اخر الروايات

رواية رد قلبي الفصل التاسع والعشرين 29 بقلم وسام اسامة

رواية رد قلبي الفصل التاسع والعشرين 29 بقلم وسام اسامة 


  

الفصل التاسع والعشرون
.....................................
كانت تخلط مكونات الطعام بعقلٍ شارد، رغم كل محاولاتها للتركيز إلا أنخها تبوء بفشلٍ مخزي، وعقلها يسترجع تلك الدقائق التي قضتها مع رحيم قبل أن يصدمها بطلبه
كانت صدمتها كبيرة وغضبها أكبر، ولم تترجم ذاك الغضب إلا عن طريق تجاهل اتصالاته اليومية، تتجاهل كونه طلب منها ألا تتحاشاه حتى وإن رفضت طلبه
ولكنها لا تستطيع تقبل عرضه، ولا تقبل فكرة الزواج مرة أخرى..!
سابقًا كانت لا تستوعب الانفصال عن ناجي، كانت لا تتخيل أن تعيش دونه ولو ثانية واحدة
ولكن للسخرية ها هي قد انفصلت عنه وتمقته شر المقت
والآن لا تستطيع تخيل أن يأتي رجلاً أخر ويشغل حياتها
لا تتقبل أن تعيش مع ناجي أخر وتعاود كرة العذاب
رغم الاختلاف بين رحيم وناجي إلا أن الاثنان رجال
قلوبهم ملأنه بالأنانية والخيانة
وهي اكتفت من الأنانية التي نخرت عظامها بسبب ناجي
يكفيها أنها فقدت شعور الأمومه بسببه، رغم حنانها وامومتها على رامي إلا أنها حُرمت من طفل يخرج من احشائها، بسبب أنانية ذاك الوغد، وبسبب غبائها وتنازلها الذي فاق الحد الطبيعي3
لا يسقط مؤمن في جحر واحد مرتين
وغبائها لن يتكرر نهائيًا، يكفيها خسارة طفل لم تلده
وسنواتٍ ضاعت هباءًا وقلبً قد كُسر على يد ناجي
استفاقت من شرودها على اتصالٍ منه اخرجها من أفكارها الاتي تدور حوله بالطبع، ولكن ككل محاولاته السابقة أغلقت هاتفها ووضعته في جيب سترتة الطبخ وأكملت مزج المكونات عابسة

ليأتي صوت رامي من خلفها يقول باسمًا...
-الي اعرفه ان الويكا خضرا مش حمرا، البامية عملتلك ايه يامُنمُن عشان تهريها كدا1

انتفضت وهي تنظر لرامي ثم للطبخة التي تفتت من كثرة تقليبها حتى اختفت ملامح البامية تمامًا
شهقت بهلع وهي تغلق النار وتطالع الطبخة بأسى هامسة...
-مخدتش بالي خالص، ااااه هقعد تاني أقمع البامية واحضرها من اول وجديد1

وجدت رامي يربت على صدره بقوة وهو يصرخ كجندي في العسكرية...
-جندي مجند راااامي هيساعدك يافندم2

تشقق ثغرها في ابتسامة خافتة وهي تربت على كتفه، ودقائق لا أكثر وكان رامي يجلس جوارها ممسكًا بسكين صغيرة ويقطع مقدمة البامية بانتباه
وبعد الخامسة صرخت بمزاجٍ حاد وهي ترى البامية بلا رؤوس في صحنه
وطريقته الخاطئة في تقطيعها...
-رامي انت كدا بتبوظها قولتلك بتشيل الحروف بس1

توقف عن تقطيع البامية ووضع سكينه جانبًا وهو يرى مزاجها الغير جيد ابدًا وعيناها الشاردة تحكي انفعال افكارها الصامتة.. تنحنح قبل أن يقول بهدوء..
-ماما انتِ بقالك كام يوم سرحانة ومكشرة
في حاجه شاغلة بالك ومضيقاكِ!
حركت رأسها نافية ولازالت تقطع باندماج، تتشاغل عن سؤاله الذي شرح حالتها منذ لقائها برحيم
ليغمغم رامي وهو يأخذ من يدها السكين والبامية...
-متقوليش لا، أنا عارف انتِ كدا ليه

اشاحت وجهها عنه تقول باقتضاب وتوتر...
-الطلبات كترت والشغل بقا كتير.. حاسة اني مش هعرف اجهز كل الاوردرات الي بتجيلي، عشان كدا تلاقيني مش مركزة شوية و...
قاطعها بنبرة جاده رقيقة وهو يربت على كفها...
-يعني مش عشان طلب الدكتور رحيم!1
شحب وجهها وتحركت له منتبهة تنظر له بصدمة وبعض التوتر وهي تتخيل لحظة جنونه عند استقبال طلب رجل للزواج منها، بالطبع سينفجر غضبه منها ومن ذاك الرجل
المجنون ولكنها دُهشت وهي ترى وجهه الهادئ وابتسامته المتفهمة، وجهه الصافي بمشاعره الصادقة
ليباغتها بالقول...
-أنا بردو توقعت انك تهربي وترفضي، وقولتله انه هيلاقي صعوبة في موافقتك.. بس ياماما فكري كويس قبل ماترفضي او حتى تقبلي1

جعدت جبيها باندهاش وهي تردد بحدة..
-انت موافق على حاجه زي كدا يارامي، وكمان كنت عارف
وافكر في ايه هو موضوع زي دا محتاج تفكير

صمت لدقيقة ثم تنهد يقول بصوتٍ هادئ جاد
وهو يربت على كفها برتابة...
-اهدي بس ياماما واسمعيني، دي حاجه لا حرام ولا عيب دا حقك، واي انسان من حقه يعيش حياته بالشكل الي يسعده، وانا مش هحب تكوني تعيسة
والدكتور رحيم مكلمني من قبل ماتشوفيه في الهايبر
وقولتله انك هترفضي من غير تفكير، وطلب يعرض عليكِ طلبه بنفسه، وأنا وافقت واستنيت انك تحكيلي بس انتِ قررتي الرفض من غير تفكير ولا حتى تقوليلي1

انتهى حديثه ليجد أمنية تنظر له بحزن ودموعها تهبط على وجنتاها بغزارة، لا تصدق أن اسرتها الصغيرة افترقت كقطع بازل، هي وناجي ظلا يحاربان بعضهما، وبالأخير ذهب ليكمل حياته مع زوجته وتركها تشفي اوجاعها بمساعدة ولده
رامي الذي لم يكل منها رغم كل المصاعب التي عاشها بسبب اكتئابها، والتشتت والضياع الذي عاشه بعد انفصالهم
ولكن عقلانيته وهدوئه وهو يقسم وقته بينهم بالتساوي ويؤدي دور الشاب الراشد بينهم انقذ الجميع من حربٍ جديدة هو ضحيتها بالتأكيد
ولكن الآن هل سيتخلى عنها!
يود تزويجها ليتخلص من عبئ حملها عن كتفه
أيود أن يستقر مع والداه وألا يأتيها بعد ضمان تحمل أخر لمسؤليتها... رامي يود التخلي عنها كما الجميع!1
عند ذاك الخاطر انفجرت باكية بقوة وهي تحرك رأسها يمينًا ويسارًا برفض، قلبها ينتفض بحزن أم قد ربت صغيرها إلى أن شب وقرر تركها ببقايا ذكرياتٍ ستزيد من ألمها ولن تنقصه
بكائها تحول لعويل وهي تصفع فخذيها بحدة وهو جوارها قد صُدم من ردة فعلها وظل يسألها بقلق وهو يربت على كتفها سريعًا...
-ياماما اهدي بس، والله مااقصد ازعلك كدا
بالعكس أنا شوفت اني هكون اناني لو رفضت او شجعتك على الرفض من غير ماتفكري كويس1

نشيجها المُعذب جعله يربت على ظهرها ببعض الحزن مواسيًا...
-أنا عارف انك بتحبي بابا، ومكانش في خيالك ان يجي اليوم وتتجوزي حد غيره، بس ياأمي دا نصيب
هو اختار حياته بعيد وانتِ كمان من حقك تتجوزي وتختاري حد يعوضك، وبردو من حقك ترفضي وتكملي حياتك بالشكل الي انتِ عايزاه
بس تكمليها وانتِ مبسوطة ياماما، لكن الحاجه الي متأكد منها ان مفيش امل لرجوعك انتِ وبابا
ومش عايزك تظلمي نفسك اكتر بحُبك لِيه

صمت وهو يرى تأثير كلماته عليها وقد خف نشيجها ورفعت وجهها له تنظر له نظرات حزينة حنونة
وتابع بتردد للحظات...
-أنا لولا اصرار الدكتور رحيم مكنتش أكدت عليكِ تفكري، بس أظن انه هيكون شخص كويس معاكِ ويسعدك

تحدثت من بين شهقاتها المنهارة وهي تقول بحزن أقرب للمرارة...
-بس أنا مبعيطش على ابوك، أنا مبقاش جوايا ليه اي ذرة حب واحدة، أنا زهدت في الجواز يارامي
مبقتش عايزة راجل في حياتي، انما انا عيطت لما حسيت انك عايز تخلص مني وتروح تعيش مع ابوك على طول
-ايه الكلام دا يامنمن وايه اخلص منك دي
هو أنا اقدر استغني عنك بردو

أتم كلماته ورفع كفيه يمسح دموعها مبتسمًا باصطناع ويقاوم الحزن في قلبه من بكائها وطلب رحيم
ونقطة ما داخله تتمنى لو تعود حياتهم كما كانت
رجوع والداه لبعضهم وعيشهم سويًا، ولكن المعادلة ستظل ظالمة وستتألم زوجة والده، أو بمعنى أصدق
ستتألم امه الحقيقية ولن يكون سعيدًا لتعاستها
رغم علاقتهم السطحية للغاية
ولكن إن ظلت مع والده.. وتزوجت والدته من الدكتور رحيم سيضمن لها حياة مستقرة مشبعة بالونس
خاصة من بعد ذاك العرض الذي أتاه من اساتذته بالجامعة، لن يستطيع القبول به طالما والدته لا تزال وحيدة محطمة القلب1

خرج عن شروده وربت على كف والدته باسمًا..
-بطلي عياط يامنمن وفكري كويس الأول، وصلي استخارة كمان ولو ارتاحتي تقعدي تتكلمي معاه
لو مرتاحتيش متضغطيش على نفسك، المهم متاخديش قرار تندمي عليه بعدين، أنا هروح أنام بقا عشان عندي محاضرات كتير بكره.2
ثم قبل جبينها ودلف غرفته وهو يتنهد بثقل يود لو تجد طريق سعادتها كما وجده والده بعدما حطم قلبها، يود لو يعوضها رحيم عن الأسى الذي عاشته منذ امدٍ بعيد..
بينما امنية كانت جالسة في محلها تفكر في كلمات رامي التي زادت من تشتتها وداخلها حنق كبير من رحيم الذي عرضهم لذاك الموقف المليئ بالدموع
ولكن ستفي بوعدها لرامي وتجلس مع ذاك الطبيب
وسترفضه بعدها وتصد أي محاولات اخرة منه

***
هبطت رغدة من السيارة فور وقوفها أمام المنزل
تحاول الهروب من اسئلة سلطان واستجوابه الحاد
من وجهه المتهكم كانت تدرك لأي درجة هو غاضب منهم ومن المواقف السخيفة التي تعرض لها على مدار اليوم، ابتداء من رفض حراس قصر الصياد
حينما طلب الدخول والشد والجذب الذي حدث بينهم، وعجرفة زوج ريشة الذي كان ينظر له شزرا وكأنه جاء القصر ليأخذ زوجته منه!
ولم تكن ردة فعله سوى الوجوم والردود الحادة والهدوء المفتعل الذي ظهر عليه

ومازاد الطين بِلة بكاء غزال الذي صاحبهم لساعات
لدرجة أنه كان يكتم جنونه بصعوبة، لقد اخبرها حسن سابقًا أن أخاه مصاب بوسواس الأصوات المتكررة، لا يستطيع الصمود أمام بكاء الأطفال
او صوت الأكل، حتى انه قص عليها حادثة مضحكة لهم.. حينما تلف صنبورهم وبدأت قطرات الماء تهبط برتابة تصدر صوتًا خفيف، وصادف أن سلطان كان في اجازة من خدمته العسكرية
وكان وصل متعبًا في وقتٍ متأخر من الليل، اغتسل وأبدل ملابسه ودلف لينام بعد عشرون يومًا متواصلة في الخدمة الشاقة
ولكن في منتصف اليوم استيقظوا فزعين من صوت الارتطام وحينما اتجهوا نحو الصوت وجدوا سلطان يمسك ادوات التصليح ويعبث في الصنبور بعدم صبر وعصبية تكاد تكون غضبًا من صوت القطرات التي تثير فيه جنونًا لا يطيقه2

ومن يومها ادركوا أن مرض الأصوات عند سلطان لا علاج له، مهما حاول التكيف مع الاصوات التي تغضبه إلا أن لحظات فقط وينتفض بجنون
حتى أن حسن كان يحرص على جعل الاولاد يأكلون بفمٍ مطبق كي لا يصدروا صوتًا ينفر اخاه.
واليوم كانت تراه في السيارة مجعد الوجه ويداه تشتد على عجلة القيادة بعصبية مكتومة يُحسد عليها

تنهدت حينما ارتمت على فراشها بعدما تجاوزت والدة زوجها التي سألتها بقلق عن حال غزال وعن سبب ذهابهم للمشفى احابتها معتذرة رغبتها في النوم واعدة بأنها ستقص عليها كل شيء في الصباح
كادت تدلف قبل أن يأتي سلطان ولكن اوقفتها تقول..
-الولاد صحيوا وفضلوا يعيطوا انك مش هنا
اكلتهم وناموا تاني، وطمني حسن اكيد قلق عليكِ من موبيلك الي اتقفل فجأة

حركت رأسها بطاعة تتجاهل نبرة العتاب في صوت حماتها وتحركت نحو غرفتها سريعًا تلقي جسدها على الفراش وحلقها مختنق بغصة مؤلمة
على حالها وحال صديقتها، وحياتهم التي انقلبت رأسًا على عقب في بضعة أشهر فقط!
ودقائق وسمعت صوت سلطان وهو يلقي التحية على والدته ويتبادل معها حديث قصير مقتضب يسألها عما تحتاجه ثم انسحب للخارج متجهًا لشقته
في الدور العلوي بعدما أبلغ والدته أن اجازته على وشك الانتهاء، وسيعود لسيناء بعد ثلاثة أيام من الآن... وحينما سألته عن غزال اكتفى بقول أنها متعبة قليلة وستصبح بخير عما قريب.
اتجه سلطان نحو شقته التي عاد يشغلها منذ مجيئ زوجة شقيقه، وقد ترك منزل والدته كي تستطيع الأخرى العيش براحة أكبر وألا يضايقها وجوده
ورغم أنه يكره الانتقال من مكان لأخر إلا عودته لشقته بعد عامٍ كامل من أغلاقها فور طلاقه هو ويُسر
كان يريحه ويجعله مرتاح أكثر.. خاصة أنه يميل للهدوء والعزلة، بخلاف شخصية والدته الاجتماعية
والتي لا تنفك عن اقامة العزائم والتجمعات العائلية في غيابه أو اجازته وهذا الأمر لم يكن يريحه نوعًا ما
وخاصة عندما تأتي سلوى شقيقته بالرضاعة هي وأولادها في وقت اجازته، لنقلب هدوئه الي ضجة مزعجة ويتمنى لو تنتهي اجازته فورًا ويعود إلى عمله من جديد، ليتخلص منها ومن أحاديثها التي لا تنضب ابدًا ومن جيش التتار اولادها3

تأوه وهو يرتمي على فراشه وقد تذكر توه أنها أتت من سفرها اليوم وستأتيهم غدًا لتقضي معهم يومان إلى أن يعود زوجها جابر من السفر هو الأخر ويصطحبها إلى منزلهم، وسيقضي أخر ثلاث أيام من اجازته في ضجة وعويل أطفال وصراخها عليهم
واسألتها المتطفلة التي تغرقه بها.
فسلوى مهما زجرها لا تخاف منه، وتأكل عقله بكلماتها المعسولة عن حظها الرائع بكونه اخوها بالرضاعة

ابتسم وهو يتذكرها هي وأولادها وهمس بخفوت..
-هتيجي تبوظ الدنيا، بس وحشتني هي وقرودها الزنانين2

ثم أبدل ملابسه وأغتسل سريعًا وارتمى على فراشه وهو يتأوه من الصداع النصفي الذي يصاحبه منذ عصر اليوم بسبب غزال وبكائها المزعج
اغمض عيناه وهو يكتم شعور الشفقة الذي تلبسه عليها كلما تذكر وجهها الباكِ ورأسها على صدر رغدة
يزعجه أنها فقدت أبواها وجدها ولم يعد لها سوى أقارب من الدرجة الثانية وذاقت شعور الفقد مبكرًا
وهو خير من يعلم مرارة الفقد ولوعته
تنهد وهو يستغفر الله وينقلب على جانبه الأيمن داعيًا الله أن يكون ثمر ذاك الفقد خيرًا لها وعوضًا عن أي ألم عانته بعد موت كل حبيبٍ لها

ثم غفى فورًا بإرهاق ومضى الوقت سريعًا بخلاف أحداث يومه الثقيلة والبطيئة.
لم يستيقظ بعدها سوى على قفز أحدهم على ظهره
وصراخ عالي في اذنه جعله ينتفض بفزع ممزوج بغضب، لتنقلب الطفلة التي كانت تجلس على ظهره ارضًا وهي تتأوه بألم صارخة...
-ايه ياعم حد يصحى كدا1

التفتت لمصدر الصوت وشخصت عيناه بغضب وهو ينظر للطفلة التي لم تنهي سنواتها الستة
وهي تضع يدها على ظهرها وتتأوه بغضب ولكن حالما رأت نظراته الغاضبة انكمشت تهمس برعب...
-انت هتاكلني ولا ايه ياعمو سلطان1

استوعب وجود جميلة ابنة سلوى التي جائت مبكرًا لتفسد يومه من بدايته، زفر بحدة عندما استيقظ بشكلٍ كامل جعل صداع رأسه يزداد وعيناه تنتقل إلى انعكاس ضوء النهار على شباكه وصوت الطفلة يصدح من جديد...
-بتقولك تيتة قوم كفاية نوم ويلا عشان تفطر
وبتقولك ماما اصحى بدل ماتطلع وتقطع ودانك تعمل عليها شوربة ودان ونشربها على الفطار1

نظر للطفلة بحدة للتراجع فورًا وهي تقف سريعًا تقول منطلقة في الحديث كامرأة ثلاثينية شمطاء..
-مقالتش شوربة ودان، أنا هقولهم انك لسه نايم وهي تطلع تتصرف معاك

كادت ترحل ولكن أحكم سلطان على ضفيرتها الطويلة يشدها منها بحنق ويقول بصوتٍ أجش خشن من أثر النوم...
-أنا كام مرة احذرك متنطيش على ظهري زي القرود
وكام مرة انبهك انك بنت ومش مفروض تعملي كدا

التفتت له بنفاذ صبر وتقول بقلة أدب كوالدتها تمامًا...
-وأنا كام مرة اقولك اني مش هبطل أعمل كدا
سيب ضفيرتي مش عشان انت اقرع ياعمو تشدني من شعري كل ماتشوفني، وبعدين هي دي حمدلله على السلامة الي الناس بتقولها.. تؤتؤتؤ، دي مش أخلاق ظابط جيش لأ

تركها سلطان بغيظ لتتحرك بخيلاء وهي تخرج من الغرفة متجهة خارج الشقة وقد سمعها تقول...
-وابقى اقفل بابك كويس بدل مايدخل حرامي يموتك ويخلصنا من زعيقك دا1

فتح فمه بدهشة من تلك المرأة الصغيرة التي لا تنفك عن توبيخه كما لم يفعل أحدٍ من قبل، وللدهشة لا يغضب منها بل يضحك مدهوشًا وقد ذكرته لوهلة بفتاة تشبهها في صلافتها ودلالها المفرط!
***
تنهد وائل وهو يضع البرسيم للحيوانات وينفض يده بتعب وقد انهك جسده من وقت الفجر في الزراعه وعلف الحيوانات وجمع الأغنام مع رضوان إلى أن شعر بجسده يلعنه على ذاك المجهود الذي لا ينتهي
اخرجه صوت الصغير ناصر وهو يقول بحنق...
-ياعم وائل اخلص امي حضرت الفطار وبتقولك شهل قبل ما زينة الغولة تاكله وتاكلنا بعده1

صفعة خفيفة على مؤخرة رأس الصغير كانت اجابة وائل الذي غمغم بهدوء وهو يمسح كفاه في ملابسه الرثة...
-كام مرة اقولك متتكلمش على اختك كدا، لو سمعتك بتقول عليها كدا تاني هقولها وهتاكلك علقة محترمة
تأفأف ناصر وهو يكتف يداه بحنق طفولي وهو يقول بخفوت...
-ماانت كنت بتقول عليها غولة وام رجل مسلوخة
ولا اكمنها بقت تعملك شاي وتجيبهولك الغيط مبقتش عفشة وعيب اقول عليها كدا!
ابتسم وائل وهو يخرج من الحظيرة ويحجب عيناه عن الشمس قائلا بخبث...
-ماانت من ساعة أخر مرة لما سمعتك بتقول كدا فضلت تعيط وتقولها الغريب هو الي قالي كدا وبعتني ياناصر.. واهو أنا بقولك عيب تقول كدا عشان مترميش طولة لسانك عليا

دبدب ناصر قدمه ارضًا وهو يغمغم بغضب..
-لو ضربتني هروح أقول لابويا الحاج يجي يضربها زي ماضربها من كام يوم، وساعتها مش هتقدر تقوم وتضربني

تصنم وائل للحظات والعبوس يغزوه وهو يتذكر منذ أيام حينما جاء عمدة البلدة "والد ناصر وزينة"
وقد قرر زواج زينة بأحد رجاله وبالتحديد غفير عمره يضاعف عمر زينة التي انتفضت ثائرة بجنون ولم تتوانى عن شتمه والصراخ في وجهه معترضة
ليكون مصيرها عصاه التي هبطت على جسدها بقسوة وقد أثار حالة من الذعر في نفس كل من في المنزل ووصل صوت الصراخ لكوخه

انطلق هو ورضوان نحو صراخهم ليجدو العمدة عبدالمنعم يضرب زينة بعصاه وشقيقتها الكبرى زينب تحاول منعه باكية ترجوه أن يتركها.. ووالدتهم تبكِ بضعف تكرر عليه كل الحلف أن يكف عن ضربها كي لا تموت بيده.. وكذالك ناصر الذي اختبئ في أحد الزايا يبكِ بذعر على شقيقته التي تُضرب بعنف أمام اعينهم

بينما زينة تتلقى الضرب بشتائم وصراخٍ عالي وعيناها لا تذرف اي دموع، بل وجهها محتقن بحمرة القهر وصفعاته مرتسمة على وجهها، إلى أن ألقت زينب جسدها على جسد شقيقتها الصغيرة كي تحجب الضربات عنها تحميها من بطش والدهم الظالم
كانت الدماء تغلى في عروق وائب وهو يرى جبروته على نساء ضعيفات وكاد يتدخل ولكن رضوان منعه بصوتٍ منكسر بغزوه الغضب...
-متدخلش انت عشان ميحبسكش

نظر له وائل بغضب وتحدث بحدة يشير لضرباته التي لم تتوقف على زينب وزينة...
-أمال هنسيبه يموتهم، مراتك بتضرب يارضوان وانت مبتدخلش!1
طأطأ رضوان رأسه ارضًا بعجز وو يقول..
-أخر مرة اتدخلت كان هيطلق زينب مني وهيرميني برة البلد.. وحلف يمين عظيم اني لو اتدخلت هيموتها قدامي

اتسعت عيناه حينها ولم يدري بنفسه سوى وهو يندفع يجذب العصا منه ويلقيها جانبًا ويمسك يداه بقوة يمنعه عن ضربهن من جديد
دُهش عبدالمنعم من جرأته وكاد يوبخه ويلقى سبابه القذر على اذنه ولكن وائل كان سريع الغضب قبضته تسبقه دائمًا فلم يدري بنفسه سوى وهو يجذب عبدالمنعم من عبائته بقوة ويصرخ في وجهه بجنون..
-انت لو مخرجتش من هنا هدفنك تحت رجلي
مش هيفرق معايا انك عمدة ولا راجل كبير
احسنلك تمشي بدل مااهزقك قدام عيالك

لطمت والدة زينة على صدرها بهلع وانكمش رضوان بخوف يثير الغيظ ولكن عبدالمنعم كان أكثرهم جبنًا وهو يسحب نفسه يتفوه بأغلظ الايمان بأنه سيدفعه ثمن مافعله توًا.. ومنذ وقتها لم يظهر حولهم لا هو ولا غفره
ولكن في ذاك اليوم وجد زينة تنظر له بجمود ومن بين مشاعر الغضب والخزي والجنون لمع الشكر في عيناها واختفى سريعًا وهي تحاول التحرك لتتأوه بألم ويظهر أن قدمها قد كُسرت وأحد ضلوع ظهرها ايضًا، ناهيك عن وجهها المكدوم وأنفها الذي كان ينزف بشكلٍ مرعب ولكن للغرابة لم تبكِ ولو دمعة واحدة بل ظلت متصلبة

ومنذ ذاك اليوم اختفت خلافاتهم ومشاكساتهم المعتادة ولم يعد يراها خارج المنزل، وحتى إن اجتمع معهم في اوقات الطعام تنظر لصحنها ولا ترفع وجهها له ولو بشكلٍ عارض

استفاق من شروده على كف رضوان وهو يربت على ظهره ويقول بوجوم...
-يلا عشان تاكل الحجة مش راضية تبدء أكل من غيرك

حرك راسه بإيجاب وسار جوار رضوان العابس بسبب غضب خطيبته زينب وقد طال خصامهم، اندفع وائل يقول بخفوت...
-انتوا لسه متصالحتوش!
تنهد رضوان وحرك رأسه نافيًا يقول بوجوم...
-مش راضية تسامحني، وعاملة تقول كلام ملوش لازمة اني لو شوفت حد بيموتها هسيبها واخاف
واني لو بحبها صح هكون حاميها وسندها وهقف قدام جبروت ابوها

عقد وائل حاجباه وقال بإيجاب...
-كلامها صح، انت لو بتحبها هتقف في وش اي حد عشانها، لكن مشكلتك انك بتخاف من ابوها كإنه فرعون، مع انه راجل جبان مياخدش في ايدك ثانية

ركل رضوان الحصى في الأرض وتنهد ساخرًا...
-وانت فاكرني خايف من الراجل دا، أنا خايف علينا من مراته السحارة وابنه المفتري، دول ناس ميعرفوش ربنا، هو هنسى لما هشام وابوه خدوا زينة و..
قطع حديثه لا يستطيع اكماله وهو يتذكر تلك الذكرى البشعة التي حولت حياة زينة لجحيم على الأرض
وتحولت شخصيتها لفتاة عدائية تكره كل من حولها.
تحدث رضوان بوجوم وهو يدلف المنزل...
-انت بقالك شهور هنا وشوف البلد كلها بتشتكي منهم ازاي، دول بيهون عليهم دمهم عندهم استعداد يحولوا حياتنا لمرار احنا في غنى عنه

صمت وائل وعلى وجهه علامات الرفض من مبررات رضوان، وهو يقسم أنه لو محله كان ليفتك بمن يقترب من زوجته، ولن يكتفي بالتفرج كما فعل رضوان
اتجه لداخل المنزل ووجد والدة ناصر تجلس على المائدة الأرضية "الطبلية" وعلى يمينها زينة وجوارها زينب وعلى شمالها ناصر وقد جلس رضوان جوار زينب الواجمة

ألقى السلام بخفوت وجلس جوارهم لتهلل والدة ناصر بترحاب حنون مثلها ومالبثت ان وضعت أمامه مالذ وطاب وكذالك أمام رضوان
حنانها ذاك ذكره بوالدته الحبيبة التي اشتاقها بجنون
طوال الأشهر كان يكتوي بنيران اشتياقه لاسرته
ولكن خزيه وندمه منعاه من الرجوع لهم في الوقت الراهن، وبدأت الأشهر تمر سريعًا وتأقلمه مع البئية المحيطة به يزداد، حتى نسي انه كان يومًا من الحضر، وفضل العيش كمزارع مع رضوان

طال صمتهم ولم يكن يتحدث أحد سوى ناصر الذي كان يثرثر بأحاديث لا تسمن ولا تغني من جوع
كانوا يضحكوا بخفوت ويكملوا طعامهم بصمت
إلى أن انتهوا وحان وقت كوب الشاي
وقفت والدة ناصر وامسكت كوبها ناظرة لوائل لحظات قبل أن تقول برجاء...
-معلش يابني حنفية المطبخ باظت ورضوان ملوش في السباكة، تعالى بص عليها كدا يمكن تعرف تصلحها

اندفع ناصر يقول بفضول...
-حنفية المطبخ باظت امتى ياما

وكزته زينب بقوة ليتأوه معترضًا.. أما زينة فوقفت متجهة نحو غرفتها المشتركة مع شقيقتها بصمت
وقف وائل واتجه لداخل المنزل مع والدة ناصر ينوي تصليح الصنبور ولكن باغتته ام ناصر بخفوت راجي..
-ليا عندك طلب وسايق عليك النبي ماترفض وتكسر بخاطري

التفت لها وائل وقال سريعًا بأدب لتلك السيدة الحنونة...
-عنيا ليكِ ياام ناصر

تبسمت وربتت على كتفه تذكر الله وتدعو له خير الدعاء قبل أن تقول بنبرة يشوبها الرجاء والبكاء...
-اتجوز بنتي ياوائل اتجوز زينة واحميها من شر ابوها


الثلاثون من هنا 

تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close