اخر الروايات

رواية اردتك عمرا فكنت عابرا الفصل السادس 6 بقلم الهام عبدالرحمن

رواية اردتك عمرا فكنت عابرا الفصل السادس 6 بقلم الهام عبدالرحمن 


الفصل السادس 🌹
بقلمى الهام عبدالرحمن 🌹
صلوا على الحبيب المصطفى 🌺
🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹
مرّت أيّامٌ عدّة على ليلة عيد الميلاد، لكن الجفاء ظلّ مخيّمًا على بيت "يونس". الصمت أصبح رفيقًا دائمًا بينه وبين "ليلى"، والكلمات باتت تُقال على استحياء، بلا حرارة ولا رغبة.
وفي صباح يومٍ دافئ، قرر "يونس" زيارة والدته "حسناء"، علّه يجد في حضنها بعضًا من السكينة، بعيدًا عن توتّر البيت.
عندما طرق الباب، كانت "مسك" ووالدتها "فاطمة" تجلسان مع "حسناء" في جوّ مفعم بالضحك والدعابات. فُتح الباب، ودخل "يونس" بابتسامة خفيفة.
يونس بابتسامة مرهقة:
"السلام عليكم يا أهل البيت الطيبين."
حسناء:
"وعليكم السلام يا ضنايا… تعالى نَوّرت يا قلب أمك."
فاطمة:
"إزيك يا يونس؟ عامل إيه؟"
يونس وهو يقبّل يد خالته:
"بخير طول ما أنتم بخير… وأنا حبيت أجي أعتذرلك يا خالتي على اللي حصل في البيت يوم عيد الميلاد. بصراحة… اللي حصل ميصحش، وأنا مكسوف منكم اوى، ليلى مكانش ينفع تتكلم معاكى بالشكل دا ."
فاطمة بهدوء:
"يا بني مفيش حاجة… إحنا كبرنا على الزعل، وربنا يصلح الحال بينكم ويهديها لنفسها."
لكن "مسك"، التي كانت قد حاولت لجم غضبها لأيام، لم تستطع أن تُمسك لسانها، فقالت بنبرة فيها بعض الحدة:
مسك:
"بس بردو يا أبيه يونس ما يصحش اللي حصل… دي قلة ذوق بصراحة. يعني هم كانوا ضيوف عندك فى بيتك، وكان لازم مراتك تحترم وجودهم وتحترمك انت كمان لان دول اهلك ."
نظرت إليها "فاطمة" بحدة خفيفة، تقطع جملتها:
فاطمة:
" مسك... يا بنتى ما يصحش تتكلمي كده. دي حياتهم، وهم أحرار فيها. إحنا ملناش دعوة."
لكن "مسك" انفعلت أكثر، ونبرة صوتها ارتفعت قليلًا رغم محاولتها السيطرة:
مسك:
"بس يا ماما، إنتم كنتم ضيوف! والضيف ليه احترامه… المفروض تقدر وجودكم وتعرف مقامكم، مش تعاملكم بالطريقة دي قدام الناس."
سكتت لحظة، ثم نظرت إلى "يونس" وقالت:
مسك:
"على العموم… أنا آسفة يا ابيه يونس إني اتكلمت عن مراتك بالشكل دا ، بس زعل أمي وجعني… عن اذنكم انا هروح شقتنا يا ماما."
ثم قامت سريعًا، وخرجت من الشقة، عائدة إلى شقتها، والضيق يملأ صدرها.
ظل "يونس" ينظر خلفها، وكأنّ كلماتها علِقت في رأسه، وأيقظت فيه شيئًا لم يعرفه بعد.
بعد قليل، ودّع "يونس" والدته وخالته، وذهب إلى عمله في القسم. كان يرتدى بدلته الرسمية، وركب سيارته في صمتٍ تام، بينما عقله يراوح بين كلمات "مسك" ونظرة "ليلى" الأخيرة في بيتهما.
في مكتبه، جلس يُراجع بعض الأوراق حين دخل زميله "الرائد أسامة" مسرعًا يحمل ملفًا سميكًا.
أسامة:
"صباح الخير يا باشا… جات معلومات مؤكدة بخصوص شحنة كبيرة مخدرات داخلة البلد الأسبوع الجاي."
يونس وهو يعتدل في جلسته:
" انت متاكد من المعلومة دى؟"
أسامة:
" ايوا طبعا يا يونس باشا المصدر بتاعنا اللى شغال وسط العصابة… بعت تأكيد إن فيه شحنة جاية على الطريق الصحراوي، والعملية كبيرة والناس اللى هتستلمها تقيلة اوى ."
يونس وهو يقلب في الأوراق:
"يعني الكلام بقى رسمي… طيب لازم نجهز مأمورية منظمة، ونتأكد من كل نقطة تفتيش… إحنا مش ناقصين مصيبة تدخل البلد وتدمر شبابها."
أسامة:
"بالضبط… والمصدر قال إن الميعاد تقريبًا هيكون الخميس اللي جاي… من بعد نص الليل."
أغلق "يونس" الملف ببطء وقال بنبرة حازمة:
يونس:
" يبقى كدا خلاص مفيش راحة من دلوقتي… لازم نجهّز الخطة كويس، وكل فرد في مكانه. العملية دي لو نجحت، هنمنع خراب كبير يدخل البلد."
هزّ "أسامة" رأسه موافقًا، ثم غادر المكتب، فيما ظلّ "يونس" جالسًا، عيونه لا تُفارق الورق… لكن عقله كان في مكان آخر، مكان فيه صوت "مسك" وهي تقول:
"بس زعل أمي وجعني."
كان المساء هادئًا في بيت "يونس"، الهدوء المشحون بالكتمان، لا راحة فيه ولا ود.
ارتدت "ليلى" فستانًا أنيقًا، لونه أحمر قاتم، تضع عطرها المفضل الذي تعلم أن "يونس" يحبّه، وأعدّت له مائدة طعام مزينة، وضعت عليها أطباقه المفضلة: لحمة بالبصل، وملوخية، وأرز بالشعرية بالسمنة البلدي.
انتظرته حتى دخل البيت… تقدم بخطوات بطيئة، يده تمسك بالملف الخاص بالعملية القادمة، ووجهه مرهق.
ليلى بابتسامة مصطنعة:
"اتأخرت كدا ليه؟! انا مستنياك من بدرى ، الأكل سخن، وأنا عاملاه بإيدي مخصوص عشانك."
لم يرد يونس ولم يكلف خاطره حتى بالنظر تجاهها وهم بالدخول الى حجرته ولكنها اقتربت منه سريعا، ووضعت يدها على ذراعه برقة وقالت:
"ما تزعلش مني… أنا غلطت، بس كنت متعصبة، وأنا آسفة… والله آسفة."
سحب ذراعه برقة، لكنه لم ينظر إليها، ثم قال بصوت منخفض:
يونس:
"أحياناً الاعتذار مبيبقاش له قيمة خصوصا لما تقللى من كرامة جوزك ."
حاولت التحدث وتبرير فعلتها ولكنه استوقفها باشارة من يده قائلا بصوت يشوبه الحزن والاجهاد...
يونس: مالوش لازمة اى كلام دلوقتى لانه مش هيغير موقفى ناحيتك.
قالها ودخل بخطوات ثابتة الى حجرته وقام بتغيير ثيابه واحضر بطانية ووسادة ودخل حجرة اخرى لينام بها تاركا اياها ومحاولات صلحها له التى باءت بالفشل.
في بيت "حسناء"، كانت تجلس مع أختها "فاطمة"، تحاول جاهدة أن تضحك على نكتة قديمة، لكنها لم تستطع.
"فاطمة" لاحظت الشرود في عيني أختها:
فاطمة:
"مالك يا حسناء؟ من ساعة ما قعدنا وانتى مش مركزة… وشك مش مريحني."
حسناء وضعت يدها على صدرها وهمست بوجع:
"مش عارفة يا فاطمة… قلبي مقبوض… حاسّة إن حاجة وحشة هتحصل، وبالى مش مرتاح بقالى كام يوم."
فاطمة باهتمام وقلق:
"استعيذي بالله… يمكن قلقك على يونس واللى حصل بينه وبين مراته هو اللى مخليكى تحسى بكدا. "
هزّت "حسناء" رأسها ببطء:
"أنا طول عمري قلبى مش مطمن حاسة ان فى مصيبة هتحصل … والحلم اللى بيجيني بقاله كام ليلة زود خوفي… دايمًا بشوف يونس واقع في حفرة سودة، وبيصرخ… وكل ما أقول خير، ألاقي قلبي يزيد نبضه انا خايفة عليه اوى يا فاطمة ياختى خايفة يجراله حاجة انا ماليش غيره فى الدنيا ."
فاطمة: اهدى كدا ياحبيبتى ووحدى الله وقومى صلى ركعتين وادعيله ربنا ينجيه ويحفظه من كل شر.
في صباح يوم العملية…
دخل "يونس" على والدته، قبّل رأسها وهو يبتسم ابتسامة خافتة.
يونس:
"ادعيلي يا أمي… عندي شغل مهم النهاردة."
حسناء وهي تبتسم بقلق:
"ربنا يحميك يا ضنايا ويحفظك ويبارك بعمرك وما يحكم عليك ظالم ابدا ويكفيك سر طريقك وشر المستخبى ويعمى عيون ولاد الحرام عنك… يونس عشان خاطري، خد بالك من نفسك يابنى اعرف ان امك ملهاش غيرك. "
نظر في عينيها، ثم احتضنها بقوة:
"إن شاء الله هرجعلك… زي كل مرة دا حتىعمر الشقى بقى."
وخرج، وهي واقفة مكانها، عينيها تلمع بالدموع، وشفتاها ترتعشان.
وما إن أغلق الباب خلفه، حتى انفجرت في بكاء حارق، تصرخ:
"أنا مش مطمنة…انا حاسة ان ابني كان بيودعني مش بيسلّم عليّا! أنا حاسة إنه رايح ومش راجع!"
فاطمة وهي تحتضنها:
"استغفري ربنا، وقولي يا رب… دى وساوس شيطان بيخوفنا بس ان شاءالله ميكونش فيه حاجة ويرجعلنا بالسلامة."
لكن الحس الغريزي ظل في صدر "حسناء" كالنار المشتعلة.
قبل منتصف الليل بدقائق داخل نقطة رملية منعزلة في الصحراء الغربية
الهواء ساكن… لا يُسمع إلا صوت صفير الرياح وهي تلسع وجه الأرض.
في نقطة التفتيش المؤقتة، وقفت عربات الشرطة خلف ساتر رملي، والظلام يحجب كل شيء.
يونس كان يراقب عبر المنظار الحراري…
فجأة ظهرت سيارة دفع رباعي تقترب من المسار المحدد. بجوار السائق، رجل ضخم، على كتفه وشم واضح: أفعى ملتفّة حول خنجر.
يونس يتمتم:
" هو دا… زعيم العصابة زى ما وصفه مصدرنا بالظبط والوشم اللى بيميزه ."
انتظر حتى قامت العصابتان بتباد البضاعة والاموال واصبحوا متلبسين، ثم اصدر اوامره عبر اللاسلكى
لرجاله بسرعة الهجوم والقبض عليهم قبل ان يستطيع احد منهم الفرار.
بلمح البصر، داهمت القوات المكان، وقُطعت الطريق على السيارات.
صرخ المسلحون وتطاير الرصاص في كل اتجاه.
وسط الدخان، قفز "يونس" من عربته وهو يركض بقوة باتجاه قائد العصابة الذي كان يحاول الفرار سيرًا على الأقدام واصبح الاثنان وجهاً لوجه الآن.
وبدأ الاشتباك بينهما فالمجرم حاول توجيه ضربة مفاجئة بركبته لبطن "يونس"، لكن الأخير انحنى بسرعة، وتفادى الضربة.
وقام يونس بتوجيه لكمة مباشرة على الفك، أجبرت الرجل أن يتراجع خطوتين إلى الخلف.
لكنه كان مدربًا فعاد بقوة، ووجه ركلة جانبية ضربت كتف "يونس" بعنف، جعلته يصطدم بصخرة كبيرة فسقط أرضاً.
المجرم ابتسم بسخرية: " ايه يا حضرة الظابط ما تقوم تعالى وريني شطارتك."
قال جملته الساخرة وهو يندفع مرة أخرى، ويوجه لكمة خاطفة نحو أنف "يونس"، لكنها انزلقت بجانب وجهه.
هب يونس واقفا واستدار بسرعة من خلفه، وركله في مؤخرة الركبة بقوة، أسقطه على الأرض جزئيًا، ثم أمسكه من ياقة القميص، وضربه بمرفقه مرتين في جانبه.
صرخ المجرم وقد شعر ان احد اضلاعه كسرت، لكنّه فجأة أخرج سكين صغيرة من جانب حذائه، واندفع بها نحو بطن "يونس".
"يونس" أمسك معصمه في اللحظة الحاسمة، دارا معًا كأنهما في حلقة قتال، الرمل يتطاير من تحت أقدامهم، والعرق ينهمر، ووجوههم دامية من شدة اللكمات.
"يونس" بصوت مشحون:
"هتسلّم نفسك… ولا عايزني أكسّرك؟!"
المجرم ببسمة دموية:
"لو كنت فاكرني هستسلم بسهولة، تبقى غلطان يا باشا انت متعرفش الرجالة اللي بتشتغل في الضلمة دى بتبقى مستبيعة وعندها استعداد تخلص على اى حد يقف فى طريقها."
ثم فجأة، دفع "يونس" بكل ما أوتي من قوة، فسقط المجرم أرضًا، لكنه تزحلق برشاقة، وقفز، وهرب نحو عربته الاحتياطية المخفية وسط الرمال وكذلك جرى يونس باتجاه احدى العربات الموجودة واستقلها سريعا وبدأ فى مطاردته.
"يونس" صاح في اللاسلكي:
"المشتبه هرب! أنا بطارده دلوقتي! محتاج تعزيزات !"
كان يندفع خلفه بأقصى سرعة، العجلات تعوي فوق الرمل، والرؤية تنعدم من شدة الغبار المتطاير.
المجرم يتلوى بين الصخور، يحاول الإفلات، بينما "يونس" خلفه، لا يفصله عنه سوى ثوانٍ.
في لحظة غدر، ألقى المجرم شحنة يدوية من المسامير المعدنية، تناثرت أمام سيارة "يونس"، فاختل توازنها.
السيارة طارت فوق كومة رمال عالية، ثم...
انقلبت!
دورة… دورتين… ثلاث دورات كاملة في الهواء، واصطدمت بالصخور الجانبية.
كان الزجاج يتكسر.
اصطدمت رأس يونس بلوحة القيادة.
فأصدر أنينا مكتوم… ثم ساد الظلام ولم يعد يشعر بشئ.
وصل الضباط إلى موقع الحادث، رأوا السيارة مقلوبة، والدخان الأسود يتصاعد منها، وجسد يونس بالداخل لا يتحرك.
"أسامة" يقف مذهولًا، عينيه تدمع وينظر لصديق عمره من خلف الزجاج ويحاول فتح الباب بسرعة :
"يونس! فوق! يا صاحبي… قوم! إحنا خلصنا المهمة… اوعى تستسلم لايمكن دى تكون نهايتك فوق !"
سارع زملائه بمساعدة أسامة فى اخراجه من السيارة ثم قاموا بنقله على الفور إلى المستشفى.
وقفت "حسناء" أمام غرفة العمليات، تبكي بانهيار، ترتعش وتصرخ:
"أنا قلبي كان حاسس!ان ابني هيجراله حاجة! كنت حاسة… حسيت إنه بيودعني… يونس يا ضنايا، قوم… قوم يا قلب أمك!"
كانت "فاطمة" تبكي بجوارها، و"مسك" غارقة في دموعها، تحاول تهدئة خالتها، وعبد الرحمن يقول بصوت خافت:
"ادعيله… يا أم يونس… ادعيله، ربنا كبير، ولسه عمره ما خلصش دا الدعاء بيرد القدر ويونس قوى اطمنى ان شاءالله هيقوم بالسلامة."
دخلت "ليلى" وهي تبكي، منهارة، وارتمت بين احضان "حسناء":
طمنينى ياطنط يونس جراله ايه قوليلى انه كويس وهيقوم بالسلامة انا بحبه ومقدرش أعيش من غيره!"
حسناء ببكاء: يونس بيروح مننا ياليلى ابنى بيضيع منى.
مرت الساعات ببطء… حتى خرج الطبيب وقال بصوت جاد:
"العملية تمت بنجاح… بس الإصابة في الرأس خطيرة… الـ ٤٨ ساعة الجايين همّ الفاصل. لو عدّاهم، إن شاء الله هيبقى كويس."
نظرت "حسناء" إلى السماء، وانهارت على الأرض باكية:
"يا رب… يا رب عدّيها على خير… أنا مش هستحمل اخسره هو كمان…دا هو سندي وروحي."
في زاوية معزولة من المستشفى، كانت مسك تقف وحدها عند شباك طويل، تطل منه على شارع ضيق بين مبانى المشفى، الأضواء خافتة، والهواء محمّل برائحة المطهرات والقلق.
جميع العائلة في حال…
وهي في حال اخر مع نفسها .
ضمت ذراعيها بقوة حوال نفسها، وكأنها تحاول ان تحمي قلبها من الانفجار.
وجهها شاحب، وعينيها حمراء من كثرة البكاء، لكن الآن… الدموع انتهت وكانها جفت.
ظلت صامتة… لكن بداخلها عاصفة قوية.
همست بصوت مبحوح، كأنها تتحدث الى نفسها أو بالاحرى تناجى الله عز وجل :
"يااا رب… ده كان دايمًا سندي، حتى وأنا مش قادرة أقولها…
يونس… دايمًا كنت بحس إنه جنبي، من غير ما اطلب منه، كان بيراعيني… وكان بيشيل الهم عني…
عشان خاطري يارب بلاش تختبرنى الاختبار الصعب دا … هو صحيح اختار غيرى لكن قلبى مش قادر يدق لغيره كفاية انى اشوفه قدامى سعيد ومبسوط"
مسحت دموعها التى تساقطت بصمت، وأدارت وجهها للحائط، وأسندت جبينها عليه، وهي تشهق شهقات خنقتها من الداخل.
يارب انا مش عاوزة منه حاجه…
بس رجّعه ليا سالم يا رب"
صمتت لحظة… كأنها ما بقتش قادرة تتكلم،
ثم رفعت وشها للسماء، وشفايفها ترتعش:
**"أنا مليش حد غيرك… ولا هو كمان،
لو ليه ذنب، اغفر له…
هو بين ايديك دلوقتي مالوش لا حول ولا قوة، يارب خد من عمرى وادّيه عمر جديد،
أنا عارفة إنك شايف،
شايف إنه عمره ما كسرني،
ولا قلل من أمي،
ولا كسر بخاطر حد…
ارحمه يا رب… وقومه بالسلامة…
وفجأة، نزلت على ركبتيها، وسط الهدوء، وبدأت تبكي بحرقة حقيقية،
ليس بكاء بصوت…
لكن بكاء من النوع الذى يجعل القلب ينزف ولا يسمعه احد .
كانت كل دمعة تسقط من عينيها تغسل وجع في قلبها،
وكل دعوة تخرج منها كأنها آخر أمل متعلق بين السماء والأرض.
مرّ اليوم الأول ببطء قاتل، وكل ثانية فيه كانت أثقل من الجبال.
يونس ما زال داخل غرفة العناية المركزة، مغيب تمامًا، لا حركة، لا استجابة… لكن قلبه يقاوم.
كان كل من حوله يحاولون التماسك،
لكن الحقيقة؟
الكل كانوا يشعرون بالرعب من تدهور حالة يونس او ان تنتهى المدة التى حددها الطبيب ويفقدوه الى الابد .
مسك كانت تجلس في نفس الركن، تدعي، وتبكي بصمت،
وفاطمة لم تترك المسبحة من يدها للحظة،
وحسناء… اصبح وجهها شاحبا كأن العمر سرق لونه فجأة.
جاء اليوم التاني…
صوت الأجهزة ما زال يصدر طنينه…
والجميع يعدّ الدقائق فى انتظار الطبيب ليخبرهم حالة يونس .
ثم…
انفتح باب العناية ببطء.
خرج الطبيب بخطوات هادئة، وهو يقلّب في أوراق التحاليل، ووجهه لا يظهر عليه أي تعبير.
الكل تحرك من مكانه…
قلوبهم ف إيديهم.
حسناء أول واحدة اقتربت، وصوتها يرتعش:
"يا دكتور… إبني؟… طمني، بالله عليك؟"
رفع الطبيب نظره اليهم، ونظر نظرة طويلة، لا يعلمون هل تكون نظرة خير…ام تكون العكس.
وقال بهدوء طبي غريب:
"عدينا أخطر مرحلة… الحمد لله حالته دلوقتي مستقرة."
صرخت مسك بدموع فرح:
"يا رب لك الحمد!!"
حضنت أمها، وفاطمة أدمعت، وعبد الرحمن قال:
"سبحانك يا كريم!"
لكن قبل ان تكتمل الفرحة …
الطبيب تراجع خطوة، وقال بنبرة أهدأ… لكن بصوت متقطع:
"بس… للأسف…"ثم صمت قليلا
كل الوجوه تجمدت والعيون تعلقت بكلمة واحدة ينتظرون ان تخرج منه…
"يونس حصله…"
مرّت أيّامٌ عدّة على ليلة عيد الميلاد، لكن الجفاء ظلّ مخيّمًا على بيت "يونس". الصمت أصبح رفيقًا دائمًا بينه وبين "ليلى"، والكلمات باتت تُقال على استحياء، بلا حرارة ولا رغبة.
وفي صباح يومٍ دافئ، قرر "يونس" زيارة والدته "حسناء"، علّه يجد في حضنها بعضًا من السكينة، بعيدًا عن توتّر البيت.
عندما طرق الباب، كانت "مسك" ووالدتها "فاطمة" تجلسان مع "حسناء" في جوّ مفعم بالضحك والدعابات. فُتح الباب، ودخل "يونس" بابتسامة خفيفة.
يونس بابتسامة مرهقة:
"السلام عليكم يا أهل البيت الطيبين."
حسناء:
"وعليكم السلام يا ضنايا… تعالى نَوّرت يا قلب أمك."
فاطمة:
"إزيك يا يونس؟ عامل إيه؟"
يونس وهو يقبّل يد خالته:
"بخير طول ما أنتم بخير… وأنا حبيت أجي أعتذرلك يا خالتي على اللي حصل في البيت يوم عيد الميلاد. بصراحة… اللي حصل ميصحش، وأنا مكسوف منكم اوى، ليلى مكانش ينفع تتكلم معاكى بالشكل دا ."
فاطمة بهدوء:
"يا بني مفيش حاجة… إحنا كبرنا على الزعل، وربنا يصلح الحال بينكم ويهديها لنفسها."
لكن "مسك"، التي كانت قد حاولت لجم غضبها لأيام، لم تستطع أن تُمسك لسانها، فقالت بنبرة فيها بعض الحدة:
مسك:
"بس بردو يا أبيه يونس ما يصحش اللي حصل… دي قلة ذوق بصراحة. يعني هم كانوا ضيوف عندك فى بيتك، وكان لازم مراتك تحترم وجودهم وتحترمك انت كمان لان دول اهلك ."
نظرت إليها "فاطمة" بحدة خفيفة، تقطع جملتها:
فاطمة:
" مسك... يا بنتى ما يصحش تتكلمي كده. دي حياتهم، وهم أحرار فيها. إحنا ملناش دعوة."
لكن "مسك" انفعلت أكثر، ونبرة صوتها ارتفعت قليلًا رغم محاولتها السيطرة:
مسك:
"بس يا ماما، إنتم كنتم ضيوف! والضيف ليه احترامه… المفروض تقدر وجودكم وتعرف مقامكم، مش تعاملكم بالطريقة دي قدام الناس."
سكتت لحظة، ثم نظرت إلى "يونس" وقالت:
مسك:
"على العموم… أنا آسفة يا ابيه يونس إني اتكلمت عن مراتك بالشكل دا ، بس زعل أمي وجعني… عن اذنكم انا هروح شقتنا يا ماما."
ثم قامت سريعًا، وخرجت من الشقة، عائدة إلى شقتها، والضيق يملأ صدرها.
ظل "يونس" ينظر خلفها، وكأنّ كلماتها علِقت في رأسه، وأيقظت فيه شيئًا لم يعرفه بعد.
بعد قليل، ودّع "يونس" والدته وخالته، وذهب إلى عمله في القسم. كان يرتدى بدلته الرسمية، وركب سيارته في صمتٍ تام، بينما عقله يراوح بين كلمات "مسك" ونظرة "ليلى" الأخيرة في بيتهما.
في مكتبه، جلس يُراجع بعض الأوراق حين دخل زميله "الرائد أسامة" مسرعًا يحمل ملفًا سميكًا.
أسامة:
"صباح الخير يا باشا… جات معلومات مؤكدة بخصوص شحنة كبيرة مخدرات داخلة البلد الأسبوع الجاي."
يونس وهو يعتدل في جلسته:
" انت متاكد من المعلومة دى؟"
أسامة:
" ايوا طبعا يا يونس باشا المصدر بتاعنا اللى شغال وسط العصابة… بعت تأكيد إن فيه شحنة جاية على الطريق الصحراوي، والعملية كبيرة والناس اللى هتستلمها تقيلة اوى ."
يونس وهو يقلب في الأوراق:
"يعني الكلام بقى رسمي… طيب لازم نجهز مأمورية منظمة، ونتأكد من كل نقطة تفتيش… إحنا مش ناقصين مصيبة تدخل البلد وتدمر شبابها."
أسامة:
"بالضبط… والمصدر قال إن الميعاد تقريبًا هيكون الخميس اللي جاي… من بعد نص الليل."
أغلق "يونس" الملف ببطء وقال بنبرة حازمة:
يونس:
" يبقى كدا خلاص مفيش راحة من دلوقتي… لازم نجهّز الخطة كويس، وكل فرد في مكانه. العملية دي لو نجحت، هنمنع خراب كبير يدخل البلد."
هزّ "أسامة" رأسه موافقًا، ثم غادر المكتب، فيما ظلّ "يونس" جالسًا، عيونه لا تُفارق الورق… لكن عقله كان في مكان آخر، مكان فيه صوت "مسك" وهي تقول:
"بس زعل أمي وجعني."
كان المساء هادئًا في بيت "يونس"، الهدوء المشحون بالكتمان، لا راحة فيه ولا ود.
ارتدت "ليلى" فستانًا أنيقًا، لونه أحمر قاتم، تضع عطرها المفضل الذي تعلم أن "يونس" يحبّه، وأعدّت له مائدة طعام مزينة، وضعت عليها أطباقه المفضلة: لحمة بالبصل، وملوخية، وأرز بالشعرية بالسمنة البلدي.
انتظرته حتى دخل البيت… تقدم بخطوات بطيئة، يده تمسك بالملف الخاص بالعملية القادمة، ووجهه مرهق.
ليلى بابتسامة مصطنعة:
"اتأخرت كدا ليه؟! انا مستنياك من بدرى ، الأكل سخن، وأنا عاملاه بإيدي مخصوص عشانك."
لم يرد يونس ولم يكلف خاطره حتى بالنظر تجاهها وهم بالدخول الى حجرته ولكنها اقتربت منه سريعا، ووضعت يدها على ذراعه برقة وقالت:
"ما تزعلش مني… أنا غلطت، بس كنت متعصبة، وأنا آسفة… والله آسفة."
سحب ذراعه برقة، لكنه لم ينظر إليها، ثم قال بصوت منخفض:
يونس:
"أحياناً الاعتذار مبيبقاش له قيمة خصوصا لما تقللى من كرامة جوزك ."
حاولت التحدث وتبرير فعلتها ولكنه استوقفها باشارة من يده قائلا بصوت يشوبه الحزن والاجهاد...
يونس: مالوش لازمة اى كلام دلوقتى لانه مش هيغير موقفى ناحيتك.
قالها ودخل بخطوات ثابتة الى حجرته وقام بتغيير ثيابه واحضر بطانية ووسادة ودخل حجرة اخرى لينام بها تاركا اياها ومحاولات صلحها له التى باءت بالفشل.
في بيت "حسناء"، كانت تجلس مع أختها "فاطمة"، تحاول جاهدة أن تضحك على نكتة قديمة، لكنها لم تستطع.
"فاطمة" لاحظت الشرود في عيني أختها:
فاطمة:
"مالك يا حسناء؟ من ساعة ما قعدنا وانتى مش مركزة… وشك مش مريحني."
حسناء وضعت يدها على صدرها وهمست بوجع:
"مش عارفة يا فاطمة… قلبي مقبوض… حاسّة إن حاجة وحشة هتحصل، وبالى مش مرتاح بقالى كام يوم."
فاطمة باهتمام وقلق:
"استعيذي بالله… يمكن قلقك على يونس واللى حصل بينه وبين مراته هو اللى مخليكى تحسى بكدا. "
هزّت "حسناء" رأسها ببطء:
"أنا طول عمري قلبى مش مطمن حاسة ان فى مصيبة هتحصل … والحلم اللى بيجيني بقاله كام ليلة زود خوفي… دايمًا بشوف يونس واقع في حفرة سودة، وبيصرخ… وكل ما أقول خير، ألاقي قلبي يزيد نبضه انا خايفة عليه اوى يا فاطمة ياختى خايفة يجراله حاجة انا ماليش غيره فى الدنيا ."
فاطمة: اهدى كدا ياحبيبتى ووحدى الله وقومى صلى ركعتين وادعيله ربنا ينجيه ويحفظه من كل شر.
في صباح يوم العملية…
دخل "يونس" على والدته، قبّل رأسها وهو يبتسم ابتسامة خافتة.
يونس:
"ادعيلي يا أمي… عندي شغل مهم النهاردة."
حسناء وهي تبتسم بقلق:
"ربنا يحميك يا ضنايا ويحفظك ويبارك بعمرك وما يحكم عليك ظالم ابدا ويكفيك سر طريقك وشر المستخبى ويعمى عيون ولاد الحرام عنك… يونس عشان خاطري، خد بالك من نفسك يابنى اعرف ان امك ملهاش غيرك. "
نظر في عينيها، ثم احتضنها بقوة:
"إن شاء الله هرجعلك… زي كل مرة دا حتىعمر الشقى بقى."
وخرج، وهي واقفة مكانها، عينيها تلمع بالدموع، وشفتاها ترتعشان.
وما إن أغلق الباب خلفه، حتى انفجرت في بكاء حارق، تصرخ:
"أنا مش مطمنة…انا حاسة ان ابني كان بيودعني مش بيسلّم عليّا! أنا حاسة إنه رايح ومش راجع!"
فاطمة وهي تحتضنها:
"استغفري ربنا، وقولي يا رب… دى وساوس شيطان بيخوفنا بس ان شاءالله ميكونش فيه حاجة ويرجعلنا بالسلامة."
لكن الحس الغريزي ظل في صدر "حسناء" كالنار المشتعلة.
قبل منتصف الليل بدقائق داخل نقطة رملية منعزلة في الصحراء الغربية
الهواء ساكن… لا يُسمع إلا صوت صفير الرياح وهي تلسع وجه الأرض.
في نقطة التفتيش المؤقتة، وقفت عربات الشرطة خلف ساتر رملي، والظلام يحجب كل شيء.
يونس كان يراقب عبر المنظار الحراري…
فجأة ظهرت سيارة دفع رباعي تقترب من المسار المحدد. بجوار السائق، رجل ضخم، على كتفه وشم واضح: أفعى ملتفّة حول خنجر.
يونس يتمتم:
" هو دا… زعيم العصابة زى ما وصفه مصدرنا بالظبط والوشم اللى بيميزه ."
انتظر حتى قامت العصابتان بتباد البضاعة والاموال واصبحوا متلبسين، ثم اصدر اوامره عبر اللاسلكى
لرجاله بسرعة الهجوم والقبض عليهم قبل ان يستطيع احد منهم الفرار.
بلمح البصر، داهمت القوات المكان، وقُطعت الطريق على السيارات.
بقلمى الهام عبدالرحمن صلوا على الحبيب المصطفى
صرخ المسلحون وتطاير الرصاص في كل اتجاه.
وسط الدخان، قفز "يونس" من عربته وهو يركض بقوة باتجاه قائد العصابة الذي كان يحاول الفرار سيرًا على الأقدام واصبح الاثنان وجهاً لوجه الآن.
وبدأ الاشتباك بينهما فالمجرم حاول توجيه ضربة مفاجئة بركبته لبطن "يونس"، لكن الأخير انحنى بسرعة، وتفادى الضربة.
وقام يونس بتوجيه لكمة مباشرة على الفك، أجبرت الرجل أن يتراجع خطوتين إلى الخلف.
لكنه كان مدربًا فعاد بقوة، ووجه ركلة جانبية ضربت كتف "يونس" بعنف، جعلته يصطدم بصخرة كبيرة فسقط أرضاً.
المجرم ابتسم بسخرية: " ايه يا حضرة الظابط ما تقوم تعالى وريني شطارتك."
قال جملته الساخرة وهو يندفع مرة أخرى، ويوجه لكمة خاطفة نحو أنف "يونس"، لكنها انزلقت بجانب وجهه.
هب يونس واقفا واستدار بسرعة من خلفه، وركله في مؤخرة الركبة بقوة، أسقطه على الأرض جزئيًا، ثم أمسكه من ياقة القميص، وضربه بمرفقه مرتين في جانبه.
صرخ المجرم وقد شعر ان احد اضلاعه كسرت، لكنّه فجأة أخرج سكين صغيرة من جانب حذائه، واندفع بها نحو بطن "يونس".
"يونس" أمسك معصمه في اللحظة الحاسمة، دارا معًا كأنهما في حلقة قتال، الرمل يتطاير من تحت أقدامهم، والعرق ينهمر، ووجوههم دامية من شدة اللكمات.
"يونس" بصوت مشحون:
"هتسلّم نفسك… ولا عايزني أكسّرك؟!"
المجرم ببسمة دموية:
"لو كنت فاكرني هستسلم بسهولة، تبقى غلطان يا باشا انت متعرفش الرجالة اللي بتشتغل في الضلمة دى بتبقى مستبيعة وعندها استعداد تخلص على اى حد يقف فى طريقها."
ثم فجأة، دفع "يونس" بكل ما أوتي من قوة، فسقط المجرم أرضًا، لكنه تزحلق برشاقة، وقفز، وهرب نحو عربته الاحتياطية المخفية وسط الرمال وكذلك جرى يونس باتجاه احدى العربات الموجودة واستقلها سريعا وبدأ فى مطاردته.
"يونس" صاح في اللاسلكي:
"المشتبه هرب! أنا بطارده دلوقتي! محتاج تعزيزات !"
كان يندفع خلفه بأقصى سرعة، العجلات تعوي فوق الرمل، والرؤية تنعدم من شدة الغبار المتطاير.
المجرم يتلوى بين الصخور، يحاول الإفلات، بينما "يونس" خلفه، لا يفصله عنه سوى ثوانٍ.
في لحظة غدر، ألقى المجرم شحنة يدوية من المسامير المعدنية، تناثرت أمام سيارة "يونس"، فاختل توازنها.
السيارة طارت فوق كومة رمال عالية، ثم...
انقلبت!
دورة… دورتين… ثلاث دورات كاملة في الهواء، واصطدمت بالصخور الجانبية.
كان الزجاج يتكسر.
اصطدمت رأس يونس بلوحة القيادة.
فأصدر أنينا مكتوم… ثم ساد الظلام ولم يعد يشعر بشئ.
وصل الضباط إلى موقع الحادث، رأوا السيارة مقلوبة، والدخان الأسود يتصاعد منها، وجسد يونس بالداخل لا يتحرك.
بقلمى الهام عبدالرحمن صلوا على الحبيب المصطفى
"أسامة" يقف مذهولًا، عينيه تدمع وينظر لصديق عمره من خلف الزجاج ويحاول فتح الباب بسرعة :
"يونس! فوق! يا صاحبي… قوم! إحنا خلصنا المهمة… اوعى تستسلم لايمكن دى تكون نهايتك فوق !"
سارع زملائه بمساعدة أسامة فى اخراجه من السيارة ثم قاموا بنقله على الفور إلى المستشفى.
وقفت "حسناء" أمام غرفة العمليات، تبكي بانهيار، ترتعش وتصرخ:
"أنا قلبي كان حاسس!ان ابني هيجراله حاجة! كنت حاسة… حسيت إنه بيودعني… يونس يا ضنايا، قوم… قوم يا قلب أمك!"
كانت "فاطمة" تبكي بجوارها، و"مسك" غارقة في دموعها، تحاول تهدئة خالتها، وعبد الرحمن يقول بصوت خافت:
"ادعيله… يا أم يونس… ادعيله، ربنا كبير، ولسه عمره ما خلصش دا الدعاء بيرد القدر ويونس قوى اطمنى ان شاءالله هيقوم بالسلامة."
دخلت "ليلى" وهي تبكي، منهارة، وارتمت بين احضان "حسناء":
طمنينى ياطنط يونس جراله ايه قوليلى انه كويس وهيقوم بالسلامة انا بحبه ومقدرش أعيش من غيره!"
حسناء ببكاء: يونس بيروح مننا ياليلى ابنى بيضيع منى.
مرت الساعات ببطء… حتى خرج الطبيب وقال بصوت جاد:
"العملية تمت بنجاح… بس الإصابة في الرأس خطيرة… الـ ٤٨ ساعة الجايين همّ الفاصل. لو عدّاهم، إن شاء الله هيبقى كويس."
نظرت "حسناء" إلى السماء، وانهارت على الأرض باكية:
"يا رب… يا رب عدّيها على خير… أنا مش هستحمل اخسره هو كمان…دا هو سندي وروحي."
في زاوية معزولة من المستشفى، كانت مسك تقف وحدها عند شباك طويل، تطل منه على شارع ضيق بين مبانى المشفى، الأضواء خافتة، والهواء محمّل برائحة المطهرات والقلق.
جميع العائلة في حال…
وهي في حال اخر مع نفسها .
ضمت ذراعيها بقوة حوال نفسها، وكأنها تحاول ان تحمي قلبها من الانفجار.
وجهها شاحب، وعينيها حمراء من كثرة البكاء، لكن الآن… الدموع انتهت وكانها جفت.
ظلت صامتة… لكن بداخلها عاصفة قوية.
همست بصوت مبحوح، كأنها تتحدث الى نفسها أو بالاحرى تناجى الله عز وجل :
"يااا رب… ده كان دايمًا سندي، حتى وأنا مش قادرة أقولها…
يونس… دايمًا كنت بحس إنه جنبي، من غير ما اطلب منه، كان بيراعيني… وكان بيشيل الهم عني…
عشان خاطري يارب بلاش تختبرنى الاختبار الصعب دا … هو صحيح اختار غيرى لكن قلبى مش قادر يدق لغيره كفاية انى اشوفه قدامى سعيد ومبسوط"
مسحت دموعها التى تساقطت بصمت، وأدارت وجهها للحائط، وأسندت جبينها عليه، وهي تشهق شهقات خنقتها من الداخل.
يارب انا مش عاوزة منه حاجه…
بس رجّعه ليا سالم يا رب"
صمتت لحظة… كأنها ما بقتش قادرة تتكلم،
ثم رفعت وشها للسماء، وشفايفها ترتعش:
**"أنا مليش حد غيرك… ولا هو كمان،
لو ليه ذنب، اغفر له…
هو بين ايديك دلوقتي مالوش لا حول ولا قوة، يارب خد من عمرى وادّيه عمر جديد،
أنا عارفة إنك شايف،
شايف إنه عمره ما كسرني،
ولا قلل من أمي،
ولا كسر بخاطر حد…
ارحمه يا رب… وقومه بالسلامة…
وفجأة، نزلت على ركبتيها، وسط الهدوء، وبدأت تبكي بحرقة حقيقية،
ليس بكاء بصوت…
لكن بكاء من النوع الذى يجعل القلب ينزف ولا يسمعه احد .
كانت كل دمعة تسقط من عينيها تغسل وجع في قلبها،
وكل دعوة تخرج منها كأنها آخر أمل متعلق بين السماء والأرض.
مرّ اليوم الأول ببطء قاتل، وكل ثانية فيه كانت أثقل من الجبال.
يونس ما زال داخل غرفة العناية المركزة، مغيب تمامًا، لا حركة، لا استجابة… لكن قلبه يقاوم.
بقلمى الهام عبدالرحمن صلوا على الحبيب المصطفى
كان كل من حوله يحاولون التماسك،
لكن الحقيقة؟
الكل كانوا يشعرون بالرعب من تدهور حالة يونس او ان تنتهى المدة التى حددها الطبيب ويفقدوه الى الابد .
مسك كانت تجلس في نفس الركن، تدعي، وتبكي بصمت،
وفاطمة لم تترك المسبحة من يدها للحظة،
وحسناء… اصبح وجهها شاحبا كأن العمر سرق لونه فجأة.
جاء اليوم التاني…
صوت الأجهزة ما زال يصدر طنينه…
والجميع يعدّ الدقائق فى انتظار الطبيب ليخبرهم حالة يونس .
ثم…
انفتح باب العناية ببطء.
خرج الطبيب بخطوات هادئة، وهو يقلّب في أوراق التحاليل، ووجهه لا يظهر عليه أي تعبير.
الكل تحرك من مكانه…
قلوبهم ف إيديهم.
حسناء أول واحدة اقتربت، وصوتها يرتعش:
"يا دكتور… إبني؟… طمني، بالله عليك؟"
رفع الطبيب نظره اليهم، ونظر نظرة طويلة، لا يعلمون هل تكون نظرة خير…ام تكون العكس.
وقال بهدوء طبي غريب:
"عدينا أخطر مرحلة… الحمد لله حالته دلوقتي مستقرة."
صرخت مسك بدموع فرح:
"يا رب لك الحمد!!"
حضنت أمها، وفاطمة أدمعت، وعبد الرحمن قال:
"سبحانك يا كريم!"
لكن قبل ان تكتمل الفرحة …
الطبيب تراجع خطوة، وقال بنبرة أهدأ… لكن بصوت متقطع:
"بس… للأسف…"ثم صمت قليلا
كل الوجوه تجمدت والعيون تعلقت بكلمة واحدة ينتظرون ان تخرج منه…
"يونس حصله…"


تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-
close