رواية متاهة مشاعر الفصل الثامن عشر 18 بقلم نهي طلبة
الفصل الثامن عشر
أخذ مازن يرمق نيرة بغموض وهي جالسة إلى يمينه على مائدة الطعام تعبث بهاتفها كل خمس دقائق.. يتساءل بداخله عما يقلقها هكذا فهي تزم شفتيها بقوة.. وتعبث بخصلات شعرها بدون أن تدري.. وتتحرك يدها أحياناً فتمسك بعنقها للحظات ثم تعود إلى خصلاتها مرة أخرى..
كانت تبدو كتلك الليلة التي اصطحبها فيها لتناول العشاء مع جدته.. لم يظن للحظة أن نيرة تقلق مما قد يظنه الناس بها, إلا أنها بالفعل كانت قلقة من لقاء جدته وكأنها تراها للمرة الأولى.. وبالفعل خيم جو من التوتر الشديد على تصرفات نيرة وحتى جدته تتعامل معها بأسلوب متكلف لم يلحظه عليها من قبل, رغم أنها لم تعلم ما فعلته نيرة في حفل الزفاف, إلا أنها تعاملت برسمية مبالغ بها.. فكانت أمسية كارثية بجميع المقاييس خاصة وأن نفسيته لم تهدأ على الإطلاق بعد لقائه الحزين بشقيقه.. ورغم ذلك حاول احتواء التوتر المخيم على الأمسية حتى استهلك طاقته بالكامل في محاولة يائسة ليمر اللقاء بسلام.. واستغل أول فرصة سنحت له ليرحل مصطحباً زوجته معه..
وعند بوابة الفيلا الخارجية.. أنزل نيرة -طالباً منها ألا تنتظر عودته باكراً_.. وانطلق نحو.. دنيا...
أعاده تململ نيرة وهي تعبث بهاتفها إلى وجوده بمنزله.. على مائدة طعامه تجاوره عروسه.. عروس تبدو مشغولة للغاية بهاتفها..
فألقى بمعلقته فجأة هاتفاً:
ـ يعني مش قادرة تبعدي عن تليفونك ربع ساعة نتغدى فيهم..
رفعت نظراتها إليه لتسأله بلهفة:
ـ هو يزيد رجع مصر؟..
قطب حاجبيه بتساؤل:
ـ بتسألي ليه؟..
ـ بحاول أوصل لعليا بقى لي يومين.. ومش عارفة.. تليفونها مقفول على طول.. فقلت أكيد هو وصل ومشغولة معاه..
ردد مازن بتأكيد وهو يتذكر محادثته ليزيد في ليلة زفافه الكارثية.. ومحادثة أخرى بعد عودته من زيارة حسن:
ـ لا.. يزيد قدامه أربع أيام على ما يرجع..
تمتمت نيرة بعجب:
ـ غريبة!..
رمقها لوهلة وقبل أن يستفسر منها ارتفع رنين هاتفها لترفعه بلهفة ولكنها ما إن رأت اسم المتصل على الشاشة حتى أعادت الهاتف إلى المائدة وعلامات الامتعاض تعلو وجهها.. مما دفع مازن لسؤالها:
ـ ليه ما بترديش؟..
هزت كتفيها باستهانة:
ـ دي مش عليا.. دي صبا..
ـ صبا أختك؟..
مرت في عينيها نظرة نارية.. وأومأت برأسها موافقة.. بدون أن ترد على هاتفها.. حتى اختفى الرنين الذي ما لبث أن ارتفع مرة أخرى.. فقال مازن بلهجة آمرة:
ـ ردي على أختك يا نيرة..
أمسكت هاتفها بامتعاض.. تتمنى لو تخالف أمره, ولكنها حريصة على أن تحتوي غضبه منها.. وتحتفظ بالأوقات التي يتواجد بها معها هادئة قدر الإمكان.. علها تفهم ما الذي يريده منها بالتحديد... فتحت الخط وهي تقول بملل:
ـ خير يا صبا في حاجة؟..
جاءها صوت صبا متردداً وهي تسألها بدورها عن علياء المختفية منذ ليلة زفاف نيرة... مما جعل نيرة تتساءل بصوت نضحت منه الغيرة:
ـ وأنتِ بتسألي على عليا ليه؟..
ـ فريدة عايزاها.. موضوع بخصوص لوحات ورسم..
تشبعت أعماق نيرة بغيرة غاضبة.. وهي تستمع لكلمات صبا.. فهي لا يخفى عليها تعلق علياء بالرسم.. فهل ستسرقها فريدة منها كما سرقت والدها من قبل.. إلا أن أفكارها توقفت فجأة وكلمات صبا تتوالى:
ـ عليا مختفية يا نيرة.. مش موجودة في المزرعة ولا في أي حتة.. وبعد محاولات مع غفير المزرعة فريدة عرفت منه أن عليا ما رجعتش المزرعة من ليلة فرحك.. أنتِ تعرفي حاجة عنها؟...
ابتلعت نيرة ريقها بتوتر:
ـ استني.. ثواني كده فهميني..
كررت صبا نفس الكلمات على نيرة ببطء وتفسير أكبر وهي تحكي لها محاولة فريدة للوصول إلى علياء بكل الطرق.. حتى تيقنت أخيراً من اختفاء علياء..
أغلقت نيرة الهاتف مع صبا.. بعد أن وعدتها بإبلاغها بأي معلومة تصل إليها وتخص علياء..
سألها مازن على الفور:
ـ حصل إيه؟.. عليا فيها حاجة؟..
لم تجبه وأخذت تعبث بهاتفها.. فسحبه منها وهو يعيد سؤاله:
ـ في إيه؟.. إيه مشكلة عليا؟..
قصت عليه ما أخبرتها به صبا ومدت يدها تطلب هاتفها وهي تقول بتوتر:
ـ هات التليفون يا مازن لازم أكلم أونكل عصام.. أكيد عنده أخبار..
رمقها بنظرة غامضة قبل أن يقول:
ـ أنا اللي هكلمه..
مكالمة سريعة مع عصام.. بعدها ارتسمت معالم القلق على وجه مازن.. والتفت إلى نيرة التي كانت تسأله بلهفة:
ـ خير.. قال لك إيه؟..
رفع نظره إليها وظهرت عليه معالم التفكير العميق قبل أن يحسم أمره.. ويتصل بيزيد قاصاً عليه كل ما يعرفه وختم كلماته:
ـ أنا لسه قافل الخط مع والدك.. وبيتهيألي هو عارف حاجة.. بس مش عايز يقول..
أغلق الخط لينظر إلى نيرة التي كانت في شدة لهفتها.. وأخبرها بهدوء:
ـ يزيد هينزل على أول طيارة..
سألته بقلق:
ـ هو الموضوع خطير قوي كده؟..
أجاب بغموض:
ـ ربنا يستر.. أنا هروح لعمي عصام الشركة جايز أقدر أجيب أي معلومة منه..
خرج مازن متوجهاً إلى مجموعة الغمراوي في نفس اللحظة التي كان يهتف بها يزيد بأبيه على الهاتف:
ـ علياء فين يا بابا؟..
تلعثم عصام كان شديد الوضوح تلك المرة لأذنيّ يزيد وهو يقول:
ـ عليا.. إحنا هنرجع تاني للموضوع..
قاطعه يزيد بقوة:
ـ أنا عرفت كل حاجة..
هتف عصام بقلق:
ـ مين قالك؟.. هو عمها صالح كلمك؟..
أغمض يزيد عينيه بألم وهو يردد:
ـ أعمامها؟؟..
وقبل أن يرد عصام بأي كلمة كان يزيد قد أغلق الخط...
***************
كان حسن منهمكاً في إنهاء آخر بقعة من الجدار المواجه له.. بينما قرر باقي زملائه التجمع من أجل الراحة مع كوب من الشاي الأسود حتى يستطيعوا إنهاء العمل في موعده.. أخذ حسن يستمع إلى أحاديثهم الودية وبسمة هادئة ترتسم على شفتيه بينما يعتذر لهم بلطف عن مجالستهم لرغبته في إنهاء عمله والذهاب إلى منزله...
تقدم منه أحد زملائه وهو يبتسم بغموض.. مقدماً له لفافة سجائر غريبة الشكل:
ـ بنمسي يا بشمهندس..
التفت حسن إليه:
ـ متشكر يا أسطى سُمعة.. أنت عارف ما بدخنش..
وكزه سُمعة بمرفقه وهو يقول:
ـ وده دخان برضوه.. دي حاجة هتريحك وتروق مزاجك..
ابتسم حسن معتذراً مرة ثانية.. بينما ظل سُمعة على إلحاحه محاولاً اقناع حسن:
ـ صدقني يا هندسة.. دي اللي هتخليك تتحمل الوقفة على كعوبك طول النهار.. وهتنسيك ريحة التنر والزيت.. هتروقك وتعلي مزاجك..
وقبل أن يجبه حسن سمعا الاثنان صوت المعلم محمود.. المقاول المسئول عن تشطيب البرج السكني الذي يعملان به وهو يرحب بشخص ما بصوت خاضع:
ـ يا ألف مليون أهلاً وسهلاً.. نورتِ الدنيا كلها يا ابتسام هانم..
والتفت إلى أحد العمال:
ـ كرسي بسرعة للهانم...
جاء صوت الهانم مشمئزاً وهي تقول:
ـ ما فيش داعي يا معلم محمود.. أنا جاية أشوف إيه آخر أخبار الشقة..
ودارت بعينيها في أنحاء الشقة حتى توقفت نظراتها على حسن.. الذي توقف عن عمله وكتف ذراعيه ليتأمل المتطفلة المدللة بشعرها الأشقر المصبوغ وزرقة عيونها المزيفة.. لم تكن تضع الكثير من الزينة إلا أن طريقتها وملابسها القصيرة جداً _والتي رسمت خريطة جسدها واضحة لتلتهمها نظرات الرجال الشرهة_ ذكرته نوعاً ما بنيرة.. مما تسبب بنفور وامتعاض فوري بداخله, ولكنه حاول جاهداً السيطرة عليه وبينما هو يحاول السيطرة على رد فعله الرافض لتلك المرأة وجدها تحدق به بطريقة فجة..
كانت نظراتها تنطق بأفكارها القذرة وهي تجري بها فوق قامته الطويلة وكتفيه العريضين.. وكأنها تعريه من ملابسه لتتخيل ما تخفي تلك الملابس تحتها من جسد رياضي ممشوق وعضلات منحوتة..
أخرجت لسانها لترطب به شفتيها وكأنها تستمتع بمذاق قبلاته التي يصورها لها خيالها الجامح.. وبدا توهج وجهها دليلاً قوياً لشعورها بالإثارة.. تأملته للحظات.. وهي تفكر.. قد يكون عامل نقاشة ولكنه وسيم ومثير حقاً وهي تريده.. وطالما تعودت على نيل ما تبغى..
توجهت نحوه وعيناها تنهل من وسامته البارزة وسط عمال النقاشة وزاد في بروزها التي-شيرت الأسود الذي كان يرتديه.. وقفت أمامه مباشرة لتسأله:
ـ أول مرة أشوفك هنا.. يا...
أكمل لها المعلم محمود بسرعة:
ـ ده البشمهندس حسن.. بيشتغل معانا جديد.. هو مهندس صحيح.. بس نقاش ممتاز.. أحسن واحد عندي.. بس ده تربية عز وحياتك يا هانم..
ابتسمت وهي تقترب أكثر وتمد يدها لتمسك كتف حسن وتتحسسه بوقاحة:
ـ عندك حق يا معلم محمود.. شكله ابن عز فعلاً..
ثم التفتت لحسن:
ـ أنت اللي هتبقى مسئول قدامي عن تشطيب الشقة دي بالذات.. صحيح البرج كله بتاع دادي.. لكن الشقة دي هتكون بتاعتي.. وعايزاك تشطبها على ذوقك..
تراجع حسن خطوتين حتى يبتعد عن مرمى يدها وهو يخبرها بهدوء:
ـ الأفضل يا فندم أنك تحددي طلباتك بالظبط.. والمعلم محمود هو ريسنا كلنا.. وهنفذ طلباتك بالحرف..
أطلقت ضحكة عالية وهي تكرر كلمته:
ـ طلباتي!!..
ثم غمزت بعينها وهي تهمس له بدون خجل:
ـ لون عيونك!..
تعالت ضحكات العمال.. بينما اتسعت ابتسامتها:
ـ عايزة ألوان الديكورات تكون لون عيونك..
وعادت تطلق ضحكاتها العالية وهي تتلمس ذقنه بشغف.. وتتحرك لتخرج من الشقة وهي تلوح له بأصابع ذات أظافر مطلية بعناية:
ـ تشاو.. يا بشمهندس.. هعدي عليك بكره.. عشان نتفق...
وغمزت بعينها:
ـ على تنفيذ طلباتي..
خرج المعلم محمود خلفها مباشرة.. بينما وقف حسن يتأمل المكان الذي اختفت فيه تلك الوقحة بذهول... وشعر بوكزة سُمعة وهو يخبره بعبث:
ـ يظهر أنك دخلت مزاجها قووي.. صحيح هي وشها مكشوف.. لكن أول مرة تكون بالصراحة دي..
ـ صراحة!.. قصدك بجاحة..
ضحك سمعة:
ـ يا عم ما تبقاش مقفل.. هو أنت بنت بنوت هتخاف على نفسك..
ـ أنت بتقول إيه!.. أنت ناسي إني متجوز..
ـ وماله.. أنت شوفتها طلبتك للجواز.. أنت فاهم غرضها كويس.. و..
قاطعه حسن بغيظ:
ـ قفل على الموضوع ده يا أسطى سُمعة.. أنا مش بحب الطريقة دي في الهزار..
والتفت ليكمل عمله.. وأفكاره تتشتت فيما حدث للتو.. لقد التقى بآكلة رجال.. وهي أوضحت بدون خجل.. أنها ترغب به.. كوجبتها التالية...
*********
لفت علياء نفسها بذراعيها وهي تجلس مرتجفة بجوار يزيد وهو ينطلق بالسيارة بسرعة مخيفة.. وكأنه يريد الابتعاد بها عن قسوة الذكريات التي عاشتها في ذلك المكان.. كان يرمقها بقلق.. ويعود للتركيز على الطريق.. ثم ما يلبث أن يعاود النظر إليها مرة أخرى... وهي ترتجف بلا توقف ودموعها تغسل وجهها.. شفتيها تتحركان بكلمات هامسة.. يكاد يجزم إنها مناجاة لوالدتها..
يريد أن يضمها إلى صدره.. يجمعها بين أحضانه.. يمنحها دفء وأمان يعلم أنها تحتاجه.. ولكنها ترفض أي لمسة أو تقرب منه.. يتقوس جسدها في رد فعل رافض لاقترابه منها فيضطر للابتعاد عنها حتى لا يتسبب لها في مزيد من الأذى والألم..
عاد يتأملها.. جسدها الصغير المكدوم بقسوة وقد التف بثوب كالكفن الأبيض والمسمى.. ثوب زفاف.. وجهها الذي لم يفقد فتنته وبراءته برغم الجروح والكدمات المنتشرة به... يا إلهي.. ماذا فعلوا بها؟.. هل نزعت الرحمة من قلوبهم؟.. ألا يرون كم هي ضعيفة ومكسورة.. ضرب على مقود السيارة بعنف.. وهو يلقب نفسه بأبشع الأسماء ويتهمها بأقسى التهم.. لقد تركها.. تركها وابتعد وظن أنه بذلك ينظم حياتهما معاً.. ولكنه كان غبياً ولم يعمل حساب لتدخل أعمامها... ليته يعلم فقط كيف وصلوا إليها.. ومن أخبرهم تلك الترهات عن تورط علياء بوالده..
لا يتذكر بالضبط تفاصيل وصوله إلى بلدتها.. فهو بمجرد أن أغلق الهاتف مع والده.. لم يشعر بنفسه إلا وهو بمطار القاهرة.. ليجد مازن أمامه ومعه نيرة التي كانت ترمقه بنظرات نارية.. ومازن يهمس له أنه أعد كل شيء كما اتفقا.. وأرسل بالفعل عدة سيارات محملة بالرجال إلى بلدة أعمامها وهم الآن على أعتاب البلدة في انتظار وصول يزيد, ومتأهبون للتدخل عند إشارة منه..
رمقه يزيد بضياع ليهتف مازن متعجباً:
ـ في إيه يا يزيد.. مش أنت اللي كلمتني قبل ما تطلع الطيارة ورتبت معايا اللي هنعمله..
قاطعه يزيد بتوتر مرتعب:
ـ تفتكر.. أنهم.. ممكن.. ممكن.. يأذوها؟.. يمو..
قاطعه مازن وهو يمد يده بمفتاح سيارة:
ـ ركز يا يزيد.. هما مش أغبيا... وواضح هدفهم إيه.. هما عايزين الأرض.. ارميها لهم وخد مراتك..
ظل مازن ماداً يده بالمفاتيح ويزيد يتخبط في هواجسه المرعبة فدفع المفاتيح في يده:
ـ دي مفاتيح عربيتي.. اطلع بيها وأنا ونيرة وراك.. والرجالة سبقونا زي ما قلت لك..
انطلق يزيد بالسيارة متجاهلاً مكالمات والده التي لم تنقطع.. وكذلك رسائل ريناد.. لقد أرسل لها رسالة واحدة بمجرد وصوله الى القاهرة يخبرها فيها بسفره المفاجئ.. وأعقبها برسالة لوالده يعلمه فيها بتوجه الى بلدة علياء..
وقبل أن يدخل القرية بمسافة معقولة فوجئ بوجود والده الذي قرر الذهاب مع ابنه ومساعدته.. ووضح ليزيد الصورة كاملة... فازداد غضبه على نفسه لأنه وافقها في عدم إقامة حفل زفاف, ولكنه حمد ربه أنه يحمل عقد الزواج معه..
أصر بشدة على مقابلة أعمامها بمفرده.. عارض والده كثيراً.. ولكن يزيد كان في حالة من الغضب والإصرار لم تسمح لأحد بمعارضته حتى أنه رفض اصطحاب مازن معه وأخبره باقتضاب:
ـ خليك مع الرجالة ولو لقيت الوضع معقد هكلمك تجيبهم وتيجي..
استقبله أعمامها بعداوة وبغض واضح.. ولكنه لم يهتم.. يفهمهم جيداً ويدرك ما يريدون.. وسيمنحه لهم.. فقط يريدها هي.. لذا قرر اتخاذ المبادرة وهاجم عمها صالح بغضب:
ـ فين مراتي؟....
سخر منه الرجل بلامبالاة وهو يتحصن بعدد من الرجال خلفه:
ـ مرتك!.. مرتك كيف وبأمر مين؟..
تحرك ليواجه عمها بحسم:
ـ مراتي بقسيمة الجواز دي..
ومد له صورة ضوئية لعقد زواجه من علياء..
سكت صالح لفترة وهو يتطلع إلى عقد الزواج:
ـ بس الكلام اللي وصلنا غير كده..
ـ اللي وصلك إشاعات قذرة..
ـ مش أوشاعات.. اللي بلغني حد موثوج فيه..
أجابه يزيد وهو لا يعلم كم أصاب بكلماته:
ـ اللي بلغك بيدور على الدم.. وبلاش تنولهاله.. أنت عايز أرضك.. وأنا عايز مراتي.. يبقى متفقين..
سكت لحظة ونظراته تتركز على مجموعة الرجال.. ثم قال لصالح بتأكيد:
ـ أعتقد أنك أتأكدت إنها مراتي.. نقعد بقى ونتفاهم.. أنا مش عايز غير مراتي.. وتحت أمركم في كل طلباتكم..
ـ وإحنا هنتفاهم معاك أنت ليه؟.. فين بوك؟..
ـ الكلام معايا أنا.. أنا جوزها وأي مسائل قانونية هحلها بس تروح معايا الليلة..
وبالفعل.. تمت المفاوضات _كما أطلق عليها سراً_ معه هو.. حيث بدا اهتمامهم جلياً بالأراضي التي تخص علياء.. وقدمها لهم يزيد بدون نقاش.. واعداً نفسه أن يعوضها عنها بمجرد أن تبلغ الحادية والعشرين..
ثم بدأت طلباتهم تتزايد.. فأرادوا.. مهر.. شبكة.. مؤخر.. باختصار بدا أنهم يريدون كسب كل ما يمكن من وراء إتمام تلك الزيجة.. ووافق بدون معارضة فهو لم يكن يعلم أن موافقة أعمامها ما هي إلا خضوع لنساء الأسرة اللاتي قررن التخلص من وجود علياء بأي طريقة.. فهي تمتلك من الجمال والفتنة ما جعل كل واحدة منهن تخشى على رجلها أو أبنائها منها.. وخاصة بعد الخبر الذي زفته إليهن أم عواد.. فقد حسمن الأمر.. بضرورة إبعادها فلن يحمل أي من أبنائهن حِمل الفتاة.. وعارها..
وافق على كل طلباتهم بدون نقاش.. حتى حفل الزفاف التقليدي الذي أرادوه.. ولكنه اشترط أن يراها ويخبرها بنفسه.. ولم يعترضوا.. فهم حصلوا على ما أرادوه من خلفها ولم يعد يهمهم إلا إنهاء الموضوع بما يليق..
أصرت عمتها على مرافقته ومعهما عمها الأصغر مهدي فاصطحباه إلى غرفتها والتي ما إن دلف إليها ورآها حتى تجمد في مكانه.. لا يصدق أن فراشته الرقيقة هي تلك الكتلة الضئيلة والتي ترتدي السواد بداية من وشاحها الأسود الكبير إلى جلباب واسع يكاد يخفيها تماماً.. لولا لونه القاتم الذي ناقض بشرتها الشاحبة ما ميز وجودها داخله..
أجبر قدميه على التحرك خطوات بطيئة أولاً.. ثم ما لبث أن أسرع لاهثاً نحوها.. ركع على ركبتيه أمام الفراش الذي تكومت فوقه.. ليكتشف مع اقترابه كم الجروح والكدمات التي تملأ وجهها.. تكورت قبضتيه بعنف وهو يحاول منع نفسه من الذهاب إليهم لينتقم لها من كل خدش, لكنه يعلم أن خروجه بها من ذلك المكان يعتمد على تحكمه في غضبه وثورته..
مسح بيده على وجهها وناداها برفق:
ـ علياء..
لم تصدق علياء نفسها وهي تسمع همسته.. ظنت أنها تحلم بوجوده لينقذها.. ولكن رائحة عطره التي تحفظها جيداً كانت واضحة جداً.. حقيقية جداً بالنسبة لحلم..
عاد يهمس بخوف:
ـ علياء..
حركة بسيطة من أجفانها المغلقة أنبأته أنها تسمعه.. فعاود النداء:
ـ علياء ردي عليّ..
حركة ضئيلة أخرى من أجفانها ولكنها مصرة على عدم فتح عينيها.. تحرك ليجلس بجوارها في الفراش ورفعها من رقدتها ليضعها على صدره.. ويزيح بيده الوشاح من فوق رأسها.. لحظتها اتسعت عيناه بألم وهو يرى شعرها الجميل وقد اختفى بعد أن تم قصه بطريقة بدائية وهمجية..
شعرت علياء بيده تزيح الوشاح من فوق رأسها فارتعش جسدها وهي تتخيل نظراته عندما يرى شعرها الطويل وقد اختفى.. لم يبقَ منه إلا خصلات قصيرة مقصوصة بهمجية وعشوائية.. شعرت بأنفاسه تتسارع غضباً.. فشهقت بضعف..
وصلته شهقتها الضعيفة فأخفض بصره ليلتقي بزرقة عينيها وقد غشيتها نظرات الوحدة والخوف.. الألم والرعب.. وعتااااب وولوم بلا نهاية ممتزج بنداء استغاثة جعلها تغلق أجفانها عليه وكأنها لا تصدق أنه أتى بالفعل من أجلها..
خلل أصابعه في خصلاتها المشعثة.. فعادت تفتح عينيها لتواجه نظراته وعندها لم تستطع التحمل فانفجرت في نوبة بكاء دمرت تماسكه الهش من البداية فضمها لصدره بقوة هامساً:
ـ هششششش... هنبعد عن هنا في أسرع وقت..
لم تجبه بشيء واستمرت في البكاء.. بينما أصابعه تتحسس جروح وجهها العديدة.. وهنا تعالى صوت عمتها:
ـ اتحشمي أنتِ ورجلك..
التفت يزيد نحوها وقال بقسوة وحزم مخاطباً مهدي:
ـ من فضلك.. عايز أكلمها على انفراد..
ابتسمت السيدة باستخفاف تقريباً قائلة:
ـ جول اللي أنت عايزه.. وحد مانعك!
بنبرة باردة كالصقيع أجاب يزيد:
ـ عايز أكلم مراتي لوحدها..
رأى مهدي يهمس لها بشيء ما وعلى إثره خرجت عمتها بغضب وتركت الباب مفتوح.. ذكره موقفها بنيرة في ذلك الصباح بالمزرعة ولكنه لم يبتعد ليغلق الباب تلك المرة بل أعاد نظراته لعلياء التي عاودت إغلاق عينيها فقبلهما برقة وهو يهمس:
ـ سامحيني.. والله ما كنت أعرف.. والله ما كنت أعرف..
ظل جفناها مغلقين ودموعها تجري على وجنتيها الجريحة فقرب شفتيه يمسح بهما دموعها:
ـ افتحي عينيكِ يا علياء.. شوفيني..
ضغطت على جفونها بشدة وكأنها ترفض طلبه.. بينما ازداد انهمار دموعها.. فركن جبهته فوق جبهتها بتعب وهو يهمس:
ـ مش عايزة تفتحي عيونك ولا تكلميني كمان.. عندك حق.. بس يا ريت تسمعيني عشان نخرج من هنا بسرعة..
زادت دموعها.. وارتفع صوت شهقاتها قليلاً.. إلا أنها أصرت على عدم الرد عليه أو حتى فتح عينيها.. فعاد يهمس:
ـ علياء.. أنا عارف تفكيرك من ناحية الفرح والفستان والكلام ده.. بس دي الخطوة اللي باقية عشان أخدك من هنا.. أنا اتفاهمت معاهم على كل حاجة.. باقي بس موضوع الفرح ده.. ساعتين استحمليهم ونمشي أرجوكِ..
هزت رأسها بعنف فتطايرت خصلاتها المشعثة القصيرة لتغطي عينيها المستمرة بالبكاء.. ولكنه أمسك وجهها بين كفيه وهو يوقف حركتها الرافضة.. ويطبع قبلة طويلة على شفتيها.. لم تستجب لها فهمس أمام شفتيها وأصابعه تنغرز بين خصلاتها:
ـ عاقبيني زي ما أنتِ عايزة.. أما نكون في بيتنا.. بس اسمعي الكلام وجاريهم في موضوع الفرح..
ظلت تحرك رأسها برفض بينما استمر هو في همسه لها حتى هدأت بين ذراعيه وخضعت مضطرة لمراسم زفافها الصوري.. ارتدت ذلك الثوب الأبيض البغيض الذي لف جسدها كالكفن.. بينما غطت وجهها المكدوم بطرحة بيضاء شفافة.. وها هو ينظر إليها الآن وهي بجواره في سيارة مازن.. وقد قاربا على الوصول إلى شقتهما.. ولكنها مازالت ترفض التواصل معه بكل الطرق.. فحتى نظراتها تهرب بها منه.. عاد بعينيه إلى الطريق الذي لم يشعر بطوله فقد شغلته مراقبة علياء طوال الوقت.. التفت لينظر إليها مرة أخرى ولكنه فوجئ بوجهها وقد احتقن بشدة وهي تضغط على شفتيها بقوة وكأنها تحاول منع آه ألم.. أفلتت منها برغم ذلك وهي تهمس:
ـ بنزف يا يزيد.. دم.. بنزف..
************
ظل يزيد يجوب أروقة المشفى كأسد حبيس فهو منذ سمع منها كلمة "بنزف".. فقد إدراكه بكل ما حوله ومن حوله.. ولم ينتبه إلا وهم بالمشفى بالفعل ومازن يتولى الأمور.. بينما تمسك بعلياء رافضاً الابتعاد عنها.. حتى هتفت به نيرة في حنق:
ـ أنا هدخل معاها.. أبعد أنت بس..
ظل يجوب الردهة أمام حجرة الكشف بالمشفى ومازن يحاول جاهداً تهدئته.. حتى خرجت الطبيبة إليهما تجاورها نيرة..
بدأت الطبيبة كلماتها موجهة حديثها لمازن فهي صديقة وزميلة دراسة قديمة له:
ـ الحمد لله.. النزيف كان بسيط وقدرنا نوقفه.. الجنين بخير دلوقتِ..
هتف يزيد بقوة مقاطعاً:
ـ جنين!!.. هي علياء حامل؟..
رمقته الطبيبة بنظرة نارية وتعاود الحديث إلى مازن:
ـ هي محتاجة راحة لفترة بسيطة.. بس أنا ملاحظة..
قاطعها يزيد مرة أخرى:
ـ كلميني أنا.. دي مراتي..
فقدت الطبيبة أعصابها وهي تصيح به:
ـ من فضلك يا أستاذ.. أنا بحاول أتحكم في أعصابي أني ما بلغش البوليس.. مع أنه واجب علي أني ابلغ.. أنا بس عاملة خاطر لمازن..
هتف يزيد بتعجب:
ـ تبلغي البوليس!.. ليه؟..
ثم خبط جبهته بكفه منتبهاً:
ـ عشان الجروح والكدمات!.. أنتِ فاهمة إني السبب؟.. لأ طبعاً.. اتكلم يا مازن..
تدخل مازن مخاطباً الطبيبة:
ـ فعلاً يا ولاء.. كلام يزيد صح.. الجروح والكدمات دي مجرد حادثة و..
قاطعته الطبيبة:
ـ وقص شعرها حادثة برضوه يا مازن.. بص.. أنا منتظرة إنها تفوق ووضعها يستقر.. وهفهم منها كل حاجة.. ولو جوزها سبب للي هي فيه ده.. صدقني مش هسكت.. و..
قاطعتها نيرة تلك المرة وهي تخاطبها بنبرة حانقة:
ـ ما هو قالك يزيد هو اللي جوزها.. إيه مش شايفة غير مازن ليه؟..
رمقها مازن بعجب فهو لأول مرة يستشعر الغيرة في نبرتها.. ولكنه قرر تجاهل ذلك مؤقتاً.. وعاود الحديث إلى ولاء.. حتى أقنعها أن تسمح ليزيد برؤية علياء..
وقف يزيد أمام فراش علياء يتأملها في قلق.. بينما جاءه صوت نيرة من خلفه:
ـ بتتفرج على ضحيتك.. مش حاسس بأي تأنيب ضمير؟.. ده لو في ضمير من البداية..
أجابها وعيناه معلقة بوجه علياء الشاحب:
ـ تقدري تروحي يا نيرة.. أنا هبات معاها في المستشفى.. أكيد أنتِ تعبانة ومحتاجة ترتاحي..
تحركت نيرة لتجلس على الأريكة المواجهة للفراش.. واضعة ساقاً فوق الأخرى.. وأخذت تعبث بأظافرها في ملل وهي تخبره:
ـ لا.. مش همشي.. أنا كمان عايزة أطمن عليها..
التفت ليرمقها للحظات ثم توجه نحو فراش علياء.. وخلع حذائه ليرتقي الفراش بجوار علياء النائمة بعمق.. فالتصق بظهرها وأزاح الوسادة ليستبدلها بذراعه ويريح رأسها فوقه ماراً بأنامله فوق ملامحها البريئة.. حاجبيها.. جفنيها المغلقين.. وجنتها المشبعة بالجروح والخدوش الصغيرة.. ومال بشفتيه لاثماً تلك الخدوش.. فأتاه صوت نيرة متبرماً:
ـ ما تحترم نفسك.. أنت مش واخد بالك إني موجودة..
رفع شفتيه عن وجنة علياء وهو يخبرها بغيظ:
ـ قلت لك روحي.. أنتِ اللي مصرة تقعدي..
ثم عاد ليلتفت لعلياء وأخرج من جيبه السلسلة ذات الدمعة الماسية الصغيرة والتي أصر على أخذها من أعمامها _بعدما سلبوها إياها_ وأعادها إلى عنقها مرة أخرى.. متلمساً إياها برقة.. وأنامله تتحسس عنقها وقد ظهر طوله الملفت ورشاقته..
سمع صوت الباب يغلق بعنف.. فابتسم بشقاوة.. وهو يغرق بشفتيه كلية في روعة عنقها ويهمس:
ـ ياه.. حماتي دي صعبة قوي.. كنت فاكرها مش هتتحرك..
عدل وضع علياء بين أحضانه وهو يهمس لها:
ـ أنا عارف أنك صاحية.. صحيتِ وقت ما لبستك السلسلة..
لم يصله منها أي رد.. فقط تنفسها السريع أوضح أنها مستيقظة بالفعل.. فعاد ليتذوق عنقها بمتعة.. وهو يضمها إليه أكثر.. ممسداً بطنها بكفه الكبير:
ـ ابننا هنا.. حافظتِ عليه بأمان.. أنتِ كنتِ عارفة, صح؟..
لم تجبه أيضاً.. وهو يمنحها كل العذر.. ولكنه غير قادر على الابتعاد عنها.. فقط يريد البقاء ملتصقاً بها هكذا.. معتصراً إياها لتبقى بين ذراعيه إلى الأبد:
ـ ليكي حق تزعلي.. خودي حقك مني وأنتِ في حضني.. ما تبعديش يا علياء.. أنا كنت هتجنن لما عرفت اللي حصل.. ومش هسكت إلا لما أعرف مين السبب.. وأجيب لك حقك منه..
هنا لم تستطع علياء كبت دموعها أكثر فسقطت بغزارة وهي تعلم أنه لن يستطيع فعل شيء إذا علم أنها والدته من سلمتها لأهلها وكانت تهدف لقتلها وليس إيذائها فقط.. ولكن ما أنقذها حقاً هو الطمع المتأصل في نفوسهم الشرهة..
شعرت بشفتيه تغزوان عنقها مرة أخرى.. وأسنانه تنغرز برقة في شحمة أذنها.. بينما ذراعه الحرة تحرر كتفها من رداء المشفى.. ليداعب برقة الخدوش المنتشرة على كتفيها وهو يهمس بحرقة:
ـ كلميني.. ردي عليّ بس.. احكي لي عملوا فيكي إيه.. صدقيني سكوتك بيعذبني.. ولو عايزة تعذبيني أكتر احكي لي.. قولي كل اللي جواكي..
شعر بجسدها ينتفض بين ذراعيه وهي تشهق ببكاء مكتوم ما لبث أن ارتفعت وتيرته وهي تضغط جفونها بشدة حتى لا تفتحها وتقابل نظراته الملهوفة عليها.. تخشى أن تضعف أمامه.. تخشى من قلبها الأحمق.. من جسدها الخائن الذي يعلن انتمائه له بلا خجل.. من عقلها الذي يغيب أمام همساته.. غبية هي.. غبية ومقهورة بحبها البائس..
أخذ مازن يرمق نيرة بغموض وهي جالسة إلى يمينه على مائدة الطعام تعبث بهاتفها كل خمس دقائق.. يتساءل بداخله عما يقلقها هكذا فهي تزم شفتيها بقوة.. وتعبث بخصلات شعرها بدون أن تدري.. وتتحرك يدها أحياناً فتمسك بعنقها للحظات ثم تعود إلى خصلاتها مرة أخرى..
كانت تبدو كتلك الليلة التي اصطحبها فيها لتناول العشاء مع جدته.. لم يظن للحظة أن نيرة تقلق مما قد يظنه الناس بها, إلا أنها بالفعل كانت قلقة من لقاء جدته وكأنها تراها للمرة الأولى.. وبالفعل خيم جو من التوتر الشديد على تصرفات نيرة وحتى جدته تتعامل معها بأسلوب متكلف لم يلحظه عليها من قبل, رغم أنها لم تعلم ما فعلته نيرة في حفل الزفاف, إلا أنها تعاملت برسمية مبالغ بها.. فكانت أمسية كارثية بجميع المقاييس خاصة وأن نفسيته لم تهدأ على الإطلاق بعد لقائه الحزين بشقيقه.. ورغم ذلك حاول احتواء التوتر المخيم على الأمسية حتى استهلك طاقته بالكامل في محاولة يائسة ليمر اللقاء بسلام.. واستغل أول فرصة سنحت له ليرحل مصطحباً زوجته معه..
وعند بوابة الفيلا الخارجية.. أنزل نيرة -طالباً منها ألا تنتظر عودته باكراً_.. وانطلق نحو.. دنيا...
أعاده تململ نيرة وهي تعبث بهاتفها إلى وجوده بمنزله.. على مائدة طعامه تجاوره عروسه.. عروس تبدو مشغولة للغاية بهاتفها..
فألقى بمعلقته فجأة هاتفاً:
ـ يعني مش قادرة تبعدي عن تليفونك ربع ساعة نتغدى فيهم..
رفعت نظراتها إليه لتسأله بلهفة:
ـ هو يزيد رجع مصر؟..
قطب حاجبيه بتساؤل:
ـ بتسألي ليه؟..
ـ بحاول أوصل لعليا بقى لي يومين.. ومش عارفة.. تليفونها مقفول على طول.. فقلت أكيد هو وصل ومشغولة معاه..
ردد مازن بتأكيد وهو يتذكر محادثته ليزيد في ليلة زفافه الكارثية.. ومحادثة أخرى بعد عودته من زيارة حسن:
ـ لا.. يزيد قدامه أربع أيام على ما يرجع..
تمتمت نيرة بعجب:
ـ غريبة!..
رمقها لوهلة وقبل أن يستفسر منها ارتفع رنين هاتفها لترفعه بلهفة ولكنها ما إن رأت اسم المتصل على الشاشة حتى أعادت الهاتف إلى المائدة وعلامات الامتعاض تعلو وجهها.. مما دفع مازن لسؤالها:
ـ ليه ما بترديش؟..
هزت كتفيها باستهانة:
ـ دي مش عليا.. دي صبا..
ـ صبا أختك؟..
مرت في عينيها نظرة نارية.. وأومأت برأسها موافقة.. بدون أن ترد على هاتفها.. حتى اختفى الرنين الذي ما لبث أن ارتفع مرة أخرى.. فقال مازن بلهجة آمرة:
ـ ردي على أختك يا نيرة..
أمسكت هاتفها بامتعاض.. تتمنى لو تخالف أمره, ولكنها حريصة على أن تحتوي غضبه منها.. وتحتفظ بالأوقات التي يتواجد بها معها هادئة قدر الإمكان.. علها تفهم ما الذي يريده منها بالتحديد... فتحت الخط وهي تقول بملل:
ـ خير يا صبا في حاجة؟..
جاءها صوت صبا متردداً وهي تسألها بدورها عن علياء المختفية منذ ليلة زفاف نيرة... مما جعل نيرة تتساءل بصوت نضحت منه الغيرة:
ـ وأنتِ بتسألي على عليا ليه؟..
ـ فريدة عايزاها.. موضوع بخصوص لوحات ورسم..
تشبعت أعماق نيرة بغيرة غاضبة.. وهي تستمع لكلمات صبا.. فهي لا يخفى عليها تعلق علياء بالرسم.. فهل ستسرقها فريدة منها كما سرقت والدها من قبل.. إلا أن أفكارها توقفت فجأة وكلمات صبا تتوالى:
ـ عليا مختفية يا نيرة.. مش موجودة في المزرعة ولا في أي حتة.. وبعد محاولات مع غفير المزرعة فريدة عرفت منه أن عليا ما رجعتش المزرعة من ليلة فرحك.. أنتِ تعرفي حاجة عنها؟...
ابتلعت نيرة ريقها بتوتر:
ـ استني.. ثواني كده فهميني..
كررت صبا نفس الكلمات على نيرة ببطء وتفسير أكبر وهي تحكي لها محاولة فريدة للوصول إلى علياء بكل الطرق.. حتى تيقنت أخيراً من اختفاء علياء..
أغلقت نيرة الهاتف مع صبا.. بعد أن وعدتها بإبلاغها بأي معلومة تصل إليها وتخص علياء..
سألها مازن على الفور:
ـ حصل إيه؟.. عليا فيها حاجة؟..
لم تجبه وأخذت تعبث بهاتفها.. فسحبه منها وهو يعيد سؤاله:
ـ في إيه؟.. إيه مشكلة عليا؟..
قصت عليه ما أخبرتها به صبا ومدت يدها تطلب هاتفها وهي تقول بتوتر:
ـ هات التليفون يا مازن لازم أكلم أونكل عصام.. أكيد عنده أخبار..
رمقها بنظرة غامضة قبل أن يقول:
ـ أنا اللي هكلمه..
مكالمة سريعة مع عصام.. بعدها ارتسمت معالم القلق على وجه مازن.. والتفت إلى نيرة التي كانت تسأله بلهفة:
ـ خير.. قال لك إيه؟..
رفع نظره إليها وظهرت عليه معالم التفكير العميق قبل أن يحسم أمره.. ويتصل بيزيد قاصاً عليه كل ما يعرفه وختم كلماته:
ـ أنا لسه قافل الخط مع والدك.. وبيتهيألي هو عارف حاجة.. بس مش عايز يقول..
أغلق الخط لينظر إلى نيرة التي كانت في شدة لهفتها.. وأخبرها بهدوء:
ـ يزيد هينزل على أول طيارة..
سألته بقلق:
ـ هو الموضوع خطير قوي كده؟..
أجاب بغموض:
ـ ربنا يستر.. أنا هروح لعمي عصام الشركة جايز أقدر أجيب أي معلومة منه..
خرج مازن متوجهاً إلى مجموعة الغمراوي في نفس اللحظة التي كان يهتف بها يزيد بأبيه على الهاتف:
ـ علياء فين يا بابا؟..
تلعثم عصام كان شديد الوضوح تلك المرة لأذنيّ يزيد وهو يقول:
ـ عليا.. إحنا هنرجع تاني للموضوع..
قاطعه يزيد بقوة:
ـ أنا عرفت كل حاجة..
هتف عصام بقلق:
ـ مين قالك؟.. هو عمها صالح كلمك؟..
أغمض يزيد عينيه بألم وهو يردد:
ـ أعمامها؟؟..
وقبل أن يرد عصام بأي كلمة كان يزيد قد أغلق الخط...
***************
كان حسن منهمكاً في إنهاء آخر بقعة من الجدار المواجه له.. بينما قرر باقي زملائه التجمع من أجل الراحة مع كوب من الشاي الأسود حتى يستطيعوا إنهاء العمل في موعده.. أخذ حسن يستمع إلى أحاديثهم الودية وبسمة هادئة ترتسم على شفتيه بينما يعتذر لهم بلطف عن مجالستهم لرغبته في إنهاء عمله والذهاب إلى منزله...
تقدم منه أحد زملائه وهو يبتسم بغموض.. مقدماً له لفافة سجائر غريبة الشكل:
ـ بنمسي يا بشمهندس..
التفت حسن إليه:
ـ متشكر يا أسطى سُمعة.. أنت عارف ما بدخنش..
وكزه سُمعة بمرفقه وهو يقول:
ـ وده دخان برضوه.. دي حاجة هتريحك وتروق مزاجك..
ابتسم حسن معتذراً مرة ثانية.. بينما ظل سُمعة على إلحاحه محاولاً اقناع حسن:
ـ صدقني يا هندسة.. دي اللي هتخليك تتحمل الوقفة على كعوبك طول النهار.. وهتنسيك ريحة التنر والزيت.. هتروقك وتعلي مزاجك..
وقبل أن يجبه حسن سمعا الاثنان صوت المعلم محمود.. المقاول المسئول عن تشطيب البرج السكني الذي يعملان به وهو يرحب بشخص ما بصوت خاضع:
ـ يا ألف مليون أهلاً وسهلاً.. نورتِ الدنيا كلها يا ابتسام هانم..
والتفت إلى أحد العمال:
ـ كرسي بسرعة للهانم...
جاء صوت الهانم مشمئزاً وهي تقول:
ـ ما فيش داعي يا معلم محمود.. أنا جاية أشوف إيه آخر أخبار الشقة..
ودارت بعينيها في أنحاء الشقة حتى توقفت نظراتها على حسن.. الذي توقف عن عمله وكتف ذراعيه ليتأمل المتطفلة المدللة بشعرها الأشقر المصبوغ وزرقة عيونها المزيفة.. لم تكن تضع الكثير من الزينة إلا أن طريقتها وملابسها القصيرة جداً _والتي رسمت خريطة جسدها واضحة لتلتهمها نظرات الرجال الشرهة_ ذكرته نوعاً ما بنيرة.. مما تسبب بنفور وامتعاض فوري بداخله, ولكنه حاول جاهداً السيطرة عليه وبينما هو يحاول السيطرة على رد فعله الرافض لتلك المرأة وجدها تحدق به بطريقة فجة..
كانت نظراتها تنطق بأفكارها القذرة وهي تجري بها فوق قامته الطويلة وكتفيه العريضين.. وكأنها تعريه من ملابسه لتتخيل ما تخفي تلك الملابس تحتها من جسد رياضي ممشوق وعضلات منحوتة..
أخرجت لسانها لترطب به شفتيها وكأنها تستمتع بمذاق قبلاته التي يصورها لها خيالها الجامح.. وبدا توهج وجهها دليلاً قوياً لشعورها بالإثارة.. تأملته للحظات.. وهي تفكر.. قد يكون عامل نقاشة ولكنه وسيم ومثير حقاً وهي تريده.. وطالما تعودت على نيل ما تبغى..
توجهت نحوه وعيناها تنهل من وسامته البارزة وسط عمال النقاشة وزاد في بروزها التي-شيرت الأسود الذي كان يرتديه.. وقفت أمامه مباشرة لتسأله:
ـ أول مرة أشوفك هنا.. يا...
أكمل لها المعلم محمود بسرعة:
ـ ده البشمهندس حسن.. بيشتغل معانا جديد.. هو مهندس صحيح.. بس نقاش ممتاز.. أحسن واحد عندي.. بس ده تربية عز وحياتك يا هانم..
ابتسمت وهي تقترب أكثر وتمد يدها لتمسك كتف حسن وتتحسسه بوقاحة:
ـ عندك حق يا معلم محمود.. شكله ابن عز فعلاً..
ثم التفتت لحسن:
ـ أنت اللي هتبقى مسئول قدامي عن تشطيب الشقة دي بالذات.. صحيح البرج كله بتاع دادي.. لكن الشقة دي هتكون بتاعتي.. وعايزاك تشطبها على ذوقك..
تراجع حسن خطوتين حتى يبتعد عن مرمى يدها وهو يخبرها بهدوء:
ـ الأفضل يا فندم أنك تحددي طلباتك بالظبط.. والمعلم محمود هو ريسنا كلنا.. وهنفذ طلباتك بالحرف..
أطلقت ضحكة عالية وهي تكرر كلمته:
ـ طلباتي!!..
ثم غمزت بعينها وهي تهمس له بدون خجل:
ـ لون عيونك!..
تعالت ضحكات العمال.. بينما اتسعت ابتسامتها:
ـ عايزة ألوان الديكورات تكون لون عيونك..
وعادت تطلق ضحكاتها العالية وهي تتلمس ذقنه بشغف.. وتتحرك لتخرج من الشقة وهي تلوح له بأصابع ذات أظافر مطلية بعناية:
ـ تشاو.. يا بشمهندس.. هعدي عليك بكره.. عشان نتفق...
وغمزت بعينها:
ـ على تنفيذ طلباتي..
خرج المعلم محمود خلفها مباشرة.. بينما وقف حسن يتأمل المكان الذي اختفت فيه تلك الوقحة بذهول... وشعر بوكزة سُمعة وهو يخبره بعبث:
ـ يظهر أنك دخلت مزاجها قووي.. صحيح هي وشها مكشوف.. لكن أول مرة تكون بالصراحة دي..
ـ صراحة!.. قصدك بجاحة..
ضحك سمعة:
ـ يا عم ما تبقاش مقفل.. هو أنت بنت بنوت هتخاف على نفسك..
ـ أنت بتقول إيه!.. أنت ناسي إني متجوز..
ـ وماله.. أنت شوفتها طلبتك للجواز.. أنت فاهم غرضها كويس.. و..
قاطعه حسن بغيظ:
ـ قفل على الموضوع ده يا أسطى سُمعة.. أنا مش بحب الطريقة دي في الهزار..
والتفت ليكمل عمله.. وأفكاره تتشتت فيما حدث للتو.. لقد التقى بآكلة رجال.. وهي أوضحت بدون خجل.. أنها ترغب به.. كوجبتها التالية...
*********
لفت علياء نفسها بذراعيها وهي تجلس مرتجفة بجوار يزيد وهو ينطلق بالسيارة بسرعة مخيفة.. وكأنه يريد الابتعاد بها عن قسوة الذكريات التي عاشتها في ذلك المكان.. كان يرمقها بقلق.. ويعود للتركيز على الطريق.. ثم ما يلبث أن يعاود النظر إليها مرة أخرى... وهي ترتجف بلا توقف ودموعها تغسل وجهها.. شفتيها تتحركان بكلمات هامسة.. يكاد يجزم إنها مناجاة لوالدتها..
يريد أن يضمها إلى صدره.. يجمعها بين أحضانه.. يمنحها دفء وأمان يعلم أنها تحتاجه.. ولكنها ترفض أي لمسة أو تقرب منه.. يتقوس جسدها في رد فعل رافض لاقترابه منها فيضطر للابتعاد عنها حتى لا يتسبب لها في مزيد من الأذى والألم..
عاد يتأملها.. جسدها الصغير المكدوم بقسوة وقد التف بثوب كالكفن الأبيض والمسمى.. ثوب زفاف.. وجهها الذي لم يفقد فتنته وبراءته برغم الجروح والكدمات المنتشرة به... يا إلهي.. ماذا فعلوا بها؟.. هل نزعت الرحمة من قلوبهم؟.. ألا يرون كم هي ضعيفة ومكسورة.. ضرب على مقود السيارة بعنف.. وهو يلقب نفسه بأبشع الأسماء ويتهمها بأقسى التهم.. لقد تركها.. تركها وابتعد وظن أنه بذلك ينظم حياتهما معاً.. ولكنه كان غبياً ولم يعمل حساب لتدخل أعمامها... ليته يعلم فقط كيف وصلوا إليها.. ومن أخبرهم تلك الترهات عن تورط علياء بوالده..
لا يتذكر بالضبط تفاصيل وصوله إلى بلدتها.. فهو بمجرد أن أغلق الهاتف مع والده.. لم يشعر بنفسه إلا وهو بمطار القاهرة.. ليجد مازن أمامه ومعه نيرة التي كانت ترمقه بنظرات نارية.. ومازن يهمس له أنه أعد كل شيء كما اتفقا.. وأرسل بالفعل عدة سيارات محملة بالرجال إلى بلدة أعمامها وهم الآن على أعتاب البلدة في انتظار وصول يزيد, ومتأهبون للتدخل عند إشارة منه..
رمقه يزيد بضياع ليهتف مازن متعجباً:
ـ في إيه يا يزيد.. مش أنت اللي كلمتني قبل ما تطلع الطيارة ورتبت معايا اللي هنعمله..
قاطعه يزيد بتوتر مرتعب:
ـ تفتكر.. أنهم.. ممكن.. ممكن.. يأذوها؟.. يمو..
قاطعه مازن وهو يمد يده بمفتاح سيارة:
ـ ركز يا يزيد.. هما مش أغبيا... وواضح هدفهم إيه.. هما عايزين الأرض.. ارميها لهم وخد مراتك..
ظل مازن ماداً يده بالمفاتيح ويزيد يتخبط في هواجسه المرعبة فدفع المفاتيح في يده:
ـ دي مفاتيح عربيتي.. اطلع بيها وأنا ونيرة وراك.. والرجالة سبقونا زي ما قلت لك..
انطلق يزيد بالسيارة متجاهلاً مكالمات والده التي لم تنقطع.. وكذلك رسائل ريناد.. لقد أرسل لها رسالة واحدة بمجرد وصوله الى القاهرة يخبرها فيها بسفره المفاجئ.. وأعقبها برسالة لوالده يعلمه فيها بتوجه الى بلدة علياء..
وقبل أن يدخل القرية بمسافة معقولة فوجئ بوجود والده الذي قرر الذهاب مع ابنه ومساعدته.. ووضح ليزيد الصورة كاملة... فازداد غضبه على نفسه لأنه وافقها في عدم إقامة حفل زفاف, ولكنه حمد ربه أنه يحمل عقد الزواج معه..
أصر بشدة على مقابلة أعمامها بمفرده.. عارض والده كثيراً.. ولكن يزيد كان في حالة من الغضب والإصرار لم تسمح لأحد بمعارضته حتى أنه رفض اصطحاب مازن معه وأخبره باقتضاب:
ـ خليك مع الرجالة ولو لقيت الوضع معقد هكلمك تجيبهم وتيجي..
استقبله أعمامها بعداوة وبغض واضح.. ولكنه لم يهتم.. يفهمهم جيداً ويدرك ما يريدون.. وسيمنحه لهم.. فقط يريدها هي.. لذا قرر اتخاذ المبادرة وهاجم عمها صالح بغضب:
ـ فين مراتي؟....
سخر منه الرجل بلامبالاة وهو يتحصن بعدد من الرجال خلفه:
ـ مرتك!.. مرتك كيف وبأمر مين؟..
تحرك ليواجه عمها بحسم:
ـ مراتي بقسيمة الجواز دي..
ومد له صورة ضوئية لعقد زواجه من علياء..
سكت صالح لفترة وهو يتطلع إلى عقد الزواج:
ـ بس الكلام اللي وصلنا غير كده..
ـ اللي وصلك إشاعات قذرة..
ـ مش أوشاعات.. اللي بلغني حد موثوج فيه..
أجابه يزيد وهو لا يعلم كم أصاب بكلماته:
ـ اللي بلغك بيدور على الدم.. وبلاش تنولهاله.. أنت عايز أرضك.. وأنا عايز مراتي.. يبقى متفقين..
سكت لحظة ونظراته تتركز على مجموعة الرجال.. ثم قال لصالح بتأكيد:
ـ أعتقد أنك أتأكدت إنها مراتي.. نقعد بقى ونتفاهم.. أنا مش عايز غير مراتي.. وتحت أمركم في كل طلباتكم..
ـ وإحنا هنتفاهم معاك أنت ليه؟.. فين بوك؟..
ـ الكلام معايا أنا.. أنا جوزها وأي مسائل قانونية هحلها بس تروح معايا الليلة..
وبالفعل.. تمت المفاوضات _كما أطلق عليها سراً_ معه هو.. حيث بدا اهتمامهم جلياً بالأراضي التي تخص علياء.. وقدمها لهم يزيد بدون نقاش.. واعداً نفسه أن يعوضها عنها بمجرد أن تبلغ الحادية والعشرين..
ثم بدأت طلباتهم تتزايد.. فأرادوا.. مهر.. شبكة.. مؤخر.. باختصار بدا أنهم يريدون كسب كل ما يمكن من وراء إتمام تلك الزيجة.. ووافق بدون معارضة فهو لم يكن يعلم أن موافقة أعمامها ما هي إلا خضوع لنساء الأسرة اللاتي قررن التخلص من وجود علياء بأي طريقة.. فهي تمتلك من الجمال والفتنة ما جعل كل واحدة منهن تخشى على رجلها أو أبنائها منها.. وخاصة بعد الخبر الذي زفته إليهن أم عواد.. فقد حسمن الأمر.. بضرورة إبعادها فلن يحمل أي من أبنائهن حِمل الفتاة.. وعارها..
وافق على كل طلباتهم بدون نقاش.. حتى حفل الزفاف التقليدي الذي أرادوه.. ولكنه اشترط أن يراها ويخبرها بنفسه.. ولم يعترضوا.. فهم حصلوا على ما أرادوه من خلفها ولم يعد يهمهم إلا إنهاء الموضوع بما يليق..
أصرت عمتها على مرافقته ومعهما عمها الأصغر مهدي فاصطحباه إلى غرفتها والتي ما إن دلف إليها ورآها حتى تجمد في مكانه.. لا يصدق أن فراشته الرقيقة هي تلك الكتلة الضئيلة والتي ترتدي السواد بداية من وشاحها الأسود الكبير إلى جلباب واسع يكاد يخفيها تماماً.. لولا لونه القاتم الذي ناقض بشرتها الشاحبة ما ميز وجودها داخله..
أجبر قدميه على التحرك خطوات بطيئة أولاً.. ثم ما لبث أن أسرع لاهثاً نحوها.. ركع على ركبتيه أمام الفراش الذي تكومت فوقه.. ليكتشف مع اقترابه كم الجروح والكدمات التي تملأ وجهها.. تكورت قبضتيه بعنف وهو يحاول منع نفسه من الذهاب إليهم لينتقم لها من كل خدش, لكنه يعلم أن خروجه بها من ذلك المكان يعتمد على تحكمه في غضبه وثورته..
مسح بيده على وجهها وناداها برفق:
ـ علياء..
لم تصدق علياء نفسها وهي تسمع همسته.. ظنت أنها تحلم بوجوده لينقذها.. ولكن رائحة عطره التي تحفظها جيداً كانت واضحة جداً.. حقيقية جداً بالنسبة لحلم..
عاد يهمس بخوف:
ـ علياء..
حركة بسيطة من أجفانها المغلقة أنبأته أنها تسمعه.. فعاود النداء:
ـ علياء ردي عليّ..
حركة ضئيلة أخرى من أجفانها ولكنها مصرة على عدم فتح عينيها.. تحرك ليجلس بجوارها في الفراش ورفعها من رقدتها ليضعها على صدره.. ويزيح بيده الوشاح من فوق رأسها.. لحظتها اتسعت عيناه بألم وهو يرى شعرها الجميل وقد اختفى بعد أن تم قصه بطريقة بدائية وهمجية..
شعرت علياء بيده تزيح الوشاح من فوق رأسها فارتعش جسدها وهي تتخيل نظراته عندما يرى شعرها الطويل وقد اختفى.. لم يبقَ منه إلا خصلات قصيرة مقصوصة بهمجية وعشوائية.. شعرت بأنفاسه تتسارع غضباً.. فشهقت بضعف..
وصلته شهقتها الضعيفة فأخفض بصره ليلتقي بزرقة عينيها وقد غشيتها نظرات الوحدة والخوف.. الألم والرعب.. وعتااااب وولوم بلا نهاية ممتزج بنداء استغاثة جعلها تغلق أجفانها عليه وكأنها لا تصدق أنه أتى بالفعل من أجلها..
خلل أصابعه في خصلاتها المشعثة.. فعادت تفتح عينيها لتواجه نظراته وعندها لم تستطع التحمل فانفجرت في نوبة بكاء دمرت تماسكه الهش من البداية فضمها لصدره بقوة هامساً:
ـ هششششش... هنبعد عن هنا في أسرع وقت..
لم تجبه بشيء واستمرت في البكاء.. بينما أصابعه تتحسس جروح وجهها العديدة.. وهنا تعالى صوت عمتها:
ـ اتحشمي أنتِ ورجلك..
التفت يزيد نحوها وقال بقسوة وحزم مخاطباً مهدي:
ـ من فضلك.. عايز أكلمها على انفراد..
ابتسمت السيدة باستخفاف تقريباً قائلة:
ـ جول اللي أنت عايزه.. وحد مانعك!
بنبرة باردة كالصقيع أجاب يزيد:
ـ عايز أكلم مراتي لوحدها..
رأى مهدي يهمس لها بشيء ما وعلى إثره خرجت عمتها بغضب وتركت الباب مفتوح.. ذكره موقفها بنيرة في ذلك الصباح بالمزرعة ولكنه لم يبتعد ليغلق الباب تلك المرة بل أعاد نظراته لعلياء التي عاودت إغلاق عينيها فقبلهما برقة وهو يهمس:
ـ سامحيني.. والله ما كنت أعرف.. والله ما كنت أعرف..
ظل جفناها مغلقين ودموعها تجري على وجنتيها الجريحة فقرب شفتيه يمسح بهما دموعها:
ـ افتحي عينيكِ يا علياء.. شوفيني..
ضغطت على جفونها بشدة وكأنها ترفض طلبه.. بينما ازداد انهمار دموعها.. فركن جبهته فوق جبهتها بتعب وهو يهمس:
ـ مش عايزة تفتحي عيونك ولا تكلميني كمان.. عندك حق.. بس يا ريت تسمعيني عشان نخرج من هنا بسرعة..
زادت دموعها.. وارتفع صوت شهقاتها قليلاً.. إلا أنها أصرت على عدم الرد عليه أو حتى فتح عينيها.. فعاد يهمس:
ـ علياء.. أنا عارف تفكيرك من ناحية الفرح والفستان والكلام ده.. بس دي الخطوة اللي باقية عشان أخدك من هنا.. أنا اتفاهمت معاهم على كل حاجة.. باقي بس موضوع الفرح ده.. ساعتين استحمليهم ونمشي أرجوكِ..
هزت رأسها بعنف فتطايرت خصلاتها المشعثة القصيرة لتغطي عينيها المستمرة بالبكاء.. ولكنه أمسك وجهها بين كفيه وهو يوقف حركتها الرافضة.. ويطبع قبلة طويلة على شفتيها.. لم تستجب لها فهمس أمام شفتيها وأصابعه تنغرز بين خصلاتها:
ـ عاقبيني زي ما أنتِ عايزة.. أما نكون في بيتنا.. بس اسمعي الكلام وجاريهم في موضوع الفرح..
ظلت تحرك رأسها برفض بينما استمر هو في همسه لها حتى هدأت بين ذراعيه وخضعت مضطرة لمراسم زفافها الصوري.. ارتدت ذلك الثوب الأبيض البغيض الذي لف جسدها كالكفن.. بينما غطت وجهها المكدوم بطرحة بيضاء شفافة.. وها هو ينظر إليها الآن وهي بجواره في سيارة مازن.. وقد قاربا على الوصول إلى شقتهما.. ولكنها مازالت ترفض التواصل معه بكل الطرق.. فحتى نظراتها تهرب بها منه.. عاد بعينيه إلى الطريق الذي لم يشعر بطوله فقد شغلته مراقبة علياء طوال الوقت.. التفت لينظر إليها مرة أخرى ولكنه فوجئ بوجهها وقد احتقن بشدة وهي تضغط على شفتيها بقوة وكأنها تحاول منع آه ألم.. أفلتت منها برغم ذلك وهي تهمس:
ـ بنزف يا يزيد.. دم.. بنزف..
************
ظل يزيد يجوب أروقة المشفى كأسد حبيس فهو منذ سمع منها كلمة "بنزف".. فقد إدراكه بكل ما حوله ومن حوله.. ولم ينتبه إلا وهم بالمشفى بالفعل ومازن يتولى الأمور.. بينما تمسك بعلياء رافضاً الابتعاد عنها.. حتى هتفت به نيرة في حنق:
ـ أنا هدخل معاها.. أبعد أنت بس..
ظل يجوب الردهة أمام حجرة الكشف بالمشفى ومازن يحاول جاهداً تهدئته.. حتى خرجت الطبيبة إليهما تجاورها نيرة..
بدأت الطبيبة كلماتها موجهة حديثها لمازن فهي صديقة وزميلة دراسة قديمة له:
ـ الحمد لله.. النزيف كان بسيط وقدرنا نوقفه.. الجنين بخير دلوقتِ..
هتف يزيد بقوة مقاطعاً:
ـ جنين!!.. هي علياء حامل؟..
رمقته الطبيبة بنظرة نارية وتعاود الحديث إلى مازن:
ـ هي محتاجة راحة لفترة بسيطة.. بس أنا ملاحظة..
قاطعها يزيد مرة أخرى:
ـ كلميني أنا.. دي مراتي..
فقدت الطبيبة أعصابها وهي تصيح به:
ـ من فضلك يا أستاذ.. أنا بحاول أتحكم في أعصابي أني ما بلغش البوليس.. مع أنه واجب علي أني ابلغ.. أنا بس عاملة خاطر لمازن..
هتف يزيد بتعجب:
ـ تبلغي البوليس!.. ليه؟..
ثم خبط جبهته بكفه منتبهاً:
ـ عشان الجروح والكدمات!.. أنتِ فاهمة إني السبب؟.. لأ طبعاً.. اتكلم يا مازن..
تدخل مازن مخاطباً الطبيبة:
ـ فعلاً يا ولاء.. كلام يزيد صح.. الجروح والكدمات دي مجرد حادثة و..
قاطعته الطبيبة:
ـ وقص شعرها حادثة برضوه يا مازن.. بص.. أنا منتظرة إنها تفوق ووضعها يستقر.. وهفهم منها كل حاجة.. ولو جوزها سبب للي هي فيه ده.. صدقني مش هسكت.. و..
قاطعتها نيرة تلك المرة وهي تخاطبها بنبرة حانقة:
ـ ما هو قالك يزيد هو اللي جوزها.. إيه مش شايفة غير مازن ليه؟..
رمقها مازن بعجب فهو لأول مرة يستشعر الغيرة في نبرتها.. ولكنه قرر تجاهل ذلك مؤقتاً.. وعاود الحديث إلى ولاء.. حتى أقنعها أن تسمح ليزيد برؤية علياء..
وقف يزيد أمام فراش علياء يتأملها في قلق.. بينما جاءه صوت نيرة من خلفه:
ـ بتتفرج على ضحيتك.. مش حاسس بأي تأنيب ضمير؟.. ده لو في ضمير من البداية..
أجابها وعيناه معلقة بوجه علياء الشاحب:
ـ تقدري تروحي يا نيرة.. أنا هبات معاها في المستشفى.. أكيد أنتِ تعبانة ومحتاجة ترتاحي..
تحركت نيرة لتجلس على الأريكة المواجهة للفراش.. واضعة ساقاً فوق الأخرى.. وأخذت تعبث بأظافرها في ملل وهي تخبره:
ـ لا.. مش همشي.. أنا كمان عايزة أطمن عليها..
التفت ليرمقها للحظات ثم توجه نحو فراش علياء.. وخلع حذائه ليرتقي الفراش بجوار علياء النائمة بعمق.. فالتصق بظهرها وأزاح الوسادة ليستبدلها بذراعه ويريح رأسها فوقه ماراً بأنامله فوق ملامحها البريئة.. حاجبيها.. جفنيها المغلقين.. وجنتها المشبعة بالجروح والخدوش الصغيرة.. ومال بشفتيه لاثماً تلك الخدوش.. فأتاه صوت نيرة متبرماً:
ـ ما تحترم نفسك.. أنت مش واخد بالك إني موجودة..
رفع شفتيه عن وجنة علياء وهو يخبرها بغيظ:
ـ قلت لك روحي.. أنتِ اللي مصرة تقعدي..
ثم عاد ليلتفت لعلياء وأخرج من جيبه السلسلة ذات الدمعة الماسية الصغيرة والتي أصر على أخذها من أعمامها _بعدما سلبوها إياها_ وأعادها إلى عنقها مرة أخرى.. متلمساً إياها برقة.. وأنامله تتحسس عنقها وقد ظهر طوله الملفت ورشاقته..
سمع صوت الباب يغلق بعنف.. فابتسم بشقاوة.. وهو يغرق بشفتيه كلية في روعة عنقها ويهمس:
ـ ياه.. حماتي دي صعبة قوي.. كنت فاكرها مش هتتحرك..
عدل وضع علياء بين أحضانه وهو يهمس لها:
ـ أنا عارف أنك صاحية.. صحيتِ وقت ما لبستك السلسلة..
لم يصله منها أي رد.. فقط تنفسها السريع أوضح أنها مستيقظة بالفعل.. فعاد ليتذوق عنقها بمتعة.. وهو يضمها إليه أكثر.. ممسداً بطنها بكفه الكبير:
ـ ابننا هنا.. حافظتِ عليه بأمان.. أنتِ كنتِ عارفة, صح؟..
لم تجبه أيضاً.. وهو يمنحها كل العذر.. ولكنه غير قادر على الابتعاد عنها.. فقط يريد البقاء ملتصقاً بها هكذا.. معتصراً إياها لتبقى بين ذراعيه إلى الأبد:
ـ ليكي حق تزعلي.. خودي حقك مني وأنتِ في حضني.. ما تبعديش يا علياء.. أنا كنت هتجنن لما عرفت اللي حصل.. ومش هسكت إلا لما أعرف مين السبب.. وأجيب لك حقك منه..
هنا لم تستطع علياء كبت دموعها أكثر فسقطت بغزارة وهي تعلم أنه لن يستطيع فعل شيء إذا علم أنها والدته من سلمتها لأهلها وكانت تهدف لقتلها وليس إيذائها فقط.. ولكن ما أنقذها حقاً هو الطمع المتأصل في نفوسهم الشرهة..
شعرت بشفتيه تغزوان عنقها مرة أخرى.. وأسنانه تنغرز برقة في شحمة أذنها.. بينما ذراعه الحرة تحرر كتفها من رداء المشفى.. ليداعب برقة الخدوش المنتشرة على كتفيها وهو يهمس بحرقة:
ـ كلميني.. ردي عليّ بس.. احكي لي عملوا فيكي إيه.. صدقيني سكوتك بيعذبني.. ولو عايزة تعذبيني أكتر احكي لي.. قولي كل اللي جواكي..
شعر بجسدها ينتفض بين ذراعيه وهي تشهق ببكاء مكتوم ما لبث أن ارتفعت وتيرته وهي تضغط جفونها بشدة حتى لا تفتحها وتقابل نظراته الملهوفة عليها.. تخشى أن تضعف أمامه.. تخشى من قلبها الأحمق.. من جسدها الخائن الذي يعلن انتمائه له بلا خجل.. من عقلها الذي يغيب أمام همساته.. غبية هي.. غبية ومقهورة بحبها البائس..
