يلف حول نفسه والأثاث من حوله ،مشتعل الرأس بشيب فقدها، حتى أجابته بصوت متهدج«أنا آسفة» توقف العالم من حوله
صامتًا …وحده قلبه كان يتفجر بصوتٍ مدوي ناثرًا شظايا الألم في أحشائه ومعدته التي تنقبض الآن انتفض مستفسرًا رافضًا الإدراك «يعني إيه؟»
التقطت أنفاسها محاولة السيطرة على نبرتها سليمة، صافية من عكار البكاء وهمست «انساني وكأني مكنتش»
تحجرت نظرته وكفّ جسده عن الدوران،عينيه تتسع بصدمة قاتلة وصدره يعلو ويهبط في انفعال مكتوم بين جدرانه، تتسرب دقات قلبه كالصرخات ليونس الذي اقترب منه بوجل،قال بتماسك وهو يمسك بكتف يونس مستندًا عليه في هشاشة وضعف وعجز، بعدما منحته بعدد أحرف خزيها أعوامًا فوق عمره، لا يريد يقينًا يفقده إياها ولا صدقًا بطعم الخسارة المرّ تشبث بخيط أمل ضعيف «أنتِ فين وأنا أجيلك وهنمشي خالص مكان ما تحبي »
مسحت دموعها وأجابته معتذرة له بانكسار «خلاص أنا مشيت ووصلت راجعة لمرتضى وبحلّك من أي وعد»
صحى من سكرة المفاجأة وهدر فيها متسلحًا بالغضب «مفيش مرتضى أنتِ اتجنيتي جوليلي مين ضغط عليكي ولا زعلك»
تنفست بقوة ثم همست «مفيش، أنا بريحك مني ومن همي و مشاكلي وقرفي ريّح أهلك ومتزعلهمش أنت ملكش غيرهم ولا هما ليهم غيرك أنا عمري ماهعوضك خسارتهم لو خسرتهم
عشاني »
أمسك يونس بذراعه لمّا وهن جسده وشاخت ملامحه بالعجز، صاح فيها«أنا الي أجول هتعوضي ولا لاه،
الاختيار ليا أنا وحدي ودا حقي بتجبريني زيهم ليه؟» تعالت شهقات بكاؤها فلان قليلًا بعطف ورجاها بإنكسار«متعمليش كده يا غزل وتوجعيني وتأذيني
فيكِ ارجعي »
بنحيب قوي همست «مش هينفع خلاص أنا وصلت »
هدر فيها بجنون «فالآخر ضحيتي بيا أنا مريحتنيش، مش هسامحك ياغزل على عملتك دي»
أنهت الاتصال فأغمض عينيه مصفوعًا بإصرارها، ترك لجسده الواهن حرية السقوط فوق الأريكة، ألقى بالهاتف واضعًا كفه على صدره مستغيثاً بنظراته التي تدور في المكان راكضة خلف ذكرياتها التي تتبخر الآن في الهواء و تزكم أنفه برائحة الفجيعة ، يلملم في جُب قلبه ما استطاع منها، ربما يومًا تلتقطه بعض سيارة الأمل
بنظرات زائغة همس لأخيه بحسرة وهزيمة أمسكت بتلابيب قوته «غزل مشت يا يونس متحملتش»
هدأه يونس بنظرة مشفقة حابسًا دموعه «هروح وراها وأجيبها متجلجش»
بأسى وخضوع أجابه وهو ينهض «خلاص خلصت»
تركه يزفر بقهرٍ وعذاب وهبط للأسفل بسرعة مقررًا الرحيل مثلها فلا حاجة له بالبقاء هنا، حيث محرقة الأمل وعذاب خزي وخذلان لا ينتهي بل يتجدد مع النظرات
استقبله سؤال والدته «لجيت غزل؟»
رمقها بلوم قبل أن يخبرها بتهكم قاطعًا أواصر المحبة اللحظة «غزل ريحتكم يا أم يونس و مشت»
تهلل وجه زوجة عمه وبشت برضا وراحة، تصيد فعلتها بعينيه وهتف مهددًا لها«متفكريهاش خلصت كان حق صفوة وغزل، دلوك حقي»
ارتجفت بقلق من تهديده المتقد بالانتقام وأشاحت هاربًة من شظايا قسوته، هبط عدنان مستفسرًا بجفاء «في إيه
عالصبح بتزعق ليه؟»
أغمض رؤوف عينيه حين التقت نظراته بنظرات والده ثم فتحهما مستعيدًا قسوته «غزل مشت يا ناظر متحملتش عمايلكم»
ربتت نجاة على كتفه بحنو مواسية له «دلوك تجيب صفوة وترجع»
انتفض بنفور مبتعدًا عنها تاركًا كفها معلق في الهواء قائلًا بجفاء متعمد«مش هترجع وأنا خلاص مش راجع هنا تاني جات بتكم ولا مجاتش أنا ميخصنيش»
سخر منه والده بفظاظة «كمان مشت وهتشيلنا عملتها»
هدر رؤوف فيه بغضب وهو يشير إليهم بسبابته في اتهام واضح «غزل ممشتش لوحدها أنتم السبب، ضغطتوا عليها وشيلتوها فوق طاقتها مرحمتوهاش واستقويتوا عليها»
تدخلت زوجة عمه بحماقه فهبت عاصفة غضبه مقتلعة ثباتها من الجذور«اكتمي .. والله لو رجعت بتك ولجيتك هنا يوم بعدها لاجتلك وأروح فيكي السجن بضمير مرتاح»
ارتعدت بخوف وأخفضت نظراتها متراجعة في حذر ورهبة فهتف به والده منزعجًا «مالك طايح وملكش كبير »
رمقه بجفاء وهو يخبره باستهانة «أنا من دلوك كبير نفسي يا ناظر »
هبط يونس الدرج ممسكًا بحقيبته فسأله والده بتهكم «وأنت على فين ياشملول»
تخطاه يونس قائًلا«معدليش جعاد هنا خلاص»
خطى رؤوف ناحية الباب فهرولت والدته منادية «تعالى يا رؤوف خد ياولدي»
وقف ممسكًا بمقبض الباب يهتف باستهجان«أنا مش واد حد والبيت الي طلعت منه مرتي مكسورة الخاطر والجلب مراجعلهوش وميلزمنيش بناسه والله إن ربنا هيحاسبكم على اليتيمة الي كان جزات أفعالها نكران وجسوة»
خرج من المنزل تاركًا خلفه نجاة تولول بعجز وتصرخ بإستغاثة وهي تمسك بذراع يونس رافضة مغادرته هو الآخر لكنه أزاح كفها صارخًا «كسرتوا جلبوا ليه؟ عمل إيه هو غير حبكم أكتر من نفسه؟ أجعد ليه؟ أنا معرفكمش »
توسلت نجاة زوجها الغارق في الصمت والوجوم «جوله يجعد يا عدنان»
أشاح عدنان بإستهانة «خليهم يغوروا فاكرين نفسهم بيوكلونا»
أزاح يونس كف والدته وغادر تاركًا والدته تنتحب بحسرة وعجز.
********
جاء إليها منكسرًا معطوب القلب، يجر ساقيه بضعفٍ، يوارى قلبه من سوء ما بُشر به من خذلان، فاض حزنه فتحرك ناحية أرضه يهبها عرقه يتعزى بالعمل ويهلك نفسه فيه، يبذر في ثناياها وجعه الصغير ليكبر ويترعرع على أيادي الحرمان،
خلع جلبابه وألقى به فوق فرع الشجرة، تذكر رغبتها في رؤيتها والجلوس تحتها فعصب عينيه بالتجاهل هاربًا منها، سحب الفأس خلفه وتحرك بثقل يشيع أرضه الواسعه بتوهة وضياع، تلك التي تطوَى من تحت أقدامه وتهتز، بل عالمه كله اهتزت أركانه وأصبح كيانه آيلًا للسقوط والتهدم، من لملمت روحه يومًا من تحت الأنقاض وأخرجته حيًا للحياة، أعادت عليه الأمر كأنه أخطأ حين منحها قلبه مكافأة.
زاغ بصره فرفعه للشمس معاندًا بقوة قبل أن يعيده صاغرًا للأرض، استعاد قوته وثبات الصور ثم رفع فأسه وهوى بها بين ذرات التراب مخاطبًا بحبات عرقه الساقطة وآهاته التي يهمس بها لجوفها مع الأنفاس الملتهبة، لا عانق لسانه لماذا فعلت ولا عاب القدر وشكى ألاعيبه بل لام نفسه التي خضعت وعشقت وتجردت أمامها، عاب روحه التي تعلقت وتعرت مانحة إياها الفرصة لتحطيمه.
رآه عبود من بعيد فسار إليه بحزنٍ وقور، وقف أمامه مناديًا له بحسرة، يحاول انتزاعه من بؤسه والعودة به من ديار هواجسه المظلمة لكنه لم يفلح بعدما أفِلت نفسه وأغلقت الأبواب وقالت هيت الروح للحزن وليفعل بي مايشاء.
جلس عبود أسفل الشجرة بصمت مطرق الرأس بوجوم، ينظر إليه من وقتٍ لآخر ويناجي «حبيبي زعلان يا
حبيبي خد بيده»
كلما غاص وعي الآخر في الظلام وزاغ بصره في الوجود وبين حبات التراب بكى عبود وزادت مناجاته، وكثر دعاؤه بألا يمتحنه الله مرة أخرى فيمن أحب.. وأن يرفق بقلبه ويربط عليه.
بعدما أنهى طقوس منحه نفسه للوجع بتفاني وإخلاص سحب الفأس وجاورعبود بصمتٍ، أمسك عبود بذراعه
هامسًا ببكاء «روح وهاتها»
حلقت نظراته في السماء وهو يهمس «مش قادر»
عاتبه عبود بلطفٍ «غصب عنها»
تنهد رؤوف مُجيبًا إياه بهزيمة أخذت برأس قوته«وغصب عني»
جادله عبود مُعيدًا إياه من كهوفه المظلمة «مش هتتحمل يا ولدي»
أجابه بحشرجة وهو يعيد نظراته من السماء منكسرة خاضعة وذليلة«اتحملت كتير»
عاتبه عبود بدموع حارة لا تتوقف وهو يهزه كجذوع النخل الخاوية «مصباح العتمة يا حامد»
أخفض بصره مُنكسًا راياته ومُعلنًا هزيمته، مسلمًا مفاتيحه للألم «جلبي على العتمة شبّ وكبر، هو ليها وهي ليه»
كرر عبود كالطفل «نوارة الجلب»
أجابه ودموعه تنزلق من جوف عينيه على استحياء«هجرته فاتهدم»أشاح في كبرياء يلملم نفسه المتناثرة ويجمعها لتتماسك من جديد، أراح رأسه لجذع الشجرة في صمت قبل أن يحكي له بصوت يحمل وليد الحسرة الصارخ بينك كفيه «ليه مش عيزاني الدنيا يا عم؟ ليه كيفها كيف آيات تكشر فوشي وتلبس العفش؟ وتخون ياعم؟ وليه استكترتها علي زي آيات؟»
أطرق عبود باكيًا يناجي الله سرًا وجهرًا ثم رفع رأسه مواسيًا «بعد الصبر جبر يا ولدي وحد الله وأذكره»
نهض ذاكراً الله يسير في أرضه بإطراقٍ وصمت يريد آخرها ولا يصل، تمتد ولا تنتهي كما حزنه، يسأل الهواء عن أنفاسها، يقايضه بأنفاسه ليحمل له عطرها من حيث كانت، ألم يكن حبه كافيًا لتبقى معه؟ لتختاره كما اختارها؟ أم أنه لا يستحق كما قالت آيات؟ وأن مصيره الوحدة عقابًا، مابال كلمات آيات الآن تمزق حشود أفكاره وتخترقها معتلية المسرح في غرور، ومعلنة عن نفسها وصدق أحرفها وطهارتها من الزيف.
هو كان تضحيتها الأخيرة التي لم تستبدلها بكبشٍ من صمود وصبر، رحلت وتركت في قلبه خزيًا وفي نفسه خذلانًا، طردته من جنتها ليتلظى في جحيم الواقع المرير هو لا يستحق سوى أن يُضحى به من الجميع، هو الذي لن يختاره سوى الحزن ولن تعانقه سوى الوحدة، هو رجل اختارته الأقدار ليسير في التيه طوال عمره وإن وجّهته بصيرته للطريق عُميّ بصره.
عاد متعبًا بعد ساعات من السير الذي لا ينقطع بوقوف ولا جلوس يفرّ من النار المشتعلة بعقله باحثًا عمن ينقذه أو يدثره لتنطفيء،
دخل الغم قبله فهتفت تماضر وهي تضع كفها على قلبها «حامد يا ولدي» وضع الفأس وجلس جوارها بصمت
وإرهاق، تحسست الطريق لوجهه حتى وصلت إليه قائلة «مالك يا ولدي؟»
صارحها بعدما ضاق بالكتمان وتمزقت روابط صدره الحاملة له، تخلى عن حذره ولاذ بأمومتها دون حرج أو خوف،سكب مشاعره المتسخة في نهرعاطفتها الجارف «غزل مشت يا خالة، مختارتنيش ولا اتحملت، سلمتني للوجع بيدها»
شهقت تماضر مرتجفه بالذعر حين فاض بما كتمه وهربت شهقة قوية من صدره «يا حبيبي يا ولدي تعالى يا ضي عيني » ضمت رأسه لصدرها بحنوٍ واحتواء، منحها رأسه المتعب كما تعوّد منذ صغره، تاركًا مشاعره تتدفق دون اكتراث بهزيمة كبرياء أو سقوط مدوي لقوته، تحرر من أوجاعه مطمئنًا فاستمعت له بصبرٍ محتوية شتاته كما تعودت ململمة روحه التي تعرفها معيدة تشكيلها كقطع البازل.
***********
وقف منتظرًا قدومها بعدما أخبرته بمجيئها طالبة منه إرسال موقعه لها، تأمل ما خلفها مراقبًا متلصصًا على الدرج بنظراته قبل أن يندفع معانقًا جسدها المتخشب بقوة،وهو يهتف بفرحة وانتظار «رجّعك اهو؟ سابك علشان بنت عمه»
ولجت للداخل صامتة بوجهٍ شاحب وأعين غائرة في بركتي ظلام، تتحسس طريقها كالعميان، تستند بكفها على كل ما تطاله بحواس ثائرة عليها.. ضجيج يعلو ودوار يلحف وبصر مشوش بالدموع، وقلب فقد بصيرته وروح فقدت سراجها المضيء، جلست أخيرًا منهكة، تتلفت حولها بذهول بينما والدها يراقبها بدهشة، التقت نظراتها بنظرات والدها في طريق مظلم فأدركت عظيم ما فعلته وفداحة ظلمها لنفسها،وفقدانه المميت، غطت وجهها بكفيها وبكت، الآن رحلت أنفاسه من صدرها وجفّ عطره، تعرت من دثارعاطفته الثمين، ضمت جسدها محاولة السيطرة على ارتجافته وهي تهذى كالمحمومة «حرام عليك يا مرتضى هو كان كل أملي وقابلني بعيوبي وقابلني بيك»
اقترب منها مرتضى صارخًا فيها بغيظ «سابك، ضحى بيكِ»
قالت بجسد يزداد تشنجًا «أنا الي هربت منه، مستاهلهوش يا مرتضى استكترتوا عليا وأنا بنتك!»
أمسك بذراعيها مقيدًا لتهدأ ارتجافة جسدها وتتوقف عن ضرب كفيها بحافة الكرسي في هيستيريا «مبيحبكيش »
قالت وهي تتلوى في عذاب «أنا بحبه كان نفسي أكمّل، ليه حرمتني منه؟ عملتلك إيه؟»
لانت نبرته بعطفٍ وهو يتوسلها «اهدي هنسافر وهتنسيه»
كلما فقدت شعورها به واحساسها بقربه منها ورحل عطره من على ملابسها تزداد عذابًا وألمًا، تضرب بقدميها الأرض من فرط ألمها «اقتلني وريحني، عايزة أموت خلاص مش هتحمل حاجة تاني» تركها وغادر لهاتفه مستنجدًا، كلما رافق اسمه صرخاتها هتف بسرعة وعينيه مسلّطة عليها بذعر «الحقني يا عبد الرحمن»
*****
مساءً
فتحت عينيها بحماس ثم انتفضت منادية بأمل وهي تترك الفِراش باحثة عنه «رؤوف»
أوقفها دخول صفوة الحجرة كجرس تنبيه لعقلها الغائب، انحسرت ابتسامتها وعادت خطوتين مدققة النظر في
وجه صفوة بتركيز قبل أن تُعلن إدراكها وعودة الغائب إليها من الوعي «صفوة»
عانقتها صفوة بقوة، ضمتها رغم تيبس جسدها وانشغالها بأفكارها وصدمتها عن مبادلتها العناق،انسحبت بعد قليل مكللة بالخيبة ومنحورة بوعي لا يرحمها، جلست برتابة رابطة نظراتها بالأرض في أسى ، جلست صفوة جوارها باكية تثرثر بالكثير الذي يصيب أفكارها بالفوضى وقلبها بالتضخم، صاحت بإنزعاج شديد وهي تضع كفيها على أذنها مانعة تسرب رثاء صفوة أكثر إلى عقلها «بس يا صفوة خلاص»
ابتلعت صفوة الباقي من شهقاتها وانكمشت بصمتٍ، طرق مرتضى الباب فنهضت مستقبلة له بسؤالها «صفوة مرجعتش ليه؟»
ضيّق عينيه الماكرة على وجهها بصمت قبل أن يتركها وسؤالها ويغادر للصالة ببرود واستهانة، تبعته بسؤالها
الحاد «صفوة قاعدة لغاية دلوقت ليه؟»
أجابها ببرود وهي يجلس فوق المقعد بإسترخاء «صفوة مش هترجع؟ محدش كلمني»
قالت بعصبية شديدة ورأسها يغلى كما أنفاسها «الاتفاق كان أنا أجي وهي تروح»
ابتسم قائلًا باستفزاز «محدش اتفق معايا ولا هو كلمني وبما إنك جيتي خلاص»
انفعلت بحدة ثارت أنفاسها وغلت كمرجلٍ مما جعلها تصرخ فيه «يعني إيه خلاص؟ »
بنظرة متشفية أجابها بحقد «يعني سهلتيها عليا لما هربتي وجيتي كدا أنا لا هرجع صفوة ولا الورق»
فغرت فمها بصدمة قبل أن تهدر فيه بجنون «صفوة لازم ترجع وورق رؤوف»
وقف ناظرًا لعينيها بقوة، متحديًا لها باحتقار «مفيش حاجة هترجع أنا هاخدكم ونسافر»
استنكرت «وأمها وأهلها الي مستنينها؟»
فرك كفيها ببعضهما قائلًا بهدوء مغيظ «صفوة برضو بنتي أنا مربيها وأمها معادتش تلزمني، أنا هاخدكم ونسافر»
صرخت بإنهيار«حرام عليك الي بتعمله فيا دا؟ أنا عملتلك إيه؟ رجعله الورق ومتأذهوش تاني لو سمحت»
اتقدت عيناه بالشر وهو يهتف متحديًا لها بقسوة «دا أنا هعمل كل الي أقدر عليه علشان يتأذي»
توسلته وهي تبكي بعنف «متضيعش الي عملته هدر يا مرتضى، متخلينيش أحس إني دمرت نفسي ودمرته بدون مقابل»
رمقها بنظرة مستهجنة باردة وعاد للجلوس بإسترخاء، يتابع انفعالها وخروجها عن السيطرة بنظرة مترددة تحفها اللعنات، خرجت صفوة من حجرتها راكضة تجاهها في خوفٍ وذعر، جلست جوارها أرضًا مهذبة غضبها بالعناق، لكنها دفعتها بهستيريا وهي تصرخ في هذيان «ماشي يا مرتضى»
قالتها وركضت ناحية المطبخ تتابعها نظراتهما بترقب وقلق، أشار مرتضى لصفوة «شوفيها»
قبل أن تتحرك متفقدة لها كانت تخرج عليهما ممسكة بنصل حاد ونظرة لامعة بالظفر، وقف مرتضى مصدومًا متسع العينين في ذهول وصدمة بينما كتمت صفوة فمها بكفها وهي تهز رأسها رافضة ما تعزم عليه أختها.. قالت مهددة بقوة «مشي صفوة يا أما هعور نفسي وأصوت وألمّ الجيران عليا أو أقتل نفسي وارتاح»
هتف غير مصدقًا «أنتِ اتجننتي؟»
هزت رأسها بتأكيد وهي تبتسم بإستهانة قائلة «بُعدي عنه منتهى الجنون يا مرتضى بعد كل الي عمله علشاني، وصدقني الحياة معادتش تفرقلي »
اقترب منها ببطء وحذر فأدارت النصل لبطنها في عزمٍ وإصرار، توسلتها صفوة المرتجفة من بين شهقاتها «غزل متعمليش كدا حرام»
سخرت من قولها «والي بيعمله فينا دا حلال؟ دا مش عايز يرجعك»
قالت صفوة بقوة «مش مهم، أنا راضية، أنا معرفهمش بس أعرفك أنتِ وبابا»
وبختها بغضب «غبية، الراجل الي وراكي قتل أبوكي قبل ما يفرح بيكي و يتِّمك ، ومن بجاحته خد مراته وبنته»
لانت ملامحها بتأثر قائلة «أنا اتمنيت أكون بنت عمهم مش أنتِ، أنا بحسدك، أمشي وابعدي عنه»
حاولت صفوة الاقتراب منها بحذر وهي تناقشها بهدوء ورفق، مقدرة حالتها«طيب همشي» ثم استدارات
مستفسرة منه «همشي يا بابا صح؟»
هز رأسه بصمت بعدما انكمشت أحباله الصوتية خوفًا ورعبًا، نظراته تتحرك معها متصيدة ردود أفعالها ومترقبة لهفوة ينفذ منها إليها.
كررت بمواءٍ تعب «رجعها هي والورق وهمشي أنا وأنت » ثم نظرت لصفوة هاتفةً «امشي يلا روحي المكتب وكلميه من هناك هيحميكي »
ترددت صفوة وتململت بإضطراب فصرخت غزل «يلا امشي لو سمحتي متضيعنيش أكتر من كدا»
حملق فيهما بعجزٍ وقيد من إجبار، أسفل نصل السكين تلّون بالأحمر مما جعل صفوة تسارع بتلبية طلبها وتركض منبهةً لها «غزل السكينة، خلاص همشي»
بينما قال مرتضى بتوتر وخوف وهو يتوسلها بعطف «خلاص هتمشي سبيها»
حوّلت غزل نظراتها لصفوة تتأكد من صحة قوله فركضت صفوة ناحية الباب وغادرت، أجّلت غزل زفرة الراحة حتى يتثنى لصفوة الابتعاد عن محيطه، بينما ظلت عيناه هو على النصل بقلق، نظراته تتأرجح مع تحركات جسدها، نال منها التعب وزاغت نظراتها، فقدت قدرتها على الوقوف أكثر والثبات، ضعفت مقاومتها فاقترب منها ممسكًا بكفها نازعًا السكين من كفها راميًا لها بعيدًا وحين عاد بنظراته إليها مزمجرًا بغضب أغمضت عينيها بسلام هاربة من عبء المواجهة ونظراته المتقدة بشر.
أمسك بجسدها المرتخي وحملها عائدًا بها لحجرتها، حقنها بالمهديء وتركها نائمة
*****
بعد ساعات طويلة
وجدتها جوارها فانتفضت مستفسرة «أنتِ مش مشيتي؟»
تجاهلت صفوة سؤالها واقتربت منها تملّس على وجهها مستكشفة بحنو«غزل أنتِ كويسة؟»
وقفت قائلة بعصبية «ردي عليا الأول يا صفوة رجعتي إزاي وليه ؟»
ابتسمت صفوة قائلة بوهن «معرفتش أسيبك يا غزل رجعت علشانك مكنتش هقدر.»
نظرت إليها بعتب ودموعها تتساقط بغزارة على وجنتيها، انهارت غزل على الفِراش جالسة بإرهاق وتعب تلومها بضعف «حرام عليكي بجد يا صفوة أنتِ عارفة أنا عملت إيه علشان أخلّصك منه؟»
اقتربت منها صفوة وضمتها من الخلف قائلة «معرفتش أسيبك أنا مش خاينة يا غزل ولا واطية، أنا بحبك أووي حتى لو مكنتيش أختي» أمسكت غزل بكفيها باكية لا تجد ما ترد به عليها، مشاركة لها الألم مقتسمة معها الوجع، تأوهت غزل بعذاب قبل أن تسترد أنفاسها وتمسح دموعها متوسلة«ارجعي علشان رؤوف، دا اتحمل كتيرعلشانك»
وضعت صفوة جبهتها على كتف غزل هامسةً «مش عايزة أسيبك أنا معرفهمش حتى ماما بقت غريبة وخايفة»
طمأنتها غزل برفقٍ«متخافيش هترتاحي هناك كلهم بيحبوكي أكتر مما تتخيلي وعايزينك»
جلست صفوة جوارها مقترحة عليها «طيب ارجعي معايا»
عضت غزل شفتيها كاتمة تأوهات عذابها وأجابتها بمرارة «معادش ينفع خلاص ولازم أفضل علشان ورق رؤوف وأحاول أخلصه من أي مصيبة مرتضى ورطه فيها»
ابتسمت غزل بارتجاف وهمست وهي تربت على خد صفوة بحنو «علشان يكونلي عين عنده تطمني عليه وعلى طاهر»
طأطأت صفوة في اعتراضٍ ورفض خافت النطق به فتوسلتها غزل «علشان خاطري امشي لو فضلتي هنا ومرتضى أذى بيكِ رؤوف أكتر هموت»
ضمتها صفوة بحنان قائلة بندم «بعيد الشر عنك سامحيني يا غزل إني عرضتك لكل دا وورطتك »
بصوت متحشرج أخبرتها «دي أحلى ورطة حصلتلي فحياتي ياريتها كانت دامت»
أبعدتها غزل عنها قائلة بسرعة «يلا اجهزي وامشي مرتضى أكيد نايم ومتطمن إنك رجعتي خلاص»
نهضت صفوة مبدلة ملابسها بسرعة تحت نظرات غزل المهتزة بالقلق والتعجل، اقتربت منها فمنحتها غزل رزمة أموالٍ قائلة «دي فلوس ابن عمك أنتِ أولى بيها»ثم نظرت لساعة الهاتف قائلة « الوقت متأخرش أوي هتلحقي »ثم حذرتها بجمود«متعرفيش حد مكاني بليز»
ثم منحتها هاتفها قائلة «خدي دا علشان لو احتجتي حاجة تكلمي منه يونس أو رؤوف أو طاهر»
ترددت صفوة في أخذه لكنها شجعتها «مينفعش تسافري من غير تليفون والحمدلله مرتضى انشغل ومأخدوش مني»
تناولته صفوة منها بتردد فضمتها غزل موصية إياها «خلي بالك من نفسك ربنا يحفظك»
أبعدتها وسحبتها من كفها بحذر حتى أوصلتها لباب الشقة، ثم تسللت لحجرته بحذر، سرقت سلسلة المفاتيح من جواره وغادرت زافرة براحة
فتحت باب الشقة ودفعتها بسرعة مودّعة وأغلقت خلفها.
استندت بظهرها على الباب متنهدة بألم قبل أن تعود لحجرتها منتظرة استيقاظه
******
#عزف_السواقي
#عائشة_حسين
#رواية_صعيدية
1

