اخر الروايات

رواية متاهة مشاعر الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم نهي طلبة

رواية متاهة مشاعر الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم نهي طلبة 


الفصل الثالث والثلاثون

جلس حسن أمام غسان يراجعان معاً حسابات المطعم ويتناقشان في التطوارت التي اقترحها غسان بشأن فرع المطعم الذي يديره حسن..

اقتراحات يرفضها حسن بضراوة فهو يريد الحفاظ على الطابع الريفي للمطعم.. وإضافة حلقة رقص كما يقترح غسان ستدمر سحر المكان..

ـ غسان.. أنت عارف رأيي.. وجود حلقة رقص وبار وكلام من ده مرفوض..

هتف غسان بتعجب:

ـ بار!!.. أنا قلت بار..

رمقه حسن بتساؤل:

ـ يعني مش دي الخطوة الجاية؟..

ـ لا طبعاً.. ده مش هيحصل أبداً.. وبعدين أنا ما أقصدش قاعة رقص بالمعنى اللي جه في بالك..

قطب حسن بتساؤل:

ـ أومال؟..

ـ jukebox

صمت للحظة وأكمل:

ـ جهاز الموسيقى اللي بالعملة.. تحط الكوين وتختار الأغنية.. ومساحة واسعة بين الكراسي للي عايز يرقص.. فاهمني؟..

أومأ حسن برأسه.. وهو ينهض ليتحرك في الغرفة الضيقة حتى وقف مواجهاً للنافذة الزجاجية الواسعة والتي تحتل حائطاً بأكمله وتسمح لمن في الغرفة بمتابعة أعمال المطعم في الخارج..

التفت إلى غسان وهو يشير إلى النافذة متابعاً حلقة الرقص بالخارج ذات الأضواء الخافتة الرومانسية وقد تناثرت بها عدة أزواج من الراقصين:

ـ مش هتكون زي دي؟..

هز غسان رأسه نافياً:

ـ لا طبعاً.. كل مكان لازم يبقى له الطابع المميز له و..

لم يعد حسن يستمع لأي من هذر غسان وغاب عقله تماماً وعيناه تلمحان خصلات كستنائية متمردة هاجمت أحلامه مراراً في الليالي الماضية.. وهو يغلغل أنامله بها تارة, يتشممها تارة أخرى, يمرغ وجهه به مرة ثالثة.. تباً.. أنه مريض.. بل منحرف خائن ويجب القصاص منه.. كيف يفكر بها بتلك الطريقة!!.. كيف؟..

هاجس خفي يهمس له..

"لكنك لا تفكر هكذا.. أنها مجرد أحلام.. هل يُحاسب على الأحلام!"..

أفاق على صوت غسان وهو يهتف مشيراً إلى معذبة أحلامه:

ـ ياااا.. دي صبا هناك اهيه ومعاها إياد كمان..

ضغط حسن على أسنانه بشدة وعيناه مازالت ملتصقة بها وقد تعلقت بكتفي إياد يتمايلان معاً على أنغام إحدى الأغنيات.. وقد غرقا تماماً في حوار هامس.. رفع ضغط دمه.. وأثار جنونه لدرجة أنه كاد أن يخترق تلك النافذة الزجاجية ليسحبها من بين يدي ذلك الحقير الذي يستغل صغر سنها ولا يحترم كونه موظفاً لدى والدتها..

فوجئ حسن بغسان يجذبه من يده قائلاً:

ـ تعالى هنروح نسلم عليهم و..

قاطعه حسن بسرعة:

ـ لا.. زي ما قلت لك أنا مشغول.. يا دوب هروح المطار.. صاحبي اللي كلمتك عنه.. فاكر.. اللي حجزت له عند خبير في علاج الصمم عشان ابنه.. هيوصل بعد ساعة.. تمام..

ثم ودع غسان وانطلق هارباً وكأن الشياطين تطارده.. فهو يحاول منذ أسابيع الهروب من تلك المشاعر التي داهمته بدون موعد.. مشاعر عاصفة.. جامحة ومجنونة..

"منى.. سيبتيني ليه؟!"..

كان يهتف بها بداخله وهو يدلف إلى سيارته متجهاً إلى المطار ليستقبل يزيد وأسرته.. وعقله يسترجع كل ذكرى له مع منى لتكن درعاً واقياً له من جنون ألم به ولم يعرف له علاجاً, كانت ذكرياته تلك هي خط دفاعه الأخير أمام عاصفة عاتية تجتاحه وتطيح بعقله قبل قلبه.. فهو لا يجد تفسيراً منطقياً لذلك الغضب الأعمى الذي انتابه فقط لرؤيتها تتمايل راقصة بين يدي رجل آخر.. قوة إرادة رهيبة تلك ما جعلته ينطلق خارجاً من المطعم قبل أن يسحبها سحباً من بين ذراعي إياد.. هل تلك غيرة!.. هل أصبح يغار عليها؟!.. كيف؟.. ومتى؟.. ولما؟.. تباً.. أنها صبا.. الفتاة الحلوة الرقيقة.. كيف تؤثر به هكذا؟ حتى أن لورا بكل أنوثتها الطاغية وكل حبها الذي تغرقه به لم تستطع نزعها من خلايا عقله.. من أفكاره وخيالاته.. وأحلامه...

إذاً فليحتمي خلف ذكرى منى فهو وإن صدم نفسه بزواجه من لورا إلا أنه كان يتذرع دائماً بحالته المتخبطة بعد موت منى.. وعندما بدأ يستفيق قليلاً وجد لورا حاملاً بالفعل وأصبح الفراق خيار غير وارد.. لكن ما عذره الآن ليترك قلبه ينجرف نحو عاطفة لا يدرك لها أفق.. فعشقه لمنى برغم قوته إلا أنه كان هادئاً ناعماً كمياه البحر الرائقة في يوم مشمس تشعرك بالراحة والسعادة ولكن تلك الصبا تجتاحه كإعصار مدمر يقتلعه من جذوره, كمياه المحيط.. ثائرة ولكنها تغويه للانغماس بها.. وبرغم عذاب تفكيره بها بقدر المتعة التي تمنحه إياها تلك الأفكار, إحساسه بقلبه ينبض من جديد.. بفكره يتوه مع حركة أناملها الرقيقة.. بخياله يجمح ليقربها منه.. تباً.. لقد افتقد الحب.. كلا.. كلا.. خطأ.. ما يحدث هو خطأ.. خيانة.. فالحب هو منى.. قلبه دفن مع منى.. كيف يسمح بدقة قلبه خادعة تغافله ليتوق للحب من جديد.. نعم.. أنه يتوق للحب وليس لوجود امرأة.. فالوجود الأنثوي بحياته تغطيه لورا ببراعة.. ولكن.. ماذا يفعل وهي تجتاحه ولا تدري عن أمره شيئاً, بل الأدهى أنها ساخرة ومندفعة.. قوية وعنيدة.. لسانها لا يسكت عما تفكر به.. كما أنها تبدو متحررة الفكر للغاية ومتورطة بعلاقة مشبوهة مع ذلك الإياد.. هي كل ما يرفضه في المرأة, فلم تمتلك تلك السطوة عليه.. لم تتسارع نبضاته كلما مر طيفها بباله.. لم أصبح يغمر نفسه بالعمل حتى لا يفكر بها وفي نفس الوقت يبحث عن لحظات مسروقة يغمض بها عينيه ليتخيل عينيها تبتسم له هو فقط..

تباً.. تباً.. يجب أن يتوقف عن التفكير بها.. عن تصورها و...

"تباً"..

صرخها تلك المرة بصوت عال وهو يلكم المقود بعنف بالغ محاولاً إقناع نفسه بتحريك السيارة والابتعاد عن المكان بكل ما يحويه من جنون, وبالفعل أدار المحرك ليعود ويوقفه على الفور ويخرج من السيارة كالعاصفة مقتحماً المدخل الأمامي للمطعم ومتجهاً نحو عذابه المتمايل بين ذراعي آخر فيسحبها من مرفقها بسرعة ويوقف تحرك إياد بإشارة حاسمة من يده هاتفاً:

ـ خليك مكانك وما تدخلش أنت.. دي مسألة عائلية مالكش فيها..

توسعت عينا إياد على آخرهما بعدما وصله ذلك التحذير العنيف, ولكن سرعان ما ارتسمت ابتسامة ساخرة على ملامحه وهو يراقب الموقف بتسلية بالغة بينما حاولت صبا التملص من قبضة حسن الذي زاد من ضغط قبضته عليها هامساً من بين أسنانه:

ـ اتحركي معايا وبلاش فضايح..

تسمرت قدماها بالأرض رافضة التحرك وقد ظهر على وجهها إمارات التمرد وشعت نظراتها بالغضب وهي تهمس له بدورها:

ـ لو مش عايز فضايح بجد سيب إيدي.. وإلا أقسم بالله..

قطع كلماتها إياد وهو يقول بنبرة ظهرت فيها التسلية واضحة:

ـ خلاص يا قطتي.. البشمهندس يوصلك.. أنا كمان افتكرت ميعاد مهم.. تشاااااو..

كانت كلمة "قطتي" بتلك الطريقة ونبرة الدلال بها فوق احتمال حسن فلم يشعر بنفسه إلا وهو ينطلق كالسهم خارج المطعم وهو يسحب صبا خلفه هاتفاً بحنق:

ـ مش عايز اسمع كلمة واحدة وإلا أقسم بالله لاكون مخرجك من هنا على كتفي..

لحظات وكانت صبا تجلس في المقعد الأمامي لسيارة حسن وهي تتنفس بسرعة شديدة وقد تملك الغضب من كل خلية بجسدها حتى أنها عجزت عن الصراخ بوجه حسن الذي أدار السيارة بغضب عاصف والكلمات تنطلق من بين شفتيه بعنف:

ـ أنتِ ازاي بقيتِ كده!..

فوجئت بعنف كلماته واتهام ينطلق من بين شفتيه قبل أن تجبه بكلمة:

ـ صبا البنوتة الرقيقة تربط نفسها بعلاقة مشبوهة مع واحد عمره ضعف عمرها!.. هاه.. ازاي فهميني..

برقت عينا صبا بدهشة بالغة وقد استوعبت ما يدور بذهنه من أفكار سوداء فحلت عقدة لسانها لتردد بذهول:

ـ علا.. علاااقة!!.. أنت اتجننت!!.. أنــ

قاطعها بعنف:

ـ تقدري تفهميني ايه اللي يربطك به؟.. رقص وخروج ودلع و..

صرخت به وقد وصل غضبها لمنتهاه من تدخله الغير مرغوب به:

ـ وأنت مالك!.. مين مات وعملك وصي على تصرفاتي..

غمغم من بين أسنانه مفسراً:

ـ والدتك لها جميل في رقابتي..

قاطعته وهي تكتف يديها على صدرها:

ـ وأنت اهوه رديت الجميل.. وأنقذت بنتها من أنياب الديب الشرير.. ميرسي يا بشمهندس..

ضرب المقود بعنف فانتفضت في مكانها مجفلة وهي ترمق قبضته بقلق لتسمعه يهمس باستفزاز:

ـ ما تخافيش..

هتفت بحنق:

ـ ما بخافش على فكرة.. أنا أعرف أحافظ على نفسي كويس..

تملكه الغضب مرة أخرى ليعاود اتهامه لها:

ـ واضح.. عشان كده بتورطي نفسك مع اللي اسمه إياد..

التفتت نحوه وهي تشير بسبابتها نحوه:

ـ ما يخصكش.. فاهمني.. علاقتي بإياد زي ما بتقول.. ما تخصش حد غيرنا..

هتف بها وقد خرج غضبه عن سيطرته:

ـ ليه؟!.. ليه تدمري حياتك؟..

لفت نفسها لتواجه النافذة تلك المرة وهي تخبره من بين أسنانها:

ـ هو تدمير الحياة بقى حكر عليك بس؟..

انتفض جسده في مكانه بقوة وكأنها رمته بالرصاص.. فجملتها أصابت أعمق مخاوفه وأسوأ كوابيسه.. عندما حرم منى الحياة الطبيعية بجوار والديها وابتعد بها بعيداً لتنتهي حياتها وحيدة.. غريبة..

لاحظت صبا صمته فلفت رأسها لتفاجئ بإنقباض ملامحه وشحوب وجهه.. أصابتها الحيرة بشدة.. فهو يظهر الآن تأثراً لما ألحقه بنيرة منذ سنوات..

حاولت فتح شفتيها لتعدل من كلماتها حتى لا يظن أن نيرة مازالت تدور في فلكه.. ليصلها صوته وهو يحاول اصباغ بعض الهدوء عليه:

ـ بصي يا صبا.. بلاش تحاولي تكوني أي حد غير نفسك.. ما تخليش تجربة سيئة أو حتى شخص مر في حياتك يأثر فيها لدرجة أنك تاخدي قرارات مصيرية تندمي عليها بعدين...

تأملته صبا بذهول لتخرج همستها قبل أن تستطيع إيقافها:

ـ أنت بتقول لنفسك ولا بتقولي الكلام ده..

شرد يتأمل الطريق أمامه ليهمس بكلمات لم تسمعها:

ـ يمكن بقولوه لنا احنا الاتنين..

ابتلعت كلماتها وسكتت وهي تلف برأسها للنافذة الجانبية متسائلة:

ـ ايه ده!.. احنا رايحين فين؟..

قبل أن يجبها تعالى رنين هاتفه, فالتقطه ليجب بسرعة:

ـ أيوه يا يزيد.. نص ساعة وهكون عندك.. آسف على التأخير..

ثم رمق صبا بنظرة خاصة:

ـ مشكلة صغيرة عطلتني.. لا.. لا.. هآجي.. دقايق وأكون عندك..

أغلق الخط والتفت إلى صبا معتذراً بحرج يتناقض تماماً مع ثورة غضبه السابقة:

ـ أنا آسف.. بس لازم أروح أجيب يزيد من المطار.. والوقت يا دوب.. صعب أني أوصلك الأول.. تحبي أوقف لك تاكسي أو..

لم تسمع صبا باقي جملته المعتذرة وهي ترمقه بدهشة بالغة عاجزة عن استيعاب تحوله من الغضب المستعر إلى حالة من الحزن والشجن لتنقلب إلى نوع ما من الوداعة والحرج وصلت به حد الاعتذار منها!..

من يكون هذا الرجل؟!.. أهو الغاضب الأحمق أم الحزين الغامض؟.. أم المهذب الرقيق؟!..

والأغرب ردة فعلها نحوه.. لم تهاجمه باستمرار؟.. لم لم تخبره بمن يكون إياد حقاً بدلاً من الاستماع إلى اتهاماته الحمقاء؟.. لم تشعر بتلك البهجة الخفية والتي تحاول الهروب منها جاهدة..

يا الهي.. لقد ظنت أن ذلك الافتتان القديم قد مات.. لا تنكر أنه كان نجم مراهقتها.. حتى أنها قفزت فرحاً عندما حل ارتباطه بنيرة.. فلم تكن تحتمل أن يكون معشوق مراهقتها هو زوج شقيقتها.. ولكن.. لكن ذلك كان عهداً قديماً وانقضى.. عهداً كفرت عنه مطولاً بتغاضيها عن معاملة نيرة البشعة, حتى بدأت تلك الأخيرة في التقرب منها وبدء علاقة صداقة خفيفة معها.. فلم يحدث هذا الآن؟.. لم يرمقها بتلك النظرات الحائرة وكأنه يتساءل من أنتِ؟..

لم وهما تصادفا مراراً في السنوات الماضية.. لم تشعر أنه رآها بالفعل تلك الليلة في معرض فريدة؟!..

سمعت نبرته المترددة:

ـ صبا!!..

التفتت له لتغرق نظراتها في نظراته.. للحظات أو ثوانٍ لم تدركها رأت حيراتها تنعكس في نظراته.. وكأن سؤالاً بلا إجابة يحلق فوقهما..

"وماذا بعد؟!"..

كانت هي أول من ابعدت عينيها وهي تجيب على سؤاله المسموع وليس ذلك المبطن:

ـ هاجي معاك المطار.. يزيد معاه عليا والولاد.. وأكيد هيحتاجوا مساعدة لحد ما يستقروا..

لم يعقب على جملتها وتوجه مباشرة للمطار حيث كان ينتظر يزيد مبدياً تأففه من تأخر صديقه بينما علياء _التي كانت تحمل رامي بين ذراعيها رافضة وضعه في عربة أطفال كأخويه_ تحاول تهدئته:

ـ خلاص يا يزيد.. قالك أنه جاي في السكة.. اهدى شوية..

رمق يزيد رامي المتشبث بذراعيها ونظراته تلاحق حركة شفتيها وملامحها بافتتان وهمس لها:

ـ الواد باينه وقع في حبك!

التفتت له بغيظ:

ـ أنت.. أنت..

لم تستطع أن تكمل كلماتها وهي تراه يقترب منها غامزاً بعبث:

ـ معذور!..

جاء من خلفه صوت حسن يداعبه:

ـ يعني أنت سايب مصر كلها وجاي تغازل في باريس!

التفت سريعاً ليلتقي بعيني حسن الحزينتين رغم كل شيء.. ففتح له ذراعيه على الفور ليغيبا الصديقان في عناق طويل بينما علياء احتضنت صبا بمودة وسعادة هاتفة:

ـ معقولة المفاجأة الحلوة دي..

هزت صبا كتفيها بحرج وهي تحاول تبرير وجودها حين سارع حسن بالتوضيح:

ـ أنا قابلت صبا بالصدفة في مطعم غسان.. وطلبت منها تيجي معايا عشان تساعد عليا مع الولاد.. و.. ووافقت..

رمقتها علياء بامتنان:

ـ بصراحة.. وجودك جه في وقته.. الأولاد جنوني..

والتفتت حولها لتلمح علي ونادية يتسلقا عربة الحقائب ومعهما أدهم يحاول تقليدهما بتصميم عنيد..

ابتسمت صبا وهي تشير لهم بحماس فينطلق علي كالسهم ويحط بين ذراعي صبا فترفعه عالياً وهو يصيح:

ـ بيبو.. وحشتيني.. هترجعي الحضانة امتى؟!..

بينما رفعت نادية عينيها لصبا وهي تدور حول نفسها بأنوثة:

ـ شوفتي فستاني الجديد يا بيبو..

كانت عيني حسن تراقب صبا وكأن نظراته التصقت بملامحها بينما هي حاولت الاندماج مع أطفال يزيد هرباً من تلك النظرات التي لم تفهمها وما لم تعلمه أنه عاجز عن فهم نفسه.. عاجز عن منعها من استراق تلك النظرات منها.. أخيراً نجح في الانتباه ليزيد ومنحه بعضاً من تركيزه لينخرطا في حوارٍ طويل وهما ينقلان الحقائب ويساعدا الجميع على الاستقرار بالسيارة.. فجلست علياء بالخلف ومعها صبا والأولاد جميعهم ما عدا نادية التي تمركزت على ركبتي أبيها الجالس بجوار حسن وهما مازالا يتهامسا سوياً.. حتى سمعا صوت علياء الضاحك:

ـ يا سلام.. اللي يشوف كده يقول بقى لكوا سنين ما شوفتوش بعض.. ويزيد كان هنا من كام شهر بس..

قهقه الصديقان ويزيد يهتف بإغاظة:

ـ كل ده عشان أنا شوفت منى الصغيرة وهي لأ..

ضحك حسن بسعادة وهو يخرج عدة صور لطفلته ويعرضها على علياء بفخر أبوي واضح فهتفت بانبهار:

ـ ما شاء الله.. زي القمر.. ربنا يخليها..

تناولت صبا الصور وهي تتأمل فتنة منى الصغيرة وتهمس:

ـ جميلة فعلاً.. ازاي فريدة ما رسمتهاش!..

ابتسم حسن بفخر وهو يخبرها:

ـ هي طلبت كتير ترسمها.. بس أنا قلت نستنى أما تكبر شوية..

ناولته الصور فتلامست أطراف أناملهما ليسحباها على الفور فتتناثر الصور على ركبتي علياء التي جمعتها بسرعة لتناولها لحسن وهي تمنح صبا نظرة متمعنة ومتسائلة هربت منها بتعمد وهي تجاري ثرثرة علي التي لا تنتهي وهو يقص عليها كل ما مر به في رحلته الأولى بالطائرة.. بينما عادا حسن ويزيد لحوارهما الهامس الذي لم يمنع حسن من الاستمرار في مراقبة صبا والاستماع إلى همسها مع أدهم وعلي ذلك الشقي الذي لم يكتفِ بالجلوس على ركبتيها فقط ولكنه أيضاً لم يكف عن تقبيل وجنتيها وهو يخبرها كم يفتقد وجودها في مدرسته..

مما دفع حنق حسن لآخره وهو يظبط نفسه يغار من طفل!.. طفل عابث في السادسة أو أكثر ولكنه محظوظ لعين يملك الحق بملامستها والاقتراب منها بل وتقبيلها أيضاً..

ـ علي واخد على صبا قوي!..

تباً.. لقد انطلقت أفكاره على لسانه.. منذ متى يحدث هذا معه؟.. منذ متى يفقد السيطرة هكذا!..

بدا يزيد غير منتبه لمعاناته وهو يجبه ببساطة:

ـ صبا بتتدرب في المدرسة عند علي.. غير كده هي ونيرة مع علياء معظم الوقت..

صمت حسن وهو يستمع ليزيد ليتأكد للمرة الثانية من تعمق العلاقة بين صبا ونيرة... فهل صبغتها نيرة بخبثها وانعدام ضميرها إذاً ذلك تفسير إقامتها علاقة مع ذلك المدعو إياد؟!.. أم هي من بذرت براعم التغيير في أعماق نيرة كما زعم مازن قبل سفره..

تنهد بعمق وأفكاره تسحبه من دوامة لأخرى.. حتى توقف بالسيارة أمام المنزل الذي استأجره ليزيد أثناء اقامته بفرنسا.. ورتب معه أمر الذهاب إلى الطبيب المختص وكافة الأمور الأخرى.. ثم عرض على صبا أن يقلها للمدينة فرفضت بحسم مفضلة المكوث مع علياء لوقتٍ أطول وبعد جدال طويل كاد يطحن به أسنانه حنقاً من تصرفاتها وهي تخبره بإغاظة:

ـ أنا هستنى مع عليا والولاد.. وهكلم إيدي يوصلني بالليل!..

هتف حسن متسائلاً:

ـ إيدي!

هزت كتفيها بمكر:

ـ أيوه.. إياد..

لحظتها صرخ حسن بها وسط دهشة علياء التي حضرت النقاش:

ـ إيدي.. إياد.. براحتك.. ابقي خليه ينفعك..

وانطلق تصحبه أعاصير غضبه بينما صبا تهز كتفيها بلامبالاة مصطنعة وهي تهمس بغضب مكتوم:

ـ أكيد هينفعني..

رمقتها علياء بنظرة متسائلة:

ـ صبا؟!!..

غلغلت يدها في خصلاتها وهي تخبر علياء:

ـ ما تاخديش في بالك.. يلا نروح للولاد..

بعد فترة اتجه يزيد ليطمئن على الأولاد ليجد علياء تدثر رامي وتقبل جبهته بحنان فالتفت ذراعه حول خصرها وهو يسألها هامساً:

ـ صبا روحت؟

أومأت برأسها موافقة:

ـ طلبت تاكسي.. قالت أنها متعودة على كده..

اتجهت نحو مهد حمزه لتدثره هو الآخر بينما يزيد يزداد التصاقاً بها:

ـ الأولاد كلهم ناموا؟..

أومأت مرة أخرى وهمست وهي تشعر بشفتيه تعبثا بعنقها:

ـ يزيد.. الله يخليك.. بلاش جنانك ده.. مش في أوضة الولا....

ضاعت كلماتها في شهقة ناعمة وهو يرفعها بين ذراعيه ويتحرك بها نحو غرفتهما ليغلق الباب خلفهما ويتجه نحو مقعد عريض فيجلس ويضعها على ركبتيه كعادته مقرباً اياها من جسده ويرفع يده لتمر أنامله برقة على جانب وجهها ويمسك بوجهها ليواجه عينيها وإبهامه يتحرك برقة على شفتيها ليشعر بابتسامتها الرقيقة وهي تسأله:

ـ ايه حكايتك بالظبط؟..

كانت إجابته أن جذب رأسها نحوه ليأخذ شفتيها في قبلة مجنونة تركتهما يلهثان معاً وسمعته يمهس أمام شفتيها:

ـ احنا في باريس بقى لنا ساعات ودي أول بوسة!..

ابتسمت وهي تلمه بذراعيها وترمي برأسها على كتفه:

ـ أنا مش مصدقة أني طاوعتك في الجنان ده!

شبك أصابعه بأصابعها وهو يهمس:

ـ ايه الجنان في أني عايز اعمل شهر عسل مع مراتي..

ضحكت بعذوبة:

ـ شهر عسل مع مراتك ونص دستة أطفال..

قهقه بقوة:

ـ اعمل ايه بقى هي دي ضريبة تأخير شهر العسل!

اقترب برأسه منها يتشمم شعرها بهوس لتعاجله هي:

ـ عارف لو اعتذرت أنا هاخد أول طيارة على مصر.. أنت بقى لك فترة كل ما تشوفني تعتذر..

ابتسم لها وهو يقرب شفتيه من عنقها هامساً:

ـ طيب ينفع أقول شكراً..

ـ لو هتتكلم على رامي..

قاطعها:

ـ شكراً لأنك في حياتي.. لأنك اتحملتيني كتير.. لأنك حبيبتي.. ومراتي.. مراتي الوحيدة..

أبعدت رأسها عن كتفه ورفعت نظراتها إليه ببطء وبعينيها يلمع سؤال خشيت أن تسأله.. ليجبها هو بقبلة دافئة وهو يزيد من ضمها لصدره هامساً بتنهيدة:

ـ قرار اتأخر.. اتأخر كتيييير.. وأنتِ حبيبتي اتحملتيني كتير.. وصبرت عليَّ كتير..

همست له بتساؤل:

ـ علشان رامي؟.. تصرفاتها و..

تنهد بقوة وعدل من جلستهما ليخبرها بوضوح:

ـ أكيد ده سبب مهم.. لكنه مش السبب الوحيد.. كان ممكن أسيبها على ذمتي.. بدون أي التزام مني ناحيتها.. على فكرة ده كان طلبها..

سكت قليلاً يراقب رد فعل علياء على كلماته.. ولكنها لم تجبه بكلمة فقط أخفضت بصرها وتنهدت بقلق, فاقترب يزيد برأسه منها ورفع ذقنها ليواجه عينيها:

ـ ما ينفعش.. قلت لها ما ينفعش..

رمشت علياء بعينيها تنفض عبرات لم تعرف لها سبباً بينما هو يكمل:

ـ ما هو ما ينفعش أسمح لها تكون في حياتي أكتر من كده.. ما ينفعش أساويها بيكي حتى ولو بالاسم.. ما ينفعش بعد ما عرفت يعني ايه كلمة حبيبتي..

قبلة دافئة همس بعدها:

ـ حبيبتي أنتِ..

همسته فكت أسر عبراتها ولكنها أخيراً كانت تبكي راحة.. وسعادة...

**************

حول مائدة كبيرة في ركن قصي لمطعم حسن.. حيث دعا الجميع على الغذاء.. بداية من غسان الذي كان يسترق نظرات خاطفة نحو فريدة وهي تبتسم لرامي الجالس على ركبتيها وبجوارها صبا وعلياء يحملان التوأمين.. بينما حسن يحتضن ابنته وبجواره لورا التي أخذت تثرثر بعربيتها المحدودة مع علياء.. وعينيها تراقب نظرات زوجها التي تحوم حول صبا بإصرار بينما الأخيرة تهرب بنظراتها لتطوف في كل مكان عدا ذاك الجالس به حسن..

كانت تتساءل بحيرة عن طبيعة العلاقة بينهما.. أنها تثق بحسن.. تدرك كم هو صادق ونزيه.. كما أنها تعلم علم اليقين أنه عاجز عن الإحساس بالحب.. لقد أخبرها أكثر من مرة وبكلمات واضحة.. أن قلبه مات ودفن مع منى.. وما يحمله نحوها هي من ود واحترام هو أقصى ما يستطيعه من مشاعر.. بقدر ما آلمتها كلماته بقدر ما احترمته لصراحته وصدقه معها..

إذاً لم ذلك الهاجس الغامض الذي يهمس لها بشيطنة.. أن قلب حسن عاد للحياة.. وأنه يدق مرة أخرى وبعنف أيضاً؟!..

دار أغلب الحوار على المائدة حول المطعم وتصميم حسن له.. حتى أنه جهز جزء خاص للأطفال بحديقة المطعم الواسعة.. وقتها غمغم حسن بفخر:

ـ وقت ما كنت بجهز المطعم اتولدت منى.. ولقيت عقلي لوحده بيفكر في التصميم بحيث أنه يناسب الأسر.. وبالذات لو في أطفال صغيرين..

والتفت إلى غسان قائلاً:

.jukebox ـ يمكن عشان كده مش قادر اقتنع بفكرة الــ

التفتت له صبا التي كانت تستمع للحوار في صمت لتهتف بحماس:

ـ وايه المشكلة... بيتهيألي وجود حلقة رقص بسيطة هتكون إضافة حلوة.. الأهل يتمتعوا برقصة ناعمة هنا والأولاد يلعبوا برضوه في الجزء الخاص بيهم..

ابتسمت فريدة تعقيباً على كلمات ابنتها:

ـ صبا بتموت في الرقص.. بكل أنواعه..

توردت وجنتا صبا بينما تكمل علياء بتعليق متعمد وهي ترمق يزيد بنظرة ذات مغزى:

ـ صبا بترقص تانجو حلو يا حسن.. حلو قوي.. هتستنى برضوه لم يكون في مازن عشان يرقص معاها!

وقبل أن يجيب حسن بكلمة فُتِح باب المطعم ليدخل علي منطلقاً كالقذيفة ويهبط فوق ركبتي والده هامساً:

ـ يزيد.. عايز أقعد على رجل صبا..

أسكته يزيد بحزم:

ـ أنت سيبت أختك لوحدها؟

هز علي رأسه نفياً وهو يخبره ببراءة:

ـ لا.. هي معاها أدهم.. بيلعبوا سوا..

أجابه يزيد:

ـ وينفع برضوه أنك تسيب أخواتك الصغيرين لوحدهم؟

التفت علي لوالده وهو يفكر في حل لمعضلته الصغيرة.. ثم انفرجت ملامحه وهو يهمس لوالده:

ـ عايز صبا تيجي معايا عندهم..

لم يتمالك يزيد نفسه من الابتسام وهو يرى تصميم ابنه على طلبه.. بينما همس له حسن بغيظ:

ـ بس صبا بتتغدى يا علي..

التفت علي إليه يراقبه للحظات وكأنه يدرسه عن قرب ولكن سرعان ما لفت انتباهه وجود منى الصغيرة على ركبتيه فهتف:

ـ بص يا يزيد.. نونو ملونة زي رامي.. بس دي شعرها طويل..

ضحك الجميع عندما وصلتهم جملة علي فهو رفع صوته تلك المرة.. وأجابه يزيد ببساطة:

ـ دي بنوتة يا علي.. اسمها منى.. ايه رأيك فيها حلوة؟..

ضحك علي ببراءة:

ـ حلوة يا يزيد.. عينيها لون الشجر اللي في المزرعة..

أحاط حسن ابنته بكلتا ذراعيه وزمجر في يزيد:

ـ ايه يا بني.. ابنك بيغازل وهو لسه في ابتدائي.. ابعد أنت وهو عن بنتي.. آه.. أنا بقولك اهوه.. ولقد أعذر من أنذر..

قفز علي من فوق ركبتي أبيه ليهتف بحسن:

ـ هي حلوة صح.. بس عِشق أحلى منها.. ما تزعقش ليزيد..

ثم أخرج له لسانه بغيظ طفولي وسط ضحكات الجميع وتوجه نحو صبا ليجذبها قائلاً:

ـ تعالي معايا عند الملعب يا بيبو..

رفعت صبا حمزه من فوق ركبتيها لتناوله ليزيد وخرجت برفقة علي وهي تكاد تركض هرباً من نظرات حسن وعلياء..

"آه.. يا علياء يا ترى تقصدي ايه بكلامك العجيب ده"..

كان يزيد يردد نفس سؤال صبا وهو يتمشى مع علياء في حديقة المطعم.. حيث عرضت فريدة مجالسة التوأم ورامي أيضاً الذي راح في سبات عميق..

وتوجه حسن مع لورا إلى مكتبه ليناقش غسان في بعض التفاصيل..

أعاد يزيد سؤاله بقلق:

ـ تقصدي ايه يا علياء؟.. أنتِ لسه بتفكري في موضوع ريناد؟..

هزت رأسها نفياً:

ـ أقصد حسن.. حسن وصبا يا يزيد..

توقف هاتفاً بدهشة:

ـ ايه!.. حسن وصبا!

اقتربت منه لتضع كفها على شفتيه هامسة:

ـ هشششششش.. وطي صوتك..

أمسك بكفها ليقبل باطنه باستمتاع ويحيط خصرها بذراعه مقبلاً وجنتها وقبل أن يسترسل في عواطفه المجنونة كعادته أوقفته هاتفة بحنق:

ـ أنت شكلك ناوي تعمل فضيحة.. احنا في عز النهار وفي مطعم صاحبك..

همس بإذنها عابثاً:

ـ احنا في شهر العسل..

هزت رأسها يائسة:

ـ ما فيش فايدة فيك.. عمرك ما هتعقل..

ألصقها به وهو يتصنع الجدية:

ـ طيب نتكلم بالعقل.. ايه موضوع صبا وحسن؟.. وازاي؟.. أنتِ ناسية أنه متجوز؟..

هزت رأسها بحيرة:

ـ مش عارفة.. بس أنت مش حاسس بالتوتر اللي بينهم.. زي ما يكون في حاجة.. كيميا.. شرارة مشاعر..

اقترب ليداعب أذنها بشفتيه:

ـ متأكدة أنها بينهم.. بيتهيألي أنا الكهربا عندي 4000

حاولت تبتعد عنه وهي تهمس حانقة:

ـ يا ربي..

وبينما كانت علياء تتدلل على يزيد كانت عيني لورا تراقبهما من نافذة مكتب حسن الذي أنهى أعماله مع غسان.. لتلتفت لحسن متسائلة:

ـ شوف.. شوف حسن.. ألياء "علياء" ويازيد "يزيد".. هو مش مكسوف يقرب منها..

رمقها حسن بتساؤل فانتقلت إلى اللغة الإنجليزية لتعبر بطلاقة:

ـ أنه لا يخشى إظهار حبه أمام الناس.. كنت أظن أنكم لا تفضلون ذلك!..

رمقها بتساؤل:

ـ نحن؟!..

أجابت بارتباك:

ـ أقصد الشرقيين..

رفع حسن حاجبيه ليتساءل ثانية:

ـ لم أعتقد للحظة أنكِ من أولئك الذين يصنفون البشر!.. يبدو أنني كنت مخطئاً..

هزت رأسها بارتباك:

ـ كلا.. كلا... أنا لم أقصد..

قاطع كلماتها بحسم:

ـ اعتقادك صحيح.. نحن لا نفضل إظهار عواطفنا في العلن.. إلا في حالات العشق الإستثنائية..

رمشت بعيونها للحظة قبل أن تصدمه بسؤالها:

ـ هل قبلت منى يوماً علانية.. أمام باقي الناس؟

رفع نظراته إليها للحظات مرت بها أكثر مشاهده جنوناً مع منى.. ولكنه لم يفقد يوماً السيطرة ليقبل منى علانية كما يفعل يزيد الآن وهو يضم علياء ويقبلها بلا خجل.. أو ربما هو فقط لم يظن بوجود عيون مراقبة أو بالأحرى متلصصة.. عند تلك النقطة جذب لورا من يدها:

ـ يزيد مجنون.. لا تأخذي تصرفاته كمقياس لباقي الرجال..

تنهدت لورا بحنين هامسة:

ـ أنه ليس مجنوناً, بل عاشق بجنون..

والتفتت لتلقي نظرة أخيرة عليهما قبل أن تغلق النافذة كما أمرها حسن لتفاجئ بيزيد العاشق وهو يصرخ بوجه إياد بغضب شديد وبلحظة منحه لكمة خاطفة ولكن من القوة لتتسبب بترنح جسد إياد.. قبل أن يلحقه يزيد بلكمة أخرى غاضبة.. حينها صرخت لورا وهي تشير للنافذة:

ـ حسن.. انظر..

راقب حسن المشهد الغاضب الذي يدور في حديقة مطعمه.. وبداخله إحساس غامض بالسعادة لرؤية يزيد يكيل اللكمات لذلك الإياد.. ولكن موقعه كمسئول أجبره على التحرك سريعاً لفض النزاع حتى لا يثير قلق رواد المطعم..

أبعد يزيد عن إياد الذي كان تكوم أرضاً ولمح بطرف عينيه فريدة وصبا تنحنيان نحوه بلهفة وهما تطمئنان على جروحه.. كاد حسن أن يلتفت نحوه ليكمل ما بدأه صديقه فالوغد يغوي الفتاة وأمها بنفس الوقت فكلتيهما تنتفضان قلقاً عليه.. ولم يدرِ كيف سيطر على غضبه وصوت صبا يرتفع بغضب:

ـ يزيد.. أنت اتجننت.. ازاي تضربه كده؟.. ليه تمد ايدك عليه؟..

كان يزيد في أوج غضبه وبدا حسن يعاني وهو يحاول السيطرة عليه بينما يزيد يرمق إياد بعنف وهو يصرخ بكلمات غير مترابطة:

ـ أنا اللي مجنون!!.. وده.. البني آدم ده تسميه ايه؟!.. ده.. كان.. ده عايز.. علياء..

تملص من بين يدي حسن ليلتفت خلفه ويحتضن جسد علياء المرتعش:

ـ هشششش.. حبيبتي.. آسف.. ما تقلقيش.. ده تقريباً مجنون..

اقترب حسن من يزيد مجبراً فهو إن ترك العنان لغضبه لانتزع الحياة من ذلك الإياد الذي يبدو فعلاً كالمعتوه وهو يرمق علياء بشرود غريب.. بل أن حسن يكاد أن يقسم أنه سمعه يهمس:

ـ مش همسة فعلاً.. هي مش همسة.. الصورة هي اللي تشبه همسة..

همس حسن ليزيد:

ـ في ايه بالظبط؟.. فهمني..

ظل يزيد محتفظاً بعلياء بين يديه وهو يقص على حسن باختصار كيف اقترب منهما إياد وعرف عن نفسه بهدوء واحترام:

ـ إياد منصور.. مدير أعمال فريدة وأخوها..

ثم اقترب من علياء.. اقتراب يتخطى كل الحدود الحمراء.. ليهمس بافتتان:

ـ فيكي شبه كبير منها.. لكن الصورة أقرب لها..

ابتعدت علياء عنه ليزمجر يزيد بغضب:

ـ افندم!..

ليعاود إياد الهمس بشجن:

ـ علياء سعيدة..

ويمد أطراف أنامله يكاد يلمس ملامح علياء ويردد:

ـ ملامح علياء سعيدة..

عندها فقد يزيد كل تعقله ليهجم على إياد موسعاً إياه ضرباً..

أنهى يزيد كلماته وهو يهتف بحسن:

ـ يعني عايزني أعمل ايه يا حسن؟.. المجنون كان عايز يلمسها!

لم يجب حسن بكلمة واحدة على يزيد فكل ما كان يتردد بذهنه تلك اللحظة جملة واحدة.."أخو فريدة".. إذاً هو خالها.. هو خالها وهي تركته يظن بها الظنون.. راقبت غضبه ولوعته وغيرته.. نعم يعلم أنها تدرك غيرته.. تلك اللحظات بالسيارة كانت كاعتراف متبادل.. اعتراف بعدم الاعتراف.. اعتراف بهروب واجب.. وابتعاد قصري.. ولكنه لا يسامحها لتركه ينكوي بنار إياد.. لن يسامحها أبداً.. ولن يفوتها لها..

التفت فجأة ليلتقي بعينيها ويأسرهما بغضب نظراته.. وكأنه يصيح بها..

"نعم.. عرفت الحقيقة".. و"نعم أخرى لن أفوتها"..

ـ حســـــــن!!..

جاءت صيحة يزيد الغاضبة بعدما شعر بشرود صديقه.. فالتفت إليه حسن وهو يسلخ نظراته من بين نظراتها ويحاول السيطرة على انفعالاته:

ـ اهدى يا يزيد.. أعتقد الأستاذ إياد ممكن يفسر لنا الموضوع..

كانت فريدة هي من تكلمت:

ـ آسفة يا حسن.. وكمان مرة آسفة يا يزيد.. بس عليا فيها شبه بسيط من واحدة..

تردد قليلاً قبل أن تكمل:

ـ واحدة معرفة قديمة لنا.. وفي صورة عندي في الاستوديو.. صورة قديمة من سنين رسمتها لعليا.. كانت وقتها تشبه همسة قوي..

غمغمت علياء بحيرة:

ـ صورة!.. همسة؟..

أومأت فريدة:

ـ أيوه.. صورة أيام فرح نيرة ومازن.. ما أسعدنيش الحظ أنها تكمل.. بس فعلاً ملامحك دلوقتِ مختلفة.. زي ما إياد قال.. سعيدة.. بس..

أكما إياد عنها وهو يعتدل واقفاً:

ـ بس همسة لسه.. همسة لسه تعيسة... وأنا..

أكملت علياء وقد أدركت الموقف:

ـ بتحبها...

رفع عينيه إليها فتحرك يزيد تلقائياً ليحجبها عن عينيه.. فأخفض إياد بصره معتذراً:

ـ أنا آسف.. أنا آسف يا جماعة.. مش عارف ايه اللي حصل بالظبط.. أنا أول مرة أفقد السيطرة على تصرفاتي كده..

وتوجه إلى يزيد مصافحاً:

ـ أرجوك.. اقبل اعتذاري..

تردد يزيد لثوانٍ أمام يده الممدودة ليشعر بوكزة خفيفة من علياء دفعته لمد يده ليصافح إياد هامساً:

ـ حصل خير..

والتفت إلى علياء هاتفاً بحزم:

ـ يلا يا علياء.. كفاية كده النهارده.. نروح بقى..

أوقفه إياد بإشارة بسيطة:

ـ مالوش داعي تبعدوا.. أنا كنت جاي لفريدة في شغل بسيط كده.. دقيقتين وهمشي.. أرجوك.. ما تمشيش..

أومأ يزيد موافقاً واصطحب علياء بعيداً ليذهبا إلى أولادهما.. بينما رافقت فريدة إياد إلى غرفة المكتب الخاصة بحسن وذهبت لورا معهما لتطمئن على ابنتها.. وحين حاولت صبا التحرك لمرافقتهم وجدت مرفقها سجين قبضة حسن وهو يهمس من بين أسنانه:

ـ استني.. لنا حساب مع بعض..

حاولت التحرك لتلحق بأمها وبداخلها هاجس يصرخ بها أن تبتعد.. أن انفرادها به في تلك اللحظة هو جنون.. جنون مازال يخيم على الأجواء.. وهلوسة إياد تتردد في عقليهما..

جذبها من ذراعها بقوة حتى وصلا إلى منطقة كثيفة الأشجار.. فالتفت نحوها ليقبض على ذراعها الآخر ويثبتها على جذع إحدى الأشجار مشرفاً بطوله الفارع عليها وصدره يتحرك بسرعة مخيفة مع لهاثه العنيف.. تبادلا النظرات لفترة من الزمن, نظراتها شجاعة رغم مسحة الخوف بأعماق عينيها ولكنها كانت تواجهه بتحدي عنيف.. بينما كانت نظراته تضج بغضب أعمى.. تساؤل مجنون "لم؟".. تساؤل عبر عنه وهو يدفعها على جذع الشجرة بقوة وينفض قبضتيه منها متسائلاً بهمس حارق:

ـ ليه؟..

رمقته صبا بغضب حارق:

ـ قلت لك قبل كده.. ما يخصكش..

مرر أنامله بين خصلاته بعشوائية وكأنه محموم:

ـ ما يخصنيش.. ما يخصنيش..

ثم صمت لوهلة وهو يدرك مرارة الكلمة بجوفه.. بالفعل.. هي لا تخصه.. لا شأن له بأي من أمورها.. حتى لو كان إياد رجلاً حقيقياً بحياتها لم يكن ليستطيع فعل شيء.. ولكن.. لكن هل يريد التدخل؟.. هل يريد جعلها إحدى شئونه؟.. تحت أي مسمى إذاً؟.. صديقة؟.. أم..

لحظتها قطعت صرختها أفكاره وكأنها خمنت أين جمح به خياله:

ـ ابعد.. ابعد عايزة امشي..

التفت لها فجأة ليسألها بلا إرادة منه:

ـ عايزة تروحي تطمني عليه؟..

هتفت به بيأس:

ـ ده خالو!..

هز رأسه بغضب:

ـ ويا ترى على ضهره لوحة مكتوب عليها خالو؟!..

دفعته في صدره بقوة لتمر ولكنه لم يتزحزح لتهتف به:

ـ أنت اللي أفكارك قذرة؟..

قبض على كتفيها براحتيه ليعود ويلصقها بجذع الشجرة متسائلاً:

ـ وليه سيبتيني أظن كده؟..

هتفت من بين أسنانها:

ـ ما تهمنيش أفكارك!

اقترب بوجهه من وجهها حتى تلاقت العيون وهو يسألها مجدداً:

ـ ليه يا صبا؟..

حاولت منحه نفس الاجابة ولكن تعثرت حروفها تحت أنظاره المستعرة:

ـ عشان.. عشــ...

ارتكز بجبهته فوق جبهته ليهمس ثانية:

ـ ليه يا صبا؟..

حاولت التملص منه لتسمعه يردد بحيرة وكأنه يخاطب الكون الواسع:

ـ ليه يا صبا... ليه أنتِ.. ليه دلوقتِ؟.. ليه يا صبا؟

لم تفهم عما يتساءل بالتحديد ولم تعرف كيف تجبه فقط كانت غريزتها تخبرها بأن تهرب.. فحاولت التملص منه بقوة لتسمعه يهمس بشراسة:

ـ اثبتي.. ما تتحركيش..

حرقتها أنفاسه الساخنة, بل الحارقة.. وهي لم تعرف من أين تأتي النيران من قربه الحميم أم من أعماقها هي..

لمحته يقترب أكثر..

يا الهي.. لقد جُن بالتأكيد كما جنت دقات قلبها وهي تتسابق وكأن قلبها يعلن بكل بساطة رغبته في القفز من بين ضلوعها ليستقر طائعاً خاضعاً بين يديه.. كان قريباً منها بخطورة.. بجنون دفعها لمحاولة الإفلات ثانية ليعاود همسه الحارق وإن شابت نبرته بعض الوهن:

ـ ما تتحركيش يا صبا.. أرجوكِ..

عادت لمحاولة الهرب وتلك المرة مستخدمة الكلمات لتهتف بتوسل واضح:

ـ حسن.. حسن..

قطع كلماتها تلاقي العيون.. نظراته حائرة.. خائفة.. قلقة بشرود.. قرأت التيه والضياع بعيونه بسهولة وهو يهمس:

ـ حسن بيدور على بر الأمان.. حسن محتاج بر الأمان...

هو يريدها.. كلا.. الأمر أكبر وأعمق..

ما يشعر به ليست رغبة حمقاء عابثة بامرأة.. ذلك الطوفان الهادر بداخله لا يمكن تفسيره برغبة جسدية.. هو يحتاجها.. يحتاج جنونها.. جموحها.. يريد قلبها وحبها.. يرغب ببرائتها وعبثها.. يكاد يتسول حنانها وعطفها الأمومي الفطري.. يتوق لروحها...

يريد.. ويحتاج.. ويرغب..

ويشعر.. نعم هو يشعر من جديد..

*********

انطلق مازن بسيارته يحاول جاهداً الهروب من الاختناق المروري حتى يقضي بعض الوقت مع عشق قبل أن يعود إلى منزله مع نيرة..

زفر بضيق لا يريد الخوض في ذكريات مشاجراتهما المستمرة منذ عودته من باريس.. والمناقشات بينهما لا تنتهي وغالباً ما تختمها بنوبة بكاء هيستيرية كما حدث صباح اليوم..

قطع شريط أفكاره رنين الهاتف المستمر.. رمق الشاشة بحيرة عندما لمح رقم لم يتعرف على صاحبه.. ففتح الخط ليصل لمسامعه صوت السيدة أنيسة مديرة منزله وهي تبكي بهيستيريا:

ـ مازن بيه.. ألحقني.. يا بيه.. الست نيرة..

وانهارت السيدة في نوبة هيس


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close