رواية اردتك عمرا فكنت عابرا الفصل الثامن 8 بقلم الهام عبدالرحمن
جلس "يونس" في غرفته، على الكرسي القريب من النافذة، يتأمل الفراغ بعينين لا تريان، لكن داخله يعجّ بالضيق والملل.
مرّت الأيام ثقيلة، وبرغم محاولاته للاندماج والتأقلم، ظلّ شعور الوحدة يخنقه كلما خفتت الأصوات من حوله.
طرقٌ خافت على الباب لم يسمعه، ثم دخلت "حسناء" تحمل كوبًا من العصير، وقلبها مثقل بالشوق لابنها الذي لا يزال يحبس نفسه داخل شرنقة الألم.
وضعت الكوب على الطاولة الصغيرة جواره، وتأملته قليلًا قبل أن تهمس بابتسامة باهتة:
حسناء:
" ايه يا ابني… اللي واخد عقلك في إيه؟
أنا خبطت وفتحت ودخلت، و انت ولا حسّيت بيا!"
انتبه "يونس" لصوتها متأخرًا، فعدل من جلسته وقال بصوتٍ خافت، وكأنه يعود من سرحانٍ طويل:
يونس:
"آه… آسف يا أمي… مكنتش واخد بالي. كنت… سرحان شوية."
صمتَ لحظة، ثم التفت إليها فجأة كأن سؤالًا انفجر بداخله، وسأل بنبرة يملؤها التردد والقلق:
يونس:
"ماما… هى مسك فين؟
اصلها بقالها كذا يوم ماجتش…
هي كويسة؟
اصل مش عوايدها متجيش وتقعد معايا وتطمن اذا كنت اخدت علاجى ولا لا "
رفعت "حسناء" حاجبيها بدهشة خفيفة، لكنها سرعان ما أخفتها خلف ابتسامة دافئة، لمعت في عينيها دمعة فرح لم تظهر، وشعرت أن قلبه بدأ يتحرك أخيرًا.
حسناء بطمأنينة ودفء:
"لا يا قلب أمك… اطمن مسك بخير، بس اليومين دول مشغولة في المذاكرة على الآخر،
امتحان الماجستير قرب، وهى مركّزة فيه جامد."
ارتاح وجه "يونس" قليلًا، وبدت عليه سكينة خفيفة لم تظهر عليه منذ أيام.
ابتسم ابتسامة باهتة لم تدم طويلًا، لكنها كانت كافية لتملأ قلب "حسناء" ببصيص من الأمل.
نظرت إليه بنظرة أمٍّ تعرف ما لا يُقال، ثم قالت بمكرٍ خفيف ونبرة مرحة:
حسناء:
"بس باين كدا إن مسك سايبة فراغ وراها كبير…
ولا أنا بتهيألي يا يونس؟"
اتسعت عينا "يونس" قليلًا، وارتبك من السؤال، فحاول التماسك، وردّ بنبرة متماسكة تحمل بين ثناياها خجلاً خفيًا:
يونس:
"مفيش يا أمي…
أنا بس كنت بسأل، يعني… عادي."
ضحكت "حسناء" ضحكة صغيرة وهي تمسك صينية العصير من جديد، واستدارت نحو الباب لتغادر، وقالت وهي تلوّح له قبل أن تخرج:
حسناء:
"ماشي يا سيدي… بس السؤال ده وراه حكاية،
وربنا يفرّح قلبك يا ضنايا، باللي يستاهلك."
وخرجت بهدوء، تاركة خلفها رائحة الحنان وصوت الأمل.
أما "يونس"، فظل جالسًا في مكانه…
لكن قلبه هذه المرة، خفق بشيء جديد… كأنّه بدأ، وللمرة الأولى، يُصدّق أن النور قد يعود… ولو على هيئة إنسانة.
في صباح اليوم التالي…
كان "يونس" جالسًا في مكانه المعتاد، على الكرسي القريب من النافذة، يرتدي بيچامة بيت خفيفة، وعصاه بجانبه.
البيت ساكن إلا من صوت العصافير بالخارج… وداخل قلبه، شيء خفيّ ينتظر دون أن يعترف.
رنّ جرس الباب بخفة… ثم فُتح.
دخلت "مسك" بهدوء، مرتدية فستانها الرقيق يزينها حجابها ومعها شنطة ظهر صغيرة، وقبل أن تقترب، قالت بصوتٍ حنون:
مسك:
"صباح الخير يا أُبيه يونس."
انتبه "يونس" لصوتها، فاعتدل قليلًا في جلسته وقال بنبرة فيها دفء غير معتاد:
يونس:
"صباح النور يا مسك…
إيه المفاجأة الحلوة دي؟ كل دى غيبة ولا خلاص زهقتى منى؟ "
ابتسمت واقتربت منه، جلست على طرف الكرسي المقابل، وهي تنظر إليه بعينين مليئتين بالحب والاحترام:
مسك:
"كنت نازلة على الامتحان… قولت لازم أعدّي أسلّم عليك الأول.
وأنا آسفة والله إني مقصّرة معاك شوية اليومين دول، بس بجد مضغوطة جدًا وبعدين ازاى تقول انى زهقت وهزهق من ايه يعنى؟ ."
أمال رأسه نحوها قليلاً، وقال بابتسامة خفيفة:
يونس:
"لا بالعكس…
ربنا يوفقك يا بنتي، وعارف إنك مشغولة…
بس… كنت خايف اكون بقيت حمل كبير عليكى وانا بصراحهاتعودت على وجودك كل يوم فى حياتى ولما بسمع صوتك بحس بالامان والطمأنينة."
اتسعت عينا "مسك" بلمعة خفية، لكنها قامت بسرعة، قبل أن يطول الموقف أكثر، وقالت وهي تعيد ترتيب طرحتها:
مسك:
"دعواتك بقى… أنا داخلة على امتحان مش سهل."
يونس بهدوء:
"ربنا يفتحها في وشك… وتبقي أحسن واحدة في الدنيا كلها."
ابتسمت "مسك" ابتسامة خجلة، ثم استأذنت وخرجت بسرعة.
بعد لحظات، دخلت "حسناء"، كانت قد وقفت تراقب المشهد من بعيد، تحمل كوبًا من الشاي الساخن.
حسناء وهي تبتسم بحنان:
"شايف يا ضنايا؟
البنت في عز تعبها وانشغالها، لازم تيجي تسلّم عليك."
لم يعقب "يونس"، على حديثها لكن تغيرت ملامحه فقد اصبح فيها هدوء مريح.
حسناء وهي تجلس بجواره:
"دى حتى كل يوم تتصل عليا في مواعيد دواك،
وتقولّي: يا خالتي إلحقى فكرى يونس بالدوء،
ما تنسيش تعمليله العصير اللي بيحبه."
رفعت "حسناء" الكوب نحوه وقالت:
حسناء:
"خد ياسيدى كوباية العصير اهى عشان تروق دمك وتفضل كدا علطول هادى وعلى فكرة الغدا النهاردة من ايد مسك قامت ياقلب امها من الفجر تطبخ وتعملك كل الاكل اللى انت بتحبه عشان هى بترجع من الامتحان بتبقى هلكانه لانها بتبقى مطبقة يومين ورا بعض فقالت تطبخ الفجر عشان انت متتاخرش على ميعاد اكلك ودواك بس حلفتنى مااقولكش…
خافت تتريق على أكلها."
ابتسم "يونس" رغمًا عنه، كأن الجليد الذى ملأ قلبه بدأ بالذوبان، وقال بصوت خافت جدًا:
يونس:
"أنا؟ أتريق على أكلها؟
دي…"
صمت، ولم يكمل حديثه، لكنه ابتسم ابتسامة صادقة، كانت كفيلة تطمئن قلب والدته.
بقلمى الهام عبدالرحمن استغفرالله العظيم واتوب
حسناء بفرحة ساكنة:
"عارف يا يونس…
أنا مش شايفة إنها بتعمل كدا علشان واجب.
البنت دي… فيها حنية من ربنا،أنا حاسة ان مسك جواها مشاعر حلوة يارب يكون اللى فى بالى صح.
صمت "يونس"، لم يرد،
لكن داخله بدأ يدق بلحن جديد…
مزيج من الراحة، والاحتياج، والحياة التى بدأت بالتسلل له من باب قلبه الذى كان مغلقا.
في صباح اليوم التالي…
كان الجو لطيفًا، والشمس تتسلل بخجل من بين الستائر، حين فتحت "مسك" باب المطبخ بهدوء، ووضعت طبق الجيلي بالفواكه علي الصينية بحرص، زينته بقطع مانجو وفراولة، ثم تنهدت برضا وهي تهمس:
مسك لنفسها:
"هيعجبه إن شاء الله… انا عارفة انه بيحبه اوى وعسان كدا عملتهوله النهارده."
حملت الصينية وذهبت إلى غرفة "يونس"، طرقت الباب بخفة، ثم دخلت.
مسك بمرح:
"صباح الخير على أحسن أُبيه!"
يونس بابتسامة حقيقية:
"صباح العسل… إيه الريحة الحلوة دي؟"
مسك:
"جهزتلك جيلي بالفواكه مخصوص، قولت أفرفشك شوية."
وضعته أمامه الصينية بلطف، وساعدته في الإمساك بالملعقة.
يونس وهو يتذوق:
"مممم… بجد طعمه تحفة،
تسلم إيدك يا مسك."
ضحكت بخجل وجلست أمامه، ثم تبادلا حديثًا خفيفًا، ضحكات ناعمة، وعيونها تلمع بسعادة خفية، كأنها وجدت مكانها.
وفجأة… رنّ هاتفها.
أخرجته بسرعة من جيبها، وابتعدت خطوة، ثم ردّت:
مسك بصوت ناعم:
"أيوه يا دكتور مؤمن…
الحمد لله، الامتحان كان كويس…
ربنا يستر بقى في النتيجة."
صمت "يونس"، وملامحه تغيرت.
كان يسمع المكالمة، وكل كلمة تنزل على قلبه كأنها نقطة نار.
أغلقت الهاتف بعد دقيقة، وعادت إليه وهي تبتسم:
يونس بجمود: مين دا اللى كنتى بتكلميه يامسك؟!
مسك:
"دا ياسيدى دكتور مؤمن، بيطمن عليا عملت إيه في الامتحان."
نظر إليها "يونس" بنظرة مش مريحة، وقال بنبرة خافتة لكن فيها غُصة:
يونس:مين دكتور مؤمن دا؟!
مسك ببراءة: دا كان دكتورى فى الجامعة وبشتغل معاه فى شركته بس من البيت.
يونس: "شكله واخد عليكِ أوي كدا؟"
اتخضت "مسك" من طريقته، وردّت بتلقائية:
بقلمى الهام عبدالرحمن لاحول ولاقوة الابالله العلي العظيم
مسك:
"أنا بشتغل معاه دلوقتي من البيت… في الشركة بتاعته، ترجمة وحاجات تخص البحث،
يعني شغل مش أكتر."
أطرق "يونس" رأسه للحظة، ثم رفع وجهه وقال بنبرة جادة:
يونس:
"بصراحة كدا… أنا مش مرتاحله.
فيه حاجة في طريقته مش مريحة.
خلي بالك من تعاملك معاه، شكله عينه منك."
"مسك" وسعت عينيها بدهشة بريئة، وقالت بنبرة هادية جدًا:
مسك:
" انت عرفت ازاى؟ هو فعلاً كان عايز يتقدملّي من فترة…
بس أنا رفضت، قولتله إني عاوزة أكمّل دراسات عليا الأول،
ومش جاهزة للجواز."
"يونس" شعر بقلبه بينبض بشدة … لم يستطع فهم حدوث ذلك الشعور له
لكن في لحظة شعر إنه لا يريد ان يقترب منها شخص اخر.
قال بنبرة متماسكة ظاهريًا، لكن داخله كان يشعر بنيران العالم تتأجج:
يونس:
"كويس إنك رفضتي…
بس خدي بالك تاني، مش كل اللي بيقول كلام محترم بيبقى نيته صافية.
وأنا… محبش أشوفك في موقف مش حلو بسببه."
نظرت "مسك" إليه نظرة طويلة، وسكتت…
لكن قلبها كان يهمس:
"معني كلامك دا انك ممكن تكون بتغير عليا يا يونس؟ ولا دي لسه مشاعر ملهاش اسم؟ ولا ياترى انا بيتهيألى بسبب مشاعرى انا من ناحيتك؟ "
بعد خروج "مسك"، عمّ الصمت غرفة "يونس" لوهلة،
لكن "حسناء" كانت تراقبه بعين الأم التي ترى ما لا يُقال.
جلست بجواره بهدوء، وضعت يدها على يده، وقالت برفق:
حسناء:
"أنا عارفة يا ابني…
شايفة بعنيا اللي انت مش عاوز تعترف بيه."
يونس بتوتر:
"شايفة إيه يا ماما؟"
حسناء بحنان:
"شايفة إن قلبك مال لـ مسك…
وانت يمكن مش مدِّي نفسك فرصة تفهم دا،
بس أنا أم، وبفهمك أكتر من نفسك.
والله يا يونس لو اتجوزتها، أبقى أنا اطمنت عليك طول عمري،
دي بنت حنينة وانا قلبى بيقولى انها بتحبك، وفعلاً شايلة همك من قلبها…
خصوصًا فى ظروفك دي."
تغيّرت ملامح "يونس"، وتوتر فجأة، ورفع صوته، وانفجرت منه الكلمات دون تفكير:
يونس بعصبية:
"يعني إيه اللى بتقوليه دا ياماما مين اوحالك بكدا ؟!
كل اللى فى دماغك دى اوهام وكلامك دا ممكن يسبب فضيحة "
حسناء بحنان حزين:
"مش فضيحة يا حبيبي…
دي مشاعر، والمفروض انها حاجة طبيعية."
لكن "يونس" وقف فجأة من على الكرسي، وصوته ارتفع، ونبرته كانت بين الغضب والإنكار:
يونس:
"يا ماما، مسك مش أكتر من أخت صغيرة ليا!
أنا بعتبرها اختى وبس…
يعني إزاي تفكري في حاجة زي دي؟!
أنا كبير عنها بعشر سنين!
دي لسه بتقولّي أُبيه!
انتي متخيلة؟!
مستحيييييل أتجوزها! مستحيل!"
في اللحظة دي…
كانت "مسك" قد نسيت هاتفها في الغرفة، وعادت بسرعة لتأخذه.
فتحت الباب بهدوء دون أن ينتبها،
ثم وقفت عند العتبة…
و"يونس" لا يزال يتكلم.
تجمّدت "مسك" مكانها، عيناها امتلأتا بالدموع…
قلبها كان بين التصديق والإنكار، وسماعها يرفضها بكل وضوح…
سمعته يقول إن الموضوع "مستحيل".
لم تتكلم، لم تقترب.
بل التقطت الهاتف بهدوء…
وخرجت دون أن يشعر أحد بوجودها.
بقلمى الهام عبدالرحمن صلوا على الحبيب المصطفى
وما إن وصلت إلى شقتها، حتى أغلقت الباب خلفها،ودخلت غرفتها سريعا واغلقت بابها ايضا وأسندت ظهرها إليه.
سقط الهاتف من يدها على الأرض، ثم سقطت هي الأخرى على ركبتيها.
غطّت وجهها بكفّيها، وانفجرت في بكاءٍ موجوع،
كأن قلبها انكسر على حبٍّ وُلد من طرف واحد…
حبّ كانت تحاول ان تداريه عن الجميع، حتى عن نفسها…
لكن صوته حينما قال: "مستحييييل"
قطع بداخله آخر خيط أمل.
نظرت إليه "حسناء" للحظات، مكسورة الخاطر،
ثم تنهدت وقالت بخفوت وهي تنهض:
حسناء:
"براحتك يا يونس…
بس لو سبّتها تضيع من إيدك،
يبقى خسرت نُور كان ربنا بعتُه ليك."
ثم تركته وخرجت، تُخفي دموعها في عيونها، كما تُخفي الأم وجعها حين يعجز قلبها عن تغيير قناعة ابنها.
ظل "يونس" وحده في الغرفة،
الهدوء يلف المكان،
لكن داخله كان عاصفة.
أغمض عينيه المُطفأتين عن النور، وأسند رأسه للخلف على ظهر الكرسي، وزفر تنهيدة عميقة، خرجت من صدرٍ أثقله الندم والخوف.
همس لنفسه بصوتٍ مكسور:
يونس بوجع:
"إزاي…
إزاي أتجوزها؟
دي تستاهل واحد أحسن منّي…
يعني يوم ما تتجوز… تتجوزني أنا؟!"
ضحك بسخرية، ثم مسح على وجهه بأنامله المرتعشة:
يونس بهمس مرّ:
"أنا أكبر منها بعشر سنين…
أعمي… ومطلّق…
يعني إيه اللى هتلاقيه معايا؟
إيه اللي يخليها تتحمّل دا كله؟
أنا…
أنا كدا أبقى بظلمها."
صمت قليلًا، كأن صدره لا يتحمل حتى تفكيره، ثم أردف بصوت خافت مليء بالقهر:
يونس:
"مستحييييل…
مستحيل أخليها تعاني بالشكل دا.
أنا مش هستحمل أشوف الحزن في عينيها عشاني."
أسند كفيه إلى وجهه،
وجلس صامتًا…
صوت أنفاسه فقط هو الذي يملأ الغرفة…
أنفاس ثقيلة، كأنها تحمل داخله جبلًا من الوجع… و"مسك".
