رواية مذاق العشق المر الفصل التاسع عشر 19 بقلم سارة المصري
انتهى حفل الزفاف الذى كان رائعا بمقاييس كل من دعي لحضوره الا صاحبه فلم يشعر سوى انهم يشيعونه لمثواه الاخير بعد أن صدر حكم الاعدام بحقه ورحلت صوفيا منذ ساعات ..
لم يتمكن حتى من رسم أي بسمة روتينية مجاملة على شفتيه ، كان يشيح بنظراته الى اي شىء غيرها ، يخشى ان رمقها بالنظرة التى تستحقها ولم يعد لديه لها سواها أن يلحظه احدهم فحتى الان لا يعرف شخص بالقصة شىء سوى محمود وهما ،اما باقى العائلة فتراه زواجا موفقا وسعيدا ، الا ايلينا التي تحولت نظراتها الساخطة عليه الى أخرى مشفقة ففى عينيه لاحظت ضياعه وحزنه وشتات أمره ...
لاحظت عدم شعوره بسمر تماما وكأنه يحملها ذنب ما حدث ...
أدركت بفطرتها أن هناك خطب ما وأنه مضطر لما يفعله ولكن الجزء الاكبر من شفقتها كان على صوفيا التى لاذنب لها فى دخولها لدوامته تلك ، وكما اشاح زين بوجهه عن سمر اشاح به ايضا عن ابيه ...
نعم ابيه الذى غير كثيرا من تفاصيل تلك الليلة التى طالما روادته فى احلامه وهي تجمعه مع حوريته التى نفاها بعيدا بعد ان اشعره ابوه بعجزه المطلق امامها ...
أشعره أنه لايستحق سوى بقايا أنثى كسمر ابنة عمه ، ليتها لم تكن هكذا ابدا ...
ليتها لم تكن شرفه وعرضه فلقد حمله أبوه مالا يطاق .
عاد الى جناحه فى القصر مع عروسه ..
لم يحتج زواجه بها سوى مجرد تعديلات بسيطة على جناحه الفخم من الأساس ..تركه لهم ليفعلو به ماشاءوا فقد ترك لهم حياته بأسرها من قبل ...
تولت سميرة تلك المهمة وأنهتها في وقت قياسي ...ألهتها سعادتها بابتعاد ابنها عن الشقراء عن حزنه وصمته واستسلامه ..ربما أدرك مؤخرا أنها لا تصلح زوجة له وأن ابنة عمه هي الاختيار المناسب ..سيتناسى مع الوقت ..بل سينسيه عشق سمر له هوسه بتلك "الخواجاية "...
جلست سمر على طرف الفراش بينما هو لم ينطق بحرف ...
خلع رباط عنقه والقى به فى عشوائية واتجه الى المرحاض بعد ان اخرج من الخزانة بعضا من ملابسه ، خرج بعد دقائق ليجدها لازالت على جلستها بثياب العرس ، ابتسم فى سخرية دون ان يعلق وهو يتجه الى ملحق صغير بجناحه لينام فيه ..
نهضت خلفه مسرعة وهى تمسك باطراف ثوبها قائلة في حذر :
” زين استنى ”
توقف دون ان يلتفت اليها فمنذ أن اتخذ أبيه قراره بشأنهما لم يتبادلا حرفا قط..
تقدمت خطوتين لتقف فى مواجهته :
” احنا لازم نتكلم ”
زفر فى ضيق فمجرد انفاسها فى المكان تزعجه :
” عايزة تقولى ايه ؟؟”
ازدردت ريقها بصعوبة وهى تنظر الى اصابعها تفركها فى شدة :
” انا عارفة انك متضايق من اللى حصل ومن الل...“
اوقفها بكفه في صرامة :
” بلاش تتكلمى فى اللى فات احسن عشان انا مش ضامن اعصابى ولا ضامن ممكن اتهور عليكى ازاى ”
واصلت وكأنها لم تسمعه :
” انا عارفة انى غلطت بس ده كله كان عشانك يا زين ..عشان حبيتك ”
ضحك فى سخرية وهو يضرب كفيه ببعضهما قائلا :
” هوا انتى مفهومك عن الحب ايه ..حبتينى ازاى وامتى ؟؟... وفرضا انك حبتينى ..ازاى تسلمى نفسك لحد وانتى بتحبى حد تانى وترجعى تكدبى وتخدعى الكل عشان تورطيه معاكى وتلبسيه فى جريمتك ..حب بأنهى منطق ”
صمتت للحظات ..أمسكت بثيابها ترفعها لتتقدم اليه خطوة اضافية هامسة بصوت مختنق :
” بمنطقي أنا !!!..حب مدقتش منه غير مراره وانت بترفض مشاعري مرة ورا التانية ..كنت بموت وانا بشوفك معاها ...كنت عاوزة انساك باى طريقة ..كان شبهك يا زين او يمكن انا شفته شبهك ..صدقت كلامه اللي كان نفسي اسمعه منك انت ..سلمتله عقلى..عشت معاه كل اللي اتمنيت اعيشه معاك ..حبيتك انت فيه ”
تراجع في حدة وكأنها شيئا يثير أقصى ما في نفسه من اشمئزاز...كأنه يحاول أن يحافظ على أبعد مسافة ممكنة بينهما في هذا المكان الذي اصبح أضيق من جحر النمل :
” اللى بيحب ميخونش ..انتى خنتى اهلك ونفسك ...الحب بيطهرنا ..بينضفنا من جوانا ولو معملش ده يبقى يتسمى اى حاجة تانية ”
اقتربت محاولة ان تضع يدها على كتفه فدفعها فى عنف ..يشعر انها لمسته ستندسه فقالت وهى تقبض كفها في الهواء :
” انا عارفة انى غلطانة وعارفة انى اللى هطلبه صعب ..وعارفة انك عمرك ما هتفكر تقربلى على الاقل دلوقتى ...بس انا مستعدة لكل اللى انت عاوزه ..كل اللى تطلبه مقابل ان احنا نعيش مع بعض حياتنا ...زين صدقنى انا عمرى ما تمنيت حد غيرك ”
هز رأسه في أسى قائلا :
” وانتى كانت مكانتك عالية اوى عندى يا سمر ..كانت ..كانت اعلى بكتير من المكانة اللى انتى حطيتى فيها نفسك دلوقتى ...انا لما سمعت اللى سمعته منك اتجننت مكنتش قادر اصدق انك انتى كدة ورغم كل ده لما بابا دخل علينا مكنتش ناوى اقوله ...كنت هكدب عليه بأى حجة وهحاول باى طريقة اخرجك من مصيبتك دى ...تعرفى كان ممكن فعلا اتجوزك لو وصل الموضوع لحارة سد ...لكن اللى عملتيه صدمنى اكتر من صدمتى الاولانية فيكى ...احنا مفيش ولا هيبقا بينا حياة يا سمر ”
نظر الى دموعها بعدم اكتراث فمهارتها الخارقة فى التمثيل لم تعد في حاجة الى اثبات ...
او ربما كان هو احوج البشر فى تلك اللحظة الى البكاء والعويل فقد خسر حبيبته لتحتل اخر من تمناها فى العالم مكانها ..
حبيبته التى بدأ يضنيه الشوق اليها مع أول خطوة وطأتها قدماها بعيدا عنه ..
حبيته التى ارتمت بين ذراعيه وقبلها دون ان يشعر بشىء حوله...
قبلة لم تحمل شغفا بقدر ما حملت ضعفا من كليهما ...
قبلة لم يشعر بذنب مطلقا وهو يقتنصها من شفتيها ضاربا عرض الحائط كل ما علمها اياه ...
قبلة تحولت لميثاق غليظ امتلكت به كيانه بأسره ليقسم على نفسه ان يحرم على اى امرأة اخرى مجرد الاقتراب من شىء اصبح خاصا بها هى .
**********************************
قبضت ايلينا على هاتفها فى قوة وهى تطرق على طرف الفراش به فى غضب كادت به ان تحطمه الى اشلاء ولكنها تحتاجه الان ...
وبعدها ليرى من نوبات غضبها ما يشاء فما يحمله يذهب بعقلها تماما ...
انتبهت على صوت الباب ليدلف يوسف اليها بابتسامة واسعة وهو يخلع سترته قائلا:
” مساء الخير ”
لم ترد تحيته وظلت تتطلع اليه فى تمعن ، ايعقل ان يفعلها ؟؟
فتح اول زر فى قميصه والتفت ليتحدث اليها ويروى لها يومه كما تعود ولكنه توقف وهو يقطب جبينه وينظر اليها حيث بدت شاردة الذهن فقال وهو يقترب منها ويضع يده على جبينها فى قلق :
” مالك ايلينا انتى تعبانة ”
تصنعت ابتسامة بدت شديدة الغرابة له:
” انا كويسة ..بس انت بقا ؟؟؟“
قطب حاجبيه فى استنكار من طريقتها فى الحديث:
” ايلينا فى ايه ؟؟ايه اللهجة دى ؟؟“
نهضت فى عنف وهتفت وهى تنظر اليه فى غضب وبعينين حملت كثيرا من السخط وخيبة الامل :
” فيه ان مهما حاولت اغير فيك مفيش فايدة ...فيه انى تعبت وزهقت ..فيه انى بحارب طواحين الهوا معاك ”
هتف وعيناه تتسع في دهشة :
” انتتى بتتكلمى عن ايه ”
مالت اليه وهى تهمس من بين اسنانها فى حرقة :
” يوم فرح اخوك ...روحتنى القصر وقلت انك هتكمل سهرتك مع اصحابك ...ده حصل فعلا ؟؟“
ضرب كفيه ببعضهما فى نفاذ صبر قائلا :
” يا ريت تتكلمى على طول وتقولى عايزة ايه ؟؟“
هزت كتفيها بسخرية وقالت بينما تعبث بهاتفها:
” حاضر هتكلم ”
وصوبت الهاتف نحو عينيه مباشرة كأنها تصوب قذيفة :
” اتفضل يا استاذ يا محترم ..الهانم اللى قضيت الليلة فى حضنها ..صورتك وبعتتلى الصور عشان تأكدلى ان علاقتكو مستمرة ”
نظر الى الهاتف وضيق عينيه بشدة وتركيز فواصلت :
” انا فعلا ندمانة على كل لحظة عشتها معاك ..ندمانة على كل احساس حسيته وياك ..انت مصر تفضل فى الحضيض والقرف وهما فعلا لايقينلك خليك فيهم وانا هبعد وكفاية لحد كدة ”
واكملت وهى تسحب الهاتف من امامه غير عابئة بملامحه التى كستها الصدمة :
” ايه ؟؟؟....مكنتش عامل حسابك صح ؟؟..مش لاقى كلمة ولا رد ترد بيه ..بتفكر فى حاجة تضحك عليا بيها مش كدة ..مش هتقدر تضحك عليا ابدا انا مش هتنازل المرة دى ولازم نتطلق ”
وضع يديه فى جيبه وعض على شفته السفلى قائلا وهو يرفع رأسه فى بطء :
” فعلا معنديش رد ولا كلمة اقولها ..لو انتى مصدقة ان انا اللى فى الصور دى خلاص ايلينا يبقى انا ”
رفعت حاجبيها في دهشة وكادت أن تتهمه بالوقاحة فتابع فى حزن :
” انا زهقت وتعبت ..صدقى اللى تصدقيه واعملى اللى انتى عايزاه ..انا مش هعيش حياتى معاكى كلها فى حرب وسجن اتهامات مبتنتهيش ..لو عاوزة تطلقى حالا هطلقك وكفاية عليكى عيشة مع واحد خاين ووسخ زيي“
اتسعت عيناها كأنها ستبتلعه بداخلهما وتمتمت فى حيرة وهى تلقى نظرة على هاتفها كأنها تتأكد من شىء ما:
” انت قصدك ان مش انت اللى فى الصور ”
ضحك فى مرارة وهو يتابع ما تفعله :
” انتى من كتر شكك فيا مجاش فى بالك حتى ولو لمرة ان الصور متفبركة ..ولا حتى حاولتى تتأكدى وتتأكدى ليه ...انا راجل خاين بطبعى عمرى ما حبيتك ولا بفكر اسعدك ازاى بأي طريقة ”
وعاد ليلتقط سترته لينهي النقاش قائلا في هدوء:
” على كل حال شوفى انتى عايزة ايه وانا اعملهولك ” واشار بسبابته قبل ان يذهب ليواصل في تهكم :
” واه بالمناسبة انتى مش محتاجة تسألى حد اذا كانت الصور متفبركة ولا لا ..لان لو عندك ثقة فيا كنتى قدرتى تلاحظى ان ده حد تانى ..انا فى كتفى جرح واضح بقاله سنين ..اللى فى الصور جسمه سليم ”
نظرت الى الهاتف فى يدها وهي تشهق فى صدمة ...لقد ذهب هذا الأمر عن بالها تماما ...نعم الوجه في الصورة له ولكن هذا ليس جسد يوسف مطلقا ..ليس الجرح فقط فلون بشرة صاحب الصورة أفتح من لون يوسف بقليل ...لو دققت من البداية لأدركت هذا بسهولة ..ولكن غيرتها تحكمت بها فشوشت نظرها كالعادة ...
نظر لها من اعلى الى اسفل فأطرقت برأسها فى خجل وهى تتذكر كل الكلمات اللاذعة التى امطرته بها ظلما ...لقد هدمت جزءا بداخله لا يمكن اعادة بناءه من جديد ، حاولت ان تقول اى شىء ولكن لسانها الذى انطلق بلا هوادة فى وصفه بأشنع الصفات قد تخلى عنها الان ،ارتجفت نبرتها كثيرا وهي تحاول صياغة أي جملة:
” يوسف ..انا ”
اوقفها بكفه يمنعها من الحديث فقد اكتفى وفاض :
” انتى ايه ..انا خلاص تعبت ..طول الوقت شك ..طول الوقت بتحسسينى بندمك على جوازنا اللى انا بعتبره اجمل حاجة حصلتلى ..طول الوقت بتحسسينى انك اتنازلتى لما قبلتى تتجوزينى ..انا حكتلك وعرفتك كل حاجة من البداية وانتى قبلتى ووعدتك انى مش هجرحك وانتى عمرك ما ادتينى ثقتك ..انتى استغليتى ماضيا عشان كل لحظة تعايرينى بيه ..من يوم ما اتجوزنا وانا بسعدك بكل طريقة ..عمرى حتى ما بصيت مجرد بصة لواحدة غيرك ..نظرة الاتهام اللى فى عينيكى بقت بتقتلنى ..انا تعبت والله تعبت ”
واغلق زر قميصه وهو يحمل سترته على ذراعه وهم ان يفتح الباب فهرعت لتضع يدها على مقبض الباب تترجاه في ندم :
” يوسف استنى ..انا اسفة ..ارجوك سامحنى ”
تنهد في مرارة فاقتربت أكثر لتمسك بياقة قميصه هامسة في نعومة تعرف كم هي مؤثرة به :
" انت عارف اني بحبك وبغير عليك "
حركت ذراعيها لتحيط بهما عنقه ...اقتربت من شفتيه ببطء تطلب التصالح بطريقتها ...نظر الى ثغرها لحظات قبل أن ينزل ذراعيها ويبعدها فى رفق :
” لا يا ايلينا ..المرة دى غير كل مرة مش هضعف قدامك وانسى حرف من اللى قولتيه ...“
وتركها ليخرج ...نظرت حولها بسرعة والتقطت وشاحا لفت به رأسها دون ان تهتم ببعض الخصيلات التى ظهرت من تحته لتتمكن من اللحاق به ..
أدركته وهو على وشك ركوب سيارته فامسكت بذراعه تتوسله :
” ارجوك يا يوسف... انا اسفة... اعمل فيا اللى انت عاوزه بس بلاش تمشى وانت زعلان منى كدة ”
وقفت امامه لتضيف فى قلق وهى تنظر الى وجهه الغاضب ...مدت كفيها لتحضنه بينهما..ملست بابهاميها عضلاته المنقبضة :
” قلى بس انت رايح فين ؟؟“
نظر لها فى خيبة امل واستنكار وحزن جعلها تلوم نفسها للمرة الالف على ما فعلته ، تنهد في ألم وهو يزيح كفيها :
” الحياة بينا بالطريقة دى بقت مستحيلة ...فعلا ”
هتفت فى رفض واضح تستنكر ما يقوله وهي تضع يديها على ثغرها :
” لا يايوسف متقولش كدة انت عارف انا قد ايه بحبك ”
رد وهو يفتح باب سيارته ملقيا نظرة يائسة عليها :
” بتحبينى واكتر حد بيوجعنى ..وانا بحبك ورغم كدة بتشكى فيا فى كل نفس ..الحب مش كل حاجة يا ايلينا للاسف اكتشفت ده متأخر”
دلف الى سيارته فتحسست زجاج النافذة ومالت اليه وهي على حافة البكاء :
” طيب بس قولى رايح فين ؟؟“
نظر لها نظرة مطولة أخيرة دون ان يرد قبل أن ينطلق بسيارته بعيدا عنها ...
راقبت السيارة حتى اختفت لتنفجر فجأة بالبكاء وكأنها أخذت حبيبها الى مصير مجهول ...
مصير أوقعه فيه غبائها الذي عجز حبها عن تقويمه وحركته غيرتها الى اتجاه واحد لارجعة فيه ..الفراق ...أليس هذا ما طلبته !!!....
ولكنه يحبها وسيسامحها ...
لا.. كرامته التي طعنته فيها في مقتل كفيلة أن تشيع حبها الى الجحيم ...
غبية ...غبية ..
ظلت تردد الكلمة فى عقلها وهى تتذكر كل مشاهدها معه منذ زواجهما ...رقته.. حنانه... حبه ، كيف تشك فيه ...كيف ؟؟
كيف لم تشفع له كل مشاعره فتدرء عنه كل هذه التهم فى بساطة ؟؟
لقد غفر لها لمرات ومرات حتى أخذها الغرور ، تعرف ان هذه المرة تختلف فقد تفوهت بما زاد عن الحد ورصيدها السابق من الاتهامات ليس فى صالحها تماما ، حاولت الاتصال به لمرات ومرات دون جدوى حتى أغلق هاتفه تماما وعلمت فى صباح اليوم التالى من زين انه سافر الى الاسكندرية لاستلام شحنه من الميناء هناك ، لم يكن هذا من صميم عمله ابدا هذا ما ادهش زين وهو يخبر الجميع بهذا بينما وحدها من كانت تعلم السبب ، مرت ايام ولم يعد ..
وهى على محاولاتها بالاتصال به دون جدوى حتى أشفق هاتفه ذات مرة على حالها وأصدر رنينا كان هو صوت الأمل بالنسبة اليها ..لم تصدق نفسها بالفعل حين قطع صوت الجرس لتفتح المكالمة ..
لم يأتها صوته فهتفت فى قلق وهي تنظر الى الهاتف تتأكد أنه فتح المكالمة بالفعل :
” يوسف ...“
لم يرد وان سمعت انفاسه فى الجهة الاخرى فهتفت من جديد :
” يوسف ..ارجوك رد عليا ”
وواصلت بصوت يقطعه نحيبها:
” انا اسفة اسفة اسفة مليون مرة حبيبى ..بس ارجعلى ..بلاش تبعد ارجوك ...انا من غيرك تايهة ومش حاسة بالدنيا من حواليا ...ارجع بقا يا يوسف ” انهى المكالمة دون ان تسمع رده فواصلت تتوسل اليه بالرسائل عبر شتى الطرق ...بالماسنجر ...والواتس اب ، تعرف انها اخطأت وتستحق عقابه فليعاقبها بأى شىء الا ابتعاده على هذا النحو ...
ارتمت على فراشها تنتظره ككل ليلة...
تكورت فى حزن وهى تتحسس مكانه الخالى الى جوارها فى ألم ...
لم تنم براحة ابدا منذ ان تركها هكذا...
لم تمر ليلة ابدا منذ زواجهما الا ورأسها تتوسد صدره ، كانت دائما ما تنام على صوت دقات قلبه وكأنها تشدو لها بمشاعره كل ليلة وتستيقظ على صوتها وكأنها تقبله فى بداية كل صباح لتسبق شفتيه التى لم تتخلى عن شغفها بها ابدا...
اشتاقت لرائحته... لصوته... لكل شىء فيه
انتظرت قدومه وهى حتى تعلم انه لن يأتى ولكنه أتى ..
جاء بالفعل بعد منتصف الليل وفتح باب الغرفة فى هدوء وللحظة ظنت نفسها تحلم ...
فليكن ...فلتتصبر بالحلم حتى تأتيها الحقيقة ...فليكن طيفه نعم الأنس لشوقها الجارف عله يداوي بعضا من حرقته ...
اندفعت اليه وارتمت بين أحضانه وما ان لامست جسده حتى اتسعت عيناها في عدم تصديق وهي تهتف في سعادة:
” انت يا يوسف ..دى حقيقة ...انا مش بحلم ”
ابتعد عنها فى عنف وهم ان يذهب الى الملحق الصغير فى جناحه فوقفت امامه قائلة فى لطف :
” يوسف وحشتنى اوى ..انا هفضل اعتذرلك طول عمرى لو عاوز ...اوعى تبعد عنى تانى ”
رمقها بنظرة لم تفهم لها معنا وحين همت ان تذهب خلفه أوقفها فى صرامة :
” ما تجيش ورايا ”
توقفت فى حزن وهى تراه يغلق الباب بينها وبينه وتساءلت هل حقا قد تسببت فى كل هذا الحزن البادى على وجهه... سحقا لها ...
وجهه كان شاحبا بشدة وهالة سواد أحاطت بعينيه العميقتين كأنه لم يذق النوم طيلة الليالى الماضية ، نظرت الى فراشهما وتنهدت فى الم ، هل سيفصل بينهما هذا الباب اللعين طويلا؟؟
لقد اشتاقت ان تنام على صدره ككل ليلة ...
اشتاقت الى الراحة التى افتقدتها طيلة غيابه ..
اشتاقت الى نبضات قلبه التى كانت تنام على صوتها نعم اخطأت ولكن .....
قطع افكارها صوت نحيب مكتوم ، انتفض قلبها فى فزع حتى كاد يغادر صدرها ... أهذا الصوت له؟؟ ...
وضعت يدها على صدرها وسارت فى بطء لتفتح باب الغرفة فى حذر لتجده بالفعل هو ...
يبكى وهو يبتهل لله فى صلاته ...
دمعت عيناها لدموعه التى تراها للمرة الأولى ،انتظرت لحظات لم تستطع ان تطق صبرا بعدها ...
حين شعر بها مسح دموعه وحاول تصنع القسوة فقد شعر بانتهاك رجولته وهى تراه على هذه الحال :
” انت ايه اللى جابك.. قولتلك عاوزة ابقا لوحدى ”
ضمت رأسه الى صدرها وهمست في بكاء حار :
” انا اسفة ...انا اسفة ”
خلص رأسه بسهولة من بين كفيها ...طالع عينيه الباكيتين في لوم قبل أن يندفع في حرقة :
” هوا انتى ليه كدة ؟؟...ليه على طول بتشكى فيا وفى حبى ليكى ..انتى عارفة انتى عملتى ايه ؟؟؟“
ومسح وجهه بيده ليلقي بجملته وكأنه يطعن روحه بنصل حاد مزق ما تبقى به من تماسك فخارت نبرته :
” انا رجعت شربت تانى ..فاهمة... شربت تانى ..خنت عهدى مع ربنا وجاى ارمى بالذنب عليكى عشان مش قادر استحمله لوحدى ”
وضعت كفيها على ثغرها وهي تتراجع لللخلف فابتسم فى سخرية :
” سكتى ليه ماتتكلمى ..سمعينى محاضراتك العظيمة ..قوليلى مفيش حاجة تضطر الانسان للغلط ..مفيش حاجة اسمها ظروف ..انا من الاساس اصلا حقير و..“ قاطعته وهى تقترب منه تمسكه من قميصه وتصرخ في عنف :
” اسكت بقا اوعى تقولى كدة تانى على نفسك ”
ودفنت رأسها في صدره تباشر بكائها حتى بللت قميصه بدموعها قائلة :
” كل ده بسببى انا ..انا ضغطت عليك اكتر من مرة ..بس انت مش كدة ”
ورفعت وجهها مجددا وهى تتلمس وجنته ..تنفي ما شان به نفسه ...
ترفض التخلي عنه ...
يصدح عشقها له هذه المرة حتى على احساسها بالذنب تجاهه :
” دموعك بتقول انك مش كدة ..ربنا هيقبل توبتك يا يوسف انت بس ادعيله قوله ان مهما حصل مش هتعملها تانى ”
امسك بكفيها لينزلهما ويخبرها في تعب :
” انا تعبت يا ايلينا ..تعبت من الحياة مع بعض بالطريقة دى و..“
همست باختناق تمنعه من مواصلة الخوض في هذا الطريق او حتى التفكير به :
” اوعدك مش هيتكرر تانى ..انا اصلا مش عارفة عملت كدة ازاى ”
ومررت اصابعها فى شعره وحنينها اليه يفوح كدخان متصاعد من نار عشق تأججت ولا سبيل الى اخمادها مطلقا :
” اللى اعرفه انى بغير عليك بجنون والغيرة بتاكل فيا وبتحرقنى.. لما كل يوم كانت بتجيلى رسايل من الستات اللى كنت تعرفها وبيقولولى على علاقتك بيهم كنت بموت ..عارفة انه ماضى ..بس كنت بتمنى ارجع امحيه وابدل كل ذكرى ليك معاهم بذكرى ليا انا ..يمكن لما الصور اتبعتتلى فرغت غيظى كله فيك انت ...كنت وكأنى بعاتبك على كل حاجة فاتت ..ايوة يا يوسف بحبك بجنون ..عارفة ان كله ده جنان ...بس دى الحقيقة ”
- ” يمكن مكنش صح من الاول نرتبط وانت مش قادرة تتخطى الماضى ”
لوحت بكفيها تحاول أن توضح موقفها وتشرح له طبيعة مشاعرها المعقدة
” يوسف فيه فرق بين انى اتخطى الماضى واتقبله وبين ان الماضى اصلا مش موجود ..احنا مبننساش الماضى مهما عملنا احنا بس بنتجاهله ونتعايش معاه ..الماضى غصبا عن الكل هوا اللى بيشكل الحاضر والمستقبل ”
اشاح بوجهه يسألها فى امتعاض :
” وده يدكى الحق كل لحظة انك تشكى فيا وتقلبى حياتى جحيم ..هوا ده حبك ..وتقوليلى غيرة ..غيرة من حاجة عدت وخوف من حاجة مش موجودة ”
تنهدت في عمق :
” يمكن عشان محستش بده لكن تخيل يا يوسف ..تخيل انى كنت متجوزة قبلك حد ..تخيل انه كان من حقه انه يلمسنى و..“
هنا اشتعلت النيران بعينيه وكانت كافيه لحرق القصر بمن فيه وهو يقاطعها فى غضب :
” اخرسى ”
ورغم انها ارتجفت قليلا من صرخته المفاجئة الا انها ابتسمت فى النهاية فى ظفر قائلة :
” شوفت اديك حتى الخيال مش قادر عليه ”
رد فى استنكار :
” دى غير دى ”
هزت كتفيها في بساطة :
” ده اللى الرجالة بتحاول تقنع نفسها بيه بس دى هيا دى ..المشاعر واحدة يا يوسف ..الاتنين بيحبو وبيغيرو وبيتجرحو بنفس الطريقة ”
واقتربت منه فى دلال وهى تلامس صدره محاولة تلطيف الاجواء :
” خلينا نبدأ من جديد يا يوسف واوعدك ان ده مش هيتكرر تانى ..حتى لو شفت بعينى هستنى واسمعك ” انزل يدها في حزم وهو ينظر الى الباب :
” ارجوكى يا ايلينا احنا محتاجين شوية وقت ”
ابتسمت فى خجل وحكت رأسها ...
فأشار الى الباب برأسه ليكرر طلبه بوضوح أكثر :
” روحى نامى انتى دلوقتى ”
تظاهرت بالبلاهة حتى اللحظة الأخيرة وسألته بارتباك :
” هنام لوحدى ؟؟ ”
لم يرد فلمعت عيناها وهى تشعر بصعوبة تجاوزه لما حدث ...على كل حال يكفيها حصولها على بعض من الراحة بعودته فقد ازاحت كثيرا من هم التفكير في مكان وجوده ..
انسحبت فى هدوء ...وعلى فراشها تدثرت جيدا وهى تقاوم الارق بكل طريقة ممكنة ...
تغمض عينيها بقوة وتخفى وجهها بوسادتها وتتقلب يمينا ويسارا ...
لم تعرف برودة من قبل للطقس فى شهر مايو..ما هذا الصقيع الذي يضرب بأوصالها...
نظرت الى الباب فى غيظ... لا يمكنها تخيل وجودهما معا ولا يفصلهما سوى هذا الباب اللعين ...
نهضت فى حزم ، فليكن ما يكن اذن ، فتحت باب الملحق بهدوء شديد ..نظرت الى الفراش الصغير الذى ينام عليه وهو يخفي وجهه بالوسادة ، يبدو انه يقاوم ببسالة ما تقاومه بدورها ...لا بأس ستسلم هى اولا .. اقتربت على اطراف اصابعها حتى وصلت اليه ،أزالت الوسادة من على وجهه برفق وتمددت بصعوبه الى جواره محاولة التكيف مع هذا المكان الضيق ، نظرت الى وجهه وهو نائم وتساءلت ترى كيف ستكون الحياة بدونه ، لابد وان تروض هذا الحب بداخلها حتى لايفتك بهما اكثر...
اخذت نفسا عميقا... كم افتقدت رائحته ..
كم افتقدت حنانه ...
فى حياتها لم تعرف حنانا يغدق هكذا بلا حساب كحنانه هو ، كيف كانت ستفرط به ؟ ..
مدت يدها فى تردد الى وجنته فشعرت به يفتح عينيه فجأة ...
نظر لها فى غضب وحنق...سيطردها الان بلا شك وهى ستقبل هذا بنفس راضية فلم يعد لديها خيار ، تعالت انفاسه وكأنه يخوض صراعا بداخله بين عقله وقلبه ، انتهى بانتصار القلب مع بعضا من مقاومة العقل ظهرت جليا وهو يجذبها من شعرها بقسوة صرخت بها لينظر الى وجهها للحظات ويضع رأسها على صدره بعنف كما تعود كل ليلة ، شعرت بصراعه هذا فهمست فى الم :
” انا اسفة يا يوسف اسفة بجد ”
تنهد وهو يعبث فى خصيلات شعرها فى قسوة :
” انا مريض بيكى ...فعلا مريض ”
وبعد مرور ثلاث سنوات
+
