رواية متاهة مشاعر الفصل السادس والعشرين 26 بقلم نهي طلبة
صل السادس والعشرون
الاحتياج
اجتياح كل العوائق والمسميات
يتسلط على العقل ويلغي الفؤاد
بسمتك.. نظرتك.. لمستك.. قربك
وجودك بجواري في الحياة
أنت دون الجميع أشعر معه بالضعف والاحتياج
رغم قوتي أدنو إليك باحتياج
تكمل الناقص والمطلوب دون تعقيدات
انصهار.. ذوبان.. إغداق.. نشوة.. متعة.. رغبات
نصفي الغائب وتفصل بيننا الظروف والمسافات
ولكنه الاحتياج يتحدى المستحيلات
معك أنسى الواقع والحاضر وكل ما هو آت
معك أهزم العالم وأقبل كل الإستثناءات
أخضع وأرضى وأتحول لكتلة احتياج
مشتعلة لا يطفئها إلا نيرانك المستعرة
ليكون الجنون في أغرب الحالات
خاطرة الفصل بقلم:
إيمان حسن
ظل مازن جالساً بسيارته يتأمل مدخل الفيلا لفترة طويلة.. خلف تلك الجدران يكمن حب حياته.. حلمه الذي ظن لوهلة خاطفة أنه حققه, وأمسك به بين يديه.. رفيقة طفولته.. حلم صباه وهوس شبابه.. جمع معاني الحب كلها باسمها؛ نيرة.. ولكنها ظلت حلم.. سراب.. أمل كان يخفت على مر السنين, ولكن في لحظة أصبح هو فارسها ليتوهج ذلك الأمل من جديد.. فخدع نفسه لفترة بكونه حبيبها.. لتصدمه بحقيقة أدركها قلبه العاشق منذ الأزل.. فهي قد تكون حبيبته الوحيدة.. ولكنه لم ولن يكون حبيبها أبداً.. وصرختها السعيدة بخبر مرض منى كانت صفعة قوية على وجه زواجهما هش الأسس..
"يعني منى عيانة وهتموت!"..
صرختها بفرحة طاغية.. لتنتبه لصدمته القاسية.. ولم تنتبه لقسوتها.. أو نبرة الشماتة بصوتها.. يومها نظر إليها مطولاً وكأنه بالفعل يراها للمرة الأولى على حقيقتها, فبرغم كل مساوئها التي يدركها ويتعامل معها, بل أنه بطريقة ما أحبها.. لكنه لم يتخيل يوماً أن تشمت وتفرح بموت إنسانة.. لقد شعر بالاشمئزاز منها, بل من قلبه لأنه أحبها يوماً..
جاءت رغبة حسن بعدم حضورها عزاء منى كقشة إنقاذ تمسك بها حتى لا يرى فرحة عينيها.. فرحة يتوقعها ويخشاها..
زفر بحنق وهو يتذكر أن عليه الآن أن يخبرها بموت منى, ليس ذلك فقط بل بوجود دنيا في حياته.. وجود لن يستغنى عنه ولن يخسره.. بل سيدعمه بموافقته على إنجاب دنيا لطفله, طفل ترفض نيرة وبإصرار إنجابه ولا يحق لها الاعتراض على رغبته في ممارسة أبوته بعيداً عنها..
يكاد يتخيل ردة فعلها.. صراخ وزعيق واتهامات متوالية بالخيانة والظلم والقسوة.. ستعاني صدمة حتماً وقد تحطم البيت فوق رأسه حرفياً.. ولكنها لن تنسحب.. يعرفها جيداً ليدرك أنها ستواجه.. وستحارب.. ليس من أجله للأسف, بل من أجلها هي.. من أجل نيرة.. ابتسم بسخرية لنفسه.. نعم.. لقد تعلم الدرس.. فنيرة لا يهمها إلا نيرة.. تحارب وتقاتل وتهاجم وتدافع فقط عن نفسها.. حتى كرهها توجهه لنفسها ولمن يتجرأ على خدش ذات النفس ولو بخدش خفيف.. وهو لن يخدش فقط.. بل سيغرز السكين ويلويه في الجرح؛
سيفضل عليها أخرى...
دلف إلى فيلته ليقابله هدوء تام.. لا وجود لأي صوت والمكان غارق في ظلام تام.. وكأن البيت قد هجره سكانه.. ساوره شك طفيف أن تكون إحدى مفاجآت نيرة الحسية التي دأبت على اغراقه بها... ولكن سرعان ما صرف ذهنه عن الأمر فهي لم تعلم بعودته بعد..
وفي غرفته قابله نفس الهدوء حتى بدأ يشك أنها خارج المنزل.. أضاء الغرفة ليفاجئ بكومة صغيرة فوق الفراش... تحركت بتعب وهي ترفع رأسها وتهتف بإجهاد:
ـ مازن!.. أنت وصلت؟..
التفت ليلمحها وهاله الشحوب الواضح على وجهها.. اقترب ليجلس أمامها بالفراش وهو يهتف بقلق:
ـ نيرة.. أنتِ تعبانة ولا إيه؟.. وشك أصفر قوي وشاحب ليه؟!..
ومد يده ليتلمس وجهها برقة:
ـ ملامحك مجهدة وعينيكِ تحتها هالات سودا.. حصل إيه وأنا مسافر؟؟..
ابتلعت ريقها بتوتر وهي تخبره:
ـ ولا حاجة يا حبي.. هيكون إيه.. أنت وحشتني قوي.. ما كنتش أعرف أني هفتقدك بالصورة دي؟؟..
واقتربت منه لترتكز على ركبتيها فوق الفراش وتطوقه بذراعيها وهي تطبع قبلات صغيرة متفرقة على وجهه حتى وصلت لشفتيه, فبادلها قبلاتها بلهفة.. لثوانِ فقط ثم ابتعد عنها مستفسراً:
ـ يعني أنتِ كويسة.. مش تعبانة ولا أي حاجة؟
أراحت رأسها على كتفه واقتربت أكثر حتى تقبله في عنقه.. تريد صرف ذهنه بأي طريقة عن شحوبها وهزالها الواضح.. فتمادت بقبلاتها تحاول أثارته بأقصى جهدها وهي تهمس:
ـ ما فيش حاجة بتتعبني قد بعدك عني!..
أبعدها عنه.. ونهض من فوق الفراش مبتعداً وهو يدعك عنقه بإرهاق وبداخله يتعجب لما لا يستجيب لها جسده كالسابق.. هل السبب هو إرهاقها الواضح.. أو فقط توتره من المواجهة القادمة..
تنحنح حرجاً وهو يخبرها بكلمات بسيطة:
ـ أنا مجهد, ومحتاج شاور دافي..
وتركها ليدخل الحمام بينما هي رمت بجسدها على الفراش متنهدة بعمق وبداخلها تبتهل أن تمر الليلة على خير.. فهي لا تريد إخباره.. لن تستطيع.. ولا تجد فائدة من إخباره.. لقد انتهى الأمر..
أجرت أناملها بين خصلات شعرها الذي فقد حيويته نوعاً ما.. وهي تهتف بداخلها بحنق..
"نسيت أسأله منى ماتت ولا لسه؟"..
**************
جلست علياء على الأريكة العريضة بغرفة المعيشة تراقب التلفاز بعينين شاردتين, "أم علي" تفترش وسادة عريضة على أرض الغرفة تثرثر مع نادية في حوار طويل, وأدهم نائم بجوارها على الأريكة, بينما علي يمارس هوايته المفضلة بـــعض عنقها!.. ومع كل ذلك الصخب لم تكن أفكارها معهم, بل كانت معه.. هو من سيتسبب في فقدانها ما تملك من بواقي العقل..
أخذت تسترجع بذاكرتها أحداث اليومين الماضيين.. لقد بدا حزيناً جداً لسماعه خبر وفاة منى.. وهي تأثرت كثيراً.. فبالرغم من أنها لم تكن صلتها بها قوية, إلا أنها تذكرها كامرأة شابة قوية ذات كرامة, وكبرياء, وجمال ناعم يخطف القلب.. بالطبع تأثرت لوفاتها.. وامتثلت لأمر يزيد ألا تخبر نيرة بأي شيء.. فهي بداخلها تتفق معه في ذلك.. رغم أنها طلبت منه أكثر من مرة أن يخبر مازن بوجود نيرة في المستشفى إلا أنه رفض, وعلل ذلك برغبة حسن في عدم تواجد نيرة بالعزاء.. وذلك ضاعف الحِمل على كاهل علياء.. فذهبت لنيرة وجالستها محاولة عدم ذكر أي شيء عن مازن وتواجده بمصر.. وانشغاله بمراسم عزاء منى.. واللغز الأكبر.. دنيا.. وعندما أنهت زيارة نيرة ذهبت إلى العزاء.. لتعود منهكة القوى.. وتفاجئ بعودة يزيد معها إلى منزلهما وليس بيت ريناد كما كانت تظن.. كان غامضاً.. حزيناً وكئيباً.. ويخفي غضباً مكبوتاً.. والأغرب من كل ذلك تشبثه بها بقوة.. حتى أنه اكتفى فقط بنومها بين ذراعيه.. فهي كانت غاية في الإنهاك.. وهو كان في قمة المراعاة.. لم يحاول إغوائها.. أو حتى مغازلتها, رغم أنها رأت رغبته تصرخ حية في عينيه.. رغبة لم يستطع كبحها في الليلة التالية.. بعد عودتهما من العزاء مباشرة.. اصطحبها لغرفتهما.. ولم يتركها إلا في الصباح... وأثناء تناولهما الافطار أخبرها عرضاً بخبر زواج حسن وبدا كأنه ينتظر ردة فعلها.. وعندما أخبرته ببساطة.."حسن مسكين".. انقبضت ملامحه وتوترت بشدة وكان على وشك إخبارها شيئاً.. ولكنه آثر الصمت.. وترك المائدة بغضب مكبوت وأخبرها أنه بانتظارها ليقلا نيرة من المشفى..
عضة قوية من "علي" أفاقتها من شرودها.. فأمسكته من خدوده لتقبلهما وتنهره برقة:
ـ مش بابا قال العض عيب؟..
ليجيبها علي ببراءة وهو يمسك بوجنتيها هو الآخر:
ـ أنا سوفته بيعضك..
شهقت علياء بحرج وغمغمت "أم علي":
ـ المفضوح هيتلف أمل العيال!
زجرتها علياء:
ـ وبعدين يا ست "أم علي"!
قامت "أم علي" بحركة بشفتيها:
ـ أنتِ جاية تتشطري علي أنا.. ابقي..
قاطعتها علياء:
ـ خلاص يا ست "أم علي".. الولاد موجودين.. ممكن تاخديهم تعشيهم؟..
صاح "علي" معترضاً وهو يتعلق برقبة علياء:
ـ لا.. أنا سعباااااان... يا ستي سااااااعبااااان..
ضحكت علياء بمرح وهي تمرغ أنفها في بطنه فأطلق ضحكات عالية.. وعاد يتعلق بعنقها فأخبرت "أم علي" بهدوء:
ـ طيب حضري العشا للولاد وأنا هأكلهم..
توجهت "أم علي" للمطبخ لتعد العشاء وتسلقت نادية الأريكة لتزاحم شقيقها وتستقر في أحضان أمها هي أيضاً..
ابتسمت علياء بحنين فالصغيرة تغار بشدة كوالدها تماماً.. وسرعان ما تحولت ابتسامتها الى ضحكة صافية وهي ترى يزيد أمامها.. لم تعرف متى أتى وكأنها أخرجته من ابتسامتها وهو يقوم بحركته المعتادة ويرفع "علي" من شعره.. وهو يؤنبه بغيظ:
ـ أنا مش قلت ما تعضش ماما!!
وتوجه نحوها بنظرة نارية.. فحاولت كبح ضحكاتها وهي تضع نادية على الأريكة لتنهض وتتوجه نحوه هامسة:
ـ هو بيقلدك.. ما تفتحش معاه الموضوع وهو هيبطله لوحده..
ليأتي صوت "أم علي" المتهكم:
ـ هيبطله لوحده إزاي طول ما هو شايف أبوه بيعمله!
أحاط يزيد خصر علياء بذراعه وزغر بعينه "لأم علي" ثم التفت موجهاً كلماته لعلياء:
ـ النهارده كان عندي ناس من جهة أمنية بيسألوا على "أم علي"!
كانت علياء تحاول كبت ابتسماتها فهي أدركت مزحته على الفور بينما شهقت السيدة بعنف وهي تسأله بتوتر:
ـ خير يا بيه كانوا عايزين إيه؟!
ـ كانوا عايزين يستخدموكِ كأول رادار بشري.. أصلهم سمعوا عن مؤهلاتك!
وكزته "أم علي" في كتفه وهي تتنهد براحة:
ـ يوه جاتك إيه يا بيه.. ده أنا صدقت!
هز رأسه بيأس.. لا فائدة.. سيموت قبل موعده بسبب تلك العجوز.. لمح الأطباق التي رصتها على المائدة الصغيرة.. فأمرها بحسم:
ـ عشي الولاد ونيميهم في أوضتهم..
وسحب علياء التي غرقت في حرجها إلى غرفتهما وهو يخبرها:
ـ عايزك في موضوع مهم..
أغلق باب الغرفة بالمفتاح تلك المرة.. والتفت إلى علياء التي بادرته بالهجوم:
ـ وبعدين معاك بقى يا يزيد!.. دي مش طريقة.. أنت ولا إنسان الكهف اللي بيجر الست وراه يدخلها الجحر بتاعه..
رفع حاجبيه بحيرة:
ـ إيه يا علياء؟.. فيها إيه اما أقول إني عايزك في موضوع مهم؟..
هتفت بحنق:
ـ لأني عارفة أنت عايز إيه.. و"أم علي" واقفة.. و..
قطعت كلماتها فجأة وهي تسأله:
ـ أنت تقصد أنه في حاجة مهمة فعلاً؟
تلاعبت ابتسامته العابثة على شفتيه وهو يقترب منها ليداعب خصلاتها برقة.. ويقترب من أذنها هامساً:
ـ هو كاااان في حاجة مهمة, بس لو أنتِ بتفكري..
ثم قطع كلماته وهو يطلق لفظاً بذيئاً.. فرفعت علياء عينيها إليه بدهشة ليهتف بغيظ وهو يلامس عنقها بإبهامه:
ـ الواد "علي" عضك بجد.. دي سنانه معلمة!
أطلقت ضحكة خافتة:
ـ معقولة يا يزيد!.. أنت متضايق فعلاً؟.. ده ابني.. ما حصلش حاجة لده كله!
لامبالاتها زادت من غضبه, فــلفها بذراعه بعنف وهو يهبط بشفتيه على عنقها ليمحو أي أثر آخر فهي امرأته هو.. ملكه هو.. كان يهمس لها بتلك الكلمات وهو يقبلها بوحشية وعنف لم تعهدهما به..
غضب.. غضب شديد يتملكه ولا تعلم له سبباً.. منذ وفاة منى بالتحديد.. وهو يكتم ذلك الغضب بداخله.. واليوم بعد ما قاما بإيصال نيرة إلى منزلها بدا أن غضبه بدأ يتسلل من تحت سيطرة قوية يمارسها على نفسه.. ولكنه لم يتمكن من ردع نفسه عن إلقاء النظرات الغاضبة نحو نيرة طوال الطريق.. ورفض تماماً أن تظل برفقتها في المنزل.. واصطحبها تقريباً بالقوة إلى السيارة..
هو غاضب.. وهي عاجزة عن التوصل إلى أسباب غضبه.. غضبه الذي مازال يمارسه عليها في صورة قبلات ولمسات وحشية.. لم تعد تحتملها.. فأبعدته عنها قليلاً.. لتلمح نظراته الغائمة برغبة غاضبة..
لم تره بهذا الغضب من قبل, حتى حينما كان يتهمها بأنها خططت لتوقعه في فخ الزواج.. لم يكن غاضباً هكذا.. لفت ذراعيها حول عنقه وهي تضع رأسها على كتفه تحاول تهدئة غضبه قليلاً.. وقد يحالفها الحظ فتعلم له سبباً..
ملست فوق عضلات ظهره المنقبضة فشعرت به يلين قليلاً.. فرفعت جسدها لتقف على أصابع قدميها وتطبع قبلات رقيقة صغيرة على وجنتيه.. وهمست له:
ـ مالك يا حبيبي؟..
زاد من ضغط ذراعيه حول خصرها فأصدرت آه خافتة.. دفعته ليبتعد قليلاً ويرفعها بين ذراعيها ليجلسا معاً على الأريكة الواسعة..
مسح وجهه بكفيه وكأنه يحاول إخراج المارد الذي تلبسه.. والتفت نحوها.. ليخبرها:
ـ أنا عايزك في موضوع مهم فعلاً..
ابتسمت بقلق.. فهي تخشى أن يفاتحها في موضوع رؤية والدته لأحفادها مرة أخرى.. وكان ذلك مثار مشاجرات عدة بينهما على مدار السنة الماضية.. وبالتحديد منذ ولادة أدهم..
ـ خير يا يزيد قلقتني!
اقترب منها ليخرج شيئاً من جيبه.. فعلمت أنه سيهديها قطعة مجوهرات جديدة.. فهو دأب على اهدائها تلك القطع, وعلل ذلك بأنه غير قادر على تسجيل أي أملاك باسمها حتى تصل الواحدة والعشرون.. ولكنها أتمتها بالفعل منذ شهور طويلة.. فهتفت بعجب:
ـ مش ممكن تكون اشتريت مجوهرات تاني!.. أنا عندي كتير قوي.. مش هلحق ألبسهم أساساً..
منعها من استكمال كلماتها وأغلق فمها بكفه:
ـ بعد الشر عليكِ.. إن شاء الله تلبسيهم وأزودهم كمان..
وأخرج بالفعل علبة مخملية مستطيلة ومنحها لها لتفتحها تطالعها قلادة على شكل فراشة ماسية براقة.. ولها نفس اللون الأزرق الشاحب الذي يميز خاتم زواجها.. تناول القلادة من العلبة وأدار علياء ليساعدها في ارتدائها وهو يهمس لها:
ـ جميلة.. بس الماسة صاحبتي لها معزة تانية في قلبي..
ضحكت علياء برقة وهمست له:
ـ وأنا كمان بحب الماسة دي قوي..
ثم التفتت له مؤنبة:
ـ يعني هو ده الموضوع المهم!
تنحنح ليجلي حنجرته وبدا أنه متردد في الكلام فأيقنت بما هو قادم وكما توقعت من قبل:
ـ علياء.. ماما.. ماما نفسها تشوف الولاد..
ابتعدت علياء عنه لتنهض وهي تهتف بحدة:
ـ لأ..
ـ علياء...
صرخت به:
ـ إحنا اتناقشنا في الموضوع ده قبل كده.. وردي ما اتغيرش..
ـ علياء... أرجوكِ فكري تاني..
قاطعته:
ـ أفكر!!.. أفكر في إيه.. إنها أول مرة طلبت تشوفهم اشترطت أني ما كونش موجودة.. ولا أنها كانت عايزة تشوف علي وأدهم بس من غير نادية.. أفكر في إيه!!..
ـ أيوة بس هي جدتهم ومن حقها..
هتفت بغيظ وهي تحاول التحكم في نوبة غضب لا تجيد التعامل معه.. فهي لم تعرف الغضب من قبل:
ـ حقها!!.. حقها!!.. لا مش من حقها.. لو على الحق هم ولادي.. وأنا اللي من حقي أرفض أو أقبل..
هتف محتداً:
ـ بلاش قسوة يا علياء..
كان ذكره القسوة هو ما فجر مارد من الغضب لم تدرك أنها تختزنه فصرخت:
ـ قسوة!!.. بتقولي أنا قسوة!!.. أنا يا يزيد!!.. أنت مش فاكر هي عملت إيه بكل برودة دم وأعصاب.. لو مش فاكر اللي حصل, العلامات اللي في جسمي مش بتفكرك بتعذيب أعمامي.. ما أخدتش بالك من علامات الحروق.. ولا أنت مش بيكون في بالك غير أنك ترضي نفسك بس..
صرخ بغضب مماثل:
ـ علياء.. خودي بالك من كلامك..
تقافزت دموعها وهي تصرخ بألم:
ـ أنت نسيت كل اللي حصلي.. لكن أنا ما نسيتش ومش هقدر أنسى.. ازاي عايزني آمنها على ولادي.. إزاي..
ـ بقولك أحفادها..
قاطعته:
ـ أحفادها اللي هتخلفهم ريناد..
ـ معقولة يا علياء.. شمتانة في ريناد عشان ما بتخلفش..
هتفت به:
ـ شمتانة!.. شمتانة!.. أنا يا يزيد..
وهزت رأسها بألم:
ـ أنا بحسدها.. أنت معاها على طول.. بتيجي هنا يوم ولا يومين.. والباقي عندها.. مرة بحجة دكتور ومواعيد.. ومرة بحجة حفلات وسهرات عمل..
بدا ضائعاً وهو يردد:
ـ أيوه يا علياء.. السهرات والحفلات دي ريناد بتعرف تنظمها صح.. و..
قاطعته:
ـ وأنا إيه؟.. بعرف أخلف صح.. وأخليك مبسوط صح.. وبسمع الكلام واسكت صح..
مسح وجهه بين كفيه يحاول السيطرة على أعصابه.. فهو يختزن غضب صامت منذ يومين.. ولا يريد أن يفجره بوجهها ولكنها تزيده بتمردها الذي لم يعتده منها.. تكلم بهدوء قدر استطاعته:
ـ أنا بحاول يا علياء.. بحاول أن حياتنا كلنا تنتظم.. ما تنسيش أننا جرحنا ريناد جامد.. وأن علاقتي بماما زي الزفت من يوم جوازنا.. و..
صرخت بغضب:
ـ وأنت بتكسب رضا ريناد على حساب وقتي معاك.. وعايز ترجع تكسب رضا مامتك على حساب ولادي.. لأ.. لأول مرة هقولك لأ يا يزيد.. كله إلا ولادي.. كله إلا ولادي..
ـ أنتِ ناسية إنهم ولادي أنا كمان!
ـ لا مش ناسية.. يا ريت ما تنساش أنت كمان.. تقدري تقولي كام مرة روحت معاهم لدكتور.. تطعيم.. كام مرة أجبرتني إني أبدل ميعاد حفلة عيد ميلاد التوأم عشان ميعادها الأصلي مش مناسب مواعيد ريناد هانم.. ولا بالصدفة عندك ارتباط في الوقت ده.. كام مرة سهرت جنب واحد فيهم لما بيتعب..
سكتت وقد ارتعش جسدها تألماً وغضباً:
ـ جاي دلوقتِ عشان تصالح مامتك بيهم تقول ولادي.. أما يكون لهم دور في حياتك ابقى سميهم ولادك...
همس بغضب:
ـ علياء.. اسكتي..
صرخت:
ـ لا.. مش هسكت.. هو ده كمان بمزاجك..
وتحركت لتخرج من الغرفة.. فأوقفها صارخاً:
ـ على فين؟
غمغمت وهي توليه ظهرها:
ـ هنام مع ولادي..
جذبها من يدها:
ـ ما فيش نوم غير هنا..
التفتت له وقد كتفت ذراعيها وتفجرت نوبة تمرد:
ـ طبعاً.. ما هو أنت جاي وسارق من وقت ريناد وكمان جايب لي هدية.. وبعد ده كله... أنام بعيد.. ما يصحش برضوه.. ما هو كله بمزاجك..
جذبها بعنف وهو يهتف بغضب:
ـ يعني هو ده بس اللي جابني؟..
رمقته بصمت وقد زمت شفتيها بغضب وتمرد.. يكره هذا التمرد.. يقلقه.. ويخافه..
تقدم منها ورفعها بين ذراعيه وهمس من بين أسنانه:
ـ خلاص يا علياء.. طالما أنتِ شايفة إنه كله بمزاجي..
وسقط بها في الفراش مطلقاً خوف وغضب وقلق اليومين الماضيين من عقالهم وهو يهمس بفحيح غاضب:
ـ يبقى هاخد مزاجي..
لم يكن عنيفاً, ولكنه لم يكن رقيقاً مراعياً أيضاً.. تغلب على مقاومتها بسهولة.. فبرغم غضبها منه إلا أنها لم تتمكن من مقاومته بقوة.. سيطر على قبضتيها في ثوانِ.. وغزتها شفتاه باجتياح يائس.. تتنقل بجنون بين وجهها وعنقها وصدرها الذي مزق ثوبها من عليه, لتصطدم شفتاه بدمعته الماسية فيلتقطها بلهفة, وكأنها تعويذة سحرية تأسره وتحجم من غضبه فسرعان ما تخلت قبضته عن كفيها ليتمكن من احتضانها برقة اختلفت عن عنفه السابق.. عادت تحاول دفعه عنها ثانية.. لا تريد أن تقدم حبها بتلك الطريقة.. لن تستلم لسطوة اشتهائه لها..
همسة يائسة أطلقها وسط صراعهما.. جعلتها تستسلم وتسكن بين ذراعيه.. لتمنحه ما يريد من حبها.. ولم تدرك أنه كان تلك المرة يستجدي هذا الحب ويحتاجه..
"ما تبعديش عني.. أنا محتاجك.. ما تبعديش يا علياء"..
مازالت همسته يتردد صداها بداخلها حتى الآن بعدما هدأت عاصفته ورفضت هي أن تسكن صدره كعادتها, بل ابتعدت عنه لتتحول إلى الجهة الأخرى موليه إياه ظهرها.. متجاهلة حركة أناملة المستمرة على ذراعها وبين خصلاتها.. لن يسترضيها بكلمات لطيفة بعدما قام بما قام به.. لن ترضى تلك المرة.. ولن تسامح..
"لن تسامحه تلك المرة"..
كان هذا ما يفكر به يزيد بالتحديد وهو يتأمل خصلاتها الداكنة المنتشرة على ظهرها بعبث.. ويراقب حركة تنفسها السريعة.. يعلم أنها تجاهد الدموع, وأنها غاضبة.. تفكر بأنه تصرف تحت سيطرة رغبة وشهوة.. تظن أنه انتهكها.. ولكنه لم يفعل.. وبأعماقها تدرك ذلك.. أنه فقط خائف.. خائف ويكره خوفه.. وغاضب للحالة التي وصل إليها.. يخاف فقدانها.. فقدان ما تدعيه له من حب.. لا يحتمل أن تكون ملكاً لغيره.. فهي له.. ملكه.. امرأته.. حتى لو تعالت آلاف الأصوات النسائية تعارض ملكية الرجل لأنثاه.. فلتهاجمن ملكية سائر النساء, لكن تلك المرأة له..
"تباً لك يا حسن"
لفظتها أفكاره الهائجة.. فهو لم يظن لحظة أن خبر زواج حسن السريع قد يبدل أحواله بتلك الطريقة.. فهو طالما تفهم حاجة الرجل إلى وجود امرأة في حياته.. ولم يزعج رأسه بتوصيف تلك الحاجة.. وتزيينها بكلمات كالحب والعشق أو حتى الإعجاب.. فالغاية واحدة.. والغرض معروف.. ولكن مع حسن.. كان يعلم أن تفكيره يختلف.. سلوكه وتصرفاته.. حسن بأكمله مختلف.. وأكبر دليل هو حربه المستمرة للزواج من منى.. والآن ماذا؟.. ماتت منى, وتزوج حسن!!.. مات الملك.. عاش الملك..
كيف؟.. اذاً هو على حق.. لا وجود للحب.. إنما هي مجرد مجموعة تفاعلات كيمائية بين البشر.. رغبات وأهواء.. يجملونها في النهاية بكلمات عشق لينأوا بأنفسهم عن أخلاق الحيوانات..
ابتسم بسخرية متخيلاً ملامح علياء وهي تستمع نظريته عن المشاعر والحب.. والتي تبجلهما, بل وتقدسهما تماماً.. وسرعان ما انمحت البسمة من على شفتيه وأفكاره تسحبه إلى دوامة الخوف, والغضب مرة أخرى..
هل من الممكن أن يختفي حبه من قلب علياء.. هل من الممكن أن تهجره.. أو تكون لغيره.. مع سهولة زواج حسن ثانية ماذا يمنع الحب من أن يتبخر بقلب علياء؟.. وتتركه!!!..
يعلم أنها معه فقط لأنها تحبه كما تدعي.. كما تؤمن هي بالحب.. لأنها مختلفة.. ليست كريناد.. تربطها به حسابات اجتماعية وعائلية.. ليست كأمه.. تربطها بأبيه علاقة سيكوباتية لا يفهمها..
هي مختلفة.. تحبه.. لذلك تمنح كل ما تملك تحت لواء حبها.. وهو خائف.. خائف أن يفقد حبها هذا.. أن تبتعد.. ألا تكون له.. أنه لا يثق بالحب.. كيف يأمن لشيء لا يفهمه ولا يثق به.. كيف يطمئن لدوامه وصموده بقلبها.. كيف وإمارات تمردها عليه وغضبها منه تزداد يوماً بعد الآخر..
تباً.. أنه يفكر كالنساء.. لقد حوله التفكير في الحب إلى امرأة بائسة..
تذكر جملة مازن عندما علم منه بحمل علياء..
"أنت بتربطها لتهرب منك ولا إيه!"..
قالها بصيغة مزح.. ولكنه لم يكن يمزح.. كان يلخص كل مخاوف يزيد نحو علياء.. فهو يعترف.. أنه يتعمد بالفعل أن يجعلها تحمل .. فلو تبخر حبها.. يظل أولادهما كأوتاد تربطها به على الدوام..
تباً أنه يفكر كالنساء بالفعل.. ولهذا تجنب على الدوام فكرة الحب.. لا يريد أن يكون رقيقاً هشاً كحسن.. أو مشتتاً ضائعاً كمازن..
الحب كان دائماً بالنسبة له.. رغبة ليشبعها.. ولكن.. ولكنه كان غبياً.. غبياً أخذ أربع سنوات ليفهم.. ويدرك.. ما يشعر به.. معنى علياء بحياته.. احتياجه لها.. واجتياحها لقلبه ومشاعره.. وجسده.. كيان متكامل.. ذلك ما يجمعهما.. وذلك ما يخشى بشدة فقدانه..
تحرك ليلتصق بها وضمها بين ذراعيه لتتوسد رأسها صدره كما اعتادت.. سيطر على مقاومتها له وهو يهمس لها بسؤال يفقده صوابه:
ـ علياء.. أنتِ ممكن تفكري تعملي زي حسن وتتجوزي راجل غيري؟..
ساد الصمت وكانت إجابتها على سؤاله دمعة ساخنة سقطت على صدره...
وهمسة بداخلها..
"هتفضل على طول طفل أناني يا حبيبي"
***************
خرج مازن من الحمام ليجد نيرة راحت في سبات عميق.. ولم يعرف لم انتابته الراحة لذلك, فدخل بجانبها تحت الغطاء محاولاً استدعاء النوم بلا جدوى..
وأخيراً سأم المحاولة.. نهض متجهاً إلى المطبخ ليعد لنفسه وجبة بسيطة.. وابتسم ساخراً.. زوجته كانت تتلهف إغرائه.. ولكنها لم تفكر حتى أن تسأله إذا كان تناول طعامه أم لا؟!..
قطب قليلاً وهو يضع شرائح الجبن مع الخيار في شريحة من الخبز يتذكر أنها لم تسأله عن منى.. أو حسن؟..
هل تعلم؟... هل أخبرتها علياء؟.. لا.. لا يعتقد.. علياء لا تخالف أمراً ليزيد.. محظوظ أنت يا يزيد.. فلا يعتقد أن تتركه علياء ينام بدون أن يتناول عشائه...
ـ صباح الخير يا مازن بيه.. حمد لله على السلامة..
التفت ليجد السيدة أنيسة مديرة المنزل_كما تدعوها نيرة_ تواجهه وهي تخبره ببشاشة:
ـ عنك أنت يا بيه.. أنا هحضر لك لقمة تاكلها..
أخذت تثرثر ببضع كلمات أثناء إعدادها لطعامه.. لم يكن منتبهاً لها في البداية, ولكن فجأة جذبت انتباهه بجملتها:
ـ الحمد لله أن حضرتك رجعت بالسلامة.. أكيد مدام نيرة هتحتاج وجودك جنبها اليومين دول.. معلش ربنا يعوض عليكوا أنتوا لسه صغيرين و..
قاطعها بحيرة:
ـ لسه صغيرين على إيه؟.. أنا مش فاهم حاجة!..
رفعت نظراتها له وهي تخبره بتعجب:
ـ هو سيادتك مش رجعت عشان عرفت بخبر إجهاض.. بس مدام علياء...
قاطعها بصراخ:
ـ إجهاض إيه!.. مين اللي اجهضت.. مدام علياء؟..
شهقت أنيسة بإنكار:
ـ لا.. بعد الشر عليها ربنا يكملها على خير.. أنا بتكلم على مدام نيرة..
تردد هتافه وهو يختفي من أمامها ليصعد الطابق العلوي في لحظات:
ـ نيرة... نيرررررة..
اقتحم الغرفة ليجدها جالسة أمام منضدة الزينة تمشط خصلاتها وبدا في ضوء النهار معالم الشحوب والإجهاد واضحة على ملامحها الجميلة..
التفتت على الفور.. فاقترب منها بلهفة وهو يركع على ركبة واحدة أمامها ويضم وجهها بين كفيه.. ويسألها بقلق:
ـ نيرة.. أنتِ كويسة يا حبيبتي؟.. أنتِ بخير؟..
همست بتوتر:
ـ أيوه الحمد لله .. أنا بخير.. ليه؟.. بتسأل ليه؟
ترك إحدى كفيه تحتضن وجهها بينما تحسست أنامله وجهها وجسدها كأنه يتأكد من أنها بخير بالفعل.. ثم عاد يضم وجهها بكفيه ويريح جبهتها فوق جبهته وهو يسأل:
ـ يعني أنتِ كويسة بجد؟.. أومال إيه موضوع الإجهاض ده؟..
رفعت رأسها بعنف وهي تهتف بتوتر:
ـ أنت عرفت منين؟..
ابتعد عنها وتحرك ليقف على قدميه ويسأل بتعجب:
ـ هو أنت ما كنتيش عايزاني أعرف ولا إيه؟..
ابتلعت ريقها بتوتر وهي تنهض بدورها وتحتضن جسدها بذراعيها:
ـ لا يا حبي مش قصدي..
قاطعها:
ـ أومال قصدك إيه؟.. وما قولتليش ليه امبارح بالليل لما سألتك؟..
اقتربت منه وقد تحكمت في توترها وانفعالها.. ورفعت كفها لتريحه على كتفه بينما أخذت تداعب أزرار قميصه وهي تخبره برقة:
ـ أنا كنت هقولك النهارده طبعاً يا حبي.. ما هو مش معقول كنت أبلغك بخبر زي ده وأنت لسه واصل من السفر وتعبان..
سألها بنبرة قلقة:
ـ وده حصل إزاي؟.. وليه ما قولتليش أنك حامل قبل ما أسافر؟..
أراحت جسدها عليه وهي مستمرة في مداعبة أزرار قميصه:
ـ ما هو أنا ما كنتش أعرف إني حامل.. أنت عارف أنا كنت مقررة تأجيل الحكاية دي.. أنا عرفت لما روحت المستشفى..
ورفعت عينيها إليه ببراءة وهي تكمل ولكن نبرتها شابها الكثير من التوتر:
ـ كنت نازلة السلم بسرعة.. واتكعبلت... وقعت.. و..
قاطعها بسرعة:
ـ سلم إيه؟.. كنتِ فين أساساً ومين وداكِ المستشفى؟..
لفت أحد أزرار القميص بقوة حتى انتزعته من موضعه فطار في أحد أركان الغرفة.. فابتلعت ريقها بصعوبة:
ـ كنت.. كنت عند علياء.. وهي اللي راحت معايا المستشفى..
قطب حاجبيه بحيرة:
ـ علياء!.. يعني يزيد عارف؟..
أومأت برأسها موافقة:
ـ آه.. أيوه طبعاً.. هو ما كانش موجود في الأول.. بس علياء اتصلت به وجه.. وكانوا معايا ليل ونهار اليومين اللي فاتوا..
نظر إليها بشك.. فيزيد رافقه معظم الوقت طوال أيام العزاء.. ولم يخبره بشيء.. وعلياء أيضاً كانت موجودة بجوار والدة منى معظم الوقت.. فكيف رافقاها طوال الوقت!!..
سمعها تكمل بتردد:
ـ حتى هما اللي وصلوني من المستشفى.. أنا خرجت إمبارح بس..
ردد بحيرة:
ـ إمبارح بس!.. وما كلمتنيش ليه يا نيرة؟.. هو موضوع زي ده مش لازم تبلغيني به؟.. إزاي ما تتصليش بيا؟..
ـ هو أنت كنت في إيه ولا إيه يا مازن.. معقول كنت اتصل بيك أبلغك خبر زي ده.. وأنت مسافر, وكمان ظروف مرض منى و..
قطعت كلماتها بغتة وهي تسأله:
ـ صحيح هي ماتت ولا لسه؟..
دفعها عنه بغلظة متناسياً وضعها الصحي وهو يهتف بتأنيب:
ـ ده مش أسلوب سؤال..
هزت كتفيها بلامبالاة:
ـ أنت عارف أني مش بحبها..
مسح وجهه بيديه وهو يهمس:
ـ الله يرحمها..
صرخت بلهفة:
ـ هي ماتت؟..
ثم أردفت بلهفة لم تستطع اخفائها:
ـ وحسن.. حسن عامل إيه؟.. رجع معاك؟..
رمقها لوهلة.. عاجز عن تحديد ما يشعر به.. دمائه تغلي في عروقه.. وقبضة من صقيع تعتصر قلبه في ذات الوقت.. الحقيقة الوقحة تصفعه مرة أخرى.. "لست حبيبها ولن تكون"..
وجد نفسه يخبرها ببرود وتشفي تقريباً:
ـ حسن اتجوز بنت فرنساوية وهيكمل حياته في باريس..
شهقت بغضب:
ـ إيه اتجوز!.. اتجوز إزاي؟.. وامتى؟.. طب ما هو عرف يتجوز واحدة غير منى.. اشمعنى..
قطعت كلماتها وعضت شفتيها لتمنع نفسها من الاسترسال.. ولكن بعد فوات الآوان.. فقد أدرك ما تريد قوله بالفعل.. وارتسمت في عينيه نظرة لم تستطع تفسيرها.. وكأن عينيه تصرخ بها بحزن.. حزن مقهور متألم..
وهي صمتت تبادله نظرات الأسف.. تطلب مغفرته التي منحها إياها طويلاً..
تأملا بعضهما قليلاً في صمت قطعه رنين هاتف نيرة فالتقطه مازن تلقائياً ليلمح الشاشة تضيء باسم..
"abortion clinic"
تنقلت نظراته بين وجهها وشاشة الهاتف.. لتتحول نظراته من الحزن إلى الغضب العاصف.. غضب لون ملامحه كلها بشراسة وقسوة وهو يلقي بالهاتف نحوها ويهز رأسه ببرود:
ـ ردي على تليفونك يا مدام..
تناولت نيرة منه الهاتف ولمحت بدورها المتصل.. فصرخت وهي تتمسك بذراعة متوسلة:
ـ لا يا مازن.. أنت فاهم غلط.. أنا..
قاطعها:
ـ أنا كنت.. كنت فاهم غلط.. بس أخيراً فهمت.. معلش كنت غبي شوية..
نفض يديها عن ذراعه وخرج من الغرفة.. بل من المنزل بأكمله..
**********
وقفت علياء في المطبخ وهي تعد طبق العسل الأسود بالطحينة وهو ما يفضله يزيد على الإفطار.. مع بعض شرائح التوست المقرمشة والتي تعدها له خصيصاً عندما وصلها صوت "أم علي" وهي تمصمص شفتيها:
ـ هو أنتِ تتخانقي معاه بالليل وتجهزي له فطاره الصبح!.. أومال يحس على دمه ازاي!
هتفت بها علياء بغضب:
ـ أم علي.. وبعدين معاكِ.. ما ينفعش تتكلمي عليه كده.. ولا عشان هو طيب وبيسكت لك..
بهتت "أم علي" للحظات.. وهي تدرك غضب علياء منها.. واعتذرت باحراج:
ـ معلش.. أنا بكلمك زي بنتي.. عندك حق.. يظهر أني نسيت نفسي..
التفتت لها علياء وقد شعرت بالذنب لتعاملها الجاف مع السيدة العجوز.. واقتربت منها لتطبع قبلة رقيقة على جبهتها:
ـ حقك علي.. أنا ما اقصدش أزعلك.. بس برضوه ما حبش أنك تتكلمي عنه بالطريقة دي..
سكتت السيدة العجوز وقد ارتسمت على ملامحها معالم الامتعاض.. فاستدركت علياء:
ـ بس أنتِ عرفتِ منين أنه احنا متخانقين؟..
أخذت "أم علي" تنهي غسيل الاطباق وهي تغمغم:
ـ ما هو قاعد بره ومش جاي يلزق فيكي زي عادته.. تبقوا اتخانقتوا!..
هزت علياء رأسها وهي تبتسم بعجز:
ـ أنتِ ما لكيش حل فعلاً..
بادلتها السيدة الابتسام.. وهي تدرك أن السيدة الصغيرة رضيت عنها ثانية.. وسمعت علياء تخبرها:
ـ يلا.. خودي الفطار بتاعه وحطيه على السفرة وبلغيه أن الفطار جاهز..
شهقت "أم علي" بعجب:
ـ لا طبعاً.. روحي افطري وفطري جوزك.. ازعلي واغضبي براحتك.. بس لا تنزليه من عندك غضبان.. ولا تنيميه غضبان.. أنتِ ناسية أن عندك شريكة مستنية أنك تبعتيهولها غضبان عشان هي تصالحه..
توسعت عينا علياء بإدراك ووجدت أن وجهة نظر "أم علي" صحيحة.. فحملت الأطباق وخرجت لتضعها على مائدة الطعام التي كان يزيد جالساً يقرأ الجريدة على رأسها.. وما أن انتهت من رص الأطباق حتى وجدته يجذبها من يدها ليجلسها على ركبتيه وهو يهمس بأذنها:
ـ أنتِ كويسة؟.. امبارح.. أنا..
أشاحت بوجهها عنه ولم تدعه يكمل كلماته ولكنه أدار وجهها ليقابله بينما كفه يتحسس بطنها:
ـ أنتِ كويسة؟.. محتاجة تروحي للدكتورة ولا حاجة؟..
هزت رأسها نفياً.. وقد تجمعت الدموع بعينيها وأخبرته بهمس:
ـ انا محتاجة آخد الولاد واروح يومين المعمورة..
وافقها بسرعة:
ـ وماله.. نروح..
قاطعته وهي تنهض من فوق ركبتيه وتهز رأسها رافضة:
ـ لا.. هاروح مع الولاد وأم علي بس..
صرخ بغضب:
ـ لا طبعاً.. ما فيش سفر لوحدك..
قطع صوت جرس الباب كلماته.. فتحرك ليفتحه بسرعة حتى يوقف الكلمات الغاضبة من الاندفاع على لسانه.. فها هو ما يخشاه يتحقق.. هي تريد الابتعاد عنه..
ذهب ليفتح الباب ليفاجئ بقبضة مازن تنطلق في وجهه فسقط أرضاً وسط صرخات علياء..
الاحتياج
اجتياح كل العوائق والمسميات
يتسلط على العقل ويلغي الفؤاد
بسمتك.. نظرتك.. لمستك.. قربك
وجودك بجواري في الحياة
أنت دون الجميع أشعر معه بالضعف والاحتياج
رغم قوتي أدنو إليك باحتياج
تكمل الناقص والمطلوب دون تعقيدات
انصهار.. ذوبان.. إغداق.. نشوة.. متعة.. رغبات
نصفي الغائب وتفصل بيننا الظروف والمسافات
ولكنه الاحتياج يتحدى المستحيلات
معك أنسى الواقع والحاضر وكل ما هو آت
معك أهزم العالم وأقبل كل الإستثناءات
أخضع وأرضى وأتحول لكتلة احتياج
مشتعلة لا يطفئها إلا نيرانك المستعرة
ليكون الجنون في أغرب الحالات
خاطرة الفصل بقلم:
إيمان حسن
ظل مازن جالساً بسيارته يتأمل مدخل الفيلا لفترة طويلة.. خلف تلك الجدران يكمن حب حياته.. حلمه الذي ظن لوهلة خاطفة أنه حققه, وأمسك به بين يديه.. رفيقة طفولته.. حلم صباه وهوس شبابه.. جمع معاني الحب كلها باسمها؛ نيرة.. ولكنها ظلت حلم.. سراب.. أمل كان يخفت على مر السنين, ولكن في لحظة أصبح هو فارسها ليتوهج ذلك الأمل من جديد.. فخدع نفسه لفترة بكونه حبيبها.. لتصدمه بحقيقة أدركها قلبه العاشق منذ الأزل.. فهي قد تكون حبيبته الوحيدة.. ولكنه لم ولن يكون حبيبها أبداً.. وصرختها السعيدة بخبر مرض منى كانت صفعة قوية على وجه زواجهما هش الأسس..
"يعني منى عيانة وهتموت!"..
صرختها بفرحة طاغية.. لتنتبه لصدمته القاسية.. ولم تنتبه لقسوتها.. أو نبرة الشماتة بصوتها.. يومها نظر إليها مطولاً وكأنه بالفعل يراها للمرة الأولى على حقيقتها, فبرغم كل مساوئها التي يدركها ويتعامل معها, بل أنه بطريقة ما أحبها.. لكنه لم يتخيل يوماً أن تشمت وتفرح بموت إنسانة.. لقد شعر بالاشمئزاز منها, بل من قلبه لأنه أحبها يوماً..
جاءت رغبة حسن بعدم حضورها عزاء منى كقشة إنقاذ تمسك بها حتى لا يرى فرحة عينيها.. فرحة يتوقعها ويخشاها..
زفر بحنق وهو يتذكر أن عليه الآن أن يخبرها بموت منى, ليس ذلك فقط بل بوجود دنيا في حياته.. وجود لن يستغنى عنه ولن يخسره.. بل سيدعمه بموافقته على إنجاب دنيا لطفله, طفل ترفض نيرة وبإصرار إنجابه ولا يحق لها الاعتراض على رغبته في ممارسة أبوته بعيداً عنها..
يكاد يتخيل ردة فعلها.. صراخ وزعيق واتهامات متوالية بالخيانة والظلم والقسوة.. ستعاني صدمة حتماً وقد تحطم البيت فوق رأسه حرفياً.. ولكنها لن تنسحب.. يعرفها جيداً ليدرك أنها ستواجه.. وستحارب.. ليس من أجله للأسف, بل من أجلها هي.. من أجل نيرة.. ابتسم بسخرية لنفسه.. نعم.. لقد تعلم الدرس.. فنيرة لا يهمها إلا نيرة.. تحارب وتقاتل وتهاجم وتدافع فقط عن نفسها.. حتى كرهها توجهه لنفسها ولمن يتجرأ على خدش ذات النفس ولو بخدش خفيف.. وهو لن يخدش فقط.. بل سيغرز السكين ويلويه في الجرح؛
سيفضل عليها أخرى...
دلف إلى فيلته ليقابله هدوء تام.. لا وجود لأي صوت والمكان غارق في ظلام تام.. وكأن البيت قد هجره سكانه.. ساوره شك طفيف أن تكون إحدى مفاجآت نيرة الحسية التي دأبت على اغراقه بها... ولكن سرعان ما صرف ذهنه عن الأمر فهي لم تعلم بعودته بعد..
وفي غرفته قابله نفس الهدوء حتى بدأ يشك أنها خارج المنزل.. أضاء الغرفة ليفاجئ بكومة صغيرة فوق الفراش... تحركت بتعب وهي ترفع رأسها وتهتف بإجهاد:
ـ مازن!.. أنت وصلت؟..
التفت ليلمحها وهاله الشحوب الواضح على وجهها.. اقترب ليجلس أمامها بالفراش وهو يهتف بقلق:
ـ نيرة.. أنتِ تعبانة ولا إيه؟.. وشك أصفر قوي وشاحب ليه؟!..
ومد يده ليتلمس وجهها برقة:
ـ ملامحك مجهدة وعينيكِ تحتها هالات سودا.. حصل إيه وأنا مسافر؟؟..
ابتلعت ريقها بتوتر وهي تخبره:
ـ ولا حاجة يا حبي.. هيكون إيه.. أنت وحشتني قوي.. ما كنتش أعرف أني هفتقدك بالصورة دي؟؟..
واقتربت منه لترتكز على ركبتيها فوق الفراش وتطوقه بذراعيها وهي تطبع قبلات صغيرة متفرقة على وجهه حتى وصلت لشفتيه, فبادلها قبلاتها بلهفة.. لثوانِ فقط ثم ابتعد عنها مستفسراً:
ـ يعني أنتِ كويسة.. مش تعبانة ولا أي حاجة؟
أراحت رأسها على كتفه واقتربت أكثر حتى تقبله في عنقه.. تريد صرف ذهنه بأي طريقة عن شحوبها وهزالها الواضح.. فتمادت بقبلاتها تحاول أثارته بأقصى جهدها وهي تهمس:
ـ ما فيش حاجة بتتعبني قد بعدك عني!..
أبعدها عنه.. ونهض من فوق الفراش مبتعداً وهو يدعك عنقه بإرهاق وبداخله يتعجب لما لا يستجيب لها جسده كالسابق.. هل السبب هو إرهاقها الواضح.. أو فقط توتره من المواجهة القادمة..
تنحنح حرجاً وهو يخبرها بكلمات بسيطة:
ـ أنا مجهد, ومحتاج شاور دافي..
وتركها ليدخل الحمام بينما هي رمت بجسدها على الفراش متنهدة بعمق وبداخلها تبتهل أن تمر الليلة على خير.. فهي لا تريد إخباره.. لن تستطيع.. ولا تجد فائدة من إخباره.. لقد انتهى الأمر..
أجرت أناملها بين خصلات شعرها الذي فقد حيويته نوعاً ما.. وهي تهتف بداخلها بحنق..
"نسيت أسأله منى ماتت ولا لسه؟"..
**************
جلست علياء على الأريكة العريضة بغرفة المعيشة تراقب التلفاز بعينين شاردتين, "أم علي" تفترش وسادة عريضة على أرض الغرفة تثرثر مع نادية في حوار طويل, وأدهم نائم بجوارها على الأريكة, بينما علي يمارس هوايته المفضلة بـــعض عنقها!.. ومع كل ذلك الصخب لم تكن أفكارها معهم, بل كانت معه.. هو من سيتسبب في فقدانها ما تملك من بواقي العقل..
أخذت تسترجع بذاكرتها أحداث اليومين الماضيين.. لقد بدا حزيناً جداً لسماعه خبر وفاة منى.. وهي تأثرت كثيراً.. فبالرغم من أنها لم تكن صلتها بها قوية, إلا أنها تذكرها كامرأة شابة قوية ذات كرامة, وكبرياء, وجمال ناعم يخطف القلب.. بالطبع تأثرت لوفاتها.. وامتثلت لأمر يزيد ألا تخبر نيرة بأي شيء.. فهي بداخلها تتفق معه في ذلك.. رغم أنها طلبت منه أكثر من مرة أن يخبر مازن بوجود نيرة في المستشفى إلا أنه رفض, وعلل ذلك برغبة حسن في عدم تواجد نيرة بالعزاء.. وذلك ضاعف الحِمل على كاهل علياء.. فذهبت لنيرة وجالستها محاولة عدم ذكر أي شيء عن مازن وتواجده بمصر.. وانشغاله بمراسم عزاء منى.. واللغز الأكبر.. دنيا.. وعندما أنهت زيارة نيرة ذهبت إلى العزاء.. لتعود منهكة القوى.. وتفاجئ بعودة يزيد معها إلى منزلهما وليس بيت ريناد كما كانت تظن.. كان غامضاً.. حزيناً وكئيباً.. ويخفي غضباً مكبوتاً.. والأغرب من كل ذلك تشبثه بها بقوة.. حتى أنه اكتفى فقط بنومها بين ذراعيه.. فهي كانت غاية في الإنهاك.. وهو كان في قمة المراعاة.. لم يحاول إغوائها.. أو حتى مغازلتها, رغم أنها رأت رغبته تصرخ حية في عينيه.. رغبة لم يستطع كبحها في الليلة التالية.. بعد عودتهما من العزاء مباشرة.. اصطحبها لغرفتهما.. ولم يتركها إلا في الصباح... وأثناء تناولهما الافطار أخبرها عرضاً بخبر زواج حسن وبدا كأنه ينتظر ردة فعلها.. وعندما أخبرته ببساطة.."حسن مسكين".. انقبضت ملامحه وتوترت بشدة وكان على وشك إخبارها شيئاً.. ولكنه آثر الصمت.. وترك المائدة بغضب مكبوت وأخبرها أنه بانتظارها ليقلا نيرة من المشفى..
عضة قوية من "علي" أفاقتها من شرودها.. فأمسكته من خدوده لتقبلهما وتنهره برقة:
ـ مش بابا قال العض عيب؟..
ليجيبها علي ببراءة وهو يمسك بوجنتيها هو الآخر:
ـ أنا سوفته بيعضك..
شهقت علياء بحرج وغمغمت "أم علي":
ـ المفضوح هيتلف أمل العيال!
زجرتها علياء:
ـ وبعدين يا ست "أم علي"!
قامت "أم علي" بحركة بشفتيها:
ـ أنتِ جاية تتشطري علي أنا.. ابقي..
قاطعتها علياء:
ـ خلاص يا ست "أم علي".. الولاد موجودين.. ممكن تاخديهم تعشيهم؟..
صاح "علي" معترضاً وهو يتعلق برقبة علياء:
ـ لا.. أنا سعباااااان... يا ستي سااااااعبااااان..
ضحكت علياء بمرح وهي تمرغ أنفها في بطنه فأطلق ضحكات عالية.. وعاد يتعلق بعنقها فأخبرت "أم علي" بهدوء:
ـ طيب حضري العشا للولاد وأنا هأكلهم..
توجهت "أم علي" للمطبخ لتعد العشاء وتسلقت نادية الأريكة لتزاحم شقيقها وتستقر في أحضان أمها هي أيضاً..
ابتسمت علياء بحنين فالصغيرة تغار بشدة كوالدها تماماً.. وسرعان ما تحولت ابتسامتها الى ضحكة صافية وهي ترى يزيد أمامها.. لم تعرف متى أتى وكأنها أخرجته من ابتسامتها وهو يقوم بحركته المعتادة ويرفع "علي" من شعره.. وهو يؤنبه بغيظ:
ـ أنا مش قلت ما تعضش ماما!!
وتوجه نحوها بنظرة نارية.. فحاولت كبح ضحكاتها وهي تضع نادية على الأريكة لتنهض وتتوجه نحوه هامسة:
ـ هو بيقلدك.. ما تفتحش معاه الموضوع وهو هيبطله لوحده..
ليأتي صوت "أم علي" المتهكم:
ـ هيبطله لوحده إزاي طول ما هو شايف أبوه بيعمله!
أحاط يزيد خصر علياء بذراعه وزغر بعينه "لأم علي" ثم التفت موجهاً كلماته لعلياء:
ـ النهارده كان عندي ناس من جهة أمنية بيسألوا على "أم علي"!
كانت علياء تحاول كبت ابتسماتها فهي أدركت مزحته على الفور بينما شهقت السيدة بعنف وهي تسأله بتوتر:
ـ خير يا بيه كانوا عايزين إيه؟!
ـ كانوا عايزين يستخدموكِ كأول رادار بشري.. أصلهم سمعوا عن مؤهلاتك!
وكزته "أم علي" في كتفه وهي تتنهد براحة:
ـ يوه جاتك إيه يا بيه.. ده أنا صدقت!
هز رأسه بيأس.. لا فائدة.. سيموت قبل موعده بسبب تلك العجوز.. لمح الأطباق التي رصتها على المائدة الصغيرة.. فأمرها بحسم:
ـ عشي الولاد ونيميهم في أوضتهم..
وسحب علياء التي غرقت في حرجها إلى غرفتهما وهو يخبرها:
ـ عايزك في موضوع مهم..
أغلق باب الغرفة بالمفتاح تلك المرة.. والتفت إلى علياء التي بادرته بالهجوم:
ـ وبعدين معاك بقى يا يزيد!.. دي مش طريقة.. أنت ولا إنسان الكهف اللي بيجر الست وراه يدخلها الجحر بتاعه..
رفع حاجبيه بحيرة:
ـ إيه يا علياء؟.. فيها إيه اما أقول إني عايزك في موضوع مهم؟..
هتفت بحنق:
ـ لأني عارفة أنت عايز إيه.. و"أم علي" واقفة.. و..
قطعت كلماتها فجأة وهي تسأله:
ـ أنت تقصد أنه في حاجة مهمة فعلاً؟
تلاعبت ابتسامته العابثة على شفتيه وهو يقترب منها ليداعب خصلاتها برقة.. ويقترب من أذنها هامساً:
ـ هو كاااان في حاجة مهمة, بس لو أنتِ بتفكري..
ثم قطع كلماته وهو يطلق لفظاً بذيئاً.. فرفعت علياء عينيها إليه بدهشة ليهتف بغيظ وهو يلامس عنقها بإبهامه:
ـ الواد "علي" عضك بجد.. دي سنانه معلمة!
أطلقت ضحكة خافتة:
ـ معقولة يا يزيد!.. أنت متضايق فعلاً؟.. ده ابني.. ما حصلش حاجة لده كله!
لامبالاتها زادت من غضبه, فــلفها بذراعه بعنف وهو يهبط بشفتيه على عنقها ليمحو أي أثر آخر فهي امرأته هو.. ملكه هو.. كان يهمس لها بتلك الكلمات وهو يقبلها بوحشية وعنف لم تعهدهما به..
غضب.. غضب شديد يتملكه ولا تعلم له سبباً.. منذ وفاة منى بالتحديد.. وهو يكتم ذلك الغضب بداخله.. واليوم بعد ما قاما بإيصال نيرة إلى منزلها بدا أن غضبه بدأ يتسلل من تحت سيطرة قوية يمارسها على نفسه.. ولكنه لم يتمكن من ردع نفسه عن إلقاء النظرات الغاضبة نحو نيرة طوال الطريق.. ورفض تماماً أن تظل برفقتها في المنزل.. واصطحبها تقريباً بالقوة إلى السيارة..
هو غاضب.. وهي عاجزة عن التوصل إلى أسباب غضبه.. غضبه الذي مازال يمارسه عليها في صورة قبلات ولمسات وحشية.. لم تعد تحتملها.. فأبعدته عنها قليلاً.. لتلمح نظراته الغائمة برغبة غاضبة..
لم تره بهذا الغضب من قبل, حتى حينما كان يتهمها بأنها خططت لتوقعه في فخ الزواج.. لم يكن غاضباً هكذا.. لفت ذراعيها حول عنقه وهي تضع رأسها على كتفه تحاول تهدئة غضبه قليلاً.. وقد يحالفها الحظ فتعلم له سبباً..
ملست فوق عضلات ظهره المنقبضة فشعرت به يلين قليلاً.. فرفعت جسدها لتقف على أصابع قدميها وتطبع قبلات رقيقة صغيرة على وجنتيه.. وهمست له:
ـ مالك يا حبيبي؟..
زاد من ضغط ذراعيه حول خصرها فأصدرت آه خافتة.. دفعته ليبتعد قليلاً ويرفعها بين ذراعيها ليجلسا معاً على الأريكة الواسعة..
مسح وجهه بكفيه وكأنه يحاول إخراج المارد الذي تلبسه.. والتفت نحوها.. ليخبرها:
ـ أنا عايزك في موضوع مهم فعلاً..
ابتسمت بقلق.. فهي تخشى أن يفاتحها في موضوع رؤية والدته لأحفادها مرة أخرى.. وكان ذلك مثار مشاجرات عدة بينهما على مدار السنة الماضية.. وبالتحديد منذ ولادة أدهم..
ـ خير يا يزيد قلقتني!
اقترب منها ليخرج شيئاً من جيبه.. فعلمت أنه سيهديها قطعة مجوهرات جديدة.. فهو دأب على اهدائها تلك القطع, وعلل ذلك بأنه غير قادر على تسجيل أي أملاك باسمها حتى تصل الواحدة والعشرون.. ولكنها أتمتها بالفعل منذ شهور طويلة.. فهتفت بعجب:
ـ مش ممكن تكون اشتريت مجوهرات تاني!.. أنا عندي كتير قوي.. مش هلحق ألبسهم أساساً..
منعها من استكمال كلماتها وأغلق فمها بكفه:
ـ بعد الشر عليكِ.. إن شاء الله تلبسيهم وأزودهم كمان..
وأخرج بالفعل علبة مخملية مستطيلة ومنحها لها لتفتحها تطالعها قلادة على شكل فراشة ماسية براقة.. ولها نفس اللون الأزرق الشاحب الذي يميز خاتم زواجها.. تناول القلادة من العلبة وأدار علياء ليساعدها في ارتدائها وهو يهمس لها:
ـ جميلة.. بس الماسة صاحبتي لها معزة تانية في قلبي..
ضحكت علياء برقة وهمست له:
ـ وأنا كمان بحب الماسة دي قوي..
ثم التفتت له مؤنبة:
ـ يعني هو ده الموضوع المهم!
تنحنح ليجلي حنجرته وبدا أنه متردد في الكلام فأيقنت بما هو قادم وكما توقعت من قبل:
ـ علياء.. ماما.. ماما نفسها تشوف الولاد..
ابتعدت علياء عنه لتنهض وهي تهتف بحدة:
ـ لأ..
ـ علياء...
صرخت به:
ـ إحنا اتناقشنا في الموضوع ده قبل كده.. وردي ما اتغيرش..
ـ علياء... أرجوكِ فكري تاني..
قاطعته:
ـ أفكر!!.. أفكر في إيه.. إنها أول مرة طلبت تشوفهم اشترطت أني ما كونش موجودة.. ولا أنها كانت عايزة تشوف علي وأدهم بس من غير نادية.. أفكر في إيه!!..
ـ أيوة بس هي جدتهم ومن حقها..
هتفت بغيظ وهي تحاول التحكم في نوبة غضب لا تجيد التعامل معه.. فهي لم تعرف الغضب من قبل:
ـ حقها!!.. حقها!!.. لا مش من حقها.. لو على الحق هم ولادي.. وأنا اللي من حقي أرفض أو أقبل..
هتف محتداً:
ـ بلاش قسوة يا علياء..
كان ذكره القسوة هو ما فجر مارد من الغضب لم تدرك أنها تختزنه فصرخت:
ـ قسوة!!.. بتقولي أنا قسوة!!.. أنا يا يزيد!!.. أنت مش فاكر هي عملت إيه بكل برودة دم وأعصاب.. لو مش فاكر اللي حصل, العلامات اللي في جسمي مش بتفكرك بتعذيب أعمامي.. ما أخدتش بالك من علامات الحروق.. ولا أنت مش بيكون في بالك غير أنك ترضي نفسك بس..
صرخ بغضب مماثل:
ـ علياء.. خودي بالك من كلامك..
تقافزت دموعها وهي تصرخ بألم:
ـ أنت نسيت كل اللي حصلي.. لكن أنا ما نسيتش ومش هقدر أنسى.. ازاي عايزني آمنها على ولادي.. إزاي..
ـ بقولك أحفادها..
قاطعته:
ـ أحفادها اللي هتخلفهم ريناد..
ـ معقولة يا علياء.. شمتانة في ريناد عشان ما بتخلفش..
هتفت به:
ـ شمتانة!.. شمتانة!.. أنا يا يزيد..
وهزت رأسها بألم:
ـ أنا بحسدها.. أنت معاها على طول.. بتيجي هنا يوم ولا يومين.. والباقي عندها.. مرة بحجة دكتور ومواعيد.. ومرة بحجة حفلات وسهرات عمل..
بدا ضائعاً وهو يردد:
ـ أيوه يا علياء.. السهرات والحفلات دي ريناد بتعرف تنظمها صح.. و..
قاطعته:
ـ وأنا إيه؟.. بعرف أخلف صح.. وأخليك مبسوط صح.. وبسمع الكلام واسكت صح..
مسح وجهه بين كفيه يحاول السيطرة على أعصابه.. فهو يختزن غضب صامت منذ يومين.. ولا يريد أن يفجره بوجهها ولكنها تزيده بتمردها الذي لم يعتده منها.. تكلم بهدوء قدر استطاعته:
ـ أنا بحاول يا علياء.. بحاول أن حياتنا كلنا تنتظم.. ما تنسيش أننا جرحنا ريناد جامد.. وأن علاقتي بماما زي الزفت من يوم جوازنا.. و..
صرخت بغضب:
ـ وأنت بتكسب رضا ريناد على حساب وقتي معاك.. وعايز ترجع تكسب رضا مامتك على حساب ولادي.. لأ.. لأول مرة هقولك لأ يا يزيد.. كله إلا ولادي.. كله إلا ولادي..
ـ أنتِ ناسية إنهم ولادي أنا كمان!
ـ لا مش ناسية.. يا ريت ما تنساش أنت كمان.. تقدري تقولي كام مرة روحت معاهم لدكتور.. تطعيم.. كام مرة أجبرتني إني أبدل ميعاد حفلة عيد ميلاد التوأم عشان ميعادها الأصلي مش مناسب مواعيد ريناد هانم.. ولا بالصدفة عندك ارتباط في الوقت ده.. كام مرة سهرت جنب واحد فيهم لما بيتعب..
سكتت وقد ارتعش جسدها تألماً وغضباً:
ـ جاي دلوقتِ عشان تصالح مامتك بيهم تقول ولادي.. أما يكون لهم دور في حياتك ابقى سميهم ولادك...
همس بغضب:
ـ علياء.. اسكتي..
صرخت:
ـ لا.. مش هسكت.. هو ده كمان بمزاجك..
وتحركت لتخرج من الغرفة.. فأوقفها صارخاً:
ـ على فين؟
غمغمت وهي توليه ظهرها:
ـ هنام مع ولادي..
جذبها من يدها:
ـ ما فيش نوم غير هنا..
التفتت له وقد كتفت ذراعيها وتفجرت نوبة تمرد:
ـ طبعاً.. ما هو أنت جاي وسارق من وقت ريناد وكمان جايب لي هدية.. وبعد ده كله... أنام بعيد.. ما يصحش برضوه.. ما هو كله بمزاجك..
جذبها بعنف وهو يهتف بغضب:
ـ يعني هو ده بس اللي جابني؟..
رمقته بصمت وقد زمت شفتيها بغضب وتمرد.. يكره هذا التمرد.. يقلقه.. ويخافه..
تقدم منها ورفعها بين ذراعيه وهمس من بين أسنانه:
ـ خلاص يا علياء.. طالما أنتِ شايفة إنه كله بمزاجي..
وسقط بها في الفراش مطلقاً خوف وغضب وقلق اليومين الماضيين من عقالهم وهو يهمس بفحيح غاضب:
ـ يبقى هاخد مزاجي..
لم يكن عنيفاً, ولكنه لم يكن رقيقاً مراعياً أيضاً.. تغلب على مقاومتها بسهولة.. فبرغم غضبها منه إلا أنها لم تتمكن من مقاومته بقوة.. سيطر على قبضتيها في ثوانِ.. وغزتها شفتاه باجتياح يائس.. تتنقل بجنون بين وجهها وعنقها وصدرها الذي مزق ثوبها من عليه, لتصطدم شفتاه بدمعته الماسية فيلتقطها بلهفة, وكأنها تعويذة سحرية تأسره وتحجم من غضبه فسرعان ما تخلت قبضته عن كفيها ليتمكن من احتضانها برقة اختلفت عن عنفه السابق.. عادت تحاول دفعه عنها ثانية.. لا تريد أن تقدم حبها بتلك الطريقة.. لن تستلم لسطوة اشتهائه لها..
همسة يائسة أطلقها وسط صراعهما.. جعلتها تستسلم وتسكن بين ذراعيه.. لتمنحه ما يريد من حبها.. ولم تدرك أنه كان تلك المرة يستجدي هذا الحب ويحتاجه..
"ما تبعديش عني.. أنا محتاجك.. ما تبعديش يا علياء"..
مازالت همسته يتردد صداها بداخلها حتى الآن بعدما هدأت عاصفته ورفضت هي أن تسكن صدره كعادتها, بل ابتعدت عنه لتتحول إلى الجهة الأخرى موليه إياه ظهرها.. متجاهلة حركة أناملة المستمرة على ذراعها وبين خصلاتها.. لن يسترضيها بكلمات لطيفة بعدما قام بما قام به.. لن ترضى تلك المرة.. ولن تسامح..
"لن تسامحه تلك المرة"..
كان هذا ما يفكر به يزيد بالتحديد وهو يتأمل خصلاتها الداكنة المنتشرة على ظهرها بعبث.. ويراقب حركة تنفسها السريعة.. يعلم أنها تجاهد الدموع, وأنها غاضبة.. تفكر بأنه تصرف تحت سيطرة رغبة وشهوة.. تظن أنه انتهكها.. ولكنه لم يفعل.. وبأعماقها تدرك ذلك.. أنه فقط خائف.. خائف ويكره خوفه.. وغاضب للحالة التي وصل إليها.. يخاف فقدانها.. فقدان ما تدعيه له من حب.. لا يحتمل أن تكون ملكاً لغيره.. فهي له.. ملكه.. امرأته.. حتى لو تعالت آلاف الأصوات النسائية تعارض ملكية الرجل لأنثاه.. فلتهاجمن ملكية سائر النساء, لكن تلك المرأة له..
"تباً لك يا حسن"
لفظتها أفكاره الهائجة.. فهو لم يظن لحظة أن خبر زواج حسن السريع قد يبدل أحواله بتلك الطريقة.. فهو طالما تفهم حاجة الرجل إلى وجود امرأة في حياته.. ولم يزعج رأسه بتوصيف تلك الحاجة.. وتزيينها بكلمات كالحب والعشق أو حتى الإعجاب.. فالغاية واحدة.. والغرض معروف.. ولكن مع حسن.. كان يعلم أن تفكيره يختلف.. سلوكه وتصرفاته.. حسن بأكمله مختلف.. وأكبر دليل هو حربه المستمرة للزواج من منى.. والآن ماذا؟.. ماتت منى, وتزوج حسن!!.. مات الملك.. عاش الملك..
كيف؟.. اذاً هو على حق.. لا وجود للحب.. إنما هي مجرد مجموعة تفاعلات كيمائية بين البشر.. رغبات وأهواء.. يجملونها في النهاية بكلمات عشق لينأوا بأنفسهم عن أخلاق الحيوانات..
ابتسم بسخرية متخيلاً ملامح علياء وهي تستمع نظريته عن المشاعر والحب.. والتي تبجلهما, بل وتقدسهما تماماً.. وسرعان ما انمحت البسمة من على شفتيه وأفكاره تسحبه إلى دوامة الخوف, والغضب مرة أخرى..
هل من الممكن أن يختفي حبه من قلب علياء.. هل من الممكن أن تهجره.. أو تكون لغيره.. مع سهولة زواج حسن ثانية ماذا يمنع الحب من أن يتبخر بقلب علياء؟.. وتتركه!!!..
يعلم أنها معه فقط لأنها تحبه كما تدعي.. كما تؤمن هي بالحب.. لأنها مختلفة.. ليست كريناد.. تربطها به حسابات اجتماعية وعائلية.. ليست كأمه.. تربطها بأبيه علاقة سيكوباتية لا يفهمها..
هي مختلفة.. تحبه.. لذلك تمنح كل ما تملك تحت لواء حبها.. وهو خائف.. خائف أن يفقد حبها هذا.. أن تبتعد.. ألا تكون له.. أنه لا يثق بالحب.. كيف يأمن لشيء لا يفهمه ولا يثق به.. كيف يطمئن لدوامه وصموده بقلبها.. كيف وإمارات تمردها عليه وغضبها منه تزداد يوماً بعد الآخر..
تباً.. أنه يفكر كالنساء.. لقد حوله التفكير في الحب إلى امرأة بائسة..
تذكر جملة مازن عندما علم منه بحمل علياء..
"أنت بتربطها لتهرب منك ولا إيه!"..
قالها بصيغة مزح.. ولكنه لم يكن يمزح.. كان يلخص كل مخاوف يزيد نحو علياء.. فهو يعترف.. أنه يتعمد بالفعل أن يجعلها تحمل .. فلو تبخر حبها.. يظل أولادهما كأوتاد تربطها به على الدوام..
تباً أنه يفكر كالنساء بالفعل.. ولهذا تجنب على الدوام فكرة الحب.. لا يريد أن يكون رقيقاً هشاً كحسن.. أو مشتتاً ضائعاً كمازن..
الحب كان دائماً بالنسبة له.. رغبة ليشبعها.. ولكن.. ولكنه كان غبياً.. غبياً أخذ أربع سنوات ليفهم.. ويدرك.. ما يشعر به.. معنى علياء بحياته.. احتياجه لها.. واجتياحها لقلبه ومشاعره.. وجسده.. كيان متكامل.. ذلك ما يجمعهما.. وذلك ما يخشى بشدة فقدانه..
تحرك ليلتصق بها وضمها بين ذراعيه لتتوسد رأسها صدره كما اعتادت.. سيطر على مقاومتها له وهو يهمس لها بسؤال يفقده صوابه:
ـ علياء.. أنتِ ممكن تفكري تعملي زي حسن وتتجوزي راجل غيري؟..
ساد الصمت وكانت إجابتها على سؤاله دمعة ساخنة سقطت على صدره...
وهمسة بداخلها..
"هتفضل على طول طفل أناني يا حبيبي"
***************
خرج مازن من الحمام ليجد نيرة راحت في سبات عميق.. ولم يعرف لم انتابته الراحة لذلك, فدخل بجانبها تحت الغطاء محاولاً استدعاء النوم بلا جدوى..
وأخيراً سأم المحاولة.. نهض متجهاً إلى المطبخ ليعد لنفسه وجبة بسيطة.. وابتسم ساخراً.. زوجته كانت تتلهف إغرائه.. ولكنها لم تفكر حتى أن تسأله إذا كان تناول طعامه أم لا؟!..
قطب قليلاً وهو يضع شرائح الجبن مع الخيار في شريحة من الخبز يتذكر أنها لم تسأله عن منى.. أو حسن؟..
هل تعلم؟... هل أخبرتها علياء؟.. لا.. لا يعتقد.. علياء لا تخالف أمراً ليزيد.. محظوظ أنت يا يزيد.. فلا يعتقد أن تتركه علياء ينام بدون أن يتناول عشائه...
ـ صباح الخير يا مازن بيه.. حمد لله على السلامة..
التفت ليجد السيدة أنيسة مديرة المنزل_كما تدعوها نيرة_ تواجهه وهي تخبره ببشاشة:
ـ عنك أنت يا بيه.. أنا هحضر لك لقمة تاكلها..
أخذت تثرثر ببضع كلمات أثناء إعدادها لطعامه.. لم يكن منتبهاً لها في البداية, ولكن فجأة جذبت انتباهه بجملتها:
ـ الحمد لله أن حضرتك رجعت بالسلامة.. أكيد مدام نيرة هتحتاج وجودك جنبها اليومين دول.. معلش ربنا يعوض عليكوا أنتوا لسه صغيرين و..
قاطعها بحيرة:
ـ لسه صغيرين على إيه؟.. أنا مش فاهم حاجة!..
رفعت نظراتها له وهي تخبره بتعجب:
ـ هو سيادتك مش رجعت عشان عرفت بخبر إجهاض.. بس مدام علياء...
قاطعها بصراخ:
ـ إجهاض إيه!.. مين اللي اجهضت.. مدام علياء؟..
شهقت أنيسة بإنكار:
ـ لا.. بعد الشر عليها ربنا يكملها على خير.. أنا بتكلم على مدام نيرة..
تردد هتافه وهو يختفي من أمامها ليصعد الطابق العلوي في لحظات:
ـ نيرة... نيرررررة..
اقتحم الغرفة ليجدها جالسة أمام منضدة الزينة تمشط خصلاتها وبدا في ضوء النهار معالم الشحوب والإجهاد واضحة على ملامحها الجميلة..
التفتت على الفور.. فاقترب منها بلهفة وهو يركع على ركبة واحدة أمامها ويضم وجهها بين كفيه.. ويسألها بقلق:
ـ نيرة.. أنتِ كويسة يا حبيبتي؟.. أنتِ بخير؟..
همست بتوتر:
ـ أيوه الحمد لله .. أنا بخير.. ليه؟.. بتسأل ليه؟
ترك إحدى كفيه تحتضن وجهها بينما تحسست أنامله وجهها وجسدها كأنه يتأكد من أنها بخير بالفعل.. ثم عاد يضم وجهها بكفيه ويريح جبهتها فوق جبهته وهو يسأل:
ـ يعني أنتِ كويسة بجد؟.. أومال إيه موضوع الإجهاض ده؟..
رفعت رأسها بعنف وهي تهتف بتوتر:
ـ أنت عرفت منين؟..
ابتعد عنها وتحرك ليقف على قدميه ويسأل بتعجب:
ـ هو أنت ما كنتيش عايزاني أعرف ولا إيه؟..
ابتلعت ريقها بتوتر وهي تنهض بدورها وتحتضن جسدها بذراعيها:
ـ لا يا حبي مش قصدي..
قاطعها:
ـ أومال قصدك إيه؟.. وما قولتليش ليه امبارح بالليل لما سألتك؟..
اقتربت منه وقد تحكمت في توترها وانفعالها.. ورفعت كفها لتريحه على كتفه بينما أخذت تداعب أزرار قميصه وهي تخبره برقة:
ـ أنا كنت هقولك النهارده طبعاً يا حبي.. ما هو مش معقول كنت أبلغك بخبر زي ده وأنت لسه واصل من السفر وتعبان..
سألها بنبرة قلقة:
ـ وده حصل إزاي؟.. وليه ما قولتليش أنك حامل قبل ما أسافر؟..
أراحت جسدها عليه وهي مستمرة في مداعبة أزرار قميصه:
ـ ما هو أنا ما كنتش أعرف إني حامل.. أنت عارف أنا كنت مقررة تأجيل الحكاية دي.. أنا عرفت لما روحت المستشفى..
ورفعت عينيها إليه ببراءة وهي تكمل ولكن نبرتها شابها الكثير من التوتر:
ـ كنت نازلة السلم بسرعة.. واتكعبلت... وقعت.. و..
قاطعها بسرعة:
ـ سلم إيه؟.. كنتِ فين أساساً ومين وداكِ المستشفى؟..
لفت أحد أزرار القميص بقوة حتى انتزعته من موضعه فطار في أحد أركان الغرفة.. فابتلعت ريقها بصعوبة:
ـ كنت.. كنت عند علياء.. وهي اللي راحت معايا المستشفى..
قطب حاجبيه بحيرة:
ـ علياء!.. يعني يزيد عارف؟..
أومأت برأسها موافقة:
ـ آه.. أيوه طبعاً.. هو ما كانش موجود في الأول.. بس علياء اتصلت به وجه.. وكانوا معايا ليل ونهار اليومين اللي فاتوا..
نظر إليها بشك.. فيزيد رافقه معظم الوقت طوال أيام العزاء.. ولم يخبره بشيء.. وعلياء أيضاً كانت موجودة بجوار والدة منى معظم الوقت.. فكيف رافقاها طوال الوقت!!..
سمعها تكمل بتردد:
ـ حتى هما اللي وصلوني من المستشفى.. أنا خرجت إمبارح بس..
ردد بحيرة:
ـ إمبارح بس!.. وما كلمتنيش ليه يا نيرة؟.. هو موضوع زي ده مش لازم تبلغيني به؟.. إزاي ما تتصليش بيا؟..
ـ هو أنت كنت في إيه ولا إيه يا مازن.. معقول كنت اتصل بيك أبلغك خبر زي ده.. وأنت مسافر, وكمان ظروف مرض منى و..
قطعت كلماتها بغتة وهي تسأله:
ـ صحيح هي ماتت ولا لسه؟..
دفعها عنه بغلظة متناسياً وضعها الصحي وهو يهتف بتأنيب:
ـ ده مش أسلوب سؤال..
هزت كتفيها بلامبالاة:
ـ أنت عارف أني مش بحبها..
مسح وجهه بيديه وهو يهمس:
ـ الله يرحمها..
صرخت بلهفة:
ـ هي ماتت؟..
ثم أردفت بلهفة لم تستطع اخفائها:
ـ وحسن.. حسن عامل إيه؟.. رجع معاك؟..
رمقها لوهلة.. عاجز عن تحديد ما يشعر به.. دمائه تغلي في عروقه.. وقبضة من صقيع تعتصر قلبه في ذات الوقت.. الحقيقة الوقحة تصفعه مرة أخرى.. "لست حبيبها ولن تكون"..
وجد نفسه يخبرها ببرود وتشفي تقريباً:
ـ حسن اتجوز بنت فرنساوية وهيكمل حياته في باريس..
شهقت بغضب:
ـ إيه اتجوز!.. اتجوز إزاي؟.. وامتى؟.. طب ما هو عرف يتجوز واحدة غير منى.. اشمعنى..
قطعت كلماتها وعضت شفتيها لتمنع نفسها من الاسترسال.. ولكن بعد فوات الآوان.. فقد أدرك ما تريد قوله بالفعل.. وارتسمت في عينيه نظرة لم تستطع تفسيرها.. وكأن عينيه تصرخ بها بحزن.. حزن مقهور متألم..
وهي صمتت تبادله نظرات الأسف.. تطلب مغفرته التي منحها إياها طويلاً..
تأملا بعضهما قليلاً في صمت قطعه رنين هاتف نيرة فالتقطه مازن تلقائياً ليلمح الشاشة تضيء باسم..
"abortion clinic"
تنقلت نظراته بين وجهها وشاشة الهاتف.. لتتحول نظراته من الحزن إلى الغضب العاصف.. غضب لون ملامحه كلها بشراسة وقسوة وهو يلقي بالهاتف نحوها ويهز رأسه ببرود:
ـ ردي على تليفونك يا مدام..
تناولت نيرة منه الهاتف ولمحت بدورها المتصل.. فصرخت وهي تتمسك بذراعة متوسلة:
ـ لا يا مازن.. أنت فاهم غلط.. أنا..
قاطعها:
ـ أنا كنت.. كنت فاهم غلط.. بس أخيراً فهمت.. معلش كنت غبي شوية..
نفض يديها عن ذراعه وخرج من الغرفة.. بل من المنزل بأكمله..
**********
وقفت علياء في المطبخ وهي تعد طبق العسل الأسود بالطحينة وهو ما يفضله يزيد على الإفطار.. مع بعض شرائح التوست المقرمشة والتي تعدها له خصيصاً عندما وصلها صوت "أم علي" وهي تمصمص شفتيها:
ـ هو أنتِ تتخانقي معاه بالليل وتجهزي له فطاره الصبح!.. أومال يحس على دمه ازاي!
هتفت بها علياء بغضب:
ـ أم علي.. وبعدين معاكِ.. ما ينفعش تتكلمي عليه كده.. ولا عشان هو طيب وبيسكت لك..
بهتت "أم علي" للحظات.. وهي تدرك غضب علياء منها.. واعتذرت باحراج:
ـ معلش.. أنا بكلمك زي بنتي.. عندك حق.. يظهر أني نسيت نفسي..
التفتت لها علياء وقد شعرت بالذنب لتعاملها الجاف مع السيدة العجوز.. واقتربت منها لتطبع قبلة رقيقة على جبهتها:
ـ حقك علي.. أنا ما اقصدش أزعلك.. بس برضوه ما حبش أنك تتكلمي عنه بالطريقة دي..
سكتت السيدة العجوز وقد ارتسمت على ملامحها معالم الامتعاض.. فاستدركت علياء:
ـ بس أنتِ عرفتِ منين أنه احنا متخانقين؟..
أخذت "أم علي" تنهي غسيل الاطباق وهي تغمغم:
ـ ما هو قاعد بره ومش جاي يلزق فيكي زي عادته.. تبقوا اتخانقتوا!..
هزت علياء رأسها وهي تبتسم بعجز:
ـ أنتِ ما لكيش حل فعلاً..
بادلتها السيدة الابتسام.. وهي تدرك أن السيدة الصغيرة رضيت عنها ثانية.. وسمعت علياء تخبرها:
ـ يلا.. خودي الفطار بتاعه وحطيه على السفرة وبلغيه أن الفطار جاهز..
شهقت "أم علي" بعجب:
ـ لا طبعاً.. روحي افطري وفطري جوزك.. ازعلي واغضبي براحتك.. بس لا تنزليه من عندك غضبان.. ولا تنيميه غضبان.. أنتِ ناسية أن عندك شريكة مستنية أنك تبعتيهولها غضبان عشان هي تصالحه..
توسعت عينا علياء بإدراك ووجدت أن وجهة نظر "أم علي" صحيحة.. فحملت الأطباق وخرجت لتضعها على مائدة الطعام التي كان يزيد جالساً يقرأ الجريدة على رأسها.. وما أن انتهت من رص الأطباق حتى وجدته يجذبها من يدها ليجلسها على ركبتيه وهو يهمس بأذنها:
ـ أنتِ كويسة؟.. امبارح.. أنا..
أشاحت بوجهها عنه ولم تدعه يكمل كلماته ولكنه أدار وجهها ليقابله بينما كفه يتحسس بطنها:
ـ أنتِ كويسة؟.. محتاجة تروحي للدكتورة ولا حاجة؟..
هزت رأسها نفياً.. وقد تجمعت الدموع بعينيها وأخبرته بهمس:
ـ انا محتاجة آخد الولاد واروح يومين المعمورة..
وافقها بسرعة:
ـ وماله.. نروح..
قاطعته وهي تنهض من فوق ركبتيه وتهز رأسها رافضة:
ـ لا.. هاروح مع الولاد وأم علي بس..
صرخ بغضب:
ـ لا طبعاً.. ما فيش سفر لوحدك..
قطع صوت جرس الباب كلماته.. فتحرك ليفتحه بسرعة حتى يوقف الكلمات الغاضبة من الاندفاع على لسانه.. فها هو ما يخشاه يتحقق.. هي تريد الابتعاد عنه..
ذهب ليفتح الباب ليفاجئ بقبضة مازن تنطلق في وجهه فسقط أرضاً وسط صرخات علياء..
