اخر الروايات

رواية متاهة مشاعر الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم نهي طلبة

رواية متاهة مشاعر الفصل الثاني والثلاثون 32 بقلم نهي طلبة 


الفصل الثاني والثلاثون

تمسك يزيد بكلتا يديه بمقود السيارة بغضب مكبوت محاولاً عدم الالتفات إلى ثرثرة ريناد الجالسة بجواره والتي تعبر عن امتعاضها من الطبيب المختص الذي تركا عيادته للتو برفقة ابنهما رامي..

ثرثرتها لا تنتهي حول الطبيب وعدم كفائته وقلة ذوقه.. بالطبع فعلياء هي من اقترحته.. لذا يجب أن يكون عديم الكفاءة.. بينما الرجل كان في قمة الاحترافية وهو يفحص رامي بدقة شديدة.. وبعد عدة أسئلة لم تمتلك ريناد أي اجابة عنها, فكان يزيد يجيب بدلاً منها.. موضحاً كيف ومتى اكتشف المشكلة التي يعاني منها الطفل.. صمت الطبيب عاجزاً عن التعبير عما يجول بخاطره عندما علم بأن زوجة الأب هي من اكتشفت علة الصغير.. وأخيراً طلب منهما عدة تحاليل وفحوصات وراثية نظراً لوجود صلة قرابة وثيقة بينهما, فقد اتجهت ظنون الرجل لوجود خللاً وراثياً سبب ضعف السمع الشديد الذي يعاني منه ابنه.. واقترح بداية استخدام جهازاً سمعياً مؤقتاً حتى يتبين مدى الضعف الذي يعاني منه الصغير..

نعم.. فالحمد والشكر لله.. والفضل كان لعلياء في اكتشاف الحالة في وقت مبكر نسبياً..

"وإن كان من الممكن الاكتشاف في وقتِ بدري شوية"..

كانت تلك كلمات الطبيب.. والتي أكسبته عدواة ريناد على الفور.. فكلماته تتضمن اتهاماً ضمنياً لها بالاهمال.. وهو ما كان موقن منه الطبيب.. وظهر جلياً من طريقته الجافة في الاجابة عن أسئلتها السخيفة والتي كان أعظمها سخافة سؤالها عن جهاز السمع ومدى توافره بألوان راقية وأحجام لا تجعله مرئياً حتى لا تلمحه صديقاتها.. ولكن تلك السخافة لم تعادل قسوة سؤالها عن وجود مؤسسات متخصصة لاستقبال حالات كحالة رامي.. لحظتها بدا الطبيب على وشك القائها خارج مكتبه بينما تكورت قبضة يزيد بالفعل وكانت معجزة بحق أنه لم يلكمها في وجهها.. كما يستحق كائن أناني مثلها..

زاد من ضغط يديه على المقود حتى ابيضت سلميات أصابعه وثرثرتها تضرب أذنيه بقسوة مطالبة اياه بالبحث عن طبيب آخر أكثر تهذيباً وأكثر قدرة على التعامل مع من هم في مركزها..

ـ احنا لازم نفكر كويس في خطوتنا الجاية.. وهنتصرف ازاي مع رامي و..

قطع كلماتها توقف السيارة المفاجئ أمام الفيلا ليصطدم رأسها بالزجاج الأمامي وتصرخ غاضبة:

ـ يزيد!.. أنت اتجننت!!..

لم يجبها بينما التفتت إلى الخلف ليطمئن على رامي فوجده مازال نائمًا.. يبدو أن فحوصات الطبيب قد سببت له الاجهاد.. داعب وجنته بحنان وقد مرت بعقله فكرة استساغتها نفسه سريعاً فاتخذ قراراً فورياً وترجمه بكلمات قليلة ألقاها نحو ريناد:

ـ ريناد.. أنا هاخد رامي يلعب مع أخواته شوية..

زمجرت غاضبة:

ـ تاخد رامي لأخواته ولا تروح تترمي في حضن الهانم!.

هز كتفيه بلامبالاة وهو يرمقها بغضب مكتوم:

ـ حتى لو كان.. ايه الجديد عليكِ!.. أنا مش برتاح إلا مع علياء.. أنتِ عارفة ده كويس ومتقبلاه..

أغمضت عينيها للحظة تبتلع صراحته الفجة ثم همست:

ـ أنت مش ملاحظ أنك بقيت صريح لحد القسوة؟..

ردد بسخرية:

ـ قسوة!.. لا أبداً.. هو زي ما بتقولي أنا بقيت صريح قوي..

ثم صمت للحظة ليخرج صوته بارداً:

ـ لكن القسوة الحقيقية.. لما تبقى في ست.. المفروض أنها أم.. والمفروض ابنها في عز احتياجه لها.. لكن هي كل اللي بتفكر فيه ازاي تتخلص منه في مؤسسة ولا مركز طبي..

شحبت ملامحها لحظة ورددت بقلق:

ـ أنا...

قاطعها ببرود:

ـ أنتِ تروحي تكلمي خالتي في التليفون وتبلغيها أن ابني هيفضل جنبي.. ومش هبعده لأي مكان.. عايزة أنتِ بقى تفضلي جنب ابنك.. أهلاً وسهلاً.. مش عايزة.. براحتك!..

سألته بتوجس:

ـ يعني ايه؟..

أدار السيارة مرة أخرى كإشارة لها بالترجل منها وهو يغمغم:

ـ كلامي واضح.. عن إذنك!..

تركت السيارة والغضب يتملك كل خلية من خلاياها واندفعت داخل الفيلا لتتصل بوالدتها على الفور وهي تصرخ بها غاضبة:

ـ شوفتِ آخر نصايحك أنتِ وخالتي!.. خلاص البيه بقى يقولها في وشي بصراحة ومن غير ما يتكسف.. هو مش بيرتاح غير مع الهانم التانية.. وغير كده.. بيخيرني بين أني استمر معاه خدامة لابنه المريض, و..

قاطعتها أمها:

ـ وبين ايه؟..

دعكت ريناد جبهتها بتعب:

ـ مش عارفة.. ما قالش بس أكيد الطلاق..

غمغمت أمها بقلق:

ـ طلاق!..

هتفت ريناد بانزعاج:

ـ ماما.. أنا مش عارفة اعمل ايه!.. هو رامي صعبان عليّ.. بس مش متخيلة نفسي أم لطفل معوق زيه!

صمتت أمها لفترة.. قبل أن تخبرها بهدوء:

ـ خلاص.. يبقى تخلفي ابن سليم.. ورامي ترعاه أي مربية متخصصة..

صرخت ريناد بها:

ـ أنتِ بتقولي ايه بس!!.. طفل تاني!.. أنتِ ناسية أنا اتعذبت قد ايه عشان أخلف رامي؟!.. وبعدين أساساً الدكتور شاكك في مشاكل وراثية.. يعني ممكن الطفل الجديد ده يكون مريض زي رامي أو حتى أسوأ..

زفرت أمها بغيظ:

ـ مشاكل وراثية!.. ايه الحظ ده!.. طيب أنتِ ناوية على ايه؟

ـ مش عارفة يا ماما.. اليومين اللي فاتوا كنت هتجنن من القعدة مع رامي.. صحيح يزيد كان موجود.. وحتى هو اللي كان بيعمله أغلب طلباته.. بس الوضع مش هيستمر كده على طول..

ـ عندك حق.. أنا مش عارفة أفكر.. بس فكرة أنك تتنازلي عن وضعك كزوجة ليزيد الغمراوي قرار مش سهل.. برستيج ونفوذ وفلوس.. طيب حاولي تقنعيه بموضوع المربية.. واهو كده ممكن تستمروا زي ما أنتوا.. صحيح هو الولد فين؟..

ـ أخده وراح للهانم مراته..

هتفت أمها:

ـ طيب ما الحل موجود اهوه.. يربي ابنه المعاق ده وسط ولاده من عليا وهي مش هيفرق معاها.. خمس ولاد من ستة..

ـ امممم.. تفتكري؟.. طيب ويزيد هيوافق؟..

ـ ده ما هيصدق.. بس زي ما قلت لك.. فكري في طفل جديد.. خليه المرة دي تلقيح صناعي ولا أنابيب.. عشان نحاول نتجنب أي مشاكل وراثية..

برقت عينا ريناد بحماس:

ـ تصدقي فكرة كويسة قوي..

وأغلقت الخط مع والدتها وهي تفكر في وسيلة فعالة تقنع بها يزيد بفكرة الطفل الجديد.. طفل سليم.. تفتخر بوجوده وسط صديقاتها.. ويمكنها التعامل معه بسهولة.. وفي المستقبل.. يكون هو مستقبل عائلة الغمراوي.. ووريثها..

************

جلست نيرة على الأريكة الوثيرة بغرفة المعيشة في شقة علياء تراقب تلك الأخيرة وهي تحتضن صغيرها حمزه وهي ترضعه وتهمس له بحنان بينما أناملها تداعب خصلات شعره القصيرة وابتسامة رقيقة ترتسم على شفتيها..

دمعة مفاجئة جرت على وجنة نيرة فسارعت لتمسحها بسرعة وهي تتصور نفسها تحتضن طفل مازن بين ذراعيها.. ترضعه وتهمس له كما تفعل علياء..

أمنية بعيدة المنال.. وحلم أضاعته بإيديها.. حتى بعدما علمت بخبر انفصاله عن دنيا.. ظنت لوهلة وجود أمل ما أمامها ليفاجئها بخبر سفره إلى شقيقه.. وكأنه يهرب من أي مستقبل يجمعه بها.. أو حتى مجرد فكرة لمستقبل..

زفرت بحزن وهي تسأل علياء:

ـ هو يزيد ما يعرفش مازن هيرجع امتى؟..

هزت علياء رأسها نافية بصمت وهي تتذكر ابتعاد يزيد في اليومين الماضيين.. وانغماسه الكلي في مشكلة رامي.. تقدر هي وضعه وتمنحه العذر بالكامل, إلا أنها تفتقده بشدة.. تحتاج تواجده حولها الآن وقد كبر أولادهما وأصبح احتياجهم له أقوى وأشد..

سمعت صوت نيرة يسألها بتردد:

ـ تفتكري ممكن يكون ليا فرصة مع مازن؟..

التفتت علياء نحوها وهي تعدل من وضع حمزه لتسألها بوضوح:

ـ نيرة.. خليكي صريحة مرة واحدة مع نفسك.. أنتِ عايزة مازن ليه؟.. عشان هو جوزك اللي بعد عنك فجأة واتجوز غيرك وعايزة تعلني انتصارك عليها؟.. ولا عشان هو الراجل اللي بتحبيه واللي يستحق أنك تحاربي عشانه؟..

أخفضت نيرة بصرها للأسفل وهي تغمغم:

ـ مازن طلق دنيا..

شهقت علياء بصدمة وقد اتسعت عيناها ذهولاً.. ولكن ذهولها وصل لمنتهاه ونيرة تردف:

ـ دنيا هي اللي بلغتني.. الست دي غريبة قوي.. تخيلي أنها كانت بتوصيني على مازن.. وبتقسم لي أنه لسه بيحبني بس محتاج مني شوية تضحية وتعب.. الست دي مجنونة ولا خيالية؟.. دي تقريباً من عالم تاني..

غمغمت علياء بحزن:

ـ هي بس بتحبه قوي.. بس الانسان كده.. دايماً يضيع الحاجة الحلوة اللي في ايده وهو بيجري ورا سراب..

رمقتها نيرة بنظرة حادة ولكنها لم تعلق.. فما تقوله علياء بقدر ما ينطبق على مازن فهو ينطبق عليها أيضاً..

رمقت علياء بتردد وهي تسألها:

ـ اعمل ايه يا عليا؟.. ارجعه ازاي؟..

ـ بتحبيه يا نيرة؟..

ابتسمت نيرة بشجن وكأنها تتوقع السؤال:

ـ مش عارفة يا عليا!.. هو الحب ايه؟.. مشاعري لحسن كانت حب؟.. ولا اللي بحسه مع مازن هو الحب؟.. أما حسن سابني واتجوز منى حسيت بوجع في كرامتي.. كبريائي اتدمر وكنت غضبانة قوي.. وغضبي استمر لحد ما منى ماتت.. فرحت بموتها.. بس عشان حسن هينحرم منها ويرجع ضعيف ووحيد تاني.. جوازه السريع على قد ما صدمني على قد ما فوقني.. إنما مازن.. مازن جوازه بدنيا كسرني.. فكرة وجود ست تانية في حياتة على قد ما ولعت قلبي نار.. على قد ما شلتني وبقيت مش عارفة اتصرف ولا اتعامل معاه.. ودلوقتِ بعد ما خرجت من حياته.. هو بيهرب مني.. حاسة بوجع لدرجة أني مش قادرة أتنفس..

ابتسمت علياء برقة:

ـ حاولي معاه تاني يا نيرة هو مش هيفضل بعيد على طول.. أكيد هيرجع..

قبل أن ترد نيرة عليها فوجئت بدخول يزيد وقد انقبضت ملامحه فور رؤيته لنيرة وغمغم بضيق:

ـ مساء الخير..

ابتسمت له علياء برقة:

ـ مساء النور يا حبيبي..

وسألته عندما لمحت رامي بين يديه:

ـ أنت جبت رامي معاك؟.. الولاد هيفرحوا قوي.. كل يوم بيسألوا عليه..

أومأ برأسه قائلاً:

ـ أنا هدخل للولاد أوضتهم..

تركهما معاً وانطلق نحو غرفة الأولاد بينما استئذنت نيرة في الذهاب وودعتها علياء بعدما أوصتها بمحاولة الاتصال بمازن:

ـ يا نيرة اسمعي الكلام.. حاولي تحسسيه أنك عايزة وجوده جنبك.. محتاجاه.. ما تسيبيهوش لأفكاره وحزنه..

أومأت نيرة موافقة وودعت علياء معتذرة:

ـ أنا آسفة يا عليا.. يزيد شكله متضايق.. تقريباً أنا عملت لك مشكلة بالزيارة دي..

ربتت علياء على كتفها بحنان:

ـ ما تقلقيش يا نيرة.. أنا هتفاهم مع يزيد..

خرجت نيرة بينما توجهت علياء إلى غرفة الأولاد لترى رامي وقد غط في سبات عميق.. فوضعت حمزه في فراشه ودثرته بحنان.. وتوجهت نحو غرفتها, وما أن فتحتها حتى وجدت يزيد قد تمدد بعرض الفراش تاركاً قدميه لتتدلى على الأرض وأغمض عينيه تماماً.. فاقتربت منه بهدوء لتجلس ملتصقة به وهي تمد أناملها برقة لتداعب صدره وهي تسأله:

ـ حصل ايه عند الدكتور؟..

ظلت جفونه مطبقة لثوانٍ.. ثم حكى لها باختصار ما قاله الطبيب.. فربتت أناملها على جانب وجهه مواسية:

ـ إن شاء الله خير.. ولو في أي حاجة ممكن نعملها عشان نقدر نرفع من قدرته على السمع.. تمارين؟... نظام أكل؟.. أكيد في حاجات مساعدة.. ولا ايه؟..

فتح عينيه وهو يرمقها بحنان.. يريد أن يخبرها أن ما يحتاجه رامي لن يجده عند أي شخص سواها.. ولكن هل يمكنه أن يكون بهذه الأنانية؟. هذه القسوة؟.. أن يطلب منها أن تضم ابن غريمتها تحت جناحها وتربيه مع أولادها!.. تضحية كبيرة.. لا يستطيع طلبها منها.. برغم كل حبها له.. ورغم تيقنه أنها لن تمانع أبداً.. فهي أم بالفطرة.. ولكنه لا يستطيع.. فقط لا يستطيع..

شعر بأناملها تتجول بدفء على صفحة وجهه وصدره.. ثم اقتربت منه لتقبله قبلة دافئة على شفتيه هامسة:

ـ وحشتني قوي..

لفها بذراعه ورفعها لتصبح فوقه فتناثرت خصلاتها السوداء على وجهه.. حركت رأسها لتتحرك معها خصلاتها وتداعب وجهه بعبث جعله يشهق متشمماً رائحته العطرة وهو يضغط جسدها عليه بقوة ويديه تتحرك على ظهرها بحميمية وعبث حتى وصلت إلى عنقها فثبته ليلتقط شفتيها وكأنه تائة في صحراء لسنين وأخيراً وصل إلى نبع عذب..

رفعت رأسها قليلاً وهي تلهث بعنف هامسة:

ـ مالك يا يزيد؟..

عاد يخفض لها رأسها ليقبلها برقة ناعمة وهو يهمس:

ـ وحشتيني أنتِ كمان..

حركت إحدى ذراعيها والتي كانت قد حشرت بينهما لتطوق بها رأسه وتركت أناملها تداعب خصلاته وتتغلغل بها وهي تهمس ثانية:

ـ مالك يا يزيد؟.. لو ما قلتش لعلياء هتقول لمين؟..

أخذ يتأملها للحظات وهو يرى الرقة والعذوبة ترتسم على ملامحها.. وهي تعاود سؤاله للمرة الثالثة عما به.. فما كان منه إلا أن قلبها فوق الفراش ليعتليها هو تلك المرة ويقبلها بقوة وكأن حياته تعتمد على تلك القبلة.. وكأنه يبثها قلقه الذي لم يمر به من قبل.. يريدها أن تزيل تلك المخاوف التي تتلبسه.. يحتاجها أن تتفهمه كما تفعل دائماً.. كان يضمها بقوة لصدره, يلتهم شفتيها التهاماً.. يصرخ بقبلاته لها بما يوجع قلبه ويزعج عقله بشأن مستقبل ابنه الغامض.. لم يظن يوماً أنه قد يخاف إلى تلك الدرجة.. أن يصاب بالهلع والحنق لأن رامي قدر له أم مثل ريناد.. لم يشعر لحظة بالقلق على ابنائه من علياء.. فهو موقن من أنوثتها الممزوجة بأمومة رائعة.. تلك التي تلفه بها الآن وهي تمنحه الطمأنينة لمجرد وجودها بين ذراعيه..

رفع رأسه قليلاً ليرتكز بجبهته فوق جبهتها وأنفاسه اللاهثة تجري على صفحة وجهها بينما غرقت عيناه في عينيها لتتحد النظرات لثوانٍ وكأنها تتبادل رسائل خاصة بهما فقط لتهمس علياء:

ـ أنا موافقة..

توسعت عيناه بدهشة واعتدل في جلسته ليرفعها معه مجلساً إياه بين ذراعيه وهو يردد بذهول:

ـ لا.. لا يا علياء.. أنا ما اقدرش أطلب منك تضحي تضحية كبيرة كده.. حتى ولو عشاني..

رفعت نظرها له بتساؤل:

ـ خايف عليه مني؟..

هز رأسه مستنكراً:

ـ أنتِ بتقولي ايه بس!.. لا طبعاً.. لكن..

وضعت أناملها على شفتيه وهي تخبره بحنان:

ـ رامي ابني زي حمزه وحازم.. ما تقلقش.. واطمن.. عارفة أنها حاجة غريبة وما بتحصلش لكن ربنا زرع حبه في قلبي.. ده أكيد لحكمته سبحانه وتعالى.. غير كده كمان هو هيرضع مع أخواته.. وكده هيبقى ابني بالرضاعة.. يعني كمان شرعي..

لدهشتها وجدته يضيق عينيه قليلاً ثم يهمس بفحيح غاضب:

ـ بمناسبة الرضاعة.. ليه ترضعي حمزه قدام نيرة.. ليه ترضعي قدام أي حد من أساسه.. مش كفاية العيال اللي مش بتبطل رضاعة دي..

انطلقت ضحكاتها بقوة وكأنها تطرد بها التوتر الذي غلفهما منذ قليل.. وارتكزت على ركبتيها وأسندت كفيها على كتفيه وتهمس له بحب:

ـ أيوه كده.. ارجع يزيد المجنون اللي بحبه..

جذبها بشدة فارتمت على صدره بينما هو يتوعدها بعبث ممرغاً وجهه بعنقها وصدرها:

ـ المجنون.. هاااه.. مجنون..

انطلقت ضحكتها صافية وهي تحتضن وجهه بين كفيها:

ـ أنا بحب يزيد بكل حاجة فيه.. بعقله وجنونه.. حنانه ورقته وحتى أنانيته.. ورامي حتة منك.. ما تقلقش عليه أبداً.. بس..

ـ بس.. بس ايه؟..

ترددت قليلاً قبل أن تسأل بتلعثم:

ـ ريناد..

ضحك بمرارة تقريباً وهو يضجع للخلف ليستند على ظاهر الفراش ساحباً علياء معه فألقت برأسها على كتفه لتسمعه يجيب بألم:

ـ ريناد هتوافق.. ما تقلقيش..

ابتسمت بحزن وتلك الوخزة المؤلمة التي تشعر بها كلما ذكرت ريناد تهاجمها بقوة.. أصبحت لا تغار منها الآن.. وهي تتعجب من ذلك.. لا تشعر نحوها سوى بمرارة لا تستطيع التغلب عليها..

ألصقت نفسها به أكثر وكأنها تريد أن تشعر به بجوارها هي حقاً.. لا تريده أن يبتعد نحو ريناد حتى بفكره, فزاد هو من ضمها لجسده بينما بعقله تتردد فكرة واحدة..

"لازم ينهي الأمر"..

**********

وقف مازن بصحبة حسن وزوجته أمام إحدى لوحات فريدة يتبادلون معها حواراً مجاملاً حيث قام الأخوان بشراء عدة لوحات مجاملة لها بينما هي أصرت على دعوتهم جميعاً على العشاء:

ـ مش هقبل أعذار.. دي فرصة نتجمع كلنا مع بعض يا حسن.. حتى صبا موجودة كمان..

والتفتت حولها لتبحث عن ابنتها بينما تبعتها نظرات الجميع لتقع أعينهم على الفتاة المنشودة حين أشار مازن:

ـ آه.. صبا هناك أهي..

أومأت فريدة برأسها وهي تشير لابنتها لتتقدم وتحيي ضيوفها المميزين.. فابتسمت صبا برقة وتحركت لتستجيب لدعوة أمها حين اصطدمت بإياد الذي خرج من إحدى الغرف فجأة فأحاطها بذراعيه حتى لا تتعثر وتسقط أرضاً وهو يهتف بها:

ـ أوووبا.. مش تاخدي بالك يا ست صبا.. كويس أنها جت فيا أنا!..

ضيقت عينيها بتهديد وهي توبخه بنزق:

ـ والله.. يعني أنا اللي غلطانة!.. ولا سيادة مدير الأعمال المختفي؟.. وكمان مضيع عقله من الصبح.. غسان كان..

وضع أصابعه على شفتيها مقاطعاً:

ـ هششششش.. خلاص.. مش هندخل في موال غسان.. ارحميني.. أنا مش على بعضي من الصبح.. بقولك.. بتقبلي رشاوي لحد كام!

أطلقت صبا ضحكة عالية جذبت انتباه الحضور إليها لتتابعها عينان خضروان ضاقتا بغضب عندما اقتربت صبا من إياد لتستند عليه:

ـ والله ده يتوقف على اللي أنت عايزه!..

لف خصرها بذراعه وهو يحاول سحبها معه إلى الخارج:

ـ مش هينفع كلام هنا.. تعالي معايا..

قاطع كلماته وصول فريدة ومن معها وهي تهتف بصبا:

ـ ايه يا صبا!.. بشاور لك بقى لي فترة..

ضحكت صبا برقة:

ـ اعمل ايه يا فري.. الأستاذ إيدي مش عايز يسبني في حالي..

والتفت لتصافح مازن بود:

ـ حمد لله على السلامة يا مازن.. يا ترى دنيا وعشق معاك؟..

هز مازن رأسه نافياً وهو يصافح صبا بمحبة مستفسراً عن أحوالها.. ثم تحولت صبا لتحيي لورا برقة.. وأخيراً صافحت حسن مصافحة سريعة.. فهي لاحظت نظراته الغاضبة التي انصبت عليها منذ تعالت ضحكاتها مع إياد الذي صافحهم بدوره سريعاً ثم استئذن على الفور ليتابع أعمال المعرض حين هتفت صبا:

ـ ايوه كده روح شوف أكل عيشك..

ضحك إياد بغيظ ووخزها بقوة في خصرها فانتفضت بقوة صارخة لترتطم بكتف حسن الذي كان يجاورها وقوفاً.. فامتدت يده تلقائياً لتحيط بخصرها محاولة منه لابعادها عنه..

لم يفهم لما ارتعش جسده لتلك الملامسة البسيطة.. لما تأهبت حواسه لرائحتها الغريبة.. مزيج من رائحة الفانيلا وزهر المشمش.. نعم لقد أصبح يميز الروائح ببراعة بعد زواجه من لورا.. فهي تغرقه كل يوم بعبق جديد ورائحة مختلفة.. ولكن صبا كانت مختلفة.. عبق أنوثة مختلط بطفولية محببة.. هزته بقوة..

ارتجافة جسده المتأثر بها سببت له الغضب الشديد.. غضب من نفسه ومنها أيضاً.. وخاصة حينما تعالت ضحكتها العابثة وهي توبخ إياد:

ـ عيب عليك في السن ده!!..

وانطلقت ضحكاتها الرائقة لتتوقف فجأة حين اصطدمت بنظرات حسن التي تحولت من الغضب إلى الاحتقار وهو يشيح بوجهه عنها وكأنها مجرد النظر إليها يؤذيه ويغضبه..

ازدادت وتيرة تنفس صبا وغضبها يتصاعد لعنان السماء وهي تلمح تلك النظرات التي لم تجد لها تفسيراً وكادت بالفعل أن تصرخ به مطالبة بتوضيح فوري لسلوكه المنفر.. ولكن ما لم تدركه صبا البريئة بسنواتها العشرين هو الصاعقة التي أصابت حسن فور تلامسها معه, سماعه لضحكاتها مع إياد, رؤيته لها.. لم يصدق نفسه.. وكادت عينيه تقفزان من محجريهما وهو يرى صبا الصغيرة ذات الضفيرة الطويلة المشعثة وتقويم الأسنان المعدني وقد تحولت إلى فراشة رقيقة الألوان بداية من خصلاتها الكستنائية الداكنة والمتموجة, إلى عينيها الرماديتين الشقيتين والحزينتين في مزيج غريب لم يلمحه إلا في نظراتها.. مروراً بضحكتها الناعمة وبشرتها البرونزية والتي تحسدها عليها نجمات السينما, حتى قوامها الممشوق والذي أوضح ثوبها الفضي والذي إلتصق به كم تتمتع من رشاقة ونعومة تتهافت عليها أعين الرجال.. كما كان يفعل ذلك المدعو إيدي.. لقد صُعق حسن من التحول الذي أصاب الفتاة الصغيرة لتتحول إلى تلك المرأة التي هزت كيانه بشدة.. نعم.. فبقدر مفاجئته بجمال صبا البري بقدر انزعاجه لذلك التأثير الذي امتلكته على مشاعره.. على رجولته.. وقلبه..

نظراتها الحزينة الشقية اخترقت الدرع الفولاذي الذي شيده حول قلبه ليجده يرتجف نشوة لسماع ضحكاتها اللذيذة ومزاحها مع ذلك البغيض إيدي..

"تباً.. تباً.. ماذا يحدث؟!"..

هو لا يتأثر بالنساء.. لا يلتفت لدلالهن وضحكاتهن وصخبهن ومحاولتهن لجذب الانتباه.. قلبه توقف عن الدق بعد منى.. عينيه عُميت عن رؤية غيرها وأذنيه صُمت عن سماع تنهدات وضحكات سواها من النساء.. إذاً لما رجفة القلب الآن؟.. لم يستجيب كيانه وجسده.. عقله وقلبه لفتاة لطالما رآها كأخت صغيرة.. وفي أحسن الأحوال طفلة رقيقة محببة ووديعة.. متى تحولت الوداعة إلى تلك الأنوثة المتوحشة التي تهاجمه بضراوة..

غاب حسن في أفكاره وفي محاولاته لتفسير مشاعره المختلطة ولم يدرِ بنفسه إلا وهو جالساً على مائدة العشاء ولورا بجواره ترمقه بقلق وقد لاحظت شروده.. وتواجهه مَن شتت أفكاره وبعثرت كيانه وهي مندمجة في حديث طويل مع مازن حيث بدا أنه أخبارها بإنفصاله عن دنيا فاتسعت عيناها الرماديتين دهشة وارتعشت شفتيها المكتنزتين تأثراً وهي تعض على السفلى منهما بحزن كاد ينتزع تأوهاً منه.. فأغمض عينيه وهو يطلق على نفسه أحقر الأسماء والأوصاف.. بل كاد يشك أنه تناول عقاراً أصابه بلوثة ما أو في أسوأ الأحوال منشط ما أثار هرموناته الذكورية..

هل ابتعد عن زوجته فترة طويلة لتلك الدرجة حتى تصبح نفسيته ومقاومته بتلك الهشاشة؟.. كلا.. لم يحدث.. فلورا امرأة دافئة وعاطفية وتتفنن في ارضائه ومنحه السعادة.. إذاً ماذا!!.. ماذا به؟..

وصل إلى مسامعه صوتها وهي تحادث مازن:

ـ اديها فرصة يا مازن.. أنتوا الاتنين غلطانين.. نيرة اتغيرت كتير بس أنت مش ملاحظ.. أو مش عايز تلاحظ.. بتدوروا حوالين مشاعركوا وبتهربوا من المواجهة.. لحد امتى هتقدروا تتحملوا الحياة كده!

غمغم مازن من بين أسنانه:

ـ صبا.. أنتِ ما تعرفيش..

قاطعته بسرعة:

ـ مين قالك!.. السنة الي عدت دي أنا قربت من نيرة قوي.. هي بتحاول.. يمكن مش هتتحول لملاك زي عليا.. ولا ست دافية زي دنيا.. بس هي بتحسن من نيرة.. نيرة اللي أنت حبيتها..

دوى صوت حسن بسخرية:

ـ نيرة اللي اتهمت بنت بريئة ظلم عشان تنتقم بس!..

التفتت له صبا بغضب لتلمح نفس النظرات الغاضبة تقفز من عينيه فهتفت به بالفرنسية:

ـ أعتقد أنه يفضل الحديث بالفرنسية حتى تفهم زوجتك ما تقوله!

تكلمت لورا برقة وبعربية ضعيفة:

ـ لا.. صبا.. لا.. أنا أفهم كل اللي أنت قولوه.. وموافق معاك كتير..

ضغط حسن على أسنانه بغيظ بينما ابتسمت صبا بانتصار والتفتت لمازن لتكمل حوارها:

ـ صدقني يا مازن.. نيرة محتاجة وجودك جنبها.. وأنت خلاص حسمت أمرك وطلقت دنيا.. يبقى ايه اللي يمنع تبدأوا من جديد؟..

غمغم حسن ساخراً:

ـ اللي يمنع أنها نيرة غيث.. والنمر مش بيغير جلده..

هتفت صبا بغيظ:

ـ هو أنت لا بترحم ولا بتسيب رحمة ربنا تنزل.. في ايه!.. ما أنت اتجوزت وخلفت تاني بعد..

قطعت كلماتها فجأة وهي تنتبه إلى شحوب وجه لورا.. فاعتذرت منها:

ـ آسفة قوي يا لورا.. بس جوزك خرجني عن مشاعري..

أومأت لورا بلطف:

ـ مش تضايق صبا.. حسن مش يقصد.. هو منفعل كتير..

ربت حسن على يد لورا بهدوء:

ـ لورا.. آسف.. لكن أي كلام عن نيرة بيسبب لي إزعاج..

ثم التفت إلى شقيقه:

ـ آسف يا مازن.. بس..

أخفض مازن رأسه متفهماً:

ـ خلاص يا حسن.. أساساً.. أي موضوع يخصني أنا ونيرة هناقشه ما بينا..

ثم التفت نحو صبا مغيراً الموضوع:

ـ أنتِ طمنيني.. أخبارك ايه؟.. هتتخرجي السنة دي صح؟..

أومأت صبا موافقة بهدوء:

ـ إن شاء الله.. أنا مش مصدقة امتى أخلص بقى.. نفسي بجد اشتغل في مجالي..

تردد سؤال حسن:

ـ اللي هو ايه بقى؟..

ضحك مازن ببشاشة محاولاً التغافل عن الجو المتوتر حول المائدة:

ـ ايه يا حسن أنت مش عايش معانا على الأرض!.. صبا هتكون مدرسة أطفال خطيرة.. ولاد يزيد العفاريت دول بيموتوا فيها..

أطلق حسن صفيراً صغيراً قبل أن ترتفع إحدى شفتيه مستهزئاً:

ـ مدرسة أطفال!.. يعني حتى ما أخدتيش موهبة مامتك ولا احترافية باباكِ.. هتعملي ايه بوظيفة مدرسة أطفال في مؤسسة العدوي_غيث..

غمغمت صبا بسخرية مريرة وقد اشتعل وجهها غضباً:

ـ هقول لدادي يشتري لي حضانة مليانة أطفال ويخليها جزء من المؤسسة..!

تعالت ضحكات مازن القوية واحتقن وجه حسن غضباً وقبل أن يجيب على وقاحتها وصله صوت فريدة التي وصلت للتو ويرافقها ذلك اللزج المسمى إياد وهي تعتذر بلهفة:

ـ آسفة اتأخرت عليكوا.. بس كان في شوية شغل كده بخلصهم مع إياد..

جلست فريدة بجوار مازن وقبل أن يجلس إياد.. جذبته صبا من يده هاتفة:

ـ قوم خلينا نرقص.. الموسيقى حلوة قوي وأنا محتاجة اهدي أعصابي.. الجو هنا خنقة..

تحرك معها إياد نحو حلقة الرقص وظلا يرقصان معاً طوال السهرة وبدا أن صبا تمتلك طاقة لا تنضب فلم تدع إياد يعود لمائدة العشاء إلا بعد مرور أكثر من ساعة كاملة.. وكان الجميع بدأ بتناول العشاء بالفعل.. وما كادت تجلس على المائدة حتى نهض حسن فجأة معتذراً من الجميع ومتعللاً برغبته في الاطمئنان على طفلته الصغيرة..

**********

دلف حسن إلى غرفة صغيرته فور أن وصل إلى منزله.. حملها من فراشها وظل محتفظاً بها قرب قلبه.. يتشمم رائحتها الطفولية العذبة ويتلمس خصلاتها البلاتيتية الناعمة هامساً..

"يا قلب وعيون وروح بابا.. خليكي جنبي.. رجعي لبابا ثباته.. هدوئه.. مشاعره اللي اتبعترت الليلة"..

جلس على المقعد المجوار لمهد الصغيرة وظل يحتضنها طويلاً حتى شعر بيد لورا تتحس كتفه هامسة:

ـ حسن.. دع مونا تنام.. لا تزعج نومها..

وضع طفلته بالفراش بحنان واصطحب زوجته إلى غرفتهما وهو يدرك أنه الآن في أضعف حالاته وفي أشد الاحتياج لوجود أنثى مثلها تمتلك كل المقومات لارضائه واخراج أي امرأة حية من عقله.. فما أن أغلق باب الغرفة خلفهما حتى سحب لورا بين ذراعيه منقضاً على شفتيها تحركه رغبة حارقة في النسيان.. لقد نجحت من قبل في تخدير جروحه.. وستنجح مرة أخرى في اخراج أي أنثى عابثة من محاولة اقتحام قلبه.. زاد من عنف قبلته وامتدت يديه ليمزق قماش ثوبها الرقيق تاركاً أثار أنامله القاسية فوق بشرتها الناعمة.. ولكنها لم تهتم.. فهي كانت مأخوذة بعنف عاطفته.. شغفه الذي تستشعره ربما للمرة الأولى.. فاستجابت له بقوة وبادلته عاطفته بضراوة مماثلة وهي تلف عنقه بذراعيها, ترتفع على أطراف أصابعها ليتمكن من الوصول لشفتيها واختراقهما.. ولم تشعر بنفسها إلا وهي بالفراش وهو فوقها يهتف من أعماقه

"اطرديها يا لورا.. اطرديها قبل ما تتمكن من أعماقي.. اطرديها"..


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close