رواية مذاق العشق المر الفصل الثامن عشر 18 بقلم سارة المصري
لم ينطق زين بحرف واحد للحظات وهو يتأمل سمر ترتعد بين ذراعي أبيه وتتقن دورها الى الحد الذي تستحق عليه الأوسكار ...
لم يصدق أن سمر هادئة الطباع التي اعتبرها بمثابة أخت صغرى له يخرج من جعبتها كل هذا ...
أمسك محمود سمر من كتفيها وهو يدقق النظر في عينيها يحاول نفي الخاطر الذي لا يحتمل الموقف غيره بأي طريقة :
” ابني !!!...ابني مين وعملك ايه ؟؟“
نظرت الى زين وطالعت ذهوله الذي لم يثنها عن رسم الذعر على ملامحها لتندفع هاتفة :
” خدعني يا عمي وأنا صدقته ...فهمني انه بيحبني وانها مسألة وقت ونتجوز مكنتش اعرف انه غدار كدة وممكن يتخلى عني ”
تراجع محمود في صدمة ويديه ترتخي وترتعد على كتفيها ...
لايمكن ان يكون ولده هكذا ..
زين لا يفعلها مع أي انثى أيا كانت فكيف بابنة عمه ، ولكن سمر ايضا هادئة الطباع ومسالمة الى ابعد حد ولم تختلط بالعالم الا في حدود دراستها وعملها فكيف لعقلها أن يصوغ خطة كهذه ...أيهما يكذب !!!..
خرج زين عن ذهوله اخيرا وهو يتجه نحوها لتختبىء خلف عمها مسرعة قبل أن يفتك بها وهو يصيح :
” كل ده يطلع منك ؟؟“
ونظر الى أبيه في رجاء :
” أنت مصدق اني اعملها ..مصدق اني اتعدى على شرف بنت عمي ...انا سمعتها وهيا ...”
قاطعته صرخة ابيه وهو يقول بينما يشير بسبابته في تحذير :
” اخرس ...انا شوفتك بعيني كام مرة معاها ..شوفتها وهيا خارجة من اوضتك ”
واعطاه ظهره وهو يواصل فى مرارة:
” انت تعمل كدة ؟؟؟...انت يا زين ؟؟“ ...لو عاوزها كنت قول لزمته ايه اللى عملته ”
وقف زين ليواجه ابيه غير مصدق أنه قد أصبح الجاني في تلك القضية الملفقة :
” اديك جاوبت لو عاوزها كنت هقول ..انا يستحيل المس واحدة فى الحرام ما بال ببنت عمي ”
هنا لحقته سمر سريعا لتعيد الأمور الى نقطة البداية :
” هوا وعدني ان احنا هنتجوز بس بمجرد ما شاف صوفيا نسي كل حاجة ونسي كل وعوده وكلامه ليا ”
كاد زين ان يتحرك اليها ونظرات الشر تملأ عينيه الا ان ابيه جذبه من قميصه قبل ان يصل اليها هاتفا:
” كفاية ...اسبقني على المكتب بسرعة يلا ”
تنهد طويلا وهو يمسح جبينه الذي تعرق كأنه خرج لتوه من مباراة للمصارعة الحرة ..لم يطرؤ له في أسوأ كوابيسه موقفا كهذا ...
نظر الى ابيه فى الم ثم اليها فى اشمئزاز قبل ان يغادر ليلحق به ابيه بعدها بدقائق وما ان رآه زين حتى اندفع يقول فى مرارة ولوم :
” انت عارف اني معملهاش ..انت متأكد ....انا مش حيوان ولو حيوان اكيد مش هيبقى بنت عمي شرفي وعرضي ”
نظر له محمود فى تمعن قبل ان يسير فى اتجاه النافذة ليلتفت اليه فى بطء قائلا :
” عارف انك متعملهاش ”
زفر زين فى راحة وكأن أحمال الدنيا قد انزاحت من على كتفه ليعيد أبوه تحميله مثلها ألف مرة وهو يواصل :
” بس زى ما قولت هيا بنت عمك يعنى شرفك وعرضك وانت اولى انك تلمه ”
اتسع ثغر زين وتدلى فكه فى ذهول ...تحشرج صوته في حلقه للحظات قبل أن يجليه بصعوبة :
” قصدك ايه ؟؟“
ازدرد محمود ريقه ليردف في ثبات مزيف :
” قصدى انك هتتجوزها برضه يا زين ”
كاد أن يفقد توازنه ...ماهذا الجنون ...أتثبت براءته ويعاقب على ذنب ارتكبه غيره أيضا ..لقد أصيب أبوه هذا بلوثة عقلية مؤكدة مما فعلته ابنته وابنة أخيه امسك جبهته بسبابته وابهامه وهو يعتصرها بقوة محاولا ابعاد هذا الخاطر عن باله ومخاطبة أبيه بالعقل والمنطق للنهاية :
” اتجوزها ؟؟؟...اتجوزها ليه ؟؟؟..اللى اولى انه يتجوزها اللى غلطت معاه مش انا ”
هز محمود رأسه في قلة حيلة :
” للأسف الولد هرب وسابلها البلد كلها ومفيش حل تاني غير اللي قولتهولك ”
تمتم زين فى صدمة وهو يتهالك على أقرب مقعد :
” مستحيل ”
رد محمود فى عنف هذه المرة كأن أمر زواجه من ابنة عمه قد أصبح واقعا لاسبيل الى مناقشته من الأساس:
” هوا ده الحل الوحيد عايزني اعمل ايه يعني ..اخدها من ايدها لدكتور معندوش ضمير يعملها عملية ...“ وضغط بأسنانه على شفتيه فى الم مواصلا في لهجة أقرب الى الرجاء ..لهجة يعرف أنها ستكون أكثر تأثيرا بولده :
” عايز تكسر حسام اخوها من تاني بعد اللى اختك عملته فيه...حسام صاحبك وأخوك يا زين ”
هتف زين وكأنه يستنجد من تلك الأوزار التى يحملها اياه ابوه :
” انت بتشيلنى فوق طاقتى !! ..وبعدين انت بتناقض نفسك ؟؟ ..رفضت صوفيا عشان مجرد شكوك فى دماغك اتأكدت بنفسك انها غلط ...ودلوقتى بتجوزنى لواحدة انت عارف كويس انها سلمت نفسها لواحد تانى ”
التفت له ابوه يزجره فى حدة :
” الواحدة دى تبقى بنت عمك يعنى شرفنا وعرضنا ودى عيلة واحد ضحك عليها وغواها ..متنساش ان اختك نفسها كانت هتوقع نفسها فى نفس الغلطة لولا ...” وضيق عينيه مواصلا :
” ستر ربنا ”
أفلت زين ضحكة عصبية ساخرة قائلا :
” مش عاوز تقول انه لولا صوفيا اللى انت بهدلتها كان زمان بنتك لها نفس المصير ...وقتها بقا يا ترى حسام كان هيوافق يتجوزها مهما كان بيحبها ”
تنهد محمود وهو يجلس على مكتبه ...
وضع رأسه بين كفيه وأخذ يدلكها في ارهاق قبل أن يقرر أن ينهي النقاش تماما :
” اسمع يا زين احنا مش هندور ونلف حوالين الموضوع كتير ...بنت عمك هتتجوزها ولو عاوز تتجوز عليها بعد كدة عادى براحتك ...بس اهم حاجة نستر عرضنا ..ولو عاوز تتجوز صوفيا كمان عليها انت حر ”
ضحك زين هذه المرة في مرارة حتى أدمعت عيناه ..لم يهمه نظرات أبيه الساخطة عليه وهو يجيب على عرضه باستهزاء :
” صوفيا ؟؟...صوفيا اللى حسستني بعجزى قدامها وانا مش قادر احميها منك ..صوفيا اللى خلتنى احس انها اقوى منى مليون مرة ..صوفيا اللى انا كسرت قلبها وثقتها فيا ..تفتكر هقدر ابص فى وشها تانى ؟؟"
وأضاف وهو يمسح عينيه وينظر الى الأعلى:
" انت يا والدى العزيز اقنعتنى فعلا انى مستاهلهاش ”
نهض في بطء وواصل وهو يعطى اباه ظهره وبلهجة حملت من اليأس بقدر ماحملت من القهر والعجز :
” ولان بعدها مبقاش فيه حاجة مستاهلة فخلاص هتجوز سمر ..بس يكون فى علمك عمرها ما هتكون زوجه ليا ابدا ولا هيا ولا غيرها وزى ما قتلت صوفيا بايدى انا كمان هدفن نفسى بالحيا من بعدها وابقى اتفرج على ابنك وهوا بيموت كل يوم بالبطىء ...اتفرج على الزوجه اللى اخترتهالو ..الزوجه اللى اتبلت عليه وكدبت وغلطت وسلمت شرفها لاول واحد ضحك عليها بكلمتين.. بس عشان بنت اخوك لازم تفضل فى نظرك ونظر الكل صاحبة الصون والعفاف ”
نهض محمود في ضعف واقترب من ولده ليمسك بكتفيه ويديره له قائلا في فخر :
” زين اللى انت بتعمله ده رجولة مش ضعف ابدا ..انت بتستر على بنت عمك وبتلم عرضك يا بنى ..سمر وحسام دول امانة عمك الله يرحمه لما يسألنى عنهم بعد كدة اقوله ايه ”
تخلص زين برفق من قبضتى ابيه هامسا في ضياع :
” متقولش حاجة ...اللى انت عاوزه خلاص هنفذهولك وفى الوقت اللى تحدده ”
عاد من افكاره متسائلا هل فعل الصواب ؟؟؟ وان لم يكن فلما فعله ؟؟
هل سترا على ابنة عمه بالفعل ام ان شعوره بعجزه عن حماية صوفيا الذي رسخ فى نفسه انه لم يعد جديرا بها هو ما دفعه ؟؟..
هل اتخذ مما حدث ذريعة ليبعدها عنه ؟؟
هل كان بحاجة الى كل تلك القسوة حتى تنساه وتبتعد؟ هل حقا يحتمل هذا ؟؟
هل يريدها ان تنساه بينما ستظل هي فى ذاكرته وقلبه الى اخر عمره ؟؟
هل سيسعده ان تكمل حياتها مع اخر ؟؟
زفر فى قوة وهو يتهم نفسه بالأنانية فلا داعى ان يسحبها الى نار يحترقا فيها سويا ..
كفاه هو ان يحترق وحده
لقد اخذته الى جنتها وعاش فى نعيمها اجمل ايامه ، غرق فى سحر عينيها التى لايعرف كيف سيحيا من دونهما من الان فصاعدا ..
كانت بمثابة المخدر لكل الامه ..
السحر الشافى لكل اوجاعه ...
الترياق المضاد لكل سموم البشر وأحقادهم ..
مجرد نظرة منهما هى كل ما كان يحتاجه لينسى هموم كل هذا العالم ..
كيف يكون الحلم من بيديه واقعا ملموسا ليتلاشى هكذا وكأنه لم يكن ؟؟
*************************************
” مش هقدر يا يوسف ..صدقني مش هقدر ”
قالتها ايلينا فى حزن وهى تجلس على طرف الفراش فى تهالك
جلس يوسف الى جوارها وهو يمسح على ظهرها قائلا في رجاء :
” ايلينا ...ده فرح اخويا الوحيد ولازم تكونى موجودة ”
زفرت فى الم وهى تزمر شفتيها فى غيظ فزين قد خيب ظنها تماما بما فعله فهل بعد كل هذا الحب الذى توهمت انه يكنه لصوفيا يتخلى عنها هكذا :
” واخوك ده دمر صوفيا ولحد دلوقتى مش قادرة اصدق ان زين يطلع بالشكل ده ويلعب بقلوب الناس ومشاعرهم ”
رد يوسف بسرعة وهو يرفع كفه مدافعا عن اخيه:
“ لا طبعا مستحيل زين يكون كدة ..انا متأكد انه حبها بجد ..بس فيه حاجة غلط ..لما سألته قال ما اتفقناش ”
عضت ايلينا على شفتيها فى غيظ وهي تنهض في بطء: ” وصوفيا قالت برضه نفس الكلمة ..بس جوازه من سمر بالسرعة دى بيقول غير كدة ...ده كأنه متعمد انه يقتلها بالحيا ”
نهض يوسف وهو يضيق عينيه فى تفكير:
” سمر بالنسبالى هيا اللغز ...طول عمر زين بيعتبرها اخته فجأة كدة يفكر فيها كزوجه ”
وعاد الى ايلينا يعيد طلبه من جديد :
” ما علينا المهم دلوقتى تجهزى نفسك عشان هنتحرك على تمانية باليل ”
أشاحت بوجهها فى عدم رضا فاقترب يمسح على شعرها فى حنان قائلا :
” ايلينا انا عارف انه صعب عليكى بس وجودك مهم ”
مسحت وجهها بكفها في قلة حيلة :
” حاضر يا يوسف بس الاول عايزة اروح لصوفيا اطمن عليها وهكون جاهزة على الساعة تمانية ”
سمح لها بذلك وبعد ساعة كانت تفتح باب شقتها القديمة لتدلف الى حجرة النوم مباشرة...معتكف صوفيا في الايام الماضية ...
وجدتها هذه المرة أمام حقيبة كبيرة تضع فيها ملابسها بشكل عشوائى يفتقد لاي نظام اعتادته في ترتيب حاجياتها ..
سقطت منها بعض الاشياء على الأرض أثناء ما تفعله فلم تهتم لامرها وهى تواصل فى غضب مكبوت تحاول أن تخفي به انكسارها الواضح ...
شهقت ايلينا مما رأته واتجهت اليها لتمسك بكفيها قائلة :
” انتى بتعملى ايه يا صوفيا ؟؟”
نظرت لها صوفيا وتوقفت للحظات عما تفعله وأجابت فى هدوء حمل من الالم الكثير:
” زى ما انتى شايفة ”
ضغطت ايلينا على كفيها قائلة :
” انتى هتسافرى ...هتهربى يا صوفيا ؟؟”
افلتت صوفيا كفيها وواصلت وهى تتجه صوب الخزانه من جديد تعبث فى محتوياتها عن شىء لا تعرفه :
” ايوة هسافر ومش هرجع البلد دى تانى ابدا ...“ ونظرت الى ايلينا مردفة وهى تمرر يدها فى شعرها بعنف :
” ههرب يا ايلينا زى ما انتى ما بتقولى ..وانا حياتى عبارة عن ايه غير رحلة هروب ..انا اصلا جتلك هربانة من الوحدة ومن عمايل امى ..هرجع دلوقتى برضه هربانة ايه الجديد ؟”
تألمت ايلينا من لهجتها البائسة فضمتها اليها قائلة :
” مش اخر الدنيا ابدا يا صوفيا انك تحبى وتنجرحى ..مش اخر الدنيا ..ميستاهلش ابدا ”
ردت صوفيا باختناق وصوتها يجرح حلقها مع كل حرف :
” هوا مش اخر الدنيا ..هوا بالنسبالى الدنيا كلها ..هوا الوحيد اللى حسسنى بأهمية وجودى ..هوا الوحيد اللى مطردنيش من حياته ..هوا الوحيد اللى حب روحى قبل جسمى ...ايوة يا ايلينا حبني انا متأكدة ..مش معقول كل اللى بينا كان كدب .. ..لو عيني كدبت فروحي وقلبي واحساسي مكدبوش ..تعرفى انا فضلت موجودة لحد فرحه عشان كنت متخيلة انه مش هيقدر يعملها ..كنت متخيله انه هيجيلى فى اى لحظة ويقولى يلا نهرب من كل العالم ده ونعيش لبعض وبس ”
واضافت فى حرقة ودموعها تنهمر بغزارة :
” ازاي قلبه طاوعه يعملها ..ازاي يعمل كدة في نفسه وفيا “
واضافت وهى تتجه الى الخزانه لتضربها بقبضتها :
” بس عملها خلاص ..فمش هستحمل اكون معاه فى بلد واحدة ...مش هستحمل اكون قريبة منه وبفكر فيه ليل ونهار وهوا فى حضن واحدة تانية ...حاسة اني بتخنق وروحي بتروح مني... هموت يا ايلينا همووووت..ازاي هنت عليه ..ازاي ؟؟ ”
احتضنت ايلينا وجه صوفيا بين كفيها قائلة وهى تمسح دموعها بابهاميها :
” انا هبقى جنبك يا صوفيا ...عايزة تسافرى وتسيبنبى ”
ابتسمت صوفيا فى حزن وهي تهمس في ألم بلغ أقصاه :
” انا محدش جنبى ابدا ...انتى عندك جوزك واخوكى وحياتك ”
حاولت ايلينا ان تقول شىء لتدافع عن نفسها ولكن صوفيا بسطت كفها قائلة :
” انا مش بلومك ابدا ...انا اتعودت على كدة ...امى اتجوزت وخلفت وبقا ليها حياتها ونسيتنى ...وابويا اتجوز وخلف وبقا ليه حياته وسابنى هوا كمان ...تفتكرى هستنى من مين اهتمام لو اقرب الناس ليا رمونى ..انا حتى لو مت محدش هيحس بيا ”
جذبتها ايلينا الى احضانها هذه المرة لتشاركها البكاء :
” اوعى تقولى كدة ..انا اسفة صوفيا ..اسفة فى لحظة ان الاحساس ده يكون وصلك بس ارجوكى بلاش تسافرى ”
شهقت صوفيا وهى تتخلص من ذراعى ايلينا قائلة :
” خلاص ايلينا انا خدت قرارى ومش هرجع البلد دى تانى ..هرجع لحياتى اللى كنت عايشاها ..يمكن لما ارجع انسى كل حاجة ”
******************************************************
وقف زين فى غرفة مكتبه يضع يديه فى جيب سترته ينظر فى شرود الى الشارع من خلال النافذة التى احتلت جدارا بأكمله ...
يتساءل للمرة الألف هل ما فعله هو الصواب ويعود ليسخر من روحه ؟؟
هو يعرف انه ابعد مايكون عن الصواب ..
هو فقط يتخبط بين جدران حيرته وفشله وضلاله ، يشعر بالضعف ..
الطعنه التى تلقاها فى رجولته أصابته بالهشاشة ..
لم يكن يريد لمن وضعته فى منزلة الفرسان ان تراه على ضعفه وخذلانه ابدا ..
اراد ان يحتفظ بقوته للنهاية حتى لو كان قاسيا عليها ، ذاك ارحم من ان ترى قلة حيلته وعجزه ...
ماالذى عاقب نفسه به ؟؟
زواجه من سمر الذى سمح لابيه بكل بساطة ان يجبره عليه وهو يحاول ان يقنع نفسه انه فعلها بالرضا لينقذ اسم العائلة وشرفها وماهى الا مجرد ذريعة اتخذها ليبعد صوفيا عنه فلم يعد جديرا ابدا بتلك النظرة التى تحدقه بها دائما لتشعره بأن الكون يخلو من أي رجل سواه....
لقد فاقت طاقة تسامحها كل ما تصوره ...طاقة قوة لاتشعر هى بها رغم أنها تعرى له عجزه اكثر واكثر ، نعم سامحته هى على مالم يستطع ان يسامح نفسه عليه ..
تحبه ويعلم ولكن لكل منهما طريقته ومذهبه في العشق.
نظر الى ساعته يعلم انه تأخر ولكنه سيذهب فى النهاية ، بقى فى شركته وحيدا ليبتعد عن تلك الاجواء فى القصر ..
مبهجة لهم قاتلة له ...
امه أخذت تقبله فى سعادة حينما علمت بقراره وهى تظن ان دعواتها اخذت طريقها الى السماء بالسرعة التى تمنتها وتخلص ولدها من تلك ” الخواجاية ” ليتزوج ابنه عمه ابنة الاصول التى ربتها على يديها ، لم يعد قادرا على مسايرتهم فى هذه اللعبة فابتعد عن القصر قدر الامكان ولكن اليوم هو الزفاف ...اى زفاف ؟؟؟، زفافه على تلك المخادعة التى تدعى ابنة عمه ، تلك الكلمة التى ظل ابوه يرددها على مسامعه طيلة الفترة الماضية ليشعره ببطولة ما يقوم به ..
ابتسم فى مرارة وهو يتخيل صوفيا حوريته فى ثوب الزفاف
هل يمكن لأحد ان يصادر خياله ايضا ؟
يتخيل عينيها تلتمعا بابتسامة تزيد جنونه وهوسه .. يتخيل رقتها وهى تتهادى لتتأبط ذراعه ..
يتخيل خجلها وهى بين احضانه للمرة الاولى ..
تنهد فى قوة لو استغرق فى خياله اكثر فسيذهب الى الجحيم عوضا عن الذهاب الى سمر ..
ابتسم فى سخرية فسمر والجحيم فى اى شىء يختلفان ؟؟
لقد خرج من الجنه وذهبت حوريته للابد ولا بد انها الان تلعن الساعة التى رأته فيها وتنعته باشنع الصفات ..
كم مرة منع نفسه من الذهاب اليها والفرار بها وليذهب كل شىء بعد هذا الى الجحيم ، لما لم يكن القدر اكثر رحمة ليضمها مرة واحدة فقط قبل ان ....
شعر بأنامل رقيقة على كتفه فاستدار فى بطء هل تحول الحلم الى حقيقة بتلك السرعة ام انه لازال يعيش داخل هوس ما يتمناه؟؟
حوريته الجميلة الان تقف امامه لا يفصل بينهما شىء سوى الهواء الذى يتنفسانه سويا ويكاد هو ينفرد به من سرعة انفاسه وتلاحقها وهذا الذى ينبض بين ضلوعه كأنه يريد ان يخرج من صدره ليفر اليها راجيا اياه ان يتوقف عن جلده صارخا بحبها وعشقها وهو ينظر الى عينيها التى انطفىء بريقها من جرحه لها ووجهها الذى شحب من طيلة انتظارها له ، مدت يدها فى بطء وتلمست وجنته وهى تقول :
” انا هسافر يا زين ”
شعرت بانقباض عضلات وجهه تحت أناملها فأضافت لتؤكد ماشعرت به :
” ومش هرجع تانى ”
مد يده الى يدها التى تلامس وجنته وأزاحها فى رفق ومهما حاول تركها من كفه لا يقدر وكأنها مغناطيس يجذب قطعة معدن .. همس فى الم:
” ربنا يوفقك فى اللى جاى وتحققى اى حاجة تتمنيها و...“
لم يستطع ان ينطق بها ...مجرد تخيلها مع شخص اخر لا يقدر على استيعابه .. هى حوريته فقط ..جنتها حكرا عليه..
نعيمها وحده من بشره القدر به ..
واصلت الجملة عنه وهى تشعر بانفعاله الذى جعل يده ترتعد وهى تحتضن كفها :
” وايه ؟؟...يبعتلى انسان يحبنى غيرك تقدر تقولها يا زين ”
شعر ان انفاسه ستتوقف تماما من قربها هذا ..سيطرته على نفسه بدأت تتلاشى بل لم يعد لها وجود ، همس بصوت لا يعلم كيف خرج منه:
” صوفيا ”
اقتربت اكثر فكاد ان يتراجع خطوة للخلف فأمسكت بذراعه لتمنعه بينما تركت يدها الاخرى فى كفه وقالت وهى تتمعن فى ملامحه :
” قولى انك مش كدة يا زين ..قولى ان احساسى صح ...قولى ان فيه ظروف اضطرتك وانا حتى مش هسألك ايه الظروف دى ..“
واغلقت عينيها للحظة فتحتهما بعدها لتنهمر دموعها قائلة:
” بس متشوهش اجمل احساس حسيت بيه فى حياتى ...انا هسافر ومش هرجع تانى بس عاوزة اسمعها منك ”
قال وهو يشيح بوجهه للاتجاه الاخر مبتعدا بعينيه عنها يحاول ان يبحث عن تماسكه.. عن قوته ..عن قسوته.. عن اى شىء لا يجعله يصرح بالحقيقة ولكنه عجز سوى عن قول :
” صوفيا متصعيبهاش عليا ارجوكى ”
ادرات وجهه اليها ودمعة غافلته لتسقط رغما عنه فقالت وهى تمسحها باصبعها وتحتضن وجهه بين كفيها :
” قولها وميهمكش اى حاجة ...مش هطلب منك اى حاجة قصادها ...مش هطلب منك تشرح اى ظروف اضطرتك ”
كان يراقب كل شىء فيها ، عينيها ..انفاسها ..شفتيها يديها التى تحيط وجهه يريد ان يطبع كل ملمح فيها فى عقله ، لا يصدق انها ستذهب بلاعودة وان قرار اعدامه قد جاء موعد تنفيذه ، لم يعد لعقله اى وجود وهى تواصل فى حرقة :
” مش معقول كل اللى حسيت بيه معاك كان وهم ...كان خيال عايشة فيه لوحدى ...قول انك بتحبنى لسة يازين ..قول انك بت ...“
ولم يترك لها الفرصة لتكمل... لم يسعفه عقله ابدا وقد استنفذت مشاعره...
انحنى فجأة ليقبلها دون ان يدرى كيف ...
دون ان يفكر انه يخرج عن كل مبادئه واعرافه ...
دون ان يشعر ولو للحظة انه يرتكب اى ذنب ..
ان كان اعدامه قد حان فتلك هى الرغبة الاخيرة فى الحياة ...
الحياة التى بدأت فقط بنظرة واحدة من عينيها وقلب لم ولن يدق لسواها ..
قلبه الذى يخفق فى عنف وهو لا يتخيل انه على بعد لحظات من حرمانه منها للابد ..
كلما تخيل هذا الظن ضمها اليه اكثر وبثها كل مخاوفه وعشقه واجابها بسهولة عن كل ما دار فى عقلها من شكوك ...
تلاشى تماما فى لحظات كل ما علمها اياه وكل ما منع نفسه عن ارتكابه طيلة عمره وهو يمرر يده فى شعرها وينزع عنه حلية صغيرة وضعتها فيه ..
قبلها فى قلة حيلة ..فى اختناق... فى خوف ...فى حب جارف ...
اما هى فحصلت على اجابتها وتيقنت من انها لم تخدع ولو للحظة فى مشاعره تجاهها ..
شعرت بألمه ووجعه وضعفه ..
نسيت كل شىء حولها وذابت فى لحظة جنونه هذه حتى ابتعد بصعوبة عن شفتيها واسند جبينه الى جبينها وهو يلهث بشدة ويحيط خصرها بذراعيه فى تلقائية فقالت بانفاس متقطعة :
” انت لسة بتحبنى يا زين ”
اجابها وهو يغمض عينيه فى الم:
” وهيفيد بايه ”
وضمها اليه قائلا فى ضعف كم كره ان يظهر امامها :
” هيفيد بايه ومفيش حاجة هتتغير ..بعد دقايق فرحى ...مبقاش ينفع يا صوفيا ”
تشبثت به اكثر قائلة :
” انت بتتعذب يازين انا حاسة انك بتتعذب وانا مش هسألك اكتر من كدة بس كفاية عليا انك انت بتحبنى وبس ...ولو حبنا ده سببلك اى وجع فانا هبعد من غير حتى ما اعرف ليه ”
افلتها زين من بين ذراعيه قائلا :
” صوفيا انت حبك اجمل حاجة حصلت فى حياتى ..بس كل حاجة اقوى منى ...سامحينى يا صوفيا ..انا ”
وضعت اصبعها على شفتيه قائلة :
” انا هبعد بس مش هحتاج منك اكتر من وعد ..اوعدنى زين انك هتحاول ترجعلى وتصلح كل حاجة ”
ابعد اصبعها وهو ينظر الى عينيها فى الم كيف يعدها بما لا يمكنه ان يبر به:
” صعب ..صعب يا صوفيا ”
همست فى حب :
” بس مش مستحيل ...انا هستناك حتى لو عدت ...“ قاطعها بسرعة :
” يبقى بتظلمى نفسك وبتحكمى عليها تندفن معايا ”
اسندت رأسها على صدره قائلة:
” وانا مش هسيبك تموت لوحدك ..انا هفضل مستنياك وانت هتدور عليا وهتلاقينى.. مش هضغط عليك اكتر من كدة ..خلى حبك يقاوم كل حاجة وارجعلى ..مش عاوزة اكتر من وعدك ليا بده ..اوعدنى انك هتحاول ”
كانت تشعر بصدره يعلو ويهبط فى جنون تشعر بعذابه بالمه وتردده ..بصرخاته المكبوته التى يحبسها عن العالم وتسمعها هى بوضوح ، بحر مشاعره العميق تغوص هى فيه الان ...
ابتعدت عنه فى هدوء ونظرت اليه نظرة وداع اخيرة وقبل ان تلتفت لتذهب تنهد وهو يغمض عينيه لثوانى ، ستذهب بلا عودة ...
سترحل ولن تراها مجدد ..
اعطها واعط لروحك بعضا من الامل ..
اعطها ماتريد ربما كانت الايام اكثر رفقا بك وبها امسك بذراعها قبل ان تبتعد وضمها اليه من جديد لم يترك حتى للهواء فرصة ان يتسلل بينهما ، دفن رأسه بين خصيلات شعرها الاشقر وأخذ نفسا طويلا من رائحته وبلله بدموعه التى سالت رغما عنه ، وكلما تنفس كلما امتلأ صدره بعبقها اكثر غير مصدق انها لحظة الوداع ، مرر يده فى شعرها قائلا :
” اوعدك انك هتفضلى جوايا لاخر لحظة فى عمرى ..اوعدك انى هفضل احبك لاخر نفس فيا ”
قالت ويداها المرتعدتان تتركان ملابسه التى تشبثت بها:
” وانا مش عايزة اكتر من كدة ..طول ما حبى جواك هتحاول مرة واتنين وعشرة وانا هستناك حتى لو لعمر تانى ”
واضافت وهى تضع يدها على صدره:
” طول قلبك ده ما بيدق قلبى انا كمان هيفضل يدق معاه ...هفضل احبك طول عمرى ”
وتراجعت للخلف وهى ترسم ابتسامة تقاوم بها كل صرخاتها ونحيبها لتلتفت فجأة وتطلق العنان لكل دموعها ، ابتعدت بخطوات سريعة وهو عاد الى نافذته ليراها تسرع بخطوات تشبه الركض..
لن تلتفت ابدا له فان التفتت ستعود اليه دون شك ..
ان التفتت سيلحق بها ويلعن هذا العالم بكل مافيه.. سيسحق كل شىء تحت قدميه ..
ولكنه وعدها ان يعيد لها زين الذى احبته فهو الاجدر بها من هذا الضعيف الذى عجز عن حمايتها ..
تنهد بعمق والم وصرخت كل خلية من خلاياه وكل ذرة من كيانه وهى تختفي ..
وداعا صوفيا وداعا حوريتى الجميلة..
وداعا كل شيء...
3
