اخر الروايات

رواية متاهة مشاعر الفصل الحادي عشر 11 بقلم نهي طلبة

رواية متاهة مشاعر الفصل الحادي عشر 11 بقلم نهي طلبة 


الفصل الحادي عشر

جلس حسن بجوار منى حول مائدة على شكل نصف دائرة بإحدى الملاهي الليلية الشهيرة والملحقة بفندق خمسة نجوم.. وأمسك يدها ليضغط عليها هامساً:

ـ إيه رأيك.. أعملك امتحان دلوقتِ في دروس الأسبوع اللي فات؟..

تورد وجه منى بروعة سلبت لبه وقد ظهرت صدمتها جلية.. وهي تسأله بذهول:

ـ حسن!.. أنت بتقول إيه!!

قهقهة بشقاوة وهو يجيبها ببراءة مصطنعة:

ـ أنا قصدي دروس الرقص.. هو أنتِ قصدك حاجة تانية!

زمت منى شفتيها بفتنة تدعي الغضب.. وتجيبه بدلال أدركت عشقه له بغريزتها:

ـ أنا كمان أقصد الرقص.. بس هتكسف أرقص قدام الناس..

جذبها من يدها ليتوجها نحو حلبة الرقص:

ـ ما تفكريش في الناس.. المهم أننا سوا..

رفعت ذراعيها ليطوقا عنقه وبدآ يتحركان على أنغام الموسيقى الهادئة برشاقة..

ابتسمت منى بخجل بينما أراح جبهته فوق جبهتها وسألها بجدية:

ـ سعيدة يا منى؟..

أغمضت عينيها بحالمية وهي تهمس:

ـ سعيدة دي كلمة قليلة على اللي بحس به وأنا معاك.. حسن.. أنت أحلى حاجة في دنيتي..

ضمها إلى صدره بقوة وهو يخبرها بشقاوة:

ـ يعني المفروض أنا أعمل إيه دلوقتِ.. الكلام الحلو ده تقولهولي واحنا في بيتنا بس.. وإلا أنا مش مسئول عن تصرفاتي!..

ضحكت برقة وهي تلقي برأسها على كتفه لتستمتع بدقات قلبه التي تدوي عالياً.. سعيدة بتأثيرها عليه فهو له تأثير مماثل عليها..

ظلا يتمايلان على الموسيقى وهما بين ذراعي بعضهما.. وحسن يطلب منها كل خمس دقائق العودة إلى الشاليه وهي تضحك له بإغاظة:

ـ خلينا شوية.. أنا مبسوطة وأنا بطبق دروسك عملي.. أقصد دروس الرقص.. أنت أستاذ شاطر..

توقف عن الرقص وجذبها هامساً:

ـ أنا قلت الكلام ده يبقى في البيت.. يلا قدامي.. عندك امتحان مفاجئ في دروس تانية..

ضحكت برقة وعادا ليجلسا على مائدتهما حيث أشار حسن إلى النادل ليأتي له بالفاتورة..

عادت منى تضحك وهي تسأله:

ـ إيه رأيك أما نروح تعلمني السباحة؟..

نظر إليها نظرة غامضة:

ـ ما ينفعش.. إلا لو اشتريت لكِ بحر خصوصي!..

ضحكت بذهول:

ـ ازاي يعني مش فاهمة؟..

ـ يعني أنا مراتي مش هتلبس مايوه والناس تتفرج عليها.. أما نرجع بيتنا هعلمك في حمام السباحة بتاع الفيلا..

سألته بقلق:

ـ احنا هنعيش في الفيلا بتاعة باباك؟.. أنا كنت فاهمة غير كده..

تنهد بألم حاول أن يخفيه عنها:

ـ الأول هنعيش في شقتي.. أنا كنت بجهزها طول الفترة اللي فاتت.. لحد ما نصلح الأمور مع بابا..

مدت يدها لتتمسك بكفه وهي تخبره بدفء:

ـ إن شاء الله يا حسن كل الأمور هتتحسن..

عاد النادل وهو يخبر حسن بحرج أن البطاقة غير صالحة.. تعجب حسن بشدة ومنحه بطاقة أخرى ليعود النادل بنفس الرد.. تكرر الوضع مع بطاقتين آخرتين.. حتى شعر حسن بوجود شيء غير طبيعي.. وانتابه الحرج من الموقف وقد أدرك أن والده بدأ الحرب بالفعل..

لمح تبرم النادل الواقف أمامه.. فمد يده ليخرج بطاقة أخرى.. وهو يشكر يزيد بأعماقه, فقد أصر عليه يزيد ليأخذها منه قبل لحظات من انطلاقه بالسيارة ليلة زفافه وهو يخبره أنها لن تضره, بل قد تنفعه فالظروف غير مضمونة..

ارتسمت ابتسامة ساخرة على شفتيه وهو يفكر بأن يزيد كان محقاً وكما يبدو أنه توقع تصرف والده بتلك الطريقة..

انتهى الموقف المحرج وخرجت منى تتأبط ذراع حسن وهي تسأله بقلق:

ـ حسن.. هو في إيه؟..

ربت على يدها مطمئناً:

ـ ما تقلقيش يا منى..

ـ إزاي بس؟.. طيب واللي حصل ده معناه إيه؟

أطرق حسن بحزن:

ـ معناه أن قدامنا حرب جامدة مع حاتم بيه العدوي..

ثم رفع رأسه وحرك ذراعه ليحيط كتفيها به ويضمها بشدة.. فضمت نفسها له أكثر وهي تطمئنه:

ـ أنا معاك وجنبك يا حسن.. دايماً معاك..

طبع قبلة رقيقة على جبينها.. واصطحبها إلى شاليه يزيد وهو يشكره للمرة الثانية فيبدو أن والده لم يعلم مكانه بعد.. وإلا كان شرفه بالزيارة.. فحاتم العدوي.. لا يتهرب من المواجهة قط...

***********

استيقظت نيرة في التاسعة تتأفف من آشعة الشمس التي تزعجها كل صباح وأخذت تتساءل للمرة المائة.. لم تشرق الشمس مبكرة هكذا في تلك المزرعة؟!..

تثاءبت للمرة الخامسة وهي تحاول العودة للنوم مرة ثانية ولكنها ما لبثت أن شعرت بافتقاد إزعاج من نوع آخر.. فــعلياء عادة ما تأتي لإيقاظها في السابعة.. نعم السابعة... من يصدق أن تلك الصغيرة قادرة على سحب نيرة غيث من الفراش في السابعة!!.. وذلك حتى يمتطيا الخيل معاً.. ثم تعودان لتناول الطعام سوياً..

"فين عليا؟"..

سؤال تردد بذهنها مع انقباضة مفاجئة بقلبها.. فأزاحت الغطاء من فوقها بقوة وقد قررت الذهاب إليها لتعرف سبب تأخرها..

طرقت باب غرفة علياء عدة مرات ولم تتلقَ أي إجابة.. ازداد قلقها وفتحت الباب لتجد الغرفة خالية تماماً.. ولكن ما جعل عينيها تتسعان بخوف هو الفراش ذو الغطاء الوردي المرتب تماماً.. والذي يعلن صراحة أن علياء لم تمضي الليلة بغرفتها..

حاولت دفع الهاجس الذي يتردد بذهنها بالبحث عن علياء في غرفة يزيد.. فهي لا تتخيل أن تجرؤ علياء على ذلك.. ولكنها لم تستطع.. فتوجهت مسرعة لتفتح كل غرفة موجودة بالطابق العلوي, ولكن جميع الغرف كانت خالية كما عهدتها طوال الأسبوع.. فــجد يزيد يقطن في غرفته في الطابق الأرضي.. ولا يغادرها مطلقاً, بل لا يغادر فراشه من الأساس..

قررت التوجه نحو الإصطبل علها تجدها الطفلة الحمقاء هناك.. ولكن لمحة خاطفة من أحد نوافذ الطابق السفلي أكدت لها أسوأ مخاوفها والتي حاولت جاهدة ألا تفكر بها.. فسيارة يزيد ما زالت بالخارج, التفتت لتحدق بفزع بباب غرفة المكتب المغلق..

تحركت ببطء شديد نحو الباب وصوت دقات قلبها التي تعالت وتيرتها يكاد يصم أذنيها, وأمسكت بمقبض الباب.. كادت أن تتراجع عن فتحه.. لكنها عادت وقررت أنه يجب عليها القيام بتلك الخطوة, فبعد كل شيء قد تكون مخطئة..

حركت المقبض وفتحت الباب ببطء لتجد المشهد الذي توقعته وحاولت الهرب منه بقوة فأغلقت عينيها عن مشهد الجسدين المتعانقيين والغارقيين تماماً في نومٍ عميق..

أغلقت الباب ببطء وهي تتنفس بسرعة.. لا تدري ما الذي عليها فعله.. هل تدخل لتجر علياء من بين ذراعي يزيد قبل أن يراهما أحد؟.. أم تنتظر علياء في غرفتها؟.. لا تدري!!.. فقط تريد الصراخ وهي تشعر بموجات هائلة من الغضب العاصف.. غاضبة من الحمقاء التي تجاهلت حديثهما ليلة أمس.. ومن الحقير الذي تود قتله لاستغلاله شغف علياء به بتلك السفالة.. ومن مازن الذي طاوعها وأتى بها إلى المزرعة من البداية.. الأحمق لم لم يأتِ حتى الآن؟.. هل صرف نظر عن خطبتهما أم ماذا؟.. يكتفي بمكالمة تليفونية يعلم أنها لن تجبها.. لقد ظنت أنه قد يأتي لرؤيتها.. أو..

يا إلهي.. ما الذي تفكر به؟.. هزت رأسها بعنف.. تحاول تنقية أفكارها.. والتركيز على الكارثة خلف باب المكتب.. عندما سمعت صوت يأتي من خلفها..

ـ صباح الخير يا نيرة.. واقفة عندك بتعملي إيه؟..

**********

دلف مازن إلى غرفة جدته بدون استئذان بعد أن جذبته الأصوات العالية بالغرفة.. فوالده على ما يبدو يخوض في نقاش حامٍ مع جدته..

وصله صوت الجدة روح وهي تهتف بابنها:

ـ حاتم.. بلاش قسوة قلبك دي.. حسن وخلاص اتجوز.. والبنت كويسة.. وبنت ناس..

سخر حاتم بقسوة:

ـ بنت السواق!!.. اللي طمعانة في اسم العدوي وفلوسه استحالة تكون مرات ابني..

هتفت روح بدورها:

ـ بس هي خلاص فعلاً بقت مراته.. وأظن هو أثبت قد إيه هو عاوزها ومتمسك بيها..

لمعت عينا حاتم بمكر:

ـ أما نشوف هيقدر يتمسك بيها للآخر ولا لأ.. وهي كمان هيكون تصرفها إيه بعد ما كل امتيازات العدوي تختفي فجأة..

سألته روح بتوجس:

ـ أنت عملت إيه يا حاتم؟..

رد عليها مازن الذي توسط الغرفة مواجهاً والده:

ـ بابا وقف حساب حسن البنكي وحسابي كمان.. ولغى توقيعي من على الشيكات..

رد والده بقوة:

ـ أيوه.. حتى الشقة بتاعته بعتها بموجب التوكيل اللي معايا.. وأما تشوفه ابقى بلغه أنه مالوش شغل عندي.. وكمان يسلم مفتاح عربيته في أقرب وقت..

رمقه مازن بقهر بينما سألته روح بذهول:

ـ جبت القسوة دي كلها منين يا ابني؟.. ومازن ذنبه إيه هو كمان؟..

ـ دي مش قسوة يا أمي.. ده إجراء ضروري عشان حسن يرجع لعقله.. وأول ما يطلق البنت اللي اتجوزها دي.. كل شيء هيرجع لأصله..

وتوجه إلى مازن بالكلام:

ـ أنا وقفت كل امتيازاتك المادية عشان عارف أنك هتساعده من غير تفكير.. وما تفتكرش أنك ممكن تتهرب من جوازك من نيرة.. الفضيحة اللي عملتوها لازم تتلم بسرعة.. وأبوها عايز يشوفك بأسرع وقت..

قاطعت روح حديثه وهي تأمره بحسم:

ـ حاتم.. رجع كل شيء زي ما كان.. وسيب ابنك ومراته في حالهم.. بلاش الظلم.. وإلا أنت عارف غضبي هيكون شكله إيه..

ـ يعني إيه يا أمي؟.. هو حسن ده مش ابني برضوه وأنا عايز مصلحته..

ـ لأ.. أنت عايز أوامرك تتنفذ بس.. وأوامر بأوامر بقى يا حاتم.. اسمع كلامي وابعد عنه وعن مراته.. وبلاش أذية..

أجابها حاتم بحسم قبل أن يخرج من الغرفة:

ـ أوعدك أني مش هأذي البنت ولا أهلها.. لكن فلوس لأ.. خلاص هو اختار.. يتحمل نتيجة اختياره.. وده اللي أقدر عليه.. غير كده ما أقدرش أقولك غير زي ما حضرتك بتطلبي مني أنفذ أوامرك, أنا من حقي برضوه أطلب من ابني أنه يسمع كلامي.. عن إذنك..

تهاوت روح على أريكتها فسارع مازن لاسنادها وسمعها تغمغم:

ـ رحمتك يا الله.. رحمتك يا الله..

***********

التفتت نيرة ببطء لتواجه القادم.. وهي ترد التحية بكلمات متعثرة:

ـ صباح الخير يا أونكل عصام... أنا.. أنا..

شعر عصام بالحرج وقد ظن أن تلعثم نيرة يعود إلى الزوبعة التي أثيرت حول ارتباطها الحديث بمازن العدوي.. فغمغم مرتبكاً:

ـ مبروك خطوبتك أنتِ ومازن..

لفت نيرة يديها خلف ظهرها وهي تضغط على المقبض بقوة حتى ترك بعض العلامات بكفيها.. وبالكاد استطاعت الرد على تهنئة عصام.. فكل ما كانت تفكر به أن تبعده عن الكارثة الموجودة بغرفة المكتب..

فسألته بلهفة:

ـ حضرتك فطرت؟.. أنا لسه ما فطرتش.. تحب تشرب شاي؟..

وتحركت بسرعة محاولة جذبه وتشتيت انتباهه بعيداً عن غرفة المكتب.. إلا أنه اعتذر منها بلطف.. وتحرك ليمسك مقبض الباب.. فوقع قلبها بين قدميها وهي تسمعه يسألها:

ـ أومال عليا فين؟.. ما صحيتش معقولة لحد دلوقتِ؟..

ابتلعت ريقها بصعوبة ولم تستطع الرد فعاود سؤالها:

ـ ويزيد كمان؟.. أنا شايف عربيته بره.. أكيد وصل متأخر فنام هنا ليلة امبارح.. بس غريبة أنه لسه نايم؟.

كان على وشك فتح الباب فلم تجد نيرة بداً من محاولة جذب ذراعه بشدة وهي تكاد تصرخ:

ـ عمو.. اتفضل حضرتك معايا نشرب شاي وبعدين ندور عليهم..

تسبب صوت نيرة العالي في ايقاظ يزيد.. ففتح عينيه ليجد علياء نائمة بين ذراعيه.. وشعرها متناثر بعبث يغطي وجهها الذي دفنته بصدره العاري..

انسحب الدم من أطرافه عندما أدرك هول ما قام به.. وعاودته ذكريات الليلة الماضية بقوة.. تتزاحم برأسه صور ثلاثية الأبعاد.. قبلاتهما الشغوفة والتي تحولت إلى جنون مطلق وهو يشعر بها بين ذراعيه.. دقات قلبها تدوي كصدى لقلبه هو.. ويديه تتجول على جسدها وقد أفلتت سيطرته عليهما بينما هي تلامسه بخجل وبخبرة ضئيلة اكتسبتها منه هو شخصياً.. انهارت مقاومته أخيراً.. ووجودها أمامه راغبة في منحه كل ما يرغب لم يساعده.. وما ظنه حلم في البداية كان واقعاً ملموساً ومغرياً حد الجنون.. لم يستطع مقاومة أخذها, فهي له.. خلقت من أجله وها هي تعترف بذلك هامسة له بحبها.. وبملكيته لقلبها.. هو وحده.. من يستطع مواجهة امرأة تجعله السيد الأول على كلٍ قلبها وعقلها وجسدها.. أنه لم يخلق من صخر حتى لا يخضع لسحر اللحظة.. ذلك السحر الذي انقلب في نور الصباح إلى لعنة.. وهو يدرك فداحة ما قام به..

عاد صوت نيرة يدوي مرة أخرى.. وسمع صوت والده يجيبها بشيء ما.. فجف حلقه وهو يحاول ايقاظ علياء.. بينما فُتِح باب الغرفة ليدلف والده الذي تجمد على عتبة الغرفة وهو يرى ربيبته الصغيرة بين ذراعي ابنه وقد بدا جلياً ما حدث بينهما..

لم يستطع يزيد مواجهة عينيّ والده.. فهو لم يتخيل يوماً أن يوضع في موقف كهذا.. شعر بطاقة رهيبة من الغضب تجري بعروقه.. وظهرت بوضوح وهو يحرك علياء بقسوة حتى تستيقظ..

ـ علياء..

ثم رفع صوته أكثر ورفع شعرها عن وجهها:

ـ علياء.. اصحي..

فتحت علياء عينيها ببطء لتلتقي بالقسوة الخالصة في عينيّ يزيد المطلة عليها.. فحدقت به للحظات قبل أن تدرك وضعها.. بين ذراعيه.. فأطلقت صرخة قصيرة قبل أن تحاول الابتعاد عنه بحركة سريعة.. أحبطها هو على الفور بعد أن ضغطها بين ذراعيه.. فقد كان ما يغطي جسدهما معاً هو القميص الخاص به فقط.. بينما رقد ردائها الممزق في مكانٍ ما بالغرفة..

لم يحتمل عصام المشهد الذي كاد أن يصيبه بأزمة قلبية.. فصرخ بقسوة:

ـ نيرة.. هاتي لها أي حاجة من أوضتها تلبسها..

شهقت علياء بعنف بعدما سمعت صوت عصام ولم تستطع لف رأسها لمواجهته ورؤية الصدمة وخيبة الأمل بعينيه.. بينما ارتفع صوته بهيسترية وهو يصرخ بيزيد وقد اقترب منهما.. والتقط بنطال ابنه ليلقيه بوجهه:

ـ ابعد عنها حالاً..

ثم أدار وجهه عنهما.. وهو عاجز عن قول المزيد..

عادت نيرة بسرعة ومعها مئزر طويل لعلياء التي لفت نفسها به بسرعة..

ومرت لحظات في صمت تام.. وعلياء منكسة وجهها بالأرض.. بينما يراقبها يزيد بنظرات غامضة ممتزجة بغضب مستعر.. قطع والده الصمت بأن طلب من نيرة بصوت حاول جهده التحكم به:

ـ نيرة.. من فضلك.. خدي عليا فوق..

ثم أخفض صوته بشبه توسل:

ـ اللي شوفتيه يا بنتي.. يا ريت يفضل بينا إحنا بس..

أومأت نيرة بصمت وهي تحتضن علياء لتحركها خارج الغرفة تكاد تحملها حملاً.. وما أن خرجتا وتأكد عصام من ابتعادهما حتى أغلق الباب والتفت إلى ابنه بغضب عاصف.. بينما رفع يزيد رأسه محاولاً الكلام:

ـ بابا... أرجوك.. أنا..

قطع والده كلامه بصفعة قوية نزلت على وجهه وهو يهتف به:

ـ أنت حيوان.. ابني أنا.. لحمي ودمي.. حيوان بيلعب بأعراض بنات الناس.. ويعتدي على حرماتهم..

وضع يزيد كفه فوق مكان الصفعة بينما تكورت قبضته الأخرى في قبضة غاضبة..

ـ بابا..

قاطعه والده بصراخ:

ـ أنا مش عايز أسمع صوتك.. ولا حتى أشوف وشك..

وخبط على المكتب بعنف:

ـ من إمتى؟..

رمقه يزيد بحيرة.. فأعاد السؤال مرة أخرى:

ـ أنت على علاقة بها من إمتى؟..

غمغم يزيد بخفوت:

ـ امبارح بس.

تغاضى عصام عن النظر إلى الأريكة التي تحمل الدليل على صحة كلام ابنه.. وصاح به في غضب:

ـ إزاي؟.. وليه؟.. فجأة كده عليا اللي كنت مش طايق وجودها ونازل فيها أوامر وشخط وزعيق.. فجأة احلوت في عينيك؟.. ولا كنت بتسلي نفسك لحد ما تتجوز؟..

هتف يزيد بقوة محاولاً الدفاع عن نفسه:

ـ بابا...

قاطعه والده:

ـ ده أنت فرحك بعد أسبوعين.. إيه مش عارف تتحكم في نفسك أسبوعين!!.. ذنبها إيه المسكينة اللي أنت نهشت لحمها دي..

صرخ به يزيد وقد فلت غضبه من عقاله:

ـ بلاش نتكلم عن الذنوب!

ـ قصدك إيه يا ولد..

ـ لو اتكلمنا على الذنوب.. فأنت أول واحد لازم يتحاسب.. ذنبها إيه أمي في جوازك عليها بعد عشرتها ليك فوق الخمستاشر سنة يكون جزائها زوجة تانية.. ذنبي إيه أنا أسمع شكوتها وألمها من ظلمك وخيانتك ليها.. ذنبي إيه وأنا مش عارف إزاي أراضيها ولا أواسيها.. ذنبي إيه وأنا بحاول معاها ترحم نفسها من المهدئات اللي كانت هتدمرها.. ذنبي إيه وأنا بمنعها أكتر من مرة أنها تنهي حياتها.. مرة قطع شرايين.. ومرة جرعة منوم زايدة.. وكل ده لأنك قررت أنها مش كفاية لك كزوجة.. كـــست.. وأنثى واتجوزت عليها.. وبعد ده كله.. جبت علياء.. وعملت حواليها ألف سور وألف جدار.. وتحذيرات كأنك بترسم لي وضع معين ما ينفعش أغيره.. دي أختك الصغيرة.. أختك الصغيرة.. أختي إزاي ومنين؟.. مش فاهم!..

قاطعه والده بذهول:

ـ ده انتقامك مني ومنها على جوازتي من أمها؟!.. أنك تحطم الأسوار وتكسر الجدران اللي عملتها عشان مصلحتك قبل مصلحتها.. أنك تغتصب البنت الأمانة اللي في رقابتي واللي أنا مسئول عنها قدام ربنا..

توسعت عينا يزيد بذهول وهو يهتف بغضب:

ـ اغتصبها!!..

لم يلتفت عصام إلى ذهول ابنه وواصل اتهامه له:

ـ ده انتقامك مني.. أنك تدمر البنت!.. عشان كده أصريت أنك تيجي امبارح المزرعة.. عشان تنفذ اللي بالك.. ويا ترى الست والدتك عارفة بخطتك؟.. أكيد لأ.. وإلا ما كانتش جننتني من امبارح عشان ابنها الحيلة اللي بات بره البيت!..

هتف يزيد بعنف:

ـ لا.. ده مش انتقام.. يا ريته كان كده.. بس كمان مش اغتصاب..

سخر والده بعنف:

ـ بعد كده هتقولي أنه هي اللي اعتدت عليك!

رفع يزيد رأسه وهتف بوالده بصرامة:

ـ اللي حصل.. حصل.. وأنا مش هتكلم عنه.. كل اللي عايزه أنك تبعت تجيب المأذون.. هتجوز علياء حالاً..

صمت والده للحظات.. ثم قال:

ـ ما هو أنت أكيد هتتجوزها.. أنت فاهم أني هرضى بحل تاني؟..

رمقه يزيد ساخراً وغاضباً من نفسه فقد سقط في الفخ كالأحمق.. وصمت وهو يتوعد علياء سراً.. الصغيرة المغوية اللعينة.. لم تنصت إليه واستدرجته بهمساتها حتى عجز عن مقاومتها أو مقاومة نفسه..

تنهد يزيد بيأس عندما سمع والده يسأله:

ـ وهتعمل إيه في ريناد؟.. وفرحك ووالدتك؟..

تهالك يزيد على أقرب مقعد:

ـ مش عارف.. مش عارف..

خيم الصمت عليهما لفترة قطعه والده برفع سماعة الهاتف ليقوم بعدة اتصالات.. التفت بعدها ليزيد:

ـ المأذون هيكون هنا حالاً..

أومأ يزيد في صمت.. فعاد والده يسأله ثانية:

ـ هتكمل جوازتك من ريناد؟

أغمض يزيد عينيه بألم ولم يجب على سؤال والده الذي هز رأسه بغيظ:

ـ يعني هتجوز الاتنين؟

فتح يزيد عينيه ورفعهما إلى والده ساخراً:

ـ من شابه أباه فما ظلم!..

ـ وأنت مش هتظلم يا يزيد؟

رد عليه يزيد بجواب غامض:

ـ ما حدش عارف مين الظالم ومين المظلوم!

*************

تكومت علياء في ركنٍ منزوٍ بأحد الأرائك في غرفة نيرة ودموعها تهطل بلا توقف منذ أن صعدت بها نيرة من غرفة المكتب ورغم صراخ نيرة عليها ونعتها لها بالغبية الحمقاء التي أضاعت كل شيء.. لكنها لم ترد عليها إلا بجمل مبهمة.. أخذت ترددها كالتعويذة.. "هي عندها حق".. "أنا فاجرة".. "بس أمي ما كانتش كده".. "أمي مظلومة"..

لم تفهم نيرة ما تردده علياء.. وحاولت الاقتراب منها وإخراجها من هذيانها.. ولكن أوقفتها جملة أخيرة خرجت من شفتي علياء.."سهام عندها حق.. أنا فاجرة"..

صرخت بها نيرة بغضب:

ـ اسكتي يا عليا.. ما تقوليش على نفسك كده..

أخذت علياء تردد بشرود.."أنا فاجرة.. أنا فاجرة"..

تحركت نيرة وجذبتها من جلستها بقوة:

ـ قلت لك اسكتي.. أنتِ خلاص بقيتِ مراته.. وما فيش مخلوق هيعرف باللي حصل..

رفعت علياء عينيها إلى نيرة بانكسار:

ـ هو عارف.. وأنا عارفة..

وحررت نفسها من قبضتي نيرة وهي تتهاوى على الأريكة وتنكس رأسها أرضاً هامسة:

ـ أنا فاجرة..

صرخت بها نيرة مرة أخرى:

ـ أنتِ ضحية.. هو اللي مجرم مغتصب..

ـ مش كفاية أفكار وخطط بقى يا نيرة هانم!!..

سمعت نيرة صوت يزيد من خلفها فالتفتت إليه بعنف:

ـ إيه اللي جايبك هنا؟.. وبعدين المفروض تخبط قبل ما تدخل...

أحنى رأسه في أسف ساخر:

ـ آسف كنت عايز المدام بتاعتي في كلمتين..

رفعت علياء عينيها إليه لتطالعها نفس النظرة القاسية التي لمحتها في عينيه من قبل.. خيل إليها للحظات ظهور لمحات من حنان ورقة على ملامحه فرمشت لتجلي عينيها من الدموع ولكن ما رأته كان تعابير مبهمة لا توضح الأفكار التي تجول برأسه.. ورغم ذلك تعلقت عينيها بعينيه تبحث عن نظرات التوق واللهفة التي أذابتها الليلة الماضية.. ولكن ما لمحته كان الغضب.. الغضب الخام الممزوج بقسوة ظاهرة..

قطعت نيرة تواصلهما البصري هاتفة:

ـ لو كنت فاهم أني هسيبها لوحدها معاك تبقى غلطان.

ابتسم ساخراً وأخبرها بتهكم:

ـ متأخر قوي الشو ده.. ودلوقتِ عن إذنك عايز أقول لمراتي كلمتين على انفراد..

خرجت نيرة كالعاصفة وتجاهلت إغلاق الباب ووقفت أمام عتبة الغرفة مكتفة ذراعيها, فذهب هو وأغلق الباب في وجهها بمنتهى البساطة.. والتفت إلى علياء التي عاودت النظر إلى الأرض بشرود فهتف بها:

ـ إرفعي راسك..

هزت رأسها نفياً وكأنها قررت بينها وبين نفسها أنها تستحق البقاء منكسة الرأس إلى الأبد..

تحرك نحوها ليرفعها من كتفيها وهو يسألها من بين أسنانه:

ـ أنتِ ضحية وأنا مجرم مغتصب!!.. دي خطتكوا الجديدة؟.. بس ليه ما الخطة الأصلية نجحت.. بعد ما نيرة هانم سحبت أبويا لحد المكتب وظبطنا بالجرم المشهود.. برافو.. نجحتِ وبقيتِ مراتي.. صحيح مبروك يا مدام.. نسيت أبارك لك..

وحرك إحدى يديه ليجذبها من شعرها مقبلاً شفتيها بقسوة.. قبل أن يدفعها بقوة فتسقط على الأريكة التي خلفها بعنف وهي تضع وجهها بين كفيها.. وتنخرط في موجة جديدة من البكاء لتخبره من وسط دموعها:

ـ حرام عليك يا يزيد.. ليه بتقول الكلام ده..

هتف بغضب بها:

ـ ليه!!.. يعني تدخلي عليا وش الفجر.. وتصحيني من نومي.. ترمي نفسك في حضني.. وأنتِ عارفة كويس إيه اللي ممكن يحصل بينا.. وأنا نبهت عليك وطلبت منك تبعدي.. وأنتِ مصرة.. وبعد ما اللي حصل حصل.. افتح عينيه آلاقي أبويا في وشي.. وعايزة تفهميني أن دي مش خطة عشان تبوظي جوازي من ريناد!!..

هزت رأسها بألم وقد خنقتها الدموع وهي تردد بعذاب:

ـ حرام عليك.. والله حرام عليك..

صرخ بجنون وقد أصابته دموعها في مقتل فهو لا يحتمل رؤية دموعها.. لابد أنه جن بالفعل:

ـ وقفي الدموع دي.. حالاً..

هزت رأسها بيأس وكأنها غير قادرة على ايقاف دموعها بينما سمعته يخبرها:

ـ بالنسبة لأمي.. هنبلغها أن جوزانا.. مؤقت وعلى الورق حماية ليكي من أعمامك.. لحد ما أوصل لها الحقيقة تدريجي.. مفهوم؟..

أومأت موافقة.. بينما تردد هو قبل أن يخبرها بكلمات موجزة ولكن حاسمة:

ـ جوازي من ريناد.. هيتم في ميعاده.. هي ما لهاش ذنب في الجنون اللي حصل..

رفعت عينيها إليه وقد ظهر الألم فيهما بوضوح.. والتمع سؤال حائر بهما قرأه بسهولة ولكنه لم يمتلك له إجابة.. فهو غير قادر على تحديد وضعها من حياته.. فهرب من عينيها ليكمل باقي كلماته:

ـ أهم حاجة.. علاقتك بنيرة دي تتقطع نهائي.. أظن كفاية قوي اللي حصل لحد دلوقتِ..

ـ نيرة!!.. وهي دخلها إيه؟..

ـ عايزة تفهميني أنها مش صاحبة الفكرة والتخطيط؟!.. يمكن كانت فاهمة أنها بتضرب عصفورين بحجر واحد تنتقم من ريناد.. وبالمرة نتجوز أنا وأنتِ..

لم تحتمل نيرة_التي ألصقت أذنها بباب الغرفة_ سماع المزيد من اتهماته الظالمة.. وانتابتها نوبة غضب مجنونة فالتقطت أقرب ما وصل إليه يدها وكان تمثال خشبي صغير لحصان يمتطيه فارس ملثم.. وفتحت باب الغرفة بقوة فأصدر صوتٍ عالٍ فالتفت يزيد على الفور لتفاجئه بإلقاء التمثال في وجه مباشرة ليصيب أنفه بقوة.. وترتد رأسه للخلف قليلاً.. حتى كاد أن يفقد توازنه بينما هي تصرخ به:

ـ هي مين دي اللي خططت ورسمت؟.. الخطط دي تعرفها أنت وأصحابك والهانم خطيبتك المحترمة.. ولا أنت ناسي؟.. أنت عايز ترمي غلطتك على أكتاف أي حد غيرك وخلاص!.. خططنا إزاي أنا وعليا؟.. هااه.. فهمني!!.. هو مين كان يعرف أنك هتيجي المزرعة؟.. ولا أنه أونكل عصام هيجي وراك؟.. وأيوه أنت مجرم.. أنت هتكدب الكدبة وتصدقها.. ولا هي كانت شربتك حاجة أصفره قبل ما ترمي نفسها في حضنك.. زي ما بتقول..

تجمد يزيد من هجوم نيرة المفاجئ ولم يجد ما يجبها به بينما سمع صرخة خافتة من علياء وهي تهتف:

ـ يزيد أنت بتنزف.. مناخيرك بتنزف..

رفع يده إلى أنفه ليشعر بتدفق الدماء وألم حارق بدا أنه شعر به للتو.. وأحس بعلياء تجذبه من ذراعه لتجلسه على الأريكة وهي تخبره من وسط دموعها التي لم تجف:

ـ ميل راسك لقدام.. لا .. لا.. قدام مش ورا.. عشان الدم ما ينزلش في حلقك.

صرخت بها نيرة:

ـ أنتِ خايفة عليه!!.. سامعة كل الكلام الفارغ اللي بيقوله وما ردتيش بــأي كلمة.. ودلوقتِ خايفة عليه.. أنتِ هتجنينني!!..

تحركت علياء بسرعة لتجهز له كمادة باردة وهي تخبر نيرة بتعجب:

ـ ده بينزف يا نيرة!

نظرت نيرة إليها بذهول وهي تضع الكمادة الباردة على أنفه وتحاول إسناد رأسه برقة بينما بدا على الحقير الإستمتاع باهتمامها به.. وكأنه يريد الاثبات لنيرة أنه هو الأهم عند علياء..

صاحت نيرة بغيظ وهي تخرج من الغرفة:

ـ يا ربي.. أنتِ مجنونة.. والله العظيم مجنونة.. أنا هكلم مازن يجي ياخدني من بيت المجانين ده..

ظلت علياء جالسة على ركبتيها أمام يزيد تحاول ايقاف نزيف أنفه.. أما هو فكان يتأمل كلمات نيرة التي صدمته أكثر من صدمة التمثال الطائر..

بأعمق أعماقه يدرك أنها محقة بطريقة معينة.. ولكن ترتيب الأحداث بتلك الطريقة يشعره أنه أحمق سقط في الفخ بأقدم الطرق.. وذلك يدفعه إلى الجنون.. كما تفعل جلستها الآن بين يديه كما فعلت ليلة أمس تماماً.. يبدو أن نيرة محقة.. فالحمقاء الصغيرة مهتمة بإيقاف نزف أنفه فقط وغير مدركة لما تفعلها جلستها تلك به.. هل تظن أن الجنون الذي قد عصف بهما قد انتهى بما حدث الليلة الماضية؟.. حاول بصعوبة السيطرة على فوران جسده الذي يحثه على ضمها إلى وتقبيل كل إنش في وجهها وجسدها.. وتلك المرة سيأخذ وقته بالكامل.. فهي أصبحت له.. صوت خافت من أعماقه هتف به أن يترك الفتاة وشأنها ويكفي ما حدث.. ولكنه أسكته على الفور.. لقد تزوجتها للتو.. أليس كذلك؟.. أين الخطأ إذاً؟..

قطعت همستها أفكاره بعد أن نجحت في ايقاف نزف أنفه:

ـ خلاص النزيف وقف..

حاولت النهوض من جلستها فمنعتها يديه التي تشبثت بذراعيها وهو يتأمل وجهها الذي أغرقته الدموع.. مد يده ببطء ليمسح دموعها برقة شديدة أصابتها بالذهول.. ما الذي يفعله؟.. هل ينوي القضاء على عقلها وقلبها الذي ينتفض تحت تأثير لمساته.. وتلك النظرة.. آه.. أنها تلتمع في عينيه مرة أخرى..

رفعها يزيد ليتمكن من احتضانها جيداً وهو يخبر نفسه.. أنه لم يخطئ فهي أصبحت زوجته بالفعل.. بينما هي رفعت ذراعيها لتطوق بهما عنقه وتبادله قبلاته كما تعلمت منه وهي تفكر أنها كانت محقة فيزيد يعاني بالتأكيد من الشيزوفيرنيا!


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close